موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي
مجموعة من المؤلفين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة حصل بها الباحث على درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز من جامعة الملك سعود
سلسلة الرسائل الجامعية (79) موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي [1] مسائل الإجماع في الطهارة
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70, 71]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. • أما بعد: فإن الأمة في أمسّ حاجتها للأسس التي بها تجتمع كلمتها، ويفرق بها بين القطعي الذي لا يجوز ولا يُقبل الخلاف فيه، وبين ما يكون للاجتهاد فيه مجال. ولذا كان من الواجب إبراز تلك الأمور التي تتفق فيها الأمة أجمع، وهي المسائل التي أجمع علماء الأمة فيها على قولٍ واحدٍ، وهي كثيرة وللَّه الحمد. ولما كانت المسائل التي حُكيَ فيها الإجماع كثيرة؛ كان منها ما هو متفق على أنها محلُّ إجماعٍ، ومنها ما هو مختلفٌ فيه. فلا بد إذًا من التدقيق في هذه المسائل -بعد جمعِها- وتمحيصِها بالطرق العلمية؛ يُحقَّق في المسائل التي حُكي فيها الإجماع، ويُدقَّق في مدى صحة عدم وجود المخالف، ثم يُنظر في المخالف -إن وجد- هل خلافه معتبر أو لا؟
مشكلة البحث
ويجب أن يُفرق أيضا في المسائل التي لا نعلم فيها مخالفًا بين الإجماع القطعي والظني، ويبيَّن نوعه، أهو لفظي أم سكوتي، ويتحقق من كل ذلك. يقول الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "واعلم أن الإجماع الذي هو حجة قاطعة عند الأصوليين هو القطعي لا الظني. والقطعي هو القولي المشاهد، أو المنقول بعدد التواتر؛ والظني كالسكوتي والمنقول بالآحاد" (¬1). ولأهمية هذا الموضوع، ومدى فائدته الكبيرة ولِما يرجع على الباحث وعلى المسلمين من فائدة؛ رأيت أن أعمل بالجهد المستطاع في هذا الموضوع، وأن يكون في رسالتي لنيل درجة الدكتوراه في الفقه وأصوله. ولما كانت أبواب الفقه واسعة جدًّا؛ رأيت أن أختار كتاب الطهارة، وهو أول أبواب الفقه الإِسلامي، فتكون الرسالة بعنوان: (مسائل الإجماع في الطهارة جمعًا ودراسةً). • مشكلة البحث: إن الناظر في كتب الفقه الإِسلامي يجد أن هناك كمًّا هائلًا من الإجماعات التي ينقلها العلماء في المذاهب الفقهية المختلفة، بينما يجد لبعض تلك النقول خروقًا من أقوال علماء آخرين. كما أنه في بعض تلك المسائل التي نُقل فيها الإجماع قد يجد من خالف فيها من عالم أو أكثر بعد ذلك، فهل هذا الإجماع صحيح أم أنه لم يتحقق أصلًا؟ وينبني على ذلك: هل تجوز المخالفة في تلك المسائل أو لا؟ كل هذا وذاك يحتاج إلى دراسة علمية تُبَيِّنُ الصحيح في الأمر. ومن ثم كان هذا البحث لجمع مسائل الإجماع التي حُكِيت في كتاب الطهارة ودراسة كل مسألة على حدة. * * * ¬
حدود البحث
• حدود البحث: يشتمل البحث على جميع المسائل التي نقل فيها الإجماع المتعلقة بكتاب الطهارة، وذلك عندما ينقله أحد العلماء بالصيغ التالية: 1 - الإجماع. 2 - الاتفاق. 3 - نفي الخلاف في المسألة. هذا بالإضافة إلى التمهيد الذي سيكون عن الإجماع، وما يتعلق به من الناحية الأصولية دون توسّع. أما ما يتعلق بالإجماعات في الأبواب الأخرى، أو ما يتعلق بأيِّ إجماع خاصّ؛ كإجماع الأئمة الأربعة؛ أو إجماع الخلفاء الراشدين؛ وما أشبه ذلك، فغير داخل في البحث؛ حيث إن ذلك النوع من الإجماعات لا يعتبر حجة شرعية على الصحيح. كما أن أيّ عبارة أجد أن ظاهرها يدل على قصرها على مذهب معين (كإجماع الحنفية)؛ أو بلد معين (كإجماع أهل المدينة) فهي غير داخلة في البحث؛ لأنها ليست داخلة في معنى الإجماع الاصطلاحي الذي هو حجة شرعية. والمسائل التي استطعت أن أجمعها من حكايات العلماء في هذا الباب أربعُ مائة وسبعة وستون مسألة، توصلت إليها من خلال كتب المشروع المعتمدة. فقد رأت اللجنة المشكلة للمشروع من قِبل قسم الدراسات الإِسلامية بجامعة الملك سعود أن يكون اعتماد الإجماعات من خلال ثلاثين كتابا من أهم الكتب التي تعتني بحكاية الإجماع، اختيرت بعناية اللجنة والقسم، وقد روعي فيها التنوع المذهبي وتاريخ تأليف الكتاب، وقد كان لي وجهة نظر مختلفة في اختيار بعض الكتب، حيث إنني لم أكن أرى جدوى إضافة بعض الكتب، إلا أنها فُرضت من قبل القسم، ولهم وجهة نظر أحترمها، وهي كالتالي: 1 - "الأم" للإمام الشافعي (204 هـ). 2 - "سنن الترمذي" (279 هـ). 3 - "تفسير الطبري" (310 هـ). 4 - "الإجماع" لابن المنذر (318 هـ). 5 - "مراتب الإجماع" لابن حزم الظاهري (456 هـ).
6 - "المحلى" لابن حزم. 7 - "الاستذكار" لابن عبد البر المالكي (463 هـ). 8 - "شرح السنة" للبغوي (516 هـ). 9 - "عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (543 هـ). 10 - "الإفصاح" لابن هبيرة الحنبلي (560 هـ). 11 - "بدائع الصنائع" للكاساني الحنفي (587 هـ). 12 - "المغني" لابن قدامة (620 هـ). 13 - "الجامع لأحكام القرآن" (¬1) للقرطبي المالكي (671 هـ). 14 - "المجموع" للنووي الشافعي (676 هـ). 15 - "الذخيرة" للقرافي المالكي (684 هـ). 16 - "نقد مراتب الإجماع" لابن تيمية الحنبلي (728 هـ). 17 - "مجموع الفتاوى" لابن تيمية، جمع الشيخ ابن قاسم. 18 - "جامع الرسائل" لابن تيمية، جمع د. محمد رشاد سالم. 19 - "مجموع الرسائل والمسائل" لابن تيمية، جمع الشيخ محمد رشيد رضا. 20 - "مختصر الفتاوى المصرية" لابن تيمية، جمع البعلي. 21 - "زاد المعاد" لابن القيم الحنبلي (751 هـ). 22 - "إعلام الموقعين" لابن القيم. 23 - "فتح الباري" لابن حجر الشافعي (852 هـ). 24 - "البناية شرح الهداية" للعيني الحنفي (855 هـ). 25 - "فتح القدير" لابن الهمام الحنفي (861 هـ). 26 - "البحر الرائق" لابن نجيم الحنفي (970 هـ). ¬
الدراسات السابقة
27 - "مغني المحتاج" للشربيني الشافعي (977 هـ). 28 - "سبل السلام شرح بلوغ المرام" للصنعاني (1182 هـ). 29 - "نيل الأوطار" شرح منتقى الأخبار" للشوكاني (1250 هـ). 30 - "حاشية الروض المربع" لابن قاسم الحنبلي (1392 هـ). • الدراسات السابقة: أولًا: كتاب (موسوعة الإجماع في الفقه الإِسلامي). لمؤلفه: الشيخ سعدي أبو جيب. وهو كتاب موسوعي في الفقه بشكل عام، ويدخل فيه ضمنًا الطهارة. ويختلف عملي عن هذه الموسوعة بما يلي: 1 - اعتمد المؤلف على ستة عشر كتابا فقط (¬1)، وهي كذلك ليست موزعة على المذاهب. 2 - أنه ليس من منهج المؤلف -وفقه اللَّه- دراسة أيٍّ من تلك الإجماعات وتمحيصها، مما يؤكد الحاجة إلى الدراسة لتلك الإجماعات. 3 - ترتيب المؤلف في كتابه وفق الترتيب الهجائي، وقد رتبت مسائل الإجماع حسب أبواب الفقه الإِسلامي. 4 - أن المؤلف لا يذكر مستند الإجماع ولا دليل المخالف في المسألة. 5 - أن الشيخ سعدي أبو جيب قد جعل عمله موسوعيًّا كبيرًا، وهو مع اعترافنا له بالفضل والأسبقية بلا شك قد اعتراه بعض الزلل والخطأ، نظرًّا لطبيعة الجهد البشري، فقد وجدت له عدة أخطاء في تصوير المسائل، فمثلا انظر مسألة (809) الفقرة الثالثة، ¬
ثانيا: كتاب (إجماعات ابن عبد البر في العبادات).
وقارنها بعبارة صاحبها النووي (¬1)، حيث تجد فرقًا كبيرًا؛ إذ الإجماع على مسألة وما ذكره الشيخ مسألة أخرى. كذلك في نفس المسألة (809) الفقرة الأخيرة؛ نقل الإجماع عن ابن قدامة على مسألة، ونقل بعدها خلافًا فيها، وبعد المراجعة وجدت أن الخلاف في مسألة أخرى (¬2). 6 - أن الشيخ أبو جيب وقع في وهم غريب، وهو أنه ينقل عن ابن حزم إجماعات لم يُرد ابن حزم حكايتها، وذلك أن منهج ابن حزم في حكاية الإجماع مختلف نوعًا ما عن غيره، حيث كثيرًا ما يذكر صورًا لمسائل يستثنيها، ثم بمجموع هذه الاستثناءات يخرج بصورة مجمع عليها (¬3)، والخطأ لدى الشيخ أبو جيب؛ أنه يأخذ كل استثناء من هذه الاستثناءات، ويجعله مسألة مستقلة حكى ابن حزم الإجماع فيها، وهذا خطأ بيِّن من الشيخ أبو جيب، مع اعتذاري واعترافي له بالفضل في عمله جزاه اللَّه خيرًا (¬4). 7 - أن الشيخ أبو جيب يذكر الإجماعات اللفظية والسكوتية دون تفريق، ولا شك أن هناك فرقًا كبيرًا بين الاثنين. ثانيًا: كتاب (إجماعات ابن عبد البر في العبادات). لمؤلفه: الدكتور عبد اللَّه بن مبارك البوصي. وهو رسالة ماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية. وهذا البحث ليس في جمع مسائل الإجماع؛ لاختصاصه بعالم واحد وهو الإمام ابن عبد البر فقط، في حين أن عملنا سيكون - بإذن اللَّه - شاملًا لعددٍ من العلماء، ثم إن منهج الباحث في رسالته الاقتصارُ على لفظ الإجماع فقط، دون لفظ الاتفاق أو نفي الخلاف. بخلاف هذه الرسالة التي هي جامعة للاصطلاحات الثلاثة. مجموع المسائل التي بحثها المؤلف في كتاب الطهارة خمسين مسألة فقط، موزعة على أبواب الطهارة؛ باستثناء بابي الاستنجاء والمسح على الخفين، فلم يجد فيهما ¬
ثالثا: كتاب (أحكام الإجماع والتطبيقات عليها من خلال كتاب ابن المنذر وابن حزم).
إجماعات لابن عبد البر، وكل هذه المسائل بحثتها أيضا في رسالتي، ووقع الاتفاق في النتيجة في أغلبها، وخالفت الباحث في بعضها، وسيأتي مناقشة ذلك في ثنايا البحث. وهناك خلاف بين منهجي ومنهج الدكتور عبد اللَّه في دراسة المسائل، فهو ليس من منهجه أن يلتزم بتوثيق المسألة كتابيًّا من كتب المذاهب الفقهية المختلفة، في حال تحقق الإجماع أو عدم تحققه، بينما هذا الأمر من الخطوات المنهجية اللازمة في كل مسألة من مسائل هذه الرسالة. وهذا الكتاب من أفضل ما كتب في الباب؛ إلا أنه يلاحظ عليه الملاحظات السابقة، وأبرزها أنه مقتصر على عالم واحد وعلى لفظ الإجماع فقط، ومع ذلك فالكتاب نافع جدًّا، ولا يعيبه هذا حيث كان هذا من منهج الباحث، وقد أجاد الباحث فيه جزاه اللَّه خيرًا، بل يستحق أن يكون رسالة دكتوراه في نظري. ثالثًا: كتاب (أحكام الإجماع والتطبيقات عليها من خلال كتاب ابن المنذر وابن حزم). لمؤلفه: الشيخ خلف محمد المحمد. وهو رسالة ماجستير تشتمل على قسمين: أحدهما: دراسة نظرية للإجماع كمصدر من مصادر التشريع، وقد استغرقت هذه الدراسة أكثر الكتاب. الثاني: التطبيقات الفقهية، وفيها الأمثلة من بابي الطهارة والصلاة، من خلال كتابي "الإجماع" لابن المنذر؛ و"مراتب الإجماع" لابن حزم. ويختلف عملي عن هذا الكتاب بما يلي: 1 - أنه لم يتناول كل الإجماعات المذكورة في باب الطهارة، وذلك لأنه اعتمد ذكر إجماعات ابن المنذر، من خلال كتابه "الإجماع" فقط؛ وإجماعات ابن حزم من خلال كتابه "مراتب الإجماع" فقط. فهو مقتصر على هذين الكتابين فقط، يذكر الإجماعات فيه من باب التمثيل والتطبيق. 2 - أن نقده للإجماعات غير كافٍ، فهو يعتمد في نقد الإجماع أو تأييده على نفس
رابعا: كتاب (موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية).
الكتب التي اعتمدها مؤلف كتاب "موسوعة الإجماع" المتقدم لسعدي أبو جيب، مما يجعل النقد على الموسوعة السابقة يأتي هنا أيضًا. ويُعتذر له بأن مناقشة الإجماعات هو من باب التطبيق لمسائل الإجماع الأصولية فيما يبدو لي. في حين أن هذه الرسالة شاملة بإذن اللَّه لكتب كثيرة في شتى المذاهب والعصور حسب ما هو مبين في خطة المشروع. 3 - أنه ليس من منهج الباحث ذكر مستند الإجماع؛ ولا توثيق المسألة من كتب المذاهب الفقهية المختلفة، ولا دليل المخالف في المسألة إن وجد. 4 - أن عدد المسائل التي ذكرها الباحث ثمان وسبعون مسألة، وهو عدد قليل من مسائل الإجماع التي حُكيت في باب الطهارة. رابعًا: كتاب (موسوعة الإجماع لشيخ الإسلام ابن تيمية). لمؤلفه: د. عبد اللَّه بن مبارك البوصي وهذا الكتاب ليس إلا جمعًا لما نقله ابن تيمية فقط من الإجماعات، ولا يتعرض لغيره، وذلك على أبواب الفقه كلها، التي من ضمنها الطهارة. وأيضًا فليس من منهج المؤلف مناقشة هذه الإجماعات، والبحث عن مدى صحتها ودقتها، فهو ليس سوى جمع فقط دون أي تعليق. خامسًا: كتاب (الإجماع لابن عبد البر). لمؤلفه: فؤاد الشلهوب، وعبد الوهاب الشهري. وهذا الكتاب ليس سوى جمع لإجماعات ابن عبد البر من خلال كتابه "التمهيد" فقط على أبواب الفقه، ومن بينها الطهارة. وهو جمع فقط دون أي تعليق، كـ "موسوعة الإجماع" لابن تيمية التي سبق الكلام عنها. سادسًا: كتاب (الإجماع عند الإمام النووي من خلال شرحه لصحيح مسلم دراسة أصولية تطبيقية). لمؤلفه: علي أحمد الراشدي. وهي رسالة ماجستير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
سابعا: كتاب (تحرير اتفاقات ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد من أول الكتاب إلى نهاية كتاب الاعتكاف).
وقد بذل الباحث جهدًا كبيرًا في رسالته هذه، وهي من أفضل ما كتب في الموضوع؛ إلا أنه يؤخذ عليها اقتصارها على كتاب "شرح مسلم" للنووي فقط، فالمسائل فيه ليست شاملة، حيث لم يذكر سوى خمس وأربعين مسألة فقط. ويؤخذ عليه: عدم التزام الباحث بتوثيق المسألة من الكتب الفقهية للمذاهب في المسائل التي يحكم عليها. ثم إن الباحث يبحث أحيانًا عدة مسائل في عنوان واحد. مثال ذلك: مسألة (الحائض والنفساء ليس عليهما الصلاة ولا الصوم ويجب عليهما القضاء في الصوم دون الصلاة) (¬1)، وهذا العنوان يحتوي على ثمان مسائل في الإجماع. سابعًا: كتاب (تحرير اتفاقات ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد من أول الكتاب إلى نهاية كتاب الاعتكاف). لمؤلفه: عبد اللَّه بن علي بصفر. ذكر في باب الطهارة واحدًا وخمسين مسألة. ويؤخذ عليه: أنه لا يذكر مستند الإجماع، ولا يلتزم الباحث بالنظر في الكتب من خارج المذاهب الأربعة، التي تحكي أقوال أهل العلم، كالمصنف، والأوسط، ولا بذكر من وافق على هذا القول المحكي فيه الإجماع من العلماء المستقلين، ولا ينظر في خلاف الظاهرية، فلا يوثق المسألة عند ابن حزم، وهذه الأمور تفقد الكتاب أهمية كبيرة. ثامنًا: كتاب (المسائل التي حكى فيها ابن قدامة الإجماع والتي نفى علمه بالخلاف فيها في باب الطهارة من كتابه المغني جمعًا ودراسة). لمؤلفه: أحمد بن محمد البلادي. وهو رسالة ماجستير بجامعة أم القرى. ويؤخذ عليه: أن الباحث لا يلتزم بذكر مستند الإجماع، ولا بذكر من وافق ابن قدامة في حكاية الإجماع. ¬
أهداف البحث
ولا يلتزم الباحث بالرجوع إلى كتاب "المحلى" لابن حزم، ويشير إلى قوله في الموافقة أو المخالفة إن وجد، مما يفقد البحث الشيء الكثير. ولا يلتزم أيضًا بذكر الموافقين على القول المحكي فيه الإجماع من العلماء المستقلين أو المتقدمين. والرسالة تفتقد إلى الترتيب والمنهجية الواضحة. هذا علاوةً على أن الرسالة محصورة في ابن قدامة رحمه اللَّه من خلال كتابه "المغني". • أهداف البحث: 1 - بيان تعريف الإجماع، ومكانته، وأنواعه، والألفاظ التي تعبر عنه، والألفاظ التي لها صلة به. 2 - جمع جميع المسائل التي نقل فيها الإجماع في كتاب الطهارة، من خلال الكتب المعتمدة في الدراسة. 3 - البحث عن موافقٍ لذلك الإجماع؛ ومخالفٍ له؛ ودليل خلافه. 4 - التمحيص في صحة الإجماع؛ وتحقق الشروط فيه وعدمها. 5 - بيان الراجح عند الاختلاف بين العلماء في تحقق الإجماع أو عدمه. 6 - ذكر مستند الإجماع الذي بُني عليه الإجماع. • أسئلة البحث: 1 - ما المقصود بالإجماع عند العلماء؟ وما مكانته؟ وما أنواعه؟ وما الألفاظ التي تعبر عن حكايته؟ وما الألفاظ التي لها صلة به؟ 2 - ما المسائل الفقهية التي حُكي فيها إجماع العلماء في كتاب الطهارة؟ 3 - مَنِ العلماء الذين ذكروا ذلك الإجماع؟ ومن الذين خالفوه إن وجد؟ 4 - هل شروط صحة الإجماع متحققة في ذلك الإجماع؟ 5 - ما الراجح من أقوال العلماء في تحقق الإجماع من عدمه إن وجد خلاف؟ 6 - ما المستند الشرعي الذي بُني عليه ذلك الإجماع؟
منهج البحث
• منهج البحث: سأتبع في رسالتي المنهج الاستقرائي والمنهج المقارن (¬1)، المتعارف عليه لدى المختصين في الفقه الإِسلامي بالفقه المقارن. • إجراءات البحث: أولًا: أضع عنوانًا للمسألة التي ذُكرت في الكتب المعتمدة في المشروع. ثانيًا: أشرح المسألة التي تحتاج للشرح بعد العنوان، وأُعَرِّفُ المصطلحات التي تقتضي ذلك، وأميّز المسألة عن المسائل المشتبهة بها إن وجدت، على غرار ما يجري في علم الفروق الفقهية (¬2). ثالثًا: أضع بعد ذلك عنوان: (من نقل الإجماع أو الاتفاق أو نفي الخلاف) (¬3)، أذكر فيه أول من ذكر الإجماع، ثم أذكر من نقله بعده، وأراعي الترتيب الزمني في ذلك. رابعًا: أنقل نصوص العلماء في ذلك؛ إلا إن كانت متقاربة أو متشابهة، وإذا كان العالم قد نقل الإجماع عن غيره، فإنه يكتفى بنص العالم الأول، ويشار إلى أنه نقله عنه فلان. وقد أنقل بعض الاتفاقات المذهبية المطلقة من باب الاعتضاد فقط، في المسائل المبحوثة، لا استقلالا. وأنقل العبارات التي جاءت بألفاظ الإجماع الضعيفة كجميع وكافة وقول العلماء، من باب الاعتضاد أيضا. خامسًا: أضع عنوانا بعد ذلك (الموافقون على الإجماع أو الاتفاق أو نفي الخلاف) أذكر فيه المذاهب التي وافقت الإجماع والعلماء المستقلين أيضًا، إن وجد. ¬
وإذا كان أحد العلماء الذين حكوا الإجماع ينتمي إلى أحد المذاهب الفقهية؛ فيكتفى به في مذهبه الفقهي، ولا يعاد ذكر موافقة مذهبه في نفس المسألة. وبالنسبة لرأي ابن حزم في الموافقة والخلاف، فإني أبحث عنه في كل مسألة؛ إذ إنه المصدر الرئيسي في معرفة آراء الظاهرية - وإن كان يخالفهم أحيانا - ولكن كثيرًا ما يحصل أن لا أجد له رأيًا، وفي هذه الحالة فإني لا أشير لذلك، بل أكتفي بعدم الإشارة إليه. سادسًا: أذكر (مستند الإجماع أو الاتفاق أو نفي الخلاف) من النصوص الشرعية إن عُلم، فإن لم يظهر لي نص في المسألة ذكرت الدليل بطرق الاستنباط الأخرى. فإن كان آيةً؛ فتُذكر الآية بالنص العثماني، ثم أكتب اسم السورة ورقم الآية. أما الأحاديث النبوية؛ فأضعها داخل التنصيص تكريمًا لكلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي التخريج إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بذلك، وأذكر موضعًا واحدًا عند تعدد المواضع، وأما إذا كان خارج أحدهما؛ فإني أخرجه من كتب السنن الأخرى، وأبحث عن درجته ما استطعت. وعند التخريج فإني أذكر اسم الكتاب الذي أخرج الحديث، واسم الباب، ورقم الحديث، والجزء والصفحة. ومنهجي في توثيق المستند؛ أنني إذا نقلت الدليل الاجتهادي عن أحد من العلماء فإني أوثقه، وإن لم أوثق شيئًا فهو من اجتهادي، إلا إن كان الدليل مشهورًا أو وجه الدلالة واضحًا؛ فقد لا ألتزم بالتوثيق. سابعًا: أبدأ بعد ذلك بالبحث عن ناقضٍ لهذا الإجماع؛ إما بالنص على أنه منقوض، أو حكاية خلاف في المسألة. فإذا وجدت شيئًا من ذلك أثبته وأناقشه، إن كانت المسألة تحتاج لمناقشه. يلاحظ أن الإجماعات المعتمدة هي التي تكون فيها العبارة صريحة في حكاية الإجماع أو الاتفاق أو نفي الخلاف؛ بأن لا يكون لها استثناءات في السياق؛ أو ما يدل على أنها محصورة بمذهب معين؛ أو بالجمهور. وإذا كان نفي الخلاف أو حكاية الاتفاق في سياق مذهبي؛ فإني لا أعتمدها.
وإذا كان الحال أنه لم ينقل الإجماع إلا عالم واحد أو اثنان، فإني أحاول زيادة البحث والتدقيق في المسألة من خلال التنقيب في كتب المذاهب المختلفة عن مخالف لهذا الإجماع، خاصة إذا كان العالم الذي نقل عنه الإجماع من المشهورين بالتساهل. ثامنًا: عندما يتبين سلامة الإجماع أذكر النتيجة التي توصلت إليها من خلال الدراسة. تاسعًا: عندما أجد أن الإجماع المحكي مخروق؛ فإنني أتحقق من هذا الخرق، وأذكر الخلاف المحكي في هذه المسألة، وأعزوه إلى الكتب المعتمدة في المذاهب الفقهية المختلفة. وأذكر الدليل الذي استدل به المخالف من غير مناقشة وترجيح، حسب ما تقتضيه المسألة، حيث لو تمت مناقشة الأدلة والترجيح بينها لأصبحت الرسالة ضخمة جدًّا، بحيث لا تتسع لعدة طلاب. عاشرًا: عندما أجد أنه قد حكي خرق للإجماع، فإنني أجتهد في بيان ما يترجح لي في المسألة، من حيث تحقق الإجماع أو عدم تحققه، مع بيان الأسباب التي جعلتني أختار ذلك. الحادي عشر: أذكر الإجماعات حسب الأبواب الفقهية، على ترتيب مذهب الحنابلة، من خلال كتاب "المقنع". أما ترتيب المسائل داخل الباب؛ فإني لا ألتزم ترتيبًا معينًا، وإنما أجتهد في أن تكون المسائل المتقاربة في الحكم أو الصورة بجانب بعضها. الثاني عشر: ترجمت للأعلام غير المشهورين، ترجمة مختصرة، أما المشهورون كالخلفاء الأربعة، والأئمة الأربعة، وكمشاهير الصحابة كأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، فإني لا أترجم لهم. الثالث عشر: وضعت ترقيمًا لمسائل الرسالة، وذلك بأن جعلت رقمًا للمسألة في الباب، ثم ترقيما ثانيا في الرسالة كاملةً. الرابع عشر: إذا وضعت شرطة كهذه - فما بين الشرطتين من إضافتي، وليس من كلام العالم الذي أنقل عنه.
خطة البحث
الخامس عشر: في التوثيق من الكتب التي هي جزء فقط، فإني أذكر رقم الصفحة بين قوسين مباشرة، دون ذكر حرف ص، وأما الكتب التي هي أكثر من جزء، فإني أتبع الطريقة المعهودة، وهي ذكر رقم الجزء أولًا ثم رقم الصفحة داخل القوس فقط. السادس عشر: عندما أحيل على المسائل، فإنني أحيل على عنوانها، دون الإشارة إلى رقم الصفحة، وذلك لكثرة المسائل وتغير مواضعها أثناء المراجعات أو التغيير والإضافة. • خطة البحث: وتحتوي على مقدمة، وتمهيد، وأحد عشر بابًا، وخاتمة، أذكر فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج في رسالتي، وهي حسب ما يلي: • مقدمة: تشتمل على أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والدراسات السابقة المتصلة بالموضوع، وأهداف الموضوع، وأسئلة البحث، وحدود الدراسة، ثم منهجي في البحث، وإجراءات البحث، ثم خطة البحث. • تمهيد: وهو في التعريف بالإجماع، ومكانته بين مصادر التشريع الإِسلامي، والمسائل المهمة في هذا الباب، وفيه مباحث: • المبحث الأول: تعريف الإجماع. المطلب الأول: تعريف الإجماع لغةً. المطلب الثاني: تعريف الإجماع اصطلاحًا. • المبحث الثاني: مكانة الإجماع بين مصادر التشريع الإِسلامي. المبحث الثالث: أنواع الإجماعات، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: أنواع الإجماع من حيث أهله. المطلب الثاني: أنواع الإجماع من حيث النطق به وعدمه.
المطلب الثالث: أنواع الإجماع من حيث القطع والظن. • المبحث الرابع: ألفاظ الإجماع. • المبحث الخامس: الألفاظ ذات الصلة. • المبحث السادس: مستند الإجماع. • المبحث السابع: مسائل في الإجماع، وفيه مطالب: المطلب الأول: في حكم الإجماع بعد الخلاف. المطلب الثاني: في الإجماع على أقل ما قيل في المسألة. المطلب الثالث: في حكم مخالفة الواحد والاثنين من العلماء في المسألة. المطلب الرابع: في حكم مخالفة الظاهرية. المطلب الخامس: في حكم مخالفة أهل البدع. • المبحث الثامن: مناهج العلماء في حكاية الإجماع. أبواب الدراسة في كتاب الطهارة • وهي أحد عشر بابًا: الباب الأول: مسائل الإجماع في باب المياه. الباب الثاني: مسائل الإجماع في باب الآنية. الباب الثالث: مسائل الإجماع في باب الاستنجاء. الباب الرابع: مسائل الإجماع في باب السواك وسنن الوضوء. الباب الخامس: مسائل الإجماع في باب فروض الوضوء وصفته. الباب السادس: مسائل الإجماع في باب المسح على الخفين. الباب السابع: مسائل الإجماع في باب نواقض الوضوء. الباب الثامن: مسائل الإجماع في باب الغسل. الباب التاسع: مسائل الإجماع في باب التيمم.
الصعوبات التي واجهتني في البحث
الباب العاشر: مسائل الإجماع في باب إزالة النجاسة. الباب الحادي عشر: مسائل الإجماع في باب الحيض والنفاس. • الخاتمة: وأذكر فيها أهم النتائج والتوصيات. • الفهارس: وتشتمل على الآتي: 1 - فهرس الآيات حسب ترتيب السور. 2 - فهرس الأحاديث والآثار هجائيًا. 3 - فهرس الأعلام المترجم لهم هجائيًا. 4 - فهرس المذاهب والفرق هجائيًّا. 5 - فهرس غريب الألفاظ. 6 - فهرس مسائل الإجماع. 7 - فهرس المراجع. 8 - فهرس الموضوعات. • الصعوبات التي واجهتني في البحث: واجهتني في هذه الرسالة العديد من الصعوبات، أثناء إعدادي للرسالة، ومنها: 1 - عدد الكتب المعتمدة من قبل اللجنة في الالتزام بالألفاظ الدالة على الإجماع كثير، وهي ثلاثون كتابًا، بعضها في مجلدات متعددة، مما جعل البحث فيها شاقًّا جدًّا، حتى إنني في بعض مراحل البحث أصبحت أحدث نفسي بأن إنجاز هذه الرسالة يحتاج إلى عدة سنوات طويلة، ولكن بحمد اللَّه تعالى تمَّ إتمام الرسالة، فله الشكر والمنة. 2 - عدد المسائل التي بحثتها في هذه الرسالة كثير أيضًا، وهي أربع مائة وستون مسألة، وأرجو أن لا تكون كثرتها قد أثرت على مستوى الرسالة، فبطبيعة العمل
البشري النقص، فما بالك إذا كان العمل كبيرًا. 3 - الإجماعات التي يحكيها بعض العلماء في مسائل فرعية دقيقة، يصعب على الباحث الحصول على كلامٍ لأهل العلم فيها (¬1)، فضلًا عن تحقق الإجماع فيها، مما يشكك في صحة الإجماع وعدمه، وقد مرت عليّ بعض المسائل التي لم أجد لها كلامًا لبعض المذاهب، مما جعلني أتوقف عن الحكم على المسألة. 4 - عدم عثوري على مستند الإجماع في بعض المسائل، خاصة إذا لم يوجد نص، مما يضطرني أن أجتهد في الاستدلال من المعقول، أرجو أن أكون مصيبًا فيه. 5 - بعض المسائل لا أجد فيها نصًّا واضحًا للفقهاء، أو لفقهاء مذهب معين، سواء كان بالموافقة أو المخالفة، مما يجعلني أجتهد في فهم معاني كلامهم، ومحاولة القياس عليه، وقد يأخذ مني هذا الوقت الطويل، ربما أيامًا. ومع كل هذه الصعوبات التي استطعت بحمد اللَّه تعالى تجاوزها، لا أدعي الكمال في رسالتي، بل كل عمل بشري يعتريه القصور والنقص، وقد يحصل الوهم والخطأ، بذلت كل ما أستطيع في سبيل إكمال الرسالة على أحسن وجه؛ إلا أن اللَّه تعالى يأبى الكمال إلا له سبحانه وتعالى. * * * ¬
تمهيد
تمهيد وفيه مباحث • المبحث الأول: تعريف الإجماع. المطلب الأول: تعريف الإجماع لغة. المطلب الثاني: تعريف الإجماع اصطلاحًا. • المبحث الثاني: مكانة الإجماع بين مصادر التشريع الإِسلامي. • المبحث الثالث: أنواع الإجماعات، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: أنواع الإجماع من حيث أهله. المطلب الثاني: أنواع الإجماع من حيث النطق به وعدمه. المطلب الثالث: أنواع الإجماع من حيث القطع والظن. • المبحث الرابع: ألفاظ الإجماع. • المبحث الخامس: الألفاظ ذات الصلة. • المبحث السادس: مستند الإجماع. • المبحث السابع: مسائل في الإجماع، وفيه مطالب: المطلب الأول: في حكم الإجماع بعد الخلاف. المطلب الثاني: في الإجماع على أقل ما قيل في المسألة. المطلب الثالث: في حكم مخالفة الواحد والاثنين من العلماء في المسألة. المطلب الرابع: في حكم مخالفة الظاهرية. المطلب الخامس: في حكم مخالفة أهل البدع. • المبحث الثامن: مناهج العلماء في حكاية الإجماع.
المبحث الأول: تعريف الإجماع
المبحث الأول: تعريف الإجماع المطلب الأول: تعريف الإجماع لغة • الإجماع لغةً: مِن أجمع الأمر إذا عزم عليه، ويُقال أيضًا: أجمِع أمرك، ولا تدعه منتشرًا (¬1). قال تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: الآية 71]. يقال: أجمعوا على الأمر اتفقوا عليه (¬2). قال ابن منظور: "جمع أمره، وأجمعه، وأجمع عليه؛ عزم عليه، كأنه جمع نفسه له، والأمر مجمع، ويقال أيضًا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرًا" (¬3). وقال الفيروز آبادي في "القاموس": "الإجماع: الاتفاق. . .، وجعل الأمر جميعًا بعد تفرقه" (¬4). وقال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة": "جمع، الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضامّ الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعًا" (¬5)، فإذا تضامّت أقوال العلماء على رأي واحدٍ في المسألة، فقد أجمعوا عليه. والأجماع يقال: في أقوام متفاوتة اجتمعوا، وأجمعت كذا، وأكثر ما يقال فيما يكون جمعًا يتوصل إليه بالفكر، ويقال: أجمع المسلمون على كذا: اجتمعت آراؤهم عليه" (¬6). • فيتحصل لنا أن كلمة (أجمع) تطلق على معنيين: الأول: العزم على الشيء. ولعل مناسبة هذا المعنى للمعنى الاصطلاحي؛ أن العلماء عندما اجتمعوا على قول ¬
المطلب الثاني: تعريف الإجماع اصطلاحا
واحد في المسألة، كأنهم عزموا وصمموا على هذا القول في المسألة، مما جعلهم يقولون بقول واحد غير مختلفين فيه. والثاني: الاتفاق والاجتماع. وهذا المعنى هو الأقرب ليتناسب مع المعنى الاصطلاحي للإجماع، فإذا اتفق العلماء على القول برأيٍ في المسألة واجتمعوا عليه؛ فإنهم قد أجمعوا على القول بهذا الرأي. المطلب الثاني: تعريف الإجماع اصطلاحًا • وأما تعريف الإجماع اصطلاحًا: فقد اختلفت تعريفات العلماء في ذلك، أذكر بعضًا منها: 1 - عرفه القاضي أبو يعلى بأنه: "عبارة عمن تثبت الحجة بقوله" (¬1). 2 - عرفه الآمدي بأنه: "اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع" (¬2). 3 - عرفه ابن السبكي بأنه: "اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عصرٍ على أي أمرٍ كان" (¬3). • التعريف المختار: فهو اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد وفاته على أمرٍ من أمور الدين. وهذا التعريف هو أسلم التعريفات الأصولية من الاعتراضات، وهو مأخوذ من تعريف الإمام ابن السبكي رحمه اللَّه في "جمع الجوامع" إلا أنه أضيف إليه تقييد الأمر المجمع عليه بالديني، وبهذا يكون سالمًا من الاعتراضات الواردة عليه (¬4). • شرح التعريف وبيان محترزاته: (اتفاق): هو أن تكون آراء العلماء متطابقة ومشتركة في الرأي والوجهة، سواء كان عن طريق الأقوال؛ أو الأفعال؛ أو السكوت مع كلام البعض الآخر. ¬
وبهذا يكون التعريف شاملًا لنوعي الإجماع (الصريح أو اللفظي؛ والسكوتي) (¬1). (مجتهدي): المجتهد هو: الفقيه الذي استكمل شروط الاجتهاد المعروفة في أبواب الاجتهاد في أصول الفقه (¬2). وبهذا يخرج من التعريف العوام وطلاب العلم الذين لم يستكملوا شروط الاجتهاد (¬3). (العصر): أي ذلك العصر الذي وقعت فيه تلك الحادثة، ولو خالف عالم بعد ذلك فلا عبرة بخلافه؛ لأنه خالف الإجماع. ويلاحظ هُنا أن العصر مطلق؛ أيْ في أيِّ عصرٍ كان، بخلاف من قال باشتراط حدوث الإجماع في عصر الصحابة فقط، وهم الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد رحمه اللَّه، وسيأتي مزيد من البيان لهذه المسألة في المبحث الثالث إن شاء اللَّه تعالى (¬4). وكذلك يلاحظ عدم تقييد التعريف باشتراط انقراض العصر، الذي وقعت فيه تلك الحادثة، بموت جميع العلماء الذين أفتوا في تلك الحادثة برأي موحد، بخلاف من اشترطه (¬5). ¬
(من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-): قَيْدٌ يُخرج المجتهدين من أتباع الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، فلا يُعتد بخلافهم أو إجماعهم، ولو وصلوا إلى رتبة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية. (بعد وفاته): قيد يُخرج الإجماع في عصر النبوة؛ لأنه لا يتصور وقوعه في حال حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام، إذ بوجوده هو المصدر التشريعي الوحيد الناقل للوحي، فلو أقر الإجماع كان إقراره هو الحجة، ولو أنكر الإجماع كان إنكاره هو الحجة أيضًا، ولا اعتبار لهذا الإجماع الذي أنكره الرسول عليه الصلاة والسلام. ولذلك يقول الجلال المحلي: "ووجهه؛ أنه إن وافقهم فالحجة في قوله، وإلا فلا اعتبار بقولهم دونه" (¬1). (على أمر من أمور الدين): قيد يُخرج الإجماع في الأمور غير الشرعية؛ كاللغة والحساب والفلك وغير ذلك من أمور الدنيا. فالإجماع الاصطلاحي الشرعي هو ما كان في أمور الدين فقط (¬2). * * * ¬
المبحث الثاني: مكانة الإجماع بين مصادر التشريع الإسلامي
المبحث الثاني: مكانة الإجماع بين مصادر التشريع الإِسلامي • مكانة الإجماع: الإجماع هو الأصل الثالث من الأصول التي تستمد منها الشريعة الأحكام، ويذكره علماء الأصول بعد الحديث عن الأصلين الأولين (الكتاب والسنة)، فهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإِسلامي. بل عند تعارض الأدلة النصية من الكتاب والسنة مع الإجماع؛ فقال بعض العلماء بتقديم الإجماع عليهما (¬1)، وذلك لعدم تصور احتمال النسخ في إجماع العلماء واتفاقهم في تلك المسألة على رأي موحد، كما هو محتمل في النصوص (¬2). ولأن الإجماع مستند في الحقيقة إلى نصوص شرعية، سواء علمناها وتوصلنا إليها من خلال المصادر المتوفرة، أم لم نتمكن من الوصول إليها، كما هو الراجح في هذه المسألة (¬3). يقول ابن النجار الفتوحي الحنبلي رحمه اللَّه: "ولأن الإجماع معصوم عن مخالفته دليلًا شرعيًّا لا معارض له، ولا مزيل عن دلالته، فيتعين إذا وجدناه خالف شيئًا أَنَّ ذلك إما غير صحيح إن أمكن ذلك، أو أنه مؤول، أو نسخ بناسخ؛ لأن إجماعهم حق، فالإجماع دليل على النسخ لا رافع للحكم. . . " (¬4). ويقول أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي رحمه اللَّه: "فحكمه - أي الإجماع -: أن يُصار إليه ويُعمل به، ولا يجوز تركه بحال؛ إذ لا يتسلط على حكمه بعد ثبوته نسخ؛ لأنه لا طريق إلى النسخ بعد انقطاع الوحي، ولا نص يعارضه، ولا لنا إجماع يعارضه، بخلاف ما قلنا في النص الذي يعارضه نص آخر؛ لاجتماع نصين في زمنٍ واحد؛ لأن النصين يصدران عن عصرٍ يجتمع فيه النصان، وهو عصر النبوة، والإجماع لا يتحقق ¬
أولا: من الكتاب
في عصر النبوة، والنص لا يبقى لنا مجددًا في زمن الإجماع، فلذلك لم يتصور معارضته بنص ولا إجماع، وامتناع إجماعين في عصر واحد، ولأن الأمة معصومة في اتفاقها عن أن تُجمع على حكم ثبت فيه نص عن اللَّه سبحانه أو عن رسوله بخلاف اتفاقهم" (¬1). فالإجماع ليس دليلًا منفردًا عن الأصلين الأولين، بل هو تابع لهما من حيث كونه لا يقع إلا وله مستند شرعي علمناه أم لم نعلمه. فإذا وقع، دلّ ذلك على وجود الدليل الشرعي، وأن ذلك النص صحيح، غير مؤول ولا منسوخ، بخلاف النصوص الشرعية؛ فقد تكون محتملة التأويل، أو النسخ. وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه القول الذي يقول بأن النظر أولا إلى الإجماع، ثم النصوص، وبين أن طريقة السلف هي النظر أولًا في كتاب اللَّه تعالى، ثم في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم في الإجماع (¬2). ثم نقل عن بعض المتأخرين قولهم: "يبدأ المجتهد بأن ينظر أولًا في الإجماع، فإن وجده؛ لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصًّا خالفه؛ اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخه! والصواب طريقة السلف" (¬3). • حجية الإجماع: هذا، وقد دلّ على حجيّة الإجماع، وكونه دليلًا يستمد منه الأحكام عدة أدلة، نذكر بعضًا منها: • أولًا: من الكتاب: 1 - قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى توعد بالعذاب لمن شاقّ اللَّه ورسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين، أي: الطريق الذي اختاروه لأنفسهم. وهذا يدل على وجوب متابعة سبيل المؤمنين وعدم مخالفتهم. ¬
ولا يصح إطلاق القول؛ بأن ذلك القول أو الفعل هو سبيل المؤمنين؛ إلا باجتماع قولهم أو فعلهم على رأي موحد (¬1). 2 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى وصف الأمة بأنها أمة وسط، والوسط: الخيار العدل، يدل لذلك قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} [القلم: 28]، أي: أعدلهم. واللَّه تعالى عدّلهم بقبول شهادتهم أيضًا، وشهادة الشاهد حجة، فدل ذلك على حجيّة إجماع الأمة ووجوب الأخذ به (¬2). 3 - قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأمة؛ بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن المنكر. وهذا يقتضي كون قولهم حقًّا وصوابًا في جميع الأحوال، والخيرية توجب حقيقة ما اجتمعوا عليه؛ لأنه لو لم يكن حقًّا لكان ضلالًا، فإذا اجتمعوا على مشروعية شيء يكون ذلك الشيء معروفًا، وإذا اجتمعوا على عدم مشروعية شيء يكون ذلك الشيء منكرًا، فيكون إجماعهم حجة (¬3). 4 - قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. • وجه الدلالة: نهى اللَّه تبارك وتعالى في الآية عن التفرق، ولا شك أن مخالفة الإجماع تفرق، فيكون منهيًّا عنه، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته، ووجوب اتباعه (¬4). 5 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي ¬
ثانيا: من السنة
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، ولا يأمر اللَّه تعالى لأحدٍ بطاعته إلا أن يكون معصومًا عن الخطأ؛ لأنه لو لم يكن معصومًا فإن اللَّه تعالى قد أمر بطاعته فيما لو قُدِّر إقدامه على الخطأ، فدل ذلك على أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر -وهم أهل الحل والعقد من المجتهدين- عند إجماعهم وعدم تنازعهم (¬1). • ثانيًا: من السنة: 1 - قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد اللَّه على الجماعة ومن شذ شذ في النار" (¬2). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة أبدًا، وأن من شذ عن الجماعة فقد شذ في النار، فدل ذلك على أن هذه الأمة أمة معصومة إن أجمعت على أمرٍ، وهذا ما يدل على أن الإجماع من أمة محمد عليه الصلاة والسلام حجة (¬3). 2 - قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن فارق الجماعة شبرًا فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه" (¬4). ¬
المبحث الثالث: أنواع الإجماع
• وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصف المفارق -وهو المخالف- للجماعة، عندما اجتمعت الجماعة في أمرها وتوحدت، بأنه قد خلع رِبْقَة (¬1) الإسلام من عنقه، وهذا وعيد شديد لمرتكب هذا الفعل، وهو مخالفة الجماعة، فدل ذلك على وجوب اتباع الجماعة، وعدم مخالفتها ومفارقتها، وعلى اعتبار إجماعها وكونه حجة شرعية (¬2). المبحث الثالث: أنواع الإجماع المطلب الأول: أنواع الإجماع من حيث أهله القسم الأول: إجماع الأمة وهو الإجماع المطلق، والمقصود منه هو أن علماء الأمة أجمعوا على رأي موحد في مسألة ما، دون التقيد بطبقة معينة؛ أو بلد معين؛ أو زمن معين. وعلماء الأمة عبارة تشمل الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم من علماء وفقهاء الأمة رحمهم اللَّه تعالى (¬3). ومما ينبغي التنبيه عليه؛ أن علماء الأمة رحمهم اللَّه تعالى لم يختلفوا إجمالًا في إمكان وقوع الإجماع وتصور ذلك؛ سوى بعض الشيعة والمعتزلة، وخلافهم هنا غير معتبر (¬4). ¬
ولا يمتنع العلم بتحقق وقوع إجماع العلماء رحمهم اللَّه تعالى عقلًا ولا عادةً، خلافًا لما فُهم من كلام الإمام الشافعي، والإمام أحمد رحمهم اللَّه تعالى، وهناك شواهد فقهية دالة على مخالفتهما لما فُهم منهما، سيأتي بعضها في ثنايا البحث بالنسبة للإمام الشافعي. ففي كلام الإمام الشافعي رحمه اللَّه ما تُوهم أنه ينفي إمكان وقوع الإجماع، وهو ليس كذلك، فالذي يدل عليه سياق كلامه في مناظرةٍ له، تحدث فيها عن نقل الإجماع، هو أنه يتشدد في النقل، وأن الإجماع الذي هو حجة شرعية لا يحصل إلا في المسائل التي يعرفها العامة من المسلمين، التي هي من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة، وأما ما سوى ذلك مما يدور بين الخاصة من أهل العلم؛ فإنه ليس فيه إلا عدم العلم بالمخالف، وهو ليس إجماعًا عنده، واللَّه تعالى أعلم. وسأنقل بعض كلامه لأهميته، فقد قال رحمه اللَّه: "نعم، نحمد اللَّه كثيرًا في جملة الفرائض التي لا يسع جهلها، فذلك الإجماع هو الذي لو قلت: أجمع الناس؛ لم تجد حولك أحدًا يعرف شيئًا يقول لك: ليس هذا بإجماع، فهذه الطريق التي يصدق بها من ادعى الإجماع فيها، وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه، ودون الأصول غيرها، فأما ما ادعيت من الإجماع، حيث قد أدركت التفرق في دهرك، وتحكي عن أهل كل قرن؛ فانظره أيجوز أن يكون هذا إجماعًا" (¬1). أما الإمام أحمد فقد روى عنه أنه قال: "من ادعى الإجماع فهو كاذب" (¬2)، ولذلك فُهم من هذه العبارة أنه ينكر إمكان وقوع الإجماع والعلم به، وقد أجاب عنها أهل العلم (¬3). يقول الإمام أحمد رادًّا على مدعٍ للإجماع في إحدى المسائل: "هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله: ¬
إجماع الناس" (¬1). وعلّق عليه القاضي بقوله: "قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف" (¬2). وكلامه السابق فيه إشارة على أنه يقول بوقوع الإجماع؛ إلا أنه يتشدد فيه ورعًا، ويؤكد ذلك ورود استخدامه لعبارة الإجماع في مسائل فرعية (¬3). يقول ابن القيم عن أصول الفتوى لدى الإمام أحمد: "ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا، ولا قياسًا، ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضًا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظه: "ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعًا" (¬4). وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟ فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا. . . ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك (¬5). هذا لفظه، ونصوص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده" (¬6). * * * ¬
القسم الثاني: إجماع الصحابة
القسم الثاني: إجماع الصحابة لا شك أن أولى من يعتبر إجماعهم هم صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، الذين شهدوا الوحي وعاصروه، وهم أعلم الناس بالحلال والحرام وجميع أحكام الدين -رضوان اللَّه عليهم. ولذلك يقول الزركشي: "إجماع الصحابة حجة بلا خلاف بين القائلين بحجية الإجماع، وهم أحق الناس بذلك" (¬1). ويقول الإمام الشوكاني: "إجماع الصحابة حجة بلا خلاف" (¬2). وقد اختلف العلماء في إجماع من بعد الصحابة هل هو حجة؛ أو لا؟ على قولين: • الأول: أن الإجماع إجماع الصحابة دون من بعدهم. وروي هذا القول عن الإمام أحمد رحمه اللَّه في إحدى الروايتين عنه، وعليه سار بعض الحنابلة والظاهرية (¬3). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: "الذي أنكره أحمد: دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة، أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو في التابعين" (¬4). • دليل هذا القول: أن الإجماع يشترط فيه اتفاق الكل، وتحقق العلم بذلك، وهذا لا يحصل إلا بالمشاهدة، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان المجمعون محصورين، كما هو الحاصل في عصر الصحابة دون من بعدهم، حيث من المُحال حصر العلماء المجتهدين في العالم، ومعرفة رأي كل واحد منهم، فيبقى أن الإجماع هو إجماع ¬
الصحابة دون من بعدهم (¬1). • القول الثاني: أن الإجماع حجة في كل العصور. وهذا قول الجمهور من علماء الأمة، وهو الأقرب إلى الصواب واللَّه أعلم، وعليه درج العلماء حتى علماء الحنابلة إجمالًا، وكل أدلة حجية الاحتجاج بالإجماع دالة عليه. ويمكن أن يوجه قول الإمام أحمد رحمه اللَّه بأنه يقصد أن الإجماع مراتب؛ أعلاها إجماع الصحابة، ثم من يليهم (¬2). وحمله القاضي أبو يعلى على أنه يقصد إذا انفرد تابعيٌ أو تابعه؛ فإن الإنسان مخير في ذلك -أي في الأخذ بذلك القول أو رده (¬3). وقال الطوفي الحنبلي بأن الرواية الأخرى للإمام أحمد رحمه اللَّه وهي الموافقة للجمهور -هي المشهورة عنه، وهي التي رجحها الطوفي نفسه (¬4). وقال في "مختصره للروضة" الذي شرحه: "لا يختص الإجماع بالصحابة، بل إجماع كل عصرٍ حجة" (¬5). وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي -بعد ذكره للرواية المذكورة والخلاف في المسألة: "ولنا -وهذه عبارة تدل على اختياره لهذا القول - ما ذكرناه من الأدلة على قبول الإجماع من غير تفريق بين عصر وعصر" (¬6). • دليل الجمهور: أن الأدلة الشرعية الواردة في حجية الإجماع لم تفرق بين إجماع الصحابة ومن بعدهم، وهذا التفريق يحتاج إلى دليل، والدليل غير موجود، فيبقى أن الإجماع حجة، وليس حجة في عصر دون عصر (¬7). ¬
القسم الثالث: إجماع أهل المدينة
وعلى هذا فالإجماع حجة في أي عصر كان، ولكن يمكن أن يقال بأن إجماع الصحابة أقوى درجة من إجماع من بعدهم بلا شك، فإجماعهم يدل على ثبات هذا القول وقوته أكثر مما لو اجتمع العلماء بعد عصرهم. القسم الثالث: إجماع أهل المدينة (¬1) والمقصود بهذا الإجماع: هو إجماع أهل المدينة في القرون المفضلة بعد عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيما إذا خالفهم آخرون في أمر من أمور الاجتهاد (¬2). واشتهر الإمام مالك رحمه اللَّه بالقول بهذا النوع من الإجماع، وأكْثَرَ من الاستدلال به في الفروع الفقهية (¬3). وأحصى العلامة ابن القيم رحمه اللَّه ما ورد عنه في الاستدلال بإجماع أهل المدينة بنيِّف وأربعين مسألة (¬4). وقد قسم ابن القيم رحمه اللَّه عمل أهل المدينة إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يُعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم. والثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم. والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم (¬5). فأما الأول: فهو بلا شك حجة؛ لأنه إما أن يكون إجماعًا لفظيًّا أو سكوتيًّا عند من يقول به. وأما الثاني: فهو محل النقاش والخلاف بين المالكية والجمهور. وأما الثالث: فليس بشيء؛ إذ أن قول البعض ليس بحجة على الآخرين. ¬
وهناك قسم قد يتوهم أن يكون نوعًا رابعًا لإجماع أهل المدينة، ولم يذكره ابن القيم رحمه اللَّه، وهو ما لو كان عمل أهل المدينة موافقًا لما كان عليه العمل في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعرفنا ذلك بطريق صحيح، فهو بهذا يرتفع ليصبح سنة تقريرية للمصطفى عليه الصلاة والسلام (¬1). فتبين أن الخلاف فيما إذا أجمع أهل المدينة على قولٍ خالفهم فيه آخرون. والصحيح -واللَّه أعلم- هو قول الجمهور، فيما اختلفوا فيه مع ما نسب إلى المالكية؛ إذ لا دليل على ما ادّعوه، بل هو قول المحققين من علماء المالكية أيضًا. • أدلة الجمهور: أولًا: قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: الآية 115]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى توعد من اتبع غير سبيل المؤمنين، وأطلق المؤمنين، بمعنى كل المؤمنين، وأهل المدينة ليسوا كل المؤمنين، فلا يوجد إجماع إذًا (¬2). ثانيا: أن من شروط الإجماع التي تجعله حجة شرعية غير متوفرة في إجماع أهل المدينة، فالاتفاق بين علماء الأمة لم يحصل، لمخالفة علماء الأمصار (¬3). • دليل المالكية: أن أهل المدينة أقوى اجتهادًا من غيرهم؛ لمشاهدتهم أحوال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعرفتهم بالوحي، وقربهم منه (¬4). • وجوابه: أن المدينة لو كانت جامعة للمجتهدين من الأمة لكان إجماعهم صحيحًا، وليست كذلك، وقول بعض الأمة ليس حجة على الآخرين (¬5). ومن علماء المالكية من قال: إنما أراد الإمام مالك بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم. ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى، ولا تمتنع مخالفتهم. ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬
المطلب الثاني: أنواع الإجماع من حيث النطق به وعدمه
المطلب الثاني: أنواع الإجماع من حيث النطق به وعدمه • أولًا: الإجماع الصريح أو اللفظي: ويقصد به: اتفاق مجتهدي الأمة في عصر ما، على حكم شرعي عن طريق إبداء كل منهم رأيه صراحةً (¬1). ويعرف ذلك من طريق الإبداء به قولًا، أو بالفعل، أو بأي طريقة تدل على الإقرار بذلك القول والرضا به. وهو ما سماه بعض علماء الحنفية الأصوليين بالعزيمة (¬2). وهذا القسم من الإجماع هو الذي يعتبر في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة؛ إذ لم يخالف فيه إلا من لم يحتج بالإجماع، أما الإجماع السكوتي ففي العمل به خلاف مشهور سيأتي، فهو لا يرتقي إلى مرتبة الأول مطلقًا. • ثانيًا: الإجماع السكوتي: ويقصد به: أن يعمل بعض المجتهدين في عصرٍ عملًا، أو يبدي رأيًا صريحًا في مسألة اجتهادية، ويسكت الباقي من المجتهدين بعد علمهم بذلك الرأي (¬3). وهو ما يسميه بعض علماء الحنفية بالرخصة (¬4). ولكي يكون الإجماع سكوتيًّا فيجب أن تتحقق فيه عدة شروط؛ هي: 1 - أن يكون السكوت مجردًا من جميع علامات الرضا والسخط؛ لأنه إن وجد ما ¬
يدل على الرضا كان من قبيل الإجماع الصريح لا الإجماع السكوتي، وإن وجد ما يدل على السخط لم يكن إجماعًا أصلًا. 2 - أن تبلغ المسألة جميع المجتهدين؛ لأنها إذا لم تبلغ الجميع لم يتحقق إجماع؛ لأنه لا يمكن نسبة الحكم إلى من يجهله. 3 - أن يمضي زمن يكفي للنظر والتأمل في تلك المسألة؛ لينقطع احتمال أنهم سكتوا لكونهم في مهلة النظر (¬1). واختلف العلماء في هذه المسألة، على ثلاثة أقوال إجمالًا: القول الأول: أنه حجة وليس إجماعًا. القول الثاني: أنه إجماع وحجة. القول الثالث: أنه ليس بإجماع (¬2). • أدلة القول الأول: أولًا: أن سكوت الساكتين من المجتهدين دليل على موافقتهم على القول المعلن الذي اشتهر عند الناس، وإلا كان سكوتهم كتمًا للحق وما يعتقدون صحته، وهذا لا يجوز، ويجب أن ينزه علماء الأمة عن ذلك (¬3). ثانيًا: أن اشتراط التصريح بالقول من كل المجتهدين شرط صعب المنال، ومن النادر تحققه، ومن المعتاد للناس أن يفتي البعض ويسكت الباقون لعدم الحاجة، إلا أن يكونوا مخالفين لما أُفتي به، فدل ذلك على أن سكوتهم إقرار منهم (¬4). ثالثًا: أن سكوت المجتهد عن التصريح بمخالفته للرأي المعلن لا يعني بالضرورة موافقته على ذلك، ولكن عند النظر إلى عموم المجتهدين؛ فإنهم لن يسكتوا كلهم إلا وهم موافقون، ولكن لوجود احتمال مخالفة البعض دون أن يصرحوا برأيهم، لأي سببٍ كان؛ دل ذلك على أن رتبة هذا الإجماع أقل من سابقه، نظرًا لتعرضه لاحتمال ¬
المطلب الثالث: أنواع الإجماع من حيث القطع والظن
النقض بالمخالفة، فكان ذلك إجماعًا قطعيًّا، وهذا حجة ظنية، واللَّه تعالى أعلم. • دليل القول الثاني: استدلوا بأدلة القول الأول، ولكنهم لم يراعوا تطرق الاحتمال إلى مخالفة البعض وسكوتهم لمراعاتهم آداب الخلاف أو أي سبب آخر، وهذا هو الجواب على استدلالهم (¬1). • دليل القول الثالث: أن قول المجتهد لا يعرف إلا من تصريحه، أو دليل على رضاه وإقراره؛ لأنه قد يسكت لرضاه، وقد يسكت لعدم اجتهاده في المسألة؛ أو توقفه؛ أو لخوفه من الجهر بالمخالفة؛ أو لأي سبب كان، وما دام قد تطرق الاحتمال بالدليل فقد سقط (¬2). • وجوابه: أن سكوت المجتهد بعد مدة يتمكن من خلالها النظر في المسألة، يدل على موافقته، وإلا لكان ذلك طعنًا في ديانته وعلمه؛ لأنه واجب عليه بيان الحق الذي يراه في المسألة، أما إذا كان يخاف من الجهر بالقول، فإنه إذا كان الخوف معتبرًا شرعًا، فإنه لا يتحقق الإجماع السكوتي؛ نظرًا لوجود أمر يضعف الظن بالموافقة، ومع كل ذلك فمثل هذه الاحتمالات هي التي تنزل مرتبة هذا الإجماع إلى الحجة الظنية دون القطعية (¬3). والظاهر -واللَّه أعلم- أن الإجماع السكوتي حجة يؤخذ به كدليل من الأدلة، ولكن ليس إجماعًا قطعيًا رافعًا للخلاف، وذلك لما ذُكر من الأدلة. المطلب الثالث: أنواع الإجماع من حيث القطع والظن • القسم الأول: الإجماع القطعي: يذكر العلماء لهذا القسم عددًا من الشروط، وهي كالتالي: 1 - أن تتوفر فيه جميع شروط الإجماع؛ المتفق عليها، والمختلف فيها أيضًا (¬4)، وذلك لأنه إذا اختل شرط من الشروط، حتى لو كان مختلفًا فيه؛ فإن هناك من يقول بعدم تحقق الإجماع، فلم يكن قطعيًّا بهذا. ¬
القسم الثاني: الإجماع الظني
2 - أن يكون نقله عن المجتهدين متواترًا (¬1)؛ لأن نقله بطريق الآحاد يفيد الظن لا القطع. 3 - أن يكون الإجماع مصرحًا به من قبل المجتهدين، لا أن يكون سكوتيًّا (¬2). 4 - أن يكون منقولًا على أصلٍ من أصول الفرائض، التي هي من المعلوم من الدين بالضرورة، التي يعرفها الخاصة والعامة من المسلمين (¬3). 5 - أن يكون مستند الإجماع دليلًا قطعيًّا، ويجتمعون على كونه قطعيًّا؛ لأن هناك من خالف في كون الإجماع على مستند ظني حجة (¬4). هذه الشروط الخمسة متى تحققت؛ أضحى الإجماع قطعيًّا، لا تجوز مخالفته مطلقًا، ومتى تخلف أحد الشروط؛ فإن هناك من يقول بأنه إجماع ظني (¬5). وهذا النوع من الإجماع قليل، ويكون في المسائل المشهورة كوجوب الصلاة والطهارة مثلًا. • القسم الثاني: الإجماع الظني: وهو ما اختل فيه أحد الشروط السابقة في القسم الأول؛ لوجود من يخالف في حصول الإجماع، أو قطعيته في هذه الحالة. ومن صور هذا الإجماع: الإجماع السكوتي (¬6)، والإجماع بعد الخلاف (¬7)، والإجماع دون انقراض العصر (¬8)، والإجماع الذي مستنده ظنيًّا (¬9)، وغير ذلك من المسائل المختلف فيها في باب الإجماع. وهذا النوع من الإجماع هو الغالب في الإجماعات التي في هذا الكتاب، فهي في الحقيقة ليست حجة قطعية على مخالفها إنما هي الظن، واللَّه أعلم. ¬
المبحث الرابع: ألفاظ الإجماع
المبحث الرابع: ألفاظ الإجماع تتعدد ألفاظ الإجماع بتعدد إطلاقات العلماء الذين ينقلون ويحكون الإجماع، وباختلاف تلك الإطلاقات عن بعضها البعض. وبعد التأمل والنظر نجد أنها تأتي على مراتب متفاوتة في القوة والضعف، ويمكن أن نجملها في التقسيم الآتي -وهي مُرتّبة من حيث القوة-: • أولًا: ألفاظ الإجماع الصريحة: وهذا القسم من مراتب ألفاظ الإجماع أعلى ألفاظ الإجماع وأقواها، وله عدة عبارات وإطلاقات يستخدمها العلماء رحمهم اللَّه تعالى، وهي لفظ الإجماع ومشتقاته، كقولهم: (أجمع العلماء؛ أجمعوا؛ إجماع؛ الإجماع؛ إجماعهم؛ مجمعون؛ مجمع عليه؛ إجماع المسلمين؛ إجماع أهل العلم؛ إجماع العلماء؛ إجماع الفقهاء؛ إجماع الأمة؛ إجماع أهل الملة؛ إجماع أهل القبلة؛ إجماع السلف). وهذه الإطلاقات بعضها أقوى من بعض، وإن كانت تدل على حكاية الإجماع كلها. فمثلًا: عبارة (أجمع المسلمون) أقوى من عبارة (أجمع السلف)؛ إذ إن الأولى يدخل فيها حتى المبتدعة الذين ابتدعوا في الدين، وخرجوا عن أهل السنة، ولكن بدعتهم التي ابتدعوها لم تصل إلى حد الكفر، وقد تصل إلى حد الفسق (¬1). وهنا مسألة يجب التنبيه عليها، وهي: أن عبارة (هذا لا يصح بالإجماع) لا تعتبر دالة على الإجماع؛ وذلك لأن العبارة تدل على معنيين؛ فقد تكون دالة على وقوع الإجماع على نفي الصحة، وقد تكون دالة على نفي وقوع الإجماع على الصحة. فلو قال عالم: "الوضوء بالنبيذ لا يصح بالإجماع"، فإن المعنى يحتمل أن يكون الإجماع على عدم صحة الوضوء بالنبيذ، وقد يكون يريد أن الإجماع لم يقع على صحة الوضوء بالنبيذ. ¬
ثانيا: ألفاظ الإجماع المقيدة
وكلا الأمرين محتمل، ولا ينزل المعنى على أحدهما إلا بوجود قرينة تدل على ذلك (¬1). وقد يكون المقصود بالإجماع إجماع الأئمة الأربعة فقط، دون النظر إلى مذهب الظاهرية أو العلماء الآخرين. وهذا منهج عددٍ من العلماء، منهم على سبيل المثال: الوزير ابن هبيرة، وابن رشد في "البداية"، وغيرهما. • ثانيًا: ألفاظ الإجماع المقيَّدة: وهذا إذا كان الإجماع منسوبًا إلى عصر من العصور، كأن يقال: (أجمع الصحابة)؛ أو (أجمع التابعون)؛ أو (بإجماع أهل القرون المفضلة)، فإن هذا الإجماع صحيح، من حيث إن الإجماع معتبر، سواء كان في زمن الصحابة؛ أو من بعدهم أو في العصور المتأخرة، على التفصيل في ذلك؛ كما بيناه فيما سبق (¬2). ولكن إن قيد الإجماع بالعصر الذي يعيش فيه ذلك العالم، كأن يقول: (بإجماع العلماء في عصرنا) فإن هذا قد يفيد بوجود الخلاف في السابق، مما يفقده صحة الإجماع عند من يشترط انقراض العصر لصحة الإجماع (¬3). • ثالثًا: الألفاظ المفيدة للإجماع: كثيرًا ما يعبر العلماء عن الإجماع بلفظ الاتفاق أو نفي الخلاف بين العلماء في المسألة. ولكن يعتبر هذان اللفظان أقل درجة من الألفاظ التي تنص على الإجماع صراحة، حيث قد يكون المراد منها معاني أخرى غير إجماع العلماء الاصطلاحي، كما سنبين ذلك -بإذن اللَّه تعالى. ¬
1 - الاتفاق
1 - الاتفاق: الاتفاق مرادف للإجماع، ولذا يعرّف الإجماع بالاتفاق (¬1)، وهو من معانيه في اللغة أيضًا، يقال: أجمعوا على الأمر اتفقوا عليه (¬2). • وقد يطلق هذا اللفظ بعدة إطلاقات، منها: (اتفق العلماء؛ اتفقت الأمة؛ اتفق المسلمون؛ اتفق أهل الملة؛ باتفاق العلماء؛ بالاتفاق؛ باتفاقهم؛ متفق عليه؛ . .). وهذه العبارات تتفاوت فيما بينها، فعبارة (اتفق العلماء)، أو (اتفق المسلمون) أو نحوها؛ أقوى مما لو كانت مطلقة، مثل: (متفق عليه)؛ أو (بالاتفاق)؛ أو (باتفاقهم). فالعبارات الأولى أكثر صراحة في الدلالة على الإجماع من الأخيرة، حيث قد تكون (الأخيرة) يقصد بها الاتفاق المذهبي أو قول الجمهور من العلماء. وإن كان التعبير بالاتفاق عمومًا أقل درجة من التعبير بلفظ الإجماع. ولذلك يقول الإمام ابن حزم رحمه اللَّه: "وليعلم القارئ لكلامنا أن بين قولنا: لم يجمعوا، وبين قولنا: لم يتفقوا فرقًا عظيمًا" (¬3)، عبر بهذا في آخر كلامه في كتابه "مراتب الإجماع". فقد يختار بعض العلماء لفظ الاتفاق دون الإجماع؛ وذلك لأنه لم يطمئن كثيرًا على عدم وجود مخالف. 2 - نفي الخلاف في المسألة: تستخدم عبارة نفي الخلاف عند الإطلاق للدلالة على الإجماع. وقد يحصل هذا بعدة عبارات منها: (لا خلاف في هذا بين المسلمين)؛ (بلا خلاف بين الأمة)؛ (بلا خلاف بين السلف)؛ (بلا خلاف بين الصحابة)؛ (بلا خلاف بين العلماء)؛ (بلا نزاع بين العلماء)؛ (بلا نزاع بين الفقهاء)؛ (بلا خلاف)؛ أو مثل ¬
العبارات السابقة، ولكن النفي يكون مقيدًا بنفي العلم بالخلاف فقط، مثل: (بلا خلاف نعلمه)؛ (لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء)، وهكذا. وهذه أضعف من النوعين السابقين من عبارات نقل الإجماع، وهي أيضًا متفاوتة في القوة، فالجزم بنفي الخلاف أقوى بلا شك في نفي العلم بالخلاف؛ إذ إن نفي العلم قد يعني أنه غير متأكد من عدم وجود المخالف، وقد يكون متشككًا من ذلك. ثم إن تقييد نفي الخلاف بأنه بين العلماء أو الفقهاء أو الصحابة أو نحو ذلك أقوى وأصرح مما لو لم يقيده؛ إذ قد يفهم منه نفي الخلاف بين علماء مذهبه الفقهي الخاص. هذا وقد حصل خلاف بين أهل العلم في عبارة نفي الخلاف؛ هل تعتبر إجماعًا أو لا؟ فقيل: إن نفي الخلاف يعد إجماعًا. وهو ما يظهر من كلام ابن عبد البر، حيث استخدم عبارة نفي الخلاف، ثم استخدم لفظ الإجماع في نفس المسألة وفي نفس السياق، حيث قال: "ولم يختلف العلماء فيما عدا المني من كل ما يخرج من الذكر؛ أنه نجس، وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المني المختلف فيه" (¬1). • وقيل: إن نفي الخلاف لا يعد إجماعًا. • وقيل بالتفصيل في ذلك؛ فإن كان العالم ممن يعرف الخلاف والإجماع ويحفظه؛ فإنه يُقبل منه، وإن لم يكن هذا العالم كذلك؛ فلا يقبل منه (¬2). يقول الإمام أحمد رادًّا على مدعٍ للإجماع في إحدى المسائل: "هذا كذب، ما عِلْمه أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس" (¬3). وعلّق عليه القاضي بقوله: "قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف" (¬4). وقد التزم بهذا الورع عدد من العلماء، منهم ابن قدامة رحمه اللَّه، فهو قليلًا ما يعبر ¬
بالإجماع، بل يعبر بعدم علمه بالخلاف. ويقول الإمام ابن القيم عن أصول فتوى الإمام أحمد، معلقًا على مسألتنا: "ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا، ولا قياسًا، ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضًا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظه: "ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعًا" (¬1). وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟ فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، . .، ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك (¬2)، هذا لفظه، ونصوص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده" (¬3). وقد عبّر النووي بعدم الاعتداد بنفي العلم بالخلاف، فقال: "لا أعرف فيه خلافًا ولا يلزم من عدم معرفته عدم الخلاف" (¬4)، قال هذا رادًّا على قول الشيرازي بنفي العلم بالخلاف في مسألة أقل الطهر في الحيض (¬5). ولكن جرت عادة العلماء على الاعتداد بمثل هذه العبارة ونقلها، وإن لم تكن في قوة العبارة الصريحة بالإجماع (¬6). خاصة إذا تحققنا من عدم نقل الخلاف عن أحد من العلماء في المسألة، كما هو العمل في هذه الرسالة. ¬
المبحث الخامس: الألفاظ ذات الصلة
المبحث الخامس: الألفاظ ذات الصلة كثيرًا ما تستخدم ألفاظ الإجماع لأغراض أخرى، ليس المقصود منها حكاية الإجماع، وهي تأتي بصيغ متعددة. من هذه الصيغ: 1 - قد يُستخدم لفظ الإجماع منسوبًا ومقيدًا بأهل بلد ما، كأن يقال: (أجمع أهل المدينة)؛ أو (أهل الحجاز)؛ أو (علماء نيسابور)؛ أو غير ذلك من البلدان؛ فإن ذلك لا يكون معتبرًا، باستثناء الخلاف في إجماع أهل المدينة، وقد سبق تفصيل في ذلك (¬1)؛ إذ أن أهل بلدٍ ما ليسوا بحجة على أهل بلد آخرين، وليس هذا من الإجماع في شيء. وقد يستخدم مقيدًا بالجمهور أو الأكثر، فيقال: (أجمع الجمهور)؛ أو (اتفق الجمهور)؛ أو (لا خلاف بين جمهور العلماء)؛ أو (أجمعوا إلا أبا حنيفة أو أحمد)، كل هذه العبارات وإن كانت تستخدم ألفاظًا للإجماع أحيانًا؛ إلا أنها لا تدل عليه، بل إلى قول الأكثر والأغلب، وهو قول الجمهور، وليس إجماعًا؛ لأنه يفهم من هذه العبارات أن هناك من العلماء من خالف الجمهور في هذه المسألة. 2 - هناك الكثير من العلماء من يعبر بلفظ الاتفاق، ويقصد به الاتفاق داخل المذهب الفقهي، الذي ينتسب إليه ذلك العالم. يقول العيني: "الماء المستعمل ثلاثة أنواع: نوع طاهر بالإجماع، . .، ونوع نجس بالاتفاق" (¬2)، فوصف الأول بأنه مجمع عليه، والثاني بأنه متفق عليه، فدل على تمييزه بينهما، والذي يظهر من خلال كتابه أنه يريد بالأول الإجماع الاصطلاحي، والثاني الاتفاق المذهبي. ويقول الحطّاب المالكي: "والمراد بالاتفاق اتفاق أهل المذهب، وبالإجماع إجماع العلماء" (¬3). ¬
وكذلك مصطلح نفي الخلاف من باب أولى، فقد جرت عادة بعض العلماء على استخدامه على نفي الخلاف داخل المذهب، الذي ينتمي إليه ذلك العالم (¬1). 3 - هناك عبارة (وفاقًا)، وهي في الغالب تدل على الوفاق داخل المذهب، بل لم أجد من صرح بها وهو يريد الاتفاق بمعنى الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. وأحيانًا تدل على وفاق بقية المذاهب الفقهية الأربعة غير مذهب المؤلف؛ غير أنها لا تدل على الإجماع، كما هو منهج عدد من الكتب المذهبية (¬2). 4 - هناك عبارات تدل أحيانًا على الإجماع، إلا أنها ضعيفة فيه، وغالبًا ما يقصد بها مذهب الجماهير، ومنها: (عامة أهل العلم)؛ (أهل العلم كافة)؛ (سائر العلماء)؛ (الفقهاء على كذا)؛ (جماعة أهل العلم)؛ (جميع العلماء)؛ (جميعهم)؛ (اجتمع العلماء)؛ (مجتمع عليه)؛ (اجتمعوا) (¬3)، وسأذكرها في ثنايا هذا المشروع من باب الاعتضاد فقط، وليس من باب الاستقلال. 5 - الألفاظ التي تدل على تصريح بعض المجتهدين بالإجماع وسكوت الباقين، وهذا القسم هو ما يسمى بالإجماع السكوتي، أو ما يسمى بالرخصة عند بعض علماء الحنفية، وقد سبقت الإشارة إليه فيما مضى، وشروط اعتباره، والخلاف فيه (¬4). ولهذا القسم عبارات، منها: (وهذا قول فلان من العلماء أو الصحابة ولم يعرف له مخالف)؛ أو (وهذا قول فلان، وقد اشتهر عنه هذا القول ولم ينكره أحد)، ونحو هذه العبارات. وهذه الحكاية للإجماع تعتبر حجة شرعية على الأرجح -كما سبق بيانه- يجب الأخذ بها، خاصة إذا تحققنا من عدم وجود قول مخالف، بالبحث في كتب المذاهب الفقهية المختلفة. ¬
المبحث السادس: مستند الإجماع
