شرح عمدة الأحكام لابن جبرين
ابن جبرين
شرح عمدة الأحكام [1]
شرح عمدة الأحكام [1] لا يقبل الله صلاة بغير وضوء، ولا يصح وضوء ما لم يقم المرء بواجباته، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس وعلمهم كيفيته.
شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)
شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات -وفي رواية: بالنية- وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ] . الحديث الأول من كتاب الطهارة حديث عمر المشهور، والأحاديث في هذا الكتاب كلها من صحيحي البخاري ومسلم. فهذا الحديث هو أول ما بدأ به البخاري صحيحه، استفتح به للدلالة على حسن النية وجعله قائماً مقام الخطبة للكتاب. يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) ، وفي رواية: (إنما الأعمال بالنية) ، وفي رواية: (الأعمال بالنيات) ، وأراد المؤلف بذلك أن النية من شروط الطهارة كما أنها من شروط بقية الأعمال، فإن الطهارة للصلاة عمل، وكل عمل لا بد له من نية، وإذا صحت النية صح العمل، وإذا فسدت فسد العمل، كما روي عن بعض السلف أنه قال: كم من عمل صالح أفسدته النية، وكم من عمل فاسد أصلحته النية يعني: أن الإنسان إذا كانت نيته صادقة ولكن فاتته معرفة كيفية العمل، فعمل على حسب معرفته ووسعه أثابه الله بقدر نيته. وكذلك لو أنفق نفقة ولم ينو بها شيئاً، ثم نوى بها خيراً فإن الله يثيبه على نيته.
اشتراط النية في الطهارة
اشتراط النية في الطهارة ورد في النية كلام كثير معروف في كتب الحديث، ولكن لما كان الباب متعلقاً بالطهارة فإننا لا نتكلم إلا على نية الطهارة التي نحن في سياقها، فنقول: تشترط النية لكل الأحداث، ورفع الحدث يكون بالوضوء ويكون بالغسل ويكون بالتيمم، وهذه لا بد لها من نية، ولا تشترط النية لإزالة الأخباث، فالذي يغسل وجهه بنية التبرد أو إزالة النعاس لا يكفيه ذلك عن رفع الحدث، ولو أن إنساناً محدثاً غسل وجهه لإزالة النعاس وغسل يديه للنشاط ثم تذكر أن عليه حدثاً فأراد أن يكمّل، فلا يكفيه هذا الغسل، بل لا بد أن يغسل كل عضو بنية رفع الحدث؛ لأن الحدث أمر معنوي، والأمور المعنوية لا بد فيها من النية، فلابد أن يغسل الأعضاء بنية رفع الحدث لا بنية التبرد ولا بنية النشاط ولا بنية إزالة النعاس أو ما أشبه ذلك بل بنية الطهارة. وقد سمعنا أن بعض الناس يتشدد في أمر النية، وهذا التشدد يكون غالباً وسوسةً من الشيطان ليشككه، فيغسل مثلاً وجهه ويديه، ثم يأتيه الشيطان فيقول: إنك نسيت النية، فيعيد غسلهما مرة ثانية، فإذا غسل يديه قال له: إنك سهوت عن نية غسل اليدين، إنما نويت الوجه فبطل غسل اليدين، فأعد غسلهما، فيعيد وهكذا ربما يعيد خمس مرات أو أكثر، وربما يعيد بعدما ينتهي مراراً، ولا شك أن هذا من الوسوسة التي ينبغي اطراحها. يقول العلماء: إن النية ملازمة للإنسان، وأنه يستحيل أن يعمل عملاً بدون نية. فمثلاً: الاغتسال إما أن ينوي به التبرد أو التنظف أو النشاط أو رفع الحدث، فلا بد من نية، فلا يمكن أن يغتسل وهو غافل لا يدري لأي شيء يغتسل، فما دام أن النية ملازمة للعمل فيعتبر فيها بما قاله وما قصده قلبه، ومن الدليل على أن الإنسان ينوي في جميع أعماله: أنك لو سألته وهو ذاهب إلى الحمام: ماذا تريد؟ لقال: أتوضأ أو أرفع الحدث أو أغتسل أو أتطهر، فعرف بذلك أنه قد نوى ولو كان قلبه غافلاً ولو كان فكره شاذاً في حالة مشيه، فلا بد أن تكون هناك نية موجودة. فلينتبه أولئك الذين يأتيهم الشيطان ويوسوس لهم أنهم قد نسوا النية ويأمرهم بالإعادة، يأتيهم في الوضوء ويأتيهم في الغسل، لدرجة أن أحدهم يبقى في الاغتسال ساعة أو أكثر، وكلما غسل عضواً جاءه الشيطان وقال: أعد فإنك ما نويت، فيتكلف ويشدد على نفسه حتى تفوته صلاة الجماعة، أو تثقل عليه الصلاة. فالشيطان يثقل عليه العبادة، ويصعّب عليه هذا الشرط، فإذا رأى أن في الصلاة صعوبة أدى ذلك إلى تركها والعياذ بالله.
حكم التلفظ بالنية
حكم التلفظ بالنية النية معتبرة في ثلاث طهارات: معتبرة في الوضوء، ومعتبرة في الاغتسال من الحدث الأكبر، ومعتبرة في التيمم، فلابد فيها كلها من نية، والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها لا في الصلاة ولا في الطهارة، وذهب بعض الشافعية إلى أنه يتكلم بها، وذكروا ذلك في مؤلفاتهم، وقالوا: إن التلفظ بها سنة، وأنه مذهب الشافعي. والصحيح أنه ليس مذهباً للشافعي، ولم ينقل ذلك عنه نقلاً صريحاً، ولم يذكر ذلك في مؤلفاته، ولا في رسائله. والله تعالى هو العالم بما في القلب، وليس للإنسان أن يخبر الله تعالى بما يدور في خلده وبما في قلبه، فالله عالم بما في قلبك، فلا حاجة إلى أن تخبر الله وتقول: نويت كذا وكذا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] . والعمل قد يكون ظاهره حسناً ولكن تفسده النية، وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بأمثلة، كالذي يقول الله له: (قرأت القرآن ليقال: قارئ) يعني: نيتك أن يقول الناس: قارئ، (تصدقت ليقال: جواد) ، (قاتلت ليقال: شجاع) ، وكذلك قال له رجل: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وهذه نيات يعلمها الله، فالله يعلم أن هذا قاتل رياءً، وهذا قاتل سمعة، وهذا قاتل ليرى مكانه، وهذا قاتل للشجاعة، وهذا قاتل حمية، وهذا قاتل للغنيمة، الله عالم بذلك ولو لم يتلفظ العبد ويقول: إنني أقاتل لكذا، فلا حاجة إلى أن يقول: نويت بالقتال إعزاز دين الله، أو إعلاء كلمة الله، وكذلك لا يقول: نويت بهذه الطهارة أو بهذا الغسل أن أرفع الحدث، أو نويت أن أغتسل لأرفع الحدث، لا حاجة إلى ذلك؛ لأن الله عالم بما في قلبه.
ترتب الثواب والعقاب على النية
ترتب الثواب والعقاب على النية أما قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) ، فمعناه: أن الثواب يترتب على النية، فإن كان العمل صالحاً ترتب عليه الثواب، وإلا ترتب عليه العقاب، وضرب لهم مثلاً بالهجرة، والهجرة من الأعمال الشريفة، كان أحدهم ينتقل من بلاده التي هي مسقط رأسه وفيها عشيرته وأهله وأمواله ومساكنه، ينتقل منها لأجل أن يتمكن من عبادة الله؛ لأنه في بلاده يلاقي الأذى. وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك من يهاجر لأجل الله ورسوله، وهناك من يهاجر لمصالح دنيوية، فالذي تكون هجرته إلى الله ورسوله ابتغاء مرضاة الله، ولاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والأخذ عنه، فهذا أجره على الله. (فهجرته إلى الله ورسوله) . والذي تكون هجرته لأجل مصالح دنيوية: تجارة، أو وظيفة، أو رئاسة، أو منصب، أو نحو ذلك، أو امرأة يتزوجها، ليس له قصد إلا هذا (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: ليس له أجر الهجرة وليس له ثوابها؛ وذلك لأن الله إنما يثيب من الأعمال ما أريد به وجه الله، فهذا مثل ضربه الرسول عليه الصلاة والسلام لصلاح النية ولعدم صلاحها، وكذلك بقية الأعمال.
أمور لا تحتاج إلى نية
أمور لا تحتاج إلى نية هناك أشياء لا تحتاج إلى نية، ومنها: إزالة النجاسات، فغسلها لا يحتاج إلى نية، فلو كان ثوبك نجساً وعلقته على وتد أو نحوه فنزل عليه مطر فغسله طهر ولو بدون نية، أو تنجس أسفله بشيء من أنواع النجاسات وخضت به في سيل أو نهر وذهب أثر النجاسة طهر، أو وقعت نجاسة على بقعة من الأرض، فنزل عليها مطر فغمرها وذهبت عين النجاسة طهرت، ولا حاجة إلى أن ينوي أحد إزالتها؛ لأن هذا إزالة، والنجاسة إذا زال أثرها طهر المكان، وأما الحدث فإنه أمر معنوي.
شرح حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث)
شرح حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث) يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .
معنى الحدث وشموله لجميع موجبات الوضوء
معنى الحدث وشموله لجميع موجبات الوضوء يقول العلماء: إن الحدث أمر معنوي يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ومن الطواف ومن مس المصحف، فالحدث الأصغر أمر معنوي وليس حسياً. فلو رأيت اثنين أحدهما على وضوء والآخر محدث، فلا تفرق بين هذا وهذا، فالحدث أمر معنوي يقوم بالبدن كله، والمحدث بدنه كله موصوف بأن عليه حدثاً، ومع ذلك أعضاؤه نظيفة ليس فيها شيء يُعرف أنه قذر أو وسخ، وليس في بدنه نجاسة، حتى ولو كان جنباً، فالجنب بدنه طاهر، فلو غمس يده في ماء فلا يقال: إن ذلك الماء تنجس، فتجوز مصافحته ومؤاكلته، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما لقيه أبو هريرة وكان جنباً انخنس وذهب ليغتسل، ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) يعني: ليس بدنك نجساً، إنما عليك حدث يمنعك فقط من الصلاة ونحوها، فأما بدنك فلا مانع من أن تأكل، ولا مانع من أن تصافح الناس، ولا مانع من أن تجالسهم. وتسمى موجبات الوضوء أو نواقض الوضوء أحداثاً؛ لأنها تتجدد، أحدث أي: انتقض وضوءه، فإذا أكل لحم إبل مثلاً قيل: أحدث، يعني انتقض وضوءه، وإن كان قد خص أكثرهم الحدث بما ينقض الوضوء من الريح أو الخارج من أحد السبيلين، وقد جاء أن أبا هريرة رضي الله عنه لما حدث بهذا الحديث سأله رجل من أهل حضرموت عن الحدث، ففسره بالريح التي تخرج من الدبر، ولكن لا يعتبر هذا هو الحدث فقط، فالبول حدث، وكذا الغائط، وكذا نواقض الوضوء الأخرى كالمباشرة ومس المرأة بشهوة، أو مس الفرج باليد، أو أكل لحم الإبل، أو تغسيل الميت، هذه كلها نسميها أحداثاً؛ لأنها توجب الوضوء، فإذا انتقض وضوء الإنسان بواحد منها فلا يقبل الله صلاته إلا بعد أن يتوضأ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .
معنى الوضوء
معنى الوضوء كلمة الوضوء لفظة شرعية، ولم تكن معروفة عند العرب قبل الإسلام، فهي من الكلمات التي جاءت في الشرع، والوضوء: هو غسل الأعضاء التي أمرنا الله بغسلها، وسمي وضوءاً لآثاره، فإنه ينور هذه الأعضاء تنويراً معنوياً، وينورها في الآخرة تنويراً حسياً، ففي الآخرة يعرف أهل الوضوء بأنهم غر محجلون من آثار الوضوء. والغرة: بياض الوجه. والتحجيل: بياض اليدين وبياض الرجلين من آثار الوضوء. فهذا ضوء حسي، وأما في الدنيا فإنه ضوء ونور معنوي. وسمي وضوءاً من الضوء الذي هو النور، فالوضوء منير للأعضاء، وهو من المسميات الشرعية، وهو: غسل أعضاء مخصوصة بنية رفع الحدث ولاستباحة الصلاة، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم شرطاً للصلاة بقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .
أقسام الحدث
أقسام الحدث الحدث نوعان: حدث أكبر يوجب الغسل، وحدث أصغر يوجب الوضوء. ولم يذكر في هذا الحديث الحدث الأكبر، لم يذكر إلا الحدث الأصغر، ولكن الحدث الأكبر مراد أيضاً؛ وذلك لأنه أولى بأن يهتم به، والله تعالى قد نبه على الحدث الأكبر في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وفي قوله: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] . إذاً نقول: لا يقبل الله صلاة من عليه حدث أكبر حتى يغتسل، والاغتسال هو غسل البدن كله بنية رفع الحدث، وعلى هذا فالحدث يرتفع بالوضوء إن كان أصغر ويرتفع بالاغتسال إن كان أكبر.
هل يرتفع الحدث بالتيمم؟
هل يرتفع الحدث بالتيمم؟ التيمم: هو استعمال التراب عند فقد الماء، وهو مسح الوجه واليدين بالتراب، هذا تحل به الصلاة، إذا فقد الماء، فالله تعالى يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] يعني: اقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا ولكن هل يرتفع الحدث به أم لا يرتفع؟ الصحيح أنه يرتفع ارتفاعاً مؤقتاً، بمعنى أنه تباح به العبادات التي لا تباح إلا بالوضوء حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء لزم استعماله، وقد ثبت في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد الطيب طهور أحدكم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) ، أي: أنك متى وجدت الماء وعليك حدث، فإن عليك أن تستعمله لرفع ذلك الحدث، فارتفاعه بالتيمم إنما هو لأجل التيسير، قال الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] . يستفاد من هذين الحديثين: أن الطهارة شرط لكل صلاة، وأن الصلاة لا تقبل إلا بهذه الطهارة التي هي الوضوء أو الاغتسال إن كان الحدث أكبر، أو التيمم إن لم يوجد الماء، فإذا صلى بغيرها والماء موجود وهو محدث فهو متلاعب بصلاته، لا يقبل الله صلاته إلا بعد أن يفعل ما أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6] الآية.
متى تجب الطهارة
متى تجب الطهارة الصحيح أن الطهارة إنما تجب بعد الحدث، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجب لكل صلاة، واستدل بالآية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6] ، والصحيح أن تفسير الآية: إذا قمتم وأنتم محدثون {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ويقدرها بعضهم: إذا قمتم من النوم فاغسلوا، ولكن الأصل أن الوضوء إنما يجب على من هو محدث لهذا الحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) . ويستفاد أيضاً: أن النية من شروط الوضوء، وأن الوضوء من شروط الصلاة، وأن الصلاة من أعظم وأهم العبادات، وسيأتينا إن شاء الله أحاديث تؤكد أهميتها، وكذلك يأتينا بقية أحاديث الطهارة. فعلى المسلم أن يتنبه إلى أهمية الطهارة، وأهمية العبادة، ومن جملتها شروط الصلاة التي تتقدمها كالطهارة والنية وما أشبهها، فإذا علم ذلك فعليه أن يطبق ما علمه، ليكون منتفعاً بعلمه إن شاء الله.
شرح حديث: (ويل للأعقاب من النار)
شرح حديث: (ويل للأعقاب من النار) [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتشر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) ، وفي لفظ لـ مسلم: (فليستنشق بمنخريه من الماء) ، وفي لفظ: (من توضأ فليستنشق) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالوضوء. فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) ، والأعقاب: هي مؤخر الأقدام.
سبب ورود الحديث
سبب ورود الحديث سبب الحديث: أنهم كانوا في سفر، فلما نزلوا في وقت متأخر توضئوا مسرعين، فجاء إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأعقابهم تلوح بيضاء لم يمسها الماء، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاثاً؛ ليبين لهم أنه يجب عليهم إسباغ الوضوء، وبالأخص غسل القدمين؛ وذلك لأن القدم من جملة ما أمرنا بغسله، والقدم قد يحتاج إلى زيادة إسباغ وتعهد؛ لأنه قد يكون عليه تراب أو غبار أو نحو ذلك، فيحتاج إلى تعهد أكثر، وقد يكون العقب -الذي فوق العرقوب- لكونه منخفضاً يزل عنه الماء إذا توضأ الإنسان مسرعاً، وبالأخص إذا كان الماء بارداً، والرجل وسخة بعيدة العهد بالماء أو نحو ذلك.
الفرق بين العقب والعرقوب
الفرق بين العقب والعرقوب جاء في بعض الروايات: (ويل للعراقيب من النار) ، والعرقوب: هو مؤخر القدم، ولكن العقب: هو المكان المنخفض خلف الكعب، فخلف كل كعب من الكعبين مكان منخفض، وهو الذي يكون إلى جانبي العصبة التي تمتد من العرقوب إلى الساق، فما كان بجانبي هذه العصبة فهو الأعقاب، فعلى الإنسان أن يتعاهد غسل القدم، ويتعاهد العقب الذي هو مكان منخفض، ويتعاهد أيضاً الأخمص الذي هو بطن القدم؛ وهو المكان المنخفض في وسط القدم.