المبحث السادس: مستند الإجماع • المستند: هو الدليل الذي ارتكز عليه المجتهدون، الذين أجمعوا على رأيٍ واحد، في مسألة من المسائل. • ومستند الإجماع إما أن يكون نصًّا شرعيًّا، وإما أن يكون غير ذلك. فإن كان نصًّا من الكتاب أو السنة، أكسبه الإجماع رفع كل الاحتمالات التي قد تضعف دلالة النص على المسألة؛ إذ أن الإجماع ينفي كل الاحتمالات الأخرى، فلا يحتمل النسخ ولا التأويل. وإن كان ليس نصًّا، وكان ذلك من القياس (¬1)، اكتسب من الإجماع عدم المنازعة في صحته وسلامته من القادح (¬2). هذا وقد اختلف الأصوليون في مستند الإجماع؛ هل هو شرط للإجماع أم لا؟ • القول الأول: أنه يشترط للإجماع أن يكون له مستند. وهذا قول جماهير العلماء، وهو الراجح. • القول الثاني: أنه لا يشترط للإجماع أن يكون له مستند، فيجوز انعقاد الإجماع من غير مستند، وذلك بأن يوفقهم اللَّه تعالى لاختيار الصواب، من غير أن يكون لهم مستند، أو دليل يستندون إليه. وهذا قول ضعيف، قال به بعض أهل العلم. • دليل القول الراجح: 1 - قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. • وجه الدلالة: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقول قولًا ولا يحكم حكمًا إلا بالوحي، فكذلك علماء الأمة يجب أن لا يجمعوا على حكم إلا من خلال دليل قد استندوا عليه (¬3). ¬
2 - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. • وجه الدلالة: أن الإجماع دون مستند شرعي قول على اللَّه تعالى بغير علم، وعلماء الأمة منزهون عن ذلك (¬1). • دليل القول الثاني: استدلوا بالوقوع، كإجماع العلماء على جواز أجرة الحجام، فقالوا: إن الواقع يثبت عددًا من الإجماعات التي لا يعرف لها دليل (¬2). • وجوابه: أن عدم معرفة الدليل لا يعني عدمه، وقد لا يعرفه عالم أتى بعد الإجماع، وقد يعرفه آخر. وهناك مسألة أخرى، وهي: هل يشترط أن يكون الإجماع مستندًا على دليل قطعي، أو أنه يجوز أن يكون ظنيًّا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة (¬3) على قولين: القول الأول: أن الدليل الظني يجوز أن يكون مستندًا للإجماع، وهو مذهب الجمهور، وهو الراجح. القول الثاني: أن الإجماع يجب أن يستند إلى دليل قطعي، ولا يجوز أن يستند إلى دليل ظني، وهو قول بعض أهل العلم. • دليل القول الراجح: 1 - أن الدليل الظني يوجب العمل، وإن كان لا يوجب القطع واليقين؛ إلا أن غلبة الظن توجب العمل (¬4). 2 - أن أدلة حجية الإجماع تدل على الاحتجاج بالإجماع عمومًا، ولم تفرق بين إجماع مستند لدليل قطعي وإجماع مستند لظني، فما دام وقع إجماع فإنه يكون حجة، ¬
المبحث السابع: مسائل في الإجماع
وإن كان عن دليل ظني (¬1). • دليل القول الثاني: أن الإجماع حجة شرعية توجب العلم القطعي، ولا يجوز أن يثبته إلا دليل قطعي (¬2). • وجوابه: أنا لا نسلم أن الإجماع يوجب العلم القطعي دائمًا (¬3)، بل هناك إجماعات ظنية (¬4). المبحث السابع: مسائل في الإجماع المطلب الأول: في حكم الإجماع بعد الخلاف إذا اختلف العلماء في عصر من العصور في مسألةٍ ما، ثم اتفقوا بعد ذلك على قولٍ واحد، فهل يكون اتفاقهم هذا إجماعًا يمنع الخلاف؛ أو لا؟ • اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين (¬5): القول الأول: أن اتفاقهم بعد الخلاف يكون إجماعًا يمنع الخلاف في المسألة، ولا تجوز مخالفته، وهو الراجح. القول الثاني: أن اتفاقهم بعد الخلاف لا يكون إجماعًا، وتجوز مخالفته. • دليل القول الراجح: أن الأدلة الموجبة لحجية الإجماع عامة في كل إجماع، سواء كان هذا الإجماع ابتداءً أو بعد الخلاف (¬6). • دليل القول الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ¬
المطلب الثاني: في الإجماع على أقل ما قيل في المسألة
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أوجب الرد إليه وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام عند التنازع، والنزاع قد حصل، فلم يجز الانتقال عن موجب أمر الآية (¬1). • جوابه: أن الآية في المسألة الخلافية، أما وقد وقع الإجماع؛ فإن الخلاف قد رفع (¬2). ولكن يبقى أن كل الإجماعات التي وقعت بعد اختلاف ليست قطعية، وليست حجة على من يرى عدم حجية هذا الإجماع، ويجب أن يتنبه لهذا الأمر عند مناقشة المسائل التي هي من هذا القبيل. المطلب الثاني: في الإجماع على أقل ما قيل في المسألة إذا اختلف العلماء في مسألةٍ ما على أقوال متفاوتة، فيها الأكثر والأقل، فإن القول المُثْبِت للأقل يعتبر مجمعًا عليه، من حيث ثبوت الأقل دون نفي الزيادة، والأصوليون يبحثون مسألة الأخذ بالإجماع في إثبات القول بأقل ما قيل في المسألة، وأنا هنا لا أريد بحث هذه المسألة، فهي مسألة أصولية خلافية مشهورة (¬3)، وإنما أريد الإشارة إلى أن العلماء لم يختلفوا في أن القول بأقل ما قيل في المسألة مجمع عليه من حيث ثبوت هذا الأقل، دون نفي الزيادة التي قالت بها الأقوال الأخرى. فالعلماء اختلفوا في دية اليهودي مثلًا على أقوال؛ فمنهم من قال: إنها مثل دية المسلم، وقيل: النصف، وقيل: الثلث. فالقول بلزوم الثلث مجمع عليه من حيث ثبوت هذا الثلث، لا من حيث نفي الزيادة. ولذلك يقول الإمام الغزالي معلقًا على هذه المسألة: "فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر، ولا مخالف فيه، وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة" (¬4). ويقول الآمدي: "فوجوب الثلث مجمع عليه، ولا خلاف فيه، وأما نفي الزيادة فغير مجمع عليه" (¬5). ¬
المطلب الثالث: في ححم مخالفة الواحد والاثنين من العلماء في المسألة
وقد يكون الإجماع على أكثر ما قيل في المسألة، بأن يُنظر في أقوال العلماء أيها أكثر أو أعلى، فيكون الإجماع على عدم الزيادة على ذلك. فالقول بأن دية اليهودي كدية المسلم، هذا أكثر ما قيل في المسألة، فلا يجوز بهذا أن يقال بأن ديته أكثر من دية المسلم بحال. يقول ابن رشد في أقل مدة الطهر: "وقيل: سبعة عشر يومًا، وهو أقصى ما انعقد عليه الإجماع فيما أحسب" (¬1)، فهذه الحكاية للإجماع مبنية على الإجماع على أكثر ما قيل. وقد أشرت إلى هذا المعنى؛ لأن كثيرًا من الإجماعات التي يحكيها العلماء هي من هذا القبيل، وأكثر من يتخذ هذا المنهج في حكاية الإجماع هو الإمام ابن حزم رحمه اللَّه في "مراتب الإجماع"، وستأتي مناقشة ذلك في الحديث عن منهجه إن شاء اللَّه تعالى (¬2). المطلب الثالث: في ححم مخالفة الواحد والاثنين من العلماء في المسألة إذا أجمع العلماء على رأي واحدٍ في مسألةٍ ما، مع مخالفة عالم أو اثنين من العلماء، فإن العلماء اختلفوا في هذه المسألة، هل تعتبر إجماعية؛ أو أن هذا الخلاف ينقض الإجماع؟ وقبل أن أذكر الخلاف، فأحب أن أشير إلى مسألة مهمة في هذا الباب، وهي ما لو خالف أحدٌ الأئمةَ الأربعةَ؛ أصحابَ المذاهب، فهل يعتبر خلافه هذا داخلًا في مسألتنا؛ أو لا؟ وأهم من ذلك إذا خالف أحدهم في قولٍ مرويٍ عنه، أو وجه من الأوجه عنه. في الحقيقة لم أجد من تحدث عن هذه المسألة بخصوصها، ولكن يبدو -واللَّه تعالى أعلم- أنها ليست من أمثلة مسألتنا؛ فالإمام المتبوع كأبي حنحفة أو الشافعي إذا خالف في مسألة ما، فإن خلافه هذا ليس محصورًا به فقط، بل تبعه عليه عدد من أهل العلم من أتباعه الحنفية أو الشافعية مثلًا، وهكذا لو كان ذلك برواية عنه فقط، ويلتحق بهم خلاف أبي يوسف ومحمد بن الحسن من أئمة الحنفية، كل ذلك لأن خلافهم ¬
يعني خلاف جمع من أهل العلم من أتباعهم. ويلتحق بهذا خلاف ابن حزم رحمه اللَّه؛ لما له من أتباع قد نعلمهم وقد لا نعلمهم. أما إذا خالف أحد العلماء المستقلين أو اثنان منهم إجماعَ البقية، فما حكم هذا الخلاف؟ • اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال (¬1): • القول الأول: أن خلاف الواحد والاثنين ينقض الإجماع، ويجعله غير حجة، وهو قول الجمهور. يقول الإمام النووي: "الإجماع لا ينعقد إذا خالف من أهل الحل والعقد واحد، وهذا هو الصحيح المشهور، وخالف فيه بعض أصحاب الأصول" (¬2). • القول الثاني: أن خلاف الواحد والاثنين لا ينقض الإجماع، وهو قول بعض العلماء. • القول الثالث: أن خلاف الواحد ينقض الإجماع إذا ساغ الاجتهاد فيما ذهب إليه، بأن كان له مستند من الدليل، وهو الراجح. وكلام الإمام الشاطبي كأنه يميل إلى هذا القول، حيث يقول: "وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا" (¬3). وذكر في موضع آخر أن من الخلاف ما لا يعتد به، وذكر منه ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة (¬4). وهو اختيار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه اللَّه فيما يظهر من كلامه (¬5). • دليل القول الراجح: 1 - قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ¬
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع، وهو موجود في هذه حالة مسألتنا، سواء كان بخلاف واحد أو أكثر، وما دام كذلك فلا إجماع (¬1). 2 - أن العقل يجوِّز الخطأ على هذه الأمة، وإنما نُفي عنها الخطأ بالشرع، والشرع نفاه عنها في حال الإجماع، وهو غير موجود هنا، فيبقى الخلاف مانعًا من حجية الإجماع (¬2). وهذا فيما إذا سوِّغ له الاجتهاد، فأما إذا لم يُسوَّغْ له الاجتهاد، بأن كان مصادمًا لنصٍّ أو لم يدل عليه دليل؛ فإنه لا ينقض الإجماع لشذوذه، بأن كان مصادمًا للنص (¬3). • دليل القول الأول: مثل ما استدل به أصحاب القول الراجح، ولكنهم لم يفصلوا فيما إذا كان الاجتهاد سائغًا أو لا. • وجوابه: أن مخالفة الواحد والاثنين فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد مثل مخالفة العامي أو أشد، فهو قد اجتهد فيما ليس له الاجتهاد فيه، فهو كالجاهل أو العامي، فلا ينبغي اعتماد اجتهاده. • دليل القول الثاني: أن الصحابة لما استخلفوا أبا بكر -رضي اللَّه عنه-؛ انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين، ومعلوم أن من الصحابة من كان غائبًا، وقد اعتبر ذلك إجماعًا (¬4). • وجوابه: أن الخلافة انعقدت بمن بايع من الصحابة، وليس من شرطها الإجماع، ثم إن إجماعهم لو كان شرطًا، فإنه يشترط له حضور البقية، وهم غير موجودين (¬5). * * * ¬
المطلب الرابع: في حكم مخالفة الظاهرية
المطلب الرابع: في حكم مخالفة الظاهرية اختلف العلماء في خلاف الظاهرية، هل يقدح في صحة الإجماع، وينفي حجيته؛ أو لا؟ • القول الأول: أن خلاف الظاهرية لا يعتد به، ولا ينقض الإجماع. يقول أبو بكر الرازي رحمه اللَّه عن الظاهرية: "وأمثال هؤلاء لا يعتد بخلافهم، ولا يؤنس بوفاقهم" (¬1). ويقول ابن عبد البر: "فما أرى هذا الظاهري إلا قد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء، وشذ عنهم، ولا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشاذ من العلم" (¬2). واختار هذا القول الإمام النووي رحمه اللَّه، وصرح به في عدة مواضع من كتبه، يقول في موضعٍ منها: "ومخالفة داود لا تقدح في الإجماع عند الجمهور، واللَّه أعلم" (¬3). وقد أنكر عليه الإمام الشوكاني رحمه اللَّه إنكارًا شديد اللهجة، لأجل هذا الأمر، فقال: "وعدم الاعتداد بخلاف داود؛ مع علمه وورعه، وأخذ جماعة من الأئمة الأكابر بمذهبه، من التعصبات التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب، وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة علماء المسلمين، فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة إلى مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة المتبالغة، فإن التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر، وأما داود؛ فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر وحملوه عليه هي في غاية الندرة" (¬4). وهو اختيار الحافظ العراقي أيضًا، يقول رحمه اللَّه: "إن أهل الظاهر ليسوا من العلماء، ¬
ولا من الفقهاء، فلا يعتد بخلافهم، بل هم من جملة العوام وعلى هذا جل الفقهاء، والأصوليين، ومن اعتد بخلافهم إنما ذلك؛ لأن من مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام، فلا ينعقد الإجماع مع وجود خلافهم، والحق أنه لا يعتبر إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد، على ما يذكر في الأصول" (¬1). وهو قول ابن العربي رحمه اللَّه، حيث يقول عن قول من قال بأن غسل الرأس لا يجزئ عن المسح: "وهذا تولُّج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر، المبطل للشريعة، الذي ذمه اللَّه تعالى في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]، وكما قال: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] " (¬2). ونقل القرطبي هذه العبارة عنه (¬3). وهو قول العيني، حيث يقول: "وداود لا يعتبر خلافه في الإجماع، ولا يصح ذلك شريعة" (¬4). وقد حرصت على نقل عبارات العلماء لإثراء البحث، ولأهمية المسألة، فهي تبين أن هؤلاء العلماء لا يعتبرون خلاف الظاهرية، وبالتالي يؤثر في إجماعاتهم التي يحكونها، أو ينقلونها ويقرونها. • القول الثاني: أن خلاف الظاهرية يعتد به، ولا يُحتج بإجماعٍ خالف فيه أهل الظاهر. • دليل القول الأول: أن الظاهرية لا يعملون بالقياس، ومن شروط المجتهد معرفة القياس، فهم كالعوام، والعوام لا يعتبر قولهم في الإجماع (¬5). • وجوابه: أنه يلزمهم بهذا عدم اعتبار قول منكر العموم وخبر الواحد، ولا قائل بهذا إلا من شذّ (¬6). • دليل القول الثاني: أن علماء الظاهرية جزء من علماء الأمة، وفيهم العلماء الكبار كداود وابن حزم رحمهم اللَّه تعالى، ولا يجوز استثناؤهم من الأمة إلا أن يقال بكفرهم، وهذا لا يقول به أحد، فيجب الأخذ بقولهم. ¬
المطلب الخامس: في حكم مخالفة أهل البدع
والراجح واللَّه تعالى أعلم أن خلافهم معتبر فيما إذا لم يصادم القياس الجلي، وما صادم القياس الجلي فلا عبرة به، نحو قولهم: أن البول في الماء القليل الراكد من غير المتوضئ لا يفسده، ويجوز الوضوء والشرب منه (¬1)، قالوا ذلك جمودًا على ظاهر النص، فما كان كذلك فلا يعتدّ به، وهذا جمع بين القولين، واللَّه تعالى أعلم. المطلب الخامس: في حكم مخالفة أهل البدع المقصود بالخلاف في قبول قول المجتهد المبتدع: هو من كانت بدعته غير مكفرة، أما المكفرة؛ فإنه لا عبرة به بلا خلاف (¬2). اختلف العلماء في انعقاد الإجماع مع مخالفة المجتهد المبتدع (¬3)، هل يعتبر قوله ناقضًا للإجماع؛ أو لا؟ • القول الأول: أن مخالفة المجتهد المبتدع معتبرة، ولا ينعقد الإجماع دونها. • القول الثاني: أن مخالفة المبتدع غير معتبرة، وينعقد الإجماع دونها. وقد اختار هذا القول أغلب الفقهاء في كتب الفروع، ولأهمية الموضوع فسأنقل عددًا من عباراتهم هنا؛ لأنني لم أجد من وثّق كلام الأصوليين بكلام الفقهاء في المسألة، فقد يتكلم الأصوليون في المسألة، ولا يعني ذلك التزام الفقهاء بكلامهم في الفروع، وهذا مبني على منهج المتكلمين في الأصول. يقول ابن حزم في مخالفة الأزارقة (¬4) من الخوارج: "أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج في حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به، لا خلاف بين ¬
أحد من أهل الإسلام فيه، وقد خالف في ذلك قوم من الأزارقة حقهم ألا يعدوا في أهل الإسلام" (¬1). وفي مخالفة المعتزلة للإجماع يقول الكاساني: "ومنها - أي من نواقض الوضوء - النوم مضطجعًا في الصلاة أو في غيرها بلا خلاف بين الفقهاء، وحكي عن النظّام أنه ليس بحدث، ولا عبرة بخلافه لمخالفته الإجماع، وخروجه عن أهل الاجتهاد" (¬2). ويقول النووي: "وحكى أصحابنا عن الشيعة أن تقديم اليمنى واجب، لكن الشيعة لا يعتد بهم في الإجماع" (¬3)، وقال في موضع آخر، في مسألة المسح على الخفين: "وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم" (¬4). وهو لا يعتد بالمتكلمين أيضًا، يقول: "ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف، على المذهب الصحيح، الذي عليه جمهور أهل الأصول، من أصحابنا وغيرهم، لا سيما في المسائل الفقهيات" (¬5). ويقول ابن عابدين عن الشيعة: "ولا عبرة بخلاف الرافضة" (¬6). • دليل القول الأول: 1 - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل هذه الأمة شهداء على الناس وحجة عليهم، لكونهم وسطًا، والوسط هو العدل، والفاسق ببدعة أو معصية ليس كذلك، فلا يعتد بهم في الإجماع (¬7). 2 - قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. • وجه الدلالة: أن سبيل أهل الضلال والبدعة ليس سبيل المؤمنين، فلم يجز أن يكون سبيلهم معتبرًا، وهو خارج عن سبيل المؤمنين (¬8). ¬
• دليل القول الثاني: 1 - قوله تعال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. • وجه الدلالة: أن المجتهد المبتدع داخل في قوله: {الْمُؤْمِنِينَ}؛ لكونه من المسلمين المؤمنين، ولو فسق ببدعته، فلم يجز انعقاد الإجماع دونه (¬1). 2 - قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (¬2). • وجه الدلالة: أن المجتهد المبتدع داخل في الأمة، ولا يجوز انعقاد الإجماع دونه ما دام مسلمًا (¬3). والأقرب -واللَّه تعالى أعلم- هو الجمع بين القولين، وهو أن قول المبتدعة فيما خالفوا فيه أهل السنة من أقوال في الأصول غير معتبر، وكذا الفروع المبنية على بدعتهم في الأصول، وإلا انهدم الإسلام كله بحجة اعتبار قولهم. أما أقوالهم التي هي غير مبنية على خلافهم العقائدي لأهل السنة والحق؛ فإنهم يعتبرون من جملة الأمة، ويعتبر قولهم في ذلك، واللَّه تعالى أعلم (¬4). وبهذا جمعنا بين أدلة الفريقين، فالأدلة الدالة على عدم اعتبار أقوالهم؛ لبدعتهم أو فسقهم بالبدعة، نخرج بها قولهم في بِدَعِهم، والأدلة الدالة على اعتبار قولهم؛ لكونهم من الأمة، ندخل بها قولهم في غير بِدَعِهم، واللَّه تعالى أعلم. أما الشيعة والخوارج الغلاة الذين يكفرون الصحابة، فإنه لا عبرة بأقوالهم مطلقًا، وذلك لمخالفتهم لأصل الإسلام، وذلك أنهم لا يؤمنون بما نقل من السنة النبوية عن طريق الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فالمخالفة هنا هي في أصل الإسلام، ومنهجهم في الفقه مختلف تمامًا عن أهل السنة، فهو يختلف في الأصول والفروع، وفي منهج التلقي والاتباع، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
المبحث الثامن: مناهج العلماء في حكاية الإجماع
المبحث الثامن: مناهج العلماء في حكاية الإجماع سأتحدث في هذا المبحث عن مناهج العلماء الذين التزمت بكتبهم في بحث مسائل الإجماع في باب الطهارة، وهم من أهم العلماء الذين يعتنون بحكاية الإجماع والاهتمام به. وقبل البدء بالمناهج الخاصة بكل عالم، هناك ملاحظات عامة، تنبهت لها أثناء البحث، ومنها: 1 - أن الإجماعات التي تأتي في سياق الاستدلال والنقاش للخلاف الفقهي غالبًا ما تكون تعبيرًا عن قول الجمهور، ويظهر هذا جليًّا لدى ابن عبد البر (¬1)، والنووي (¬2)، وابن تيمية (¬3). 2 - أن الكتب المذهبية تستخدم عبارة الاتفاق ونفي الخلاف، وتقصد بذلك المذهب الفقهي الخاص، وسيأتي نقاش لهذا في ثنايا الحديث عن مناهج العلماء. 3 - أن كثيرًا من الإجماعات المبثوثة في الكتب إنما ترجع إلى عددٍ قليل من العلماء الكبار، الذين يعتنون بحكاية الإجماع، كالترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن هبيرة، وابن رشد، والنووي، وابن تيمية، وأغلب الحكايات للإجماع لا تخرج عن هؤلاء رحمهم اللَّه تعالى، وأحيانا يُذكر ذلك عند النقل، وقد لا يُذكر، وتوصّلت إلى هذا بالتتبع، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا في الحديث عن المناهج. أما مناهج العلماء في حكاية الإجماع؛ فسأتحدث عن كل عالم وحده، في الشيء الذي لاحظته من خلال كتابه الذي اعتمدته، ولا أذكر إلا ما تميز به، وسأتحدث عنهم بالترتيب حسب الوفاة: ¬
1 - الإمام الشافعي (204 هـ) من خلال كتابه "الأم"
1 - الإمام الشافعي (204 هـ) من خلال كتابه "الأم": لم أجد له إلا القليل من العبارات، وقد ورد عنه عدم اعتماده لعبارة نفي العلم بالخلاف، مع أنه استخدمها في كل عباراته التي وجدتها إلا واحدة (¬1)، وهذا لا يعني أنه يعتبرها إجماعًا، وسبق نقاش ذلك (¬2)، ولم أجده حكى إجماعًا واحدًا بلفظ الإجماع أو الاتفاق. 2 - الإمام الترمذي (279 هـ) من خلال كتابه "السنن": الترمذي كثيرًا ما يستخدم عبارة: (والعمل على هذا عند أهل العلم)، وهي من عبارات الإجماع الضعيفة، إلا أنني وجدته استخدم عبارة الإجماع في موضع (¬3)، وعبارة (عامة) أحيانًا. وأقوى عباراته: الإجماع، ثم لفظ (عامة) حيث أكده بنفي الخلاف بعده، فقال في موضع: "وقد روي عن عائشة من غير وجه، أن الحائض لا تقضي الصلاة، وهو قول عامة الفقهاء؛ لا اختلاف بينهم في أن الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة" (¬4). وقال أيضًا: "وهو قول عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك، بأن لا بأس أن تتناول الحائض شيئًا من المسجد" (¬5). 3 - الإمام ابن جرير الطبري (310 هـ) من خلال كتابه "جامع البيان": غالبًا ما يستخدم عبارة الإجماع، بل لم أجده استخدم غيرها، وهو من العلماء المتقدمين الذين يعتنون بنقل الإجماع، وكثيرًا ما ينقل عنه المتأخرون حكاياته للإجماع كما سيأتي. 4 - الإمام ابن المنذر (318 هـ) من خلال كتابه "الإجماع": الإمام ابن المنذر رحمه اللَّه من أشهر العلماء الذين يحكون الإجماع، وهو أول من صنف فيه كتابًا في الفروع الفقهية، وهو لا يستخدم فيه غالبًا إلا عبارة الإجماع، ¬
5 - الإمام ابن حزم (456 هـ) من خلال كتابيه "مراتب الإجماع"، و"المحلى"
واستخدم في موضعٍ من كتابه "الأوسط" عبارة (كالإجماع) (¬1)، إلا أنها لا تعني الإجماع؛ لأن الإجماع يفتقر إلى الجزم (¬2). وابن المنذر يعتبر من المتساهلين في حكاية الإجماع، ولذا يقول الإمام ابن القيم: "وهذه عادة ابن المنذر؛ أنه إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعًا" (¬3). 5 - الإمام ابن حزم (456 هـ) من خلال كتابيه "مراتب الإجماع"، و"المحلى": ابن حزم أحد أكثر العلماء شهرة في هذا المجال، حيث إنه قد صنف كتابًا في الإجماعات الفقهية، وهو مراتب الإجماع، سار فيه على أبواب الفقه كلها، يذكر ما وجده من اتفاقات فقهية فرعية. وقد بيّن كثيرًا من منهجه في مقدمة كتابه الآنف الذكر. وقد وجدت أنه في مسألةٍ حكى فيها الاتفاق في المراتب، ثم خالف هو هذا الاتفاق في "المحلى" (¬4)، وهذا لا شك أنه وهم منه رحمه اللَّه أو نسيان، وهو مما يتعرض له البشر بطبيعتهم. ثم إن ابن حزم له منهج غريب في حكاية الاتفاق في كتابه "المراتب"، وقد قسم الإجماع إلى طرفين: الأول: وهو الإجماع المعروف. الثاني: "هو ما اتفق جميع العلماء على أن من فعله أو اجتنبه؛ فقد أدى ما عليه من فعل أو اجتناب؛ أو لم يأثم، فسمى هذا القسم الإجماع الجازي" (¬5). وفي هذا القسم الثاني إشكال، فهو يحكي الاتفاق على مسألة، بقيود أكثر من المسألة الأصلية، ثم يقول: إن من فعل هذا فقد أدى ما عليه، ومنهجه في هذه القيود أنه يستثني بكل قيدٍ قولًا في المسألة؛ حتى يخرج خلافه منها، فهي أشبه بحكاية الخلاف في المسائل المستثناة أكثر منه حكايةً للإجماع. ¬
6 - الإمام ابن عبد البر (463 هـ) من خلال كتابه "الاستذكار"
وقد أحصيت مسألة ذكر فيها ستة وأربعين قيدًا (¬1)، كل قيد منها يشكّل مسألة مستقلة، وأكثر ما يقال عن هذه الاتفاقات التي يحكيها رحمه اللَّه أنها نوع من الإجماع على أقل ما قيل في المسألة، ولكن دون الوصف الثاني لهذا النوع من الإجماع، وهو نفي الزيادة، ومن هذا الوجه تختلف عن الإجماع على أقل ما قيل، الذي يبحثه الأصوليون. وفي رسالتي هذه لم أعتمد هذه الاتفاقات، حيث إنها في الحقيقة حكاية للخلاف في الاستثناءات لا للإجماع. والإمام ابن حزم رحمه اللَّه من أكثر العلماء اطلاعًا على الخلاف، ولذا فإن إجماعاته التي بلفظ الإجماع قليلًا ما تخطئ، وهذا يدل على تفريقه بين اللفظين، ولذلك يقول: "وليعلم القارئ لكلامنا أن بين قولنا: لم يجمعوا، وبين قولنا: لم يتفقوا فرقًا عظيمًا" (¬2)، إلا أنني وجدته في مسألة استخدم العبارتين فيها (¬3). ومما يُذكر هنا أنه سبقت الإشارة إلى أن ابن حزم لا يعتبر قول المبتدعة ناقضًا للإجماع في حال مخالفتهم (¬4). 6 - الإمام ابن عبد البر (463 هـ) من خلال كتابه "الاستذكار": الإمام ابن عبد البر من العلماء الكبار، العارفين بالخلاف والاجماع، وهو ممن اشتهر عنه حكاية الإجماع، وكثيرًا ما ينقل العلماء عنه حكاياته للإجماع. ومما تميز به ابن عبد البر أن له عبارات خاصة به، واختيارات أصولية بنى عليها منهجه في ألفاظه وحكاياته للإجماع، فهو كثيرًا ما يستخدم لفظ (اجتمع العلماء) أو (مجتمع عليه)، وهي لفظة لا تدل على الإجماع الأصولي على الأظهر، فهي تدل على قول الجمهور. فقد عبر بعدها في موضعٍ بلفظ الإجماع في نفس المسألة، مما يدل على أنهما ¬
7 - الإمام البغوي (516 هـ) من خلال كتابه "شرح السنة"
مختلفتان عنده، حيث يقول: "واجتمعوا على أن الجشاء ليس فيه وضوء بإجماع" (¬1). وكثيرًا ما يصف قول الجمهور بالإجماع، أو يقول (أجمع الجمهور)، وهذا مبني على اختياره أن قول الجمهور نوع من الإجماع. ففي مسألة الغسل من التقاء الختانين، والخلاف فيها بين الصحابة معروف، يقول: "ولكنا نقول: إن الاختلاف في هذا ضعيف، وأن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين" (¬2). وسبق الإشارة إلى أن ابن عبد البر إذا حكى الإجماع في سياق الاستعراض للأقوال، والاستدلال للمسائل والنقاش لها؛ فغالبًا ما يكون إجماعه في السياق حكاية عن قول الجمهور (¬3). وقد يحكي الإجماع في المسألة، ونجد خلافًا داخل مذهبه المالكي (¬4). وسبق ذكر كونه يستخدم عبارة نفي الخلاف والإجماع في نفس المسألة، مما يدل على اعتداده بعبارة نفي الخلاف للإجماع. 7 - الإمام البغوي (516 هـ) من خلال كتابه "شرح السنة": وجدت للإمام البغوي أربع عشرة عبارة في مجال رسالتي، عشرٌ منها بلفظ الاتفاق، وأربع بلفظ (عامة) وهي من عبارات الإجماع الضعيفة، وقد بحثتها اعتضادًا لا استقلالًا. وأغلبها كانت في المسائل المشهورة، التي اشتهر فيها الاتفاق، واللَّه تعالى أعلم. 8 - الإمام ابن العربي (543 هـ) من خلال كتابه "عارضة الأحوذي": العلامة ابن العربي من العلماء المتفننين في علوم شتى، وهو ممن يحفظ الخلاف ¬
9 - الإمام ابن هبيرة (560 هـ) من خلال كتابه "الإفصاح"
والإجماع، غير أنني لم أجد له سوى تسعة عشر إجماعًا في باب الطهارة، منها أحد عشر لم أجد فيها مخالفًا، وكانت حكايته متحققة، وثمانية حكاياتٍ لم يتحقق فيها ما ادعاه. وقد سبق رأيه في خلاف الظاهرية. 9 - الإمام ابن هبيرة (560 هـ) من خلال كتابه "الإفصاح": ابن هبيرة رحمه اللَّه من المشهورين بحكاية الإجماع لدى الفقهاء، ولكن الصحيح أنه لا يحكي الإجماع الاصطلاحي، الذي هو حجة لا تجوز مخالفته، وذلك لأنه ينقل إجماع الأئمة الأربعة فقط، وإذا حكى الخلاف فإنه يقتصر على خلافهم فقط. ويدل لذلك منهجه في حكاية الإجماعات، فهو لا يذكر غيرهم، ثم إنه صرح بذلك في مقدمة كتابه فقال: "رأيت أن أجعل ما أذكره من إجماع مشيرًا به إلى إجماع هؤلاء الأربعة، وما أذكره من خلاف مشيرًا إلى الخلاف بينهم" (¬1). وقد يطلق الإجماع، ويكون في مذهبه هو خلاف (¬2). ويبدو أنه لا يفرق بين الإجماع والاتفاق، ولذا نجده يذكر الإجماع ثم يستثنيه، فيقول: أجمعوا على كذا إلا أبا حنيفة، أو اتفقوا على كذا إلا مالكًا، مما يدل على عدم تفريقه بينهما (¬3). وقد بحثت له ستًّا وستين مسألة -مشتركًا مع غيره ومنفردًا- ذكرها في باب الطهارة، خمسون مسألة كانت نتيجتها تحقق الإجماع، والبقية كانت غير متحققٍ فيها الإجماع. 10 - الإمام الكاساني (587 هـ) من خلال كتابه "بدائع الصنائع": يلاحظ على الكاساني رحمه اللَّه أنه كثيرًا ما يعبر بالإجماع وهو يريد الإجماع المذهبي فيما يظهر، حيث إنه أحيانًا يتحدث عن الخلاف داخل المذهب، دون أي ذكر لغيره، في سياق حكاية الإجماع، وأحيانًا يكون يتحدث عن مسائل دقيقة، يستحيل معرفة الإجماع الصريح فيها، ثم يحكي فيها الإجماع؛ مما يدل على أنه يريد المذهب (¬4)، واللَّه تعالى أعلم. ¬
11 - الإمام ابن قدامة (620 هـ) من خلال كتابه "المغني"
وهذا الأمر يتكرر في بعض كتب الحنفية، واللَّه تعالى أعلم. وقد بحثت له إحدى وعشرين مسألة، ثمان مسائل كانت نتيجتها تحقق الإجماع، والبقية لم يتحقق؛ مما يؤكد ما سبق ذكره؛ من أنه يريد بالإجماع المذهبَ، واللَّه تعالى أعلم. وتعبيره رحمه اللَّه بنفي الخلاف يقصد به المذهب بلا إشكالٍ عندي، واللَّه تعالى أعلم (¬1). ومن الملاحظ على الإمام الكاساني رحمه اللَّه؛ أنه لا يذكر خلاف الإمام أحمد إلا نادرًا، ففي كتاب الطهارة كاملًا لم يذكره إلا مرة واحدة، وعدَّه من أصحاب الحديث لا من الفقهاء (¬2)، مما يدل على أنه لا يهتم بمعرفة رأيه في المسائل، وأن إجماعاته مذهبية. وسبق ذكر رأي الكاساني في خلاف المبتدعة (¬3). 11 - الإمام ابن قدامة (620 هـ) من خلال كتابه "المغني": اشتهر ابن قدامة رحمه اللَّه بورعه في ذكر الإجماع، فهو غالبًا لا يعبر بلفظ الإجماع، بل يعبر بعبارة: (لا أعلم فيه خلافًا)، وكثيرًا ما ينقلها عنه علماء المذهب الحنبلي. وفي باب الطهارة، وجدت أنه استخدم لفظ الإجماع قليلًا (¬4). وأحيانًا ينفي الخلاف في المسألة، ونجد خلافًا داخل مذهبه (¬5). وعندما يستخدم عبارة (بلا خلاف)، غير المقيدة بما يدل على أنها تريد العموم لا المذهب، فيظهر أنها في المذهب، ولا يريد بها النفي العام (¬6)، واللَّه تعالى أعلم. ¬
12 - الإمام القرطبي (671 هـ) من خلال كتابه "التفسير"
وقد استقصيت نصف مسائل الرسالة، فوجدت أنني بحثت له ثمانٍ وخمسين مسألة، ستٌّ وثلاثون منها كانت النتيجة تحقق الإجماع فيها، والبقية فيها خلاف، والسبب في كثرة المسائل التي وُجد فيها الخلاف؛ هو أنني أوردت كل ألفاظه في البحث، بما فيها عبارة (لا خلاف) غير المقيدة بما يدل على أنها تريد العموم لا المذهب، مما جعل المسائل الخلافية كثيرة، واللَّه تعالى أعلم. 12 - الإمام القرطبي (671 هـ) من خلال كتابه "التفسير": القرطبي رحمه اللَّه كثيرًا ما ينقل إجماعات غيره، بإشارة أحيانًا، ودونها أخرى، فينقل عن ابن عبد البر كثيرًا، ودون إشارة غالبًا (¬1)، وينقل عن ابن المنذر (¬2)، وعن ابن جرير (¬3)، ودون إشارة أيضًا. 13 - الإمام النووي (676 هـ) من خلال كتابه "المجموع": تكاد تكون رسالتي هذه في النووي رحمه اللَّه، فهو يعتني بالإجماع كثيرًا في كتابه "المجموع"، وإن لم يحكِ أو ينقل إجماعًا في المسألة، فلا يخلو الأمر غالبًا من أن يفيد في المسألة بخلاف أو عدمه. وهو عالم متبحر في الخلاف والاستدلال له، استفدت منه كثيرًا رحمه اللَّه. وقد سبق إشارة إلى منهجه في بعض المسائل، كخلاف المبتدعة، والظاهرية، وعدم جعْله نفي العلم بالخلاف إجماعًا، واعتداده بخلاف الواحد ناقضًا للإجماع، وأن إجماعاته إذا كانت في سياق الاستدلال للخلاف غالبًا ما تكون قول الجمهور. أما عبارات النووي بنفي الخلاف؛ أو الاتفاق المجرد من قرينة العموم، فإنها مذهبية (¬4)، أما إذا قيد عبارته بأنه لا خلاف بين العلماء أو الفقهاء؛ أو باتفاق العلماء، فهو يعني الإجماع (¬5). وللتدليل على الكلام السابق، فقد قال النووي: "ولو وهب له ثمن الماء لم يلزمه ¬
قبوله -أي للتيمم- بالاتفاق، ونقل إمام الحرمين الإجماع فيه" (¬1)، قالها بعد أن تحدث عن المذهب. وقال أيضًا: "قال أصحابنا: إذا غلط في نية الوضوء، فنوى رفع حدث النوم، وكان حدثه غيره؛ صح بالاتفاق" (¬2)، فيدل السياق أنه يريد المذهب. وانظر مسألة: (الماء الذي دون القلتين لا يطهر بأخذ بعضه) (¬3)، حيث حكى الاتفاق في المسألة، وخالفه الجمهور. ونفى الخلاف في المسألة في "شرح مسلم"، ثم وجدت أنه في "المجموع" ينقل الخلاف فيها، مما يؤكد أنه يقصد المذهب فقط. فقد قال عن التثليث في غسل البدن: "فإذا استحب فيه -الوضوء- الثلاث؛ ففي الغسل أولى، ولا نعلم في هذا خلافًا؛ إلا ما انفرد به الإمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي، صاحب "الحاوي" من أصحابنا، فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل، وهذا شاذ متروك" (¬4). وظاهر من كلام النووي أنه يريد بعدم الخلاف أي في المذهب الشافعي، ويؤكد ذلك أنه لم يذكر شيئًا من ذلك عند بحثه للمسألة في "المجموع"، بل قال: "المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، . . " (¬5)، ثم ذكر مسألتنا، وهذا لفظ صريح بوجود الخلاف، ثم أخذ ينقل عن فقهاء المذهب الشافعي، ولم يتطرق لغيرهم، إلا أن ابن حجر (¬6)، والشوكاني (¬7) لم يتنبَّها لهذا المعنى، ولم يريَا كلامه هذا، ونقلا نفي الخلاف في المسألة، واللَّه أعلم. كما إنه نقل الإجماع في موضع، ثم حكى الخلاف في موضع آخر (¬8). ¬
14 - الإمام القرافي (684 هـ) من خلال كتابه "الذخيرة"
وقد بحثت عددًا من المسائل التي حكى فيها النووي الاتفاق، وتركتها إثراء للبحث، ولأنني بحثتها قبل أن أتوصل إلى هذه النتيجة، وبعض هذه الاتفاقات كانت في الآداب، ولم أجد فيها مخالفًا، كما في باب الاستنجاء مثلًا. وكذا بعض عبارات نفي الخلاف، مثل مسألة: (طهارة الماء المتغير بمجاورة دون مماسة). 14 - الإمام القرافي (684 هـ) من خلال كتابه "الذخيرة": القرافي رحمه اللَّه من أئمة الفقه المالكي، ولم يعتنِ في كتابه المذكور بالخلاف المقارن، إلا أنه يشير إليه أحيانًا. وقد بحثت له ثمانِ عشرة مسألة، منها خمس لم يتحقق فيها الإجماع. 15 - الإمام ابن تيمية (728 هـ) من خلال كتبه التالية: " نقد مراتب الإجماع" لابن حزم؛ "مجموع الفتاوى"؛ "جامع الرسائل"؛ "مجموعة الرسائل والمسائل"؛ "مختصر الفتاوى المصرية" (¬1). شيخ الإسلام ابن تيمية هو من أفراد زمانه في العلم ومعرفة الخلاف والوفاق، وأهم كتاب له في هذا الباب هو "نقد مراتب الإجماع لابن حزم"، فقد نقد على ابن حزم المسائل التي رأى أن حكايته للاتفاق أو الإجماع فيها غير صحيحة. وابن تيمية يستخدم عبارة (بلا نزاع) أحيانًا، والذي يظهر أنه يريد بها المذهب الحنبلي (¬2). وقد سبق ذكر منهجه في إجماعاته التي تكون في سياق الخلاف والاستدلال له، حيث غالبًا ما تكون قول الجمهور. ولذا؛ فقد وجدته حكى إجماعًا في مسألة أثناء مناقشة الخلاف، ثم خالف فيه هو رحمه اللَّه (¬3) ¬
16 - الإمام ابن القيم (751 هـ) من خلال كتابيه "زاد المعاد"، و"إعلام الموقعين"
وقد بحثت له اثنتين وسبعين مسألة، منها عشرون لم يثبت فيها الإجماع، واللَّه تعالى أعلم (¬1). 16 - الإمام ابن القيم (751 هـ) من خلال كتابيه "زاد المعاد"، و"إعلام الموقعين": ابن القيم رحمه اللَّه من بحور العلم الزاخرة، وكنت آمل أن أجد له حكايات كثيرة؛ إلا أنني لم أجد له سوى ثنتين في "إعلام الموقعين"، كانت نتيجتهما تحقق الإجماع. 17 - الإمام ابن حجر (852 هـ) من خلال كتابه "فتح الباري": ابن حجر من العلماء الكبار، والحفاظ المتقنين، وهو من المطلعين على الخلاف والوفاق أيضًا، وكثيرًا ما ينقل الإجماع عن غيره، فنقل عن غيره ستًّا وثلاثين إجماعًا، بينما لم يحكِ سوى أربعة عشر إجماعًا كانت نتيجتها تحقق الإجماع، وثمانِ إجماعات لم يتحقق الإجماع فيها، فالمجموع هو اثنان وعشرون. ثم هو ينقل أحيانًا إجماعات النووي دون أن يشير لذلك (¬2). 18 - الإمام العيني (855 هـ) من خلال كتابه "البناية": العيني من علماء الحنفية الكبار، وهو من حفاظ الحديث أيضًا، ولكن كتابه "البناية" في الفقه الحنفي المذهبي، ويذكر الخلاف غالبًا، ويستدل له وينقاش. ومن منهجه أنه يفرق بين الإجماع والاتفاق في الاستعمال، فمثلًا؛ يقول: "الماء المستعمل ثلاثة أنواع؛ نوع طاهر بالإجماع، . .، ونوع نجس بالاتفاق" (¬3)، فوصف الأول بأنه مجمع عليه، والثاني بأنه متفق عليه، فدل على تمييزه بينهما، والذي يظهر من خلال كتابه؛ أنه يريد بالأول الإجماع الاصطلاحي، والثاني الاتفاق المذهبي. ويؤكد ذلك عبارته الآتية: "لو أمنى بعد البول أو النوم لا غسل عليه بالاتفاق، وعند الشافعي يجب في الحال. . " (¬4)، فقد حكى الخلاف بعد ذكر الاتفاق في نفس السياق، ذكر ذلك بعد نقله خلافًا بين أبي حنيفة ومحمد، وبين أبي يوسف. ¬
19 - الإمام ابن الهمام (861 هـ) من خلال كتابه "فتح القدير"
وهو يستفيد من النووي في كتابه هذا، وينقل عنه كثيرًا، دون أن يصرح (¬1). وقد سبق ذكر رأيه في خلاف الظاهرية. بحثت له في رسالتي سبعًا وثلاثين مسألة، منها إحدى عشرة مسألة لم يثبت فيها الإجماع. 19 - الإمام ابن الهمام (861 هـ) من خلال كتابه "فتح القدير": وجدت أن ابن الهمام يعبر بالإجماع أحيانًا، ويظهر أنه يريد به المذهب بدليل السياق، فهو يناقش الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في المسألة، ثم ينقل صورة أخرى قريبة ويحكي فيها الإجماع، ويبدو أنه يريد الإجماع منهم (¬2). ووجدته ينقل حكاية الإجماع عن غيره أحيانًا دون إشارة (¬3). بحثت له ثمان مسائل، منها ثلاث مسائل لم يتحقق فيها الإجماع. 20 - الإمام ابن نجيم (970 هـ) من خلال كتابه "البحر الرائق": قد يستخدم ابن نجيم مصطلح الإجماع ويريد به المذهب، ولذلك وجدته عبر به في مسألة خلافية مشهورة، حكى الإجماع فيها وحده، بينما عبر عدد من علماء الحنفية بالاتفاق، ويريدون به المذهب مما يقوّي كونه يستخدم لفظ الإجماع في المذهب (¬4). وينقل إجماعات النووي دون إشارة (¬5)، وكذا ينقل عن ابن حجر (¬6)، وابن الهمام دون إشارة أيضًا (¬7). وسبق ذكر رأي ابن نجيم في مخالفة المبتدعة. ¬
21 - الإمام الشربيني (977 هـ) من خلال كتابه "مغني المحتاج"
21 - الإمام الشربيني (977 هـ) من خلال كتابه "مغني المحتاج": لا يكاد الشربيني يذكر إجماعًا إلا وقد حكاه النووي، وينقله دون إشارة، ولم أجده انفرد بشيء من الإجماعات عن النووي، وكتابه مذهبيٌّ في الفقه الشافعي، والإجماع فيه نادر. بحثت له عشرين مسألة، منها خمس مسائل لم يتحقق فيها الإجماع. وينقل أحيانًا عن ابن المنذر، والمتولي، والماوردي، خصوصًا إذا نقله عنهم النووي. 22 - الإمام الصنعاني (1182 هـ) من خلال كتابه "سبل السلام": بحثت له إحدى وعشرين مسألة، منها ثلاث مسائل لم يتحقق فيها الإجماع، ولم أجده ينقل عن غيره كثيرًا. 23 - الإمام الشوكاني (1250 هـ) من خلال كتابه "نيل الأوطار": الشوكاني رحمه اللَّه كثيرًا ما ينقل إجماعات النووي، ولكنه لا يشير غالبًا (¬1)، وينقل كثيرًا عن ابن حجر أيضًا، ودون إشارة غالبًا (¬2). وقد يحكي إجماعات خاصة به، لم أجد من حكاها غيره. وسبق ذكر رأي الشوكاني في خلاف الظاهرية. 24 - الشيخ ابن قاسم (1392 هـ) من خلال "حاشيته على الروض المربع": ابن قاسم رحمه اللَّه لم يكن له إجماعات مستقلة، بل أغلب ما يذكره من الإجماعات هي منقولة عن غيره، وكثيرًا ما ينقل إجماعات ابن المنذر، وابن هبيرة، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، والشوكاني. وكثيرًا ما ينقل إجماعات "الشرح الكبير" ويترك "المغني"؛ وذلك لأن ترتيب "الشرح" و"الروض" واحد، وأنا أعتبر نقله هذا عن ابن قدامة صاحب "المغني"، حيث إنه من المعلوم أن صاحب "الشرح" قد وضع "المغني" على "المقنع"، ونقله بعد ¬
استئذان صاحب "المغني"، وكل ما فيه فهو كلام صاحب "المغني" إلا زيادات قليلة، واللَّه تعالى أعلم. وقد يقع في الوهم رحمه اللَّه، فمثلًا؛ نقل حكاية النووي (¬1) الإجماع على جواز الوضوء بفضل المرأة، وهو وهْمٌ منه، بل حكاه في مسألتين قريبتين، وهما: (جواز وضوء الرجال والنساء من إناء واحد)، ومسألة: (فضل وضوء الرجل طاهر) (¬2). وقد ينقل ولا يشير رحمه اللَّه (¬3). * * * ¬
الباب الأول: مسائل الإجماع في باب المياه
الباب الأول: مسائل الإجماع في باب المياه [1 - 1] وجوب الطهارة للصلاة: الطهارة واجبة لمن أراد أداء الصلاة، وعلى ذلك إجماع المسلمين، نقل الإجماع في هذه المسألة عدد من أهل العلم (¬1). • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة، إذا وجد المرء إليها السبيل" (¬2). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع أهل الأرض قاطبة من المسلمين، على أن صلاة التطوع لا تجزئ إلا بطهارة من وضوء، أو تيمم، أو غسل، ولا بد" (¬3). وهذا في صلاة التطوع ففي صلاة الفرض من باب أولى. ويقول أيضًا: "واتفقوا على أن كل من صلى قبل تمام فرض وضوئه، أو تيممه إن كان من أهل التيمم؛ أن صلاته باطلة، ناسيًا كان أو عامدًا، إذا أسقط عضوًا كاملًا" (¬4). الغزالي (505 هـ) حيث يقول: "ويعرف فوات الشرط، إما بالإجماع، كالطهارة في الصلاة، . . " (¬5). ابن العربي (543 هـ) حيث يقول عن شرط الطهارة للصلاة: "وهي من شرائط الأداء، لا من شرائط الوجوب بإجماع الأمة" (¬6). ويقول: "وقد اجتمعت الأمة على وجوب الوضوء" (¬7). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "أجمعوا على أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة، إذا وجد السبيل إليها" (¬8). ¬
النووي (676 هـ) حيث يقول: "لأن النافلة آكد من هذه الأشياء - يريد قراءة القرآن واللبث بالمسجد -، فإنها تفتقر إلى الطهارة بالإجماع" (¬1). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "مسألة فيما تجب له الطهارتان: الغسل، والوضوء، وذلك واجب للصلاة بالكتاب، والسنة، والإجماع، فرضها ونفلها" (¬2). ويقول أيضًا: "وقد أجمع المسلمون على وجوب الطهارة للصلاة" (¬3). القرافي (684 هـ) حيث يقول في سياق استدلاله على وجوب إزالة الخبث: "ولأن البول تتعلق به طهارة حدث وطهارة خبث، والأولى واجبة إجماعًا، . . " (¬4)، وهو يريد أنها واجبة لأداء الفريضة. ويقول: "ويدل على وجوب الطلب - للماء - إلى حين الصلاة، أن الوضوء واجب إجماعًا" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بغسل أعضاء الوضوء عندما يقوم الإنسان للصلاة، والأمر إنما يكون للوجوب، فدل ذلك على وجوب الوضوء للصلاة (¬7). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تقبل صلاة من أحدث ¬
[2 - 2] مشروعية الطهارة بالماء
حتى يتوضأ" (¬1). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نص على مسألة الباب بالمطابقة (¬2)، فلا تقبل صلاة بغير طهور.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف، وهذه المسألة تعتبر من المعلوم من الدين بالضرورة، والإجماع فيها قطعي، واللَّه تعالى أعلم. [2 - 2] مشروعية الطهارة بالماء: هذه المسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يختلف فيهما اثنان من أهل الإسلام، وقد نُقل فيها الإجماع من عددٍ من العلماء، وهناك ما يدل عليها في المسائل الأخرى، وكثير من مسائل الباب تدل عليها، إما بالتضمن (¬3) أو الالتزام (¬4). • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الوضوء بالماء جائز" (¬5). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "أما من الإجماع؛ فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام، في أن كل متوضئ؛ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه، وهكذا كل عضو في الوضوء. .، " (¬6). وهذا فيه إشارة لما نحن بصدده. ويقول أيضًا: "أجمعت الأمة على أن استعمال الماء الذي لم يُبَلْ فيه، ولا كان سؤر حائض، ولا كافر، ولا جنب، ولا من شراب، ولا من غير ذلك، ولا سؤر حيوان غير الناس، وغير ما يؤكل لحمه، ولا خالطته نجاسة، وإن لم تظهر فيه أو ظهرت، على ¬
اختلافهم فيما ينجس من حيوان أو ميت، ولا كان آجنًا متغيرًا من ذاته، وإن لم يكن من شيء حله، ولا مات فيه ضفدع ولا حوت، ولا كان فضل متوضئ من حدث أو مغتسل من واجب، ولا استعمل بعد، ولا توضأت منه امرأة ولا تطهرت منه، ولم يشمس، ولا سخن، ولم يؤخذ من بحر ولا غصب، ولا أدخل فيه القائم من نومه يده قبل أن يغسلها ثلاثًا، ولا حل فيه شيء طاهر فخالطه، غير تراب عنصره فظهر فيه، ولا بل فيه خبز، ولا توضأ فيه ولا به إنسان، ولا اغتسل، ولا وضأ شيئًا من أعضائه به - فيه الوضوء والغسل، حلوًا كان أو مرًّا، أو ملحًا أو زعاقًا، ففرض على الصحيح الذي يجده ويقدر على استعماله ما لم يكن بحضرته نبيذ. . " (¬1). ويقول أيضًا: "وأجمعوا أن من توضأ وتطهر بالماء كما وصفنا، وإن كان بحضرته نبيذ تمر فقد أدى ما عليه" (¬2). الغزالي (505 هـ) حيث يقول: "والطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع" (¬3). نقله عنه النووي (¬4). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الطهارة تجب بالماء، على كل من لزمته الصلاة، مع وجوده" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7). • مستند الإجماع: الأدلة كثيرة على هذه المسألة، أكتفي باثنين: 1 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى حدد الوضوء بالماء، وحدد العدول عنه بعدم وجوده، فدل ذلك بالالتزام على وجوب الوضوء بالماء، وفيه المشروعية وزيادة، واللَّه أعلم. 2 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. . . الآية [المائدة: 6]. ¬
[3 - 3] طهارة الماء المضاف إلى مقره
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بغسل الأعضاء قبل الصلاة، والغسل لا يكون إلا بالماء؛ فدل ذلك على مشروعية الوضوء بالماء.Rأن الإجماع متحقق، وحكم المسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، وأغلب المسائل في باب المياه تدل عليه بالتضمن أو الالتزام، واللَّه تعالى أعلم. [3 - 3] طهارة الماء المضاف إلى مقره: المياه التي تضاف إلى مقرها التي هي فيه، وتنسب إليه، كمياه الأنهار والآبار والعيون، مياه طاهرة بالإجماع. • من نقل الإجماع: ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها، مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافًا في الصدر الأول شاذًّا" (¬1)، والمياه المضافة لمقرها هي من أنواع المياه. ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "الضرب الثالث من المضاف: ما يجوز الوضوء به رواية واحدة، وهو أربعة أنواع: أحدها: ما أضيف إلى محله ومقره، كماء النهر، والبئر وأشباههما؛ فهذا لا ينفك منه ماء، وهي إضافة إلى غير مخالط، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "الحكم الذي ذكره - أي صاحب "المهذب" - وهو جواز الطهارة بما نبع من الأرض مجمع عليه، إلا ما سأذكره إن شاء اللَّه تعالى في البحر وماء زمزم" (¬3). وقد كان في عبارة "المهذب" ما يلي: "وما نبع من الأرض، وماء البحار، وماء الأنهار، وماء الآبار" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬5). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. • وجه الدلالة: أن الأصل في الماء كونه طهورًا، فكل مياه الآبار والأنهار المضافة ¬
[4 - 4] الماء المتغير بما لا يمكن التحرز منه
لمقرها نازلة من السماء، وهي طهورة ما لم تتغير، واللَّه تعالى أعلم. 2 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: حيث لا يجوز المصير إلى التراب؛ إلا بعدم الماء، وماء الآبار ونحوها تسمى ماء، فيجب الوضوء بها، فهي إذًا طاهرة. 3 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬1). • وجه الدلالة ظاهرة من الحديث بالمطابقة على مياه الآبار، أما غيرها مما أضيف لمقره، كمياه العيون والأنهار فتدخل بالقياس، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [4 - 4] الماء المتغير بما لا يمكن التحرز منه: إذا حصل تغير الماء، بشيء طاهر يسقط فيه، كورق الشجر والعيدان ونحو ذلك، أو بما ينبت فيه كالطحلب والخز ونحوهما، فإن الماء يبقى على طهوريته بالإجماع (¬2). • من نقل الإجماع: ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء، مما لا ينفك عنه غالبًا، أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير، إلا خلافًا شاذًّا، روي في الماء الآجن عن ابن سيرين" (¬3). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "الثاني: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريح ¬
فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما، إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء، فهذا كله يعفى عنه؛ لأنه يشق التحرز منه. . .، ولا نعلم في هذه الأنواع خلافًا" (¬1). القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "الماء المتغير بقراره، كزرنيخ (¬2) أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه، لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه، والانفكاك عنه" (¬3). النووي (676 هـ) معلقًا على كلام الشيرازي في "المهذب" بعد أن قال: "إن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت، فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما، جاز الوضوء به" قال النووي: "أما قوله -أولًا-: إذا تغير -أي: الماء- بما لا يمكن حفظه منه جاز الوضوء به؛ فمجمع عليه" (¬4). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "فما كان من التغير حاصلًا بأصل الخلقة، أو بما يشق صون الماء عنه فطهور باتفاقهم" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية في وجه (¬8)، والحنابلة (¬9)، وابن حزم (¬10). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أمرنا بأن نتوضأ بالماء، ولا نعدل عنه إلى التيمم ¬
إلا عند عدمه، وهذا الماء لا زال يطلق عليه اسم الماء؛ فوجب استعماله (¬1). 2 - أنه لا يمكن صون الماء عن مثل هذه الأشياء، فعفي عنها، كما عفي عن النجاسة اليسيرة، والعمل القليل في الصلاة (¬2). • الخلاف في المسألة: في مسألة تغير الماء بنحو الطحلب والخز والعيدان، لم أجد خلافا سوى ما نقله الحطاب، حيث نقل قولًا محكيًّا عن الإمام مالك بالكراهة فقط، إذا وجد غير ذلك الماء، وأمكن الاستغناء عنه (¬3). ووجدت المرداوي أيضًا حكاه قولًا في المذهب الحنبلي (¬4). ولكن هذا القول غير مخالف لمسألتنا في الحقيقة، فليس فيه إلا الكراهة، وهي لا تنافي الجواز، واللَّه تعالى أعلم. وأما مسألة تغيره بورق الشجر، فقد ثبت فيها الخلاف: فخالف في المسألة الشافعية في وجه (¬5)، فقالوا: هو غير طهور ولا يعفى عن هذا التغير. ويمكن أن يستدل لهذا المذهب بأن الماء قد تغير ولم يصبح ماءً مطلقًا؛ فلا يتوضأ به. وخالف الشافعية في وجه آخر (¬6)، فقالوا بأنه يفرق بين الورق الخريفي والربيعي، فالخريفي لا يضره، وأما الربيعي فيسلبه الطهورية. واستدلوا: بأن الربيعي رطوبة تخالط الماء، وتساقطه نادر فلا يعفى عنه، بخلاف الخريفي. وخالف المالكية في قول (¬7)، فقالوا بأنه يفرق بين التغير البين وغير البين؛ فإن كان التغير بَيِّنًا فيضر، وإن لم يكن كذلك فلا. ويمكن أن يستدل لهذا المذهب بأن الماء إذا تغير وأصبح التغير بَيِّنًا؛ لم يصبح ماءً مطلقًا، ولا يسوغ أن نبرر طهورية الماء بالعفو عن اليسير فالتغير بيِّن، بخلاف ما لو ¬
[5 - 5] الماء المتغير بطاهر يأخذ حكمه
كان التغير يسيرًا غير بين، واللَّه تعالى أعلم. أما الكلام عن الماء الذي تغير بمكثه، وهو الماء الآجن فقد أفردت له مسألة مستقلة؛ لأنه في الحقيقة لم يتغير بشيء آخر وإنما من نفسه بطول المكث، فكان ينبغي إفراده.Rأن الإجماع متحقق فيما دون مسألة التغير بورق الشجر؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. أما الماء الذي تغير بورق الشجر، فالإجماع غير متحقق؛ لوجود الخلاف السابق في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [5 - 5] الماء المتغير بطاهر يأخذ حكمه (¬1): الماء الذي غيَّره شيء طاهر، كلبن أو عسل أو غيره، فإن هذا الماء يأخذ حكم ذلك الشيء الطاهر الذي غيّره، ولا تبحث المسألة في كونه مطهرًا أو لا. ولكن بشرط أن يكون التغير بحيث يزول اسم الماء عنه. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله، وقال الجمهور: إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربته وحمأته (¬2)، وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه ولا التباس معه" (¬3). ونقل عنه القرطبي هذه العبارة بذاتها دون إشارة (¬4). ويقول: "وهذا إجماع لا خلاف فيه، إذا تغير بما غلب عليه من نجس أو طاهر: أنه غير مطهر" (¬5). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة، التي تنفك منه غالبًا، متى غيرت أحد أوصافه؛ فإنه طاهر عند جميع العلماء" (¬6). ¬
[6 - 6] جواز الطهارة بالماء الآجن
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الإجماع: أن الأصل في الأشياء الطهارة، والماء هنا طهور، وبعد تغيره بما أضيف إليه مما هو طاهر في ذاته، فالماء بعد التغير يدور إذًا بين أمرين؛ إما أن يكون طاهرًا أو طهورًا، ولا مجال لاحتمال النجاسة، والطهور طهارة وزيادة، فالماء بعد التغير إما طاهرًا أو طهورًا، على قولين للعلماء في ذلك - ليسا محل بحثنا - (¬5)، فدل ذلك على أن الماء إما أن يكون طاهرًا، وهذا عنوان مسألتنا، أو يبقى طهورًا على أصله، وهذه طهارة وزيادة، وعلى الأمرين فهو طاهر في ذاته، وهذا عنوان مسألتنا، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [6 - 6] جواز الطهارة بالماء الآجِن: إذا وجد المسلم ماء آجنًا، فإنه يجوز أن يتوضأ به، بإجماع العلماء على ذلك. والآجِن: قال في "المصباح": "أجن الماء أجنًا وأجونًا من بابي ضرب وقعد: تغير؛ إلا أنه يشرب، فهو آجِن على فاعل" (¬6). وهو الذي يتغير بطول مكثه في المكان، من غير مخالطة شيء يغيره (¬7)، وقيل: إنه يدخل في مسألة ما تغير بالطحلب والخز ونحوه (¬8). • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ): أجمعوا على أن الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلت فيه جائز، وانفرد ابن سيرين فقال: لا يجوز (¬9). ونقله عنه ابن قدامة (¬10)، والنووي (¬11)، وابن مفلح (¬12)، والبهوتي (¬13). ¬
ابن رشد (595 هـ) حيث إنه أدخل هذه المسألة في أفراد مسألة تغير الماء بالمخالطة لطاهر، وقد حُكي الإجماع فيها كما سبق، يقول: "وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء، مما لا ينفك عنه غالبًا؛ أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير، إلا خلافًا شاذًّا روي في الماء الآجن عن ابن سيرين" (¬1). النووي (676 هـ) حيث يقول: "لا تكره الطهارة بماء البحر ولا بماء زمزم ولا بالمتغير بطول المكث -وهو الآجن- ولا بالمسخن ما لم يخف الضرر لشدة حرارته سواء سخن بطاهر أو نجس، وهذه المسائل كلها متفق عليها عندنا، وفي كلها خلاف لبعض السلف" (¬2). ثم نقل بعدها حكاية الاتفاق عن ابن المنذر ونقل حكايته الخلاف عن ابن سيرين فقط. ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "أما ما تغير بمكثه ومقره، فهو باق على طهوريته باتفاق العلماء" (¬3). ونقله عنه ابن قاسم (¬4). ابن مفلح (884 هـ) حيث نقل عنه الرحيباني فقال: "قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه" (¬5). ولكن لم أجد هذه العبارة في "المبدع"، سوى نقله حكاية ابن المنذر للإجماع (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحسن، وقتادة، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى (¬7)، والحنفية (¬8). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن الآية مطلقة، فكل ما يطلق عليه اسم الماء يتوضأ به، ولا دليل ¬
[7 - 7] الماء طاهر مطهر
على إخراج الماء الآجن من الماء المطلق (¬1). 2 - أنه لا يمكن الاحتراز منه، فأشبه المتغير بما يتعذر صونه عنه (¬2). • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة ابن سيرين، والقاسم بن مخيمرة (¬3)؛ فقالوا بكراهة الوضوء من الماء الآجن. وقد حكاه المرداوي قولًا في مذهب الحنابلة بالكراهة (¬4). فالخلاف المحكي هو بالكراهة، وهي لا تنافي الجواز (¬5). وعلى فرض كون ابن سيرين يقول بعدم الجواز، كما نقل ذلك ابن المنذر عنه فيما سبق، فقد وصفه ابن رشد بالشذوذ كما سبق، ولم يتابعه على هذا القول أحدٌ من العلماء. أما مخالفة القاسم ورواية الحنابلة، فهي في الكراهة، ولم أجد من نقل القول بعدم الجواز إلا ما حكاه ابن رشد عن ابن سيرين، فلا مخالفة حقيقية إلا منه، واللَّه أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، ولا يضره مخالفة من خالف، كما سبق بيان ذلك، واللَّه تعالى أعلم. [7 - 7] الماء طاهرٌ مطهِّر: الماء طاهر في نفسه، ومطهر لغيره، سواء من النجاسة أو من الحدث، وعلى ذلك حكى عدد من العلماء الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعت الأمة أن الماء مطهر للنجاسات، وأنه ليس في ذلك كسائر المائعات الطاهرات" (¬6). وقال أيضًا: "وقد أجمعوا معنا على أن ورود الماء على النجاسات لا يضره، وأنه مطهر لها" (¬7). الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في أنه يحصل به الطهارة الحقيقية ¬
والحكمية جميعًا" (¬1). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها، مطهرة لغيرها" (¬2). ابن قدامة (620 هـ) في سياق نقاشه لمسألة: "وقد دلت هذه المسألة على أحكام منها: إباحة الطهارة بكل ماء موصوف بهذه الصفة التي ذكرها، على أي صفة كان من أصل الخلقة، من الحرارة والبرودة، والعذوبة والملوحة، نزل من السماء، أو نبع من الأرض، في بحر أو نهر أو بئر أو غدير، أو غير ذلك. . . " ثم قال بعد ذلك: "وهذا قول عامة أهل العلم، إلا أنه حكي عن عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عمرو، أنهما قالا في البحر: التيمم أعجب إلينا منه؛ هو نار" (¬3)، واستثناؤه لماء البحر هنا لا يقدح في أصل الإجماع، فماء البحر أحد أفراد هذه المسألة، وسيأتي نقاشها في مسألة مستقلة إن شاء اللَّه تعالى. القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات، وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر" (¬4). النووي (676 هـ) - في سياق نقاشٍ له -: "أن للماء قوة في دفع النجس بالإجماع" (¬5). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وحاصله أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وعدم تنجس الماء إلا بالتغير، بحسب ما هو المراد المجمع عليه" (¬6). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. • وجه الدلالة: وصف اللَّه تعالى الماء بأنه طهور، وهو فعول متعدٍّ، فهو طاهر في نفسه، ومتعدٍّ مطهِّرٌ لغيره. 2 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال: قال عليه الصلاة والسلام: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬7). ¬
[8 - 8] فضل وضوء الرجل طاهر
• وجه الدلالة: ظاهرة من الحديث، فقد وصف الماء بأنه طهور.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، بل هي من القطعيات الشرعية، فالماء طاهر في ذاته، ومطهرٌ لغيره، واللَّه تعالى أعلم. [8 - 8] فضل وضوء الرجل طاهر: إذا أراد المسلم أن يتوضأ، فوجد فضل وضوء رجل، فإنه يجوز له أن يتوضأ به، وعليه حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وفيه (¬1)؛ أنه لا بأس بفضل وضوء الرجل المسلم يتوضأ به، وهذا كله في فضل وضوء الرجال إجماع من العلماء، وللَّه الحمد" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على جواز وضوء الرجل والمرأة بفضل الرجل" (¬3). وقال بعدها: "ويؤيده أنا لا نعلم أحدًا من العلماء منعها فضل الرجل" (¬4). وقال أيضًا: "وأما تطهير المرأة بفضل الرجل، فجائز بالإجماع أيضًا" (¬5). ونقله عنه بلفظ الإجماع الحافظ العراقي (¬6)، وابن حجر (¬7)، والشوكاني (¬8)، كلاهما بلفظ الاتفاق، وتعقباه أيضًا. ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "وأما تطهر المرأة بفضل الرجل، فجائز بالإجماع" (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬10)، والحنابلة على الصحيح (¬11)، وابن حزم (¬12). • مستند الإجماع: 1 - حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يغتسل بفضل ¬
ميمونة (¬1). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يغتسل بفضل امرأة، وهي مسألة اشتهر الخلاف فيها، ومن باب أولى جواز الاغتسال بفضل الرجل، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، أنها كانت تغتسل مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من إناء واحد (¬2). • وجه الدلالة: كونها تغتسل بفضل رجل وهو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم ينكر عليها؛ فدل على جواز ذلك (¬3)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: نقل الطحاوي خلافًا في المسألة، فقال: "فذهب قوم إلى هذه الآثار (¬4)، فكرهوا أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بهذا كله" (¬5). ونقل الحطاب رحمه اللَّه قولًا بعدم جواز الوضوء بفضل الرجل (¬6)، وهو وجه ضعيف عند الحنابلة (¬7). واستدلوا بحديث عبد اللَّه بن سرجس -رضي اللَّه عنه-، قال: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل ولكن يشرعان جميعًا" (¬8). وخالف ابن عمر، والشعبي، والأوزاعي في المسألة، فقالوا بعدم جواز الوضوء ¬
[9 - 9] جواز وضوء الرجال والنساء من إناء واحد
بفضل الرجل، ولكن مقيدًا بما إذا كانت جنبًا (¬1). ولم يذكر لهم دليلًا.Rأن الإجماع غير متحقق، مع أن القوم الذين أبهمهم الطحاوي ليسوا معروفين، ولم يوضح مقصدهم من الكراهة، هل هي التنزيهية أو التحريمية؟ ولكن حكاية الحطاب صريحة، أزالت الشك والريبة، وقواها الوجه الضعيف عند الحنابلة، وبهما لا يتحقق الإجماع في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 9] جواز وضوء الرجال والنساء من إناء واحد: إذا توضأ الرجل والمرأة، أو الرجال والنساء معًا في إناء واحد، فإن وضوءهم جائز بالإجماع (¬2). • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "وهو قول عامة الفقهاء؛ أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد" (¬3)، والاغتسال نوع من الطهارة، وحكمه والوضوء واحد في هذه المسألة. الطحاوي (321 هـ) حيث نقل عنه ابن حجر (¬4)، والشوكاني (¬5) حكايته الإجماع في المسألة (¬6). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا في جواز توضؤ الرجلين والمرأتين معًا" (¬7). القرطبي (626 هـ) حيث يقول: "واتفق العلماء على جواز اغتسال الرجل وحليلته، ووضوئهما معًا، من إناء واحد، إلا شيئًا روي في كراهية ذلك عن أبي هريرة" (¬8). ونقله عنه ابن حجر (¬9)، والشوكاني (¬10). النووي (676 هـ) حيث يقول: "واتفق العلماء على جواز وضوء الرجل والمرأة واغتسالهما جميعًا من إناء واحد" (¬11). ¬
ويقول أيضًا: "وأما تطهير الرجل والمرأة من إناء واحد فهو جائز بإجماع المسلمين" (¬1). ونقله عنه العراقي (¬2)، وابن حجر (¬3)، والشوكاني (¬4)، والأخيران بلفظ الاتفاق. ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم، أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا توضؤوا واغتسلوا من ماء واحد جاز" (¬5). ويقول أيضًا: "فأما اغتسال الرجال والنساء جميعًا من إناء واحد؛ فلم يتنازع العلماء في جوازه، وإذا جاز اغتسال الرجال والنساء جميعًا؛ فاغتسال الرجال دون النساء جميعًا أو النساء دون الرجال جميعًا أولى بالجواز، وهذا مما لا نزاع فيه" (¬6). ويقول: "فمن كره أن يغتسل معه غيره، أو رأى أن طهره لا يتم حتى يغتسل وحده؛ فقد خرج عن إجماع المسلمين وفارق جماعة المؤمنين" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع علي، وزيد بن ثابت، وابن عمر -رضي اللَّه عنهم-، وعكرمة، والشعبي (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنه-، قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جميعًا (¬9). • وجه الدلالة: حيث حكى ابن عمر وقوع صورة هذه المسألة في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الصحابة، ولم ينكر ذلك عليه الصلاة والسلام، فدل على صحة ذلك. 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، أنها كانت تغتسل مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من إناء واحد (¬10). • وجه الدلالة: أن عائشة كانت تغتسل مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من إناء واحد، وهذا لا يختلف عما إذا كانوا أشخاصًا أو شخصين، وهذا مطابق لمسألتنا (¬11). • الخلاف في المسألة: أما وضوء الرجل والمرأة معًا، فقد حكى ابن حزم الخلاف ¬
[10 - 10] الماء المتغير بنجاسة يأخذ حكمها
فيه (¬1) هل يجزئ أو لا؟ بخلاف ما لو كانوا أكثر من ذلك، فقد نقل الاتفاق كما سبق نقله فى بداية المسألة. أما وضوء الرجلين أو المرأتين فأكثر، فنقل ابن حجر قولًا لأبي هريرة -رضي اللَّه عنه- يخالفه، بأنه كان ينهى عنه، ونقل حكاية ابن عبد البر للخلاف عن قوم أيضًا (¬2). ونقل الحطاب رحمه اللَّه قولًا بأنه لا يتوضأ أحدهما بفضل الآخر مطلقًا، سواء كانا جميعًا أو لا (¬3). واستدلوابنهي أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- (¬4) عن ذلك.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، وظاهر مما سبق أن الخلاف كان قديمًا، فقد خالف أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-، وتبعه من تبعه، واللَّه أعلم. [10 - 10] الماء المتغير بنجاسة يأخذ حكمها: إذا تغير الماء بالنجاسة، سواء تغير لونه، أو طعمه، أو ريحه؛ فإنه ينتقل من الطهورية إلى النجاسة، وسواء كان الماء قليلًا، أو كثيرًا، ما دام قد تغير. • من نقل الإجماع: الإمام الشافعي (204 هـ) حيث يقول: "وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجسًا، يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة، لا أعلم بينهم فيه اختلافًا" (¬5). ونقله عنه البيهقي (¬6)، والنووي (¬7)، وابن حجر (¬8)، وابن قاسم (¬9). ابن جرير (310 هـ) حيث في سياق نقاش الخلاف في معنى حديث أبي سعيد الآتي بالمستند، قال: "مع إجماع جميعهم على أن الماء ينجس بغلبة لون النجاسة عليه أو ¬
طعمه أو ريحه" (¬1). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير، إذا وقعت فيه النجاسة، فغيرت للماء طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا، أنه نجس، ما دام كذلك" (¬2). ونقله عنه ابن قدامة (¬3)، والنووي (¬4)، والبهوتي (¬5)، والصنعاني (¬6)، والشوكاني (¬7). الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "قد أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البئر، فغلبت على طعم مائها أو ريحه أو لونه، أن ماءها قد فسد" (¬8). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الماء الذي حلت فيه نجاسة، فأحالت لونه أو طعمه؛ فإن شربه لغير ضرورة، والطهارة به على كل حال، لا يجوز شيء من ذلك على عظيم اختلافهم في النجاسات" (¬9). البيهقي (458 هـ) حيث يقول: "والحديث (¬10) غير قوي، إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافًا، واللَّه أعلم" (¬11). ونقله عنه النووي (¬12). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "الماء لا يخلو تغيره من أن يكون بنجاسة، أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة؛ فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر، ولا مطهر" (¬13). ونقل هذه العبارة القرطبي دون إشارة (¬14). ويقول أيضًا: "وهذا إجماع في الماء المتغير بالنجاسة، وإذا كان هذا هكذا، فقد زال عنه اسم الماء مطلقًا" (¬15). ويقول: "وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "الماء لا ينجسه شيء" (¬16)، يعني إلا ¬
ما غلب عليه وظهر فيه من النجاسة، بدليل الإجماع على ذلك" (¬1). ابن العربي (543 هـ) حيث يقول: "فإن تغير الماء لم يطهر إجماعًا" (¬2). ابن هبيرة (560) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه إذا تغير الماء بالنجاسة؛ نجس قل أو كثر" (¬3). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه، أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف؛ أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور" (¬4). ونقله عنه ابن قاسم (¬5). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "فأما نجاسة ما تغير بالنجاسة؛ فلا خلاف فيه" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "واعلم أن حديث بئر بضاعة (¬7) عام مخصوص، خص منه المتغير بنجاسة؛ فإنه نجس للإجماع" (¬8). وقال بعد نقل إجماع ابن المنذر: "ونقل الإجماع كذلك جماعات من أصحابنا وغيرهم، وسواء كان الماء جاريًا أو راكدًا، قليلًا أو كثيرًا، تغير تغيرًا فاحشًا أو يسيرًا، طعمه أو لونه أو ريحه؛ فكله نجس بالإجماع" (¬9). ونقله عنه ابن نجيم (¬10). ابن دقيق العيد (702 هـ) حيث يقول: "الاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة؛ امتنع استعماله" (¬11). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "وأما الماء إذا تغير بالنجاسات، فإنه ينجس بالاتفاق" (¬12). ويقول أيضًا: "إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته تنجس اتفاقًا" (¬13). ¬
ويقول أيضًا: "والماء لنجاسته سببان: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه. فالمتفق عليه: التغير بالنجاسة" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). الحافظ العراقي (806 هـ) حيث يقول: "أن الماء الجاري، وإن كان قليلًا لا تؤثر فيه النجاسة، إلا إذا غيرته، فإنه ينجس إجماعًا" (¬3). ابن الهمام (861 هـ) حيثما يقول: "وهذا لأن حقيقة الخلاف؛ إنما هو في تقدير الكثير الذي يتوقف تنجسه على تغيره، للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا به" (¬4) أي بالتغير. يقول: "للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة" (¬5). ونقل عبارته ابن نجيم (¬6). زكريا الأنصاري (926 هـ) حيث يقول: "ولا ينجس الماء الكثير إلا بتغير، وإن قل التغير، بنجاسة ملاقية له، للإجماع المخصص لخبر الترمذي: "الماء طهور لا ينجسه شيء (¬7) " (¬8). الحطاب (954 هـ) حيثما يقول عن النجاسة: "إن غيرت الماء؛ ضرت باتفاق، وإن لم تغيره، فيكره استعماله مع وجود غيره" (¬9). ابن نجيم (970 هـ) حيثما يقول: "اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة؛ لا تجوز الطهارة به؛ قليلًا كان الماء أو كثيرًا؛ جاريًا كان أو غير جارٍ، هكذا نقل الإجماع في كتبنا" (¬10). الشربيني (977 هـ) حيثما يقول شارحًا لمتن "المنهاج": " (فإن غيره) أي: غير النجس الملاقي الماء القلتين، ولو يسيرًا، حسًّا أو تقديرًا فنجس بالإجماع المخصص للخبر السابق" (¬11). ¬
الحصكفي (1088 هـ) حيث يقول: "وبتغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو ريح ينجس الكثير، ولو جاريًا إجماعًا" (¬1). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "وإنما حكموا بعدم طهورية ما غيرت النجاسة أحد أوصافه؛ للإجماع على ذلك" (¬2). الدسوقي (1230 هـ) حيث يقول: "أما لو علم أن المغير مما يضر؛ ضر اتفاقًا، كان الماء قليلًا أو كثيرًا" (¬3). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "لكنه قام الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة؛ خرج عن الطهورية" (¬4). ويقول أيضًا: "فما بلغ مقدار القلتين فصاعدًا؛ فلا يحمل الخبث، ولا ينجس بملاقاة النجاسة، إلا أن يتغير أحد أوصافه؛ فنجس بالإجماع" (¬5). ويقول أيضًا: "وأما ما دون القلتين، فإن تغير؛ خرج عن الطهارة بالإجماع" (¬6). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬7). زاد أبو أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- في روايته: "إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" (¬8). • وجه الدلالة: حيث قال عليه الصلاة والسلام: "إلا ما غلب"، أي فإنه يتنجس إذا غلبت النجاسة. ولكن الحديث ضعفه عدد من أهل العلم (¬9)، واعتدوا بالإجماع، كما صرح بذلك عدد منهم، وسبقت الإشارة إلى ذلك. ¬
[11 - 11] الماء الكثير الواقع فيه نجاسة ولم يتغير فهو طهور
2 - أن الماء إذا تغير بالنجاسة، فتغير لونه أو ريحه أو طعمه، لم يصبح ماء، وانتقل إلى مسمى آخر بحسب ما غيره، فلم يجز أن يتوضأ به؛ لأنه أصبح متغيرًا بالنجاسة، وما غيرته النجاسة أصبح منها، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع في هذه المسألة متحقق بلا شك، فقد رأينا أن عددًا كبيرًا من العلماء صرح بهذا الإجماع، ولم يذكر لهم مخالف، واللَّه تعالى أعلم. [11 - 11] الماء الكثير الواقع فيه نجاسة ولم يتغير فهو طهور: الماء لا يخلو حاله إذا وقعت النجاسة فيه من حالتين: إما أن يكون قليلا فتغيره النجاسة، فيأخذ حكمها. وإما أن يكون كثيرًا؛ فلا يخلو من حالتين: إما أن يتغير، فيكون حكمه حكمها. وإما أن لا يتغير، فيكون حكمه الطهارة، وقد حكى عدد من العلماء الإجماع في هذه المسألة. أما تقدير الكثرة، فقد قدرها البعض بما إذا حرك وسطه لم يتحرك طرفاه (¬1)، والبعض قدرها بما زاد عن القلتين (¬2)، وعلى العموم فتقدير الكثرة ليست مسألتنا. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا أن الماء الكثير من النيل والبحر ونحو ذلك، إذا وقعت فيه نجاسة، فلم تغير له طعمًا أو لونًا أو ريحًا، أنه بحاله ويتطهر منه" (¬3). ونقله عنه ابن قدامة (¬4)، وابن قاسم (¬5). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن الماء الراكد إذا كان من الكثرة، بحيث إذا حرك وسطه لم يتحرك طرفاه ولا شيء منهما، فإنه لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته" (¬6). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وفي هذا الحديث (¬7) أن الماء إذا غلب على ¬
النجاسات وغمرها طهرها، وكان الحكم له لا لها، ولو كان إذا اختلط بالنجاسات لحقته النجاسة ما كان طهورًا، ولا وصل به أحد إلى الطهارة، وهذا مردود بأن اللَّه عز وجل سماه طهورًا، وأجمع المسلمون على ذلك في كثيره، وإن اختلفوا في معانٍ من قليله" (¬1). ابن رشد الجد (520 هـ) حيث يقول: "لا خلاف أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه". نقله عنه الموَّاق (¬2). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه، وأنه طاهر" (¬3). ابن قدامة (620 هـ) في حديثه عن البرك التي صنعت موردًا للحاج، يشرب منها، ويجتمع فيها ماء كثير: "فتلك لا تتنجس بشيء من النجاسات ما لم تتغير، لا نعلم أحدًا خالف في هذا" (¬4). ابن دقيق العيد (702 هـ) حيث يقول: "لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير لا تؤثر فيه النجاسة" (¬5). ونقله عنه العراقي (¬6)، ونقل الشوكاني عبارته دون أن ينسبها إليه (¬7). العيني (855 هـ) حيث يقول: "أن هذا الحديث (¬8) عام، فلا بد من تخصيصه اتفاقًا بالماء المستبحر، الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر" (¬9). الحطاب (954 هـ) حيث يقول شارحًا كلامًا للمؤلف: "يعني أن الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس، ولم يغيره؛ فإنه على طهوريته، ويعلم قدر الكثير من تحديد القليل الآتي، ثم إن هذا الكثير إن اتفقت الأمة على أنه كثير؛ فلا خلاف في طهوريته، سواء خلط بنجس أو طاهر" (¬10). ¬
[12 - 12] إذا اختلط الماء بما يوافقه في الطهورية فهو طهور
ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة" (¬1). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "كما تفنى النجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالإجماع" (¬2). محمد صديق حسن خان (1307 هـ) حيث يقول في سياق كلامٍ له: "بعد إجماعهم على أن ما غيرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر" (¬3). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "والمصانع الكبار لا تنجس بالاتفاق إلا بالتغير" (¬4)، وهو يريد بالمصانع هنا المياه الكثيرة التي كانت موردًا للحجاج. • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى سمى الماء طهورًا، والماء هنا مطلق، فكل ما يطلق عليه ماء فهو طاهر، حتى يتغير أحد أوصافه وينتقل مسماه، وما دام لم يتغير الماء الكثير فهو على أصله، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬5). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصف الماء بأنه طهور بإطلاق، ثم أكد ذلك بأنه لا ينجسه شيء إلا ما غلب على أحد أوصافه فغير اسمه، وما دام أن الماء لم يتغير فهو على أصله الطاهر، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [12 - 12] إذا اختلط الماء بما يوافقه في الطهورية فهو طهور: إذا اختلط الماء مع شيء من التراب، ولم ينقله ذلك إلى مسمى آخر، كأن أصبح طينًا؛ فإن ذلك لا يضره. وهنا قيد مهم وهو: أن لا يكون ذلك بفعل فاعل، بل الاختلاط من اللَّه تعالى دون تصرف أحد. ¬
• من نقل الإجماع: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "الثالث: ما يوافق الماء في صفتيه الطهارة، والطهورية، كالتراب إذا غير الماء لا يمنع الطهورية؛ لأنه طاهر مطهر كالماء". . .، ثم قال: "ولا نعلم في هذه الأنواع خلافًا" (¬1). العيني (855 هـ) حيث يقول: "كما فى أجزاء الأرض، نحو الطين والجص والنورة، فإن التوضؤ بالماء الذي اختلط بهذه الأشياء يجوز بالاتفاق، إذا كان الخلط به قليلًا" (¬2). الحطَّاب (954 هـ) حيث يقول: "أما ما ألقته الريح -يعني التراب- فإنه لا خلاف أنه لا يضر" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬4). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد جعل التراب بدلًا عن الماء فى حال عدمه، فهو طاهر مطهِّر، ولا يمكن أن ينقل الماء من طهوريته ما دام مثله في الطهورية (¬5). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سمى الأرض طهورًا، والمقصود التراب، في إشارة للتيمم، فالطهور إذا خالط طهورًا لا يغير من حكمه شيئًا، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: حُكي عن إمام الحرمين الجويني، أنه قال بأن التراب غير مطهر، وإنما علقت به إباحة بسبب الضرورة. وقد أنكر عليه ذلك النووي وأبطله (¬7). وهذا خلاف شاذ، لم أقف على من وافقه، ولا عبرة به. ¬
[13 - 13] طهارة الماء المتغير بمجاورة دون مماسة
Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود الخلاف المعتبر في المسألة، وأما خلاف إمام الحرمين فخلاف شاذ منه رحمه اللَّه، ولا ينقض الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. [13 - 13] طهارة الماء المتغير بمجاورة دون مماسة: إذا كان شيء نجس قريبًا من الماء، مجاورًا له، ولكنه خارجه، ولا يمسه، فإنه لا يؤثر على طهارة الماء. • من نقل نفي الخلاف: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا لكلام الماتن: "وقوله: (كما لو تغير بجيفة بقربه) يعني: جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه، وفي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعًا، بل الماء طهور بلا خلاف" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). ابن مفلح (884 هـ) حيث يقول عن حالات التغير للماء: "أو ما تروح بريح ميتة إلى جانبه، بغير خلاف نعلمه؛ لأنه تغير بمجاورة" (¬3)، ثم قال بعد ذكر الحالات كلها: "فهذا كله طاهر مطهر يرفع الأحداث" (¬4). ونقله عنه البهوتي (¬5). الحطاب (954 هـ) حيث يقول عن الماء: "إذا تغير بمجاورة شيء له، فإن تغيره بالمجاورة لا يسلبه الطهورية، وسواء كان المجاور منفصلًا عن الماء، أو ملاصقًا له، فالأول؛ كما لو كان إلى جانب الماء جيفة، أو عذرة، أو غيرهما، فنقلت الريح رائحة ذلك إلى الماء فتغير، ولا خلاف في هذا" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7). • مستند نفي الخلاف: 1 - أن الماء في هذه الحالة لم يحصل له تغير، بحيث اختلطت به النجاسة فغيرته، فهو باق على أصله الطاهر، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الماء هنا يصح أن يطلق عليه بأنه من الماء المطلق، وهو ما يكفي في كونه طهورًا، واللَّه تعالى أعلم.Rأن نفي الخلاف متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[14 - 14] طهارة ما تغير بمجاورة دون مخالطة
[14 - 14] طهارة ما تغير بمجاورة دون مخالطة: إذا تغير الماء بمجاورة طاهر من غير مخالطة، ولم تخرج به عن كونه ماء مطلقًا، فإنه يجوز الوضوء به، وهو ماء طهور. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "الضرب الثالث من المضاف: ما يجوز الوضوء به رواية واحدة، وهو أربعة أنواع: . .، الرابع: ما يتغير به الماء بمجاورته من غير مخالطة، كالدهن على اختلاف أنواعه، والطاهرات الصلبة، كالعود والكافور والعنبر، إذا لم يهلك في الماء، ولم يمع فيه، لا يخرج به عن إطلاقه، . .، ولا نعلم في هذه الأنواع خلافًا" (¬1). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬2)، والمالكية في قول (¬3)، والشافعية في قول (¬4). • مستند نفي الخلاف: 1 - أن هذا التغير الطارئ على الماء، لا يخرجه عن كونه ماء مطلقا؛ فيجوز التطهر به؛ لأنه ماء مطلق (¬5). 2 - أن هذا الماء تغير بالمجاورة، وهي أشبه ما لو تروح الماء بريح شيء على جانبه دون مخالطة، وهي متفق على أنها لا تؤثر على الماء (¬6). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في قولٍ (¬7)، والشافعية في قول (¬8)، والحنابلة في وجه (¬9)، فقالوا بأنه لا يتطهر بهذا الماء. ولم أجد لهم دليلًا إلا التعليل بالتغير، فما دام أنه تغير؛ فقد خرج عن أوصاف الماء المطلق، فلا يكون طهورًا.Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، ويظهر مما سبق شهرة الخلاف وكثرته، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[15 - 15] ماء البحر طهور
[15 - 15] ماء البحر طهور: إذا أراد المسلم أن يتوضأ، فإن ماء البحر له طهور، وعليه حُكي إجماع العلماء. • من نقل الإجماع: الشافعي (204 هـ) حيث يقول: "أرأيت رجلًا بال في البحر، أينجس بوله ماء البحر؟ فإن قال: لا، قيل: ماء البحر ماء دائم، وقيل له: أفتنجس المصانع الكبار؟ فإن قال: لا، قيل: فهي ماء دائم، وإن قال: نعم، دخله عليه ماء البحر، فإن قال: وماء البحر ينجس؛ فقد خالف قول العامة مع خلافه السنة" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتيا بالأمصار من الفقهاء، أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء جائز به، إلا ما روي عن عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، فإنه روي عنهما أنهما كرها الوضوء من ماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك، ولا عرض عليه ولا التفت إليه" (¬2). وقال: "فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور، . . وهذا إجماع من علماء الأمصار الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى" (¬3). الباجي (474 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في جواز التطهير بماء البحر، إلا ما يروى عن عبد اللَّه بن عمر" (¬4). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها، مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافًا في الصدر الأول شاذًا" (¬5)، وهذا يعني أنه يرى أن خلافهم غير معتبر، حيث حكم عليه بالشذوذ. ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ما يجوز الوضوء به رواية واحدة، وهو أربعة أنواع: أحدها: ما أضيف إلى محله ومقره، كماء النهر والبئر وأشباههما؛ فهذا لا ينفك منه ماء، وهي إضافة إلى غير مخالط، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم" (¬6). ¬
ويقول: "قد دلت هذه المسألة على أحكام، منها: إباحة الطهارة بكل ماء موصوف بهذه الصفة التي ذكرها، على أي صفة كان من أصل الخلقة، من الحرارة والبرودة، والعذوبة والملوحة، نزل من السماء، أو نبع من الأرض، في بحر أو نهر أو بئر أو غدير أو غير ذلك. . . وهذا قول عامة أهل العلم؛ إلا أنه حكي عن عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عمرو، أنهما قالا في البحر: التيمم أعجب إلينا منه، هو نار، وحكاه الماوردي (¬1) عن سعيد بن المسيب" (¬2). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "والبحر لا ينجسه شيء بالنص والإجماع" (¬3). ونقله عنه ابن قاسم (¬4). الحطاب (954 هـ) حيث يقول: "وكذا ما قيد بإضافة لمحله كماء البحر، ولا خلاف في جواز التطهير به، وإن كان قد حكى عن ابن عمر كراهة الوضوء به؛ فقد انعقد الإجماع على خلافه" (¬5). الخرشي (1101 هـ) حيث يقول: "ودخل في تعريف المؤلف للمطلق - أي الماء المطلق - ما إضافته بيانية كماء المطر. . .، والبحر، فقد انعقد الإجماع على جواز التطهير به" (¬6). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول عن أقوال الصحابة المخالفة: "ولا حجة في أقوال الصحابة، لا سيما إذا عارضت المرفوع والإجماع" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع أبو بكر، وعمر، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم- (¬8)، والحنفية (¬9). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى شرط جواز التيمم بعدم الماء، والماء مطلق هنا، فما يطلق عليه ماء؛ يجوز التطهر به سواء كان عذبًا أو مالحًا، ومن خصص فعليه بالدليل، ¬
ولا دليل مخصص، فبقي الحكم على الأصل المبيح، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬1). • وجه الدلالة: حيث نص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على طهورية ماء البحر، ولا عبرة بالاجتهاد بمقابل النص (¬2). • الخلاف في المسألة: روي الخلاف في هذه المسألة عن عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهم-، وأبي العالية (¬3)، وابن المسيب (¬4)، ونسب الترمذي مسألة الباب إلى أكثر الفقهاء، ثم نقل القول المخالف ونسبه لبعض الصحابة (¬5). وقد أشار ابن حزم لوجود خلاف في هذه المسألة (¬6). واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12]، فمنعه من التسوية بينهما يمنع من تساوي الحكم في الطهارة بهما (¬7). وبعد طول بحث في هذه المسألة، لم أجد من قال بهذا القول غير هؤلاء الخمسة، ¬
[16 - 16] ماء السماء طهور
بل صرح ابن عبد البر بأنه لم يتابعهم أحد من علماء الأمصار (¬1)، مما يعني أن قولهم اندرس بعد ذلك، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع غير متحقق في الصدر الأول بلا إشكال، ولكن هناك من قال بتحققه بعد ذلك كما سبق. وبهذا يكون قد تحقق الإجماع بعد الخلاف، وقد اختلف الأصوليون على قولين في هذه المسألة، والصحيح أنه إجماع ظني معتبر، تحرم مخالفته ويجب العمل به على من أخذ بهذا القول (¬2)، واللَّه تعالى أعلم. [16 - 16] ماء السماء طهور: الماء الذي ينعم اللَّه تعالى به على الناس فينزله من السماء، لا شك أنه طهور، يُتطهر وينتفع به، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا على جواز الطهارة بماء السماء" (¬3). الخرشي (1101 هـ) حيث يقول: "ودخل في تعريف المؤلف للمطلق - أي الماء المطلق - ما إضافته بيانية كماء المطر، . .، والبحر، فقد انعقد الإجماع على جواز التطهير به" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. 2 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى علل إنزال الماء من السماء للتطهير، وفي الآية ¬
[17 - 17] جواز استعمال الماء الجاري في الطهارة
الأخرى وصف الماء الذي ينزله من السماء بأنه طهور، مما يدل على طهارة ماء السماء، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [17 - 17] جواز استعمال الماء الجاري في الطهارة: الماء الجاري هو ما يقابل الدائم والراكد، فإن استعماله في الوضوء جائز، وقد قيد ابن حزم المسألة بما لم تظهر في نجاسة، وهو قيد مهم. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "فأما الجاري؛ فاتفقوا على جواز استعماله، ما لم تظهر فيه نجاسة" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية في قول (¬4)، والحنابلة في قول (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. 2 - حديث أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه" (¬6). • وجه الدلالة: أن الأصل في الماء أنه طهور ما لم يتغير، هذا ما يدل عليه النصان السابقان، والماء الجاري غير المتغير ينطبق عليه هذا الاستدلال، واللَّه تعالى أعلم. 3 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال عليه الصلاة والسلام: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" (¬7). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرق بين الماء الدائم والجاري، فمنع من البول في الماء الدائم لمن أراد الاغتسال، فدل بمفهوم الصفة على أن الجاري لا يتأثر (¬8). ¬
[18 - 18] الطهارة بغير الماء المطلق غير جائزة
• الخلاف في المسألة: نقد ابن تيمية هذا الاتفاق؛ بأن الشافعي في الجديد (¬1)، وأحمد في قول له (¬2) قالا: بأن الجاري كالراكد، في اعتبار القلتين؛ فينجس ما دون القلتين من الماء الجاري بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغير (¬3). واستدلوا بمفهوم حديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬4)، فإنه لم يفصل فيه بين الماء الجاري والراكد؛ فدل على أن حكمهما سواء ما لم يكن قلتين (¬5).Rأن الاتفاق غير متحقق، فيما إذا كان الماء الجاري أقل من قلتين، وأما ما زاد على ذلك؛ فلم أجد فيه خلافًا، والاتفاق فيه متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [18 - 18] الطهارة بغير الماء المطلق غير جائزة: إذا توضأ الإنسان من غير الماء المطلق، بأن توضأ بشيء يطلق عليه ماء بالإضافة، كماء الورد أو ماء الشجر أو ماء العصفر، فإن هذا الوضوء غير جائز. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الوضوء لا يجوز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق، يقع عليه اسم الماء" (¬6). ونقله عنه ابن قدامة (¬7)، والنووي (¬8)، وابن قاسم (¬9). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا أنه لا يجوز وضوء بشيء من المائعات وغيرها، حاشا الماء والنبيذ" (¬10). الغزالي (505 هـ) حيث يقول: "والطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، ¬
أما في طهارة الحدث فبالإجماع، . .، " (¬1). نقله النووي، وتعقبه بقول ابن أبي ليلى (¬2)، وابن قاسم (¬3). الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولو توضأ بالماء المقيد كماء الورد ونحوه لا يصير مستعملًا بالإجماع؛ لأن التوضؤ به غير جائز، فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة" (¬4). حيث لم يحسب الوضوء به وضوءًا. ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ومنها: أن المضاف لا تحصل به الطهارة، وهو على ثلاثة أضرب؛ أحدها: ما لا تحصل به الطهارة رواية واحدة، وهو على ثلاثة أنواع؛ أحدها: ما اعتصر من الطاهرات كماء الورد، وماء القرنفل، وما ينزل من عروق الشجر إذا قطعت رطبة". . .، ثم قال: "فجميع هذه الأنواع لا يجوز الوضوء بها، ولا الغسل، لا نعلم فيه خلافًا، إلا ما حكي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة، أنها طهور يرتفع بها الحدث، ويزال بها النجس، ولأصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلاء المغلي، وسائر من بلغنا قوله من أهل العلم على خلافهم" (¬5). الزيلعي (743 هـ) حيث يقول: "اعلم أن الاتفاق على أن الماء المطلق تزال به الأحداث؛ أعني ما يطلق عليه ماء، والمقيد لا يزيل؛ لأن الحكم منقول إلى التيمم عند فقد المطلق في النص" (¬6). ونقل عبارته ابن الهمام (861 هـ) بنصها دون إشارة (¬7). العيني (855 هـ) حيث يقول: "ولو توضأ بماء الورد، لا يصير مستعملًا إجماعًا" (¬8). حيث لم يحسب الوضوء به وضوءًا. ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وقد علمت أن العلماء اتفقوا على جواز الوضوء بالماء المطلق، وعلى عدم جوازه بالماء المقيد" (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬10). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أوجب الوضوء بالماء، و (ماء) هنا مطلقه، فمن لم ¬
يجد الماء المطلق فيصير للتيمم، ولم يقل: إنه يلجأ إلى غير الماء المطلق، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره (¬1)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: نُقل الخلاف في هذه المسألة كما سبق عن ابن أبي ليلى، والأصم، وقد عقَّب الإمام النووي على نقل الغزالي للإجماع؛ بأنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه (¬2)، وعلى قول الأصم؛ بأنه لا يعتد بخلافه (¬3). ونقد ابن تيمية نقل ابن حزم للإجماع في هذه المسألة؛ بحكاية قول ابن أبي ليلى والأصم (¬4). ونقل المرداوي في "الإنصاف" قولًا عن ابن تيمية في هذه المسألة، وأنقله بنصه، حيث قال: "الطريق الثالث: أنه ينقسم -أي الماء- إلى قسمين: طاهر طهور، ونجس. وهي طريقة الشيخ تقي الدين، فإن عنده أن كل ماء طاهر تحصل الطهارة به، وسواء كان مطلقًا أو مقيدًا، كماء الورد ونحوه. نقله في "الفروع" عنه في باب الحيض" (¬5). وبعد مراجعة كلام ابن مفلح في الفروع، وجدت كلامه غير دال على ذلك، وهذا هو نص كلامه: "وعند شيخنا -يعني ابن تيمية- ما أطلقه الشارع عمل بمطلق مسماه ووجوده، ولم يجز تقديره وتحديده بعده؛ فلهذا عنده الماء قسمان: طاهر طهور، ونجس" (¬6)، ثم عاد إلى الحديث عن مسائل الحيض. وهذا ليس فيه تصريح بما ذكره المرداوي رحمه اللَّه. وبعد التأمل ومراجعة كلام ابن تيمية في المسألة، وجدت أنه قال بقول قريب من هذا في مسألة مشابهة، ولعله اشتبهت عليه المسألتان. فهو يقصد إذا اختلط بالماء شيء من المائعات كالدهن والكافور ونحو ذلك، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم تختلف عما نحن بصدده (¬7)، أو اختلط بشيء من الطاهرات كالزعفران والأشنان والحمص وغير ذلك (¬8). ¬
[19 - 19] الطهارة بالمائعات سوى الماء غير جائزة
فتلك اختلفوا فيها؛ لأنها قد يشملها اسم الماء المطلق على الخلاف بينهم، ولكن هذه لا يشملها، فلا يقول إنسان لماء ورد: هذا ماء، ويسكت، وكذا ما شابهه، واللَّه أعلم (¬1). ولكن بعد مزيد من البحث وجدت أن البعلي في "الإختيارات"، قد نقل هذا القول عنه، فقال: "وتجوز طهارة الحدث بكل ما يسمى ماء، وبمعتصر الشجر، قاله ابن أبي ليلى، والأوزاعي، والأصم، وابن شعبان" (¬2). هذا ما نقله عنه، ولم أجد من يؤكد هذا الزعم. ونقل الإمام ابن القيم دعوى هذا الإجماع، ونقده بأنه ليس فيه إجماع، ونقل قول الحسن بن صالح بن حي، وحميد بن عبد الرحمن في الخل، حيث قالوا: يجوز الوضوء بالخل (¬3). وهناك مسألة أخرى، ولكنها قد تعتبر من نواقض هذا الإجماع المحكي، وهي: ما لو سال الماء من الثمر أو الشجر بدون عصر، فقد صرح بجواز الوضوء به صاحب "الهداية" المرغيناني الحنفي، وقد تفرد بذلك (¬4). وخالف ابن حزم رحمه اللَّه في الماء الذي طُبخ فيه، كالفول والحمص والترمس واللوبيا ما دام يقع عليه اسم الماء، فيجوز الوضوء به (¬5). وخالف الحنفية أيضًا، في ماء الزعفران والصابون والأشنان، ولكن بشرط عدم سلب اسم الماء عنه (¬6).Rأن الإجماع غير متحقق؛ حيث نقل الخلاف عن ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وحميد بن عبد الرحمن، وما نقل عن ابن تيمية، وكذلك قول ابن حزم، والمرغيناني، وكل ما سبق يبين وجود الخلاف في المسألة بما لا يدع مجالًا للشك، واللَّه تعالى أعلم. [19 - 19] الطهارة بالمائعات سوى الماء غير جائزة: إذا أراد المسلم الوضوء، ووجد مائعًا من المائعات، فإنه لا يجوز له الوضوء به، ¬
وعليه حُكي الإجماع. وقد تشتبه هذه المسألة بالمسألة السابقة (الوضوء بغير الماء المطلق غير جائزة)، والفرق هو: أن تلك المسألة يطلق على المائع فيها اسم الماء، ولكن بالإضافة، فيقال: ماء الورد، وماء الزعفران. أما هذه المسألة، فالمقصود المائعات التي لا يطلق عليها اسم الماء مطلقًا، إلا من حيث السيولة فقط، مثل القهوة والنبيذ واللبن. .، سواء كانت ماء تغير بمخالطة طاهر، أو طبخ فيه طاهر (¬1). ويستثنى من هذه المسألة النبيذ، حيث وقع فيه خلاف مشهور، أما غيره من المائعات فداخل في هذه المسألة. ويؤكد هذا التقسيم أن ابن المنذر فصل هاتين المسألتين، وكذلك فقول ابن أبي ليلى السابق هو في المعتصر فقط كماء الشجر والورد ونحوهما (¬2). وقد جعلهما بعض العلماء واحدة (¬3)، ورأيت أن أفصل بينهما؛ نظرًا لاختلافهما، واللَّه تعالى أعلم. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه لا يجوز الاغتسال، ولا الوضوء بشيء من الأشربة سوى النبيذ" (¬4). ونقل القرطبي نحو هذه العبارة، دون أن يشير أنها لابن المنذر (¬5). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا أنه لا يجوز وضوء بشيء من المائعات وغيرها، حاشا الماء والنبيذ" (¬6). الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "وأما ما سوى الماء من المائعات الطاهرة، فلا خلاف في أنه لا تحصل بها الطهارة الحكمية، وهي زوال الحدث" (¬7). ¬
ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول "فصل: فأما غير النبيذ من المائعات غير الماء؛ كالخل، والمرق، واللبن، فلا خلاف بين أهل العلم -فيما نعلم- أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). ابن مفلح (884 هـ) حيث يقول عن الطاهر: "وهو قسمان: أحدهما غير مطهر بالإجماع، وهو ما خالطه طاهر يمكن أن يصان الماء عنه، . .، والأول ثلاثة أنواع: ما خالطه طاهر فغير اسمه، بأن صار صبغًا أو خلًّا؛ لأنه أزال عنه اسم الماء، أو غلب على أجزائه فصيره حبرًا، . .، أو طبخ فيه فغيره حتى صار مرقًا كماء الباقلاء" (¬3). ونقله عنه ابن قاسم (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، والحسن، فيما حكي عنهما في اللبن (¬5)، والشافعية (¬6). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. 2 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أثبت الطهورية للماء المطلق، وهذه المائعات لا يقع عليها اسم الماء المطلق؛ فلا يجوز الوضوء بها؛ لأنها ليست ماء (¬7)، واللَّه أعلم. • الخلاف في المسألة: سبق النقل عن الإمام ابن القيم حيث نقد دعوى الإجماع في المسألة الماضية، وقال: ليس فيه إجماع، ونقل عن الحسن بن صالح بن حي وحميد ابن عبد الرحمن أنهما يقولان بجواز الوضوء بالخل (¬8)، وهذا نقض لدعوى الإجماع في المسألتين؛ حيث إن الخل لا يقال فيه ماء، فما يطلق عليه ماء بالإضافة يدخل من باب أولى حيث لا يطلق عليه ماء أصلًا. ونقل البعلي في "اختيارات ابن تيمية" (¬9) عنه القول بأن المائعات كلها حكمها حكم الماء، قلت أو كثرت، وهو رواية عن ¬
[20 - 20] طهارة الماء الملاقي لمحل طاهر
أحمد (¬1)، ومذهب الزهري، والبخاري (¬2)، وحكي رواية عن مالك (¬3). ووجدت كلامًا له نحوه (¬4)، غير أنه ليس فيه توضيح، هل هو يقصد أن حكمها كالماء في الوضوء والغسل، أو أنه يقصد في التنجس والطهارة؟ حيث أخذ يتحدث عن مسألة الدهن الجامد والمائع، وتنجسه من سقوط فأر وعدمه، فالكلام غير واضح، واللَّه تعالى أعلم. وعلى كل حال فالمسألة حكي فيها الخلاف، فليست محل إجماع.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود الخلاف المحكي في المسألة، سواء ثبت خلاف ابن تيمية أو لا، وذلك لخلاف الحسن بن صالح، وحميد بن عبد الرحمن، وسبق شبهه عن ابن أبي ليلى في المعتصر، والخلاف في المطبوخ، حيث إن الخلاف هناك يجري هنا لقيام نفس العلة، فالكل ليس ماء مطلقًا، والكل من المائعات، واللَّه تعالى أعلم. [20 - 20] طهارة الماء الملاقي لمحل طاهر: الماء الطاهر إذا لاقى محلًّا طاهرًا ليس بنجس فإن الماء يبقى على طهوريته، هذا ما تبينه هذه المسألة. والمقصود هنا هو: أن الماء الطاهر إذا لاقى محلًّا جامدًا طاهرًا، كالإناء والكأس والصخرة والتراب ونحو ذلك. • من نقل الإجماع: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "والماء الطاهر إذا لاقى محلًا طاهرًا؛ لم ينجس بالإجماع" (¬5). ونقل ابن قاسم هذه العبارة دون إشارة (¬6). العيني (855 هـ) حيث يقول: "الماء المستعمل ثلاثة أنواع: نوع طاهر بالإجماع كالمستعمل في غسل الأعيان الطاهرة. . . " (¬7). ¬
[21 - 21] طهورية الماء المستعمل من طاهر لغير قربة
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬1)، والشافعية (¬2). • مستند الإجماع: هذه المسألة من البدهيات التي تدرك بالعقل، فالماء لا يقدَّم أصلًا إلا في إناء طاهر، ولا يشرب إلا في كأس ونحو ذلك. ولو قلنا بتنجسه أو عدم طهارته لهذا السبب؛ لأصبح مناقضًا للعقل، وجالبًا لمشقة كبيرة. ويمكن أن يستدل أيضًا بالآية الكريمة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن المشروع بنص الآية عدم العدول عن الماء في الوضوء، إلا بعدم وجوده، والماء الملاقي لمحل طاهرٍ هو طاهر في الأصل، ولاقى محلًّا طاهرًا، ولم يغيِّر فيه شيئًا، ولم يستخدم في رفع حدث، ولا إقامة قربة؛ فتنطبق عليه شروط الماء الطهور؛ فكان طهورًا.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [21 - 21] طهورية الماء المستعمَل من طاهرٍ لغير قُربة: الماء الطاهر إذا استعمله إنسان في غير رفع الحدث وإقامة القربة، فإن هذا الاستعمال لا يغير من حكم الماء في شيء. وهنا قيد مهم، وهو: أن يكون هذا المستعمِلُ للماء طاهرًا غير محدث، وإلا أصبح الكلام عن المسألة الخلافية المعروفة، وهي حكم الماء المستعمل في الوضوء أو الغسل (¬3). وهناك قيد آخر، وهو أن يكون الماء قليلًا، فأما ما زاد عن ذلك، فغير داخل؛ حيث إنه لا ينجس (¬4). وعبارة (لغير قربة) في عنوان المسألة؛ لكي تُخْرج أمرين: 1 - الاستعمال لإزالة الحدث. 2 - الاستعمال لإقامة قربة، حتى ولو لم يكن وضوءًا كاملًا، كمن غسل يديه بعد الاستيقاظ بنية القربة. ¬
• من نقل الإجماع: الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولو توضأ أو اغتسل للتبرد؛ فإن كان محدثًا؛ صار الماء مستعملًا، عند أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والشافعي؛ لوجود إزالة الحدث، وعن محمد لا يصير مستعملًا؛ لعدم إقامة القربة، وإن لم يكن محدثًا؛ لا يصير مستعملًا بالاتفاق، على اختلاف الأصول" (¬1). ويقول أيضًا: "فإن كان طاهرًا وانغمس لطلب الدلو أو للتبرد؛ لا يصير مستعملًا بالإجماع؛ لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة" (¬2). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا تختلف الرواية أن ما استُعمل في التبرد والتنظيف، أنه باق على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافًا" (¬3). ونقله عنه ابن قاسم (¬4). أبو بكر الحدادي الحنفي (800 هـ) حيث يقول: "وإذا توضأ الطاهر، ولم ينوها؛ لا يصير مستعملًا إجماعًا" (¬5). العيني (855 هـ) حيث يقول: "ولو توضأ متوضئ للتبرد؛ لا يصير الماء مستعملًا بالإجماع" (¬6). ونقل ابن نجيم هذه العبارة دون إشارة (¬7). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول -في سياق كلام له-: "لأن الطاهر -أي الرجل- إذا انغمس لطلب الدلو، ولم يكن على أعضائه نجاسة، لا يصير الماء مستعملًا اتفاقًا؛ لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة" (¬8). الرحيباني (1243 هـ) حيث يقول: "وكاستعمال الماء في تبرد وتنظف، فلا يصير الماء مستعملًا في ذلك، ولا يكره استعماله بعد ذلك اتفاقًا" (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية على المشهور ¬
[22 - 22] طهارة الندى الباقي على أعضاء المتطهر
عندهم (¬1)، والشافعية (¬2)، وابن حزم (¬3). • مستند الإجماع: حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه" (¬4). • وجه الدلالة: أن الأصل في الماء الطهارة؛ إلا أن يتغير، وهذا الماء طاهر، ولم يستعمل في رفع حدث أو إقامة قربة، أشبه الماء الطاهر الذي غسل به ثوب طاهر (¬5). • الخلاف في المسألة: نقل الحطاب رحمه اللَّه قولًا لأصبغ؛ بأنه يترك هذا الماء ويتيمم، فإن صلى به؛ أعاد أبدًا، وقال: "وسواء عنده توضأ به الأول محدثًا أو مجددًا، أو غسل به ثوبًا طاهرًا" (¬6). ونقل السرخسي عن الطحاوي رحمه اللَّه، بأنه قال: إذا تبرد بالماء صار الماء مستعملًا. وعلق عليه بقوله: "وهذا غلط منه، إلا أن يكون تأويله؛ إن كان محدثًا فيزول الحدث باستعمال الماء، وإن كان قصده التبرد فحينئذ يصير مستعملًا" (¬7).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود الخلاف المعتبر في المسألة، أما ما نقل عن أصبغ، فلم أجد من قال بقوله، ولم يتابعه أحد من المالكية أو غيرهم، فهو شذوذ منه رحمه اللَّه، واللَّه تعالى أعلم. [22 - 22] طهارة الندى الباقي على أعضاء المتطهر: الندى أو البلل الباقي على عضو المتطهر، حكمه أنه طاهر، وقد حكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضئ والمغتسل، وما قطر منه على ثيابهما طاهر؛ دليل على طهارة الماء المستعمل" (¬8). نقله عنه ابن حجر (¬9). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول في معرض استدلاله لمن قال بطهورية الماء ¬
[23 - 23] طهارة ما قطر من أعضاء المتطهر على الثياب
المستعمل: "لأنه إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ به نجاسة؛ فهو ماء طاهر بإجماع" (¬1). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "فإن غسل البدن من الماء المستعمل لا يجب بالاتفاق" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند الإجماع: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم أنهم كانوا يغسلون أبدانهم بعدما يتوضؤون (¬7). • وجه الدلالة: حيث إذا كان يجب غسل الماء المستعمل من البدن؛ فلِمَ لم يفعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أصحابه، ولم ينقل عنهم؛ فدل ذلك على عدم وجوبه؛ إذ الحاجة تدعو لنقله لو ثبت، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق في طهارة الندى الباقي على العضو؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [23 - 23] طهارة ما قطر من أعضاء المتطهر على الثياب: الندى أو البلل الباقي على عضو المتطهر، الذي يقطر من العضو على الثوب طاهر، لا يؤثر في طهارة الثوب. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقى على أعضاء المتوضئ والمغتسل، وما قطر منه على ثيابهما طاهر؛ دليل على طهارة الماء المستعمل" (¬8). نقله عنه ابن حجر (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية في رواية (¬10)، ¬
[24 - 24] الانتفاع بالماء المستعمل في غير الطهارة
والمالكية (¬1)، والحنابلة على المشهور (¬2)، وابن حزم (¬3). • مستند الإجماع: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم أنهم كانوا يغسلون ثيابهم عندما يصيبهم أثر من الوضوء (¬4). • وجه الدلالة: حيث إذا كان يجب غسل الماء المستعمل من الثوب؛ فلِمَ لم يفعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أصحابه، ولم ينقل عنهم؛ فدل ذلك على عدم تأثره؛ إذ الحاجة تدعو لنقله لو ثبت، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة أبو حنيفة في رواية أبي يوسف والحسن بن زياد (¬5)، والحنابلة في رواية (¬6)، فقالوا: بنجاسة ما يقطر من العضو على الثوب (¬7). وأصل هذا القول؛ عند الحديث عن الماء المستعمل، ما حكمه؟ فهناك رواية لأبي حنيفة (¬8)، ورواية لأحمد (¬9) بأنه نجس، ومن ثم يجب غسله من البدن. بل هناك رواية عن أبي حنيفة، بأن الماء المستعمل مغلَّظ النجاسة (¬10)، فلا بد إذًا من غسلها، ما دامت مغلظة النجاسة. واستدلوا بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من جنابة" (¬11). قالوا: والبول ينجس الماء، فكذا الاغتسال؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد نهى عنهما جميعًا، أي أنه يدل على المساواة بينهما (¬12)، فالماء المستعمل في طهارة نجس.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [24 - 24] الانتفاع بالماء المستعمل في غير الطهارة: إذا كان لدى المسلم ماء مستعملًا في طهارة، وأراد أن يستعمله في شرب أو طبخ أو غيره، فإن ذلك جائز. ¬
• من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه الماء المستعمل -منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والعجن والتبرد ونحوها، مع جوازها به بالاتفاق" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية على القول بطهارة الماء المستعمل، وعلى القول بنجاسته نجاسةً خفيفةً (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. • وجه الدلالة: حيث إن الآية تدل على أن الأصل في الماء الطهورية، وهذا الماء لم يتغير بحيث أصبح لا يسمى ماء، فيبقى على أصله فيكون طاهرًا، ويجوز استعماله، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الأصل في استعمال الماء الإباحة، وهذا الماء المستعمل يشمله هذا الحكم، ولا يخرج من هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل يخرجه من هذا الأصل، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: يقول الشوكاني رحمه اللَّه: "الإجماع على إضاعته وعدم الانتفاع به -أي الماء المستعمل-" (¬6). وهذا الكلام يصادم كلام النووي السابق تمامًا، ولكن -واللَّه أعلم- أن الشوكاني رحمه اللَّه لا يقصد مسألتنا، بل يقصد مسألة الماء المستعمل في الطهارة. ويظهر أيضًا أنه لا يقصد الإجماع الاصطلاحي، بل يقصد العادة، حيث جرت عادة الناس جميعهم على عدم الاستفادة من الماء الذي يسقط من اليد مثلًا بعد الوضوء، ولا يقصد الإجماع الاصطلاحي، إذ الخلاف في هذه المسألة مشهور. وحتى نتأكد من ذلك؛ فالشوكاني ساق هذا الكلام في معرض الاستدلال لأبي حنيفة ومن معه على نجاسة الماء المستعمل، ثم أجاب على أدلتهم، وأجاب عن هذا الاستدلال بقوله: "وعن الثاني -أي الدليل الثاني- بأن الإضاعة لإغناء غيره عنه، لا ¬
[25 - 25] عدم جواز الوضوء بالنبيذ المشتد
لنجاسته" (¬1)، وبهذا يتأكد ما قلناه، واللَّه تعالى أعلم. خالف أبو حنيفة في رواية الحسن (¬2)، فقال بعدم جواز الانتفاع بالماء المستعمل على كل حال. وذلك لأن الماء المستعمل نجس نجاسة غليظة، وهو لا يجوز استعماله لتنجيسه الطاهر (¬3). وقد قال الحنابلة بنجاسة المستعمل في رواية (¬4)، ونص عليه أحمد في ثوب المتطهر (¬5)، غير أنهم لم يذكروا تفصيلًا لهذه الرواية.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [25 - 25] عدم جواز الوضوء بالنبيذ المشتد: القول بجواز الوضوء بالنبيذ مشهور عن أبي حنيفة رحمه اللَّه، ولكن إذا اشتد النبيذ، فأصبح مسكرًا، فإنه يتفق مع الجماهير من العلماء، فيكون إجماعًا بعدم جواز الوضوء به. • من نقل الإجماع: ابن العربي (543 هـ) حيث يقول: "فإن كان النبيذ مطبوخًا مشتدًّا، فلا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الوضوء به، حتى جاز من أبي حنيفة" (¬6)، وهو يريد أن أبا حنيفة خرق الإجماع، ولكن الصورة التي ذكرها ابن العربي لم يخالف فيها أبو حنيفة، بدليل كلام البابرتي، والعيني الآتيان، وهما من كبار الحنفية. البابرتي (786 هـ) حيث يقول: "وما اشتد منها، وصار مرًّا؛ لا يجوز الوضوء به بالإجماع؛ لأنه صار مسكرًا حرامًا" (¬7). ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "ووجه احتجاج البخاري به (¬8) في هذا الباب (¬9)، ¬
[26 - 26] الطهارة المتيقنة للماء لا تزول بالشك
أن المسكر لا يحل شربه، وما لا يحل شربه؛ لا يجوز الوضوء به اتفاقًا" (¬1). العيني (855 هـ) حيث يقول في "شرحه للهداية": "وما اشتد منه صار حرامًا، لا يجوز التوضؤ به -أي لا يجوز الوضوء به- إجماعًا؛ لأنه صار مسكرًا حرامًا" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. 2 - قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قيد الوضوء بالماء، فإن لم يوجد فالتيمم، ولم يقل: توضؤوا بأي مائع آخر؛ فدل على اشتراط كون المُتوضَأ به ماء، واللَّه تعالى أعلم. 3 - حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: وما هي؟ قال: البِتْع والمِزْر، فقيل للراوي: وما البتع؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير. فقال: "كل مسكر حرام" (¬5). • وجه الدلالة: حيث إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم النبيذ، وذكر قاعدة تشمل كل ما أسكر؛ فهو داخل في نفس الحكم، فإذا كان شربه حرامًا؛ فالوضوء به من باب أولى.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [26 - 26] الطهارة المتيقنة للماء لا تزول بالشك: إذا تيقن المسلم طهارة الماء، ولكنه شك في نجاسته، فإنه يتوضأ به، ولا يعتبر الشك. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا قول الماتن: "إذا تيقن طهارة الماء، وشك في نجاسته، توضأ به، هذه الصور الثلاث متفق عليها" (¬6)، وهذه ¬
هي الصورة الأولى. القرافي (684 هـ) حيث يقول: "والغالب لا يترك للنادر، وبقي الشك غير معتبر إجماعًا" (¬1). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول عن البئر الذي سقطت فيه ميتة ولم يُعلم ذلك: "وإن لم يعلم فقد صار الماء مشكوكًا في طهارته ونجاسته، فإذا توضؤوا منها وهم متوضئون، أو غسلوا ثيابهم من غير نجاسة، فإنهم لا يعيدون إجماعًا؛ لأن الطهارة لا تبطل بالشك" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬3). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شُكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬4). • وجه الدلالة: حيث جعل الأصل عدم خروج شيء، ولا ينتقل منه إلا بيقين، وهو سماع الصوت، أو وجود الريح. وهذا يؤسس لقاعدة: اليقين لا يزول بالشك، التى هى من القواعد الخمس الكلية الكبرى (¬5). فالأصل إذًا أنه طاهر، ويبقى على هذا الأصل وهو الطهارة، حتى يثبت الضد، فيكون طاهرًا إذًا (¬6).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. * * * ¬
[27 - 27] الماء المتيقن نجاسته لا تزول بالشك
[27 - 27] الماء المتيقن نجاسته لا تزول بالشك: إذا تيقن المسلم نجاسة الماء، وشك في طهارتها، فإنه لا يتوضأ بهذا الماء. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا قول الماتن: "وإن تيقن نجاسته، وشك في طهارته، لم يتوضأ به، هذه الصور الثلاث متفق عليها" (¬1)، وهذه الصورة الثانية. القرافي (684 هـ) حيث يقول: "والغالب لا يترك للنادر، وبقي الشك غير معتبر إجماعًا" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: 1 - أن الأصل بقاء الماء على النجاسة المتيقنة، وأما الشك فلا عبرة به (¬5). 2 - أن الشيء إذا كان على حال، فانتقاله عنها يفتقر إلى عدمها، ووجود الأخرى وبقاؤها وبقاء الأولى لا يفتقر إلا إلى مجرد البقاء، فيكون أيسر من الحديث وأكثر، والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب، وهو أن الماء على نجاسته (¬6). وهذا الدليل يصلح للمسألتين الأولى والثانية، على حد سواء.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [28 - 28] طهورية الماء غير المتيقن طهارته ولا نجاسته: إذا لم يتيقن المسلم طهارة الماء ولا نجاسته، فإنه يتوضأ بهذا الماء، والأصل طهارته. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا قول الماتن: "وإن لم يتيقن طهارته، ولا نجاسته، توضأ به، هذه الصور الثلاث متفق عليها" (¬7)، وهذه الصورة ¬
[29 - 29] المشتبه عليه في طهور وغيره يتوضأ منهما ويصلي مرة
الثالثة. • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). • مستند الاتفاق: أن الأصل طهارة الماء، ولا ينتقل منه إلا بدليل ولا يوجد، فتبقى المسألة على هذا الأصل (¬4) وقد جعل النووي هذه المسألة كالمسألة الأولى (¬5)، فالأصل الطهارة وهي المتيقنة، فلا ينتقل منها إلى غيرها إلا بناقل متيقن (¬6).Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [29 - 29] المشتبَه عليه في طهور وغيره يتوضأ منهما ويصلي مرةً: إذا اشتبه على المسلم ماء طهور بماء غير مطهر، فإنه يتوضأ من كل واحد منهما وضوءًا، ويصلي صلاة واحدة. في العنوان (طاهر وغيره)، ولم أقل: ونجس، لأنه ليس مقصودًا، فلو كان كذلك لنجس أحدهما المتوضئ، ولكن المقصود طاهر غير مطهر (¬7). • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وإن اشتبه ماء طهور بماء قد بطلت طهوريته، توضأ من كل واحد منهما وضوءًا كاملًا، وصلى بالوضوءين صلاة واحدة، لا أعلم فيه خلافًا" (¬8). ونقله عنه البهوتي (¬9). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الشافعية (¬10). أما الحنفية، فلم أستطع الوصول إلى كلام لهم في المسألة، مع طول بحث. • مستند نفي الخلاف: أن من توضأ بالإناءين أمكنه أداء فرضه بيقين، من غير حرج فيه، كما لو كان الإناءان طهورين ولم يكفه أحدهما، فإنه يستعمل الآخر، فكذلك هنا (¬11). ¬
[30 - 30] المشتبه عليه بين إناءين ووجد طهورا توضأ به
• الخلاف في المسألة: إذا كان الماء الذي بطلت طهارته من قبيل الماء المستعمل، فلا شك في انتقاض المسألة به؛ حيث بينا فيما سبق مسألة طهارة الماء المستعمل، أن لأبي حنيفة وأحمد روايتين بأن الماء نجس إذا استعمل في الوضوء (¬1)، وهناك رواية لأبي حنيفة أيضًا بأن نجاسته نجاسة مغلظة في هذه الحالة (¬2). فإن كان أحد الماءين من هذا القبيل؛ فلا اتفاق في المسألة. وقد خالف المالكية في قول لهم في مسألة الباب (¬3)، فقالوا: يتوضأ وضوءين، ولكن يصلي صلاتين. واستدلوا بالقياس على من نسي صلاة من خمس، فإنه يؤديها كلها (¬4). وخالف المالكية في قول آخر (¬5)، فقالوا: يتحرى أحدهما فيتوضأ به. واستدلوا بالقياس على التحري في الصلاة عندما تشتبه عليه جهة القبلة (¬6). وخالف المالكية في قول آخر (¬7)، فقالوا: يتيمم ويتركها، ولا يتحرى. واستدلوا بالقياس على الأخت من الرضاع إذا اختلطت بأجنبية (¬8).Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [30 - 30] المشتبه عليه بين إناءين ووجد طهورًا توضأ به: إذا اشتبه على المسلم إناءان، ووجد آخر طهورًا، فإنه يلزمه التوضؤ بالطهور، ولا يجوز له التحري والاجتهاد، ولا التيمم. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "إذا لم يجد ماء غير الإناءين المشتبهين، فإنه متى وجد ماء طهورًا غيرهما توضأ به، ولم يجز التحري، ولا التيمم، بغير خلاف" (¬9). النووي (676 هـ) حيث يقول بعد ذكر صورة المسألة، وأن فيها وجهين لدى ¬
[31 - 31] طهارة الماء الذي دون القلتين بالمكاثرة
الشافعية: "واتفقوا على أنه إذا جوزنا التحري؛ استحب تركه، واستعمال الطاهر بيقين احتياطًا" (¬1). وهو يريد اتفاق الشافعية على الأظهر، ولكن ذكرته للاعتضاد فقط. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬2). أما الحنفية، فلم أجد كلامًا لهم في المسألة. • مستند نفي الخلاف: 1 - أن اليقين متوفر، وهو الماء الطهور، ولا يجوز العدول عن اليقين إلى الظن. 2 - أن من عمل باليقين فقد أسقط الفرض بيقين، بخلاف العامل بالظن، فوجب إسقاط الفرض بيقين، وبطل الاجتهاد في المسألة (¬3). • الخلاف في المسألة: كلام النووي السابق ينقض كلام ابن قدامة، ولكن فيه اتفاق على أقل ما قيل في المسألة (¬4)، فكلاهما ينص على أن الوضوء من الماء الطاهر بيقين مستحب وأفضل، ولكن الخلاف في لزوم الوضوء به. فقد خالف في هذه المسألة الشافعية في الأصح عندهم، فقالوا: بجواز الاجتهاد في هذه الحال (¬5). واستدلوا بأن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كان يسمع أحدهم الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من صحابي آخر، فيعمل به، ولا يفيده إلا الظن، ولا يلزمه أن يأتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيسمعه منه؛ فيحصل له العلم قطعًا (¬6).Rأن نفي الخلاف فى المسألة غير متحقق؛ لوجود المخالف فى المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [31 - 31] طهارة الماء الذي دون القلتين بالمكاثرة: إذا تنجس ماءٌ، وأراد المسلم تطهيره، فإنه يضيف إليه ماءً ليكاثره، حتى يبلغ به ¬
القلتين، ثم يصبح عندئذ طاهرًا (¬1). • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "أما المسألة الأولى، وهي إذا كاثره -أي الماء المضاف إليه- فبلغ قلتين، فيصير طاهرًا مطهرًا بلا خلاف، سواء كان الذي أورده عليه طاهرًا أو نجسًا، قليلًا أو كثيرًا" (¬2). المرداوي (885 هـ) حيث يقول شارحًا لمتن "المقنع": "قوله: (وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهَّره، إن لم يبق فيه تغير) وهذا بلا نزاع، إذا كان المتنجس بغير البول والعذرة، إلا ما قاله أبو بكر" (¬3). الحطاب (954 هـ) حيث يقول شارحًا لكلامٍ للماتن: "يعني أن الماء إذا تغير بالنجاسة، ثم زال تغيره، فلا يخلو: إما أن يكون بمكاثرة ماء مطلق خالطه، أم لا، فالأول طهور باتفاق" (¬4). • مستند الاتفاق: حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وفي لفظ: "لم ينجس" (¬5). • وجه الدلالة: الحديث فيه أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، والماء النجس إذا أضيف إليه ماء طاهر، فأصبح قلتين، وزال التغير منه؛ انطبق عليه الحديث؛ فيكون دليلًا على طهارته، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة فى هذه المسألة في احتمال؛ بأنه يصبح طاهرًا لا طهورًا (¬6). واستدلوا: بأنه استعمل في إزالة النجاسة، فهو ماء مستعمل. وخالف أبو بكر الحنبلي، فقال: إذا انماعت النجاسة في الماء، فهو نجس لا يطهِّر، ولا يطهَّر (¬7). وهذا في حال كون الماء المضاف طاهرًا كثيرًا، والمنجِّس له غير البول والعذرة، كما عبر بذلك المرداوي فيما سبق. ¬
[32 - 32] الماء الذي دون القلتين لا يطهر بأخذ بعضه
أما إذا كان المنجس هو البول والعذرة، فقد اختلف الحنابلة فيه على ثلاثة أقوال: الأول: أنه لا يطهر إلا بإضافة ما لا يمكن نزحه، وهو أكثر من قلتين (¬1). الثاني: أنه لا يطهر إلا إذا بلغ المجموع ما لا يمكن نزحه (¬2). الثالث: أن يطهر بإضافة قلتين طهورين (¬3). وبحثت عن رأي الحنفية في ذلك؛ فلم أجدهم يذكرون سوى النزح للماء (¬4)، ولم يذكروا المكاثرة بعد طول بحث، ثم وجدت الكاساني أشار إليها إشارة سريعة، ونسبها إلى الشافعية، ورد عليهم بأنه فاسد (¬5). وهم يفرقون بين المنجس المائع وغيره، فالعذرة وخرء الدجاج -مثلًا- لا يطهر الماء بالنزح كاملًا، إذا كان بئرًا، وإلا فهو نجس (¬6).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود الخلاف في المسألة، وظاهر من عبارة النووي أنها في المذهب، فلو كان المضاف نجسًا كما قال، لزاد الخلاف في المسألة، ولو كان المضاف قليلًا لزاد الخلاف أيضًا، فهو يذكر مذهب الشافعية فقط، وقد خالفهم في ذلك عدد من أهل العلم، واللَّه تعالى أعلم. [32 - 32] الماء الذي دون القلتين لا يطهر بأخذ بعضه: إذا تنجس ماءٌ دون القلتين، فإنه لا يطهر بأخذ بعضه؛ لأنه ينقص عن القلتين التي لا تحمل الخبث. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا قول الماتن: (وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه (¬7)، إلا بأخذ بعضه، فإنه لا يطهر؛ لأنه ينقص عن قلتين وفيه نجاسة)، قال: "هذا الذي قاله متفق عليه" (¬8). ¬
[33 - 33] التطهر بالماء المسخن جائز
• مستند الاتفاق: حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال عليه الصلاة والسلام: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وفي لفظ: "لم ينجس" (¬1). • وجه الدلالة: الحديث فيه أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، هذا منطوقه، ويدل بمفهومه على أن الماء إذا قلَّ عن ذلك؛ فإنه يحمل الخبث، فإذا نزح منه؛ فبطريق الأولى أنه لا يطهر، وأنه يحمل الخبث (¬2). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية (¬3)، والحنابلة، فقالوا: يطهر بذلك (¬4). وأما الحنفية، فيقولون: لو سقطت فأرة فقط في بئر، فإنه لا يطهر إلا بنزح عشرين دلوًا وجوبًا، فهم يطهرون الماء بالنزح، ولا يذكرون نقصه عن القلتين وزيادته (¬5).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، وهذه من المسائل التي تؤكد أن النووي يستخدم عبارة: الاتفاق في المذهب، إلا أن تدل قرينة أو تصريح بأنه يريد الإجماع في الحكاية، واللَّه تعالى أعلم. [33 - 33] التطهر بالماء المسخن جائز: إذا كان الماء ساخنًا، وأراد المسلم الوضوء منه، فإن تسخينه له جائز. وقال الإمام الشافعي: "لأن الماء له طهارة النار، والنار لا تنجس الماء" (¬6). • من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول عن أثر الوقود في الماء: "فأما الطاهر كالخشب والقصب والشوك، فلا يؤثر باتفاق العلماء" (¬7). ويقول أيضًا: "وأما إذا تيقن طهارته؛ فلا نزاع فيه" (¬8). ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "وأما مسألة التطهر بالماء المسخن، فاتفقوا على جوازه إلا ما روي عن مجاهد" (¬9). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق: عمر، وابن عمر، وابن عباس، ¬
[34 - 34] الماء المسخن بالنجاسة
وسلمة بن الأكوع -رضي اللَّه عنهم-، والحسن (¬1)، والحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الاتفاق: 1 - أن الماء المسخن لا يخرج عن كونه ماءً مطلقًا، فيكون على الأصل، وهو كونه طهورًا (¬5). 2 - أن عمر -رضي اللَّه عنه-، أنه كان يتوضأ بالحميم (¬6)، ولا شك أن مكانة عمر معروفة، ولو كان تسخين أثر لبلغه من كثرة ملازمته للمصطفى عليه الصلاة والسلام. • الخلاف في المسألة: سبق ذكر مخالفة مجاهد، وأنه كره الوضوء بالماء المسخن (¬7)، ولم يُفصل هل الكراهة للتنزيه أو للتحريم. وقال ابن المنذر: "وليس لكراهيته لذلك معنى" (¬8). ولم أجد من تابعه في ذلك أبدًا، ولم أجد له دليلًا، إلا أن يقال: أن الماء المسخن جدًّا قد يعوق المتوضئ من إسباغ الوضوء.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود الخلاف المعتبر في المسألة، ومخالفة مجاهد لا تضر، إذ هي شذوذ، ولم يتابعه عليها أحد، واللَّه تعالى أعلم. [34 - 34] الماء المسخن بالنجاسة: إذا سخن الماء بنجاسة، ولكن لا يتحقق وصول شيء منها للماء، فإن الماء ليس بنجس بالاتفاق. وقد اختلف في هذه المسألة، من حيث الكراهة وعدمها (¬9)، ولكن هذه ليست مسألتنا. والمسخن بالنجاسة ثلاثة أقسام: 1 - أن يتحقق وصول شيء من النجاسة إلى الماء. ¬
[35 - 35] النهي عن غمس يد المستيقظ في الإناء قبل غسلها
2 - أن لا يتحقق وصول شيء منها، ولكن الحائل غير حصين. 3 - أن لا يتحقق وصول شيء منها، والحائل حصين (¬1)، وهذه مسألتنا. • من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "وأما المسخن بالنجاسة، فليس بنجس باتفاق الأئمة، إذا لم يحصل له ما ينجسه" (¬2). ونقله عنه ابن قاسم (¬3). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والشافعية (¬6). • مستند الاتفاق: 1 - أن الماء المطلق طهور، ما لم يتيقن أنه نجس، فالأصل في المياه أنها طهورة، ما لم يأت ناقل متيقن منه، وفي هذه المسألة لم يأت هذا الناقل؛ فنبقى على الأصل أن الماء طهور، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن النجاسة هنا قد استحالت، وأصبحت دخانًا، وهي كالميتة إذا أصبحت ملحًا أو ترابًا لا أثر لها (¬7).Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، ولكن يأتي هنا الخلاف في المسألة السابقة المحكي عن مجاهد، فهو يكره الماء المسخن مطلقًا، وقد ذكرت هناك أنه شذوذ منه رحمه اللَّه، واللَّه تعالى أعلم. [35 - 35] النهي عن غمس يد المستيقظ في الإناء قبل غسلها: إذا استيقظ المسلم من نومه، وأراد الوضوء، فإنه لا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول عن فوائد حديث أبي هريرة الآتي بالمستند: "هذه فوائد من الحديث غير الفائدة المقصودة هنا، وهي النهي عن غمس ¬
اليد في الإناء قبل غسلها، وهذا مجمع عليه" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الإجماع: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثًا؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر المستيقظ من النوم بغسل اليدين قبل إدخالها الإناء، والأمر يتضمن النهي عن مخالفته، فدل على النهي عن غمس اليد بالإناء قبل غسلها (¬7)، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الباب الثاني: مسائل الإجماع في باب الآنية