وجوب غسل الرجلين، والرد على الرافضة في ذلك
وجوب غسل الرجلين، والرد على الرافضة في ذلك هذا الحديث من أدلة أهل السنة على أن الرجلين تغسلان، وذهبت الرافضة إلى أن الرجل تمسح، واستدلوا بقراءة في القرآن: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) بالخفض، وأجاب العلماء عنها بأنها مجرورة على الإتباع، أو أن المراد بمسح الرجل: الغسل الخفيف؛ لأن الرجلين مظنة الإسراف، والعرب قد تسمي الوضوء مسحاً كقولهم: تمسحت للصلاة، يعني: غسلت أعضائي غسلاً خفيفاً. وعلى كل حال فقد تكاثرت الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغسل قدميه، ولم يأت حديث أنه كان يمسح القدمين، ولو كان يمسح القدمين لما كان هناك حرج في بياض يحصل في العقبين، بل توعد بقوله: (ويل للأعقاب من النار) فدل على وجوب غسل الرجلين وعدم الاكتفاء بالمسح كما يقول الرافضة، فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على وجوب غسل القدمين في الوضوء كما يجب غسلهما في الاغتسال. وقد حدد الله الغسل بقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، والتحديد دليل على وجوب الغسل وأنه لا يكتفى بالمسح، وقد فسرت ذلك السنة النبوية، كما تكاثرت بذلك الأحاديث، وكل الذين نقلوا صفة وضوء النبي عليه الصلاة والسلام ذكروا أنه كان يغسل قدميه ولم يقل أحد إنه مسح عليهما. ومن الأدلة أن الله تعالى أدخل الممسوح -وهو الرأس- بين المغسولين وهما اليدان والرجلان، وبلا شك أن غسلهما فيه تنظيف؛ لأن الرجل تكون مظنة لوسخ أو قذر أو نحو ذلك، والوضوء شرع لأجل تنشيط البدن ولأجل الإعانة على العبادة، وشرع أيضاً لأجل إزالة الوسخ والقذر ونحو ذلك. وشرعية غسل الوجه وغسل اليدين وغسل الرجلين في الوضوء لا بد له من حكمة، حيث اقتصر الله على هذه الأعضاء فقال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] ، فالوجه غسله يزيد نشاطاً ويذهب الكسل، وفيه أيضاً أغلب الحواس، ففيه حاسة البصر وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة السمع، وهما الأذنان، فالأمر بغسله لأجل تطهيره حسياً، والوجه قد يتعرض للغبار ونحو ذلك فلا بد من غسله. واليدان هما الآلة التي يعمل الإنسان بهما، وغالباً يكون فيهما تراب أو وسخ أو نحو ذلك، فشرعية غسلهما زيادة في النشاط وإزالة الكسل، وفيه التنظيف. وكذلك الرجلان غسلهما لأجل التنظيف؛ لما يتعرضان له من غبار أو تراب أو نحو ذلك، وما دام كذلك فإن الفرض غسلهما لا مسحهما خلافاً للروافض، ولا أحد يكتفي بالمسح على الرجلين إلا الرافضة فقط، مع أنهم ينكرون المسح على الخفين، ولا يعتقدونه، مع ثبوته بالسنة، والاستدلال عليه بالأدلة الواضحة، فخالفوا في هذا، وخالفوا في هذا!
معنى (ويل)
معنى (ويل) قوله: (ويل للأعقاب من النار) الويل: هو العذاب الشديد، وقيل: إنه اسم واد في جهنم، وهي أيضاً كلمة وعيد يتوعد بها، كما ذكر الله في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] ، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] ، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، وفي الأحاديث أيضاً. ومعنى: (ويل للأعقاب من النار) أي: أن النار تنالها حيث إنها لم تغسل الغسل الكامل، وقيل معناه: ينالها العذاب وحدها، وقيل: إنها تكون سبباً لدخول صاحبها النار؛ وذلك إذا بطلت صلاته استحق العذاب، والذي لا يسبغ الوضوء ولا يكمله ترد صلاته، ومن ردت صلاته استحق العذاب، وإذا أدخل النار كان سبب دخوله هذه القدم أو هذه العقب، فتنال العذاب، ويزاد في تألمها، وكأنها تسلط على صاحبها النار، أو أن العذاب يتسلط على صاحبها بسببها.
شرح حديث: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء)
شرح حديث: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً) الحديث الثاني فيه ذكر ثلاثة أشياء تتعلق بالطهارة:
صفة الاستنشاق والاستنثار
صفة الاستنشاق والاستنثار أولها: الاستنشاق والاستنثار، يقول: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) ، هذا يسمى الاستنشاق، وصفته: أن يجعل الماء في يده ثم يجعله في منخريه ثم يجتذبه بنفسه إلى داخل خياشيمه، ثم بعد ذلك يخرجه بقوة نفسه، فاجتذابه يسمى: استنشاقاً، وإخراجه يسمى: استنثاراً، وهذا الحديث دليل على وجوب الاستنثار، فإن الأمر ظاهره الوجوب (فليجعل) (ثم لينتثر) فدل على وجوب الاستنشاق ووجوب الاستنثار الذي هو الإخراج بالنفس.
الأمر بالمبالغة في الاستنشاق
الأمر بالمبالغة في الاستنشاق وقد ورد الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، قال صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فأمر بالاستنشاق وأمر بالمبالغة فيه، يعني: اجتذابه إلى الخيشوم بقوة، والحكمة في الاستنشاق: تنظيف الخيشوم، الذي هو داخل الأنف، ويخرج منه أوساخ لا بد من تنظيفها؛ حتى يأتي الصلاة وقد نظف ما يمكن تنظيفه وأزال ما يمكن إزالته من القذر والأذى، وكذلك غسل داخل الأنف -داخل المنخرين- الذي يمكن غسله، ولا حاجة إلى أن يدخل إصبعيه في منخريه، بل يكتفي باجتذاب الماء إلى داخل الخيشوم، ويخرجه بعد ذلك، فيكون هذا كافياً في تنظيف المنخرين.
حكم المضمضة والاستنشاق
حكم المضمضة والاستنشاق أراد المؤلف بإيراد هذا الحديث إثبات أن الاستنشاق تابع للغسل في الوجه، والله تعالى أمر بغسل الوجه، والأنف له حكم الظاهر فيدخل في حكم الوجه، وكذلك الفم له حكم الظاهر فيدخل في حكم الوجه، والمضمضة: هي تحريك الماء في الفم، وهي مشتقة من مضمض بمعنى حرك، ومعناها: أن يجعل في فمه ماءً ثم يدلك أسنانه بالماء ويحركه بلسانه، ثم يمجه، هذه هي المضمضة. وقد ذهب أحمد إلى أن المضمضة والاستنشاق من الوجه، وأنه لا يصح الوضوء إلا بهما، وأن من أخلّ بهما فكأنه ترك بقعة في وجهه، والذي يترك بقعة في وجهه لم يغسل وجهه، والله أمر بالغسل، فلا بد أن يكون الغسل مستوفياً للعضو، كما لو ترك بقعة في يده أو في رجله، فإذا كان الذي يترك بقعة خفية في مؤخر رجله متوعداً بالنار: (ويل للأعقاب من النار) ، فهكذا من ترك بقعة في عينيه أو تحت وجنتيه أو ما أشبه ذلك، فلا بد أن يغسل وجهه كله، ويدخل في ذلك الفم والأنف. وذهبت الشافعية وغيرهم إلى أن الاستنشاق ليس بواجب، بل هو سنة، وكذلك المضمضة، وقالوا: إنهما من سنن الوضوء لا من واجباته، والإمام الشافعي رحمه الله عالم كبير مجتهد، ولكنه لم يكن متوغلاً في معرفة الحديث، فعلى كل هو اجتهد. ومن أدلتهم: أن الوجه ما تحصل به المواجهة، والله تعالى أمر بغسل الوجه، والأنف يغسل ظاهره، وأما داخل المنخرين فليس مما تحصل بهما المواجهة، وكذا داخل الفم، فيقولون: نقتصر على ما تحصل به المواجهة والمقابلة، هذا دليل الشافعية. ولكن لما كانت السنة مفسرة للآية ومبينة لها عرفنا بذلك أن هذا هو معنى الغسل، وأن الأنف والفم داخلان في غسل الوجه ولا بد منهما، والذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه تركهما، بل ذكروا أنه كان يتمضمض ويستنشق ثلاثاً، وسيأتينا حديث عثمان وفيه ذكرهما.