الباب الثاني: مسائل الإجماع في باب الآنية [1 - 36] تحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب: آنية الذهب والفضة جاءت النصوص في تحريم استعمالها في الأكل والشرب، وقد حكى الإجماع على التحريم عدد من العلماء. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) نقل الإجماع على تحريم الشرب، في آنية الذهب والفضة، إلا عن معاوية بن قرة (¬1). نقل ذلك عنه الشوكاني (¬2). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الشرب بها -أي: آنية الذهب والفضة-" (¬3). وقال أيضًا: "واختلف العلماء في الشرب، في الإناء المفضض، بعد إجماعهم على تحريم استعمال إناء الفضة والذهب في شرب وغيره" (¬4). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن استعمال أواني الذهب، أو الفضة في المأكول، والمشروب، والطيب منهي عنه" (¬5). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، ولا أعلم فيه خلافًا" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وحكى أصحابنا عن داود، أنه قال: إنما يحرم الشرب، دون الأكل والطهارة وغيرهما، وهذا الذي قاله غلط فاحش، ففي حديث حذيفة، وأم سلمة (¬7) من رواية مسلم التصريح بالنهي عن الأكل والشرب كما سبق، ¬
وهذان نصان في تحريم الأكل، وإجماعٌ من قَبل داود حجةٌ عليه" (¬1). وقال بعدها: "قال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضة، إلا ما حكي عن داود، وإلا قول الشافعي في القديم" (¬2). ونقله عنه الصنعاني (¬3)، وابن قاسم (¬4). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "كما في آنية الذهب والفضة؛ فإنهم اتفقوا على أن استعمال ذلك حرام، على الزوجين الذكر والأنثى" (¬5). ونقله عنه ابن قاسم (¬6). الشربيني (977 هـ) حيث يقول: "فيحرم استعماله على الرجل والمرأة والخنثى بالإجماع" (¬7). الرملي (1004 هـ) حيث يقول: "فمن المحرّم؛ الإناءُ من ذهب وفضة بالإجماع، للذكر وغيره" (¬8). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "والحديث يدل على تحريم الأكل والشرب، في آنية الذهب والفضة، أما الشرب فبالإجماع، وأما الأكل فأجازه داود" (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬10)، وابن حزم (¬11). • مستند الإجماع: 1 - حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" (¬12). 2 - حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-، قالت: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الذي يشرب في آنية الفضة، إنما ¬
يجرجر في جوفه نار جهنم" (¬1). • وجه الدلالة: النهي في الحديثين صريح، حيث قال: "لا تشربوا"، "ولا تأكلوا". • الخلاف في المسألة: تلخص لنا من البحث السابق، مخالفة ثلاثة من العلماء، هم: الأول: معاوية بن قرة، ولم يفصل قوله من نقله، غير أني وجدته في "المصنف"، أباح الشرب بإناء الفضة (¬2). الثاني: داود الظاهري، وقد نص من نقل خلافه، أنه يحرم الشرب فقط، ويبيح الأكل وغيره، وليس له في ذلك مستند، غير أن الشوكاني تعذر له، بأنه ربما لم يبلغه الحديث (¬3)، ولم يتابعه على هذا ابن حزم، بل لم يشر لهذا القول إطلاقا (¬4). الثالث: الشافعي في قول قديم، نسبه إليه العراقيون من أصحابه، ونفاه المحققون من الشافعية، إلا أنه محكي عنه، أنه يقول بالكراهة التنزيهية فقط (¬5).Rلا بد من تفصيل المسألة، فأما الشرب في آنية الذهب؛ فلم يثبت فيه خلاف، إلا ما حكي عن الشافعي في القديم، بأنه كراهة تنزيه. ومردود عليه بالوعيد الشديد في الأحاديث، وهو لا يكون إلا في المحرم تحريمًا شديدًا. وعلى أية حال، فقد رجع عنه، ولا يعتبر قولًا له، ما دام قد رجع عنه، ولم يتابعه عليه أصحابه، ولم يفرعوا عليه، كما قال النووي (¬6). وأما الشرب في آنية الفضة؛ فأجازه معاوية بن قرة، وخلافه هنا مصادم للنص مباشرة، وأما خلاف الشافعي؛ فسبقت مناقشته. وأما الأكل فيهما فخالف داود، وخلافه مصادم للنص، وذكر النووي أنه مخالف ¬
[2 - 37] تحريم استعمال آنية الذهب والفضة للرجال والنساء
للإجماع، الذي وقع قبله، ولكن لم أجد من حكى الإجماع قبل داود، فهو متوفى في سنة مائتين وسبعين للهجرة، أي: قبل ابن المنذر، وكذلك الشافعي ومعاوية، ولذا فالأقرب أن يقال: إن المسألة تحقق فيها الإجماع بعد الخلاف، وهي مسألة أصولية معروفة، والأقرب أنه يكون حجة ظنية لا إجماعًا قطعيًا، واللَّه تعالى أعلم. [2 - 37] تحريم استعمال آنية الذهب والفضة للرجال والنساء: تحريم الأكل والشرب في آنية النقدين يشمل الرجل والمرأة، وعلى ذلك حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن هذا التحريم -الاستعمال- في حق الرجال والنساء" (¬1). النووي (676 هـ) حيث يقول: "قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستوي في تحريم استعمال إناء الذهب والفضة الرجال والنساء، وهذا لا خلاف فيه" (¬2). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "كما في آنية الذهب والفضة؛ فإنهم اتفقوا على أن استعمال ذلك حرام، على الزوجين الذكر والأنثى" (¬3). الشربيني (977 هـ) حيث يقول: "فيحرم استعماله على الرجل والمرأة والخنثى بالإجماع" (¬4). الرملي (1004 هـ) حيث يقول: "فمن المحرّم؛ الإناءُ من ذهب وفضة بالإجماع، للذكر وغيره" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، وابن حزم (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تشربوا ¬
[3 - 38] تحريم استعمال الإناء المطلي إذا أمكن فصله
في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" (¬1). 2 - حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-، قالت: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في جوفه نار جهنم" (¬2). • وجه الدلالة: أن هذه الأحاديث عامة، فلم تفرق بين الجنسين، والتخصيص يحتاج إلى دليل ولا دليل يستثني أحدهما، فتبقى عامة (¬3). 3 - أن السبب الذي حرم استعمال آنية الذهب والفضة لأجله موجود في الجنسين، فيكون الحكم شاملا لهما (¬4).Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [3 - 38] تحريم استعمال الإناء المطلي إذا أمكن فصله: إذا طلي الإناء بالذهب أو الفضة، وأمكن فصل الذهب أو الفضة عن الإناء، فإن استعمال الإناء حرام عندئذ، وقد حكى الصنعاني الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "واختلفوا في الإناء المطلي بهما، هل يلحق بهما -أي: إناءي الذهب والفضة- في التحريم أو لا؟ فقيل: إن كان يمكن فصلهما حرم إجماعا؛ لأنه مستعمل للذهب والفضة" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة (¬9). • مستند الإجماع: حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" (¬10). ¬
[4 - 39] جواز استعمال الإناء المضبب
• وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم الأكل والشرب في إناءي الذهب والفضة، كما في هذا الحديث وغيره، والإناء المطلي بأحدهما فيه ذهب وفضة بلا شك، وإذا أمكن فصلهما عنه، فإن الفصل واجب، وإلا سيفضي إلى التساهل في النهي، وإلى التحايل عليه، فمُنِعَ الشرب والأكل إلا بالفصل سدًّا للذريعة، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: الكلام في هذه المسألة من حيث الخلاف، يقال فيه ما قيل عن الخلاف في مسألة استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، وقد سبقت، ومن خالف هناك خالف هنا من باب أولى، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق بعد الخلاف؛ لعدم وجود المخالف في المسألة بعد زمن المخالفين المتقدمين، واللَّه تعالى أعلم. [4 - 39] جواز استعمال الإناء المضبب: إذا كان لدى المسلم إناء مضبب بالذهب أو الفضة، فإنه يجوز له أن يشرب ويأكل فيه، وحكى الصنعاني الإجماع على ذلك. والمضبب هو: ما أصابه شق ونحوه، فيوضع عليه صفيحة تضمه وتحفظه، وتوسع الفقهاء في إطلاق الضبة على ما كان للزينة بلا شق ونحوه (¬1). • من نقل الإجماع: الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "وأما الإناء المضبب بهما، فإنه يجوز الأكل والشرب فيه إجماعا" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬3)، والمالكية في قولٍ (¬4)، والشافعية في الذهب على طريقٍ لديهم، والفضة على قولٍ (¬5)، والحنابلة في قول، على أن تكون الضبة يسيرة، وأن تكون للحاجة (¬6). ¬
• مستند الإجماع: 1 - حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، "أن قدح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- انكسر، فاتخذ مكان الشَّعْب (¬1) سلسلة من فضة" (¬2). • وجه الدلالة: السنة الفعلية في الفضة، وأما الذهب، فبالقياس على الفضة، والأصل استواءهما في الأحكام إلا بدليل، فإن الأصل تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة، وما دام أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رخص في الضبة في الفضة والأصل المنع، دل على عدم جريان المنع في الضبة مطلقا، ومن خصص عليه الدليل، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن هذا القدر من الذهب أو الفضة الذي على الإناء، إنما هو تابع له، والعبرة للمتبوع دون التابع، فلا عبرة بالضبة ولا حكم لها (¬3). • الخلاف في المسألة: خالف الشافعية في طريقٍ (¬4)، بتحريم الذهب قولًا واحدًا، لحاجة ولغيرها، وفي الفضة على قول (¬5). واستدلوا بأثر عن ابن عمر أنه كان لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة (¬6)، والذهب من باب أولى. وخالف المالكية في قول (¬7)، والحنابلة في قول (¬8)؛ فقالوا: لا يجوز مطلقًا. واستدلوا بأن هذا فيه سرف وخيلاء، فأشبه الذهب والفضة الخالصة (¬9). وخالف الحنابلة في قول آخر (¬10)، فقالوا: لا يجوز إذا كان كثيرًا. وذلك لما فيه من الإسراف (¬11).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[5 - 40] جواز استعمال الأواني الثمينة بسبب صنعتها
[5 - 40] جواز استعمال الأواني الثمينة بسبب صنعتها: الأواني المصنوعة التي تكون نفيسة بصنعتها، لا بجوهرها؛ كالمصنوعة من الزجاج ونحوه، استعمالها جائز بالإجماع. • من نقل الإجماع: ابن الصباغ (477 هـ) حيث نقل عنه النووي (¬1)، والشوكاني (¬2) حكايته الإجماع على جواز استعمال الأواني الثمينة بسبب صنعتها (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والشافعية على الصحيح (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: 1 - أن العلة التي لأجلها حرمت آنية الذهب والفضة غير موجودة في الآنية الثمينة بصنعتها؛ لأن هذه الآنية لا يعرفها إلا خواص الناس، فلا تنكسر قلوب الفقراء؛ لأنهم لا يعرفونها، فلذلك هي جائزة لعدم علة التحريم (¬8). 2 - أن الأصل جواز استعمالها، ولا دليل ينقلها عن هذا الأصل، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: قال الشوكاني: "ولم يمنعها إلا من شذ" (¬9)، وهو يريد مسألة استعمال الجواهر النفيسة، ولكن مسألتنا في النفيسة بصنعتها، واللَّه تعالى أعلم. وخالف الشافعية في مسألتنا، في وجه ضعيف، حكاه أحد الشافعية غلطًا (¬10)، فقال بتحريم استعمال هذه الأواني. ¬
[6 - 41] تحريم استعمال الإناء المأخوذ بغير حق
وغلطه النووي، وحكى عدم الخلاف بين الشافعية في جواز استعمالها (¬1)، ولم يتابعه أحد من العلماء فيما توصلت إليه من أقوالهم، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، أما وجه الشافعية فقد سبق الكلام عليه بأنه غلط، وليس قولًا في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [6 - 41] تحريم استعمال الإناء المأخوذ بغير حق: استعمال المسلم للإناء المغصوب، أو المأخوذ بغير حق في وضوئه أو غسله محرم، وعلى ذلك نفى ابن حزم الخلاف في التحريم بين أهل الإسلام. • من نقل نفي الخلاف: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "فكان من توضأ بماء مغصوب؛ أو أُخذ بغير حق؛ أو اغتسل به؛ أو من إناء كذلك، فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء، وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند نفي الخلاف: 1 - حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (¬7). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وعرضه، وماله" (¬8). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل مال المسلم على أخيه المسلم حرام، إلا أن ¬
[7 - 42] طهارة جلد ما يؤكل بالذكاة
يأخذه بحق، ومن ذلك التحريم؛ أخذه لإنائه بغير حق، فكان استعماله لهذا الإناء محرم بنهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1).Rأن نفي الخلاف في المسألة متحقق؛ لعدم وجود المخالف فى المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [7 - 42] طهارة جلد ما يؤكل بالذكاة: إذا ذكي ما يؤكل لحمه، فإن جلده طاهر، يجوز استعماله والانتفاع به. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن جلد ما يؤكل لحمه، إذا ذكي؛ طاهر جائز استعماله، وبيعه" (¬2). النووي (676 هـ) في سياق كلام له: "أن الأديم إنما يطلق على جلد الغنم خاصة، وذلك يطهر بالذكاة بالإجماع" (¬3). القرافي (684 هـ) حيث يقول: "والذكاة علة مطهرة إجماعًا" (¬4). البابرتي (786 هـ) حيث يقول: "وتحقيقه أن الجلد الطاهر ليس مما نحن فيه - أي: من الخلاف - بالاتفاق" (¬5). ابن عابدين (1252 هـ) حيث يقول: "فحل جلد المذكاة قبل الدباغ، وبعده، حيث كان من مأكول اللحم؛ متفق عليه" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]. إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل الذكاة سببا فى الحل، والجلد جزء من البهيمة، فينتفع بها ما دام أنها مذكاة، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[8 - 43] نجاسة جلد الميتة قبل الدبغ
[8 - 43] نجاسة جلد الميتة قبل الدبغ: البهيمة إذا ماتت دون ذكاة، فإنها تعتبر ميتة، وهي نجسة، وجلدها مثل ذلك، وهو قبل الدبغ نجس، لا يجوز استعماله. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) معلقًا على قول الماتن: "وكل جلد ميتة، دبغ أو لم يدبغ؛ فهو نجس" حيث يقول: "لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ، ولا نعلم أحدًا خالف فيه" (¬1). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "لا نزاع في نجاسة إهاب الميتة قبل دبغه" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند نفي الخلاف: 1 - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى حرم هذه الأشياء، ووصفها بأنها رجس، والرجس هو النجس (¬7)، فدل على نجاسة الميتة، وجلدها جزء منها. 2 - حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجد شاة ميتة أُعطيتْها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هلا انتفعتم بجلدها؟ ". قالوا: إنها ميتة، قال: "إنما حرم أكلها"، وفي لفظ: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به" (¬8). 3 - حديث عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬9). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربط حل الانتفاع بالإهاب -وهو الجلد قبل الدبغ- ¬
[9 - 44] تحريم استعمال وسلخ جلد الإنسان
بالدبغ، أما قبل الدبغ؛ فما زال حكم الميتة منطبقًا عليه، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: حُكي عن الزهري قول شاذ في هذه المسألة (¬1)، بعدم اشتراط الدباغ مطلقًا، بل يجوز استعمال الجلد في اليابس والرطب، دون دباغ، ولم يُذكر له دليل على ذلك، إلا أنه مبني على طهارة الميتة عنده واللَّه أعلم، وهو قول مخالف للأدلة الصريحة الدالة على نجاسة الميتة، والجلدُ منها، ولم يتابعه على ذلك أحد، فيما اطلعت عليه (¬2).Rأن نفي الخلاف في المسألة متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، إلا ما ذكر عن الزهري، وسبق التعليق عليه، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 44] تحريم استعمال وسلخ جلد الإنسان: اللَّه تعالى كرَّم بني آدم، وجعلهم أفضل الخلق، ولذلك يحرم استعمال جلدهم وسلخه، وعلى ذلك حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: الدارمي (448 هـ) حيث نقل عنه النووي (¬3) قوله: "لا يختلف القول أن دباغ جلود بني آدم، واستعمالها حرام" (¬4). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن جلد الإنسان، لا يحل سلخه ولا استعماله" (¬5). ونقله عنه النووي (¬6)، وابن نجيم (¬7). النووي (676 هـ) حيث يقول: "اتفق أصحابنا على تحريمه -جلد الآدمي- وصرحوا بذلك في كتبهم، منهم إمام الحرمين، وخلائق" (¬8). ويقول أيضًا: "وأما جلد الآدمي، والثوب المتخذ من شعره؛ فيحرم استعماله باللبس وبغيره بالاتفاق" (¬9)، وعبارته وإن كانت في المذهب إلا أني ذكرتها للاعتضاد. ¬
[10 - 45] استحباب تغطية الإناء
المرداوي (885 هـ) حيث يقول: "ويحرم استعمال جلد الآدمي إجماعًا" (¬1). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وأما الآدمي، فقد قال بعضهم: إن جلده لا يحتمل الدباغة حتى لو قبلها طهر؛ لأنه ليس بنجس العين، لكن لا يجوز الانتفاع به، ولا يجوز دبغه؛ احترامًا له، وعليه إجماع المسلمين كما نقله ابن حزم، وقال بعضهم: إن جلده لا يطهر بالدباغة أصلا؛ احترامًا له، فالقول بعدم طهارة جلده تعظيم له؛ حتى لا يتجرأ أحد على سلخه ودبغه واستعماله" (¬2). عليش (1299 هـ) حيث يقول: "وكذا جلد الآدمي إجماعًا -أي ويحرم- لشرفه، ووجوب دفنه، ولو كافرًا" (¬3). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى كرم الإنسان وجعله من أفضل الخلق، ومن إكرامه أنه لا تجوز إهانته والعبث بجسده، وسلخ جلده واستعماله من إهانته التي حرمها اللَّه تعالى (¬4).Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [10 - 45] استحباب تغطية الإناء: إذا كان لدى الإنسان إناء فيه ماء أو لبن، فإنه يستحب له أن يغطيه، وقد حكى النووي الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "وهذا الحكم الذي ذكره (¬5)، وهو استحباب تغطية الإناء؛ متفق عليه، وسواء فيه إناء الماء، واللبن، وغيرهما" (¬6). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬7)، والمالكية (¬8)، ¬
[11 - 46] عدم جواز الطهارة في جلد الخنزير
والحنابلة (¬1). • مستند الاتفاق: حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَوْك سقاءك (¬2)، واذكر اسم اللَّه، وخمِّر إناءك، واذكر اسم اللَّه، ولو أن تعرض عليه شيئًا" (¬3). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بتغطية الإناء، والأمر على أقل الأحوال للاستحباب، واللَّه تعالى أعلم (¬4).Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة (¬5)، واللَّه تعالى أعلم. [11 - 46] عدم جواز الطهارة في جلد الخنزير: إذا أراد المسلم أن يتوضأ، فإنه لا يجوز له أن يتوضأ في إناء نجس، مصنوع من جلد الخنزير، وعلى هذا حكى ابن عبد البر الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) في سياق استدلاله على عدم طهارة جلود السباع بعد الدبغ: "ولا أعلم خلافا؛ أنه لا يتوضأ في جلد الخنزير، وإن دبغ، فلما كان الخنزير حرامًا، لا يحل أكله، وإن ذكي، وكانت السباع لا يحل أكلها، وإن ذكيت؛ كان حرامًا أن ينتفع بجلودها، وإن دبغت، وأن يتوضأ فيها؛ قياسًا على ما أجمعوا عليه من الخنزير، إذ كانت العلة واحدة" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية عدا أبا يوسف (¬7)، وقول ¬
عند المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]. 2 - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى حرم أكل الخنزير لما فيه من النجاسة، وما يجلبه من الأمراض، وهذا يشمل جلده لأنه جزء منه. وفي الآية الثانية: وصف اللَّه تعالى الميتة، والدم المسفوح، والخنزير بأنها رجس، والرجس هو النجس (¬4)، وما دام أن الخنزير نجس؛ فجلده تبع له. • الخلاف في المسألة: خالف داود (¬5)، وابن حزم (¬6)، وأبو يوسف (¬7)، والمالكية في قول عندهم (¬8)، في هذه المسألة، حيث يقولون بطهارة جلد الخنزير إذا دبغ، ولا يفرقون بين ما يؤكل، وما لا يؤكل، ولا غير ذلك، فكل إهاب دبغ فقد طهر عندهم بلا استثناء. واستدلوا: بعموم حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال عليه الصلاة والسلام: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬9)، ولم يستثن من هذا العموم شيئا (¬10). وهناك قول محكي عن الزهري، أنه يقول: بجواز الانتفاع بالجلود دون دبغ (¬11)، وهو قول شاذ لا دليل له.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة (¬12). ¬
[12 - 47] طهارة مأكول اللحم
[12 - 47] طهارة مأكول اللحم: كل ما يؤكل لحمه من الحيوانات فهو طاهر في ذاته، وقد نفى ابن حزم وجود الخلاف في ذلك. • من نقل نفي الخلاف: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "وكل ما يؤكل لحمه؛ فلا خلاف في أنه طاهر" (¬1). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند نفي الخلاف: قال اللَّه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. • وجه الدلالة: حيث إن كل مأكولِ اللحم حلالٍ هو طيب، فقد أحله اللَّه تعالى، والطيب لا يكون نجسا، بل هو طاهر (¬6).Rأن نفي الخلاف في المسألة متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، والمسألة تعتبر من البدهيات، بل من الضروريات، فلو لم يكن المأكول طاهرًا فكيف سيتم حفظ النفس، التي لا تستطيع العيش إلا به (¬7)، واللَّه تعالى أعلم. [13 - 48] طهارة الخيل: كان عليه الصلاة والسلام يركب الخيل، وكذلك صحابته رضوان اللَّه تعالى عليهم، وهي طاهرة باتفاق الأئمة، كما نقله ابن تيمية. • من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "أما مقاود الخيل ورباطها؛ فطاهر باتفاق الأئمة؛ لأن الخيل طاهرة بالاتفاق" (¬8). ¬
[14 - 49] طهارة مقاود الخيل
• الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أباح ركوب الخيل لنا، ومن لوازم الانتفاع؛ أننا سنتأثر بها، ولم يذكر اللَّه تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام أننا نتوضأ بعدها، أو أنها نجسة، مع اقتضاء الحاجة له، مما يدل على عدمه. 2 - أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، وسائر المسلمين بعدهم، يركبون الخيل والبغال والحمير في الجهادِ، والحجِ، وسائرِ الأسفار، ولا يكاد ينفك الراكب -في مثل ذلك- عن أن يصيبه شيء من عرقها، أو لعابها، وكانوا يصلون في ثيابهم التي ركبوا فيها، ولم يعدوا ثوبين؛ ثوبًا للركوب وثوبًا للصلاة، مما يؤكد أنهم لم يكونوا يتحرزون منها، مما يعني طهارتها (¬6).Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [14 - 49] طهارة مقاود الخيل: المقاود: جمع مِقْود بالكسر، الرباط الذي تقاد به الخيل (¬7)، ومن المعلوم أن المقود والرباط الذي يكون في الخيل، لا بد أن يتأثر بشيء من لعاب الخيل، أو عرقها، ولكن حكى ابن تيمية الاتفاق على طهارة مقاود الخيل ورباطها. • من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "أما مقاود الخيل ورباطها؛ ¬
[15 - 50] طهارة الكبد والطحال
فطاهر باتفاق الأئمة؛ لأن الخيل طاهرة بالاتفاق" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الاتفاق: قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أباح ركوب الخيل، وهو لا يكون غالبا إلا برباط ومقود، ولو كانت ليست طاهرة لنبَّه اللَّه تعالى أو رسوله عليه الصلاة والسلام، وما دام لم يبيّن فالأصل طهارته، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [15 - 50] طهارة الكبد والطحال: الكبد والطحال للحيوان المأكول طاهرة، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "فالدم هنا -يريد آية البقرة- يراد به المسفوح؛ لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وإنما قاس على الكبد والطحال؛ لأنهما طاهران بالإجماع" (¬7). المرداوي (885 هـ) حيث يقول: "ومنها -في سياق ذكره للدماء الطاهرة- الكبد ¬
[15 - 51] طهارة المسك
والطحال، وهما وإن، ولا خلاف في طهارتهما" (¬1)، وهي عبارة مذهبية ذكرتها للاعتضاد. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال" (¬3). • وجه الدلالة: ظاهرةٌ من الحديث، فما دام أنهما أحلَّا لنا، فالله تعالى يحل الطيبات، ويحرم الخبائث؛ فهي طيبة طاهرة إذًا، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [15 - 51] طهارة المسك: المسك ريح طيب يحبه الناس، وهو طاهر بإجماع المسلمين، كما حكاه عدد من العلماء. • من نقل الإجماع: الباجي (474 هـ) -في سياق حديثه عن طهارة المسك-: "وقد أجمع المسلمون على طهارته" (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول: "المسك طاهر بالإجماع" (¬5). ونقله عنه ابن حجر (¬6)، وابن عابدين (¬7)، وابن قاسم (¬8). ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك، إلا ما حكي عن عمر من كراهته" (¬9). ¬
الحطّاب (954 هـ) حيث يقول عن المسك: "وحكي الإجماع على طهارته" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "أطيب الطيب المسك" (¬5). • وجه الدلالة: ظاهر من الحديث، فقد وصف المسك بالطيّب، وهو لا يكون إلا لطاهر. 2 - حديث أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها-، أنها قالت: "كأني أنظر إلى وَبِيص (¬6) الطيب، في مفرق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو محرم" (¬7)، وفي لفظ: "المسك" (¬8). • وجه الدلالة: السنة الفعلية من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، مما يدل على طهارته، فقد استعمله، وهو في وقت عبادة، مما يدل على طهارته، وإلا لاجتنبه عليه الصلاة والسلام. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة الضحاك، فقال: إنه دم وميتة، فهو نجس عنده (¬9). ونقل عن عمر -رضي اللَّه عنه-، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وعطاء (¬10)، والحسن (¬11)، كراهتهم له. ولكن قال ابن المنذر: "لا أحسبه يصح" (¬12)، يريد عن عمر، وقال عن مخالفة ¬
غيره: "ولا نعلم تصح كراهية ذلك إلا عن عطاء" (¬1). وقد أشار ابن حجر للخلاف في المسألة، ولم ينسبه لأحد في موضع (¬2)، وأشار إليه في موضع آخر، وقال: "هو منقول عن الحسن، وعطاء، وغيرهما"، ثم قال بعد ذلك: "ثم انقرض هذا الخلاف، واستقر الإجماع على طهارة المسك، وجواز بيعه" (¬3). وفي موضع ثالث؛ حكى الإجماع فيه كما سبق، ثم نقل حكاية كراهته عن عمر (¬4). وقد حكى ابن عابدين قولا بعدم طهارته، معللا له بأن المسك من دابة حية، ولكنه لم يذكر صاحب القول، وعلق عليه بقوله: "وهذا القول لا يعول عليه، ولا يلتفت إليه" (¬5). ونقل الحطاب عن المازري، أنه حكى عن طائفةٍ قولا بنجاسته، ولم يعلق عليه (¬6)، مع أنه نقل حكاية الإجماع على طهارته (¬7). ولم أجد خلافًا لدى الحنابلة في المسألة، ولكن أشكل عليَّ أن المرداوي نقل عن ابن مفلح، ما يوحي بوجود احتمال للحنابلة في المسألة. فبعد أن ذكر طهارة المسك، ولم يشر لخلاف فيه، وأشار بعدها إلى الخلاف في فأرته، قال: "قال في "الفروع": ويحتمل نجاسة المسك؛ لأنه جزء من حيوان، لكنه ينفصل بطبعه" (¬8). ولكن عندما راجعت الفروع، وجدت عبارته كالآتي: "فصل، ودود القز، والمسك، وفأرته طاهر. وقال الأزجي: فأرته طاهرة، ويحتمل نجاستها؛ لأنه جزء من حيوان حي، لكنه ينفصل بطبعه؛ كالجنين" (¬9). والكلام هنا يحتمل أمرين: الأول: أن قوله: "يحتمل نجاستها" راجع إلى الفأرة، حيث لم يشر للمسك، ¬
وتحدث بصيغة التأنيث، والمسك مذكّر، وهذا هو الأظهر، وهو الذي يتوافق مع سائر كلام الحنابلة (¬1)، ولكن يشكل عليه الآتي. الثاني: أن قولَه راجعٌ إلى المسك، كما نقل المرداوي، ويدل له أنه قال: "لأنه جزء"، ولم يقل: "لأنها"، والمرداوي إمام في المذهب ويبعد أن يفوت عليه مثل هذا. ولكن الأظهر أن المرداوي وهم في ذلك، لأن هذا الاحتمال لم يذكره غيره، ولم يُذكر له قائل، واللَّه تعالى أعلم. هذا ويمكن أن يستدل لهذا القول: بأن أصله دم، والدم نجس، وهو جزء منفصل من حيوان حي؛ فهو كالميتة.Rأن الإجماع غير متحقق، فمما سبق؛ يتبين أن الخلاف في المسألة موجود، وإن كان خلافًا ضعيفًا؛ فالإجماع لا يتحقق مع وجود المخالف، أما ما ذكره ابن حجر من أن الخلاف انقرض، وأن الإجماع استقر بعده؛ فالجواب عليه من وجهين: الأول: أن هذه مسألة أصولية مشهورة، وهي: ما إذا اختلف علماء عصر متقدم، في مسألة ما، ثم اتفق علماء عصر متأخر، في نفس المسألة؛ فهل يعتبر اتفاقهم إجماعًا شرعيًّا أو لا؟ اختلف الأصوليون في هذه المسألة على قولين؛ بالاعتبار، وعدمه (¬2). ويكفي أنها مسألة خلافية، فمن العلماء من لا ينظر إلى المسألة من الأصل، ولا يعتبره إجماعًا، فلا يعتد بإجماع كهذا، ما دام أنه يوجد من لا يعتبره، ولكن يمكن أن يكون حجة أو دليلًا لمن يرى ذلك. الثاني: من خلال ما سبق عرضه، فيما ورد من خلافٍ في المسألة؛ يتبين أن الخلاف انتشر، والقائلون به ليسوا قلةً، وهذا يكفي في خرق الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[16 - 52] جواز البول في الآنية
[16 - 52] جواز البول في الآنية: إذا أراد المسلم أن ينام، وأعد له آنية للبول فيها، فإن ذلك جائز، وقد نفى الشوكاني علمه بالخلاف في هذه المسألة. • من نقل نفي الخلاف: الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "والحديث (¬1) يدل على جواز إعداد الآنية للبول فيها بالليل، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا" (¬2). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول شارحًا لعبارة البهوتي: "ويكره أيضًا بوله في إناء بلا حاجة"، قال: "لا خلاف في جوازه" (¬3). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية على الأظهر، فلم يذكروا هذا في الحديث عن المكروهات عند التبول (¬4)، والمالكية على الأظهر، حيث لم يذكوا المسألة، إلا أنهم ذكروا كراهة ذلك في الأواني النفيسة، وسكتوا على ذلك (¬5)، مما قد يدل على عدم كراهة ذلك في الأواني العادية، وصرح الشافعية بالجواز (¬6)، والحنابلة في قولٍ لهم (¬7)، ولم يذكر ابنُ قدامة غيرَه بقوله: "لا بأس"، ولم يشر إلى اختلاف الأصحاب (¬8). • مستند نفي الخلاف: حديث أميمة بنت رقيقة عن أمها -رضي اللَّه عنها-، قالت: "كان للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قدح من عيدان (¬9)، تحت سريره، يبول فيه بالليل" (¬10). ¬
• وجه الدلالة: حيث فيه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيه دلالة على الجواز (¬1)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة في الصحيح من مذهبهم، فقالوا بكراهة البول في الإناء من غير حاجة (¬2). ولم أجد لهم دليلًا، ولكن ربما خوفًا من انتشار البول على صاحبه، ككراهة البول في الأرض الصلبة، أو لتنجيس الإناء بعده، واللَّه تعالى أعلم. ولكن القول بالكراهة لا ينافي الجواز، فلا يعتبر ناقضًا، واللَّه تعالى أعلم.Rأن نفي الخلاف متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الباب الثالث: مسائل الإجماع في باب الاستنجاء
الباب الثالث: مسائل الإجماع في باب الاستنجاء [1 - 53] استحباب قول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) عند دخول الخلاء: الخُبُث: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، وهم ذكران الجن وإناثهم (¬1). وإذا أراد الإنسان دخول الخلاء، فإنه يستحب له أن يقول ذلك. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا لحديث أنس الآتي في المستند: "وقوله: (إذا دخل الخلاء) أي: إذا أراد دخوله، وكذا جاء مصرحًا به في رواية للبخاري، وهذا الذكر مجمع على استحبابه، وسواء فيه البناء والصحراء" (¬2). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول عن هذا الذكر: "وهذا الذكر مجمع على استحبابه" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" (¬7). • وجه الدلالة: الحديث يدل على مسألة الباب بالمطابقة، ففيه قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لها، وهي سنة فعلية (¬8).Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[2 - 54] كراهة الكلام عند التخلي
[2 - 54] كراهة الكلام عند التخلي: إذا كان الرجل في الخلاء، فإنه يكره له الكلام أثناءه، حكى النووي الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "وهذا الذي ذكره المصنف، من كراهة الكلام على قضاء الحاجة متفق عليه" (¬1). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "والحديث (¬2) دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة، والأصل فيه التحريم، وتعليله بمقت اللَّه عليه، أي: شدة بغضه لفاعل ذلك؛ زيادة في بيان التحريم، ولكنه ادعى في "البحر" (¬3): أنه لا يحرم إجماعًا، وأن النهي للكراهة، فإن صح الإجماع، وإلا فإن الأصل هو التحريم" (¬4). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وقيل: إن الكلام في تلك الحال مكروه فقط، والقرينة الصارفة إلى معنى الكراهة، الإجماع على أن الكلام غير محرم في هذه الحالة، ذكره الإمام المهدي في "الغيث"، فإن صلح الإجماع؛ صلح للصرف، عند القائل بحجيته، ولكنه يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك العلة" (¬5). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والحنابلة (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-: "أن رجلا مر ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه" (¬9). 2 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا يخرج ¬
[3 - 55] مشروعية الاستنجاء بالماء
الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن اللَّه يمقت على ذلك" (¬1). • وجه الدلالة: في الحديث الأول: سلم الرجل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يرد عليه، ولم يتحدث معه، مما يدل على الكراهه للكلام وقت التخلي، والكراهة مأخوذة من مجرد الفعل، إذ هي غاية ما يدل عليه الفعل. أما الحديث الثاني: فقد ذكر عليه الصلاة والسلام أن من يتخلى، ويتحدث، ممقوت عند اللَّه تعالى، وهذا يدل على التحريم، لا الكراهة فحسب. ولكن يجاب عن ذلك بأن الحديث قيَّد المقت بأمرين إذا هما اجتمعا، وهما: كشف العورة لبعضهما، والتحدث لبعض. فإذا الفعل بعض موجبات المقت فهو مكروه (¬2)، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [3 - 55] مشروعية الاستنجاء بالماء: إذا تخلى المسلم، فإنه يسن له أن يستنجي بالماء، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "قال اللَّه تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] فجاء النص والإجماع بأنه غسل الفرج والدبر بالماء" (¬3). العيني (855 هـ) حيث يقول معددًا سنن الوضوء، وذكر منها: "والاستنجاء بالماء، وهو كان أدبًا في عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصار سنة بعد عصره بإجماع الصحابة كالتراويح" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬5)، . . . . . . . ¬
[4 - 56] جواز الاستجمار بالأحجار
والشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2). • مستند الإجماع: حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء" (¬3). • وجه الدلالة: أن أنسًا ذكر من فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يستنجي بالماء، وهذا يكفي في إثبات المشروعية. • الخلاف في المسألة: نُقل قول لمالك وابن حبيب أنهما أنكرا كون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استنجى بالماء. نقله الحطاب المالكي في "المواهب"، وقال: "قلت: وهذان النقلان غريبان، والمنقول عن ابن حبيب، أنه منع الاستجمار مع وجود الماء، بل لا أعرفهما في المذهب" (¬4). وقوى كونهما يقصدان الماء العذب (¬5). وهذا القول محكي عن سعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وابن الزبير، وابن المسيب، وعطاء (¬6). واستدلوا بكون هذا الفعل، غير موجود في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أنهم محجوجون بالأحاديث الصريحة الصحيحة في ذلك.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف من الصحابة والتابعين في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [4 - 56] جواز الاستجمار بالأحجار: إذا دخل الإنسان الخلاء، وتغوط، فإنه يشرع له أن يستجمر بالحجارة، وهذا على وجه العموم، وقد حكى عدد من العلماء الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الاستنجاء ¬
بالحجارة، وبكل طاهر، ما لم يكن طعامًا، أو رجيعًا، أو نجسًا، أو جلدًا، أو عظمًا، أو فحمًا، أو حُمَمَة جائز" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأيُّ الأمرين كان، فإن الفقهاء اليوم مجمعون على أن الاستنجاء بالماء أطهر وأطيب، وأن الأحجار رخصة وتوسعة، وأن الاستنجاء بها جائز في السفر والحضر" (¬2). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أيضًا على أن الحجارة تزيلها - النجاسة - من المخرجين" (¬3). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع المسلمون على جواز الاستجمار" (¬4). ونقله عنه ابن قاسم (¬5). الزيلعي (743 هـ) حيث يقول: "لأن الطهارة من الأنجاس بالماء، شرط جواز الصلاة، فلا بد منها، إلا أنه اكتفى بغير الماء في موضع الاستنجاء؛ للضرورة؛ أو الإجماع" (¬6). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "قال في "البحر" (¬7): والاستجمار مشروع إجماعًا" (¬8). ابن عابدين (1252 هـ) حيث يقول: "ولنا أن القليل عفو إجماعًا؛ إذ الاستنجاء بالحجر كاف بالإجماع" (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬10). • مستند الإجماع: 1 - حديث عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: "أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار" (¬11). ¬
[5 - 57] مشروعية الجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء
• وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يأتيه بثلاثة أحجار، وهذا تشريع منه عليه الصلاة والسلام، فدل على أن هذا العمل مشروع. 2 - حديث سلمان -رضي اللَّه عنه-، قال: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" (¬1). • وجه الدلالة: ظاهر من أمره عليه الصلاة والسلام بعدم الاكتفاء بدون ثلاثة أحجار، مما يدل على المشروعية وزيادة.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف المعتبر، واللَّه تعالى أعلم. [5 - 57] مشروعية الجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء: إذا أراد الإنسان تطهير المحل، فإنه يشرع له أن يستجمر، ثم يتبعه بالاستنجاء، وقد حكى الكاساني الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الكاساني (587 هـ) بعد ذكره فعل الصحابة، أنهم أصبحوا يتبعون الحجارة الماء حيث يقول: "ثم صار بعد عصره من السنن بإجماع الصحابة، كالتراويح" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية على المشهور (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. • وجه الدلالة: أنه لما نزلت هذه الآية في أهل قباء، سألهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شأنهم، فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء (¬6)، فقد ذكروا أن فعلهم الذي أثنى اللَّه تعالى عليهم به هو الجمع بين الاستجمار والاستنجاء (¬7). ¬
[6 - 58] الاستجمار بغير الحجارة
2 - أن الحجر يزيل عين النجاسة؛ فلا تصيبها يده، ثم يأتي بالماء فيطهر المحل، فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن (¬1). • الخلاف في المسألة: يأتي هنا الخلاف السابق في مسألة مشروعية الاستنجاء بالماء، ومن خالف هناك يخالف هنا بالتبع.Rأن الإجماع غير متحقق، لوجود المخالف المعتبر، وعلى هذا، لا يتحقق إجماع في هذه المسألة، حيث يوجد من قال بعدم شرعية الاستنجاء بالماء أصلًا، واللَّه تعالى أعلم. [6 - 58] الاستجمار بغير الحجارة: إذا أراد المسلم الاستجمار، فإن استعماله للطاهر المنقي جائز، ما لم يكن طعامًا. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة، وبكل طاهر، ما لم يكن طعامًا، أو رجيعًا، أو نجسًا، أو جلدًا، أو عظمًا، أو فحمًا، أو حُمَمَة جائز" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية في قول (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة على المذهب (¬6). • مستند الاتفاق: 1 - حديث سلمان -رضي اللَّه عنه-، قال: "لقد نهانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو نستنجي برجيع أو عظم" (¬7). 2 - حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، قال: "نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يتمسح بعظم أو ببعر" (¬8). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد خص في هذين الحديثين هذه الأشياء؛ فيدل بمفهوم المخالفة أن ما عدا المستثنى في النصوص غير داخل في الحكم معها، بل ¬
[7 - 59] جواز الاستجمار مع وجود الماء
يجوز الاستجمار بها. 3 - أن العبرة بتنقية المحل، وأن لا يكون المنقي شيئا محترمًا، ولا نجسًا، فإذا لم يكن هذا، ولا ذاك، وكان منقيًا للمحل؛ فلا مانع من استِخدامه. • الخلاف في المسألة: نقد ابن تيمية هذه الدعوى بأن الخلاف في المسألة معروف، وأن هناك روايتين معروفتين عن أحمد (¬1)، إحداهما بأن الاستجمار بغير الحجارة لا يجزئ (¬2). ولم أجد لهم دليلًا، وقد يستدل لهذا القول بأن الوارد في النصوص، إنما هو مقتصر على ذكر الحجارة فقط؛ فيقتصر عليه. وقد وجدته قولًا للمالكية أيضًا، ونقله الحطاب عن داود، وأصبغ (¬3). وقد عللوا ذلك: بأن الاستنجاء بالأحجار رخصة؛ فيجب الاقتصار عليها (¬4).Rأن الاتفاق غير متحقق، لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [7 - 59] جواز الاستجمار مع وجود الماء: إذا أراد الإنسان تنقية المحل، فإنه يجوز له أن يستجمر مع وجود الماء، وقد حكى الإجماع على ذلك عدد من العلماء. • من نقل الإجماع: الجصاص (370 هـ) حيث يقول: "اتفاق الجميع على جواز صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء، وعدم الضرورة، في العدول عنه إلى الأحجار" (¬5). الباجي (474 هـ) حيث يقول: "وجميع الفقهاء على أن الاستجمار يجزي مع وجود الماء، وقال ابن حبيب: ليس الاستجمار يجزي؛ إلا مع عدم الماء، ولعله أراد بذلك وجه الاستحباب، وإلا فهو خلاف الإجماع، فيما علمناه" (¬6). الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولأنا أجمعنا على جواز الصلاة بدون الاستنجاء ¬
بالماء، ومعلوم أن الاستنجاء بالأحجار لا يستأصل النجاسة" (¬1). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وإن اقتصر على الحجر أجزأه، بغير خلاف بين أهل العلم؛ لما ذكرنا من الأخبار، ولأنه إجماع الصحابة -رضي اللَّه عنهم-" (¬2). الزيلعي (743 هـ) حيث يقول: "لأن الطهارة من الأنجاس بالماء، شرط جواز الصلاة، فلا بد منها، إلا أنه اكتفى بغير الماء في موضع الاستنجاء؛ للضرورة؛ أو الإجماع" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬4). • مستند الإجماع: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن؛ فإنها تجزئ عنه" (¬5). • وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "تجزئ عنه"، ولم يفصل بوجود الماء، أو مع عدمه، وترك التفصيل في المقال، ينزل منزلة العموم في المقال، كما يقول الأصوليون، فيكون دليلًا على إجزاء الاستجمار، مع وجود الماء. • الخلاف في المسألة: نقل الخلاف في هذه المسألة، عن بعض المالكية منهم ابن حبيب، أنهم يقولون بأنه لا يجوز الاستجمار؛ إلا مع عدم الماء (¬6). ولكن بعد طول بحث، لم أجده ذكر عن غير ابن حبيب، بل لم ينص أحد من المالكية في هذا القول بأنه قول البعض، بل ينسبونه إلى ابن حبيب فقط، هذا فيما اطلعت عليه، ورأيته عند غيرهم ينسب إلى بعض المالكية (¬7)، بل حاول الباجي تأويل قوله؛ بأنه لعله أراد بذلك وجه الاستحباب، وجعله خلاف الإجماع (¬8). ¬
[8 - 60] الاستنجاء بالماء أطيب
Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف المعتبر في المسألة، إلا أن يعلم مخالفون غير ابن حبيب، أما خلاف ابن حبيب، فقد أوله البعض، ولم يتابعه عليه أحد، واللَّه تعالى أعلم. [8 - 60] الاستنجاء بالماء أطيب: إذا تخلى الإنسان، فإن الأفضل له أن يستنجي بالماء، وعليه حكى ابن عبد البر الإجماع. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "وعليه العمل عند أهل العلم؛ يختارون الاستنجاء بالماء، وإن كان الاستنجاء بالحجارة يجزئ عندهم، فإنهم استحبوا الاستنجاء بالماء ورأوه أفضل" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأيُّ الأمرين كان، فإن الفقهاء اليوم مجمعون على أن الاستنجاء بالماء أطهر وأطيب، وأن الأحجار رخصة وتوسعة، وأن الاستنجاء بها جائز في السفر والحضر" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الثوري، وابن المبارك؛ وإسحاق (¬3)، والحنفية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: 1 - حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء" (¬7). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يستنجي بالماء مع وجود الأحجار وتوفرها، فدل على أنه أطيب. 2 - أن الاستنجاء بالماء يطهر المحل، ويزيل العين والأثر، وهو أبلغ في التنظيف والإنقاء (¬8). • الخلاف في المسألة: سبق نقل قول لمالك وابن حبيب أنهما أنكرا كون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استنجى بالماء. ¬
[9 - 61] جواز الاستجمار في السفر والحضر
وسبقت مناقشة ذلك (¬1). وأن هذا القول محكي عن سعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وابن الزبير، وابن المسيب، وعطاء، والحسن (¬2).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 61] جواز الاستجمار في السفر والحضر: إذا أراد المتخلي الاستجمار، فإنه يباح له ذلك في الحضر والسفر، وعليه حكى ابن عبد البر الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "فإن الفقهاء اليوم مجمعون على أن الاستنجاء بالماء أطهر وأطيب، وأن الأحجار رخصة وتوسعة، وأن الاستنجاء بها جائز في السفر والحضر" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: أن جميع النصوص الواردة (¬7) في الاستجمار عامة، ولم تقيد السفر دون الحضر، فتبقى على عمومها حتى يأتي مخصص، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [10 - 62] عدم وجوب الاستنجاء من النوم: إذا استيقظ المسلم من نومه، وأراد الوضوء، فإن الاستنجاء لا يجب عليه، وقد حكى عدد من العلماء الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الماوردي (450 هـ) حكايته الإجماع، على أنه لا يجب ¬
الاستنجاء من النوم والريح (¬1). نقله عنه البجيرمي (¬2). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول -بعد مسألة للخرقي هي: وليس على من نام، أو خرجت منه ريح استنجاء-: "لا نعلم في هذا خلافًا" (¬3). ونقله ابن قاسم (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر" (¬5). المتولي (478 هـ) حيث نقل عنه الشربيني (¬6) حكايته الإجماع في هذه المسألة، فقال: "نقل المتولي وغيره الإجماع، على أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح". ونقله عنه أيضًا الرملي (¬7)، والجمل (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬9)، والمالكية (¬10). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ}، فأمر بالوضوء مباشرة، ولم يأمر بالاستنجاء، فدل على أنه لا يجب في كل الحالات، فإذا لم يكن موجب له فلا يجب، كما في مسألتنا. 2 - أن الوجوب من الشرع، ولم يرد بالاستنجاء هنا نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه؛ لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة ها هنا (¬11). • الخلاف في المسألة: قال النووي حيث يقول: "وحُكي عن قوم من الشيعة أنه يجب، والشيعة لا يعتد بخلافهم" (¬12). ¬
[11 - 63] عدم وجوب الاستنجاء من الريح
وهو قولٌ عند الحنابلة (¬1).Rأن الإجماع غير متحقق، لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [11 - 63] عدم وجوب الاستنجاء من الريح: إذا خرج من المسلم ريحٌ، وأراد الوضوء، فإن الاستنجاء لا يجب عليه، وقد حكى عدد من العلماء الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الماوردي (450 هـ) حكايته الإجماع، على أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح (¬2). نقله عنه البجيرمي (¬3). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول -بعد مسألة للخرقي هي: وليس على من نام، أو خرجت منه ريح استنجاء-: "لا نعلم في هذا خلافًا" (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر" (¬5). المتولي (478 هـ) حيث نقل عنه الشربيني (¬6) حكايته الإجماع في هذه المسألة، فقال: "نقل المتولي وغيره الإجماع، على أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح". ونقله عنه أيضًا الرملي (¬7)، والجمل (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬9)، والمالكية (¬10). • مستند الإجماع: يستند في هذه المسألة بما استند عليه في المسألة السابقة. • الخلاف في المسألة: الخلاف المذكور في النوم يندرج هنا، وما قيل هناك يقال في ¬
[12 - 64] الحجر ذو الثلاثة أحرف يجزئ في الاستجمار
مسألتنا (¬1).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [12 - 64] الحجر ذو الثلاثة أحرف يجزئ في الاستجمار: إذا استجمر المتخلِّي بحجر له ثلاثة أحرف، فإن ذلك جائز له، وحُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الفرغاني (593 هـ) حيث يقول: "فإنه لو استنجى بحجر، له ثلاثة أحرف؛ جاز بالإجماع" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية في المشهور (¬3)، والشافعية على الصحيح (¬4)، والحنابلة في المشهور (¬5). • مستند الإجماع: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بالاستطابة بثلاثة أحجار، والمقصود هنا عدد المسحات، وليس عدد الممسوح به، ولا فرق بين أن يمسح بثلاثة أحجار، أو أن يمسح بحجر كبير، له ثلاثة أحرف (¬7). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في قولٍ (¬8)، والشافعية في وجه شاذ (¬9)، ونقل عن أبي إسحاق إبراهيم بن جابر (¬10)، والحنابلة في رواية (¬11). ¬
[13 - 65] الاستنجاء بماء زمزم مجزئ
واستدلوا (¬1) بقوله عليه السلام: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" (¬2).Rأن الإجماع غير متحقق، لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [13 - 65] الاستنجاء بماء زمزم مجزئ: إذا استنجى المتخلي بماء زمزم، فإن ذلك يجزئه، وقد نُقل الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الماوردي (450 هـ) حيث يقول: "ثم لو استنجى به -ماء زمزم- مع حرمته أجزأه إجماعًا" (¬3). ونقله النووي (¬4)، وزكريا الأنصاري (¬5). البجيرمي (1221 هـ) حيث يقول: "ولو من ماء زمزم، ويجزئ إجماعا" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والمالكية (¬8)، والحنابلة (¬9). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ماء زمزم أنها "طعام طعم" (¬10). 2 - حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ماء زمزم لما شُرب له" (¬11). • وجه الدلالة: أن هذه الأحاديث وغيرها، تدل على بركة هذا الماء، وينبغي أن يشرف ويكرم عن استخدامه في الرذائل. ولكن إذا استخدم في الاستنجاء، لا يعني هذا أنه لا يجزئ، فهو ماء. وقد قال تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. ¬
[14 - 66] تحريم استقبال القبلة بالتخلي واستدبارها
فالأصل في الماء أنه طهور، مطهر لغيره، وأحق ما يكون ذلك في ماء زمزم. • الخلاف في المسألة: هناك مسألة خلافية، وهي حكم إزالة النجاسة بماء زمزم، اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال، بين الإباحة والكراهة والتحريم (¬1). ولكن هذه ليست مسألتنا، حيث تتحدث عن الإجزاء وعدمه. وهنا إشكال! وهو: أن من قال بالتحريم، أليس معنى ذلك؛ أنه غير مجزئ؟ هذا محل نظر (¬2)، ولكن بعد البحث، وجدت أن ممن قال بالحرمة؛ نص على الإجزاء، فليس بلازم هذا الإلزام (¬3). وبعد التأمل والبحث مزيدًا، وجدت أن ممن قال بالتحريم - وهو ابن شعبان من المالكية - نُقل عنه تعليله لهذا القول بأنه مطعوم (¬4)، والمطعوم لا يجزئ الاستنجاء به، في قولٍ للعلماء (¬5)، وبالتالي فهو غير مجزئ. ولكن أنكر الحطاب كونه علل بهذا التعليل، ونقل عنه نقلًا، يفيد أنه يعلل بتكريم هذا الماء المبارك فقط (¬6).Rأن الإجماع متحقق، لعدم التأكد من وجود المخالف المعتبر، حيث من خلال ما سبق لم يثبت مخالفة أحد من العلماء في ذلك، واللَّه تعالى أعلم. [14 - 66] تحريم استقبال القبلة بالتخلي واستدبارها: إذا أراد المسلم التخلي، فإنه يحرم عليه أن يستقبل القبلة بغائط أو بول، ولا يستدبرها (¬7). • من نقل الإجماع: ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول شارحًا لكلام البهوتي: "ويحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة"، قال: "إجماعًا" (¬8). ¬
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع مجاهد، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز (¬1)، والحنفية في الاستقبال، وفي الاستدبار على رواية (¬2) (¬3)، والشافعية (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" (¬6). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" (¬7). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى في الحديثين عن استقبال القبلة واستدبارها بقضاء الحاجة، وهذا يدل على التحريم (¬8)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة عائشة (¬9)، وابن عمر فيما رُوي عنهما، وعروة بن الزبير، وداود بن علي (¬10)، وربيعة (¬11)، فقالوا: يجوز استقبال القبلة واستدبارها. وهي رواية عن أحمد (¬12). واستدلوا (¬13) بحديث ابن عمر، وفيه: "رقيت على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعدًا لحاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة" (¬14). وخالف الحنفية في رواية (¬15)، بأنه يجوز الاستدبار دون الاستقبال. ¬
[15 - 67] عدم تحريم استقبال بيت المقدس بالتخلي
واستدلوا (¬1) بحديث ابن عمر السابق (¬2).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [15 - 67] عدم تحريم استقبال بيت المقدس بالتخلي: إذا أراد المسلم أن يتخلى، فإن استقباله لبيت المقدس بالتخلى ليس حرامًا، وعلى ذلك حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: الخطابي (388 هـ) حيث نقل عنه الشوكاني (¬3) حكايته الإجماع في هذه المسألة (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول -في معرض حديثه عن حديث النهي عن استقبال بيت المقدس بالتخلي (¬5) -: "فإن قيل: لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه -أي: النهي-؟ قلنا: للإجماع، فلا نعلم من يعتد به حرّمه" (¬6). ونقله عنه الرملي (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬8)، والمالكية (¬9)، والحنابلة (¬10). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] • وجه الدلالة: حيث نسخ في هذه الآية كون بيت المقدس قبلة للمسلمين، ولهذا لا يكره استقباله بالتخلي؛ لكونه ليس قبلة (¬11). • الخلاف في المسألة: خالف في هذه المسألة عدد من أهل العلم، وقالوا: بتحريم استقبال بيت المقدس بالتخلي، منهم إبراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين، وعطاء، والزهري (¬12)، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة (¬13). ¬
[16 - 68] جواز التخلي فيما عدا المسجد
واستدلوا بحديث معقل بن أبي معقل الأسدي -رضي اللَّه عنه-، قال: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط" (¬1).Rأن الإجماع غير متحقق، لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [16 - 68] جواز التخلي فيما عدا المسجد: قضاء الحاجة في المسجد لا يجوز، ولا إشكال في ذلك، وأما ما عدا ذلك من المواطن؛ فالأصل فيها أنه يجوز، ولكن بدون الإخلال بالضوابط الأخرى. فمثلا؛ لا يجوز أن يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم، أو أماكن جلوسهم، أو في الماء الراكد، وسبق الحديث عنه في مسألة سابقة، وهكذا مما يؤذي الناس ويضر بهم. أما ما عدا ذلك فإنه يجوز التخلي فيه. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "وإلا فقد جاء النص والإجماع، بأن البول والغائط جائز، فيما عدا المسجد" (¬2). • الموافقون على الإجماع: لم أجد من نص على هذه المسألة، وذلك لأنها أمر بدهي، ولكن هم يشيرون لها عندما يتحدثون عن الأماكن التي يكره التخلي فيها، فمعناه أن غيرها يجوز التخلي فيها. وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: 1 - حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال لي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذ الإداوة"، فأخذتها فانطلق حتى توارى عني، فقضى حاجته (¬7). ¬
[17 - 69] النهي عن الاستنجاء باليمين
• وجه الدلالة: في هذا الحديث وغيره من الأحاديث المشابهة، يذكر الصحابة -رضي اللَّه عنهم- فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قضاء حاجته، ولم يذكروا عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يفرق بين مكان وآخر في الحكم، سوى الأماكن المقدسة، أو التي يكون في التخلي فيها ضرر على الناس؛ فدل ذلك على أن التخلي في أي مكان يجوز، بالضوابط والآداب المعروفة. 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتقوا اللعانين: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم" (¬1). • وجه الدلالة: إن الحديث استثنى بعض الأماكن، التي يردها الناس وينتفعون بها، فدل ذلك بمفهومه على إباحة ما دون ذلك.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [17 - 69] النهي عن الاستنجاء باليمين: الاستنجاء باليمين منهي عنه في النصوص الصريحة، وقد نقل الإجماعَ فيه بعضُ العلماء، والمقصود الإجماع على أنه منهي عنه، دون الدخول في التفصيلات. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم؛ كرهوا الاستنجاء باليمين" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين، ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب، لا نهي تحريم" (¬3). ونقله عنه الشوكاني (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، ¬
[18 - 70] تحريم مباشرة الاستنجاء باليد وعدم إجزائه
والحنابلة (¬1)، وابن حزم (¬2). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أتى أحدكم الخلاء، فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه" (¬3). 2 - حديث سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه-، قال: "نهانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نستنجي باليمين" (¬4). • وجه الدلالة: الحديث صريح بدلالة المطابقة على مسألة الباب.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [18 - 70] تحريم مباشرة الاستنجاء باليد وعدم إجزائه: إذا أراد المتخلي تنظيف المحل، فإنه يحرم عليه أن يباشره بيده مباشرة، ولا يجزئه ذلك لو فعله. • من نقل الإجماع: ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "ومحل الاختلاف -أي: الاختلاف في النهي الوارد للكراهة أو للتنزيه- حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة غيرها، كالماء وغيره، أما بغير آلة؛ فحرامٌ، غير مجزئ، بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى" (¬5). ونقل الصنعاني كلام ابن حجر السابق، ولكن بلفظ آخر، فقال حيث يقول: "أما لو باشر بيده فإنه حرام إجماعًا" (¬6). • الموافقون على الإجماع: لم أجد من نص على المسألة بصراحة غير الحنابلة، وابن حزم، أما غيرهم، فيستنبط من كلامهم الموافقة بلا ريب. وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والمالكية (¬8)، والحنابلة (¬9)، وابن حزم (¬10). ¬
[19 - 71] كراهة التخلي في مساقط الثمار
• مستند الإجماع: 1 - حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أتى أحدكم الخلاء؛ فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه" (¬1). • وجه الدلالة: أن النهي في الحديث السابق متوجه إلى الاستنجاء باليمين، وذلك مفهوم من عرف الناس؛ أنهم لا يستنجون باليد، دون ماء أو حجر، فإذا كان من دونهما؛ فمن باب أولى. 2 - أن في الاستنجاء باليد مباشرة انتقال للنجاسة، من مكان لآخر، من دون أن يطهر أحدهما الآخر، فلا فائدة إذًا من هذا الاستنجاء.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [19 - 71] كراهة التخلي في مساقط الثمار: إذا أراد الإنسان التخلي، فإنه يكره له أن يتخلى في مساقط الثمار، وقد حكى النووي الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) شارحًا لقول الماتن: "ويكره أن يبول في مساقط الثمار"، حيث يقول: "هذا الذي ذكره متفق عليه، ولا فرق بين الشجر المباح والذي يملكه، ولا بين وقت الثمر وغير وقته؛ لأن الموضع يصير نجسًا، فمتى وقع الثمر تنجس، وسواء البول والغائط، وإنما اقتصر المصنف على البول اختصارًا، وتنبيها للأدنى على الأعلى" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتقوا اللعانين: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم" (¬6). ¬
[20 - 72] استحباب البول في موضع لين
2 - حديث معاذ -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" (¬1). • وجه الدلالة: حيث ورد اللعن في الحديث على فاعل ذلك، وسواء كان اللعن من باب الإخبار عن حال الناس، أو لعن من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فهو يكفي في كون هذا الفعل منهيًا عنه. • الخلاف في المسألة: الحديث فيه ما يدل على التحريم، حيث فيه ذكر اللعن، وهو لا يكون إلا على الكبائر المحرمات (¬2). وهو قول عند الشافعية (¬3)، ووجه عند الحنابلة (¬4). ولكن هذا الرأي لا يخالف مسألتنا، فالكراهة نوعان: تنزيهية، وتحريمية، وكلاهما من قبيل المنهيات.Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، أما الخلاف الذي سبقت الإشارة إليه، فليس ناقضًا للمسألة؛ لأن التحريم كراهة وزيادة، واللَّه تعالى أعلم. [20 - 72] استحباب البول في موضع لين: إذا أراد الإنسان البول، فإنه يستحب له أن يختار مكانا ليِّنًا، لكي لا يرتد إليه البول. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) معلقًا على قول الماتن: "ويرتاد موضعًا للبول، فإن كانت الأرض الأصلية دقها بعود أو حجر؛ حتى لا يترشش عليه البول" حيث يقول: "وهذا الأدب متفق على استحبابه" (¬5). ¬
[21 - 73] استحباب تقديم اليسرى للخلاء واليمنى للخروج منه
ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول شارحًا لكلام البهوتي: "ويستحب. . . وارتياده لبوله مكانًا رخوًا"، قال: "بالاتفاق" (¬1)، أي: على استحبابه. • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). ولم أجد كلاما للحنفية، في هذه المسألة، بعد طول بحث، ولكن واللَّه تعالى أعلم أنها لا تخالف أصولهم، فهم قد قالوا: بكراهة البول واقفًا، وفي مهب الريح، وفي أسفل الأرض إلى أعلاها، وعللوا ذلك: بألا يعود عليه رشاش بوله؛ فيتنجس، وهي نفس علة مسألتنا، غير أني لم أجد لهم ذكرًا لمسألتنا (¬4). • مستند الاتفاق: حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-، قال: كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثًا في أصل جدار فبال، ثم قال: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله" (¬5). • وجه الدلالة: ظاهرة من الحديث، حيث ذكر أنه يرتاد لبوله، أي: يبحث عن مكانٍ أرضه رخوة، لا تردُّ الماء، قال العظيم آبادي: "والحديث فيه مجهول، لكن لا يضر، فإن أحاديث الأمر بالتنزه عن البول تفيد ذلك" (¬6).Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [21 - 73] استحباب تقديم اليسرى للخلاء واليمنى للخروج منه: إذا أراد الإنسان دخول الخلاء، فإنه يستحب له أن يدخل باليسرى، ويخرج باليمنى، وعلى ذلك حكى النووي الاتفاق. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) معلقًا على قول الماتن: "ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج اليمنى؛ لأن اليسار للأذى، واليمنى لما ¬