الاستجمار
الاستجمار الجملة الثانية في الحديث هي الوتر في الاستجمار: (ومن استجمر فليوتر) ، وسيأتينا إن شاء الله بعض ما يتعلق بالتبرز -الذي هو قضاء الحاجة- وما يلزم منه. والاستجمار هو مسح أثر الغائط بالحجارة أو ما يقوم مقامها، وكانوا يكتفون به عن الغسل، وسيأتي فيه أحاديث إن شاء الله. وهذا الحديث دليل على أنه إذا استجمر قطعه على وتر، فإن مسح مثلاً بحجرين زاد ثالثة، وإن لم ينق إلا بأربع أضاف إليها خامسة حتى تكون وتراً، وإن لم ينق إلا بست أحجار جعل معها سابعة، فإن لم يحصل الإنقاء إلا بثمان أضاف تاسعة، هذا معنى الوتر، يعني: يقطع على وتر ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً وهكذا. وأما إذا غسل المحل بالماء -وهو ما يسمى بالاستنجاء- فإنه يغسله إلى أن ينظف المكان ويعود إلى خشونته من غير تحديد بعدد. والوتر في الاستجمار ليس بواجب؛ لأنه قد ورد في رواية: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) فدل على أنه لا حرج فيمن استجمر وشفع، إذا استجمر أربعاً أو ستاً أو نحو ذلك فلا حرج، ولكن الأفضل القطع على وتر.
غسل اليدين بعد النوم قبل إدخالهما في الإناء
غسل اليدين بعد النوم قبل إدخالهما في الإناء الجملة الثالثة: غسل اليدين إذا استيقظ من نوم الليل: (وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) ، وهذا النوم مختص بنوم الليل؛ لأنه قال: (أين باتت) ، والبيتوتة هي نوم الليل، ولكن يستحب لمن نام في أول النهار أو في وسطه أن يغسلهما بعد الاستيقاظ أيضاً؛ لأن العلة موجودة، وبلا شك أن علينا أن نتبع النص وإن لم نعرف السبب، فعلى المسلم إذا استيقظ من نومه أن يغسل يديه، والمراد باليدين هنا: الكفان، يعني: إلى المفصل، ومفصل الكف من الذراع يسمى كوعاً، فتغسلهما إلى الكوع، والكوع: هو المفصل بين الكف والذراع، هكذا ورد غسلهما إلى الكوعين (ثلاثاً) حتى تنظف اليد، ويلزم ذلك بكل حال، حتى لو لبست قفازين، فبعد أن تستيقظ تغسلهما ولو أمنت عليهما؛ وذلك لأن نوم الليل يعتبر بنفسه حدثاً موجباً لغسل اليدين، فيغسل يديه أولاً قبل أن يغسل بهما بقية جسده. وذكر كثير من العلماء أنه إذا غمس يديه في ماء قبل غسلهما فإن ذلك الماء لا يكون طهوراً، ولكن الصحيح إن شاء الله أنه إذا بقي على طبيعته ولم يتغير طعماً ولا ريحاً ولا لوناً، فإنه يرفع الحدث، ولكن مع ذلك نتبع النص: (لا يغمس يده حتى يغسلها) ، وليس هذا خاصاً بالغمس بل حتى الاغتراف، فلو صب عليهما ماءً من الصنبور أو نحوه، فإن الماء الذي يقع عليهما قبل الغسل يعتبر غير طهور، فلا بد أن يصب الماء عليهما ويغسلهما، حتى إذا اغترف بهما أو صب فيهما ماءً للمضمضة كان ذلك الماء الذي وقع فيهما طهوراً يرفع الحدث. هذا حكم غسلهما.
حكم غسل غير المستيقظ من النوم يده قبل الوضوء
حكم غسل غير المستيقظ من النوم يده قبل الوضوء غير المستيقظ يسن له غسلهما من غير وجوب، فإذا أراد أن يتوضأ لصلاة الظهر أو لصلاة المغرب أو العشاء وهو لم ينم، استحب له أن يغسلهما من باب التنظيف؛ لأنهما الآلة التي يغترف بهما والتي يباشر بهما غسل الأعضاء، فيغسل وجهه بهما، ويغترف الماء بهما، فغسلهما هذا يعتبر للنظافة، وإذا توضأ الإنسان ثم غسل وجهه ثم غسل يديه فعليه أن يغسلهما من رءوس الأصابع إلى المرفقين، ولا يغسل مجرد الذراع ويقول: الكف مغسولة من قبل ولا حاجة إلى غسلها، فلابد من غسلها؛ لأن غسلها الأول يعتبر سنة، وغسلها بعد الوجه من الأظافر إلى المرفق هو الواجب، وقد سمعت أن بعض الناس بعد أن يغسل وجهه يقتصر على غسل الذراع من المفصل إلى المفصل ويترك الكف، وهذا خطأ، بل عليه أن يغسل اليدين من رءوس الأصابع إلى المرفق، اليد اليمنى واليد اليسرى، فبهذا يتم وضوءه وتتم طهارته إن شاء الله.
شرح حديث: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم)
شرح حديث: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، ولـ مسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) ، ولـ مسلم: (أولاهن بالتراب) . وله في حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً، وعفروه الثامنة بالتراب) ] . قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، وفي الرواية الثانية: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) .
النهي عن البول في الماء الدائم وحكم تنجسه بذلك
النهي عن البول في الماء الدائم وحكم تنجسه بذلك في هذه الأحاديث الأمر بالمحافظة على النظافة والنزاهة والبعد عن الأقذار والنجاسات، وذلك أن المياه يُحتاج إليها للشرب وللسقي وللطبخ وللطهارة، ولا شك أن البول فيها والانغماس فيها يفسدها إما عاجلاً وإما آجلاً، فنهى عليه الصلاة والسلام عن البول في الماء الدائم، والماء الدائم: هو الراكد الذي لا يجري ولا يتحرك من موضعه، كمياه الثغبان والخزانات التي هي مستقرة وليست تستخلص وليست تجري ونحو ذلك. فهذا الماء الراكد الذي في هذا الخزان أو في هذه الجابية أو نحوه لا شك أنه راكد، والبول فيه لأول مرة قد لا يظهر أثره، ولكن قد يكثر البول فيفسده ويظهر أثره، وقد تكرهه النفوس، فإذا رأى الإنسان شخصاً -ولو صغيراً- يبول في هذا الماء ولو كان كثيراً اشمأزت نفسه منه وكرهته، وقد يكثر من يبول فيه فينجسه فيظهر بعد ذلك أثر هذه النجاسة ويصير الماء نجساً نجاسة عينية. ولا شك أن الإنسان مأمور بالابتعاد عن الأشياء التي تفسد عليه أو على غيره شيئاً محتاجاً إليه، ومعلوم أن الحاجة إلى الماء حاجة ضرورية، ولو لم يكن إلا للدواب، فالدواب قد تشم فيه روائح البول ونحوه فتستقذره. فالحاصل: أنه عليه الصلاة والسلام أدّب الأمة بالنهي عن التبول في المياه الراكدة، كالمستنقعات ونحوها، ولا شك أنه إذا كثر التبوّل فيها ظهر أثر ذلك ولو بعد حين، فحينئذ تكون نجسة، ولكن لو وقع مرة واحدة ولم يظهر تغير في ذلك الماء فإنه لا ينجس إن شاء الله؛ لأن النجاسة إنما تكون بالتغير، والتغير إما أن يكون بتغير طعم الماء، أو ريحه، أو لونه، ومع ذلك فإنه منهي عن استعماله في هذه الحال لقوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) ، كأنه يقول: إنه إذا اغتسل منه أو توضأ منه هو أو غيره بقي في نفسه شك في أنه تطهر بماء غير طهور، فلا تطمئن نفسه في العبادة.
النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم
النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم كذلك الراوية الثانية التي فيها النهي عن الانغماس في الماء إذا كان الإنسان جنباً، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري وهو جنب) يعني: إذا كنت جنباً فلا تنغمس في هذا الماء الراكد وتقول: قد طهرت؛ إذ يمكن أن تطهر بانغماسك لكن مع كثرة الانغماس من هذا ومن ذاك قد يتغير الماء بعد حين فيسلب الطهورية. وقد قيل لـ أبي هريرة: كيف يصنع به؟ فقال: يتناوله تناولاً. فإذا لم يكن معه إناء فإنه يقف على حافته ويغترف منه ولا ينغمس فيه، حتى لا يفسده على نفسه أو على غيره. والصحيح: أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه أو طعمه أو ريحه، ولكن بعض العلماء يقول: بموجب هذا الحديث فإن البول فيه ينجسه ولو لم يتغير. ولكن الصحيح أنه إذا لم يتغير فهو طهور؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وفي رواية: (إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه) .
شرح حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم)
شرح حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم) أما حديث غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب فهو واجب لهذين الحديثين، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء بعد ولوغ الكلب وتكرار الغسل بالإضافة إلى تعفيره بالتراب.