سواه"، حيث يقول: "وهذا الأدب متفق على استحبابه، وهذه قاعدة معروفة، وهي أن ما كان من التكريم بدئ فيه باليمنى، وخلافه باليسار" (¬1). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول عن مسألتنا: "وهذا الأدب متفق على استحبابه" (¬2)، ويبدو أنها عبارة النووي، إلا أنه لم يشرْ لذلك. • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "كانت يد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى" (¬6). 2 - حديث حفصة -رضي اللَّه عنها-: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويساره لما سوى ذلك" (¬7). • وجه الدلالة: من هذين الحديثين وغيرهما كثير، تدل على استحباب تقديم اليمين في المكارم والطاهرات، وعلى العكس في الأشياء الدنية والنجاسات، فمن جملتها نأخذ هذا المعنى، فيستحب الدخول للخلاء -وهو موطن نجاسة- باليسرى، والخروج منه باليمنى، وعلى العكس في المسجد (¬8). • الخلاف في المسألة: هناك من أخرج هذا الحكم في حال كون الإنسان في الصحراء (¬9)، وهذا الخلاف لا يقدح في مسألتنا؛ لخروجه عن توصيفها؛ إذ هي ¬
[22 - 74] استحباب عدم رفع الثوب للخلاء حتى يدنو من الأرض
تتحدث عن الذهاب لمكان معروف، متخذ لهذا الشأن، وهو ما يسمى الحمام، وهي أيضًا في بعض تفصيلات المسألة، والتفصيلات دائما يدخلها الخلاف، والاتفاق غالبا في العموميات.Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [22 - 74] استحباب عدم رفع الثوب للخلاء حتى يدنو من الأرض: إذا أراد الإنسان أن يتخلى، فإنه يستحب له أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، كي لا تنكشف عورته. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) شارحًا قول الماتن: "ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض" حيث يقول: "وهذا الأدب مستحب بالاتفاق وليس بواجب" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه؛ حتى يدنو من الأرض" (¬6). • وجه الدلالة: في دلالة السنة الفعلية من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحديث -وإن كان ضعيفًا- إلا أن علة الفعل في الحديث صحيحة، وهي الستر، وعدم كشف العورة. 2 - أن عدم رفع الثوب حتى الدنوّ من الأرض أستر للخارج للخلاء، وأحفظ لعورته؛ فيكون أولى (¬7). ¬
[23 - 75] استحباب عدم إطالة القعود للخلاء
• الخلاف في المسألة: هناك روايتان لدى الحنابلة في المسألة، بين التحريم والكراهة (¬1)، لمن فعل ذلك، وعلى كلٍّ؛ فلا يخالف هذا مسألتنا؛ إذ الكراهة للضد استحباب له، والتحريم للضد إيجاب له، وهو استحباب وزيادة، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [23 - 75] استحباب عدم إطالة القعود للخلاء: إذا دخل الإنسان الخلاء، فإنه يستحب له أن لا يطيل القعود فيه، ونقل النووي الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) شارحًا قول الماتن: "ولا يطيل القعود" حيث يقول: "هذا الأدب مستحب بالاتفاق" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - لما يورثه طول القعود من مضار على الإنسان، وذكروا من ذلك أنه يورث مرض الباسور (¬6)، ووجع الكبد (¬7). وكل ما هو ضار ومهلك للإنسان فهو ممنوع منه، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. 2 - حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم، إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم، وأكرموهم" (¬8). ¬
[24 - 76] النهي عن البول فيما ينجسه البول
• وجه الدلالة: استدل الحنابلة بهذا الحديث على تحريم طول المكث في الخلاء، في أحدى الروايتين عندهم، قالوا: لما في طول المكث الزائد من كشف للعورة، دون حاجة لذلك، وكشف العورة محرم، فيكون هذا الفعل محرمًا (¬1)، والتحريم كراهة للضد وزيادة؛ فلا يعارض اتفاق مسألتنا. وهذه المسألة مبنية عندهم على مسألة كشف العورة، في خلوة دون حاجة، وفيها روايتان عندهم أيضًا (¬2).Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [24 - 76] النهي عن البول فيما ينجسه البول: البول في الماء الذي يتنجس به منهيٌ عنه، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول فيمن يفرق بين الماء القليل والكثير في النهي عن البول فيه: "فإذا كان النص، بل والإجماع؛ دل على أنه نهى عن البول فيما ينجسه البول، بل تقدير الماء، وغير ذلك، فيما يشترك فيه القليل والكثير؛ كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير؛ مستقلا بالنهي" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والشافعية (¬6). • مستند الإجماع: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه" (¬7). • وجه الدلالة: حيث نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البول في الماء الدائم الذي لا يجري، وهو ما يكون احتمال تنجسه قوي، فدل ذلك على النهي عن البول فيما ينجسه البول. ¬
[25 - 77] جواز الوضوء في المسجد
Rأن الإجماع متحقق، وذلك لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [25 - 77] جواز الوضوء في المسجد: الوضوء في المسجد جائز، إلا أن يكون مؤذيًا لأحد (¬1). • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) نقله عنه ابن قدامة (¬2) حيث قال: "ولا بأس بالوضوء في المسجد إذا لم يؤذ أحدًا بوضوئه، ولم يبلّ موضع الصلاة، قال ابن المنذر: أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابن جريج، وعوام أهل العلم" (¬3). ونقله عنه النووي بنحو هذه العبارة (¬4)، ونقله ابن مفلح (¬5)، والشوكاني (¬6) بلفظ الإجماع. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابن جريج، والنخعي (¬7)، والحنفية (¬8)، والمالكية في قول (¬9)، والشافعية (¬10)، والحنابلة (¬11). • مستند الإجماع: 1 - أن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه-، وُجد يتوضأ على المسجد (¬12). • وجه الدلالة: فيه فعل صحابي، وهو حجة عند عددٍ من أهل العلم (¬13). 2 - أن الأصل جواز الوضوء في المسجد، ولا دليل يمنع من ذلك، فيبقى هذا الحكم حتى يأتي الدليل الناقل، واللَّه تعالى أعلم. ¬
• الخلاف في المسألة: خالف المالكية في قول (¬1)، فقالوا: بعدم جواز الوضوء في المسجد. واستدلوا بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، فواجب أن ترفع وتنزه عن أن يتوضأ فيها؛ لما يسقط فيها من غسل الأعضاء من أوساخ، ولتمضمضه فيه ومجّه (¬2).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الباب الرابع: مسائل الإجماع في باب السواك وسنن الوضوء
الباب الرابع: مسائل الإجماع في باب السواك وسنن الوضوء [1 - 78] مشروعية السواك: يشرع للمسلم أن يستاك بالسواك، وقد حكى عدد من العلماء الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "اتفقوا أن السواك لغير الصائم حسن" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث قوله: "وفضل السواك مجتمع عليه لا اختلاف فيه" (¬2). ونقله عنه العيني (¬3). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "اتفقوا على استحباب السواك عند أوقات الصلوات، وعند تغير الفم" (¬4). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول عن السواك: "واتفق أهل العلم على أنه سنة مؤكدة" (¬5). ونقل ابن قاسم نحو عبارته (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "فالسواك سنة ليس بواجب، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكى الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا، عن داود أنه أوجبه" (¬7). ونقله عنه الحطاب (¬8)، والشوكاني (¬9)، وابن قاسم (¬10). العراقي (806 هـ) حيث يقول: "وقد حكى بعضهم الإجماع، على أنه لا يجب" (¬11). وهذا يعني مشروعيته تضمنًا. ولذلك قال أيضًا عن حديث أبي هريرة الآتي: "والمنفي إنما هو الوجوب، دون الاستحباب اتفاقًا" (¬12). ¬
[2 - 79] استحباب السواك عند الصلاة
الحطاب (954 هـ) حيث يقول عن السواك: "لا خلاف أنه مشروع عند الوضوء، والصلاة، مستحب فيهما، وأنه غير واجب" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2). • مستند الاتفاق: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬3). 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دخل بيته بدأ بالسواك" (¬4). • وجه الدلالة: هذان الحديثان يدلان على استحباب السواك ومشروعيته (¬5)، ففي الأول يبين عليه الصلاة والسلام أنه لولا المشقة على الناس لأمرهم أمرًا لازمًا بالسواك للصلاة. وفي الحديث الثاني من فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، حيث إنه كان يبتدئ بيته بالسواك، وهذه سنة فعلية، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: هناك خلاف بين العلماء في السواك للصائم، وهذه حالة خاصة، لا تخرم الإجماع العام.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [2 - 79] استحباب السواك عند الصلاة: يستحب السواك عند الصلاة، فقبل أن يتوجه إلى ربه، يستحب له أن ينظف فمه بالسواك. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "اتفقوا على استحباب السواك عند أوقات الصلوات" (¬6). ¬
[3 - 80] استحباب السواك عند تغير الفم
الحطاب (954 هـ) حيث يقول: "لا خلاف أنه مشروع عند الوضوء، والصلاة، مستحب فيهما، وأنه غير واجب" (¬1). وهو يريد نفي الخلاف المذهبي، وذكرته للاعتضاد. • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3). • مستند الاتفاق: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬4). • وجه الدلالة: ظاهرة من النص بالمطابقة.Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [3 - 80] استحباب السواك عند تغير الفم: يستحب السواك في عدة مواضع، ومنها إذا تغيرت رائحة الفم، فإنه يستحب عند ذلك أن يغيرها بالسواك. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "اتفقوا على استحباب السواك عند أوقات الصلوات، وعند تغير الفم" (¬5). ونقله عنه ابن قاسم (¬6). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬7)، والمالكية (¬8)، والشافعية (¬9). • مستند الاتفاق: 1 - حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنهما-، قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك" (¬10). ¬
[4 - 81] مشروعية الختان للرجال
2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك (¬1). • وجه الدلالة: مع تنوع الحالات التي ورد فيها فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع السواك، إلا أنها تظهر أنه كان يتسوك عند تغير فمه، سواء كان بنوم، أو بطول خروج عن البيت فيكون البطن خاويًا، أو غير ذلك، فهي تدل بمعظمها على استحبابه عند تغير رائحة الفم، ولذا يقول الإمام الشافعي: "واستحب السواك عند كل حال يتغير فيه الفم، وعند الاستيقاظ من النوم، وأكل كل ما يغير الفم، وشربه، وعند الصلوات كلها" (¬2). 3 - ومن المعقول: فالفم عندما تتغير رائحته، فإن الآخرين يتأذون من رائحته، وكذلك الزوجة والأبناء، فكان من المناسب أن يغير رائحته بالسواك وينظفه.Rأن الاتفاق متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [4 - 81] مشروعية الختان للرجال: الختان للرجال من سنن الإسلام الحنيف، وقد حكى عدد من العلماء الإجماع على مشروعيته. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ): "واتفقوا أن من ختن ابنه، فقد أصاب" (¬3). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "والذي أجمع عليه المسلمون؛ الختان في الرجال، على ما وصفنا" (¬4). وقال أيضًا: "والختان من ملة إبراهيم، لا يختلفون في ذلك" (¬5). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الختان في حق الرجال" (¬6). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "إذا لم يخف عليه ضرر الختان، فعليه أن يختتن، فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة، وهو واجب عند الشافعي، وأحمد في المشهور عنه" (¬7). ¬
[5 - 82] إباحة الختان للنساء
ونقله عنه ابن قاسم (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3). • مستند الإجماع: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬4). • وجه الدلالة: ظاهرة من الحديث، حيث اعتبر الختان من الفطرة، وهو استحسان له، مما يدل على مشروعيته، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الحسن في المسألة (¬5)، فقال: بالترخيص فيه، فإذا أسلم الكافر لا يبالي أن لا يختتن. ويقول: أسلم الناس الأسود، والأبيض، لم يُفتش أحد منهم، ولم يختتنوا (¬6). ولكن هذا لا ينافي أن يكون يقول بالمشروعية، حيث إنه رخص فيه، والرخصة لا تكون إلا في مقابل العزيمة. وهناك رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجب مطلقا (¬7)، ولكن هذا لا يعني أنه غير مشروع.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [5 - 82] إباحة الختان للنساء: الختان للنساء مباح، وقد حكى ابن حزم الاتفاق على ذلك. والحديث في هذه المسألة عن الإباحة، التي هي دون مرتبة الاستحباب، فليس المقصود أن كل العلماء قالوا: إنه مباح فحسب، فهناك من قال باستحبابه وبوجوبه، ¬
[6 - 83] مشروعية الختان للإناث
والمسألة لا تنكرها، ولكن المهم أن لا يكون هناك من يخالف الإباحة، بأن يقول: بالتحريم لختان النساء. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على إباحة الختان للنساء" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر الختان بصيغة العموم، ولم يفرق بين الرجل والمرأة، مما يدل على إباحته للمرأة، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل" (¬7). • وجه الدلالة: حيث في الحديث بيان أن النساء كن يختتن على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقل أحواله الإباحة (¬8).Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [6 - 83] مشروعية الختان للإناث: شرع اللَّه تعالى للإناث الختان (الخفاض)، وقد حُكي الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الختان في ¬
[7 - 84] إبراهيم عليه السلام أول من اختتن
حق الرجال، والخفاض (¬1) في حق الإناث مشروع" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5). • مستند الاتفاق: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬6). • وجه الدلالة: حيث ذكر الختان بصيغة العموم، ولم يفرق بين الرجل والمرأة، مما يدل على مشروعيته للمرأة كما هو للرجل، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [7 - 84] إبراهيم عليه السلام أول من اختتن: إبراهيم عليه الصلاة والسلام جد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو أول من سن سنة الختان، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أن إبراهيم أول من اختتن" (¬7). ابن العربي (543 هـ) حيث يقول عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "وكان أول من اختتن، وأقام مناسك الحج، وضحى، وعمل بالسنن نحو قص الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وأعطاه اللَّه الذكر الجميل في الدنيا، فاتفقت الأمم عليه" (¬8)، في كلامه إشارة للاتفاق، وليس صريحًا. القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "أجمع المسلمون على أن إبراهيم عليه الصلاة ¬
[8 - 85] تقليم الأظفار سنة
والسلام أول من اختتن" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- (¬2)، وابن المسيب (¬3)، والشافعية (¬4). أما الحنفية والحنابلة، فقد بحثت في كتبهم كثيرًا، إلا أنني لم أجد نصًّا منهم في مسألتنا، بأن إبراهيم هو أول من اختتن. • مستند الإجماع: لم أجد ما يدل على ذلك، إلا ما ورد من الأمر باتباع ملة إبراهيم، في قوله: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]. • وجه الدلالة: الآية الكريمة كأن فيها إشارة، على أنه الأول في اتباع هذه الفطرة، حيث أمرنا باتباع ملته، وكان من ملته أنه يختتن عليه الصلاة والسلام، لما روى أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اختتن إبراهيم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" (¬5) (¬6).Rكما سبق، فإنني لم أجد كلامًا للحنفية والحنابلة على مسألتنا، غير أنهم لم يذكروا مخالفة لها، ولم أجد عند غيرهم مخالفًا أيضًا، واللَّه تعالى أعلم. [8 - 85] تقليم الأظفار سنة: تقليم الأظفار من سنن الفطرة، وفيها إزالة للخبث من جسد الإنسان، وقد حُكي الإجماع على سنيتها. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن قص الشارب، وقطع الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط، حسن" (¬7). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأما قص الأظفار، وحلق العانة؛ فمجتمع على ¬
[9 - 86] الاستحداد سنة
ذلك أيضًا" (¬1). النووي (676 هـ) حيث يقول: "أما تقليم الأظفار فمجمع على أنه سنة، وسواء فيه الرجل والمرأة، واليدان والرجلان" (¬2). العراقي (806 هـ) حيث يقول: "فإن قيل قد قدمتم الاتفاق، على أن حلق العانة، وتقليم الأظفار سنة، وليس بواجب" (¬3). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "قوله (¬4): (تقليم الأظفار). . . وهو سنة بالاتفاق أيضًا" (¬5). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "وتقليمها سنة إجماعا" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والحنابلة (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬9). 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء" ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة (¬10). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر تقليم الأظفار من سنن الفطرة.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 86] الاستحداد سنة: الاستحداد: هو استعمال الحديدة في إزالة شعر العانة، وصار كناية عن حلق العانة (¬11). ¬
• من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن قص الشارب، وقطع الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط حسن" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأما قص الأظفار، وحلق العانة؛ فمجتمع على ذلك أيضًا، إلا أن من أهل العلم من وقت في حلق العانة أربعين يومًا، وأكثرهم على أن لا توقيت في شيء من ذلك" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأما حلق العانة؛ فمتفق على أنه سنة أيضًا" (¬3). العراقي (806 هـ) حيث يقول: "الاستحداد استفعال من استعمال الحديد في حلق العانة، وهو مستحب إجماعًا" (¬4). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: " (الاستحداد) هو حلق العانة، سمِّي استحدادًا؛ لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، وهو سنة بالاتفاق" (¬5). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "يسن للرجل والمرأة حلقها إجماعًا" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والحنابلة (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬9). 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء"، ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة (¬10). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر الاستحداد من سنن الفطرة.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
[10 - 87] نتف الإبط سنة
[10 - 87] نتف الإبط سنة: يسن للمسلم أن ينتف إبطه، وهو من النظافة والطهارة التي جاء بها الإسلام، وحكى عدد من العلماء الاتفاق على سنيته. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن قص الشارب، وقطع الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط، حسن" (¬1). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأما نتف الإبط؛ فمتفق أيضًا على أنه سنة" (¬2). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "قوله (¬3): (ونتف الإبط) هو سنة بالاتفاق أيضًا" (¬4). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "يسن قلع شعر إبطه إجماعًا" (¬5). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والحنابلة (¬8). • مستند الاتفاق: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬9). 2 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء"، ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة (¬10). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عدَّ نتف الإبط من سنن الفطرة.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[11 - 88] غسل البراجم سنة
[11 - 88] غسل البراجم سنة: غسل البراجم في يد المسلم سنة مستحبة. والبراجم هي: العُقد التي في ظهور الأصابع، والرواجب: ما بين البراجم. ومعناه: تنظيف المواضع التي تشنج، ويجتمع فيها الوسخ (¬1). وقال العراقي: "والبراجم جمع برجمة بضمها، وهي عقد الأصابع التي في ظاهر الكف" (¬2). • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأما غسل البراجم؛ فمتفق على استحبابه، وهو سنة مستقلة، غير مختصة بالوضوء" (¬3). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الاتفاق: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء"، ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة (¬7). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر غسل البراجم من سنن الفطرة.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [12 - 89] حلق اللحية لا يجوز: أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بإعفاء اللحية، وقد اتفق العلماء على تحريم حلق اللحية بالكلية. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن حلق جميع اللحية مُثلةٌ لا تجوز، وكذلك الخليفة، والفاضل، والعالم" (¬8). ¬
[13 - 90] إباحة حلق الرأس وحبسه
• الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الاتفاق: حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى، وأحفوا الشوارب" (¬5). وجه الدلالة من وجهين: 1 - أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بتوفير اللحى، والأمر يقتضي الوجوب، فكان الحلق منافيًا لمقتضى الأمر، فهو محرم، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بدأ الأمر بمخالفة المشركين، ومخالفتهم واجبة، فكأنه أمر ثانٍ على توفير اللحى، ومن خالف الأمر فقد ارتكب محرمًا، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: هناك من قال: يؤخذ من اللحية، وبينهم خلاف في مقدار ما يؤخذ (¬6)، ولكن هذا لا يخالف مسألتنا، فهي في حلقها بالكلية.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [13 - 90] إباحة حلق الرأس وحبسه: حلق المسلم لرأسه مباح، وكذا حبسه، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "قد أجمع العلماء في جميع الآفاق على إباحة حبس الشعر، وإباحة الحلاق، وكفى بهذا حجة" (¬7). ونقله عنه ابن قدامة (¬8)، والقرطبي (¬9)، والبهوتي (¬10)، والرحيباني (¬11). ¬
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن جعفر -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم، ثم أتاهم، فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم"، ثم قال: "ادعوا بني أخي"، فجيء بنا، قال: "ادعوا لي الحلاق" فأمر بنا فحلق رؤوسنا (¬4). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بحلق رؤوسهم، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يأمر إلا بمباح أو أكثر، وهذا يدل على الإباحة (¬5). • الخلاف في المسألة: خالف بعض الشافعية، فقالوا بأنه بدعة في غير المولود وإسلام الكافر والحج والعمرة (¬6)؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحلق رأسه إلا في النسك (¬7). وخالف أحمد في رواية بالكراهة في ذلك (¬8)، وروي عن عمر، وابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬9)، قال أحمد: كانوا يكرهون ذلك (¬10). واستدلوا بما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال في الخوارج: "سيماهم التحليق" (¬11)، فجعله علامة لهم (¬12).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[14 - 91] حلق الرأس في غير النسك ليس قربة
[14 - 91] حلق الرأس في غير النسك ليس قربة: إذا أراد إنسان أن يحلق رأسه في غير نسك، فإن فعله هذا لا يُتقرب به، ولا يسن، وحُكي الاتفاق على ذلك (¬1). • من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "وليس حلق الرأس في غير نسك بسنة، ولا قربة باتفاق المسلمين" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق بعض الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5). • مستند الإتفاق: أن المسنون والمتقرَّب به في الإسلام لا يشرع إلا أن يدل دليل على السنية أو القربة، ولا دليل على ذلك في غير النسك، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، حتى يأتي ناقل عنها (¬6). • الخلاف في المسألة: خالف بعض الحنفية، وعبروا بأنه سنة (¬7). لم أجدهم ذكروا دليلًا، إلا أنهم جعلوه من باب النظافة (¬8).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [15 - 92] كراهة القزع: حلق الإنسان لبعض رأسه وتركه للبعض منهي عنه، وهو ما يسمى بالقزع (¬9)، وقد ¬
حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على كراهة القزع، إذا كان في مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه" (¬1). ونقله عنه ابن حجر (¬2)، والشوكاني (¬3). المرداوي (885 هـ) حيث يقول شارحًا لكلام ابن قدامة في "المقنع": "قوله: (ويكره القزع) بلا نزاع، وهو أخذ بعض الرأس، وترك بعضه" (¬4). وهو يريد المذهب بلا شك، وذكرته للاعتضاد فقط. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع عائشة -رضي اللَّه عنها- (¬5)، والحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والحنابلة (¬8)، وابن حزم (¬9). • مستند الإجماع: حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القزع، فقيل لنافع: ما القزع؟ قال: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعض" (¬10). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن القزع، ومجرد نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل على الكراهة؛ إذ أن النهي أتى في مقابل الجواز المطلق للحلق، فيكون للكراهة حتى تأتي قرينة على التحريم، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف بعض المالكية -فيما نقله عنهم النووي- بالقول بجوازه في الغلام (¬11)، وهو مخالف لمنصوص الإمام مالك، فقد قال: لا يعجبني ذلك في الجواري، ولا الغلمان، ووجّه ذلك بأنه قزع (¬12). ¬
[16 - 93] مشروعية الأخذ من الشارب
ولم أجد هذا القول في كتبهم.Rأن الإجماع متحقق في غير الغلمان؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. أما الغلمان: فلم أجد ما يؤكد كلام النووي في كتب المالكية، فإن صح النقل، فلا إجماع في الغلمان، وإلا فالإجماع صحيح في الغلمان أيضًا، واللَّه تعالى أعلم. [16 - 93] مشروعية الأخذ من الشارب: الأخذ من الشارب سنة من سنن الفطرة، وقد أجمع على ذلك العلماء. وعبرت بالأخذ؛ لأتجنب الخلاف في المسألة، فهناك خلاف هل الواجب القص؛ أو الحلق؟ وهذا العنوان يشمل الاثنين. وهناك أمر آخر وهو: أن المشروعية تشمل الاستحباب، وما فوقه (¬1)، وناقض المسألة -إن وجد- فهو من قال بالإباحة، أو ما دونها، وهذا ما سنراه في المسألة إن شاء اللَّه تعالى. • من نقل الإجماع: الجوهري (350 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا أن إحفاء الشارب من السنة؛ إلا مالكًا فإنه كرهه" (¬2). وهذا مبني على الخلاف الذي سبقت الإشارة إليه، فهو يقول -مالك- بالقص، لا الإحفاء بمعنى الحلق؛ لأنه يعتبره مثلة. ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن قص الشارب، وقطع الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط، حسنٌ" (¬3). ونقل عنه ابن مفلح حكاية الإجماع، حيث قال: "وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب، وإعفاء اللحية فرض" (¬4). وراجعت كلامه فوجدته نص على فرضيته، ولم يحك إجماعًا (¬5)، ولعل ابن مفلح ¬
[17 - 94] استحباب التيامن في الطهارة
اشتبه عليه كلامه في "المراتب" مع "المحلى"، وكذا حكاه ابن قاسم (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا أنه لا بد للمسلم من قص شاربه، أو حلقه" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأما قص الشارب، فمتفق على أنه سنة" (¬3). العراقي (822 هـ) حيث يقول: "فيه استحباب قص الشارب، وهو مجمع على استحبابه" (¬4). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول شارحًا لحديث الفطرة: "قوله: (وقص الشارب) هو سنة بالاتفاق" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط" (¬8). 2 - حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى" (¬9). وجه الدلالة من الحديثين: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكره من سنن الفطرة في الحديث الأول، والأمر به في الحديث الثاني، وهو يكفي في المشروعية، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [17 - 94] استحباب التيامن في الطهارة: إذا أراد المسلم الطهارة فإنه يستحب له أن يتيامن فيها، وعليه حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا أن الأفضل أن ¬
يغسل اليمنى قبل اليسرى، وأجمعوا أن رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام كذلك كان يتوضأ، وكان عليه الصلاة والسلام يحب التيامن في أمره، كما في طهوره، وغسله، وغير ذلك من أموره" (¬1). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وغسل الميامن قبل المياسر لا خلاف بين أهل العلم -فيما علمنا- في استحباب البداءة باليمنى" (¬2). ونقله عنه ابن حجر (¬3)، والشوكاني في "النيل" (¬4)، وابن قاسم (¬5). النووي (676 هـ) حيث يقول: "واستثني منه -أي: من الترتيب- تقديم اليمين بالإجماع" (¬6). وقال أيضًا: "وتقديم اليمنى سنة بالإجماع، وليس بواجب بالإجماع" (¬7). ونقله عنه الحافظ ابن حجر (¬8)، والشوكاني في "النيل" (¬9)، وابن قاسم (¬10). العيني (855 هـ) حيث يقول: "واتفق العلماء أنه يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم، كالوضوء والغسل ولبس الثوب. . " (¬11). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "والحديث يدل على استحباب البداءة بالميامن، ولا خلاف فيه" (¬12). • مستند الإجماع: 1 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحب التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله" (¬13). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم" (¬14). ¬
[18 - 95] جواز تقديم اليد اليسرى في الطهارة
• وجه الدلالة: ظاهر من ذكر حب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للتيمن في الحديث الأول، وفي الثاني من الأمر بالبدء بالميامن، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: قال النووي: "وحكى أصحابنا عن الشيعة أن تقديم اليمنى واجب، لكن الشيعة لا يعتد بهم في الإجماع" (¬1). وعلى كل حال، فالقول بالوجوب لا ينافي الاستحباب في كونهما في درجة المشروعية.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [18 - 95] جواز تقديم اليد اليسرى في الطهارة: إذا أراد المسلم الوضوء، وقدم اليسرى على اليمنى، فإن وضوءه صحيح، ولا إعادة عليه بإجماع العلماء. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه لا إعادة، على من بدأ بيساره قبل يمينه في الوضوء" (¬2). ونقله عنه النووي، وقال بعده: "وكذا نقل الإجماع فيه آخرون" (¬3). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وكذلك أجمعوا أن من غسل يسرى يديه قبل اليمنى أنه لا إعادة عليه" (¬4). وقال أيضًا: "لأن اليمنى واليسرى لا تنازع بين المسلمين في تقديم إحداهما على الأخرى" (¬5). وقال أيضًا: "وكذلك أجمعوا أن من غسل يسرى يديه قبل يمناه أنه لا إعادة عليه" (¬6). ¬
ابن العربي (543 هـ) حيث يقول: "قوله (¬1): (فإذا غسل يديه)، فذكر مجموعهما، ولأجل هذا اتفق العلماء على سقوط الترتيب بينهما -أي: اليمنى واليسرى" (¬2). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه" (¬3). وقال أيضًا: "ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى، لا نعلم فيه خلافًا" (¬4). ونقله ابن قاسم (¬5). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وتقديم اليمنى سنة بالإجماع، وليس بواجب بالإجماع" (¬6). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "ولو بدأ في الطهارة بمياسره قبل ميامنه، كان تاركًا للاختيار، وكان وضوؤه صحيحًا من غير نزاع أعلمه بين الأئمة" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬8). • مستند الإجماع: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحب التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله" (¬9). • وجه الدلالة: قولها -رضي اللَّه عنها-: (يحب) يفيد الاستحباب، وأنه كان يفعل ذلك، ويحبه، ولكن لم يأمر به على الإلزام، وإلا قالت: كان يأمر، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: سبق نقل النووي في المسألة الماضية عن الشيعة (¬10) أنهم يقولون بوجوب تقديم اليمين، وأنه لا يعتد بخلافهم. ونسب المرتضى الشيعي هذا القول للشافعي فيما نقله عنه ابن حجر (¬11)، وغلطه فيها. ¬
[19 - 96] استحباب تثليث غسل أعضاء الوضوء
وبعض الشيعة نسب القول بالوجوب للفقهاء السبعة؛ وهو تصحيف من الشيعة، وهو غير صحيح أيضًا (¬1). ونسب بعض الشافعية هذا القول إلى الإمام أحمد، وهو غير صحيح أيضًا (¬2)، وقد سبق النقل عن ابن قدامة بما يخالفه، وقال الزركشي: هو منكر، وهما في حكم اليد الواحدة (¬3). ولابن حزم كلام محتمل للوجوب، حيث قال: "ولا بد في الذراعين والرجلين من الابتداء باليمين قبل اليسار كما جاء في السنة" (¬4). ولكن ذلك لم يثبت، وراجعت كلامه في صفة الوضوء، فلم يشر لذلك لا من بعيد، ولا من قريب (¬5). فلم يصرح بالوجوب، والواجب حمل كلامه على ما وافق الإجماع؛ حتى يثبت الضد (¬6).Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف المعتبر في المسألة، وقد سبق مناقشة خلاف الشيعة وعدم اعتباره في خرق الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. [19 - 96] استحباب تثليث غسل أعضاء الوضوء: يستحب لمن توضأ أن يغسل أعضاءه ثلاثًا، وهذا يشمل جميع الأعضاء سوى الرأس؛ فالخلاف فيه مشهور، ولا يدخل في حديث من نقلت عنه من العلماء، في هذه المسألة. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أن الوضوء يجزئ مرة مرة، ومرتين أفضل، وأفضله ثلاث، وليس بعده شيء" (¬7). ¬
ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "فالثلاث في ذلك في سائر الأعضاء أكملُ الوضوء وأتمه، وما زاد فهو اعتداء، ما لم تكن الزيادة لتمام نقصان، وهذا لا خلاف فيه" (¬1). ونفيه للخلاف هنا يحتمل كونه في مسألة الزيادة على الثلاث، وفي مسألتنا، وكونه في المسألتين معا, ولكن كونه في المسألتين أظهر، حيث إن السياق يدل لذلك، واللَّه تعالى أعلم. سند بن عنان (541 هـ) حيث يقول: "لا خلاف في ثبوت فضيلة التكرار" (¬2) أي في غسل الأعضاء، فيما نقله عنه الحطاب (¬3). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة، هو مرة مرة، إذا أسبغ، وأن الاثنين والثلاث مندوب إليهما" (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول: "أما حكم المسألة: فالطهارة ثلاثًا ثلاثًا مستحبة في جميع أعضاء الوضوء بإجماع العلماء، إلا الرأس؛ ففيه خلاف للسلف" (¬5). ونقل عنه الشوكاني حكايته للإجماع في ذلك (¬6). المرداوي (885 هـ) حيث يقول شارحًا لعبارة "المقنع" في سنن الوضوء: "قوله: (والغسلة الثانية والثالثة) بلا نزاع" (¬7). وهو يقصد النزاع في المذهب بلا شك. ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "ومنها التثليث في حق كل واحد بالإجماع" (¬8)، وهو يريد تثليث المضمضة والاستنشاق هنا، إلا أن كلامه ينساق أيضًا على غيرها. ابن حجر الهيتمي (974 هـ) في سنن الوضوء: " (وتثليث الغسل) وذلك للإجماع على طلبه، ويحصل بتحريك اليد ثلاثًا, ولو في ماء قليل" (¬9). الصنعاني (1182 هـ) شارحًا حديث عثمان (¬10): " (دعا بوضوء) أي: بماء يتوضأ به ¬
(فغسل كله ثلاث مرات) هذا من سنن الوضوء بإتفاق العلماء" (¬1). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الأعضاء مرة واحدة، وأن الثلاث سنة" (¬2). وقال أيضًا: "وقد قدمنا أن التثليث سنة بالإجماع" (¬3). • مستند الإجماع: 1 - حديث عثمان -رضي اللَّه عنه-، أنه وصف وضوء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا (¬4). 2 - حديث علي -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ ثلاثًا ثلاثًا (¬5). • وجه الدلالة: ظاهر من السنة الفعلية للنبي عليه الصلاة والسلام. • الخلاف في المسألة: خالف بعض العلماء في المسألة، وقالوا بعدم المشروعية. وقد نَقَل النووي حكاية هذا القول عن بعض الشافعية (¬6)، نسبوه لبعض العلماء، وأنكر أن يكون صحيحًا، فقال: "وحكى بعض أصحابنا عن بعض العلماء أنه لا يستحب الثلاث، وعن بعضهم أنه أوجب الثلاث، وكلاهما غلط، ولا يصح هذا عن أحد، فإن صح؛ فهو مردود بالأحاديث الصحيحة" (¬7)، قال هذا بعد حكايته للإجماع في المسألة كما سبق، مما يعني أنه يرى أن لا خلاف في المسألة معتبر. وحُكي عن مالك بأنه لم ير التوقيت لا بواحدة ولا بثلاث (¬8). واستدل بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، حيث الأمر بالغسل فقط، ولم يحدد (¬9). ¬
[20 - 97] التثليث في الوضوء غير واجب
ولكن المعروف عنه موافقة الجمهور، بل عنه رواية بكراهة النقض عن الثلاث (¬1). وبعد مزيد من البحث، وجدت القرافي نقل عن صاحب "الطراز" وغيره (¬2) تفسيرًا لما نقل عن مالك في ذلك، بأنه يريد به نفي الوجوب (للثلاث)، لا نفي الفضيلة، وهذا يتوافق مع قول الجمهور وللَّه الحمد. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز بمشروعية التثليث إلا في الرجلين (¬3)، وهو قول عند المالكية (¬4).Rأن الإجماع غير متحقق في الرجلين، بلا إشكال، فالنقل فيها واضح؛ لوجود المخالف المعتبر، واللَّه تعالى أعلم. أما بقية الأعضاء فالنقل فيها -كما سبق- غير واضح، فالنووي نفى وجود الخلاف، وغلط من نقله، وأما ما نُقل عن مالك فغير قوي أيضًا, ولولا أن من نقله غير ابن عبد البر لنفيت صحته، مع أنه سبق نقل نفيه للخلاف في المسألة، والمسألة محل إشكال عندي، ولكن الأظهر أن المسألة إجماعية، وما نقل فيها فهو شاذ إن صح؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة والصريحة، ولمخالفته الإجماع، واللَّه أعلم (¬5). [20 - 97] التثليث في الوضوء غير واجب: إذا أراد المسلم الوضوء، فإنه لا يجب عليه أن يغسل أعضاءه ثلاثًا، وعلى ذلك حكي الإجماع. • من نقل الإجماع: الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في أن النجاسة الحكمية، وهي الحدث والجنابة تزول بالغسل مرة واحدة، ولا يشترط فيها العدد" (¬6). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وأن الاثنين والثلاث مندوب إليهما" (¬7). ¬
النووي (676 هـ) حيث يقول: "ولأن فيه غسل الكفين والتكرار وغيرهما مما ليس بواجب بالإجماع" (¬1). ويقول: "فإن الثلاث لا تجب بالإجماع" (¬2). ويقول: "أجمع العلماء على أن الواجب مرة واحدة" (¬3). وقال بعدها بقليل: "والأحاديث في هذا كثيرة مشهورة، وهو مجمع عليه، ولم يثبت عن أحد خلافه" (¬4). ونقله عنه الشوكاني (¬5). ابن حجر (852 هـ) حيث يقول في سياق حديثه عن قول بعض العلماء بوجوب التثليث: "وكأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور (¬6)، وهو محجوج بالإجماع" (¬7). ابن الهمام (861 هـ) حيث يقول عن وجوب الغسلات الثلاث: "لكن انعقد الإجماع على خروج اثنتين منهما"، أي: الثانية والثالثة عن الوجوب (¬8). ونقله عنه ابن نجيم (¬9). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "وأما التثليث فغير واجب بالإجماع، وفيه خلاف شاذ" (¬10). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الأعضاء مرة واحدة، وأن الثلاث سنة" (¬11). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬12). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بغسل الأعضاء، ولم يحدد عز وجل عدد الغسل، فيكفي ما يحصل به الغسل، ولو كان مرة واحدة أو مرتين (¬13). ¬
[21 - 98] إجزاء الغسلة الواحدة إذا عمت
2 - حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال "توضأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة مرة" (¬1). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورد عنه أنه توضأ بغسل الأعضاء مرة واحدة، وهذه سنة فعلية، ولو كان التثليث واجبًا لالتزم به عليه الصلاة والسلام (¬2). • الخلاف في المسألة: نقل النووي عن بعض الشافعية حكايتهم قولًا عن بعض العلماء بوجوب التثليث، ولكنه أنكر صحته، ولم يعتبره (¬3). ونقله ابن حجر أيضًا عن بعض العلماء، وأنكره أيضًا (¬4). ونُقل عن ابن أبي ليلى مخالفته بقوله بوجوب التثليث (¬5). واستُدل (¬6) لهذا القول بظاهر حديث عمرو بن شعيب عن أَبيه عن جده، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" (¬7).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف المعتبر في المسألة، فأما ما نقله النووي وابن حجر؛ فلم يذكروا عالمًا معينًا ولم يتابعهم عليه أحد، وأنكره أيضًا، مما يقوي شذوذه، وأما ابن أبي ليلى؛ فلم يثبت عنه، بالإضافة إلى مخالفة الأحاديث الصحيحة, واللَّه تعالى أعلم. [21 - 98] إجزاء الغسلة الواحدة إذا عمت: إذا غسل المتوضئ عضوه مرة واحدة، وكانت سابغة، فإنها مجزئة له، وعلى ذلك الإجماع. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أن الوضوء يجزئ مرة مرة، ومرتين أفضل، وأفضله ثلاث، وليس بعده ¬
شيء" (¬1). ابن جرير الطبري (310 هـ) حيث نقل عنه النووي حكايته الإجماع في المسألة (¬2). نقله عنه النووي (¬3)، وابن قاسم (¬4). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم على أن من توضأ مرة مرة، فأسبغ الوضوء؛ أن ذلك يجزيه" (¬5). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "والغسلة الواحدة إذا أوعبت تجزئ بإجماع العلماء؛ لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد توضأ مرة مرة، ومرتين، وثلاثة، وهذا أكثر ما فعل من ذلك عليه الصلاة والسلام، وتلقت الجماعة ذلك من فعله على الإباحة والتخيير في الثنتين، والثلاث، إلا إن ثبت أن شيئًا من ذلك نسخ لغيره، فقف على إجماعهم فيه" (¬6). وقال أيضًا: "وأجمع العلماء أن غسلة واحدة سابغة في الرجلين، وسائر الوضوء تجزئ" (¬7). وقال أيضًا: "وأجمعت الأمة أن من توضأ مرة واحدة سابغة؛ أجزأه" (¬8). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الوضوء مرة مرة مسبغة في الوجه والذراعين والرجلين يجزئ" (¬9). الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في أن النجاسة الحكمية، وهي الحدث والجناية تزول بالغسل مرة واحدة، ولا يشترط فيها العدد" (¬10). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق، كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة" (¬11). الحطاب (954 هـ) حيث يقول: "لأنا لا نعلم أن أحدًا يقول بحرمة الاقتصار عليها" (¬12)، أي: الواحدة. ¬
الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الأعضاء مرة واحدة" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬2). • مستند الإجماع: 1 - حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- "توضأ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة مرة" (¬3). 2 - حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "توضأ مرتين مرتين" (¬4). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ بغسلة واحدة للعضو، ومرتين، وهذه سنة فعلية يجب الأخذ بها، على أنها دليل على جواز الاقتصار على غسلة واحدة، وأنها مجزئة، وأن الثلاث غير ملزمة، ولكن بشرط الإنقاء، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: نُقل عن ابن أبي ليلى أنه لا يجزئ ما دون الثلاث، نقله النووي، ثم قال: "وهذا مذهب باطل، لا يصح عن أحد من العلماء، ولو صح؛ لكان مردودًا بإجماع من قبله" (¬5). ولكن عن مالك قول بوجوب اثنتين فما فوق (¬6). وهنا كلام مشكل للحطاب، حيث قال: "أن المقتصر على الواحدة تارك للفضل، وتارك الفضل مقصر، ولا يجوز الاقتصار على الواحدة بإجماع، كما لا تجوز الزيادة على الثلاث، إذا عم بها بإجماع" (¬7). قال هذا الكلام بعد أن نقل كلامًا للقرافي، ثم قال بعده: (انتهى)، والظاهر أنه يقصد أنه كلام القرافي. وقد راجعت كلام القرافي، فوجدت الكلام السابق، ولم أجد اللاحق (¬8)، فالظاهر أن هناك تصحيفًا، أو وهمًا في دعوى الإجماع، ويحمل كلام الحطاب على الكراهة، وقال بعدها: "لأنا لا نعلم أن أحدًا يقول بحرمة الاقتصار عليها -أي: على الواحدة" (¬9)، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[22 - 99] إجزاء الغسلتين إذا عمت
Rأن الإجماع غير متحقق، لوجود المخالف المعتبر في المسألة (¬1)، فخلاف ابن أبي ليلى وقول مالك يكفي في خرق الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. [22 - 99] إجزاء الغسلتين إذا عمت: في المسألة السابقة ناقشنا الاكتفاء بغسلة واحدة، وهنا بثنتين، ومن البديهي أن أي إجماع حكي هناك فهو شامل لهذه المسألة بالتضمن، بخلاف العكس، وهو ما انتهت إليه الدراسة هناك، فنحن نبحث الآن عن الاقتصار على ثنتين، حيث حُكي الإجماع على إجزاء الاقتصار عليها. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، أن الوضوء يجزئ مرة مرة، ومرتين أفضل، وأفضله ثلاث، وليس بعده شيء" (¬2). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "والحديث يدل على أن التوضؤ مرتين يجوز، ويجزئ، ولا خلاف في ذلك" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "توضأ مرتين مرتين" (¬8). • وجه الدلالة: فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المجرد يعتبر سنة فعلية، وقد يكون بيانًا للجواز كما في مسألتنا، فمن هذا الفعل يؤخذ الجواز، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: ما قيل في مسألة إجزاء الغسلة الواحدة من خلاف ابن أبي ليلى في عدم جواز ما دون الثلاث يأتي هنا, ولكن لم يذكر له متابع من العلماء، وشكك النووي في نسبة القول إليه (¬9)، ولو صح فهو شذوذ منه رحمه اللَّه تعالى. ¬
[23 - 100] جواز المخالفة في غسل الأعضاء في عدد مرات الغسل
Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [23 - 100] جواز المخالفة في غسل الأعضاء في عدد مرات الغسل: سبق الكلام عن مسألة أن التثليث في الوضوء مستحب، وأن الاقتصار على الواحدة مجزئ إذا عمّ. ولكن لو توضأ رجل، فغسل عضوًا ثلاثًا، ثم غسل آخر مرتين، فإن فعله جائز، هذا ما تتحدث عنه مسألتنا. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول شارحًا لقول صاحب "المهذب": " (خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثًا جاز) هذا الحكم مجمع عليه" (¬1). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول شارحًا لكلام البهوتي: "ولو غسل بعض أعضاء الوضوء أكثر من بعض لم يكره" قال: "إجماعًا" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة (¬5). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "توضأ فغسل وجهه ثلاثًا، ويديه مرتين" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يلتزم بعددٍ معينٍ في وضوءٍ واحدٍ، مما يبين الجواز في ذلك، واللَّه تعالى أعلم (¬7). • الخلاف في المسألة: سبق في مناقشة مسألة الاقتصار على غسلة واحدة، والتي توصلتْ إلى عدم صحة الإجماع بإجزاء ذلك، فيكون هنا من باب أولى، إذا غسل أحد الأعضاء مرة واحدة. وأما إذا اقتصر على ثنتين، فإن الدراسة انتهت إلى صحة الإجماع في ذلك، وأن ما ¬
[24 - 101] عدم مشروعية الزيادة على الثلاث
نقل عن ابن أبي ليلى من مخالفةٍ، فإنها لم تثبت، أو أنها شاذة.Rأن الإجماع متحقق إذا لم يقتصر على غسلة واحدة لعضوٍ من الأعضاء؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، وأما إذا اقتصر على غسلة واحدة، فلا إجماع على ذلك، بخلاف ما لو تردد بين غسلتين وثلاث، واللَّه تعالى أعلم. [24 - 101] عدم مشروعية الزيادة على الثلاث: سبق مناقشة استحباب التثليث في غسل أعضاء الوضوء، ولكن إذا زاد على الثلاث فإن الزيادة غير مشروعة. • من نقل الإجماع: البخاري (256 هـ) حيث أشار للإجماع في هذه المسألة، فقال: "وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوز فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). نقله النووي عنه (¬2)، والعيني (¬3)، وابن قاسم (¬4). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الزيادة على الثلاث لا معنى لها" (¬5). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "فالثلاث في ذلك في سائر الأعضاء أكملُ الوضوء وأتمه، وما زاد فهو اعتداء، ما لم تكن الزيادة لتمام نقصان، وهذا لا خلاف فيه" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث، والمراد بالثلاث: المستوعبة للعضو" (¬7). ونقله الحطاب عنه (¬8)، وابن قاسم (¬9). القرافي (684 هـ) حيث يقول: "كما لا تجوز الزيادة على الثلاث، إذا عم بها بإجماع". نقله الحطاب عنه (¬10). ¬________ (¬1) "صحيح البخاري" (1/ 63). (¬2) "المجموع" (1/ 468). (¬3) "البناية" (1/ 233). (¬4) "حاشية الروض" (1/ 175). (¬5) "مراتب الإجماع" (39). (¬6) "الاستذكار" (1/ 122). (¬7) "شرح مسلم" (3/ 109). (¬8) "مواهب الجليل" (1/ 262). (¬9) "حاشية الروض" (1/ 175). (¬10) "مواهب الجليل" (1/ 262)، وقد ناقشت هذا النقل في مسألة إجزاء الغسلة الواحدة إذا عمت.
ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول مجيبًا لسائل: "ما ذكره من الوسوسة في الطهارة، مثل غسل العضو أكثر من ثلاث مرات. . . هو أيضًا بدعة وضلالة باتفاق المسلمين" (¬1). وكررها في نفس الموضع، فقال: "لكونها بدعة مذمومة باتفاق المسلمين" (¬2). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في كراهة الزيادة على الثلاث" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4). • مستند الإجماع: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، أو نقص؛ فقد أساء وظلم" (¬5). وجه الدلالة من وجهين: 1 - أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "فمن زاد" ووصف هذا الفعل بالسوء والظلم، مما يدل على عدم المشروعية. 2 - أنه لم يأت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه غسل عضوًا أكثر من الثلاث (¬6). • الخلاف في المسألة: خالف الشافعية في وجه (¬7)، فقالوا: إنها خلاف الأولى، لا تكره ولا تحرم. ولم يذكروا دليلًا. وهذا القول مشكل لدي، هل ينقض أو لا؟ مع أن النووي هو ممن نقل الإجماع في المسألة، ونقل هذا الوجه (¬8)، وهو من أئمة الشافعية. ولكن الأظهر أنه ناقض؛ لأنه لا يقول بالكراهة كحدٍّ أدنى لعدم المشروعية. وهناك كلام للكاساني في المسألة، حيث قال بعدم الكراهة إذا لم يعتقد السنية في الزيادة، وكان وضوءًا على وضوء (¬9). وقد استشكله ابن عابدين، وقيده بعدم اعتقاد السنية، وأن لا يعتاد هذا (¬10). ¬
[25 - 102] تخليل الأصابع سنة
Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، من خلاف وجه الشافعية وقول الكاساني، وهو - الأخير - من أئمة الحنفية المتقدمين، ولا يخلو الأمر من متابعين له، واللَّه تعالى أعلم. [25 - 102] تخليل الأصابع سنة: التخليل يكون لأصابع اليدين والرجلين، ويحصل بتشبيك بعضها ببعض (¬1). ويقصد من تخليل الأصابع إيصالُ الماء إلى ما بين الأصابع، والتأكد من وصوله، والسنيّة تكون فيما إذا غلب على ظنه أن الماء يصل، ولكن إذا علم أنه لم يصل؛ فلا شك في وجوب إيصال الماء. فالتخليل في الأصل مستحب، وإيصال الماء واجب (¬2). • من نقل الاتفاق: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يخلل أصابع رجليه في الوضوء" (¬3). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أنه إن غسلهما وغسل مرفقيه، وخلل أصابعه بالماء، وما تحت الخاتم؛ فقد تم ما عليه في الذراعين" (¬4). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن تخليلَ اللحية إذا كانت كثَّةً، وتخليلَ الأصابع سنةٌ من سنن الوضوء" (¬5). عثمان الزيلعي (743 هـ) حيث يقول: "وأما تخليل الأصابع؛ فسنة إجماعًا" (¬6). أبو بكر العبادي (800 هـ) حيث يقول: "وأما تخليل الأصابع فسنة إجماعًا" (¬7). المرداوي (885 هـ) حيث يقول في تخليل أصابع الرجلين: "يستحب تخليل أصابع الرجلين بلا نزاع" (¬8)، وهو يقصد المذهب بلا شك. ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وأما تخليل الأصابع؛ فهو إدخال بعضها في بعض ¬
بماء متقاطر، ويقوم مقامه الإدخال في الماء، ولو لم يكن جاريًا؛ فسنة اتفاقًا، أعني أصابع اليدين والرجلين" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع إسحاق (¬2)، والمالكية على المشهور عندهم (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة في أصابع الرجلين، أما اليدين فعلى الصحيح عندهم (¬5). • مستند الاتفاق: حديث لقيط بن صبرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا توضأت فأسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بالتخليل، ولم يحدد أصابع الرجلين أو اليدين، فهو مطلق يشمل الاثنين، فيدل على الاستحباب فيهما، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة في رواية عندهم بأنه لا يستحب تخليل الأصابع في اليدين (¬7)، وهو ظاهر من عبارة المرداوي السابقة، حيث نص على عدم النزاع في أصابع الرجلين. ولم أجد لهم عليه دليلًا, ولكن قد يستدل بأن اليدين تختلط بالماء مباشرة، فلا يحتاج لتخليلها، بخلاف الرجلين؛ إذ الغالب أن الماء يُصب عليها. وحُكي عن مالكٍ مثلُه، ولكن في اليدين، والرجلين أيضًا، وحُكي عنه الإنكار لهذا الفعل أيضًا (¬8). ¬
[26 - 103] عدم وجوب الاستنثار عند الاستيقاظ
واستدل لذلك بأن كل من نقل وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصحاح لم يذكره فيه، ولأن الماء يتخلل الأصابع بطبيعته (¬1).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، من خلاف مالك ورواية أحمد، واللَّه تعالى أعلم. [26 - 103] عدم وجوب الاستنثار عند الاستيقاظ: إذا استيقظ المسلم من نومه، فإنه لا يجب عليه أن يستنثر، ويستحب له ذلك. • من نقل الاتفاق: الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول في سياق حديث له: "لأنه قد وقع الاتفاق على عدم وجوب الاستنثار عند الاستيقاظ، ولم يذهب إلى وجوبه أحد" (¬2). وقد نقل النووي رحمه اللَّه الإجماع على عدم وجوبه في الوضوء، ففي مسألتنا من باب أولى، حيث قال: "فإن التنثر لا يجب بالإجماع" (¬3). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7)، وابن حزم (¬8). • مستند الاتفاق: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه" (¬9). وفي لفظ: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فتوضأ؛ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه" (¬10). • وجه الدلالة: حيث جاء الأمر في الرواية الأولى مطلقًا، وفي الثانية مقيدًا، ¬
[27 - 104] المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة
فيحمل المطلق على المقيد، ويكون الأمر بالاستنثار باعتبار إرادة الوضوء (¬1)، أما عند عدم ذلك فلا أمر حينئذ، ويبقى على الأصل وهو الإباحة، غير أن التعليل في الحديث (فإن الشيطان يبيت على خيشومه)، يكفي في كونه ناقلًا للاستحباب، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق، لعدم العلم بالمخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [27 - 104] المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة: المضمضة والاستنشاق من أعمال الوضوء بلا شك، وهناك خلاف في وجوبها وعدمه في الوضوء، ولكن المبالغة فيهما مسنونة. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول: "المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف" (¬2). ونقله عنه ابن قاسم (¬3). العيني (855 هـ) حيث يقول عن المضمضة والاستنشاق: "المبالغة فيهما سنة إجماعًا" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬5)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬6). • مستند الإجماع: 1 - حديث لقيط بن صبرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا" (¬7). • وجه الدلالة: حيث في الحديث الأمر بالمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وهو ¬
[28 - 105] المبالغة في الاستنشاق غير واجبة
ما يدل على مسألتنا بالمطابقة، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن المبالغة من باب التكميل للوضوء، وهي من الإسباغ، فكانت المبالغة مستحبة، سواء كانت في المضمضة أو الاستنشاق. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة ابن الزاغوني من الحنابلة، وعليه ظاهر كلام الخرقي في المضمضة فقط، فقالوا: بعدم استحباب المبالغة فيها (¬1). ولم يذكروا دليلًا، غير أنه يمكن الاستدلال بأن الحديث الوارد في الحث على المبالغة في الاستنشاق وحده؛ فيُكتفى به (¬2). وخالف ابن حزم، فقال بوجوب المبالغة (¬3)، ولدى الحنابلة خلاف في وجوب المبالغة؛ أو استحبابه، وكون الوجوب في الاثنين؛ أو في الاستنشاق فقط، وهل هي واجبة في الكبرى أو الصغرى (¬4)، غير أن هذا كله لا ينافي الاستحباب؛ فلا نناقشه كقولٍ مخالفٍ للإجماع، وهي مبحوثة في مسألة وجوب المبالغة في الاستنشاق، في هذه الرسالة.Rأن الإجماع غير متحقق في مسألة المبالغة في المضمضة؛ لوجود المخالف في المسألة، خاصة أن القول المخالف عليه ظاهر كلام الخرقي، وهو من أشهر مختصرات الحنابلة، وعليه شروح لا تحصى، واللَّه تعالى أعلم. أما مسألة المبالغة في الاستنشاق؛ فالإجماع فيها متحقق؛ لعدم وجود المخالف فيها، واللَّه تعالى أعلم. [28 - 105] المبالغة في الاستنشاق غير واجبة: لا شك أن المبالغة في الاستنشاق سنة مستحبة، ولكن الأمر الوارد في الحديث (¬5) ليس للوجوب، بل هو للاستحباب، هذا ما تتحدث عنه مسألتنا. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وبالغ في ¬
[29 - 106] تقديم المضمضة على الاستنشاق سنة
الاستنشاق" محمول أيضًا على الندب؛ فإن المبالغة لا تجب بالاتفاق" (¬1). السراج الهندي (773 هـ) فقال: "والصارف له عن الوجوب -أي: حديث الأمر بالمبالغة- الاتفاق على عدمه، كما نقله السراج الهندي" (¬2). نقله ابن نجيم عنه (¬3). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق المالكية (¬4)، والحنابلة على المشهور من مذهبهم (¬5). • مستند الاتفاق: حديث لقيط بن صبرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا" (¬6). • وجه الدلالة: حيث أمر بالمبالغة، ثم نهى عنها الصائم، والوجوب يستلزم عدم جواز الترك، فدل على عدم الوجوب، وبقي الاستحباب (¬7). • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة في رواية لهم بأنها واجبة، وهل الوجوب مخصوص بالطهارة الكبرى أو في الكل؟ على قولين عندهم (¬8). ووافقهم على هذا ابن حزم، فقال بوجوب المبالغة لغير الصائم (¬9). واستدل بحديث: "وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا"، فحمل الأمر هنا على الوجوب (¬10).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [29 - 106] تقديم المضمضة على الاستنشاق سنة: إذا شرع المسلم في الوضوء، فإنه يسن له أن يقدم المضمضة على الاستنشاق في وضوئه (¬11). ¬
[30 - 107] استحباب غسل اليدين عند القيام من نوم الليل
• من نقل الإجماع: ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن منها تقديم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-، في صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيه: "ثم أدخل يده، فمضىمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات" (¬5). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمضمض ويستنشق ويستنثر بغرفة واحدة، يكرر ذلك ثلاثًا، وهذا لا يتأتى إلا أن يبدأ بالمضمضة، فلو بدأ بالاستنشاق والاستنثار لما بقي من الماء شيء ليتمضمض به، مما يدل على أنه من فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذه سنة فعلية، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [30 - 107] استحباب غسل اليدين عند القيام من نوم الليل: إذا استيقظ الإنسان من نوم الليل، فإنه يستحب له أن يغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلها الإناء، وذلك بأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على استحباب غسل اليدين عند القيام من نوم الليل" (¬6). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق عطاء، والأوزاعي، وإسحاق (¬7)، والحنفية (¬8)، والمالكية (¬9)، . . . . . . . ¬
[31 - 108] تخليل اللحية الكثيفة سنة
والشافعية (¬1)، ورواية عند الحنابلة (¬2). • مستند الاتفاق: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا توضأ أحدكم؛ فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر، ومن استجمر؛ فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه؛ فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثًا؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (¬3). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وهذا يدل على مسألتنا بالمطابقة. • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة في رواية بالوجوب (¬4)، وهو قول ابن عمر، وأبي هريرة، والحسن (¬5)، ونسبه الكاساني إلى قومٍ (¬6). ولكن هذا لا يتنافى مع الاستحباب، كما كررت ذلك كثيرًا، فهو غير منافٍ لمسألتنا.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [31 - 108] تخليل اللحية الكثيفة سنة: اللحية إذا كانت كثيفة تمنع وصول الماء إلى البشرة، فإنه يستحب تخليل اللحية لإيصال الماء. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن تخليلَ اللحية إذا كانت كثَّةً، وتخليلَ الأصابع سنةٌ من سنن الوضوء" (¬7). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق عثمان بن عفان، وعمار بن ياسر، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وأبو الدرداء، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأنس، وابن عمر -رضي اللَّه عنهم-، وأبو البختري، وأبو ميسرة، وابن سيرين، والحسن، وأبو عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، وعبد الرزاق (¬8)، . . . . . . ¬________ (¬1) "أسنى المطالب" (1/ 38)، و"مغني المحتاج" (1/ 187). (¬2) "المغني" (1/ 140). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "المغني" (1/ 140). (¬5) "المغني" (1/ 140). (¬6) "بدائع الصنائع" (1/ 20). (¬7) "الإفصاح" (1/ 33). (¬8) "المحلى" (1/ 281)، و"المغني" (1/ 148).
وهو قول أبي يوسف (¬1)، وقولٌ لمالك (¬2)؛ كما وافق الشافعية على الصحيح عندهم (¬3)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬4). • مستند الاتفاق: حديث عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "كان يخلل لحيته" (¬5). • وجه الدلالة: النص على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخلل لحيته، ومجرد فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل على الاستحباب. • الخلاف في المسألة: خالف النخعي، وابن سيرين، وربيعة بن أبي عبد الرحمن (¬6)؛ أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن (¬7)، وهو قول لمالك (¬8)، وابن حزم (¬9)، وهو قول عند الحنابلة (¬10)، فقالوا بعدم استحباب التخليل في الوضوء. واستدلوا بحديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: "ألا أخبركم بوضوء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فتوضأ مرة مرة" (¬11). وغسل الوجه مرة لا يمكن معه بلوغ الماء إلى أصول الشعر، ولا يتم ذلك إلا بترداد الغسل والعرك، مما يدل على أنه لم يكن يخلل لحيته عليه الصلاة والسلام (¬12). وهناك من قال بالوجوب، وهو مروي عن عمر، وابنه رضي اللَّه تعالى عنهما، وعطاء، وابن سابط، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير (¬13)، وهو قول لمالك (¬14)، وهو وجه عند الشافعية، واختاره المزني (¬15)، وهو قول للحنابلة (¬16)، ولكن هذا القول غير منافٍ للاستحباب، كما سبق.Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود الخلاف في المسألة، كما هو ظاهر ¬
[32 - 109] تخليل اللحية ليس بواجب
مما سبق، واللَّه تعالى أعلم. [32 - 109] تخليل اللحية ليس بواجب: إذا أراد المسلم الوضوء، فإنه لا يجب عليه أن يخلل لحيته، وعلى ذلك حُكي الاتفاق. • من نقل الإجماع: ابن خويز منداد حيث يقول: "إن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، إلا شيء روي عن سعيد بن جبير". نقله عنه القرطبي (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق كل من وافق على المسألة الماضية، ومن خالف أيضًا، باستثناء من قال بوجوب التخليل، ومنهم الحنفية (¬2)، وقول لمالك (¬3)، والشافعية على الصحيح من مذهبهم (¬4)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند الاتفاق: حديث عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "كان يخلل لحيته" (¬7). • وجه الدلالة: أن الوارد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التخليل للحية هو من فعله عليه الصلاة والسلام، ومجرد الفعل يدل على الاستحباب، ولا دليل صحيح يدل على الوجوب، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة عمر، وابنه رضي اللَّه تعالى عنهما، وعطاء، وابن سابط، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير (¬8)، وهو قول لمالك (¬9)، وهو وجه عند الشافعية، واختاره المزني (¬10)، وهو قول للحنابلة (¬11)؛ فقالوا بوجوب التخليل. ¬
واستدلوا بحديث أنس مرفوعًا: "كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماء، فجعله تحت حنكه، وخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي" (¬1)، فهو أمر، والأمر يقتضي الوجوب (¬2).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الباب الخامس: مسائل الإجماع في باب فروض الوضوء وصفته
الباب الخامس: مسائل الإجماع في باب فروض الوضوء وصفته [1 - 110] التفريق اليسير بين غسل أعضاء الوضوء لا يضر: من توضأ وضوءه للصلاة، وفرّق بين غسل أعضاء الوضوء تفريقًا يسيرًا، فإن هذا لا يضره (¬1). • من نقل الإجماع: الغزالي (505 هـ) حيث نقل عنه النووي (¬2) حكايته للإجماع في المسألة (¬3). المحاملي (415 هـ) حيث نقل عنه النووي (¬4) حكايته للإجماع في المسألة. النووي (676 هـ) حيث يقول: "فالتفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين" (¬5). ونقله عنه ابن قاسم (¬6). الشربيني (977 هـ) حيث يقول عن التفريق اليسير: "وأما اليسير، فلا يضر إجماعًا" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬8)، والمالكية (¬9)، والحنابلة (¬10)، وابن حزم (¬11). • مستند الإجماع: حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هَلَك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬12). ¬
[2 - 111] الاقتصار على النية بالقلب مجزئ
• وجه الدلالة: حيث إن تحقيق الأوامر مربوط بالاستطاعة، والموالاة الدقيقة فيها مشقة وعسر على الناس، فكان مقتضى التيسير أن يخفف فيها ما دام أنها يسيرة، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [2 - 111] الاقتصار على النية بالقلب مجزئ: إذا نوى مريدُ الوضوء بقلبه، ولم يتلفظ بالنية بلسانه، فإن فعله هذا مجزئٌ (¬1). • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أنه لو اقتصر على النية بقلبه أجزأ، بخلاف ما لو نطق بلسانه دون أن ينوي بقلبه" (¬2). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم، والصلاة، والصيام، والزكاة، والكفارات، وغير ذلك من العبادات، لا تفتقر إلى نطق اللسان باتفاق أئمة الإسلام" (¬3). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول عن الاقتصار على النية بالقلب: "ولو اقتصر عليه بقلبه أجزأه إجماعًا" (¬4). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬5)، وهم لا يشترطون النية في الوضوء أصلًا؛ كما وافق المالكية (¬6)، والشافعية (¬7). • مستند الاتفاق: 1 - حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى" (¬8). ¬
• وجه الدلالة: حيث ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الأعمال بالنيات، والنيات محلها القلب، ولم يبين في الحديث أنه يجب مع النية التلفظُ، مع الحاجة لبيانه لو كانت لازمة، فدل ترك البيان على عدم لزوم التلفظ، واللَّه تعالى أعلم. 2 - عدم وجود نص يُلزم بالتلفظ، أو حتى على استحبابه، فلم ينقل عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أصحابه، ولا أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا من أمته أن يتلفظ بالنية، ولا علَّم أحدًا من المسلمين (¬1)، ولذلك أنكره عدد من أهل العلم، منهم ابن تيمية (¬2). • الخلاف في المسألة: خالف أبو عبد اللَّه الزبيري من الشافعية في هذه المسألة، فقال: لا بد من الجمع بين نية القلب ولفظ اللسان (¬3). وقال الماوردي عن هذا القول: "وهذا لا وجه له" (¬4). وخالف الشافعية في وجهٍ مشهورٍ عندهم بأن نية الصلاة تجب باللفظ والقلب معًا، وغلّطه النووي، ونَقَل عن الماوردي، أنه أشار إلى جريانه في الوضوء، وقال النووي بعده: "هو أشذّ وأضعف" (¬5). وهذا القول يعني أنه لا يجزئ إلا إذا جمع بين اللفظ بالنية والعزم بالقلب. وليس لهؤلاء دليل، وهو قول شاذ لا يدعمه دليل، وقد صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته بالناس، ولم يذكر أحد عنهم أنهم كانوا يتلفظون بشيء من ذلك، ولو كانوا يفعلونه لنقل، فضلًا عن أن يلتزموا به، ولم يُذكر هذا القول عن أحد من السلف، ولا ممن يعتد بقولهم، ومن نسبه للشافعي فقد غلط، كما قال النووي (¬6).Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف المعتبر في المسألة، وإن كان وجهًا مشهورًا للشافعية، إلا أنه لم يذكر عن السلف خلاف في المسألة، ولم يشتهر الخلاف إلا عند المتأخرين، فخلافهم أتى بعد الإجماع، فلا عبرة به، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[3 - 112] النية محلها القلب
[3 - 112] النية محلها القلب: النية -التي هي عبارة عن القصد للشيء- محلها القلب، وقد حكي الإجماع على ذلك (¬1). • من نقل الإجماع: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم، والصلاة، والصيام، والزكاة، والكفارات، وغير ذلك من العبادات، لا تفتقر إلى نطق اللسان باتفاق أئمة الإسلام، بل النية محلها القلب باتفاقهم" (¬2). وقال: "محل النية القلب باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، إلا بعض المتأخرين أوجب التلفظ بها، وهو مسبوق بالإجماع" (¬3). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "محل النية القلب إجماعًا" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، والشافعية (¬7). • مستند الاتفاق: أن النية عبارة عن القصد للشيء، ومحل القصد هو القلب (¬8).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [4 - 113] استحباب النية من أول الوضوء واستدامتها: إذا توضأ المتوضئ ناويًا الوضوءَ، وكان ذلك من أول الوضوء، ثم استدام النية إلى أن فرغ من صلاته، فإن فعله مستحب ومحمود. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول: "الأفضل أن ينوي من أول الوضوء، ويستديم إحضار النية؛ حتى يفرغ من الوضوء، وهذا الاستحباب متفق ¬
[5 - 114] صحة طهارة من نوى عند المضمضة واستدامها إلى غسل الوجه
عليه" (¬1). • من نقل الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الاتفاق: حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى" (¬6). • وجه الدلالة: الحديث فيه أن الأعمال تحتسب بالنيات، فإذا توضأ المسلم ناويًا الوضوء، فإن فعله ذلك محتسب له، ولذا قال الجمهور باشتراط النية في الوضوء، وأن من توضأ بلا نية لا عمل له، ولكن الجميع متفقون على أنه إذا نوى من أول الوضوء إلى آخره فقد فعل المستحب، ويكون مأجورًا على ذلك، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [5 - 114] صحةُ طهارةِ من نوى عند المضمضة واستدامها إلى غسل الوجه: إذا نوى المتوضئ عند بداية الوضوء قبل الشروع في غسل الأعضاء، واستدام النية إلى نهاية الوضوء، فإن وضوءه صحيح (¬7). • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه إذا نوى عند المضمضة، واستدام النية، واستصحب حكمها إلى غسل أول جزء من الوجه؛ صحت طهارته" (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬9)، وقد سبق أنهم لا يرون ¬
[6 - 115] صحة وضوء الغالط في تعيين نوع الحدث
وجوب النية في الوضوء، والمالكية (¬1)، والشافعية (¬2). • مستند الإجماع: حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لك امرئٍ ما نوى" (¬3). • وجه الدلالة: حيث فيه ذكر أن الأعمال تكون بالنيات، وإذا توضأ المتوضئ بنيةٍ واستدامها، فإنه يكون قد أتى بما عليه، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [6 - 115] صحة وضوء الغالط في تعيين نوع الحدث: إذا توضأ متوضئ وهو يظن حدثه البول، ثم تبين أنه النوم أو غيره من النواقض، فوضوؤه هذا صحيح، ونُقل نفي الخلاف في ذلك (¬4). ويخرج من هذه المسألة من توضأ مجددًا، فبان محدثًا، حيث يوجد فيها خلاف، فمن العلماء من اشترط تحديد نية الفرض (¬5). وعلى هذا نضع قيدًا في المسألة يخرج هذه الصورة: وهو أن يكون الخطأ في تحديد نوع الحدث، لا في سبب الوضوء، فقد يكون سببه التجديد مثلًا. وهذا القيد أيضًا يخرج الطهارة للخبث، فليست داخلة في المسألة التي نحن بصددها (¬6). • من نقل الإجماع: المزني (264 هـ) حيث يقول: "ليس على المحدث عندي معرفة أي الأحداث كان منه، وإنما عليه أن يتطهر للحدث، ولو كان عليه معرفة أي الأحداث كان منه، كما عليه معرفة أي الصلوات عليه؛ لوجب لو توضأ من ريح، ثم علم أن ¬
حدثه بول، أو اغتسلت امرأة تنوي الحيض، وإنما كانت جنبًا، أو من حيض وإنما كانت نفساء؛ لم يجزئ أحدًا منهم حتى يعلم الحدث الذي تطهر منه، ولا يقول بهذا أحد نعلمه" (¬1). وهذه العبارة مطلقة، ليس فيها ما يدل على أنها للمذهب فقط. نقله عنه النووي (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "إذا نوى رفع حدث البول، ولم يكن حدثه البول، بل النوم مثلًا، فإن كان غالطًا، بأن ظن حدثه البول؛ صح وضوؤه بلا خلاف، وقد أشار المزني رحمه اللَّه إلى نقل الإجماع على هذا، فإنه قال في باب التيمم من "مختصره": ولا نعلم أحدًا منع صحة وضوء هذا الغالط، وذكر إمام الحرمين هنا في باب النية أن المزني نقل الإجماع على ذلك" (¬3). وقال أيضًا: "قال أصحابنا: إذا غلط في نية الوضوء، فنوى رفع حدث النوم، وكان حدثه غيره؛ صح بالاتفاق" (¬4). والنووي في العبارتين لم يرد الإجماع على الأظهر، إلا أن المزني أراده على الأظهر. • الموافقون على الإجماع: وافق على الإجماع الحنفية، وهم لا يرون وجوب النية في الوضوء أصلًا، فمن باب أولى هنا (¬5) المالكية (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: 1 - أن الحدث لا يتجزأ، بل هو شيء واحد مانع للصلاة، وإذا ارتفع بعضه، ارتفع كله، وزال المانع، فإذا توضأ ونوى، وأخطأ في النية، فقد أخطأ فيما لا اعتبار له، ما دام أن المنوي خطأ في درجة المبطل الحقيقي (¬8). 2 - أن الأحداث التي تنقض الوضوء تتداخل، وإذا قام عدد من المبطلات فإنه يكفيها وضوء واحد، ولم يقل أحد بتعدد الوضوء لها، وكذا ما لو أخطأ الناوي في تعيين الحدث المبطل (¬9). ¬
[7 - 116] استحباب التسمية في طهارة الحدث
Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [7 - 116] استحباب التسمية في طهارة الحدث: إذا أراد المسلم الطهارة من الحدث، فإنه يستحب له أن يبدأ بالبسملة. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على استحباب التسمية لطهارة الحدث، ثم اختلفوا في وجوبها" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية في روايةٍ عندهم (¬3)، والشافعية (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الاتفاق: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللَّه عليه" (¬6). 2 - حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: "توضؤوا باسم اللَّه"، قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، والقوم يتوضؤون، حتى توضؤوا من عند آخرهم، وكانوا نحو سبعين رجلًا (¬7). • وجه الدلالة: في الحديث الأول نفى الوضوء لمن لم يذكر اسم اللَّه تعالى عليه، والنفي هنا مختلف فيه؛ هل هو للصحة أو للكمال؟ ولكن على كلا القولين يدل على ¬
[8 - 117] غسل الكفين قبل الوضوء غير واجب
مسألتنا بأن من لم يذكر اسم اللَّه تعالى عليه، فوضوؤه غير كامل على أقل القولين. أما الحديث الآخر: فقد ربط عليه الصلاة والسلام الوضوءَ بالتسمية، والأمر للاستحباب أو الوجوب، وكلاهما تدل لمسألتنا، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف مالك في روايةٍ عنه، ورأى أن التسمية غير مشروعة (¬1). واستدل بأنه غير معروف لدى السلف، ولم يأت به دليل صحيح (¬2). وله رواية ثالثة: أن المتوضئ مخيرٌ بين الفعل والترك، فذكر التسمية مباحٌ إذًا (¬3). ولم يذكروا دليلًا على هذه الرواية.Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [8 - 117] غسل الكفين قبل الوضوء غير واجب: غسل الكفين لمن أراد الوضوء غير واجب على المتوضئ، وعلى ذلك حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول عن غسل اليدين: "وليس ذلك بواجب عند غير القيام من النوم، بغير خلاف نعلمه" (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول أثناء نقاشه لمسألة حكم المضمضة والاستنشاق: "ولأن فيه -حديث وصف وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غسل الكفين والتكرار وغيرهما، مما ليس بواجب بالإجماع" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬8)، وظاهر كلام ابن حزم (¬9). ¬
[9 - 118] غسل الوجه فرض
• مستند الإجماع: أن غسل اليدين لم يرد ذكره في آية الوضوء، بينما ورد فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له في أحاديث صفة وضوئه، وسبق عدد منها، من دون أن يأمر به، فدل ذلك على السنية وعدم الوجوب؛ لأن مجرد فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دون أن يأمر به يدل على الاستحباب، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف أحمد في رواية, فقال بوجوبه، وعدَّه في "الإنصاف" من المفردات (¬1). وذكره الحطاب قولًا عند غير المالكية (¬2). ولم يذكروا لهذا القول دليلًا ولكن يمكن أن يستدل له بأنه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الوضوء، وكونه عليه الصلاة والسلام واظب عليه يدل على الوجوب.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 118] غسل الوجه فرض: الأعضاء التي تغسل في الوضوء أربعة، منها الوجه، فلا يصح الوضوء بدون غسل الوجه، وهذه مسألة قطعية؛ لأنها واردة في القرآن صراحةً، ولإجماع أهل العلم على ذلك في الجملة، دون الدخول في التفصيلات. • من نقل الإجماع: الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "فرأينا الأعضاءَ التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء، هي: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس" (¬3). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن غسل الوجه من أصل منابت الشعر في الحاجبين (¬4) إلى أصول الأذنين إلى آخر الذقن فرضٌ على من لا لحية له" (¬5). وقال أيضًا: "وأما قولنا في الوجه فإنه لا خلاف في أن الذي قلنا فرض غسله قبل خروج اللحية" (¬6). ¬
ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "أجمعوا على أن غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، ومسح الرأس فرض ذلك كله، . . . لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين، وغسلهما. . " (¬1). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على وجوب غسل الوجه كله، وغسل اليدين مع المرفقين، وغسل الرجلين مع الكعبين، ومسح الرأس" (¬2). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء" (¬3). ونقل عنه الحطاب حكايته الإجماع على فرضية الأعضاء الأربعة (¬4). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "غسل الوجه واجب بالنص والإجماع" (¬5). وقال أيضًا: "والمفروض من ذلك -فروض الوضوء- بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "غسل الوجه واجب في الوضوء بالكتاب، والسنن المتظاهرة، والإجماع" (¬7). ويقول أيضًا: "وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه، واليدين، والرجلين، واستيعاب جميعها بالغسل، وانفردت الرافضة عن العلماء؛ فقالوا: الواجب في الرجلين المسح، وهذا خطأ منهم" (¬8). ونقله عنه الشوكاني (¬9). الحطّاب (954 هـ) حيث يقول: "وقدم المصنف الكلام على الأعضاء الأربعة "المجمع عليها" أي: على فرضيتها (¬10). الشربيني (977 هـ) حيث يقول: "الثاني من الفروض غسل ظاهر وجهه؛ لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وللإجماع" (¬11). ¬
[10 - 119] الوجه حكمه الاستيعاب
الرملي (1004 هـ) حيث يقول: "الثاني من الفروض غسل ظاهر وجهه بالإجماع للآية" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بغسل الوجه، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - الأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، حيث فيها ذكر غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لوجهه، ولم يترك في واحدٍ منها غسله لوجهه، مما يدل على فرضيته، ومنها حديث حُمران مولى عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنهما-: "أنه رأى عثمان دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يتوضأ نحو وضوئي هذا" (¬3).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، وهذه المسألة من المسائل المشهورة التي لا مجال للاجتهاد فيها، والإجماع عليها قطعي، واللَّه تعالى أعلم. [10 - 119] الوجه حكمه الاستيعاب: إذا أراد المتوضئ أن يغسل وجهه، فيجب عليه أن يستوعب الوجه كله، وعلى ذلك حكي الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن غسل الوجه، من أصل منابت الشعر في الحاجبين (¬4) إلى أصول الأذنين إلى آخر الذقن فرضٌ على من لا لحية له" (¬5). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على وجوب غسل الوجه كله، . . " (¬6). ¬
[11 - 120] غسل بعض الوجه غير مجزئ
القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بغسل الوجه، ولا يكون الإتيان بمقتضى الأمر إلا بغسل الوجه كله، وإلا فإن إتيانه بالأمر غير كامل، فدل على وجوب استيعاب الوجه؛ لأن الأمر مطلق، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [11 - 120] غسل بعض الوجه غير مجزئ: إذا غسل المتوضئ جزءًا من العضو الواجبِ غسلُه في الوضوء - وهو هنا الوجه - وترك جزءًا من العضو، فإن وضوءه غير مجزئ. • من نقل الإجماع: الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "فكلٌ قد أجمع أن ما وجب غسله من ذلك؛ فلا بد من غسله كله، ولا يجزئ غسل بعضه دون بعض" (¬4). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا أنه لا يجوز غسل بعض الوجه في الوضوء، ولا مسح بعضه في التيمم" (¬5). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وفي هذا الحديث (¬6) أن من ترك جزءًا يسيرًا مما يجب تطهيره، لا تصح طهارته، وهذا متفق عليه" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬8). ¬
[12 - 121] ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء غير موجبة للإعادة
• مستند الإجماع: حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، أن رجلًا توضأ فترك موضع ظفرٍ على قدمه، فأبصره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "ارجع فأحسن وضوءك"، قال: فرجع، ثم صلى" (¬1). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنكر على هذا الرجل الذي ترك جزءًا من قدمه لم يغسله، مما يدل على وجوب الإسباغ، وعدم ترك أي جزء مما يجب غسله، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [12 - 121] ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء غير موجبة للإعادة: • من نقل نفي الخلاف: الشافعي (204 هـ) حيث يقول عن المضمضة والاستنشاق: "ولم أعلم اختلافًا في أن المتوضئ لو تركهما عامدًا أو ناسيًا، وصلى لم يعد" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وأَحمد في رواية في الوضوء (¬5)، وفي المضمضة على رواية أخرى (¬6)، وابن حزم في المضمضة (¬7). • مستند نفي الخلاف: 1 - أن المضمضة والاستنشاق لم يصح بها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر، وإنما هي فعلٌ فعَلَه عليه الصلاة والسلام، وأفعاله -صلى اللَّه عليه وسلم- ليست فرضًا؛ لأن اللَّه تعالى إنما أمرنا بطاعة أمر نبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يأمرنا بأن نفعل أفعاله (¬8). 2 - أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يواظب في العبادات على ما فيه تحصيل الكمال، كما يواظب على الأركان، وفي كتاب اللَّه تعالى أمر بتطهير أعضاء مخصوصة، والزيادة على النص لا تجوز إلا بما يثبت به النسخ (¬9). ¬
[13 - 122] الاستنثار غير واجب
• الخلاف في المسألة: خالف أحمد على المذهب (¬1) بأن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء. وخالف أحمد في رواية أخرى (¬2) ابن حزم في الاستنشاق (¬3)، فقال بوجوبه، وأن الوضوء لا يصح إلا به. واستدلوا (¬4) بحديث أبي هريرة، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وإذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر" (¬5).Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [13 - 122] الاستنثار غير واجب: الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بدفع النَّفَس (¬6). فإذا أراد المسلم أن يتوضأ، فإنه لا يجب عليه الاستنثار. • من نقل الإجماع: ابن جرير (310 هـ) حيث يقول: "فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول اللَّه، أنه قال: "إذا توضأ أحدكم فليستنثر" (¬7) دليلًا على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غير فرض يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله -ما يغني عن إكثار القول فيه" (¬8). النووي (676 هـ) حيث يقول: "فإن التنثر لا يجب بالإجماع" (¬9). ونقله عنه الشوكاني (¬10). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬11)، والمالكية (¬12)، والحنابلة في الصحيح من المذهب (¬13). ¬
[14 - 123] جواز المضمضة والاستنشاق من كف واحدة
• مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-، وفيه: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مضمض واستنشق" (¬1). • وجه الدلالة: أن عددًا ممن وصف وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يذكر الاستنثار، فدل على أنه للاستحباب، وأن الاستنشاق يكفي عنه؛ لأنه لم ينقل فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: نقل ابن حجر قولًا لبعض العلماء بوجوب الاستنثار، ثم قال: "وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه" (¬2)، ولعله يريد النووي في قوله. وقد خالف أحمد في رواية عنه، فقال بوجوبه (¬3)، وهو قول ابن حزم (¬4). واستدلوا بحديث: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء؛ ثم ليستنثر" (¬5)؛ حيث فيه الأمر، وهو للوجوب إلا بصارف، ولا صارف عندهم.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [14 - 123] جواز المضمضة والاستنشاق من كف واحدة: إذا تمضمض واستنشق المتوضئ من كف واحدة، فإن فعله هذا جائز بلا خلاف. • من نقل نفي الخلاف: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "قال أبو عمر في حديث عبد اللَّه بن زيد بن عاصم: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تمضمض واستنشق واستنثر من كف واحدة" (¬6). . وهو أمر لا أعلم فيه خلافًا أنه من شاء فعله" (¬7). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬8)، والشافعية (¬9)، والحنابلة (¬10). ¬
[15 - 124] غسل داخل العين غير واجب
• مستند نفي الخلاف: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه- في وصف وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ حيث فيه: "فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات" (¬1). وفي لفظ: "من كفٍّ واحدة" (¬2). • وجه الدلالة: أن قوله في وصف وضوئه عليه الصلاة والسلام: "بثلاث غرفات" يدل على أنه يأخذ الماء مرة واحدة، ويأتي بالأفعال الثلاثة مرة واحدة، وهذا يعني أنه يفعلها بكف واحدة، واللفظ الآخر صريح في ذلك (¬3)، واللَّه تعالى أعلم.Rأن نفي الخلاف متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [15 - 124] غسل داخل العين غير واجب: الواجب على المتوضئ غسل وجهه، وبما أن العين من الوجه، فإن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجب عليه غسل داخلها (¬4). • من نقل الإجماع: الشافعي (204 هـ) حيث يقول: "فلم أعلم مخالفًا في أن الوجه المفروض غسله في الوضوء ما ظهر دون ما بطن، وأن ليس على الرجل أن يغسل عينيه، ولا أن ينضح فيهما" (¬5). ابن جرير (310 هـ) حيث يقول مستدلًّا على أن ما تحت اللحية والشارب لا يغسل بعد نباتهما، ثم قال: "لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه، ثم هم مع إجماعهم على ذلك؛ مجمعون على أن غسل ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزئ" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "فلا يجب غسل داخل العين بالاتفاق" (¬7). ¬
[16 - 125] غسل اليدين فرض
سند بن عنان (541 هـ)، أنه قال: "لا خلاف بين أرباب المذاهب أنه لا يشرع غسل داخل العينين". نقله عنه الحطاب (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬3). • مستند الإجماع: 1 - أن جميع من ذكر وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يذكروا أنه عليه الصلاة والسلام غسل داخل عينيه، ولو كان واجبًا لغسله عليه الصلاة والسلام، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن في ذلك ضررًا على الإنسان، فقد ذُكر عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنه عمي بسببه، والإسلام لا يأمر بضرر، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف أحمد في رواية بأنه يجب (¬4). وهو ظاهر كلام "المقنع"، كما قال المرداوي، وذكره من المفردات (¬5). وعنه رواية أخرى بأنه واجب في الغسل فقط (¬6). وذكره المرداوي من المفردات أيضًا (¬7). ولم أجد له دليلًا ولكن نُقل فعله عن ابن عمر (¬8)، وابن عباس (¬9) -رضي اللَّه عنهم-. وقد يقال: إنه من ظاهر الوجه؛ فيلزمه ما يلزم الوجه.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [16 - 125] غسل اليدين فرض: اليدان من الأعضاء الأربعة الواردة في آية الوضوء، وقد نقل الإجماع على فرضية غسلها عددٌ من أهل العلم. ¬
• من نقل الإجماع: ابن جرير (310 هـ) حيث يقول: "اختلف أهل التأويل في المرافق، هل هي من اليد الواجب غسلها، أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب" (¬1)، يريد غسل اليد إلى المرافق. الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "فرأينا الأعضاءَ التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء، هي: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس" (¬2). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن غسلَ الذراعين إلى مشدّ المرفقين فرضٌ في الوضوء" (¬3). وأقره ابن تيمية في نقده "للمراتب"، وذكر خلافًا في مسألة دخول المرفقين، وستأتي (¬4). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "أجمعوا على أن غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، ومسح الرأس؛ فرض ذلك كله، . . . لا خلاف علمته في شيء من ذلك؛ إلا في مسح الرجلين، وغسلهما. . " (¬5). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على وجوب غسل الوجه كله، وغسل اليدين مع المرفقين، وغسل الرجلين مع الكعبين، ومسح الرأس" (¬6). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء" (¬7). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "لا خلاف بين علماء الأمة في وجوب غسل اليدين في الطهارة" (¬8). ويقول أيضًا: "ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض بالإجماع" (¬9). وقال أيضًا: "والمفروض من ذلك -من فروض الوضوء- بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين" (¬10). ¬
النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه، واليدين، والرجلين، واستيعاب جميعها بالغسل، وانفردت الرافضة عن العلماء؛ فقالوا: الواجب في الرجلين المسح، وهذا خطأ منهم" (¬1). وقال أيضًا: "فغسل اليدين فرض بالكتاب والسنة والإجماع" (¬2). ابن مفلح (763 هـ) حيث يقول: "ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض إجماعًا" (¬3). الحطّاب (954 هـ) حيث يقول: "هذه هي الفريضة الثانية، وهي غسل اليدين مع المرفقين، وهي ثابتةٌ أيضًا بالكتاب والسنة والإجماع" (¬4). وقال أيضًا: "وقدم المصنف الكلام على الأعضاء الأربعة المجمع عليها" أي على فرضيتها (¬5). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول جوابًا على إشكال قد يرد بوجوب غسل يد واحدة ورجل واحدة فقط: "وجوب واحدة بالعبارة، والأخرى بالدلالة لا طائل تحته بعد انعقاد الإجماع القطعي على افتراضهما، بحيث صار معلومًا من الدين بالضرورة" (¬6). ونقله عنه الحصكفي في "الدر المختار"، وعلق عليه ابن عابدين بقوله: "أي على افتراض غسل كل واحدة من اليدين والرجلين" (¬7). ابن حجر الهيتمي (974 هـ) حيث يقول: "الثالث: غسل يديه من كفيه وذراعيه، واليد مؤنثة مع مرفقيه. . .، ودل على دخولهما الاتباع والإجماع؛ بل والآية أيضًا" (¬8). الشربيني (977 هـ) حيث يقول: "الثالث من الفروض: غسل يديه من كفيه وذراعيه؛ للآية والإجماع" (¬9). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. ¬
[17 - 126] دخول المرفقين في غسل اليدين
• وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بغسل اليدين إلى المرافق، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - الأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيها ذكر غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليديه، ولم يترك في واحدٍ منها غسلَه ليديه، مما يدل على فرضية غسلهما، ومنها حديث حُمران مولى عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنهما-، وفيه: "ويديه إلى المرفقين ثلاثًا" (¬1).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم المخالف في المسألة، وهي من مسائل الإجماع القطعي التي لا مجال للاجتهاد فيها، واللَّه تعالى أعلم. [17 - 126] دخول المرفقين في غسل اليدين: سبق ذكر مسألة فرضية غسل اليدين، ولكن هل المرفقان يدخلان في اليدين، فلا يصح الوضوء من دون غسلهما؟ نقل الإجماع في هذه المسألة عددٌ من أهل العلم بأن المرفقين تدخل في اليدين. • من نقل الإجماع: الشافعي (204 هـ) حيث يقول: "فلم أعلم مخالفًا في أن المرافق مما يغسل. . . ولا يجزي في غسل اليدين أبدًا إلا أن يُؤتى على ما بين أطراف الأصابع إلى أن تُغسل المرافق" (¬2). ونقله عنه ابن حجر (¬3)، وابن نجيم (¬4)، والصنعاني (¬5)، وابن عابدين (¬6). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن غسل الذراعين إلى مشدِّ المرفقين؛ فرض في الوضوء" (¬7). وفي نقد ابن تيمية لهذه العبارة، نقلها بلفظ: "منتهى المرفقين" (¬8)، وهي أوضح في مسألتنا. ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على وجوب غسل الوجه كله، وغسل اليدين مع المرفقين، وغسل الرجلين مع الكعبين، ومسح الرأس" (¬9). ¬
النووي (676 هـ) حيث يقول: "وهذا الذي ذكره المصنف (¬1) من وجوب غسل المرفقين، هو مذهبنا ومذهب العلماء كافة؛ إلا ما حكاه أصحابنا عن زفر، وأبي بكر ابن داود" (¬2). زكريا الأنصاري (926 هـ) حيث يقول: "الثالث: غسل اليدين مع المرفقين. . .، ودل على دخولها الآيةُ، والإجماعُ" (¬3). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وأما غسل المرافق والكعبين؛ ففرضيته بالإجماع" (¬4). ابن حجر الهيتمي (974 هـ) حيث يقول: "الثالث: غسل يديه، من كفيه وذراعيه، واليد مؤنثة مع مرفقيه. . .، ودل على دخولهما الاتباع والإجماع؛ بل والآية أيضًا" (¬5). الشربيني (977 هـ) حيث يقول: "الثالث من الفروض: غسل يديه من كفيه وذراعيه؛ للآية، والإجماع (مع) بفتح العين وتسكن بقلة (مرفقيه). .؛ لما روى مسلم (¬6) عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه. .، وللإجماع" (¬7). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول عن غسل المرفقين: "واتفق العلماء على وجوب غسلهما، ولم يخالف في ذلك إلا زفر، وأبو بكر بن داود الظاهري" (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع عطاء، وإسحاق (¬9)، والحنفية (¬10)، والمشهور من مذهب المالكية (¬11)، والمذهب عند الحنابلة (¬12). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ¬
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، و"إلى" هنا تحتمل معنيين: إما أنها بمعنى مع، وهي بهذا تدل بالمطابقة على المسألة، وإما أنها بمعنى الغاية، فالغاية تدخل إذا كان التحديد شاملًا للحد والمحدود؛ كقولك: قطعت أصابعه من الخنصر إلى المسبحة، أو بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه، فإن الأصبعين والشجرتين داخلان في القطع والبيع بلا شك؛ لشمول اللفظ (¬1). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، "أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد. . .، ثم قال: هكذا رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يتوضأ" (¬2). • وجه الدلالة: أن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- غسل اليد حتى شرع في العضد، مما يعني أنه غسل المرفقين وزيادة، وقد قال: "هكذا رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يتوضأ"، وفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له يدل على السنة المأمور بفعلها في الوضوء (¬3)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف زفرُ من الحنفية في هذه المسألة (¬4)، وهي رواية عن مالك أنكر صحتها بعض المالكية (¬5)، ورواية عن أحمد (¬6)، وهو قول أبي بكر بن داود الظاهري (¬7)، فقالوا بأن المرفقين لا يدخلان في غسل اليدين. ونقد ابن تيمية هذا الإجماع بخلاف زفر، وبعض المالكية، وداود (¬8). واستدلوا بأنه غاية في كتاب اللَّه تعالى، والغاية حد، فلا يدخل تحت المحدود، واستدلالًا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (¬9)، فإن الليل لا ¬
[18 - 127] الكمال والتمام بغسل المرفقين مع اليدين
يدخل في وجوب الصيام فكذلك هنا. وقد نقل الحافظ ابن حجر كلام الشافعي ثم علق على قول زفر بقوله: "فعلى هذا فزفرُ محجوجٌ بالإجماع قبله، وكذا من قال ذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالكٍ صريحًا" (¬1). وخالف ابن حزمٍ؛ فقال بأن غسل اليدين من دون المرفقين مجزئ (¬2). واستدل بأن "إلى" في لغة العرب تكون بمعنى الغاية، وبمعنى مع، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} بمعنى مع أموالكم، فلما كانت تقع على هذين المعنيين وقوعًا صحيحًا مستويًا، لم يجز أن يقتصر بها على أحدهما دون الآخر، فيكون ذلك تخصيصًا لما تقع عليه بلا برهان، فوجب أن يجزئ غسل الذراعين إلى أول المرفقين بأحد المعنيين (¬3).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، أما كلام ابن حجر السابق، فغير دقيق لأمرين: الأول: أن الخلاف منقولٌ عن زفر بن الهذيل، وهو متوفى سنة 158 هـ رحمه اللَّه، فهو سابقٌ للشافعي بكثير، وعدم علم الشافعي بخلافه لا يعني عدمه. الثاني: أن الخلاف منقولٌ عن أحمد أيضًا، وهو من معاصري الشافعي، فلم يثبت الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. [18 - 127] الكمال والتمام بغسل المرفقين مع اليدين: هذه المسألة تأتي وكأنها استكمالٌ للمسألة السابقة، فبعد أن ناقشنا دخول المرفقين من اليد في الوضوء، وأنه لم يثبت الإجماع فيها، أتت هذه المسألة لتجمع الفُرَقاء، فهم كلهم مجمعون على أن من غسل المرفقين؛ فقد أدى الكمال والتمام. • من نقل الاتفاق: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أنه إن غسلهما وغسل مرفقيه وخلل أصابعه بالماء، وما تحت الخاتم فقد تم ما عليه في الذراعين" (¬4). ¬
[19 - 128] عدم دخول العضد في غسل اليدين
• الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، والظاهرية (¬5). • مستند الاتفاق: ما سبق أن ذُكر في مستند المسألة السابقة. 3 - الاحتياط في الدين، فإذا فعل الإنسان الأحوط له، فقد دفع الخلاف، واستبرأ لدينه، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [19 - 128] عدم دخول العضد في غسل اليدين: آية الوضوء حددت الأعضاء التي يجب غسلها، ومنها اليدان بأنهما يغسلان إلى المرفقين، فما بعد المرفقين لا يدخل في حكم ما قبله (¬6). • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول في سياق استدلاله لدخول المرفقين في غسل اليد عن حرف (إلى) في آية الوضوء: "فإن كانت بمعنى مع، فدخول المرفق ظاهر، وإنما لم يدخل العضد للإجماع" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬8)، والمالكية (¬9)، والحنابلة (¬10). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن الآية حددت محل العضو المغسول بأنه إلى المرافق، وما دام أن الأمر محددٌ، فيجب الأخذ بتحديده في حد العضو، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[20 - 129] غسل ما فوق المرفقين والكعبين غير مستحب
Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [20 - 129] غسل ما فوق المرفقين والكعبين غير مستحب: إذا أراد المسلم الوضوء، فإنه يستحب له أن يغسل ما فوق المرفقين والكعبين. • من نقل الإجماع: ابن بطال (449 هـ) حيث يقول عن قول أبي هريرة في استحباب غسل ما فوق المرفقين والكعبين: "هذا الذي قاله أبو هريرة لم يتابع عليه، والمسلمون مجمعون على أن الوضوء لا يتعدى به ما حد اللَّه ورسوله، ولم يجاوز رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قط مواضع الوضوء فيما بلغنا". نقله عنه النووي (¬1)، والشوكاني (¬2). القاضي عياض (544 هـ) حيث يقول بعد ذكره لرأي أبي هريرة في إطالة الغرة والتحجيل: "والناس مجموعون (¬3) على خلاف هذا" (¬4). ونقله عنه الموّاق (¬5)، والشوكاني (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة في رواية (¬7). • مستند الإجماع: 1 - استدل المالكية على هذا القول بأن عمل أهل المدينة على عدم إطالة الغرة، وهي غسل ما فوق المرفقين والكعبين (¬8). 2 - أن إطالة الغرة فيه زيادة على محل الفرض، والزيادة في الدين بدعة (¬9). • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة الشافعية (¬10)، والحنفية (¬11)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬12)، فقالوا باستحباب غسلهما. قال النووي: "هذا الذي ذكرناه من استحباب غسل ما فوق المرفقين والكعبين هو مذهبنا لا خلاف فيه بين أصحابنا" (¬13). واستدلوا بحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن أمتي يأتون يوم القيامة ¬
[21 - 130] أقطع اليد لا فرض عليه
غُرًّا مُحَجَّلين (¬1) من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" (¬2). وقال الشوكاني: "والتحجيل: غسل ما فوق المرفقين والكعبين وهما مستحبان بلا خلاف" (¬3). ويبدو أنه نقل نفي الخلاف عن النووي، وهو يريد المذهب الشافعي، ولو كان يقصد الإجماع، فهو غير صحيح قطعًا، مع خلاف المالكية والحنابلة السابق، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، بل هو على خلاف قول الجمهور، وقد تأملت كلام ابن بطال فوجدت أنه لم يحكِ الإجماع في مسألتنا بعينها، وإنما يريد أن المسلمين أجمعوا على أنه لا يُتعدى ما حدّ اللَّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا صحيح لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في هل حدّ الرسول عليه الصلاة والسلام التحجيل؛ أو أنه من فهم أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-؟ ومن هنا نشأ الخلاف. فابن بطال والقاضي عياض استدلا بالإجماع في مسألة عامة، وأنزلوه على مسألتنا، ولم يحكوا الإجماع فيها، واللَّه تعالى أعلم. [21 - 130] أَقْطَعُ اليد لا فرْضَ عليه: إذا قطعت يد المسلم، وهي من أعضاء الوضوء الأربعة، فإنه لا يلزمه شيء في هذه الحالة، ويسقط عنه فرض غسل اليد. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول معلقًا على قول الماتن: "وإن كان أقطع اليد، ولم يبق من محل الفرض شيء، فلا فرض عليه"، قال معلقًا: "هذا متفق عليه" (¬4). ¬
[22 - 131] استحباب مسح الباقي من العضو المقطوع
• الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الاتفاق: 1 - قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. • وجه الدلالة: أن أقطع اليد لا يستطيع غسل يده، لما في ذلك من التكليف بالمحال، فلم يجب ذلك؛ لأن اللَّه تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم" (¬5). • وجه الدلالة: أن تحقيق هذا الأمر -وهو غسل اليد- بالنسبة للأقطع غير مستطاع، فسقط عنه هذا الفرض، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [22 - 131] استحباب مسح الباقي من العضو المقطوع: والمقصود: الباقي من العضو من غير محل الفرض؛ لأنه إن بقي شيء من محل الفرض وجب غسله بالاتفاق، على ما يأتي بيانه، فيستحب مسح هذا الباقي. • من نقل الاتفاق: النووي (676 هـ) حيث يقول معلقًا على قول الماتن: "والمستحب أن يمس ما بقي من اليد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة"، قال: "كذا اتفقوا على استحباب إمساسه الماء" (¬6). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنابلة (¬7). • مستند الاتفاق: لم أجد لهم مستندًا، ولكنهم عللوا بأنه حتى لا يخلو العضو من الطهارة، كما سبق. ¬
[23 - 132] وجوب مسح الباقي من محل الفرض
وعلَّل بعضهم بأنه موضع الغرة والتحجيل (¬1). • الخلاف في المسألة: لم يذكر ابن حزم هذا الاستحباب في مناقشته للمسألة، بل قال: سقط عن العضو حكمه -أي الغسل- (¬2)، واللَّه تعالى أعلم. وكذا الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، فلم أجد لهم ذكرًا للمسألة بخصوصها بعد طول بحث، وذكروا مثل ما ذكر ابن حزم، فلا أدري هل هم موافقون أو مخالفون، واللَّه تعالى أعلم.Rأنني لا أجزم بشيء، فالمسألة جزئية، ولم يتحدث عنها العلماء بشكل واضح، ولم أجد من نَصَّ على هذا الاستحباب سوى من ذكرت، فهم يذكرون عدم الوجوب، ويكتفون بذلك، فهل يعني هذا أنهم لا يقولون بالاستحباب؟ من المعلوم أنه لا ينسب لساكت قولٌ، فاللَّه تعالى أعلم. والأظهر أن النووي يقصد بهذا الاتفاقِ الاتفاقَ المذهبي، وذلك يتبين من خلال الكلام التالي بعده، حيث أخذ يناقش أئمة المذهب الشافعي (¬5)، واللَّه تعالى أعلم. [23 - 132] وجوب مسح الباقي من محل الفرض: إذا قطعت يد إنسان، وبقي منها من محل الفرض شيء، فإنه يبقى الحكم السابق، وهو وجوب الغسل لهذا الباقي من العضو. • من نقل نفي الخلاف: النووي (676 هـ) حيث يقول معلقًا على قول الماتن: "وإن كان أقطع اليد، ولم يبق من محل الفرض شيء، فلا فرض عليه"، قال: "فيه احتراز مما إذا بقي من محل الفرض شيء، فإنه يجب غسله بلا خلاف" (¬6). وهو يريد هنا نفي الخلاف المذهبي بلا شك لدي. ¬
[24 - 133] عدم وجوب غسل الجلدة المتدلية
المرداوي (885 هـ) حيث يقول معددًا لثلاث مسائل: "الأولى: أن يبقى من محل الفرض شيء، فيجب غسله بلا نزاع" (¬1). الحطّاب (954 هـ) حيث يقول: "إذا قطع بعض محل الفرض، وجب غسل ما بقي منه بلا خلاف" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف في المسألة الحنفية (¬3). • مستند نفي الخلاف: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ". . . وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬4). • وجه الدلالة: أن الأمر معلق بالاستطاعة، وهي هنا متحققة فيما بقي من العضو، فيجب غسله. 2 - أن الباقي من محل الفرض جزء من العضو الواجب غسله، فإذا تعذر غسل البعض بالقطع وجب غسل الباقي منه.Rأن نفي الخلاف متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [24 - 133] عدم وجوب غسل الجلدة المتدلية: إذا تقلّعت جلدة من محل الفرض، ولكنها متدلية من غير محل الفرض، فإنه لا يجب غسلها. وحاصل هذه المسألة أن الاعتبار في الجلد المتقلِّع بالمحل الذي انتهى التقلع إليه، وتدلى منه، ولا ينظر إلى الموضع الذي تقلع منه. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول عن جلدة اليد: "وإن تقلعت من محل الفرض، حتى صارت متدلية من غير محل الفرض، لم يجب غسلها؛ قصيرة كانت أو طويلة بلا خلاف" (¬5). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف في المسألة الحنفية (¬6)، ¬
[25 - 134] مسح الرأس فرض
وقول عند المالكية (¬1)، وقول عند الشافعية، واختاره النووي (¬2). • مستند نفي الخلاف: عللوا لهذه المسألة بأن الجلدة المتدلية أصبحت من غير محل الفرض، فلا يجب غسلها (¬3). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في المسألة في قولٍ (¬4)، والشافعية في قولٍ كذلك (¬5) بأنه يعتبر بأصله، فيجب غسل جلدة الساعد المتدلية من العضد، ولا يجب غسل جلدة العضد المتدلية من الساعد إذا لم تلتصق به. وعللوا بأن الاعتبار بالأصل، فإذا كانت الجلدة تغسل قبل التقلع، وما زالت موجودة، فتبقى على حكمها وتغسل، وكذلك الجلدة غير المغسولة سابقًا، تبقى على حكمها السابق، فلا تغسل (¬6).Rمن خلال المناقشة السابقة يظهر أن ابن قدامة رحمه اللَّه تعالى ربما يقصد نفي الخلاف في المذهب، خصوصًا أنه لم يستخدم عبارته المعتادة في حكاية الإجماع: (لا أعلم فيه خلافًا)، فلعله يريد نفي الخلاف في المذهب، واللَّه أعلم. والنتيجة -كما يظهر- مما سبق أن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [25 - 134] مسح الرأس فرض: الرأس من أعضاء الوضوء الأربعة التي لا يصح إلا بها، وهناك خلاف في الجزء المجزئ مسحُه من الرأس، وهذه ليست مسألتنا، إذ أنها في مسح الرأس عمومًا، دون الدخول في التفصيلات. • من نقل الإجماع: الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "فرأينا الأعضاءَ التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء، هي: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس" (¬7). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن مسح بعض الرأس بالماء غير معين ¬
لذلك البعض فرضٌ" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "أجمعوا على أن غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، ومسح الرأس فرض ذلك كله، . . . لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين، وغسلهما. . " (¬2). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على وجوب غسل الوجه كله، وغسل اليدين مع المرفقين، ومع الكعبين، ومسح الرأس" (¬3). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء" (¬4). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "لا خلاف في وجوب مسح الرأس" (¬5). وقال أيضًا: "ثم يمسح رأسه، وهو فرض بغير خلاف" (¬6). وقال أيضًا: "والمفروض من ذلك -فروض الوضوء- بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين" (¬7). القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "ذكر تعالى أربعة أعضاء: الوجه وفرضه الغسل، واليدين كذلك، والرأس فرضه المسح اتفاقًا" (¬8). وقال أيضًا: "واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس؛ هل هو فرض أو سنة؟ بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرضٌ بالقرآن. . " (¬9). النووي (676 هـ) حيث يقول: "فمسح الرأس واجب بالكتاب والسنة والإجماع" (¬10). وقال أيضًا: "وأجمعوا على وجوب مسح الرأس" (¬11). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول في حديث له عن التيمم في آية الأمر به: "لأنه لو ¬
[26 - 135] استحباب مسح الرأس كله
قال: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، أو امسحوا بها؛ لكان يكتفي بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس، وهو خلاف الإجماع" (¬1). يعني أن المسح للرأس متضمن للمسح باليد، وإيصال الماء إليه، وهو معنى كلام العلماء السابق. ابن مفلح -صاحب "المبدع"- (884 هـ) حيث يقول: "ثم يمسح رأسه، وهو فرض بالإجماع" (¬2). الحطّاب (954 هـ) حيث يقول: "هذه الفريضة الثالثة من الفرائض المجمع عليها، وهي مسح الرأس" (¬3). وقال أيضًا: "وقدم المصنف الكلام على الأعضاء الأربعة المجمع عليها" أي: على فرضيتها (¬4). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بمسح الرأس، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - أحاديث صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومنها حديث حُمران مولى عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنهما-، وفيه: "ثم مسح برأسه" (¬5). • وجه الدلالة: أن كل من ذكر صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر مسح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لرأسه، مما يدل على فرضيته.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، وهذه من المسائل التي لا يجوز فيها الاجتهاد بخلافه، فهي من مسائل الإجماع القطعي، واللَّه تعالى أعلم. [26 - 135] استحباب مسح الرأس كله: نقل عدد من العلماء الإجماع على استحباب مسح الرأس كاملًا، وأن من فعله فقد ¬
أدى ما عليه وأحسن في ذلك. • من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن من مسح جميع رأسه فأقبل وأدبر، ومسح أذنيه، وجميع شعره؛ فقد أدى ما عليه" (¬1). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأما المسح بالرأس: فقد أجمعوا أن من مسح برأسه كله؛ فقد أحسن وعمل أكمل ما يلزمه" (¬2). وقال أيضًا: "وأجمع العلماء أن من عم رأسه بالمسح؛ فقد أدى ما عليه، وأتى بأكمل شيء فيه" (¬3). وقال أيضًا: "وقد أجمعوا على أن الرأس يمسح كله، ولم يقل أحد إن مسح بعضِه سنة، وبعضِه فريضة، فدل على أن مسحه كله فريضة" (¬4). اللخمي (478 هـ) حيث نقل عنه الحطاب أنه نفى الخلاف في أنه مأمور بالجميع ابتداء -أي بمسح الجميع -، وإنما الخلاف إذا اقتصر على بعضه (¬5). القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله؛ فقد أحسن وفعل ما يلزمه" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "واستيعابه بالمسح مأمور به بالإجماع" (¬7). ونقله عنه الشوكاني بلفظ الاتفاق (¬8)، وابن قاسم بلفظ الإجماع (¬9). ولعل النووي يريد أنه مأمور به بالاستحباب إجماعًا، ولا شك أنه لا يريد الأمر الملزم؛ لشهرة الخلاف في المسألة. ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "اتفق الأئمة على أن السنة مسح جميع الرأس، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬10). ¬
وقال أيضًا: "ولا خلاف بين الأئمة أن مسح جميع الرأس مرة واحدة أولى من مسح بعضه ثلاثًا" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). ابن عبد السلام (749 هـ) حيث نقل عنه الحطاب أنه نفى الخلاف في أنه مأمور بالجميع ابتداء -أي بمسح الجميع-، وإنما الخلاف فيما إذا اقتصر على بعضه (¬3). ابن السمعاني (617 - 618 هـ) حيث نقل عنه ابن حجر قوله: "وأجاب بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو -الاستيعاب- مشروع بالاتفاق" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬5). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بالمسح للرأس، وهذا اللفظ عام، ومن مسح رأسه كله فقد أتى بالواجب على أكمل وجه، فلزم استحباب ذلك، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه- في صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيه: "فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة" (¬6). وفي رواية: "بدأ بمقدم رأسه، حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه" (¬7). • وجه الدلالة: أن فيه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذه سنة فعلية، فقد مسح رأسه عليه الصلاة والسلام كله، حيث بدأ بمقدم رأسه؛ حتى ذهب إلى قفاه، وهذا يكفي أن يمر على الرأس كله، ولكنه ردهما أيضًا إلى المكان الذي بدأ منه، فدل على استحباب مسح الرأس كله، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق، لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[27 - 136] مسح جميع الرأس غير مراد من آية الوضوء
[27 - 136] مسح جميعِ الرأس غير مرادٍ من آية الوضوء: سبق أن ذكرنا أن مسح جميع الرأس مستحب، ونقل الإجماع على ذلك عدد من أهل العلم، ولم نجد من خالف في هذا حتى علماء الحنفية، ولكن هل مسح جميع الرأس مراد من الآية أو لا؟ فقد أجاب الإمام الكاساني بأنه غير مراد بالإجماع. • من نقل الإجماع: الكاساني (587 هـ) حيث يقول مقررًا لمذهب الحنفية بالاقتصار في المسح بالناصية: "وأما وجه التقدير بالناصية؛ فلأن مسح جميع الرأس ليس بمراد من الآية بالإجماع" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬2)، وابن حزم (¬3). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. وجه الدلالة من وجهين: 1 - قالوا: الباء في قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض؛ أي: أن من مسح بعض رأسه كأنه مسحه كله، فهو يطلق عليه أنه مسح رأسه (¬4). 2 - المسح في اللغة التي نزل بها القرآن هو غير الغسل بلا خلاف، والغسل يقتضي الاستيعاب، والمسح لا يقتضيه، فكانت الآية دالة على أنه ليس المراد غسل الجميع (¬5). • الخلاف في المسألة: خالف في هذه المسألة كل من قال بوجوب مسح جميع الرأس، وهذا استدلال بالإجماع في موضع النزاع من الكاساني رحمه اللَّه. فقد خالف المالكية (¬6)، والحنابلة في هذه المسألة (¬7)، وقالوا بأن الآية دالة على مسح جميع الرأس. ¬
[28 - 137] جواز ترك مسح القليل من الرأس
وهو قول ابن عليّة (¬1). فقالوا بأن الآية تدل على ذلك من وجوه، أبرزها وجهان، هما: 1 - أن الباء في الآية للإلصاق، وليست للتبعيض (¬2)، وبهذا يبطل الاستدلال بأن مسح بعض الرأس مجزئ. 2 - الأمر في الآية يقتضي مسح الرأس؛ لأن هذا اللفظ إنما يقع حقيقةً على جميعه، دون بعضه، وقد أمر بمسح ما يتناوله الاسم؛ فيجب مسح جميعه (¬3).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود الخلاف في المسألة، ولو كانت عبارة الكاساني غير لفظ الإجماع؛ لقلت: إنه يقصد المذهب الحنفي، ولكن وجدت أنه يستخدم عبارة الإجماع في المذهب كثيرًا (¬4)، واللَّه تعالى أعلم. [28 - 137] جواز ترك مسح القليل من الرأس: إذا مسح المتوضئ رأسه، وترك قليلًا من الرأس دون مسح، واقتصر على البعض، فإن ذلك جائز. • من نقل الإجماع: العيني (855 هـ) حيث يقول: "ويدل على أنه قد أريد بها - الباء - التبعيض في الآية اتفاقُ الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح، والاقتصار على البعض" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع مَن قال بأن الواجب في غسل الرأس البعض لا الكل، وقد سبقت الإشارة لهذه المسألة، وهم: الحسن، والثوري، والأوزاعي (¬6)، والشافعية (¬7)، وابن حزم (¬8). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. ¬
[29 - 138] العفو عن ترك اليسير في مسح الرأس
• وجه الدلالة: في قوله {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فالباء هنا للتبعيض، فأي جزء من الرأس مسح؛ صح أن يُطلق عليه أنه مسح رأسه، فإذا ترك شيئًا يسيرًا غير قاصد، فلا شيء عليه من باب أولى (¬1). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية (¬2)، والحنابلة في هذه المسألة (¬3)، فقالوا بعدم جواز الاقتصار على بعض الرأس، وترك القليل منه دون مسح. وسبق الاستدلال لهذا القول (¬4).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [29 - 138] العفو عن ترك اليسير في مسح الرأس: أعضاء الوضوء أربعة، ومنها الرأس، ولا يعفى عن ترك اليسير في أيٍّ منها؛ إلا أن الرأس له حكم مختلف، فهو مبني على التخفيف، ولذا كان حكمه المسح دفعًا للمشقة، فإذا ترك اليسير منه، دون أن يكون ذلك بقصد، فإنه متجاوز عنه، بمعنى أنه لا يلزم أن يوصل الماء إلى كل شعرة في الرأس، بل إذا أمرّ يده على ظاهر رأسه كله، فإنه يجزئه ذلك، وإذا بقي شيء من الشعر لم يصله الماء، فإن ذلك عفو. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول في معرض نقاشٍ له: "على أنهم قد أجمعوا على أن اليسير -أي: اليسير المتروك فيمن مسح رأسه-، لا يقصد إلى إسقاطه متجاورٌ عنه، لا يضر المتوضئ" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والشافعية (¬7)، والحنابلة (¬8)، وابن حزم (¬9). ¬
[30 - 139] استحسان مسح الرأس باليدين معا
• مستند الإجماع: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بمسح الرأس، والمسح يكون بفعله مرة واحدة، وهو لا يأتي بها على كل الشعر قطعًا، فتبين تبعًا أن ذلك معفو عنه، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [30 - 139] استحسان مسح الرأس باليدين معًا: إذا أراد المسلم أن يمسح على رأسه في وضوئه، فإنه يستحسن أن يمسح باليدين معًا. • من نقل الإجماع: القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معًا، وعلى الإجزاء إن مسح بيدٍ واحدةٍ" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه- في وصف وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيه: "فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة" (¬5). • وجه الدلالة: أنه ذكر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عندما توضأ أقبل بيديه وأدبر، فذكر يديه، ولا شك أنها بذلك سنة فعلية (¬6).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [31 - 140] إجزاء مسح الرأس بيد واحدة: إذا شرع المسلم في وضوئه، وأتى للمسح على الرأس، ثم مسحه بيد واحدة، فقد أجزأه ذلك، وتم وضوؤه. ¬
[32 - 141] كراهة غسل الرأس بدل المسح
• من نقل الإجماع: القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معًا، وعلى الإجزاء إن مسح بيدٍ واحدةٍ" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: أن الواجب في العضو -الرأس- هو المسح، فإذا حصل المسح بيدٍ واحدة، فقد تم المسح، وتحقق الواجب كما أمر اللَّه تعالى به، فدل على إجزاء المسح بيد واحدة، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [32 - 141] كراهة غسل الرأس بدل المسح: لا شك أن مسح الرأس هو المشروع، المنصوص عليه، ولكن إذا غسله المتوضئ بدل المسح، فإن فعله هذا مكروه، وقد حكى ابن حجر الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "وقد اتُّفق على كراهة غسل الرأس بدل المسح، وإن كان مجزئًا" (¬5). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق المالكية؛ إذ أن لديهم قولين: بعدم الإجزاء، والكراهة، وعدم الإجزاء كراهة وزيادة (¬6)، والشافعية في وجهٍ (¬7)، والحنابلة لديهم قولان في المسألة (¬8): بإجزاء الغسل عن المسح، وعدم الإجزاء، فأما عدم الإجزاء: فهذه كراهة وزيادة، وأما القول الأول: فالأظهر أنه لا يخالف مسألتنا، حيث إن ما يقابل الإجزاء هو خلاف الأولى، وقد صرح بعضهم بالكراهة (¬9). ولم أجد للحنفية كلامًا في المسألة، ولكن وجدتهم قد عبروا بإجزاء الغسل عن المسح في الغسل، وأنه متضمن له (¬10)، إلا أن ظاهر الرواية عندهم أنه لا بد من مسح ¬
الرأس حتى في الغسل (¬1). وقال العيني بعد تفريقه بين الغسل والمسح في الوضوء: "وفيه -تفسير المسح- ثبوت المسح، والشارع أوجب المسح" (¬2). وأقرب مسألة وجدتها لمسألتنا هي مسألة ما إذا نسي المتوضئ مسح رأسه، فأصابه ماء المطر مقدار ثلاثة أصابع، فمسحه بيده، أو لم يمسحه أجزأه عن مسح الرأس، وهي تفيد أن الغسل مجزئ عن المسح، إلا أن الإجزاء يقابله خلاف الأولى أو الكراهة كما قلنا. فمما سبق نجد أن كلام الحنفية محتمل لقولين، وهو الكراهة أو خلاف الأولى، والمنع، ولهذا جعلت الكلام عن الحنفية في الموافقين؛ لأنه الأقرب دون جزمٍ؛ إذ أن المنع كراهة وزيادة، واللَّه تعالى أعلم. • مستند الاتفاق: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. 2 - الأحاديث التي وصفت وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكرت أنه كان يمسح رأسه (¬3). • وجه الدلالة: أن الوارد في الشرع -سواء في الكتاب أو السنة- هو المسح للرأس، ولم يرد الغسل، وكل أمر في العبادات لم يأت به الشرع فالأصل فيه الحظر، ولكن لأن الغسل متضمن للمسح فيحمل على الكراهة فقط، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في قولٍ (¬4)، والشافعية في الوجه الثاني (¬5)، بأنه لا يكره غسل الرأس بدل المسح. واستدلوا بأن الغسل للرأس فيه مسح وزيادة، فلا يكون مكروهًا (¬6).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[33 - 142] إجزاء المسح على الناصية والعمامة
[33 - 142] إجزاء المسح على الناصية والعمامة: إذا مسح المتوضئ على الناصية والعمامة معًا، وكان ذلك لعذر، فإن فعله هذا مجزئ، ونفى ابن تيمية النزاع في ذلك. • من نقل نفي النزاع: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته؛ أجزأه مع العذر بلا نزاع" (¬1). • الموافقون على نفي النزاع: وافق على نفي الخلاف أبو بكر الصديق، وعمر، وعلي، وعمرو بن أمية الضمري، وأبو ذر، وأنس، والمغيرة بن شعبة، وبلال، وسلمان، وكعب بن عجرة، وأم سلمة، وأبو موسى، وأبو أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنهم-، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري (¬2)، ورُوي عن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه-، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، ومكحول، وابن المنذر (¬3)، وعلى قولٍ عند الحنفية بأنه يجوز المسح للرأس بمقدار الناصية، وقولٍ آخر عندهم بمقدار ثلاثة أصابع، وإلا فهم لا يجيزون المسح على العمامة فقط، فإذا أوفى بهذا القدر من الرأس فمجزئ عندهم، على هذا القول (¬4)، وأما المالكية، فإنهم يجيزونه مع العذر (¬5)، والحنابلة (¬6)، وابن حزم (¬7). • مستند نفي النزاع: 1 - حديث عمرو بن أمية -رضي اللَّه عنه-، قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسح على عمامته وخفيه" (¬8). 2 - حديث ثوبان -رضي اللَّه عنه-، قال: "بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين (¬9) " (¬10). ¬
• وجه الدلالة: في الأحاديث السابقة ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه مسح على العمائم، أو أمر بذلك، وهذه سنة فعلية أو قولية يجب الأخذ بها. أما من اشترط المسح على الناصية مع العمامة فزادوا بأن اللَّه تعالى قال: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والعمامة ليست رأسًا. ولأنه عضو طهارته المسح؛ فلم يجز المسح على حائل دونه، كالوجه واليد في التيمم (¬1). أما إذا مسح الناصية والعمامة؛ فقد أتى بسنة الاستيعاب عندهم. • الخلاف في المسألة: الحنفية لديهم في المسح على الرأس ثلاثة أقوال: فقيل: بمقدار الناصية، وقيل: ثلاث أصابع، وقيل: بمقدار ربع الرأس، وهو قول زفر (¬2). فعلى القول الثالث عندهم لا يجزئ المسح على الناصية فقط، وكذلك الثاني إذا كانت الناصية لا تكفي لثلاثة أصابع. واستدلوابنحو الأدلة التي ذكرتها في آخر المستند عمن يشترط المسح على الناصية، ولكنهم هنا لا يعتبرون المسح على الناصية كافيًا، بل لا بد من المسح على ربع الرأس. ولكن إذا كان ذلك لعذر، فالتفصيل؛ فإن كان بقي جزء من الرأس يمكن فيه المسح، فإنه يُمسح ويُكتفى به، ولا يمسح على العمامة، أما إذا لم يكن كذلك؛ فيمسح للعذر (¬3). وبهذا لا يكون هذا القول مخالفًا لمسألتنا، واللَّه تعالى أعلم.Rأن نفي النزاع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
[34 - 143] مسح الأذنين عن الرأس غير مجزئ
[34 - 143] مسح الأذنين عن الرأس غير مجزئ: إذا اكتفى المتوضئ بمسح الأذنين عن مسح الرأس، فإن مسحه غير مجزئ عن مسح الرأس، وقد نقل النووي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: المازري (536 هـ) حيث يقول عن مسح الأذنين: "إن الأمة مجمعة على أن مسحهما لا يجزئه عن الرأس". نقله عنه القرافي (¬1). النووي (676 هـ) حيث يقول عن الأذنين: "الإجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن مسح الرأس، بخلاف أجزائه (¬2) " (¬3). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "ولا يجوز الاقتصار بالمسح على الأذنين عوضًا عن مسح الرأس بالإجماع" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بمسح الرأس، ولا يتبادر إلى الذهن من هذا الأمر إلا الرأس الذي يبدو عليه الشعر غالبًا، بدليل فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونقل هذا المعنى إلى غيره لا يجوز بغير دليل، فلا يجزئ مسحهما عن مسح الرأس، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الأذنين تبع للرأس -على قول أنهما من الرأس-، فلا يجتزأ بمسحهما عن مسح الأصل، وهو الرأس، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [35 - 144] البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس: البياض الذي يقع خلف الأذن بينه وبين منابت الشعر حوله ليس من الرأس؛ أي: ليس من الرأس المأمور بمسحه، حكى عدد من العلماء الإجماع على ذلك. ¬