صفة غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب
صفة غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب في الحديث الأول: يكون الغسل بسبع أولاهن بالتراب، وفي الثاني: أنهن سبع بالماء والثامنة بالتراب، ويجمع بين الحديثين بأن يقال: إنه جعل الغسلة التي فيها تراب عن اثنتين؛ واحدة بماء وواحدة بتراب، وصفة ذلك أن يغسله المرة الأولى بماء وتراب ويدلكه، ثم بعد ذلك يغسله ست مرات بدون تراب حتى ينظفه، ولابد -على الصحيح- من التراب، وسبب اختيار التراب أنه يزيل آثار لعاب الكلب.
الحكمة من استعمال التراب في غسل ما ولغ فيه الكلب
الحكمة من استعمال التراب في غسل ما ولغ فيه الكلب ذكر العلماء أن لعاب الكلب قوي يستمسك بالإناء، فلا تزول لزوجته إلا بالتراب، وذكر بعضهم أن في لعابه جراثيم سامة، وأنها تلتصق بالإناء فلا تزول إلا بالتراب الذي يقتلها ويزيلها، وقد قام بعضهم بعمل تجربة بأن غسل الإناء بأشنان وصابون، ثم ألقاه في النار لإزالة النجاسة، لكنها لم تَزل، فلما غسله بتراب ماتت الجراثيم وزالت النجاسة ولم يبق لها أثر. وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما أخبر بذلك وما أمر به إلا لحكمة أطلعه الله عليها، ولما جاء العلم الحديث أثبتت المكبرات المجهرية وجود هذه الجراثيم في لعاب الكلب، وأثبتت التجارب أنها لا تزول إلا بهذا التراب.
نجاسة الكلب ولعابه
نجاسة الكلب ولعابه وعلى كل حال فإن هذا دليل على أن الكلب نجس وأن ريقه ولعابه نجس، وأنه لابد من تكرار الغسل حتى يطهر ذلك الإناء، سواء كان ذلك الإناء إناء شراب أو إناء أكل أو نحو ذلك، فلا يستعمل هذا الإناء في أكل ولا في شرب أو نحو ذلك إلا بعد أن يُطهَّر كما جاء في الحديث. وأما إذا شرب الكلب من البرك أو الخزانات أو السواقي أو الأواني الكبيرة أو نحو ذلك فلا يلزم غسلها، وعلى كل حال فالماء الذي يُتطهر به لابد أن يكون طهوراً حتى يرتفع به الحدث؛ لأن الحدث الذي نزل لابد أن يزال بما يزيله.
شرح حديث حمران مولى عثمان في صفة الوضوء
شرح حديث حمران مولى عثمان في صفة الوضوء قال المصنف: [عن حمران مولى عثمان بن عفان: (أنه رأى عثمان رضي الله عنه دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه) ] . هذا حديث يتعلق بصفة الوضوء، وهو من أصح وأكمل الأحاديث في صفة الوضوء. والوضوء مشتق من الضوء، قيل: إنه سمي بذلك لأنه يضيء الأعضاء وينيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) ، والوضوء: اسم شرعي لم يعرف إلا في الإسلام.
مشروعية الوضوء في الكتاب والسنة
مشروعية الوضوء في الكتاب والسنة شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يُقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة. وقد بين الله تعالى أصل الوضوء في القرآن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فالآية بينت أعضاء الوضوء، وأنها أربعة: الوجه واليدان والرأس والرجلان، وهذا فيما يتعلق بالحدث الأصغر. ثم جاءت السنة ففصلت ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله؛ لأن الله أمره بالبيان بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، فبينه بقوله وبينه بفعله، وحفظ ذلك صحابته وبينوه بأفعالهم، فهذا عثمان ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنه حفظ عنه هذه الصفة في الوضوء.
الفرق بين الوضوء والوضوء
الفرق بين الوَضوء والوُضوء جاء في هذا الحديث أنه -أولاً-: (دعا بوضوء) . والوَضوء بفتح الواو: هو الماء الذي يكون في الإناء ليتوضأ به. والوُضوء بضم الواو: هو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة. هذا هو الفرق بين الوَضوء والوُضوء. وقوله: (دعا بوَضوء) يعني: بماء يستعمله في غسل أعضاء الوضوء الأربعة. ولم يذكر في هذا الحديث الاستنجاء الذي هو غسل أثر النجاسة من السبيلين؛ لأنه ليس من أعضاء الوضوء وإنما هو إزالة نجاسة، وكذلك الاستجمار بالأحجار ليس من أعضاء الوضوء وخلافاً لما يعتقده بعض العامة، فإن الاستنجاء والاستجمار إنما هو تطهير للمحل المتنجس وإزالة لأثر النجاسة منه.
حكم غسل الكفين في الوضوء
حكم غسل الكفين في الوضوء وأعضاء الوضوء هي التي ذكرت في هذا الحديث، وذكر في هذا الحديث أنه أولاً غسل يديه، والمراد بهما الكفان، أي: غسل كفيه ثلاثاً، وهذا الغسل سنة وليس بواجب، والحكمة فيه أن ينظف اليدين، حيث إنهما الآلة التي يغسل بهما أعضاءه، فباليد اليمنى يغترف، وباليدين جميعاً يباشر غسل الوجه ويباشر غسل اليدين والرجلين، ويمسح بهما الرأس، فغسلهما هنا لأجل التنظيف، وغسلهما يكون ثلاث مرات وهي كافية، وقد تقدم أن من استيقظ من نوم الليل لزمه غسلهما قبل أن يدخلهما في الإناء، وأما غسلهما لغير نوم فهو سنة وليس بواجب، إنما هو لأجل التنظيف، فإذا كانت يداه نظيفتين، فلا مانع من أن يستعملهما ولو لم يغسلهما، ولكن الأصل أنه يسن لكل متوضئ تنظيف يديه وغسلهما قبل استعمال الماء.
المضمضة والاستنشاق والاستنثار
المضمضة والاستنشاق والاستنثار ذكر أنه بعد أن غسل يديه أدخل يده في الإناء ليغترف بها، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً. والمضمضة: تحريك الماء في الفم. والاستنشاق: اجتذاب الماء بالأنف بقوة النفس. والاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد إدخاله بدفع النفس. ولم يذكر في أكثر الروايات عدد المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وفي بعضها ذكر أنه مضمض ثلاثاً واستنشق واستنثر ثلاثاً، وهذا هو الأرجح؛ أنه يتمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، والصحيح أنه يجعلهما بثلاث غرفات، كل غرفة بعضها في فمه وبعضها في أنفه فيتمضمض ويستنشق من غرفة واحدة، ثم يغترف غرفة ثانية لمضمضة واستنشاق ثم ثالثة كذلك، هذا هو الأرجح، ويجوز أن يغترف ست غرفات، لكل مضمضة غرفة، ولكل استنشاق غرفة، ويجوز أن يتمضمض ويستنشق من غرفتين، يعني: يتمضمض من غرفة ويستنشق من غرفة، كل غرفة تكفيه ثلاثاً إذا تمكن من ذلك. والراجح أن المضمضة والاستنشاق من تمام الوضوء ومن تمام غسل الوجه، وإن كان كثير من العلماء يقولون: إنها من السنن، ولكن الأدلة تدل على أنها واجبة، وأن من توضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق عمداً فإنه يعيد؛ لأنه ترك جزءاً من أعضاء الوضوء. فإن الذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه حافظ على المضمضة والاستنشاق، وكذلك أمر بهما في أحاديث كثيرة، كقوله: (إذا توضأت فمضمض) ، وقوله في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فهذا أمر بالوضوء وأمر بالمضمضة والاستنشاق فيه. والذين قالوا: إنها سنة وليست بواجبة، عللوا ذلك بأنها لم تذكر في القرآن، وإنما ذكر غسل الوجه فقط، والوجه ما تحصل به المواجهة، بينما المنخران خفيان، وكذلك الفم خفي فلا تحصل بهما المواجهة. ويرد عليهم بأن يقال: الأمر ورد بغسل الوجه مجملاً، والرسول عليه الصلاة والسلام بينه فذكر أن من تمامه المضمضة والاستنشاق، ولا شك أن القصد الأساسي هو التنظيف، وأن الفم قد يكون محل تغير، فإن كثيراً من الناس تتغير رائحة أفواههم لطول السكوت، أو لأكل شيء يبقى بعضه في الفم، فتتغير رائحة الفم بسبب ذلك، فغسله وتحريك الماء فيه بالإصبع تنظيف له وإزالة لتلك الرائحة، وكذلك الأنف قد يتحلل منه أشياء مستقذرة، فتنظيفه إزالة لما قد يتحلل منه مما هو مستقذر أو مما هو أذى، فشرعية المضمضة والاستنشاق محافظة على تنظيف الظاهر الذي ما يمكن ظهوره، ولا شك أن الفم له حكم الظاهر -والظاهر غير الباطن- ودليل ذلك: أن الصائم لو وضع طعاماً في فمه ثم مجه لم يحكم بأنه أفطر، ولو وضع في فمه خمراً ثم مجها لم يجب عليه الحد، ولو أن طفلاً صُب اللبن من المرأة في فمه ولكنه لم يبتلعه ما عد بذلك راضعاً منها، فهذه أدلة على أن الفم لا يعد من الباطن. فالحاصل: أن القول الصحيح وجوب المضمضة ووجوب الاستنشاق على ما دلت عليه هذه الأحاديث التي بين فيها النبي عليه الصلاة والسلام ما أجمله الله في الآيات.