• من نقل الإجماع: الماوردي (450 هـ) (¬1)، والقاضي أبو الطيب (450 هـ)، نقله عنهما النووي، حيث يقول: "قال الماوردي والقاضي أبو الطيب: ولأن الإجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس" (¬2)، قالا ذلك استدلالًا على أن الأذنين ليسا من الرأس، فأدخلا الأذنين من باب الأولى من البياض حولهما. ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "ولا يختلف أحد في أن البياض الذي بين منابت الشعر من الرأس، وبين الأذنين ليس هو من الرأس في حكم الوضوء" (¬3). نقل ابن مفلح (¬4)، والمرداوي (¬5)، والبهوتي (¬6) عن جماعة، ولم يسمِّ أحدًا، بأنهم ذكروا أنه ليس من الرأس إجماعًا. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬7)، والحنابلة في قولٍ عندهم (¬8). وقد بحثت عن كلامٍ للحنفية في هذه المسألة، ولكن لم أجد، ولعلهم لم يعتنوا بهذا؛ لأجل أنهم يقولون بأن غسل جزء من الرأس يكفي، واللَّه تعالى أعلم. • مستند الإجماع: أن الأصل في العبادات التوقيف على ما يأتي عن اللَّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولم يرد عنهما دليل فيه الأمر بمسحه؛ أو من فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه مسحه مع الرأس، فهذا يدل على أنه ليس من الرأس؛ إذ لو كان كذلك، لمسحه لكونه منه، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة في هذه المسألة، على الصحيح من المذهب، وبعضهم اقتصر عليه، وقالوا بأنه من الرأس (¬9). نقل المرداوي عن ابن تيمية، أنه قال: يجوز الاقتصار على مسحه دون الشعر، إذا قلنا: يجزئ مسح بعض الرأس، على إحدى روايات المذهب الحنبلي (¬10). ¬
[36 - 145] مشروعية مسح الأذنين
واستدلوا بالقياس على حكم الموضِحة (¬1)، حيث إن ضرب هذا المكان يعتبر من الرأس (¬2).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [36 - 145] مشروعية مسح الأذنين: مسح الأذنين سنة من سنن الوضوء، وهناك من قال بوجوبه، ولكن الجميع قالوا بأنه مشروع للوضوء، وحُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يرون مسح الأذنين ظهورهما وبطونهما" (¬3)، وهو يشير إلى الخلاف في وجوبه وعدمه. ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأجمع المسلمون طرًّا أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة، ومسح الأذنين" (¬4). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن مسح باطن الأذنين وظاهرهما سنة من سنن الوضوء، إلا أحمد فإنه رأى مسحهما واجبًا. . " (¬5). ونقله عنه ابن قاسم (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "أجمعت الأمة على أن الأذنين تطهران" (¬7). الحطّاب (954 هـ) حيث يقول: "والمراد بالداخل هنا الصماخ، وأما خارجه فلا خلاف في فرضيته" (¬8). ابن عابدين (1306 هـ) حيث يقول: "أما لو أخذ ماء جديدًا مع بقاء البلة؛ فإنه يكون ¬
[37 - 146] ترك مسح الأذنين لا يبطل الوضوء
مقيما للسنة اتفاقًا" (¬1). وهو في هذا يشير إلى الخلاف في المذهب، هل يحتاج إلى ماء جديد للمسح أو لا؟ ولكن الكلام يشير إلى أنه إذا أخذ ماء جديدًا فإنه بهذا قد حقق المسح المسنون اتفاقًا، ففيه حكاية للاتفاق الضمني في مذهبهم، على مسألتنا. • مستند الإجماع: 1 - حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-، وفيه قال: "ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه" (¬2). • وجه الدلالة: ظاهر من الحديث، حيث فيه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي سنة فعلية. 2 - الحديث الذي رواه عدد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وفيه: "الأذنان من الرأس" (¬3). • وجه الدلالة: التصريح بأن الأذنين من الرأس، والرأس ورد التصريح فيه أنه أحد أعضاء الوضوء المجمع عليها، فيُمسح على الأذنين؛ لأنه جزء منه. • الخلاف في المسألة: خالف الحنابلة في رواية بوجوب المسح، بل عندهم رواية بأنه عضو مستقل (¬4)، ولكن هاتين الروايتين لا تنقضان الإجماع؛ إذ أن الإجماع في المشروعية، والوجوب مشروعية وزيادة. وهناك خلاف للشيعة بعدم مشروعيته، إلا أنه لا يعتد بخلافهم (¬5).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [37 - 146] ترك مسح الأذنين لا يبطل الوضوء: سبقت مسألة مشروعية مسح الأذنين، وأن الإجماع متحقق فيها، ولكن إذا ترك المتوضئ مسح الأذنين، سواء كان الترك نسيانًا أو سهوًا أو عمدًا، فإن وضوءه ¬
صحيح (¬1). • من نقل الإجماع: ابن جرير الطبري (310 هـ) حيث يقول: "وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما، أو غسل ما أقبل منهما على الوجه، غير مفسدٍ صلاةَ من صلى بطهْره الذي ترك فيه غسلهما" (¬2). ونقله عنه النووي، وذكر أنه حكى الإجماعَ غيرُه من العلماء (¬3)، ونقله ابن قاسم أيضًا (¬4). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا خلاف في أن الأذنين لا يجب مسحهما" (¬5). القرافي (684 هـ) حيث يقول: "وإن قلنا: إن مسحهما واجب، فتَرَكهما سهوًا وصلى، فلا يُختلف في صحة صلاته، والذي صرَفَ المتأخرين عن الإعادة إجماعُ المتقدمين على الصحة" (¬6). وهذه العبارة نأخذ منها أمرين: وجود الخلاف في الترك العمد، ونقل الإجماع على الترك سهوًا. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والمالكية في المشهور عندهم (¬8)، والشافعية (¬9)، والحنابلة في رواية (¬10)، وابن حزم (¬11). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] الآية. • وجه الدلالة: أن الآية الكريمة لم تذكر مسح الأذنين، ولو كان المسح واجبًا لذكره تبارك وتعالى؛ فدل على عدم وجوب مسحهما. 2 - أنه لم يرد نصٌ يدل على الوجوب، وأكثر من ذكر صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يذكر مسح الأذنين، والقول بالوجوب يحتاج ليقين، ولا وجود له؛ فدل على عدم ¬
[38 - 147] ترك مسح العنق لا يبطل الوضوء
وجوبه (¬1)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف إسحاق بن راهويه، فقال بأن من ترك مسحهما عمدًا، لم تصح طهارته، ولكن أجاب النووي عن مخالفته، بأنه محجوج بإجماع من قبله (¬2). وخالف المالكية في قولٍ غير مشهورٍ عندهم بشرط أن يكون عمدًا (¬3)، وخالف الحنابلة مطلقًا، دون التقييد بالعمد في رواية (¬4)، فقالوا بوجوب مسحهما، مما يعني عدم صحة الطهارة بدونه. وهو قول محمد بن مسلمة، وأبي بكر الأبهري (¬5). واستدلوا بالأحاديث التي تثبت فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمسح أذنيه، فما دام أنه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في وضوئه، فيجب إذًا. ومنها: حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-، وفيه قال: "ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه" (¬6).Rأن الإجماع غير متحقق فيما إذا كان الترك عمدًا؛ لوجود المخالف في المسألة، وأما كلام النووي رحمه اللَّه فغير دقيق، إذ القول بالوجوب مشهور، فالأظهر أن المسألة غير مجمع عليها. أما إذا كان سهوًا، فيبقى خلاف الحنابلة في رواية، ومن معهم، فلم يفرقوا بين العمد والسهو، وهذا يدل على شهرة الخلاف، وبهذا يكون الإجماع غير متحقق في المسألة عمومًا، واللَّه تعالى أعلم. [38 - 147] ترك مسح العنق لا يبطل الوضوء: إذا ترك المتوضئ مسح العنق، فإن وضوءه صحيح، ونقل ابن تيمية الاتفاق على المسألة. ¬
[39 - 148] غسل القدمين فرض
• من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "ومن ترك مسح العنق، فوضوؤه صحيح باتفاق العلماء، واللَّه أعلم" (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند الاتفاق: 1 - أن مسح العنق لم يرد به نصٌ من كتاب أو سنة، وقد وجد الداعي لذلك، فدل على أن ترك المسح ليس مبطلًا، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الأحاديث الواردة في فضل مسح العنق لم يصح منها شيء (¬7). 3 - أن الأصل عدم الوجوب، ما دام لم يرد الناقل عن هذا الأصل، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [39 - 148] غسل القدمين فرض: القدمان من الأعضاء الأربعة التي وردت في نص آية الوضوء، ولكن هل فرضها الغَسل أو المسح؟ لا شك أن الصحيح هو الغَسل، كما تدل عليه الأدلة الكثيرة، وقد نقل عدد من العلماء الإجماع على وجوب الغسل. • من نقل الإجماع: الإمام عبد الرحمن بن أبي ليلى (83 هـ) فيما نقله عنه ابن قدامة (¬8)، وابن حجر (¬9)، والزركشي (¬10)، وابن مفلح -صاحب "المبدع"- (¬11)، ¬
والشوكاني (¬1)، وابن قاسم (¬2)، حيث قال: "أجمع أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على غسل القدمين". ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "أجمع عوام أهل العلم على أن الذي يجب على من لا خف عليه غسلُ القدمين إلى الكعبين" (¬3). الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "فرأينا الأعضاءَ التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء هي: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس" (¬4). أبو حامد الإسفراييني (406 هـ) حيث يقول: "أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يعتد به". نقله عنه النووي (¬5). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا أن إمساس الرجلين المكشوفتين الماء لمن توضأ فرضٌ، واختلفوا أتمسح أم تغسل" (¬6). وهذه العبارة تشير للاتفاق في إمساس الماء دون الغسل، فهي تشير للخلاف في المسألة. ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "أجمعوا على أن غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، ومسح الرأس فرض ذلك كله، . . . لا خلاف علمته، في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين، وغسلهما. . " (¬7). وهذه العبارة فيها إشارة للخلاف، وقد حكى الخلاف أيضًا في موضع آخر (¬8). ابن العربي (543 هـ) حيث يقول: "هذه سنة اتفق المسلمون عليها، قال أبو عيسى -أي: الترمذي-: لا يجوز المسح على الأقدام المجردة، خلافًا لمحمد بن جرير الطبري، حيث قال: هو مخير بين المسح والغسل، وقال بعض الرافضة في صفة المسح: وحُكي عن بعض أهل الظاهر أنه يجمع بينهما" (¬9). ونقله عنه القرطبي (¬10). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على وجوب غسل الوجه كله، وغسل ¬
اليدين مع المرفقين، وغسل الرجلين مع الكعبين، ومسح الرأس" (¬1). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول في فروض الوضوء: "والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه، واليدين، والرجلين، واستيعاب جميعها بالغسل، وانفردت الرافضة عن العلماء؛ فقالوا: الواجب في الرجلين المسح، وهذا خطأ منهم" (¬3). ونقله عنه الشوكاني (¬4)، وابن قاسم (¬5). ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "ثم يغسل قدميه كما أمره اللَّه، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك" (¬6). ونقله عنه الشوكاني (¬7). الحطّاب (954 هـ) حيث يقول: "وقدم المصنف الكلام على الأعضاء الأربعة المجمع عليها" أي: على فرضيتها (¬8). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وأما غسل المرافق والكعبين ففرضيته بالإجماع" (¬9). وقال أيضًا: "فإن الإجماع انعقد على غسلهما، ولا اعتبار بخلاف الروافض" (¬10). الشربيني (977 هـ) حيث يقول: "الخامس من الفروض: غسل رجليه بإجماع من يعتد بإجماعه مع كعبيه" (¬11). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وبإجماع الصحابة على الغسل؛ فكانت هذه الأمور موجبة لحمل تلك القراءة -قراءة الخفض لآية الوضوء-، على ذلك الوجه النادر" (¬12). ¬
أي أن قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} معطوف على {وُجُوهَكُمْ}، والنصب للمجاورة. ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "وغسل الرجلين مع الكعبين واجب بالكتاب والسنة والإجماع" (¬1). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] الآية. • وجه الدلالة: حيث عطف اللَّه تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ} على {وُجُوهَكُمْ}، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - الأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، حيث إنها أطبقت على ذكر غسله لقدميه، مما يدل على فرضية الغسل، ومنها حديث حمران مولى عثمان -رضي اللَّه عنهما-، وفيه: "ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا" (¬2). • الخلاف في المسألة: خالف بعض أهل العلم في هذه المسألة، وخلافهم على ثلاثة أقوال: الأول: أن الواجب المسح، وهو قول محكيٌ عن علي، وأنس، وابن عباس، وعكرمة، والحسن، والشعبي، وابن جرير الطبري، وهو قول ابن حزم، وقول الشيعة الإمامية (¬3). واستدلوا بقراءة الخفض لقوله: (وأرجلِكم)، أي: أنه معطوف على قوله: (برؤوسكم). الثاني: أنه مخير بين المسح والغسل، وهو قول محكيٌ عن الحسن، وابن جرير، وأبي علي الجُبّائي (¬4). ولم أجد له دليلًا غير أنه قد يكون مبنيًّا على العمل بأدلة الفريقين، جمعًا بينهما على أن أيَّهما مجزئ. الثالث: أن الواجب الجمع بين المسح والغسل، وهو قول محكي عن ابن عباس، ¬
[40 - 149] الغسل للقدمين مجزئ
وعكرمة، والحسن، وقتادة (¬1)، ونُسب إلى الظاهرية (¬2). واستدلوا بأن الآية فيها قراءتان: الخفض يدل على المسح، والنصب يدل على الغسل، فوجب الجمع بينهما (¬3).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، فبالنظر للأقوال السابقة نجد أن كل قولٍ منها يكفي في نقض الإجماع، والمخالفون الذين توصلت لأقوالهم عشرة من العلماء، وبينهم صحابة، بالإضافة إلى مذهب من المذاهب الفقهية، وهو الظاهرية. أما دعوى أن الصحابة رجعوا؛ فرجوعهم غير صريح، ولو ثبت ذلك فخلاف بقية التابعين يكفي في نقض الإجماع مع عدم تيقن إجماع الصحابة، واللَّه تعالى أعلم. [40 - 149] الغسل للقدمين مجزئ: إذا غسل المتوضئ قدميه، فإن ذلك يجزئه بالإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع المسلمون أن من غسل قدميه، فقد أدى الواجب عليه، من قال منهم بالمسح، ومن قال بالغسل" (¬4). العيني (855 هـ) حيث يقول: "فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاقُ الجميع على أنه إذا غسل، فقد أدى فرضه" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] الآية. • وجه الدلالة: عطف اللَّه تعالى قولَه: {وَأَرْجُلَكُمْ} على قوله: {فَاغْسِلُوا}، ¬
[41 - 150] غسل الكعبين من القدم واجب
وهو يدل على الغسل، وأقل مؤدى الأمر الإجزاء. 2 - الأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذ فيها أنه عليه الصلاة والسلام غسل رجليه، وهي تدل على الإجزاء وزيادة، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة علي، وأنس، وابن عباس، وعكرمة، والحسن، والشعبي، وابن جرير الطبري فيما حُكي عنهم، وهو قول ابن حزم، والشيعة الإمامية (¬1)، فقالوا بأن الواجب المسح. واستدلوا بقراءة الخفض لقوله: (وأرجلِكم)، أي: أنه معطوف على قوله: (برؤوسكم).Rأن الإجماع غير متحقق على الأظهر؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [41 - 150] غسل الكعبين من القدم واجب: إذا غسل المتوضئ رجليه، فإنه يلزمه غسل الكعبين، ونفى الإمام الشافعي علمه بالخلاف في المسألة. • من نقل نفي الخلاف: الشافعي (204 هـ) حيث يقول: "ولم أسمع مخالفًا في أن الكعبين اللذين ذكر اللَّه عز وجل في الوضوء الكعبان الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، وأن عليهما الغسل" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف في هذه المسألة من وافق على مسألة دخول المرفقين في اليدين (¬3). • مستند نفي الخلاف: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: هو ما سبق مناقشته في مسألة دخول المرفقين في اليدين، ومعنى (إلى) فيها. ¬
[42 - 151] مشروعية الترتيب في الطهارة
• الخلاف في المسألة: خالف في هذه المسألة من خالف في مسألة دخول المرفقين في اليدين، فانظره هناك.Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [42 - 151] مشروعية الترتيب في الطهارة: الترتيب بين الأعضاء في الطهارة مشروع، وحكى ابن هبيرة الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الترتيب والموالاة في الطهارة مشروع، ثم اختلفوا في وجوبها" (¬1). القرطبي (671 هـ) حيث يقول: "والصحيح أن يقال: إن الترتيب متلقى من وجوه: . . الثاني: من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6)، وابن حزم (¬7). • مستند الاتفاق: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أدخل الممسوح بين المغسولات، ولا يعلم لهذا فائدةٌ غير الترتيب، والآية سيقت لبيان الواجب، فكان الترتيب مشروعًا (¬8). 2 - حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنه-، أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ وضوءًا مرتبًا، وقال: "هذا وضوءٌ لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به" (¬9). ¬
[43 - 152] مشروعية الموالاة في الطهارة
• وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ وضوءًا مرتبًا، ثم قال بأن اللَّه تعالى لا يقبل الصلاة إلا بهذه الكيفية، فكان الترتيب مشروعًا (¬1).Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [43 - 152] مشروعية الموالاة في الطهارة: الموالاة بين الأعضاء في الطهارة مشروع، وحكى ابن هبيرة الاتفاق على ذلك. • من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن الترتيب والموالاة في الطهارة مشروع، ثم اختلفوا في وجوبها" (¬2). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5)، وابن حزم على ما يظهر (¬6). • مستند الإجماع: 1 - حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنه-، أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ على سبيل الموالاة، وقال: "هذا وضوءٌ لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به" (¬7). • وجه الدلالة: أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ وضوءًا متواليًا، ثم قال بأن اللَّه تعالى لا يقبل الصلاة إلا بهذه الكيفية، فكانت الموالاة مشروعة (¬8). 2 - أن الأصل في العبادات التوقيف، والنبي عليه الصلاة والسلام توضأ على سبيل الموالاة، فكان الواجب في الوضوء كما توضأ عليه الصلاة والسلام مواليًا بين الأعضاء.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[44 - 153] فعل صلوات متعددة بوضوء واحد جائز
[44 - 153] فعل صلوات متعددة بوضوء واحد جائز: إذا توضأ المسلم، وصلى به صلاة، فإنه يجوز له أن يصلي صلاة أخرى بوضوئه الأول، ولا يجب عليه تجديد الوضوء ما لم يحدث، نُقل الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: أحمد بن حنبل (204 هـ) حيث يقول فيمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد: "لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوؤه، ما ظننت أن أحدًا أنكر هذا". نقله عنه ابن تيمية (¬1). الترمذي (279 هـ) حيث يقول: "والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه يصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم يحدث" (¬2). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع أهل العلم على أن لمن تطهر للصلاة أن يصلي ما شاء بطهارته من الصلوات، إلا أن يحدث حدثًا ينقض طهارته" (¬3). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وروي عن ابن عباس و. . . أن الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة على غير الطهر، وهذا أمر مجتمع عليه، لا خلاف بين الفقهاء فيه، والحمد للَّه" (¬4). وقال بعدها بقليل بعد ذكر الأدلة على المسألة: "وهذا أمر مجمع عليه فسقط القول فيه" (¬5). وقال نحو الكلام السابق في "التمهيد"، ثم قال: "وأجمعت الأمة على أن ذلك جائز" (¬6). ابن العربي (543 هـ) حيث يقول: "الثانية -أي: الفائدة الثانية-: ترك التوضؤ لكل صلاة، أصح الأحاديث المتقدمة والإجماع عليه" (¬7). النووي (676 هـ) حيث يقول: "في هذا الحديث (¬8) أنواع من العلم منها: . . . وجواز الصلوات المفروضات والنوافل بوضوء واحد ما لم يحدث، وهذا جائز بإجماع ¬
من يعتد به" (¬1). ثم ذكر قولًا محكيًّا عن طائفة من أهل العلم بالوجوب، وعلق عليه بقوله: "وما أظن هذا المذهب يصح عن أحد، ولعلهم أرادوا استحباب تجديد الوضوء عند كل صلاة" (¬2). ونقله عنه ابن حجر (¬3). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "أما الحكم، وهو أن من توضأ لصلاة، صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى؛ فهذا قول عامة السلف والخلف، والخلاف في ذلك شاذ" (¬4). وقال أيضًا: "وأما القول بوجوبه؛ فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولإجماع الصحابة" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبو موسى، وجابر -رضي اللَّه عنهم-، وعبيدة السلماني، وأبو العالية، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، والحسن، وإبراهيم النخعي، والسدّي (¬6)، والحنفية (¬7)، والحنابلة في الصحيح من المذهب عندهم (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث بريدة -رضي اللَّه عنه-، قال: "صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: صنعت شيئًا -يا رسول اللَّه- لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: "عمدا فعلته يا عمر" (¬9). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ترك مداومته على الوضوء لكل صلاة؛ بيانًا للأمة بأنه مستحب، وليس بواجب (¬10). 2 - حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يتوضأ عند كل صلاة، قيل له: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم نحدث" (¬11). ¬
• وجه الدلالة: الحديث فيه بيان أن فعل الصحابة عدم الالتزام بالتجديد، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- موجود، والسكوت عن البيان وقت الحاجة غير جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام منزّه عن ذلك؛ فدل على عدم وجوب التجديد، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف البعض في مسألتنا في قولين: القول الأول: وجوب الوضوء لكل صلاة (¬1)، ونُقل عن عُبيد بن عُميْر (¬2)، ونقل ابن حجر حكايةَ ابن عبد البر له عن عكرمة، وابن سيرين (¬3)، وبعد مراجعة كلام ابن عبد البر، وجدته حكى القول عن عمر، وعن عكرمة يروي عن علي، وعن ابن سيرين، ولكن كلامه رحمه اللَّه فيه إشكال، حيث قال ابن عبد البر بعده: "وهذا معناه أن يكون الوضوء على المحدث إذا قام إلى الصلاة واجبًا، وعلى غير المحدث ندبًا وفضلًا" (¬4). حيث حمله على قول الجماهير، ولم أجد من أكّد هذا القول عنهما. وعمر -رضي اللَّه عنه- هو من سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن فعله في الخندق كما سبق، بل روى عنه ابن المنذر ما يوافق الجماهير (¬5). أما علي -رضي اللَّه عنه-؛ فقال ابن تيمية بأنه لم يثبت عنه هذا القول، بل الثابت بخلاف ذلك (¬6). وقد نسبه الطحاوي إلى قومٍ، ثم نسب القول الآخر إلى أكثر العلماء (¬7). وهؤلاء استدلوا بظاهر آية الوضوء؛ إذ فيها تعليق للأمر بالوضوء على القيام للصلاة، فقالوا: يجب الوضوء لكل صلاة. وهنا فائدة؛ فقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي في القديم أنه يرى أن الآية نزلت خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، بعدما صلى الصلوات بوضوء واحد (¬8). القول الثاني: وهو منسوب للنّخعي بأنه لا يصلي بوضوئه أكثر من خمس صلوات (¬9). وليس له دليل. ¬
[45 - 154] استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة
Rأن الإجماع متحقق بعد الاختلاف، وهم على قسمين: الوجوب، والظاهر -واللَّه أعلم- أن الخلاف شاذٌ، واندرس فيما بعد، فلم يعد يُذكر عن أيٍّ من العلماء في القرون التاليةِ لعصر من نُقل عنهم الخلاف، ولم أجد من قال به من أصحاب المذاهب، فالظاهر أن الإجماع قد استقر على عدم الوجوب، كما ذكر ذلك القاضي عياض (¬1)، والنووي، وابن تيمية، وقد سبق كلامهما. أما قول النخعي، فهو قول شاذ، لا دليل عليه، ويقال فيه ما قيل في القول الآخر، واللَّه تعالى أعلم. [45 - 154] استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة: إذا أراد المسلم الصلاة، وهو على وضوءٍ سبق أن صلى به صلاة أخرى، فإنه يستحب له أن يجدد وضوءه، وعلى ذلك حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: القاضي عياض (544 هـ) حيث يقول: "ولكن تجديده -أي الوضوء- لكل صلاة مستحب، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك، ولم يبق بينهم فيه خلاف" (¬2). أي: لم يبق بينهم من يقول بالوجوب، بل كلهم يقول بالاستحباب. نقله عنه النووي (¬3)، ونقله عن النوويِّ الشوكانيُّ (¬4). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "وتجديده كل صلاة مستحب إجماعًا" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة في الصحيح من المذهب عندهم (¬9). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "لولا أن أشق ¬
على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، أو مع كل وضوء سواك" (¬1). • وجه الدلالة: فهذا الحديث دليل على أن التجديد مستحب، وأنه غير مأمورٍ به للوجوب، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يتوضأ عند كل صلاة، قيل له: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم نحدث" (¬2). • وجه الدلالة: حيث كان فعل الصحابة عدم الالتزام بالتجديد، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- موجود، والسكوت عن البيان غير جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام منزّه عن ذلك؛ فدل على استحباب التجديد، وعدم وجوبه، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف أحمد في رواية عنه، فقال بعدم استحباب التجديد (¬3). ولم يذكروا له دليلًا، وإن كان القول عنه مشهورًا في كتبهم، ولكن قد يقال بأنه أخذه من فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة الخندق، فهو لم يجدد الوضوء، مما يعني النسخ لفعله السابق. وخالف النخعي في قولٍ منسوب إليه بأنه لا يصلي بوضوئه أكثر من خمس صلوات (¬4). وليس له دليل. وخالف أحمد رواية أخرى بأنه لا يداوم على التجديد (¬5)، مما يعني كراهة المداومة، وهذا ينافي الاستحباب المطلق في مسألتنا. وخالف أحمد في قول محكيّ عنه أيضًا بأنه يكره التجديد (¬6). ولم يذكروا لهاتين الروايتين دليلًا، وربما لم يثبت لهم دليل على استحباب التجديد، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[46 - 155] تنشيف الأعضاء بعد الوضوء لا يحرم
Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [46 - 155] تنشيف الأعضاء بعد الوضوء لا يحرم: تنشيف الأعضاء بعد الوضوء غير محرم، وهناك خلاف ظاهر في استحباب التنشيف أو إباحته أو كراهته، ولكن نُقل الإجماع على عدم حرمة التنشيف. • من نقل الإجماع: المحاملي (415 هـ) حيث نقل عنه النووي، فقال: "ونقل المحاملي الإجماع على أنه لا يحرم، وإنما الخلاف في الكراهة، واللَّه أعلم" (¬1). ونحو هذه العبارة نقلها العيني، ويبدو أنه نقلها عن النووي إلا أنه لم يشر (¬2). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "لا خلاف في أنه لا يحرم تنشيف الماء عن الأعضاء، ولا يستحب" (¬3). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول عن تنشيف الأعضاء: "ولا يحرم إجماعًا" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع عثمان بن عفان، والحسن بن علي، وأنس بن مالك، وبشير بن أبي مسعود -رضي اللَّه عنهم-، والحسن البصري، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك، والثوري، وإسحاق (¬5)، والمالكية (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: 1 - حديث قيس بن سعد -رضي اللَّه عنهما-، قال: "أتانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضعنا له غسلًا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة وَرْسية (¬8)، فالتحف بها، فكأني أنظر إلى أثر الوَرْس على عكنه" (¬9). ¬
[47 - 156] تنشيف الأعضاء لا يستحب
• وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى له ملحفة ليتنشف بها ففعل، بدليل آخر الحديث؛ إذ أن قيسًا رأى أثر الورس من الملحفة بعدما تنشف منها عليه الصلاة والسلام (¬1)، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الأصل في الأشياء الحل، ولا دليل ينقل التنشيف عن هذا الأصل، فيكون مباحًا ما دام أنه لم يثبت شيء يدل على التحريم (¬2)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- (¬3)، فكان ينهى عن التنشيف. واستُدل له (¬4) بحديث ميمونة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اغتسل، فأتيته بخرقة، فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده" (¬5). وكرهه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، وابن المسيب، وأبو العالية، وروي القولان عن ابن جبير (¬6). ولكن مجرد الكراهة لا تخالف مسألتنا، إلا أن يُراد بها التحريمية، وهي غير ظاهرة من كلامهم. ووجدت ابن المنذر حكى الخلاف في المسألة ولم يدعِ فيها إجماعًا (¬7)، مع ما قيل من تساهله، وظاهر من الخلاف أنه قديم، ولا يثبت معه إجماع.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [47 - 156] تنشيف الأعضاء لا يستحب: إذا توضأ المسلم، فإن تنشيفه لأعضائه غير مستحب، وحُكي الاتفاق على ذلك. ¬
• من نقل الاتفاق: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أنه لا يستحب تنشيف الأعضاء من الوضوء، ثم اختلفوا هل يكره؟ " (¬1). نقل ابن نجيم عن الإمام (¬2) أنه قال: "وقال الإمام: لا خلاف في أنه لا يحرم تنشيف الماء عن الأعضاء، ولا يستحب" (¬3). ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول عن تنشيف الأعضاء: "ولا يستحب اتفاقًا" (¬4). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والحنابلة (¬7). • مستند الاتفاق: حديث ميمونة بنت الحارث -رضي اللَّه عنها- زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، في غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيه: "فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيده" (¬8). • وجه الدلالة: أنه عليه الصلاة والسلام ردّ الخرقة، ولم يردها في الحديث، ففيه دلالة على كراهته عليه الصلاة والسلام للتنشيف، ويصرفه عن التحريم عدم وجود نهي في ذلك، ومجرد الفعل والترك لا يدل إلا على الاستحباب؛ أو الكراهة، فدل الحديث على عدم الاستحباب إن لم يكن الكراهة (¬9)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الشافعية في وجهٍ عندهم بأنه يستحب (¬10)، ونقله ابن نجيم عن صاحب "منية المصلي" (¬11). ولم أجد لهم دليلًا، لكن هناك أحاديث وردت تدل على هذا، إلا أنها كلها ضعيفة (¬12)، منها: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "كانت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرقة يتنشف بها ¬
[48 - 157] لا إثم بتأخير الوضوء عن الحدث
بعد الوضوء" (¬1).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [48 - 157] لا إثم بتأخير الوضوء عن الحدث: إذا كان المسلم على حدث أو جنابة، فإنه لا يجب عليه الغسل أو الوضوء حتى يجب عليه الأداء وجوبًا ضيِّقًا، ولا يأثم بذلك. وهنا قيد، وهو: أن لا يكون التأخير إلا مع العزم على الأداء، ولذلك قال ابن مفلح الحنبلي في تأخير الصلاة: "ويأثم من عزم على الترك إجماعًا" (¬2). وقيد آخر، وهو: أن لا يكون التأخير لترددٍ في العزم. • من نقل الإجماع: أبو محمد الجويني (438 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء أنه إذا أجنب، أو أحدث؛ لا يجب عليه الغسل، ولا الوضوء؛ حتى يدخل وقت الصلاة بالفعل أو الزمان" (¬3). نقله عنه النووي (¬4). وبيَّن النووي مراده من هذا الإجماع، حيث قال: "هذا الذي قاله ليس مخالفًا لما سبق -الخلاف في متى يجب الوضوء-؛ لأن مراده لا يكلف بالفعل" (¬5). ومعنى كلام النووي -واللَّه أعلم- أنه لا يجب الوجوب المضيق، بمعنى أنه لا يجب وجوبًا فوريًّا إلا في وقت لا يسع إلا للقيام به، ويبينه كلامه الآتي. النووي (676 هـ) حيث يقول: "فإذا قلنا: يجب -الوضوء- بوجود الحديث، فهو ¬
وجوب موسع إلى القيام إلى الصلاة، ولا يأثم بالتأخير عن الحدث بالإجماع" (¬1). يعني أنه لا يأثم بتأخير الوضوء إلى وسط وقت الصلاة أو آخره المباح. ونقله عنه ابن قاسم دون إشارة (¬2). أبو بكر الحدَّادي العبادي (800 هـ) حيث نقله عنه ابن نجيم، فقال في سياق كلامٍ له: "لما نقله "السراج الوهاج" (¬3)، من أنه لا يأثم بالتأخير عن الحدث بالإجماع" (¬4). أي: بتأخير الوضوء عن الحدث. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬5)، والحنابلة (¬6)، وابن حزم (¬7). • مستند الإجماع: حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جاءه جبريل عليه السلام، فقال له: "قم فصلِّه، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب، فقال: قم فصله، فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء، فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر، فقال: قم فصله، فصلى الفجر حين برق الفجر، أو قال: سطع الفجر، ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم فصله، فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتًا واحدًا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلث الليل فصلى العشاء، ثم جاءه حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصله، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت" (¬8). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بداية الوقت ونهايته، وهو دليل الجواز في ¬
[49 - 158] جواز الوضوء قبل وقت الصلاة
التأخير إلى وقت يسع للصلاة، والوضوء إنما شرع للصلاة، فإذا جاز تأخير الأصل وهو الصلاة جاز الفرع وهو الوضوء، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [49 - 158] جواز الوضوء قبل وقت الصلاة: إذا أراد المسلم أن يتوضأ قبل وقت الصلاة، فإن طهارته صحيحة، وعلى هذا الإجماع. وهذا الحكم يستثنى منه المستحاضة ومن في معناها، فإنه لا إجماع في المسألة، فهي مسألة خلافية مستقلة (¬1). • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن من تطهر بالماء، قبل وقت الصلاة أن طهارته كاملة" (¬2). ونقله عنه النووي (¬3). النووي (676 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على جواز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة" (¬4). الحطاب (954 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن من توضأ قبل الوقت، واستتر واستقبل، ثم جاء الوقت وهو على هذه الصورة وصلى من غير أن يجدد فعلًا في هذه الثلاثة؛ أجزأته صلاته إجماعًا، واللَّه تعالى أعلم" (¬5). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول عند الاستدلال لمن قال باشتراط دخول الوقت للتيمم: "واستدلوا بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] ولا قيام قبله -أي للتيمم-، والوضوء خصه الإجماع والسنة" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والحنابلة (¬8)، وابن حزم (¬9). ¬
• مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى لم يقل: إذا قمتم إلى صلاة فرض، ولا إذا دخل وقت صلاة فرض فقمتم إليها، بل قال عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] فعم تعالى ولم يخص، والصلاة تكون فرضًا، وتكون تطوعًا بلا خلاف، ولا يقول قائل بعدم الوضوء قبل وقت صلاة التطوع؛ فوجب عدم التفريق بينهما (¬1). 2 - عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح، فكأنما قدم بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" (¬2). • وجه الدلالة: هذا نص جلي على جواز الوضوء للصلاة قبل دخول وقتها؛ لأن الإمام يوم الجمعة لا بد ضرورة من أن يخرج قبل الوقت، أو بعد دخول الوقت، وأي الأمرين كان، فتطهر هذا الرائح من أول النهار؛ كان قبل وقت الجمعة بلا شك (¬3). • الخلاف في المسألة: ذكر ابن حزم (¬4) قولًا بعدم جواز الوضوء قبل الوقت. واستدلوا (¬5) بنفس الآية السابقة، حيث فيها {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] فقيد الغسل للأعضاء بالقيام للصلاة.Rأن الإجماع غير متحقق؛ نظرًا لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[50 - 159] الماء المجزئ في الطهارة غير مقدر
[50 - 159] الماء المجزئ في الطهارة غير مقدر: الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، فعن سفينة -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" (¬1). وعن أنس -رضي اللَّه عنه-، أنه عليه الصلاة والسلام: "كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد" (¬2). ولكن هذا التقدير غير ملزم، والماء المجزئ غير مقدر، وعلى هذا حُكي الإجماع، وهذا ما تبينه المسألة. • من نقل الإجماع: ابن جرير الطبري (310 هـ) حيث نقله عنه النووي (¬3) فقال -بعد ذكر المسألة-: "وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري" (¬4). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع أهل العلم على أن المد من الماء في الوضوء، والصاع في الاغتسال غيرُ لازم للناس" (¬5). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وجملتها تدل على أن لا توقيت فيما يكفي من الماء، والدليل على ذلك أنهم أجمعوا على أن الماء لا يكال للوضوء ولا للغسل، . . . لا يختلفون أنه لا يكال الماء لوضوء ولا لغسل، لا أعلم فيه خلافًا" (¬6). النووي (676 هـ) حيث يقول: "فأجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل، لا يشترط فيه قدر معين، بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري" (¬7). ويقول أيضًا: "وأجمع المسلمون على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر، بل يكفي فيه القليل والكثير، إذا وجد شرط الغسل، وهو جريان الماء على الأعضاء" (¬8). ونقله عنه ابن نجيم (¬9). ¬
محمد الخادمي (1176 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا على أن المقدار المجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر؛ فيجزئ ما قل أو كثر، حيث وجد جري الماء على جميع الأعضاء" (¬1). ابن عابدين (1252 هـ) حيث يقول: "نقل غير واحد إجماع المسلمين على أن ما يجزئ في الوضوء والغسل؛ غير مقدر بمقدار" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة في المشهور (¬3). • مستند الإجماع: 1 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد وقريبًا من ذلك" (¬4). 2 - حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد" (¬5). • وجه الدلالة: من خلال ما سبق من الأحاديث، وما ورد من الأحاديث في مقدمة المسألة، نجد أن مقدار ما كان يتوضأ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويغتسل اختلف، ولم يداوم عليه الصلاة والسلام على مقدار معين، وفي حديث ميمونة لم يذكر قدرًا محددًا، فدل ذلك على عدم اشتراط مقدار محدد، وإنما الضابط في ذلك هو الكفاية والإسباغ (¬6). • الخلاف في المسألة: خالف ابن شعبان (¬7)، فقال بأنه لا يجزئ في الوضوء أقل من مد، ولا في الغسل أقل من صاع. وحكاه ابن قدامة رحمه اللَّه قولًا في المسألة (¬8)، واستدل له ورد عليه، وقال هو محكي عن أبي حنيفة (¬9). ¬
[51 - 160] إجزاء الوضوء بالمد
وهو قول عند الحنابلة ذكره في الإنصاف (¬1). ويدل لهذا القول حديث جابر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يجزي من الوضوء المد، ومن الغسل الصاع" (¬2). حيث إن لفظ الإجزاء في الحديث يدل بمفهوم المخالفة على أن ما قل عن ذلك لا يجزئ، والحديث فيه تحديد (¬3).Rأن الإجماع غير متحقق (¬4)؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [51 - 160] إجزاء الوضوء بالمد: إذا توضأ المسلم بالمد، فإن ذلك مجزئ، ونُفي الخلاف عليه، وهو ما سيتبين من مسألتنا. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ليس في حصول الإجزاء بالمد في الوضوء، والصاع في الغسل خلاف نعلمه" (¬5). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8). • مستند نفي الخلاف: 1 - حديث سفينة -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يغتسل بالصاع، ويتطهر بالمد" (¬9). ¬
[52 - 161] النهي عن الإسراف في الماء عند الطهارة
2 - حديث أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد" (¬1). • وجه الدلالة: أن الحديث يدل على المسألة بالمطابقة، فالحديث فيه سنة فعلية للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. [52 - 161] النهي عن الإسراف في الماء عند الطهارة: الإسراف في الماء عند الوضوء منهي عنه، وعلى ذلك إجماع أهل العلم. • من نقل الإجماع: البخاري (256 هـ) حيث يقول: "كره أهل العلم الإسراف فيه" (¬2). نقله عنه النووي (¬3)، والصنعاني (¬4). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء، ولو كان على شاطئ البحر" (¬5). ونقله عنه الحطاب (¬6). ويقول أيضًا: "اتفق أصحابنا وغيرهم على ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل" (¬7)، وهذا اتفاق مذهبي ذكرته للاعتضاد. ويقول: "والإسراف مكروه بالاتفاق" (¬8). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وقد أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء، ولو كان على شاطئ النهر" (¬9). وهي عبارة النووي ولم ينسبها له رحمه اللَّه. ابن قاسم (1392 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على النهي عنه في ماء الوضوء والغسل، ولو على شاطئ النهر" (¬10). ¬
[53 - 162] إجزاء الانغماس في الماء للوضوء
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. • وجه الدلالة: النهي في الآية عن الإسراف، ومنه الإسراف في الماء عند الوضوء. 2 - حديث سفينة -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" (¬3). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقتصر على أقل القليل من الماء في وضوئه وغسله، فيتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، مما يدل على كراهته الإسراف، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [53 - 162] إجزاء الانغماس في الماء للوضوء: إذا انغمس المتوضئ في الماء، أو وقع فيه، أو وقف تحت ميزاب؛ فإن ذلك يجزئه عن الوضوء، وحُكي الإجماع على ذلك (¬4). • من نقل الإجماع: ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمعوا أن الجنب إذا انغمس في النهر، وتدلك فيه للغسل؛ أن ذلك يجزئه، وإن كان لم ينقل الماء بيديه إليه، ولا صبه عليه، وكذلك الوضوء، ولا يلزم نقل الماء إلى العضو" (¬5). ونقله عنه الموّاق (¬6)، والحطاب (¬7)، ويلاحظ أنه قيده بالدَّلْك. النووي (676 هـ) حيث يقول: "الإجماع منعقد على أن من وقع في ماء، أو وقف تحت ميزاب ونوى؛ صح وضوئه وغسله" (¬8). ¬
وقال في موضع آخر: "مذهبنا أن دلك الأعضاء في الغسل، وفي الوضوء سنة ليس بواجب، فلو أفاض الماء عليه فوصل به، ولم يمسه بيديه، أو انغمس في ماء كثير، أو وقف تحت ميزاب، أو تحت المطر ناويًا، فوصل شعره وبشره؛ أجزأه وضوؤه وغسله، وبه قال العلماء كافة إلا مالكًا والمزني، فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء" (¬1). والاستثناء الذي ذكره لا ينقض مسألتنا؛ إذ هو في التفصيلات، واشتراط الدلك. العيني (855 هـ) حيث يقول: "وأما أدلة الإجماع، فإنه لو انغمس في الماء بنية الوضوء أجزأه اتفاقًا" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية عدا أبا يوسف (¬3)، والمالكية (¬4)، والحنابلة، ولكن بشرط أن يكون جاريًا؛ أو يتحرك قليلًا في الراكد، ويمسح رأسه، ويغسل قدميه بعده (¬5). • مستند الإجماع: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي ذر -رضي اللَّه عنه-: "فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك" (¬6). • وجه الدلالة: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره بإمساس الماء، ولم يأمره بزيادة، فدل على كفاية إمساس الماء، كما في مسألتنا (¬7). • الخلاف في المسألة: خالف أبو يوسف، واشترط الصب لإسقاط الفرض (¬8). وهذا القول يخالف صورتي المسألة: الانغماس والوقوع في الماء، ولا تنقض مسألة الوقوف تحت الميزاب. ولم أجدهم يذكرون له دليلًا. واشترط الحنابلة -في قول عندهم- المسح على الرأس، وعدم إجزاء الغَسل عنه، ¬
[54 - 163] وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء
فإذا لم يمسح؛ فإن وضوءه لا يصح، ولا بد بعده من غسل القدمين؛ ليتمّ الترتيب عندهم (¬1). ويستدل هنا بأن فرض الرأس المسح بنص الآية، فلم يجزِ عنه غيرُه. واشترطوا في قولٍ أن يكون الماء جاريًا؛ حيث إن الغمس غير الغسل، فالجاري فيه نوع غسل. وعندهم قولٌ بإجزاء الماء الراكد؛ بشرط تَحَرُّكِه قليلًا؛ ليقوم مقام الغسل. ولديهم قول آخر باشتراط أن يمكث قدر المدة التى يقضي فيها وضوءه؛ بناء على اشتراط الترتيب (¬2). وخالف ابن حزم، واشترط أن يتمّه مرتبًا، ونقله عن إسحاق، فيخرج رأسه أولًا، ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يخرج رجليه (¬3). لأن الانغماس فقط ليس فيه التزام بالترتيب فلا بد من الخروج مرتبًا.Rأن الإجماع في عبارة النووي والعيني غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، وكذلك عبارة ابن رشد؛ لخلاف أبي يوسف، وابن حزم، واللَّه تعالى أعلم. [54 - 163] وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء: إذا أراد المسلم الوضوء، فإنه يجب عليه أن يمر يده على أعضاء الوضوء عند غسلها، وعلى ذلك حكى ابن بطال الإجماع. • من نقل الإجماع: ابن بطال (449 هـ) حيث نقل عنه ابن حجر حكايته للإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية في المشهور عنهم (¬5)، والمزني (¬6). ¬
[55 - 164] نية وضوء النافلة تجزئ للفريضة
• مستند الإجماع: 1 - حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، حيث قال لها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وادلكي جسدك بيدك" (¬1). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرها بدلك جسدها بيدها، والدلك هو الإمرار وزيادة، والأمر يقتضي الوجوب (¬2). 2 - الأحاديث الواردة (¬3) في وصف وضوء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تذكر أنه يمسح بيديه، وهذا هو الدلك الواجب، ومتابعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العبادات واجبة، إلا أن يدل دليل على العكس، وهو غير موجود، فدل على وجوب الدلك، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: قال ابن حجر: "وتعقب بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار فبطل الإجماع" (¬4). فخالف الحنفية (¬5)، والمالكية في قول (¬6)، والشافعية (¬7)، والحنابلة (¬8)، فقالوا بعدم وجوب إمرار اليد في الوضوء، وهو خطأ بيّن من ابن بطال رحمه اللَّه (¬9).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، بل قول جمهور العلماء على خلاف ما ادعاه ابن بطال رحمه اللَّه، واللَّه تعالى أعلم. [55 - 164] نية وضوء النافلة تجزئ للفريضة: إذا نوى المصلي في وضوئه النافلة، فإن ذلك يجزئه ليصلي به الفرضَ، نُقل نفي الخلاف في ذلك. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول معلقًا على قول الماتن: "وإذا توضأ لنافلة صلى فريضة"، قال: "لا أعلم في هذه المسألة خلافًا" (¬10). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية، وهم لا يرون وجوب النية في الوضوء أصلًا، فمن باب أولى هنا (¬11)، والمالكية، ولكن بشرط أن لا ¬
[56 - 165] الحدث لا يرتفع حتى اكتمال الطهارة
تكون النية باستباحة النافلة بعينها دون غيرها، إذ فيها خلاف (¬1)؛ كما وافق الشافعية (¬2)، والحنابلة على الصحيح من المذهب على نفي الخلاف في المسألة (¬3). • مستند نفي الخلاف: مستندهم القياس؛ حيث إن النافلة تفتقر إلى رفع الحدث، ولا تصح إلا بوضوء كالفريضة؛ فكانت نيتهما واحدة، وإذا ارتفع الحدث تحقق شرط الصلاة، وارتفع المانع، فيباح له الفرض والنفل (¬4). • الخلاف في المسألة: هناك خلاف لدى الحنابلة في هذه المسألة، فهناك قول عندهم بأنه لا يجزئ وضوؤه هذا عن الفريضة، وهو قول معروف في المذهب، بل لديهم قول أنه إذا توضأ للفريضة؛ فإنه لا يجزئ للنفل (¬5). ولم أجد لهم دليلًا، ولكن يمكن أن يستدل لهم بأن النية للتعيين والتمييز، ولا بد من تمييز العبادات.Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [56 - 165] الحدث لا يرتفع حتى اكتمال الطهارة: إذا غسل المتوضئ أعضاءً ولم يكمل وضوءه، فإن المنع من الصلاة باقٍ، حتى يُتم وضوءه، وعلى هذا حكى القرافي الإجماع. • من نقل الإجماع: القرافي (684 هـ) حيث يقول: "والقصد إلى رفع الحدث الذي هو السبب محال؛ لاستحالة رفع الواقع، فيتعين أن يكون المنوي هو رفع المنع، وإذا ارتفع المنع ثبتت الإباحة، فيظهر بهذا البيان بطلان القول بأن الحدث يرتفع عن كل عضو على حياله؛ لأن المنع باقٍ بالإجماع حتى تكمل الطهارة" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة (¬9). ¬
• مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] الآية. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر عند القيام للصلاة بغسل الأعضاء كلها، وإذا لم يتم غسلها كاملة، فإنه لم يتم الامتثال للأمر، ولم يتحقق الوضوء المجيز للصلاة، فلم يرتفع الحدث حتى يتم طهارته، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ويل للأعقاب من النار" (¬1). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر الوعيد لمن لا يتم الوضوء على العضو كاملًا، فدل على وجوب إتمام الوضوء كاملًا، وأنه لا يتحقق حتى يتم الأعضاء كلها، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الباب السادس: مسائل الإجماع في باب المسح على الخفين
الباب السادس: مسائل الإجماع في باب المسح على الخفين [1 - 166] جواز المسح على الخفين: إذا توضأ المسلم، ثم لبس خفيه، فإنه يجوز له المسح عليهما، إذا أراد الوضوء، ويُكتفى بذلك من خَلع الخف غسل القدمين. • من نقل الإجماع: ابن المبارك (181 هـ) حيث يقول: "ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز" (¬1). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين وأحدث؛ أن له أن يمسح عليهما" (¬2). وقال: "وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وكل من لقيت منهم؛ على القول به" (¬3). ونقله عنه النووي (¬4)، والعيني (¬5)، وابن قاسم (¬6). القاضي عبد الوهاب (422 هـ) حيث يقول: "اتفق أهل العلم ومالك رحمه اللَّه على جواز المسح على الخفين" (¬7). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول عن المسح على الخفين: "فأهل الفقه والأثر لا خلاف بينهم في ذلك، بالحجاز والعراق والشام وسائر البلدان؛ إلا قوما ابتدعوا؛ فأنكروا المسح على الخفين" (¬8). وقال: "لا أعلم أحدًا من الصحابة جاء عنه إنكار المسح على الخفين، من لا يختلف عليه فيه؛ إلا عائشة، وكذلك لا أعلم أحدًا من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك؛ إلا مالكًا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، "مُوَطؤه" يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر، وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنة" (¬9). ونقله ¬
عنه الشوكاني (¬1). البغوي (516 هـ) حيث يقول: "أما المسح على الخفين، فجائز عند عامة أهل العلم، من الصحابة فمن بعدهم" (¬2). محمد السمرقندي (615 هـ) حيث يقول في المسح على الخفين: "وثبوته بالإجماع". نقله عنه ابن عابدين (¬3). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على جواز المسح على الخفين في السفر" (¬4). وقال أيضًا: "وأجمعوا على من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين، وهو مسافر سفرًا مباحا تقصر في مثله الصلاة، ثم أحدث، فله أن يمسح عليهما" (¬5). والإجماع هنا يصب في المسح عمومًا دون التفصيل. الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "فالمسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء، وعامة الصحابة -رضي اللَّه عنهم-؛ إلا شيئًا قليلًا، رُوي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أنه لا يجوز" (¬6). وقال أيضًا: "وكذا الصحابة -رضي اللَّه عنهم-؛ أجمعوا على جواز المسح قولًا وفعلًا" (¬7). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم" (¬8). النووي (676 هـ) حيث يقول: "مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين، في الحضر والسفر" (¬9). وعبارة "كافة" من عبارات الإجماع الضعيفة. ونقل بعد ذلك اتفاق الصحابة على الجواز (¬10). وقال أيضًا: "وأجمع من يعتد به في الإجماع، على جواز المسح على الخفين، في ¬
السفر والحضر؛ سواء كان لحاجة أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازِمة بيتها، والزَّمِن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم" (¬1). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "وكذلك اتفق الفقهاء على أن من توضأ وضوءًا كاملًا، ثم لبس الخفين؛ جاز له المسح بلا نزاع" (¬2). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول: "وقد ذكر في الباب الأول أن المسح على الخفين مجمع عليه بين الصحابة" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد اللَّه، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبو مسعود الأنصاري، والمغيرة بن شعبة، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن سمرة، وأبو أمامة الباهلي؛ وأبو زيد الأنصاري، وسلمان، وبريدة، وعمرو بن أمية، ويعلى بن مرة، وعبادة بن الصامت، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وصفوان بن عسال، وأبو هريرة، وعوف بن مالك، وابن عمر، وأبو بكرة، وبلال، وخزيمة بن ثابت (¬4)، والمشهور عند المالكية (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند الإجماع: 1 - حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-، قال: كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين" فمسح عليهما (¬7). 2 - حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنهما-، قال: "كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فبال، وتوضأ، ومسح على خفيه" (¬8). ¬
3 - حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: "جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم" يعني: في المسح على الخفين (¬1). • وجه الدلالة: في الأولين من فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي سنة فعلية. أما الثالث؛ ففيه ذكر أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للماسح أن يعمل به يوما وليلة للمقيم وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، فيدل على مشروعيته (¬2)، وهو بالمناسبة من رواية علي رضي اللَّه تعالى عنه، خلافا لما رُوي من إنكاره للمسح على الخفين. • الخلاف في المسألة: رُوي الخلاف عن عائشة، وعلي، وابن عباس، وأبي هريرة، ومجاهد، وسعيد بن جبير (¬3)، ورُوي عن أهل البيت (¬4)، وخالف الشيعة والخوارج أيضًا، فقالوا: لا يجوز، وحكي عن أبي بكر بن داود (¬5). ولكن ذكر ابن المبارك، أن كل من روي عنه أنه كره المسح على الخفين؛ رُوي عنه خلاف ذلك (¬6). ورُوي ذلك عن مالك، ولكن أنكر صحتَها عنه أكثرُ القائلين بقوله (¬7). واحتجوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. فقراءة النصب تقتضي وجوب غسل الرجلين مطلقا؛ لأنه جعل الأرجل معطوفةً على الوجه واليدين، إذ حكمها الغسل، فكذا الأرجل.Rأن الإجماع غير متحقق في زمن الصحابة (¬8)؛ لوجود المخالف في المسألة من بينهم -وإن أنكر صحةَ السند إليهم بعضُ العلماء- وذلك لشهرة الخلاف في المسألة، ومالك رحمه اللَّه أنكر المسح على الخفين في بداية الأمر؛ لما رأى عمل أهل ¬
[2 - 167] اشتراط لبس الخفين على طهارة
المدينة على ذلك، مما يدل على شهرة الخلاف في المسألة (¬1)، ولكن استقر الإجماع بعد ذلك بين الفقهاء على القول بالمسح على الخفين، فلم يُذكر الخلاف بين الفقهاء بعد ذلك، لتواتر النقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا ما روي عن مالك، وقد أنكر صحةَ الرواية عنه أكثرُ أصحابه، ولم يعملوا بها (¬2)، فالإجماع في هذه المسألة من قبيل الإجماع بعد الخلاف، وهي مسألة أصولية معروفة، سبقت الإشارة لها عدة مرات، وهو حجة على الصحيح، خاصة مع ورود النصوص المتواترة في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [2 - 167] اشتراط لبس الخفين على طهارة: إذا أراد المسلم الوضوء والمسح على الخفين، فإنه يشترط لذلك أن يكون قد أدخل الخفين على طهارة (¬3). • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يمسح على الخفين إلا من لبسهما على طهارة" (¬4). ونقله عنه القرافي بغير لفظه (¬5). البغوي (516 هـ) حيث يقول: "وفيه (¬6) دليل على أن المسح على الخفين إنما يجوز إذا لبسهما على كمال الطهارة، وهذا قول عامة أهل العلم" (¬7). الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "ولو لبس خفيه وهو محدث، ثم أحدث قبل أن يتم الوضوء، ثم أتم، لا يجوز المسح بالإجماع" (¬8). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "وأما شرط المسح على الخفين؛ فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافًا شاذًّا، وقد روي عن ¬
ابن القاسم عن مالك" (¬1). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح خلافًا" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول في نقاش له: "وجواب آخر وهو: أن المسح رخصة، واتفقوا على اشتراط الطهارة له" (¬3). ونقله عنه ابن قاسم (¬4). ابن الهمام (861 هـ) حيث يقول: "وإنما يُمسح على خف رجل لا حدث فيها إجماعًا" (¬5). ونقل ابن نجيم عبارته دون أن يشير (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع ابن حزم (¬7). • مستند الإجماع: حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-، قال: كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" فمسح عليهما (¬8). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رخص في هذا الحديث بالمسح على الخفين، وعلق تركه للأصل بأنه أدخلهما طاهرتين، فلا يجوز غيره إلا بدليل، ولا دليل على جواز المسح دون الطهارة قبله (¬9). • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة مالك في روايةٍ عنه (¬10)، وروي عن داود (¬11)، فقالوا: الطهارة ليست بشرط في المسح. قالوا: المقصود في الحديث الطهارة من النجاسة (¬12)، أو الطهارة اللغوية (¬13). ولكن الرواية عن مالك رواية شذذها ابن رشد، ولم أجدها عند غيره.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، وهو قول روي ¬
[3 - 168] المسح على الخفين جائز في السفر
عن عالمين من مذهبين مختلفين، مما يضعف دعوى الإجماع أكثر، واللَّه تعالى أعلم. [3 - 168] المسح على الخفين جائز في السفر: إذا كان المسلم في سفر، وأراد الوضوء وهو لابسٌ خفيه، فإنه يجوز له المسح على الخفين. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على جواز المسح على الخفين في السفر" (¬1). وقال أيضًا: "وأجمعوا على من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين، وهو مسافر سفرًا مباحًا تقصر في مثله الصلاة، ثم أحدث، فله أن يمسح عليهما" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين، في الحضر والسفر" (¬3). وقال أيضًا: "وأجمع من يعتد به في الإجماع، على جواز المسح على الخفين، في السفر والحضر؛ سواء كان لحاجة أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازِمة بيتها، والزَّمِن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وابن حزم (¬7). • مستند الإجماع: 1 - حديث صفوان بن عسال -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم" (¬8). • وجه الدلالة: الحديث يدل على مسألتنا بالمطابقة، فقد روى صفوان -رضي اللَّه عنه- أن ¬
[4 - 169] المسح على الخفين مأخوذ من الأثر
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأمرهم بأن لا ينزعوا خفافهم في السفر ثلاثة أيام ولياليهن، مما يدل على استحباب المسح على الخفين، وهو جواز وزيادة، واللَّه تعالى أعلم (¬1). 2 - حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: "جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم" يعني: في المسح على الخفين (¬2). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حدد للمسافر إذا مسح خفيه ثلاثة أيام ولياليهن، مما يدل على جواز المسح للمسافر تضمنًا، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في هذه المسألة من خالف في مسألة جواز المسح على الخفين ابتداءً، وما قيل هناك يقال هنا.Rأن الإجماع بعد الخلاف متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة بعد الاختلاف قبلُ، واللَّه تعالى أعلم. [4 - 169] المسح على الخفين مأخوذ من الأثر: بعد أن تم بحث مسألة الإجماع على شرعية المسح على الخفين، فقد حكي الإجماع على أن المسح على الخفين مأخوذ من طريق الأثر، وليس من القياس. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "أجمعوا على أن المسح على الخفين مأخوذ من طريق الأثر، لا من طريق القياس" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6)، وابن حزم (¬7). • مستند الإجماع: 1 - حديث علي -رضي اللَّه عنه-، قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسح على ظاهر الخفين" (¬8). ¬
[5 - 170] المسح على الخفين غير واجب
• وجه الدلالة: أن عليًّا -رضي اللَّه عنه- نص على أن الدين ليس بالرأي، والمقصود هنا القياس، بمعنى أن العبادات لا يدخلها القياس، ولذا استدل بهذا الحديث منكرو القياس (¬1)، ثم قال بأنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسح على الظاهر، وهذا استدلال منه على قوله الأول بأنه رَأَى، والواجب حينئذ الاتباع، مع أن القياس يقول بأن الباطن أولى بالمسح، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أننا لو قلنا بأنه من طريق القياس لوجب القول بالمسح على القفازين، وعلى كل ما غيب الذراعين، من غير علة ولا ضرورة، فدل على أن المسح على الخفين خصوص لا يقاس عليه ما كان في معناه (¬2).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [5 - 170] المسح على الخفين غير واجب: إذا أراد إنسان أن يتوضأ، وهو لابسٌ خفيه، فلا يجب عليه أن يمسح عليهما في وضوءه (¬3). • من نقل الإجماع: الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "وظاهر قوله: (يأمرنا) (¬4) للوجوب، ولكن الإجماع صرفه عن ظاهره؛ فبقي للإباحة وللندب" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة (¬9)، وابن حزم (¬10). • مستند الإجماع: غسل الرجلين ركن من أركان الوضوء، والواجب فيهما الغسل، ولكن رُخص للتيسير في المسح على الخفين، وليس أمامَنا إلا أمران؛ إما الغسل وهو الأصل، أو المسح وهو الرخصة، فإذا أوجبنا المسح فهو مقابل الأصل، ولا يمكن أن ¬
[6 - 171] المسح مرة واحدة مجزئ
يكون البدل أقوى من المبدل منه (الأصل)، وبهذا لا يقال بالوجوب. حتى من قال: إن المسح عزيمة، فيقال له: إنها عزيمة في مقابل واجب، فلا يمكن أن يقال بوجوب المسح عليه، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [6 - 171] المسح مرة واحدة مجزئ: إذا مسح المتوضئ على خفيه مرة واحدة، فإن ذلك مجزئ. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن المسح على الخفين مرة واحدة مجزئ" (¬1). ونقله عنه ابن قاسم (¬2). هذه المسألة لم يفردها العلماء بالكلام في كتبهم -فيما وقفت عليه- بل هي تابعة لما ذكروه في إجزاء الغسلة الواحدة في الوضوء، فالمسح قائم مقام غسل الرجل، وهي عضو من أعضاء الوضوء، وقد سبق بيان المسألة بعنوان: (إجزاء الغسلة الواحدة إذا عمت)، ولذا لن أكرر بحث المسألة هنا. [7 - 172] استيعاب الخف بالمسح لا يجب: إذا أراد المتوضئ أن يمسح على خفيه، فإنه لا يجب عليه استيعاب الخف بالمسح. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول عن استيعاب الخف بالمسح: "الإجماع على أنه لا يجب" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، وابن مسلمة، وجماعة من المالكية (¬5)، والحنابلة على الصحيح من المذهب (¬6)، وابن حزم (¬7). • مستند الإجماع: أن لفظ المسح على الخفين ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مطلقًا، وفسره عليه الصلاة والسلام بفعله، حيث ورد أنه مسح على الخفين دون أن يُحدّد تحديد ¬
[8 - 173] المسح إلى الكعبين غير واجب
محدد، فيجب الرجوع إلى تفسيره، فكل ما يصح أن يقال فيه أنه مَسَحَ خفيه فهو مجزئ (¬1). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في الظاهر من المذهب (¬2)، وهو وجه عند الحنابلة (¬3)، فقالوا: يجب استيعاب الخف بالمسح. واحتجوا بأنه مسحٌ أُبدل عن غسل؛ فكان حكمه في الاستيعاب كالجبيرة (¬4).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [8 - 173] المسح إلى الكعبين غير واجب: إذا أراد المتوضئ المسح على الخفين، فإنه لا يجب عليه المسح إلى الكعبين، وحكى العيني، وابن نجيم على هذا الإجماع. • من نقل الإجماع: العيني (855 هـ) حيث يقول: "المسح إلى الكعبين غير واجب إجماعًا" (¬5). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول: "وقال الجمهور: لم يثبت بالكتاب، وهو الصحيح بدليل قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}؛ لأن المسح غير مقدر بهذا بالإجماع" (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة (¬9)، وابن حزم (¬10). • مستند الإجماع: 1 - حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنهما-، قال: "كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فبال، وتوضأ، ومسح على خفيه" (¬11). 2 - حديث علي -رضي اللَّه عنه-، قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح ¬