غسل الوجه وحده
غسل الوجه وحدُّه الوجه المأمور بغسله هو ما تحصل به المواجهة، وحد الوجه طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد، وله نهاية موجودة في أغلب الناس، ولا عبرة بمن ينحسر شعره كالأصلع، إنما العبرة بأغلب الناس، فأعلى الجبهة هو نهاية منابت الشعر، فهي من جملة الوجه، أما النهاية من أسفله فهو الذقن، والذقن هو مجمع اللحيين، واللحيان: منبت الأسنان السفلى، فأسفل الوجه الذي تحت الشفة يسمى: ذقناً، ولو لم يكن فيه شعر، فليس الذقن اسم للشعر، بل الذقن اسم لأسفل الوجه، فيقال: ذقن المرأة، يعني: أسفل وجهها، وذقن الصبي، يعني: أسفل وجهه، ولو لم يكن فيه شعر، فيغسله إلى الذقن، ويغسل الشعر الذي على الخدين وعلى الذقن وهو الذي يسمى اللحية، فإن كانت اللحية كثيفة اكتفي بغسل ظاهرها، وسن أن يخللها بإدخال أصابعه أو بعركها حتى يدخل الماء بين الشعر، وإن كانت خفيفة غسل داخلها وخارجها؛ لأنها في هذه الحال لم تستر البشرة ستراً كاملاً، فالحاصل أنه يغسل ما فيه من الشعر. أما حد الوجه عرضاً فإلى أصول الأذنين، حيث يستوفي عرضه الخدين كليهما؛ لأنهما مما تحصل به المواجهة، هذا هو اسم الوجه. وقد وردت السنة بالتثليث في غسل الوجه، بمعنى أنه يغسل الوجه ثلاثاً كما يتمضمض ويستنشق ثلاثاً.
غسل اليدين وحدهما
غسل اليدين وحدُّهما وبعد غسل الوجه يغسل يديه، وفي هذا الحديث ذكر أن عثمان غسل يديه كل واحدة ثلاثاً، واليد المأمور بغسلها من رءوس الأصابع إلى المرافق وهو مفصل الذراع من العضد، وسمي مرفقاً لأنه يرتفق به، أي: يتكئ عليه ويعتمد عليه، والمرفق داخل في الغسل، كما في حديث طلحة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدير الماء على مرفقيه، فدل على أنهما مغسولان، فيغسل المرفق مع الذراع. وبعض الناس يقتصر على غسل الذراع ولا يغسل الكف، ويدعي أنه قد غسلها في أول الوضوء، وهذا لا يكفي؛ لأن غسلهما قبل الوجه سنة وغسلها بعد الوجه واجب، فلابد أن يغسل كفه من رءوس أصابعه ويخللها، ثم يغسل باطنها وظاهرها، ثم يغسل الذراع، وصفته: أن يغترف غرفة فيغسل الكف ثم الذراع، ثم يغترف ثانية وهكذا، ثم يغسل اليد الأخرى، فيغترف لها باليمنى فيغسل الكف ويخلل الأصابع، ثم يغسل الذراع، ثم يغترف غرفة أخرى ثم ثالثة حتى يغسل كل واحدة ثلاثاً، وهذا هو الأكمل.
مسح الرأس وصفته
مسح الرأس وصفته أما الرأس فذكر أنه: (مسح برأسه) ، ولم يذكر عدداً، وهذا دليل على أنه لا يكرر؛ لأنه لا يقصد منه إلا مجرد الامتثال، فيمسح برأسه من مقدمته إلى نهايته، وهذا هو الصحيح، والمسألة فيها خلاف بين العلماء، ولكن الجمهور على أنه لابد من تعميم مسح الرأس، والدليل في ذلك قوي.
غسل الرجلين وحدهما
غسل الرجلين وحدُّهما ثم بعد ذلك يغسل قدميه كل واحدة ثلاثاً، وقد أمر الله تعالى بغسل القدمين إلى الكعبين، والكعبان داخلان في الغسل فيغسلهما. والقدم: هو الذي يمشي الإنسان عليه. والكعبان ينتهيان بمستدق الساق، فأدق ما يكون من الساق هو نهاية الكعب، وإذا أراد أن يحتاط فإنه يغسل إلى أن ينتهي الكعب، وقد تقدم لنا أنه عليه السلام قال: (ويل للأعقاب من النار) ، وهذا تأكيد لوجوب غسل القدمين حتى لا يتساهل أحد في غسلهما، فإن كثيراً من الناس يتساهلون في غسل القدم، فيغسلونها غسلاً خفيفاً بحيث يبقى مؤخر القدم الأبيض لم يمسه الماء وهو العقب، فلذلك قال: (ويل للأعقاب من النار) وهذا هو الوضوء الكامل.
الوضوء المجزئ والوضوء الكامل
الوضوء المجزئ والوضوء الكامل الوضوء المجزي: هو غسل كل عضو مرة واحدة سابغة، فإذا فعل ذلك اكتفى به وحصل الإجزاء، والغسلتان أكمل من الواحدة، والثلاث الغسلات أكمل من الغسلتين وأفضل، ولا تجوز الزيادة على الثلاث؛ لأنه لم ينقل بل ورد النهي عن الإسراف، والإسراف هنا هو استعمال الماء في الوضوء زيادة على ما ورد.
إسباغ الوضوء وإتباعه بصلاة ركعتين سبب لمغفرة الذنوب
إسباغ الوضوء وإتباعه بصلاة ركعتين سبب لمغفرة الذنوب في هذا الحديث يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه) ، وقد رتب هذا الثواب على هذا العمل للأسباب التالية: أولاً: أنه امتثل بهذا الوضوء الكامل الشرعي. ثانياً: أنه أتى به كاملاً وهو التثليث. ثالثاً: أنه بادر وصلى بعده تطوعاً واختياراً منه. رابعاً: أنه أخلص في صلاته وكملها. خامساً: أنه حفظها عما ينقصها، فلم يحدث فيها نفسه بشيء من أمور الدنيا التي تنافي ما هو فيه من العبادة. فإذا فعل ذلك فإنه دليل على قوة إيمانه وقوة يقينه، فيترتب على ذلك أن يغفر الله له ذنوبه، إذا كان ذلك عن عزم ونية صادقة. والحاصل: أن هذا من الأحاديث التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله الله تعالى من الآيات، وأمر نبيه ببيانها البيان الفعلي، وقد وردت أحاديث تبين البيان القولي، ومعلوم أن هذا الحديث فيه دلالة على أهمية التعليم بالفعل؛ لأنه قد يكون أتم من التعليم بالقول، والإنسان إذا قلت له: إذا توضأت فقل كذا وافعل كذا وكذا، فقد لا يفهم، حتى تأتي بالماء وتقول: هكذا هو الوضوء، اغسل يديك مثلي هكذا، وامسح رأسك هكذا، فإذا شاهد بعينيه كان ذلك أبلغ لفهمه ومعرفته، هكذا فعل النبي عليه السلام، وهكذا فعل عثمان وغيره من الصحابة الذين علموا الناس بالأفعال زيادة على التعليم بالأقوال.