[9 - 174] عدم إجزاء مسح أسفل الخف
من أعلاه، وقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسح على ظاهر الخفين" (¬1). • وجه الدلالة: في الحديث الأول: ذكر أنه عليه الصلاة والسلام مسح على خفيه، ولم يقل أنه مسح على الكعبين، ولو كان واجبًا لبينه عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث الثاني: ذكر علي -رضي اللَّه عنه- أنه رأى مسح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنه مسح على ظاهر الخفين، ولم يذكر الكعبين، وكذا كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام لم يرد فيه أنه مسح كعبيه في المسح على الخفين، مما يدل على أن المسح عليهما غير واجب، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 174] عدم إجزاء مسح أسفل الخف: إذا مسح المتوضئُ الذي يريد المسح على خفيه أسفلَ الخف، واكتفى بذلك، فإن فعله هذا غير مجزئ. • من نقل الإجماع: ابن سريج (306 هـ) حيث يقول عن مسح أسفل الخف: "لا يجزئ ذلك بإجماع العلماء". نقله عنه النووي (¬2). إبراهيم بن جابر (310 هـ) فقد نقل عنه الكاساني حكايته الإجماعَ على أن الاقتصار على أسفل الخف لا يجوز (¬3). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "لا أعلم أحدًا يرى أن مسح أسفل الخف وحده يجزئ من المسح" (¬4). نقله عنه ابن قدامة (¬5)، وابن قاسم (¬6). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وإنْ مَسَحَ أسفله دون أعلاه؛ لم يُجْزِهِ، لا نعلم أحَدا قال: يجزئه مسح أسفل الخف، إلا أشهب من أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي" (¬7). ¬
[10 - 175] المسح مختص بما حاذى ظاهر القدمين
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية على المشهور من المذهب (¬1)، وقول عند الشافعية (¬2)، وابن حزم (¬3). • مستند الإجماع: حديث علي -رضي اللَّه عنه-، قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسح على ظاهر الخفين" (¬4). • وجه الدلالة: أن عليًّا -رضي اللَّه عنه- ينقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه رآه يمسح ظاهر الخف، والوضوء فعل تعبدي تجب المتابعة فيه، وأكد ذلك بقوله أن الدين ليس بالرأي، فإذا مسح غير محل الفرض، لم يجزئ مسحه كالساق، وقد ذكرنا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما مسح ظاهر الخف (¬5). • الخلاف في المسألة: خالف في هذه المسألة أشهب من المالكية (¬6)، وهو قول عند الشافعية، وقول أبي إسحاق المروزي (¬7)، فقالوا: بأن مسح أسفل الخف مجزئ. واحتجوا بأنه إذا كان أسفل الخف عندنا محلًّا للفرض؛ جاز الاقتصار عليه في المسح إذًا (¬8).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [10 - 175] المسح مختص بما حاذى ظاهر القدمين: إذا أراد المسلم أن يمسح على خفيه، فإنه يمسح على ما حاذى ظاهر قدميه، وقد حُكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن المسح يختص بما حاذى ظاهر القدمين" (¬9). ونقله عنه ابن قاسم (¬10). ¬
[11 - 176] المقيم يمسح مسح مسافر إذا لم يمسح حتى سافر
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬1)، والمالكية على المشهور من المذهب (¬2)، وقول عند الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الإجماع: حديث علي -رضي اللَّه عنه-، قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسح على ظاهر الخفين" (¬6). • وجه الدلالة: أن عليًّا -رضي اللَّه عنه- وصف ما رأى من مسح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لخفيه، وأنه مسح ظاهرهما، وأكد على ذلك بالتعجب الذي ذكره بأن الدين ليس بالرأي، وإلا لكان مسح الباطن أولى من الظاهر، مما يفيد أن الباطن لا يمسح، فصار المسح لظاهر القدمين وما حاذاهما، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في هذه المسألة من خالف في مسألة: (عدم إجزاء مسح أسفل الخف) وهم: أشهب من المالكية (¬7)، وهو قول عند الشافعية، وقول أبي إسحاق المروزي (¬8)، حيث قالوا: بإجزاء مسح أسفل الخف عن ظاهره، فلا يكون المسح مختصًّا بما حاذى ظاهر القدمين بذلك (¬9).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [11 - 176] المقيم يمسح مسح مسافر إذا لم يمسح حتى سافر: إذا نوى المسلم السفر، وقد لبس الخفين على طهارة، ثم سافر قبل أن يمسح، فإنه يمسح مسح مسافر، سواء أحدث مقيمًا أو لا، وحكى الإجماع على ذلك عدد من العلماء. • من نقل الإجماع: الكاساني (587 هـ) حيث يقول: "فإن سافر قبل الحدث، أو بعد الحدث، قبل المسح، تحولت مدته إلى مدة السفر من وقت الحدث (¬10) ¬
بالإجماع" (¬1). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا، في أن من لم يمسح حتى سافر؛ أنه يُتم مسْحَ المسافر" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول عن مريد المسح: "لَبَس وأحدث في الحضر، ثم سافر قبل خروج وقت الصلاة؛ فيمسح مسح مسافر أيضًا، عندنا وعند جميع العلماء، إلا ما حكاه أصحابنا عن المزني أنه مسح مقيم" (¬3). ونقله عنه ابن قاسم (¬4). • مستند الإجماع: حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: "جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم" يعني: في المسح على الخفين (¬5). • وجه الدلالة: أن الحديث نصَّ على أن المسافر يمسح ثلاث ليالٍ، وهو في مسألتنا حال ابتدائه بالمسح كان مسافرًا؛ فيأخذ حكم المسافر في المدة (¬6). • الخلاف في المسألة: خالف مالك (¬7) في التوقيت، فقال: لا توقيت للمسح مطلقًا، ولا فرق بين المسافر وغيره. وروي عن عمر، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي سلمة، والحسن، وعروة بن الزبير (¬8). ووجهه أنها طهارة؛ فلم تُوقت بوقت معين، كغسل الرجلين (¬9). وخالف في المسألة المزني من الشافعية (¬10)، وأحمد في رواية عنه (¬11)، فقال: يمسح مسح مقيم. وأنكر هذا القولَ عن المزنيِّ بعضُ الشافعية (¬12). وهناك قول آخر للحنابلة؛ بأنه إن مضى وقت صلاة، ثم سافر؛ أتم مسح ¬
[12 - 177] المقيم إذا سافر قبل الحدث فيمسح مسح مسافر
مقيم (¬1).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [12 - 177] المقيم إذا سافر قبل الحدث فيمسح مسح مسافر: إذا سافر المتوضئ، ولم يحدث حتى سافر، فإنه يمسح مسح مسافر بالإجماع. والفرق ظاهر بين هذه المسألة ومسألة: (المقيم يمسح مسح مسافر إذا لم يمسح حتى سافر)، حيث في مسألتنا زيادة قيد السفر وهو طاهر. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول: "لبس الخف في الحضر، وسافر قبل الحدث؛ فيمسح مسح مسافر بالإجماع" (¬2). ونقل نحو هذه العبارة العيني، دون أن يشير (¬3). ابن نجيم (970 هـ) حيث يقول عن من سافر قبل انتقاض وضوئه: "ولا خلاف في أن مدته تتحول إلى مدة المسافر" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬5). • مستند الإجماع: حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: "جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم" يعني: في المسح على الخفين (¬6). • وجه الدلالة: أن الحديث ينص على أن المسافر يمسح ثلاثة أيام، وهذا لم يمسح إلا مسافرًا، فيأخذ حكم المسافر لعموم الحديث، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: سبق ذكر خلاف مالك في التوقيت، وأنه لا توقيت للمسح عنده (¬7).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، حيث إن مالكًا يخالف في أصل المسألة، وهو الإلزام بالتوقيت، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[13 - 178] المسافر إذا أقام يمسح مسح مقيم
[13 - 178] المسافر إذا أقام يمسح مسح مقيم: إذا مسح المسافر على خفيه، ثم أقام، فإنه يتم مسحه مسح مقيمٍ، بألا يتجاوز يومًا وليلة. • من نقل الإجماع: أبو العباس بن سريج (306 هـ) حيث يقول معلقًا على قول المزني (¬1) بقوله: "إن كان المزني يذهب إلى أن القياس هذا، ولكن ترك للإجماع أو غيره؛ فليس بيننا وبينه كبير خلاف، وإن كان يذهب إلى أنه يحكم بهذا؛ فهو خلاف الإجماع". نقله عنه النووي، ثم قال: "وهذا الذي قاله ابن سريج تصريح بانعقاد الإجماع على خلاف قول المزني" (¬2). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وإذا مسح مسافر أقل من يوم وليلة، ثم أقام أو قدم؛ أتم على مسح مقيم وخلع، وإذا مسح مسافر يومًا وليلة فصاعدًا، ثم أقام أو قدم خلع، وهذا قول الشافعي، وأصحاب الرأي، ولا أعلم فيه مخالفًا" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، وقول عن مالك (¬5). • مستند الإجماع: 1 - حديث صفوان بن عسال -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬6). 2 - حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: "جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم" (¬7)، يعني: في المسح على الخفين. • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقَّت للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، وهذا المسافر صار مقيما، فلم يجز له أن يمسح مسح المسافر. 3 - أن المسح عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا ابتدأها في السفر، ثم حضر في أثنائها، غُلّب حكم الحضر، كالصلاة (¬8). • الخلاف في المسألة: خالف مالك في قول عنه، بعدم المسح في الحضر أصلًا (¬9). ¬
واستُدل له بأن رواية المسح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كانت في السفر (¬1). وخالف أيضًا في قولٍ ثانٍ عنه، بأنه لا توقيت للمسح (¬2)، ولكن أنكر صحة هذا القول عنه بعض أصحابه (¬3). ووجهه أنها طهارة فلم تتوقت بوقت معين، كغسل الرجلين (¬4). وخالف في هذه المسألة المزني (¬5)، وقال: بأنه إذا مسح يومًا وليلة؛ يمسح ثلث يومين وليلتين، وهو ثلثا يوم وليلة. واحتج لقوله بأنه "لو مسح ثم أقام في الحال؛ مسح ثلث ما بقي، وهو يوم وليلة، فإذا بقي له يومان وليلتان وجب أن يمسح ثلثهما" (¬6). ومعنى استدلاله؛ أن الماسح ليوم وليلة وهو مسافر، لم يستكمل من رخصته إلا الثلث، وبقي له الثلثان، فيأخذ ثلث اليومين اللذين قد استحقهما من قبل ولم يستكملهما، فيكون حقه ثلثا يوم وليلة، واللَّه تعالى أعلم. وخالف بعض الحنابلة، فقالوا: يتم مسح مسافر؛ إن كان مسح مسافرًا فوق يوم وليلة، وشذذه بعضهم (¬7). وخالف ابن حزم بقولٍ خامس (¬8)، وقال: "إن مسح في سفر، ثم أقام أو دخل موضعه؛ ابتدأ مسح يوم وليلة؛ إن كان قد مسح في السفر يومين وليلتين فأقل، ثم لا يحل له المسح، فإن كان مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها وأكثر من يومين وليلتين؛ مسح باقي اليوم الثالث وليلته فقط، ثم لا يحل له المسح، فإن كان قد أتم في السفر مسح ثلاثة أيام بلياليها؛ خلع ولا بد، ولا يحل له المسح حتى يغسل رجليه" (¬9). واستدل بأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام للمسافر بلياليها، ويومًا وليلة للمقيم، فصح أنه لم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها، لا مقيمًا ولا مسافرًا، وإنما نهى عن ابتداء المسح، لا عن الصلاة بالمسح المتقدم (¬10)، فالعبرة ¬
[14 - 179] المسح على الخف المخروق لا يجزئ
عنده بابتداء المسح، وعدم تجاوز ثلاثة أيام. وخالف بعض الظاهرية في قول سادس (¬1)، وقالوا: "إذا مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها وقدم؛ استأنف مسح يوم وليلة، فإن لم يزد على ذلك حتى سافر؛ استأنف ثلاثة أيام بلياليها" (¬2). واحتج هؤلاء بظاهر لفظ الخبر في ذلك (¬3).Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [14 - 179] المسح على الخف المخروق لا يجزئ: إذا مسح المتوضئ على الخف، وكان هذا الخف مخروقًا خرقًا كبيرًا، فإن المسح عليه غير جائز. وقد قيد الطحاوي هذا الخرق بأن القدمين باديان أو أكثرهما، مما يعني أن الخرق كبير. • من نقل الإجماع: الطحاوي (321 هـ) حيث يقول: "ولم يكن فيه حجة (¬4) في جواز المسح على النعلين، التمسنا ذلك من طريق النظر، لنعلم كيف حكمه؟ فرأينا الخفين اللذين قد جوز المسح عليهما إذا تخرقا، حتى بدت القدمان منهما أو أكثر القدمين، فكلٌ قد أجمع أنه لا يمسح عليهما" (¬5). ونقله عنه ابن حجر (¬6). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة (¬9). • مستند الإجماع: أن الواجب الذي دلت عليه النصوص في القدمين هو الغسل، ولكن أتى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رخصة بالمسح على الخفين، فالمسح بدل عن الغسل، ¬
[15 - 180] المسح على الخف المقطوع لا يجزئ
والغسل لا يكون إلا شاملا لمحل الفرض، فكان لا بد أن يكون البدل في حكم المبدل، فيكون شاملًا لمحل الفرض، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: نقل ابن حجر عن الطحاوي الإجماع، ثم قال: "لكنه منازع في نقل الإجماع المذكور" (¬1)، ولم يذكر تفصيلًا في المسألة. وخالف ابن حزم في المسألة (¬2)، فقال بجواز المسح على ما يطلق عليه خف، حتى لو كان مخرقًا. واحتج بأن النص يشمل كل ما يطلق عليه خف، ولا دليل على إخراج الخف المخروق من الرخصة الواردة.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [15 - 180] المسح على الخف المقطوع لا يجزئ: الخف المقطوع هنا: هو الخف القصير الساق، الذي لا يستر محل الفرض (¬3). فإذا مسح المتوضئ على خفٍ مقطوع، فإن هذا المسح لا يجوز باتفاق المسلمين. • من نقل الإجماع: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول عن الخف المقطوع: "لأن المقطوع يصير كالنعلين، فإنه ليس بخف، ولهذا لا يجوز المسح عليه باتفاق المسلمين، فلم يدخل في إذنه في المسح على الخفين" (¬4). ونقله عنه ابن قاسم (¬5). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية على الأظهر، فقد قالوا: بأن القطع الكبير يمنع المسح، حتى لو كان من جهة العقب، وقد اختلفوا في تقدير المتجاوز عنه، إلا أن ذلك ليس من مسألتنا (¬6)، والمالكية في المشهور عنهم (¬7)، والشافعية (¬8). • مستند الاتفاق: 1 - أن المسح على الخفين بدل عن الغسل، والبدل يأخذ حكم ¬
المبدل، فكان لا بد من أن يكون الخف ساترًا لمحل الفرض، واللَّه تعالى أعلم. 2 - والغسل إنما يكون مجزئا عندما يكون شاملًا لمحل الفرض، وإذا كان الخف غير شامل لمحل الفرض، لا يكون ممسوحا على خفٍّ ساتر لمحل الفرض، فكان لا بد إما من الترك للباقي، أو غسل الظاهر مع مسح الخف المقطوع، وهذا الجمع غير جائز؛ لأنه زيادة على المشروع، فأصبح بدعة، مما يدل على وجوب أن يكون الخف ساترًا لمحل الفرض، واللَّه تعالى أعلم. 3 - أن الخف المقطوع لا يستر محل الفرض، فكان حكمه حكم النعلين (¬1). • الخلاف في المسألة: خالف الأوزاعي (¬2)، وابن حزم (¬3) في الخف المقطوع، بأنه يجوز المسح عليه. وروي عن مالك أنه أجاز المسح على الخف المقطوع، واشترط مسح الظاهر من محل الفرض، إلا أن بعض أصحابه أنكر هذه الرواية عنه، وقال: إنما هي للأوزاعي (¬4). واحتجوا بأنه خف يمكن متابعة المشي فيه؛ فأشبه الساتر (¬5). والعجيب أنني وجدت أن ابن تيمية نفسه يخالف الإجماع، ويقول بجواز المسح على الخف المقطوع (¬6). رُوي عن علي -رضي اللَّه عنه- (¬7)، أنه يقول بجواز المسح على النعلين. واحتج بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "توضأ ومسح على الجوربين والنعلين" (¬8). ¬
[16 - 181] من توضأ إلا القدمين فأدخل المغسولة الخف ثم الأخرى فهو طاهر
ومن أجاز المسح على النعلين فمن باب أولى الخف المقطوعة، ولكن نقل ابن حجر تضعيف هذه الرواية من عدد من الأئمة (¬1). ثم نقل قولًا بعده بأنه إنما يجوز على النعلين إذا لبسهما على الجوربين، ويمسح عليهما (¬2).Rأن الاتفاق غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [16 - 181] من توضأ إلا القدمين فأدخل المغسولة الخف ثم الأخرى فهو طاهر: إذا توضأ المسلم إلا أحد رجليه، ثم أدخل الرجل المغسولة الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، فإنه يكون طاهرًا. ولا يعني هذا أن هذا الإجماع على صحة المسح عليهما فيما بعد، إذ في هذه المسألة خلاف (¬3)، بل هو في صحة الطهارة فقط، كما هو ظاهر من عبارة ابن المنذر الآتية (¬4). • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه إذا توضأ إلا غسل إحدى رجليه، فأدخل المغسولة الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف؛ أنه طاهر" (¬5). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8)، والحنابلة (¬9)، وابن حزم (¬10). • مستند الإجماع: أن من توضأ وأدخل الخف في إحدى قدميه قبل غسل الأخرى فقد أتى بطهارة كاملة مرتبة، ولم يأت بما ينقضها، فوجب أن تكون صحيحة، واللَّه ¬
[17 - 182] من لبس الخف في إحدى قدميه قبل تمام الطهارة فنزعه بعدها جاز له المسح
تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [17 - 182] من لبس الخف في إحدى قدميه قبل تمام الطهارة فنزعه بعدها جاز له المسح: إذا توضأ المسلم إلا إحدى قدميه، ثم لبس الخف فيها، ثم غسل الأخرى، ثم نزع الخف من الأولى، ولبسه بعد مرة ثانية بعد تمام وضوئه، فإنه يجوز له المسح. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول عن صورة مسألتنا: "وقد أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد لبسه؛ جاز له المسح" (¬1). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول، بعد غسل الرجل الثانية، ثم لبسها؛ جاز له المسح" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند الإجماع: أن المتوضئ إذا نزع الخف من قدمه التي قد غسلها، وغسل الأخرى، فقد أتم وضوءه، ومن ثم فقد لبس الخفين على طهارة، واستكمل شروط المسح؛ فيجوز له المسح إذًا، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [18 - 183] لا يُمسح على الخفين الفوقيَّيْن الملبوسين بعد الحدث: إذا لبس المتوضئ الخفين على طهارة، ثم أحدث، ثم لبس خفين آخرين فوقهما، فإنه لا يجوز له المسح عليهما بلا خلاف. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "إذا لبس خفين، ثم ¬
[19 - 184] المسح خاص بالطهارة الصغرى
أحدث، ثم لبس فوقهما خفين أو جرموقين (¬1)، لم يجز المسح عليهما بغير خلاف" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف في المسألة الحنفية (¬3)، والمالكية في قول (¬4)، والشافعية على المذهب عندهم (¬5). • مستند نفي الخلاف: 1 - أن من لبس الخفين الفوقيين بعد الحدث، لم يحقق شرط المسح على الخفين، وهو أن يلبسهما على طهارة؛ فلم يجز له المسح عليهما (¬6). 2 - أن ابتداء مدة المسح من وقت الحدث -هذا على قولٍ للعلماء-، وقد انعقد في الخف الأول؛ فلا يتحول إلى الخف الثاني بعد ذلك (¬7). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في قولٍ عندهم (¬8)، والشافعية في وجهٍ عندهم (¬9)، فقالوا: يجوز المسح عليهما. وضعّف النووي هذا الوجه عندهم (¬10). قالوا: كما لو لبس الخف على طهارة، ثم أحدث، ثم رقع فيه رقعة (¬11). ويأتي هنا الخلاف المروي عن داود ورواية عن مالك، بعدم اشتراط الطهارة للمسح من باب أولى.Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [19 - 184] المسح خاص بالطهارة الصغرى: المسح على الخفين خاص بالطهارة من الحدث الأصغر فقط، ولا يجوز في ¬
الطهارة من الحدث الأكبر بالإجماع. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول في مَعْرِض شرحٍ له: "يعني: الحدث الأصغر؛ فإن جواز المسح مختص به، ولا يجزئ المسح في جنابة، ولا غسل واجب، ولا مستحب، لا نعلم في هذا خلافًا" (¬1). النووي (676 هـ) حيث يقول: "لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم، ولا أعلم فيه خلافًا لأحد من العلماء" (¬2). ابن حجر (852 هـ) حيث يقول: "المسح على الخفين خاص بالوضوء، لا مدخل للغسل فيه بإجماع" (¬3). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "وفيه (¬4) دلالة على اختصاصه بالوضوء دون الغسل، وهو مجمع عليه" (¬5). ونقل ابن قاسم نحو عبارته دون إشارة (¬6). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬7)، والمالكية (¬8)، وابن حزم (¬9). • مستند نفي الخلاف: 1 - حديث صفوان بن عسال قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا بسفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬10). • وجه الدلالة: قوله: "إلا من جنابة" يفيد بدليل الخطاب أنه كان يأمر بنزع الخفاف عندها، ولا يجيز المسح، فدل على عدم جواز المسح إلا في الحدث الأصغر، وهو ما يوافق الأصل، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن وجوب الغسل يندر، فلا يشق إيجاب غسل القدم عندئذٍ، بخلاف الطهارة ¬
[20 - 185] المسح على اللفائف والخرق لا يجوز
الصغرى فهي تتكرر كثيرًا (¬1).Rأن نفي الخلاف متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [20 - 185] المسح على اللفائف والخرق لا يجوز: إذا شد مريد الوضوء على رجله لفائف أو خرق، وأراد أن يمسح عليها، فإنه لا يجوز له ذلك. • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا يجوز المسح على اللفائف والخرق، . . .، ولا نعلم في هذا خلافًا" (¬2). • الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف في المسألة الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4). • مستند نفي الخلاف: 1 - النص الوارد في جواز المسح على الخفين لم يذكر اللفائف والخرق، بل اقتصر على الخفين والجوربين؛ فيجب الاقتصار على ما ورد عليه النص، واللَّه تعالى أعلم. 2 - من شروط المسح أن يكون الممسوح مما يثبت بنفسه، واللفافة والخرقة لا تثبت بنفسها، إنما تثبت بشدها؛ فلزم عدم المسح عليها (¬5). • الخلاف في المسألة: خالف المالكية (¬6)، والحنابلة في وجه عندهم (¬7)؛ قالوا: بأن المسح على اللفائف مجزئ. واختاره ابن تيمية، ونفى وجود إجماعٍ في المسألة (¬8). واحتجوا: بأن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزعها ضرر؛ إما إصابة بالبرد، أو التأذي بالحفاء، أو التأذي بالجرح (¬9). ¬
[21 - 186] الترتيب في اللبس ليس شرطا للمسح
Rأن نفي الخلاف غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [21 - 186] الترتيب في اللبس ليس شرطًا للمسح: إذا لبس متوضئ خُفَّيْهِ، فلا يشترط له كي يمسح عليهما أن يلبسهما بترتيب معين. • من نقل الإجماع: النووي (676 هـ) حيث يقول: "والترتيب في اللبس ليس بشرط بالإجماع" (¬1). ذكر هذه المسألة بعد ذكر مسألة نزع أحد الخفين. • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: 1 - أن النصوص الواردة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الترخص بالمسح على الخفين لم يرد فيها ما يدل على اشتراط الترتيب في اللبس للخفين، مما يدل على عدم اشتراطه، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الترتيب بين العضوين المتشابهين -اليدين والرجلين- لا يشترط فيهما الترتيب حتى في الوضوء، فكذلك المسح، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [22 - 187] النزع لأحد الخفين موجب لنزع الآخر: إذا نزع الماسح أحد الخفين دون الآخر، ثم أحدث وأراد أن يتوضأ، فإنه يجب عليه أن ينزع الآخر ويغسل القدم. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أنه متى نزع أحد الخفين، وجب عليه نزع الآخر" (¬5). ¬
• الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك (¬1)، والحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الإجماع: 1 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولينعلهما جميعًا، أو ليخلعهما جميعًا" (¬6). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بلبس الخفين جميعًا، أو خلعهما جميعًا، وإذا كان هذا في المشي ففي الوضوء من باب أولى (¬7)، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن الوارد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غسله للرجلين، أو مسحه للخفين، ولم يَرِدْ أنه مسح أحدهما دون الآخر، فوجب متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعدم ترك سنته (¬8). 3 - أن القدمين في الحكم كعضو واحد، ولهذا لا يجب ترتيب أحدهما على الآخر، فيبطل مسح أحدهما بظهور الآخر، كالرجل الواحدة (¬9). • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة سفيان الثوري في رواية عنه (¬10)، والزهري (¬11)، وأبو ثور (¬12)، فقالوا: يغسل المكشوفة، ويمسح الأخرى المستورة. ولم يذكروا لهم دليلًا، ويمكن أن يقال: بأن الأصل الجواز للمسح على الخف، ولا دليل على المنع.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
[23 - 188] المسح على الجوربين الرقيقين لا يجوز
[23 - 188] المسح على الجوربين الرقيقين لا يجوز: الجورب إذا كان رقيقًا، فإنه لا يجوز المسح عليه، وقد حكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: الكاساني (587 هـ) حيث يقول عن الجوربين: "وإن لم يكونا مجلدين، ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: 1 - أن الجورب الرقيق كالجورب المكشوف، فيجب خلعه وغسل القدم، ولا يجوز المسح عليه (¬5). 2 - أن الجورب الرقيق لا يستر العضو، فلا يعتبر جوربا يُمكن المسح عليه (¬6). • الخلاف في المسألة: خالف الشافعية في وجه (¬7)، فقالوا: يجوز المسح على الجورب الرقيق. وقال النووي عن هذا الوجه بأنه وجه غريب ضعيف (¬8). ولم يذكروا دليلًا، ويمكن أن يقال: إن الجورب وإن كان رقيقًا فهو يطلق عليه جورب، ولا دليل على التفريق بين الرقيق والصفيق.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، والوجه الذي عند الشافعية وإن كان ضعيفًا، إلا أنه قد حكاه اثنان من أئمة الشافعية (¬9)، مما يدل على شهرته، فلا ينعقد معه الإجماع، واللَّه تعالى أعلم. [24 - 189] جواز المسح على الجبيرة: إذا وقع للإنسان جرح أو كسر، واحتاج للجبيرة، فإنه يجوز له أن يضعها ويمسح ¬
[25 - 190] عدم جواز المسح على حائل دون القدم
عليها، وعليه حكى القرافي الإجماع. • من نقل الإجماع: القرافي (684 هـ) حيث يقول مناقشًا مسألة عدم إعادة الصلاة بالمسح على الجبيرة: "ولأن الإجماع منعقد على جواز الصلاة بالمسح على الجبيرة" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4). • مستند الإجماع: حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم اللَّه، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر، أو يعصب عن جرحه، ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده" (¬5). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبرهم بأنه كان يكفيه أن يعصب على الجرح، وهو نوع من الجبائر، وأن يمسح عليها، مما يدل على جواز المسح على الجبائر (¬6)، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [25 - 190] عدم جواز المسح على حائل دون القدم: إذا أراد المسلم الوضوء، وكان على يده أو أي جزء من أعضاء وضوئه حائل، فلا يجوز المسح عليه (¬7). ¬
• من نقل الإجماع: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا يجزئ المسح على الوقاية (¬1)، رواية واحدة، لا نعلم فيه خلافًا" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أنه لا يجوز المسح على القفازين في اليدين، والبرقع في الوجه" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، وابن حزم (¬6). • مستند الإجماع: 1 - أن المسح على الخفين إنما شرع دفعًا للحرج الحاصل من المشقة في نزع الخفين عند كل وضوء، ولا حرج في نزع القفازين؛ أو الوقاية (¬7). 2 - أن المسح على الخفين إنما ثبت بطريق الأثر، وهو رخصة، ولا قياس في الرخص والعبادات، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬
الباب السابع: مسائل الإجماع في باب نواقض الوضوء
الباب السابع: مسائل الإجماع في باب نواقض الوضوء [1 - 191] تعليل نواقض الوضوء: الأحداث التي جعلها الشارع تنقض الوضوء، ليست مما يعلل، وعلى ذلك اتفق الأئمة. • من نقل الاتفاف: إمام الحرمين الجويني (410 هـ) حيث يقول: "وقد اتفق الأئمة على أن اقتضاء الأحداث الوضوء ليس مما يعلل". نقله عنه النووي (¬1). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). لم أجد من نصَّ على مسألتنا؛ غير ما ذكرت -من خلال ما يُفهم كلامهم- ولكن عدم تعليل الأحداث، يعني أنها غير معقولة المعنى، فلم يتكلم أحد عن علة كون المني موجبا للغسل، بينما البول وغيره لا يوجبه، واللَّه تعالى أعلم. وهذا في العلة كما ذكرت أما الحِكَم فهي تُتَلَمَّس ولا إشكال (¬5). • مستند الإجماع: لم أجد من ذكر لهذه المسألة دليلًا. ولكنْ يقول اللَّه تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى لم يأمرنا بالبحث عن عللٍ لهذه الأحداث، ولم يعللها عز وجل، بل تركها غير معقولة المعنى، كسائر العبادات، وقد أمرنا بامتثال الأمر دون أن يعلل للأمر، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق فيما يظهر؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[2 - 192] الغائط ينقض الوضوء
[2 - 192] الغائط ينقض الوضوء: إذا تغوط المسلم وقد كان على وضوء، فإنه ينتقض وضوؤه، هذه مسألتنا. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن خروج الغائط من الدبر، و. . .؛ أحداثٌ ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء" (¬1). ونقله عنه ابن قدامة (¬2)، والنووي (¬3). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول عن نقض الغائط والبول للوضوء: "وأما البول والغائط فإجماع متيقن" (¬4). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، سواء كان نادرًا أو معتادًا، قليلًا كان أو كثيرًا، نجسًا كان أو طاهرًا. . " (¬5). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء، مما يخرج من السبيلين، من غائطٍ، وبولٍ، وريحٍ، ومذي" (¬6). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وجملة ذلك؛ أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد؛ كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعًا" (¬7). النووي (676 هـ) حيث يقول: "أما الغائط؛ فبنص الكتاب والسنة والإجماع" (¬8). العيني (855 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أن الخارج المعتاد من أحد السبيلين؛ كالغائط، والريح من الدبر، والبول، والمذي من القبل ناقضٌ للوضوء" (¬9). زكريا الأنصاري (926 هـ) حيث يقول عن النواقض: "وبعضها بالإجماع؛ كالودي والغائط والقيح" (¬10). الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول عن النوم: "فأشعر ذلك؛ بأنه من نواقض ¬
[3 - 193] ما يخرج من السبيلين بالدواء ناقض
الوضوء، لا سيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط؛ اللذين هما ناقضان بالإجماع" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع المالكية (¬2). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] الآية. • وجه الدلالة: أن اللَّه تبارك وتعالى جعل الغائط موجبا للتيمم؛ إذا لم يجد الماء؛ فدل على أنه ناقض، والأدلة في هذا كثيرة معلومة، لا تحتاج إلى بيان.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، وهذه المسألة من اليقينيات التي تُعلم من الدين بالضرورة، ومنكرها يكفر، واللَّه تعالى أعلم. [3 - 193] ما يخرج من السبيلين بالدواء ناقض: إذا استعمل الإنسان الدواء لإخراج الفضلات من أيِّ السبيلين، فإن ما يخرج منهما ناقض للوضوء بالإجماع. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول عن ما يخرج من السبيلين: "وكذلك ما يخرجه الدواء ليس معتادًا، فيه الوضوء بإجماع" (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والشافعية (¬5)، والحنابلة (¬6). • مستند الإجماع: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] الآية. • وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل ما يخرج من الغائط ناقضا، ولم يفرق بين ما يخرج بالدواء أو دونه، فكل ما يخرج ناقض، وكذا كل الأدلة التي تدل على أن الغائط والبول ناقض، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[4 - 194] البول ينقض الوضوء
[4 - 194] البول ينقض الوضوء: إذا بال المسلم، وقد كان على وضوء، فإنه ينتقض وضوؤه بالإجماع، هذه مسألتنا. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن. .، وخروجَ البول من الذكر، وكذلك المرأة، و. . .؛ أحداثٌ ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء" (¬1). ونقله عنه ابن قدامة (¬2)، والنووي (¬3)، وابن قاسم (¬4). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن البول من غير المستنكَح به (¬5)؛ . .؛ ينقض الوضوء؛ بنسيان كان ذلك أو بعمد" (¬6). ويقول أيضًا: "وأما البول والغائط فإجماع متيقن" (¬7). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، سواء كان نادرا أو معتادا، قليلا كان أو كثيرا، نجسا كان أو طاهرا. . " (¬8). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء، مما يخرج من السبيلين، من غائطٍ، وبولٍ، وريحٍ، ومذي" (¬9). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وجملة ذلك؛ أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد؛ كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعًا" (¬10). ونقله عنه ابن قاسم (¬11). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأما البول؛ فبالسنة المستفيضة، والإجماع، والقياس على الغائط" (¬12). العيني (855 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أن الخارج المعتاد من أحد السبيلين؛ كالغائط، والريح من الدبر والبول، والمذي من القبل ناقضٌ للوضوء" (¬13). ¬
[5 - 195] السلس بعد الوضوء لا ينقض الوضوء
الشوكاني (1250 هـ) حيث يقول عن النوم: "فأشعر ذلك؛ بأنه من نواقض الوضوء، لا سيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط؛ اللذين هما ناقضان بالإجماع" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2). • مستند الإجماع: حديث صفوان بن عسال -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬3). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأمرهم أن يتوضؤوا من الغائط والبول والنوم، وأن يمسحوا على الخفاف؛ فدل على أن البول من النواقض، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، وهذه من المسائل القطعية التي لا مجال للخلاف فيها، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة، واللَّه تعالى أعلم. [5 - 195] السلس بعد الوضوء لا ينقض الوضوء: كل من لا يستطيع حفظ الطهارة، سواء كان به سلس، أو جرح لا يرقأ، أو غير ذلك، فإنه يتوضأ ويصلي، ولا يضره ما يخرج منه بعد ذلك، ولا ينتقض وضوؤه (¬4). • من نقل الاتفاق: ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول: "فمن لم يمكنه حفظ الطهارة مقدار الصلاة، فإنه يتوضأ ويصلي، ولا يضره ما خرج منه في الصلاة، ولا ينتقض وضوؤه بذلك باتفاق الأئمة" (¬5). وقال أيضًا: "وأما ما يخرج في الصلاة دائمًا، فهذا لا ينقض الوضوء باتفاف العلماء" (¬6). • الموافقون على الاتفاق: وافق على هذا الاتفاق الحنفية (¬7)، والمالكية (¬8)، ¬
[6 - 196] خروج المني ينقض الوضوء
والشافعية (¬1). • مستند الاتفاق: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن دم الحيض دمٌ أسود يعرف، فإذا كان ذلك؛ فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق" (¬2). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمرها بإعادة الوضوء فيما لو نزل دم الاستحاضة بعد الوضوء، والسلس يقاس عليه، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الاتفاق متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [6 - 196] خروج المني ينقض الوضوء: إذا خرج المني من المتوضئ؛ فإن وضوءه يبطل بذلك بالإجماع. ومسألتنا فيما إذا كان في الخروج المعتاد، أي أنه بلذة معتادة، أما لو كان بلا لذة، أو أنه بشكل غير معتاد، فليس من مسألتنا. • من نقل الإجماع: أبو بكر محمد بن داود الظاهري (297 هـ) حيث يقول: "واتفق علماء الأمة على أن خروج المني، والودي، والمذي، وتواري الحشفة في الفرج، وذهاب العقل بكل حال؛ ناقض للطهارة؛ إلا من ذهب عقله" (¬3). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن. .، وخروجَ المني، . . .، أحداثٌ ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء" (¬4). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، سواء كان نادرًا أو معتادًا، قليلًا كان أو كثيرًا، نجسًا كان أو طاهرًا. . " (¬5). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وجملة ذلك؛ أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد؛ كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء ¬
إجماعًا" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الإجماع: 1 - حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-، قالت: "جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقالت: يا رسول اللَّه، إن اللَّه لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل؛ إذا هي احتلمت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: نعم؛ إذا رأت الماء" (¬5). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربط وجوب الغسل بخروج الماء ورؤيته؛ فإذا خرج المني وجب الغسل، مما يعني أنه ناقض وزيادة (¬6)، واللَّه تعالى أعلم. 2 - حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الماء من الماء" (¬7). • وجه الدلالة: حيث إن ماء الغُسل يجب بماء الرجل، فإذا خرج المني وجب الماء للغسل. • الخلاف في المسألة: خالف الشافعية في المسألة؛ فقالوا بأن خروج المني وحده لا ينقض الوضوء، بل يوجب الغسل (¬8). قالوا: لأن الخارج الواحد لا يوجب طهارتين، وهذا قد أوجب الجنابة؛ فيكون جنبًا لا محدثًا (¬9). ولكن في المحصلة؛ نجد أنهم يوجبون الغسل (¬10)، وهو وضوء وزيادة؛ فلا يكونون بهذا مخالفين في الحقيقة، وستأتي مناقشة المسألة في كون خروج المني ¬
[7 - 197] خروج الريح من الدبر ينقض الوضوء
موجب للغسل بإذن اللَّه تعالى.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [7 - 197] خروج الريح من الدبر ينقض الوضوء: إذا خرج ريحٌ من الدبر، فإن من كان متوضأً يلزمه الوضوء بعد خروجه بالإجماع. أما من كان مستنكحًا بالريح، بمعنى أن عنده سلسًا في الريح، أو كان كبيرًا ولا يستطيع رد ما فيه من الريح؛ فليس هذا من مسألتنا. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن. .، وخروجَ الريح من الدبر؛ . . .؛ أحداثٌ ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء" (¬1). وقال: "وأجمع أهل العلم على أن خروج الريح من الدبر حدثٌ ينقض الوضوء" (¬2). ونقله عنه ابن قدامة (¬3)، والنووي (¬4). ابن بطال (444 هـ) حيث يقول: "الأحداث التي أجمع العلماء أنها تنقض الوضوء، سوى ما ذكره أبو هريرة، البول، والغائط، والمذي، والودي، والمباشرة، وزوال العقل بأي حال زال، والنوم الكثير". والذي ذكره أبو هريرة هو الريح (¬5). نقله عنه العراقي (¬6). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن. .، وأن الفَسْوَ والضّراط إذا خرج كل ذلك من الدبر؛ . .؛ ينقض الوضوء؛ بنسيانٍ كان ذلك أو بعمد" (¬7). وقال: "والريح الخارجة من الدبر خاصة لا من غيره؛ بصوت خرجت أم بغير صوت، وهذا أيضًا إجماع متيقن، ولا خلاف في أن الوضوء من الفسو والضراط" (¬8). ¬
أي على أنها تنقض الوضوء، إذ هذا هو عنوان المسألة التي ذكرها. ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، سواء كان نادرًا أو معتادًا، قليلًا كان أو كثيرًا، نجسًا كان أو طاهرًا. . " (¬1). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء، مما يخرج من السبيلين، من غائطٍ، وبولٍ، وريحٍ، ومذي" (¬2). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وجملة ذلك؛ أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد؛ كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعًا" (¬3). النووي (676 هـ) حيث يقول عن حديث أبي هريرة الآتي في المستند: "ألا تراه لم يذكر الريح وزوال العقل، وهما مما ينقض بالإجماع" (¬4). ابن تيمية (728 هـ) حيث يقول عن الطهارة الصغرى: "فإن الصغرى تجب من الريح إجماعًا" (¬5). وقال: "ونقضها - الريح - متفق عليه بين المسلمين" (¬6). العيني (855 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أن الخارج المعتاد من أحد السبيلين؛ كالغائط، والريح من الدبر، والبول، والمذي من القبل ناقضٌ للوضوء" (¬7). الكمال ابن الهمام (861 هـ) حيث يقول عن دليل النقض بالريح: "ويستدل على الريح بالإجماع" (¬8). ونقل ابن نجيم نحو عبارته دون إشارة (¬9). • مستند الإجماع: 1 - حديث عبد اللَّه بن زيد بن عاصم -رضي اللَّه عنه-، قال: شكي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع ¬
[8 - 198] الحيض حدث للنساء
صوتًا أو يجد ريحًا" (¬1). 2 - حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" (¬2). • وجه الدلالة: ظاهر من الحديثين؛ حيث في الأول؛ أن المصلي ينصرف من صلاته بمجرد تأكده من خروج الريح، مما يدل على إبطالها للوضوء والصلاة بالتبع. وفي الثاني؛ حيث نفى الوضوء إلا من الريح.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [8 - 198] الحيض حدثٌ للنساء: إذا حاضت المرأة، فإنها تكون محدثة، وحُكى على هذا الإجماع، وهو من الأمور القطعية؛ إذ أنه يوجب الغسل وهو أعلى من الوضوء. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن (من) (¬3) أحداث النساء الحيض" (¬4). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، والشافعية (¬7). • مستند الإجماع: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]. • وجه الدلالة: قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، فقد سمى اللَّه تعالى انقطاع الدم طهارة، ثم ¬
[9 - 199] النفاس حدث للنساء
سمح بالجماع بعد التطهير، مما يدل على أن الحيض حدث، واللَّه تعالى أعلم. 2 - أن كل ما يخرج من الفرج فالأصل فيه الحدث، فكيف بالشيء المنتن كالحيض، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [9 - 199] النفاس حدث للنساء: إذا نفست المرأة، فإنها تكون محدثة، وحكى ابن هبيرة الإجماع على هذا، وهو من موجبات الغسل، وهو وضوء وزيادة. • من نقل الإجماع: ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن النفاس من أحداث النساء" (¬1). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4). • مستند الإجماع: النفاس يقاس على الحيض في كل شيء، فهو دم أسود منتن كالحيض، فيأخذ أحكامه (¬5).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [10 - 200] زوال العقل ينقض الوضوء: إذا زال عقل المتوضئ بجنون أو إغماء أو غيرهما؛ فإن وضوءه ينتقض، وقد حكي الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن. .، وزوالَ ¬
العقل بأي وجه زال العقل؛ . . .؛ أحداثٌ ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء" (¬1). ونقله ابن قدامة في المغمى عليه (¬2)، والنووي مطلقا (¬3)، وابن قاسم (¬4). ابن بطال (444 هـ) حيث يقول: "الأحداث التي أجمع العلماء أنها تنقض الوضوء، سوى ما ذكره أبو هريرة؛ البول، والغائط، والمذي، والودي، والمباشرة، وزوال العقل بأي حال زال، والنوم الكثير". والذي ذكره أبو هريرة هو الريح (¬5). نقله عنه العراقي (¬6). نقله عنه ابن حجر (¬7). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على. .، وكذلك ذهاب العقل بسكر أو إغماء أو جنون" (¬8). وقال: "قال قوم: ذهاب العقل بأي شيء ذهب، من جنون أو إغماء أو سكر من أي شيء سكر، وقالوا: هذا إجماع متيقن" (¬9). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "زوال العقل على ضربين؛ نوم وغيره، فأما غير النوم، وهو الجنون والإغماء والسكر وما أشبهه من الأدوية المزيلة للعقل؛ فينقض الوضوء؛ يسيره وكثيره إجماعًا" (¬10). ونقله عنه ابن قاسم (¬11). النووي (676 هـ) حيث يقول عن حديث أبي هريرة الذي اكتفى بذكر الريح: "ألا تراه لم يذكر الريح وزوال العقل، وهما مما ينقض بالإجماع" (¬12). وقال: "أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون وبالإغماء" (¬13). ويقول: "واتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر بالخمر أو النبيذ أو البنج أو الدواء ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، وسواء كان ممكَّن المقْعدة أو غير ¬
ممكنها" (¬1). ونقل هذه العبارة الأخيرة الشوكاني (¬2)، ونقل ابن نجيم عنه الإجماع أيضًا، في المغمى عليه (¬3)، وابن قاسم (¬4). ابن حجر الهيتمي (974 هـ) حيث يقول معددًا النواقض: "الثاني: زوال العقل؛ أي التمييز بجنون؛ أو إغماء؛ أو نحو سكر، ولو ممكنا مقعده إجماعًا" (¬5). البهوتي (1051 هـ) حيث يقول معددًا النواقض: "الثالث: زوال عقل؛ كحدوث جنون أو برسام، كثيرًا كان أو قليلًا إجماعًا" (¬6). ولم يذكر السكر في الإجماع. الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "هذا وقد ألحق بالنوم الإغماء والجنون والسكر بأي مسكر، بجامع زوال العقل، وذكر في "الشرح" (¬7): أنهم اتفقوا على أن هذه الأمور ناقضة، فإن صح؛ كان الدليل الإجماع" (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬9)، والمالكية (¬10). • مستند الإجماع: 1 - حديث صفوان بن عسال -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬11). • وجه الدلالة: هذا الحديث وغيره من أدلة وجوب الوضوء من النوم، تدل على وجوب الوضوء بزوال العقل، فالنوم مظنة الحدث؛ نظرًا لذهاب العقل، ومظنة الحدث آكد في الجنون والإغماء (¬12). 2 - أن من زال عقله لا يدري أحْدث أو لا، بل لا يبالي بذلك، فهو مظنة الحدث، فوجب الوضوء بعده (¬13). ¬
[11 - 201] ذهاب العقل بالسكر ينقض الوضوء
• الخلاف في المسألة: خالف ابن حزم هذا الإجماع، ونقده في "المحلى"، مع أنه أحد ناقليه في كتابه "المراتب" كما سبق، حيث قال: "وليس كما قالوا، أما دعوى الإجماع فباطل، وما وجدنا في هذا عن أحد من الصحابة كلمة، ولا عن أحد التابعين، إلا عن ثلاثة نفر: إبراهيم النخعي -على أن الطريق إليه واهية- وحماد والحسن فقط، عن اثنين منهم الوضوء، وعن الثالث إيجاب الغسل" (¬1). فدليله عدم الدليل الموجب. وفي كلام محمد بن داود ما يوافق كلامه، حيث استثنى من ذهب عقله من ذهاب العقل بالنوم، وجعل النوم ناقضًا (¬2)، مما يدل على أنهم يقولون - الظاهرية - بنقض النوم دون زوال العقل، بناء على منع القياس عندهم. وقد نسب ابن رشد مسألة الباب إلى جمهور العلماء (¬3)، فهذا يوحي أنه يعلم في المسألة خلافًا، لكنه لم يذكر شيئًا، واللَّه تعالى أعلم. وقال المرداوي عبارة مناقضة للإجماع، حيث يقول: "زوال العقل بغير النوم لا ينقض إجماعًا، وينقض بالنوم في الجملة" (¬4). وراجعت الطبعة المحققة (¬5)؛ فوجدت نفس العبارة، ولعل كلمة (لا) زائدة، فهو يقصد أنه ناقض، بدليل سياق الكلام بعده، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، وهم الظاهرية، إلا على قول من لم يعتبرهم من الفقهاء (¬6)، واللَّه تعالى أعلم. [11 - 201] ذهاب العقل بالسكر ينقض الوضوء: إذا شرب المتوضئ الخمر، وزال عقله، فإن وضوءه ينتقض، وحكي الإجماع على ذلك. وقد فصلت هذه المسألة عن سابقتها؛ لأن ذهاب العقل بالسكر من فعل الإنسان، وتلك ليست من فعله، فكان الفصل أنسب. ¬
• من نقل الإجماع: ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على. .، وكذلك ذهاب العقل بسكر أو إغماء أو جنون" (¬1). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "زوال العقل على ضربين؛ نوم وغيره، فأما غير النوم، وهو الجنون والإغماء والسكر وما أشبهه من الأدوية المزيلة للعقل؛ فينقض الوضوء؛ يسيره وكثيره إجماعًا" (¬2). النووي (676 هـ) حيث يقول: "واتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر بالخمر أو النبيذ أو البنج أو الدواء ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، وسواء كان ممكّن المقْعدة أو غير ممكنها" (¬3). ونقله عنه الشوكاني (¬4). ابن حجر الهيتمي (974 هـ) حيث يقول معددًا النواقض: "الثاني: زوال العقل؛ أي التمييز بجنون؛ أو إغماء؛ أو نحو سكر، ولو ممكنا مقعده إجماعًا" (¬5). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "هذا وقد ألحق بالنوم الإغماء والجنون والسكر بأي مسكر، بجامع زوال العقل، وذكر في "الشرح" (¬6) أنهم اتفقوا على أن هذه الأمور ناقضة، فإن صح؛ كان الدليل الإجماع" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬8)، والمالكية (¬9). • مستند الإجماع: يُستند هنا بأدلة نقض الوضوء بزوال العقل، فالسكر يزول معه العقل، وهو مظنة الحدث مع زوال العقل، سواء كان الزوال بإرادة الإنسان أو لا؛ لأن العلة موجودة في الحالتين وهي زوال العقل، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف الخراسانيون من الشافعية في السكران، نقله النووي عنهم، وقال: "ولا خلاف في شيء من هذا؛ إلا وجهًا للخراسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران؛ إذا قلنا: له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله" (¬10). ¬
[12 - 202] نوم المضطجع ينقض الوضوء
وقال بعده: "وهو غلط صريح، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل، فلا فرق فيه بين العاصي والمطيع" (¬1). ولم أجد لهم دليلًا، إلا أن يستدل لهم بعدم الدليل الموجب للنقض، كما سبق في مسألة زوال العقل، واللَّه تعالى أعلم. وقد سبق نقل خلاف الظاهرية في زوال العقل عمومًا، وهو هنا يندرج أيضًا.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [12 - 202] نوم المضطجع ينقض الوضوء: إذا نام المتوضئ مضطجعًا، فإن وضوءه ينتقض، وقد حُكى الإجماع على ذلك. • من نقل الإجماع: ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "وفي هذا الحديث (¬2) من الفقه؛ إيجابُ الوضوء من النوم، وهذا أمر مجتمع عليه في النائم المضطجع، الذي قد استثقل نومًا" (¬3). وقال: "حجة من ذهب مذهب المزني (¬4) في النوم حديثُ صفوان بن عسال (¬5)، مع القياس على ما أجمعوا عليه في أن غلبة النوم وتمكنه حدثٌ يوجب الوضوء" (¬6). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن نوم المضطجع، والمستند، والمتكئ ينقض الوضوء" (¬7). الكاساني (587 هـ) حيث يقول معددًا للنواقض: "ومنها النوم مضطجعًا في الصلاة، أو في غيرها بلا خلاف بين الفقهاء، وحُكي عن النظَّام أنه ليس بحدث، ولا عبرة بخلافه لمخالفته الإجماع، وخروجه عن أهل الاجتهاد" (¬8). وقال العيني: "وذكر في العارضي (¬9)، . .، قال: وأجمعوا على أن النوم المضطجع ¬
ينقض الوضوء" (¬1). الزيلعي (743 هـ) حيث يقول في أثناء نقاشه للمسألة: "هذا لا يخلو إما أن تكون مقعدته زائلة عن الأرض، أو لا، فإن كانت زائلة؛ نقض بالإجماع" (¬2). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الشافعية (¬3)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬4)، وابن حزم (¬5). • مستند الإجماع: 1 - حديث صفوان بن عسال -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬6). 2 - حديث أنسٍ: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضؤون" (¬7). • وجه الدلالة في الحديث الأول: أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ينزعوا خفافهم للوضوء من أجل النوم؛ مما يدل على أن ناقض، وفي الثاني أن الصحابة ينامون ثم يصلون بلا وضوء، وهو يخصص عموم الأول، فيجمع بين الدليلين بأن المقصود بالنوم الناقض ما كان النائم فيه مستغرقًا ومقعدته زائلة عن الأرض كالمضطجع؛ إذ أنه لا يملك نفسه عندئذ (¬8)، وهو يدل أيضًا على أن النوم ناقض، حيث إنه قال: يصلون ولا يتوضؤون، مما يعني أنه على خلاف العادة من توضؤ النائم، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف في المسألة عدد من أهل العلم، فروي عن أبي موسى الأشعري، وعبيدة، أنهما لم يكونا يريان النوم حدثًا (¬9). ونقله ابن حزم عن الأوزاعي، وقال: "وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وعن ابن عمر، وعن مكحول، وعبيدة السلماني" (¬10)، ثم قال: "ولقد ادعى بعضهم الإجماع على خلافه ¬
[13 - 203] النوم القليل لا ينقض الوضوء
جهلًا وجرأة" (¬1). وبعد ذكره لحديث أنسٍ: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون" (¬2)؛ قال: "لو جاز القطع بالإجماع، فيما لا يتيقن أنه لم يشذ عنه أحد؛ لكان هذا يجب أن يقطع فيه بأنه إجماع، لا لتلك الأكاذيب التي لا يبالي من لا دين له بإطلاق دعوى الإجماع فيها" (¬3). علمًا بأنه يرى بأن النوم ناقض؛ قليله وكثيره. وعن أحمد رواية توافق ما سبق في أن النوم غير ناقض مطلقًا إن ظن بقاء طهره (¬4)، وحكي عن أبي مجلز، وعمرو بن دينار، وحميد الأعرج (¬5). ونُقل عن ابن تيمية (¬6). واستدلوا بظاهر حديث أنس السابق وغيره.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [13 - 203] النوم القليل لا ينقض الوضوء: النوم الكثير ينقض الوضوء، ولكن إذا نام المتوضئ نومًا قليلًا، فإن وضوءه لا ينتقض. • من نقل الإجماع: ابن القطان (628 هـ) حيث يقول: "أجمع الفقهاء أن النوم القليل لا ينقض الوضوء؛ إلا المزني، فإنه خرق الإجماع، وجعل قليله حدثًا" (¬7). نقله عنه العيني (¬8). المهلب (433 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا على أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، ¬
وخالف المزني فقال: ينقض قليله وكثيره، فخرق الإجماع". نقله عنه ابن حجر (¬1). ابن بطال (449 هـ) حيث نقل عنه ابن حجر حكايته الإجماع في المسألة (¬2). ابن التين حيث نقل عنه ابن حجر حكايته الإجماع في المسألة (¬3). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬4)، والمالكية (¬5)، والشافعية (¬6)، والصحيح من مذهب الحنابلة (¬7). • مستند الإجماع: حديث أنسٍ -رضي اللَّه عنه-: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضؤون" (¬8). • وجه الدلالة: أن الصحابة كانوا ينامون في المسجد، ثم يصلون ولا يتوضؤون، ويُفهم من الحديث أنه نوم قليل، فَهُمْ في المسجد، ولا يستطيع الإنسان أن ينام نومًا كثيرًا فيه، وبهذا يجمع بين هذا الحديث وأحاديث النقض بالنوم، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف المزني كما سبق، وقال بأنه حدث، ونُقل عن إسحاق ابن راهويه (¬9)، وأبي عبيد، وابن المنذر (¬10). وهي رواية عن أحمد (¬11)، وهو قول ابن حزم (¬12). قال ابن حجر بعد حكايته الإجماعات السابقة، ونقل إنكارهم على المزني، قال: "وقد تحاملوا على المزني في هذه الدعوى، فقد نقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة والتابعين المصير إلى أن النوم حدث ينقض قليله وكثيره" (¬13). واحتجوا (¬14) بعموم حديث صفوان بن عسال -رضي اللَّه عنه-، قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬15). ¬
[14 - 204] المذي ينقض الوضوء
Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [14 - 204] المذي ينقض الوضوء: المذي: هو ماء لزج رقيق، يخرج عقيب الشهوة على طرف الذكر (¬1). فإذا خرج مَذْي من المتوضئ بدون أن يكون عن مرضٍ؛ فإنه ينتقض وضوؤه بالإجماع. • من نقل الإجماع: الترمذي (279 هـ) حيث يقول بعد روايته لأحد ألفاظ حديث علي الآتي في المستند والذي فيه الأمر بالوضوء من المذي: "وهو قول عامة أهل العلم؛ من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتابعين ومن بعدهم، وبه يقول سفيان، والشافعي، وأحمد، وإسحاق" (¬2). أبو بكر محمد بن داود الظاهري (297 هـ) حيث يقول: "واتفق علماء الأمة على أن خروج المني، والودي، والمذي، وتواري الحشفة في الفرج، وذهاب العقل بكل حال ناقض للطهارة؛ إلا من ذهب عقله" (¬3). ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول عن المذي: "ولست أعلم في وجوب الوضوء منه اختلافًا بين أهل العلم" (¬4). ونقله النووي عنه بلفظ الإجماع (¬5). ابن بطال (444 هـ) حيث يقول: "الأحداث التي أجمع العلماء أنها تنقض الوضوء سوى ما ذكره أبو هريرة: البول، والغائط، والمذي، والودي، والمباشرة، وزوال العقل بأي حال زال، والنوم الكثير". والذي ذكره أبو هريرة هو الريح (¬6). نقله عنه العراقي (¬7). ¬
ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "هذا الحديث (¬1) مجتمع على صحته، لا يختلف أهل العلم فيه، ولا في القول به، والمذي عند جميعهم يوجب الوضوء، ما لم يكن خارجًا عن علة أبردة أو زمانة" (¬2). ويقول: "إجماعهم على أن المذي والودي فيهما الوضوء" (¬3). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، سواء كان نادرًا أو معتادًا، قليلًا كان أو كثيرًا، نجسًا كان أو طاهرًا. . " (¬4). ابن رشد (595 هـ) حيث يقول: "أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء، مما يخرج من السبيلين، من غائطٍ، وبولٍ، وريحٍ، ومذي" (¬5). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وجملة ذلك؛ أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد؛ كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعًا" (¬6). العيني (855 هـ) حيث يقول: "أجمع العلماء على أن الخارج المعتاد من أحد السبيلين؛ كالغائط، والريح من الدبر، والبول، والمذي من القبل ناقضٌ للوضوء" (¬7). ويقول: "فإن المذي يوجب الوضوء الشرعي، ولا يكفي فيه غسل بعض الأعضاء بالإجماع" (¬8). الصنعاني (1182 هـ) حيث يقول: "وأما المذي، فتقدم الكلام عليه، وأنه ناقض إجماعًا" (¬9). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن عمر -رضي اللَّه عنهم- (¬10)، والشافعية (¬11)، وابن حزم (¬12). • مستند الإجماع: حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: "كنت رجلًا مذاءً، ¬
[15 - 205] الودي ينقض الوضوء
فاستحييت أن أسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" (¬1). • وجه الدلالة: حيث أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليًّا بالوضوء وغسل الذكر، والأمر يقتضي الوجوب (¬2)، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: نُقل عن عمر، وابن المسيب أنهما كانا لا يريان الوضوء من المذي، ولكن لما بلغتهما السنة رجعا إليها (¬3). والثابت عنهما هو ما يوافق مسألتنا (¬4).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، أما ما روي عن عمر وابن المسيب، فقد روي رجوعهما أيضًا، ثم بيَّنا أن الثابت عنهم هو ما يوافق مسألتنا، واللَّه تعالى أعلم. [15 - 205] الودي ينقض الوضوء: الودي: هو ماء أبيض، يخرج عقيب البول خاثر (¬5). فإذا خرج وَدْيٌ من المتوضئ دون أن يكون عن مرضٍ؛ فإنه ينتقض وضوؤه، وعليه حُكي الإجماع. • من نقل الإجماع: أبو بكر محمد بن داود الظاهري (297 هـ) حيث يقول: "واتفق علماء الأمة على أن خروج المني، والودي، والمذي، وتواري الحشفة في الفرج، وذهاب العقل بكل حال ناقض للطهارة إلا من ذهب عقله" (¬6). ابن بطال (444 هـ) حيث يقول: "الأحداث التي أجمع العلماء أنها تنقض الوضوء، سوى ما ذكره أبو هريرة: البول، والغائط، والمذي، والودي، والمباشرة، وزوال العقل بأي حال زال، والنوم الكثير". ¬
والذي ذكره أبو هريرة هو الريح (¬1). نقله عنه العراقي (¬2). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "إجماعهم على أن المذي والودي فيهما الوضوء" (¬3). ابن هبيرة (560 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، سواء كان نادرًا أو معتادًا، قليلًا كان أو كثيرًا، نجسًا كان أو طاهرًا. . " (¬4). ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "وجملة ذلك؛ أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد؛ كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعًا" (¬5). زكريا الأنصاري (926 هـ) حيث يقول معدِّدًا النواقض: "وبعضها بالإجماع (¬6)؛ كالودي والغائط والقيح" (¬7). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬8). • مستند الإجماع: 1 - حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: كنت رجلًا مذَّاءً، فاستحييت أن أسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" (¬9). • وجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بغسل الذكر والوضوء من المذي، مع أنه يخرج مع الشهوة، وهو أخف مما يخرج مع التخلي في النجاسة كالودي، فالودي يُتوضأ منه من باب قياس أولى، واللَّه تعالى أعلم. 2 - الودي -كما سبق- لا يخرج إلا بعد البول، وما يخرج بعد البول فهو مثله، فيأخذ حكمه في النجاسة (¬10).Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه أعلم. ¬
[16 - 206] القهقهة لا تنقض الوضوء في غير الصلاة
[16 - 206] القهقهة لا تنقض الوضوء في غير الصلاة: القهقهة في غير الصلاة لا تنقض الوضوء بإجماع أهل العلم. • من نقل الإجماع: ابن المنذر (318 هـ) حيث يقول: "وأجمع أهل العلم على أن الضحك في غير الصلاة لا ينقض طهارةً، ولا يوجب وضوءًا" (¬1). الماوردي (450 هـ) حيث يقول: "وأما القهقهة فإن كانت في غير الصلاة لم ينتقض الوضوء إجماعًا" (¬2). ابن حزم (456 هـ) حيث يقول: "قياسًا على ما أجمع عليه من أن الضحك لا ينقص الوضوء في غير الصلاة، فكذلك لا يجب أن ينقضه في الصلاة، ولكنهم لا يطردون القياس" (¬3). النووي (676 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا أن الضحك إذا لم يكن فيه قهقهة لا يبطل الوضوء، وعلى أن القهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء" (¬4). الزيلعي (762 هـ) حيث يقول: "وأجمعوا على أن الضحك ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء" (¬5). العبادي (800 هـ) حيث نقل عنه ابن نجيم (¬6) أنه حكى الإجماع في المسألة (¬7). الخرشي (1101 هـ) حيث يقول عن ما لا ينقض الوضوء: "ومنها قهقهة بصلاة، خلافًا لأبي حنيفة، وبغيرها اتفاقًا" (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنابلة (¬9). • مستند الإجماع: 1 - حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الضحك ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء" (¬10). ¬
[17 - 207] اللذة دون اللمس للنساء لا تنقض الوضوء
• وجه الدلالة: ظاهرة من الحديث بالمطابقة. 2 - أن الضحك لو كان ناقضًا، لنقض في الصلاة وغيرها كالحدث؛ لأنها صلاة شرعية؛ فلم ينقض الضحك فيها الوضوء (¬1). • الخلاف في المسألة: نقد ابن نجيم حكاية الإجماع في المسألة وقال: "فيه نظر"، ونقده بأن في المسألة ثلاثة أقوال، ونقل عن سلمة بن شداد (¬2) أنه قال بنقض الوضوء دون الصلاة بالقهقهة (¬3). ونقل قولًا آخر: أن القهقهة تنقض الوضوء والصلاة (¬4). ثم قال: "إلا أن يقال: لما كان القولان الأخيران ضعيفين كانا كالعدم" (¬5). ولكن بعد التأمل يظهر أن مسار المسألة التي ذكرها ابن نجيم مختلف؛ فهو يتحدث فيما إذا قهقه في أثناء الصلاة، وهذا قد استثنيناه في العنوان.Rأن الإجماع متحقق؛ لعدم وجود المخالف في المسألة، واللَّه تعالى أعلم. [17 - 207] اللذة دون اللمس للنساء لا تنقض الوضوء: إذا تلذذ متوضئ بنظرٍ لامرأةٍ أو تفكير، دون أن يلمس؛ فإنه لا ينتقض الوضوء بهذه اللذة. • من نقل الإجماع: محمد بن نصر المروزي (294 هـ) حيث يقول: "وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى دون أن يلمس؛ لم يجب عليه وضوء". نقله عنه ابن عبد البر (¬6)، والقرطبي (¬7). ابن عبد البر (463 هـ) حيث يقول: "لأن اللذة إذا تعرت من اللمس؛ لم توجب وضوءًا بإجماع" (¬8). • الموافقون على الإجماع: وافق على هذا الإجماع الحنفية (¬9)، والمالكية في ¬
[18 - 208] لمس العضو المقطوع من المرأة لا ينقض الوضوء
المشهور (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وابن حزم (¬4). • مستند الإجماع: أن اللذة المجردة عن اللمس هي مجرد تفكير، واللَّه تعالى لا يؤاخذ بها، فإذا تلذذ بالنظر ولم يتبع ذلك أمر آخر، كاللمس أو الإمذاء، فإنه لم يحصل أي ناقض من نواقض الوضوء، والأصل بقاء طهارته إلا أن يدل دليل على الضد، وهو لا يوجد، واللَّه تعالى أعلم. • الخلاف في المسألة: خالف المالكية في قولٍ عندهم، فقالوا بنقض الوضوء بالنظر (¬5). ولم يجعل ابنُ حزم المسألةَ متفقًا عليها في المراتب، حيث استثناها من المسائل المتفق عليها، وإن كان لا يخالف المسألة، كما سبق الإشارة لذلك (¬6). ولم يذكروا دليلًا، ولكن لعله تغليبًا لمظنة الإمذاء، واللَّه تعالى أعلم.Rأن الإجماع غير متحقق؛ لوجود المخالف في المسألة (¬7)، واللَّه تعالى أعلم. [18 - 208] لمس العضو المقطوع من المرأة لا ينقض الوضوء: إذا قُطع عضوٌ من امرأة، ومسه الرجل، فإنه لا يأخذ حكم مس المرأة عموما بلا خلاف (¬8). • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا ينتقض الوضوء بلمس عضو مقطوع من المرأة. .، ولا أعلم في هذا كله خلافًا" (¬9). ¬
• الموافقون على نفي الخلاف: وافق على نفي الخلاف الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية في طريقٍ عندهم، ووجهٍ من وجهيِّ الطريق الثاني عندهم (¬3). • مستند نفي الخلاف: 1 - أن العضو المقطوع قد زال اسم المرأة عنه، فلا يكون ناقضًا. 2 - أن مسَّ عضو مقطوع من المرأة يخرج عن أن يكون محلًّا للشهوة، فلا يأخذ حكم النساء. 3 - أن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك (¬4). • الخلاف في المسألة: عن الشافعي في هذه المسألة طريقان، أحد الطريقين فيه وجهان أحدهما أنه ينتقض الوضوء؛ كلمس العضو في حال الاتصال (¬5). وذلك بناءً على قولهم بنقض الوضوء بمجرد لمس المرأة ولو بدون لذة. واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. وهناك من خالف من أئمة السلف في مسألة مسّ المرأة لغير شهوة، والخلاف فيها معروف (¬6)، غير أننا لا نعلم هل يستثنون مسألتنا أو لا؟ ومنهم الشافعي، غير أننا عرفنا قوله في مسألتنا عن أصحابه، ولكن البقية لا ندري عن قولهم. وبالتالي لا نستطيع أن نجزم بنفي الخلاف في هذه المسألة دون أن نتبين استثناءها من المسألة الأم.Rأن نفي الخلاف في المسألة غير متحقق؛ لعدم التمكن من استثناء ¬
[19 - 209] مس الجنس لجنسه لا ينقض الوضوء
المخالفين لهذه المسألة من المسألة الأم التي ثبت خلافهم فيها، ولوجود الوجه المخالف عند الشافعية، واللَّه تعالى أعلم. [19 - 209] مسُّ الجنس لجنسه لا ينقض الوضوء: إذا مسَّ الرجلُ الرجلَ، أو المرأةُ المرأةَ، فإنه لا ينتقض الوضوء (¬1). • من نقل نفي الخلاف: ابن قدامة (620 هـ) حيث يقول: "ولا ينتقض الوضوء بلمس عضو مقطوع من المرأة، . .، ولا بمسِّ رجل ولا صبي، ولا بمس ا