شرح حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم
شرح حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم [وعن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: (شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يديه في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يديه فغسلهما مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه) ، وفي رواية: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) ، وفي رواية: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور من صفر) ، والتور: شبه الطست] . هذا حديث عبد الله بن زيد بن عاصم من الأنصار من بني مازن، ذكر فيه صفة الوضوء كما ذكر ذلك عثمان، وتوضأ بالفعل؛ وذلك لأن التعليم بالفعل والمشاهدة قد يكون أبلغ من القول، فهو لم يقل: كان وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قال: أنا أريكم كيف كان يتوضأ. ولا شك أن الحديثين -حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد - متقاربان في صفة الوضوء، ولكن أتى المؤلف بهذا الحديث لزيادة الإيضاح، ولأن فيه بعض التعليمات الزائدة على حديث عثمان فنذكر بعضها على وجه الإشارة: أولاً: ذكر أن هذا الوضوء من تور، والتور شبه الطست، يعني: إناء مفلطح واسع الرأس ولكنه صغير، ولذلك تمكن من أن يصغيه، ولم يغمس يده فيه لأول مرة، بل أصغاه فصب على يديه فغسل كفيه. ثانياً: أنه بدأ بغسل كفيه، وقد ذكرنا أن غسل الكفين بداية لا يغني عن غسلهما بعد الوجه؛ لأن غسلهما ابتداءً هو لتنظيفهما من الأوساخ، ولأنهما الآلة التي يغترف بهما وتدلك بهما الأعضاء. ثالثاً: ذكر أنه تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، ولم يذكر في حديث عثمان عدد الغرفات وهنا ذكر أنها ثلاث، يعني: أن الغرفة الواحدة يجعل بعضها في فمه وبعضها في أنفه، وذكرنا أنه يجوز أن يتمضمض بثلاث غرفات ويستنشق بثلاث غرفات، ولكن الأفضل أن يجعلها ثلاثاً كل غرفة فيها مضمضة واستنشاق، وقلنا: إن هذا الحديث وكذلك الحديث قبله مما يدل على أن المضمضة والاستنشاق من تمام غسل الوجه وأنهما لا يسقطان، وهو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة، خلافاً لمن يقول: إنهما سنة. ومحافظة النبي عليه الصلاة والسلام على المضمضة والاستنشاق وتأكيده عليهما في الأحاديث التي ذكرت دليل على وجوبهما وأنهما تابعان للوجه. وفي هذا الحديث ذكر أنه غسل وجهه ثلاثاً، وقد عرفنا أن الوجه ما تحصل به المواجهة، وحده طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وعرضاً من أصل الأذن إلى أصل الأذن، هذا هو الوجه، وقد يكون فيه شعر، وذكرنا أن شعر اللحية الخفيف يغسل باطنه وظاهره، وأن الشعر الكثيف يكتفى بغسل ظاهره، ويستحب تخليله حتى يغسل داخله، وتغسل أيضاً جلدة الوجه التي تحت الشعر استحباباً، وإن اكتفى بغسل ما ظهر كفاه؛ ذلك لأنه الذي تحصل به المواجهة والمقابلة. وتثليث الوجه أيضاً من السنن فيمكن أن يكتفى بغسلة واحدة، والثنتان أفضل من الواحدة، والثلاث أفضل من الاثنتين، ولا يزاد على ثلاث. وذكر في هذا الحديث أنه أدخل يديه في الإناء أو في التور، وأنه غسل كل واحدة منها مرتين. وغسل اليدين يبدأ من رءوس الأصابع إلى المرفقين، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وسمي بذلك لأنه يرتفق به، أي: يتكأ عليه، وفي هذا الحديث ذكر أنه غسلهما مرتين، يعني: أنه غسل وجهه ثلاثاً واليدين كل واحدة غسلها مرتين إلى المرفقين.
دلك أعضاء الوضوء لتحقيق معنى الغسل
دلك أعضاء الوضوء لتحقيق معنى الغسل من المعلوم أن مسمى الغسل لا يكون إلا مع الدلك، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يكفي الابتلال، فلو ابتلت اليد والذراع بالماء ولو لم يمر يده عليها كان ذلك كافياً، ولكن الصحيح أن هذا لا يسمى غسلاً، فلابد في غسل كل يد أن يدلكها بيده الأخرى، فيدلك اليمنى بيده اليسرى ويدلك اليسرى بيده اليمنى، حتى يتحقق من ابتلالها بالماء وبذلك يسمى غاسلاً لها. وقد رأيت بعضهم عندما يتوضأ من هذه الصنابير يضع يده ويمدها ويترك الماء يصب عليها دون أن يفركها، وهذا في الحقيقة لا يسمى غسلاً، ما دام أن باستطاعته أن يدلكها ولم يفعل، فإن كان عاجزاً أو مقطوع اليد دلك بقدر المستطاع، ولو بركبته أو ما أشبه ذلك، حتى يتحقق أنه قد غسلها، فإن الذي يترك الصنبور يصب على يده قد يبقى في يده شيء لم يصله الماء، وقد يصله ولكنه لم يبتل به، والقصد من الغسل هو تنظيفه، وذلك إنما يحصل بتبليغ الماء له بدلكه وبفركه ولو مرة واحدة، هذا هو حقيقة الغسل. والذي يغمس الإناء في الماء ثم يرفعه لا يقال: إنه غسله، حتى يدلكه، والذي يغمس الثوب في الماء ثم يرفعه، يقال: غسله، حتى يدلكه ويفركه، فكذلك غسل الوجه لا يكون إلا بإمرار اليد عليه، وغسل اليد لا يكون إلا بإمرار اليد الأخرى عليها، وغسل الرجل كذلك.
حكم تخليل الأصابع في الوضوء
حكم تخليل الأصابع في الوضوء ومن تمام غسل اليدين أن يخلل أصابع يديه بإدخال بعضهما في بعض حتى يتحقق أن ما بينهما قد تبلل، هكذا قال بعض العلماء، وبعضهم يقول: يكتفي بتحريك أصابعه، فإن تحريكهما يبللهما ويكون ذلك غسلاً لهما. ولكن التخليل أولى.
وجوب تعميم جميع الرأس بالمسح
وجوب تعميم جميع الرأس بالمسح أما مسح الرأس فذكر أنه لابد من مسح الرأس كله، وفي هذا الحديث أنه أقبل بيديه وأدبر، والواو هاهنا لا تقتضي الترتيب، والصواب أنه أدبر وأقبل، أي: أنه بل يديه بالماء ثم بدأ بمقدم رأسه -وهو الناصية- ومر بيديه إلى قفاه، يعني إلى مؤخر الرأس، ثم رد يديه إلى المكان الذي بدأ منه، فمرت يداه على جميع رأسه. ويؤخذ من صفة مسح الرأس في هذا الحديث ما يلي: أولاً: أنه لم يقتصر على بعض الرأس بل مسحه كله. ثانياً: أنه لم يكمل المسح ثلاثاً بل مسحه مسحة واحدة واكتفى بها. ثالثاً: أنه أمرَّ يديه على جميع الرأس. فذلك دليل على تعميم الرأس، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يكفي مسح جزء يسير من الرأس حتى ولو كان شعرة واحدة، ولكن هذا في الحقيقة لا يسمى مسحاً، وذهب بعضهم إلى أنه يكفي مسح المقدمة التي هي الناصية، وهذا أيضاً ليس بصحيح، بل لابد من تعميم مسح الرأس على ما في هذا الحديث، ولم يأت حديث يدل على الاقتصار على مسح بعض الرأس، إلا حديث المغيرة الذي فيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) ، وهذا الحديث دل على أنه كان قد أخرج ناصيته، يعني مقدم رأسه، وكان على رأسه عمامة قد شدها، وأحكم شدها فمسح على الناصية وكمل المسح على العمامة ولم يقتصر على الناصية، فلا دلالة في هذا الحديث على الاقتصار على بعض الرأس. والذين قالوا: إنه يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس، قالوا: إن الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، فقالوا: المعنى: امسحوا بعض رءوسكم، وهذا ليس بصحيح، بل الباء فيها للإلصاق، أي: ألصقوا المسح برءوسكم، هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية، فعرف بذلك أنه لا دليل يوجب الاقتصار على مسح بعض الرأس؛ بل الأصل مسح الرأس كله. وهذا المسح لا يكرر وذلك لأنه تعبد، ولا يحصل منه تنظيف ولا تنشيط، وقد يكون على الرأس شعر فلم يشرع غسله للمشقة فاكتفي بمسحه لامتثال الأمر، ولإجراء الحكم بأداء هذه العبادة.
مسح الأذنين وغسل الرجلين
مسح الأذنين وغسل الرجلين أما الرِجلان فذكر أنه غسل رجليه ولم يذكر عدداً، وتقدم في الحديث قبله أنه غسلهما ثلاثاً. لم يذكر في هذا الحديث الأذنين ولا في الحديث الذي قبله، وقد ذكرنا أن الأذنين يمسحان مع الرأس، وأنه ورد حديث بلفظ: (الأذنان من الرأس) ، وورد كيفية مسح الأذنين بأن يبل إصبعيه السبابة والإبهام، فيدخل السبابتين في الصماخين ويمسح بالإبهامين ظاهر الأذنين، ولا يلزمه أن يتتبع الغضاريف الداخلية للأذان بل يكتفي بمسح الظاهر. وأما الرجلان فلابد من غسلهما كما تقدم، وقد تقدم الوعيد الشديد على التهاون في غسل الرجلين، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار) ، ففيه التأكيد على غسلهما، وأن الغسل لابد فيه من الدلك والفرك، ولا يسمى غاسلاً إلا إذا دلك المغسول، فيصب الماء على الرجل المغسولة ويدلكها بيده أو بيديه حتى يتأكد من بلوغ الماء إلى جلدة الرجل. والرِجل هي مظنة الوسخ؛ لأنها تلاقي التراب والغبار ونحو ذلك، فلأجل ذلك يتأكد من تنظيفها ولكن بدون مبالغة وبدون كثرة صب للماء، بل يصب عليها بقدر ما يحصل به النظافة، ويثلثها أيضاً كما تقدم، ويتعاهد أصابع الرجلين، وغالباً أنها تكون متلاصقة فيتعاهد ما بينها، فيخلل ما بين أصابع رجليه بأصابع يديه، وبذلك يحصل تمام الغسل.
الدعاء بعد الفراغ من الوضوء
الدعاء بعد الفراغ من الوضوء وبعد الانتهاء من الغسل لم يذكر الدعاء، وقد وردت أحاديث في أن من انتهى من وضوئه فإنه يدعو بما ورد، ومن ذلك التشهد بأن يرفع نظره إلى السماء ويقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) ، ورد أن من قال ذلك بعد الوضوء طبع عليها بطابع فلا تفتح إلا يوم القيامة عند الحساب؛ لأنها شهادة بعد أداء هذا العمل، فكأنه يقول: إنني توضأت لله الذي هو الإله الحق، ولا يصلح أن يكون إلهاً غيره، فيستفيد بذلك إخلاص عمله، هذا هو الأصل، ويدعو إذا تيسر له الدعاء بأن يقول مثلاً: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) ، أخذاً من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] في سورة البقرة، يعني: اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين حتى أكون من الذين تحبهم، وزاد بعضهم: (واجعلني من عبادك المؤمنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، وذلك للآيات التي فيها مدح عباد الله بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فعلى كل حال هذا هو الوارد.
حكم التسمية قبل الوضوء
حكم التسمية قبل الوضوء لم يذكر في هذا الحديث التسمية قبل الوضوء، وقد وردت في ذلك أحاديث تدل على أنها واجبة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ومحلها عند ابتداء غسل اليدين أو عند ابتداء المضمضة، يقول: (باسم الله) ، ويرى بعض العلماء أنها واجبة ولكنها تسقط عن الناسي والجاهل، وأما المتذكر فإنه يأتي بها بقوله: (باسم الله) ، ويكتفي بذلك، وإن أتمها بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، جاز ذلك. ويسأل كثير من الإخوة فيما إذا توضأ بداخل الحمامات، ففي تلك الأماكن المستقذرة لا يؤتى بذكر الله؛ بل يقتصر على ذكر الله تعالى بقلبه، وقبل أن يدخل يأتي بالبسملة، ولعل ذلك كافٍ، ويستحب أن يستنجي في داخل الحمام، وبعد ذلك يخرج ليؤدي الوضوء خارج الحمام؛ حتى يتمكن من التسمية حيث لا محذور.
حكم الإتيان بأذكار مخصوصة عند غسل أعضاء الوضوء
حكم الإتيان بأذكار مخصوصة عند غسل أعضاء الوضوء وأما الأذكار التي عند كل عضو، فقد ذكر بعضها النووي في كتابه الأذكار، وذكر أنه إذا غسل وجهه قال: (اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ، وإذا غسل يده قال: (اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني كتابي بشمالي) ، فإذا مسح رأسه قال: (اللهم أظلني تحت ظل عرشك) ، وإذا غسل رجليه قال: (اللهم ثبت قدمي على الصراط) ، ولكن هذه الأدعية لا دليل عليها، وإن كانت غير محظورة، وهي أدعية مفيدة لكن تخصيص هذا المكان بها لم يكن وارداً شرعاً.
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن) قال المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) . وعن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) ، وفي لفظ لـ مسلم: (رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل) ، وفي لفظ لـ مسلم: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) ] .
مشروعية البدء باليمين في الوضوء
مشروعية البدء باليمين في الوضوء دلالة الحديث الأول، وهو قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) ، فيه دلالة على أنه يبدأ بغسل الميامن قبل غسل المياسر، فتقدم اليد اليمنى في الوضوء على اليسرى، وتغسل الرجل اليمنى قبل اليسرى، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل؛ وذلك لأنه يحب التيمن، والتيمن مشتق من اليُمن، واليُمن: هو البركة وكثرة الخير، فاليمين مقدمة على اليسار، ولذلك فضل الله أصحاب اليمين وجعلهم أهل السعادة، بينما جعل أصحاب الشمال أهل الشقاوة.
مشروعية البدء باليمين في سائر الأمور الفاضلة
مشروعية البدء باليمين في سائر الأمور الفاضلة وفي هذا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في الأمور الفاضلة، ففي الوضوء يغسل اليمنى قبل اليسرى من اليدين والرجلين، وفي الاغتسال يبدأ بغسل شقه الأيمن قبل الأيسر، وكذلك في تنعله، أي: في لبس النعل أو الخف كان يلبس اليمنى قبل اليسرى، وقد ثبت عنه أنه قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين -يعني: إذا لبس- وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع) ، وإذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى، وإذا خرج أخّر رجله اليمنى، لتكون اليمنى أول ما يدخل وآخر ما يخرج، وإذا دخل بيته قدم اليمنى وإذا خرج أخّر اليمنى، لتكون اليمنى أول ما يدخل في البيت فهو أشرف من السوق ونحوه، وإذا دخل بيت الخلاء ونحوه قدم اليسرى، وإذا خرج أخّر اليسرى لتكون اليمنى آخر ما يدخل وأول ما يخرج؛ وذلك لأنه مكان مستقذر فتكرم فيه اليمنى. كذلك أيضاً في ترجله -أي تسريح شعره- إذ كان له صلى الله عليه وسلم شعر يبلغ إلى شحمة الأذن أو إلى العاتق، كان إذا غسله بدأ بغسل شقه الأيمن قبل الأيسر، وإذا رجله بدأ بالأيمن قبل الأيسر. وهكذا أيضاً في لبس الثوب يدخل كم اليد اليمنى قبل اليسرى، وكذا في السراويل وأشباه ذلك، ولا شك أن القصد من ذلك كله تكريم اليد اليمنى، وهكذا أيضاً في الأكل، فقد شرع الأكل باليمنى؛ وذلك لأنها محل اليُمن والبركة والخير، وأمر بالمصافحة باليد اليمنى، وكذلك الأخذ والإعطاء فقال عليه السلام: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) . وكان يأخذ بيمينه ويعطي بيمينه، ويصافح بيمينه، كل ذلك لأجل تفضيل اليمين.
استخدام الشمال في الشئون المستقذرة
استخدام الشمال في الشئون المستقذرة وجعل اليد اليسرى للأشياء المستقذرة، ونهى أن يستنجى باليمين، كما سيأتي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ، فجعل ذلك لليد اليسرى؛ لأن هذا شيء مستقذر. فاليمين مشتقة من اليمن وهو البركة وكثرة الخير، فالشرع جاء بتقديم اليمين في الأشياء المحبوبة، وجعل الشمال للأشياء المستقذرة كالاستنجاء والاستجمار والامتخاط وإزالة الأقذار وما أشبه ذلك، وكل منهما يد ولكن اليمنى تقدم تفاؤلاً باليمن والبركة والخير.
الإنكار على من يستعمل الشمال في الطيبات ويترك اليمين
الإنكار على من يستعمل الشمال في الطيبات ويترك اليمين وقد أنكر النبي عليه السلام على رجل رآه يأكل بشماله فقال: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر) ، فعوقب ذلك الرجل بأن أجيبت دعوته عليه السلام فيه فلم يستطع بعد ذلك أن يستعمل يمينه في الأكل ولا في غيره، عقوبة له لما امتنع وتكبر عن الأكل باليمين، وقد رأينا وسمعنا كثيراً من الذين خالفوا هذه السنة والشريعة فصار أحدهم يأكل ويشرب بشماله ولا يبالي بالإرشادات النبوية، وربما أن بعضهم يفضل العمل بها ويدعو إلى ذلك، ويذكر أن الذين يعملون بالشمال نجحوا في أعمالهم وأنهم وأنهم، ولا شك أن هذا مصادمة للشريعة، وطعن في تعاليم الإسلام. فعلى المسلم أن يتجنب أولئك وأن يعمل بالشريعة بقدر المستطاع.
حكم تقديم شمائل الأعضاء قبل ميامنها في الوضوء
حكم تقديم شمائل الأعضاء قبل ميامنها في الوضوء وتقديم اليمين على اليسار في الوضوء من السنن والمكملات، ولو أن شخصاً غسل يساره قبل يمينه ارتفع الحدث عنه ولم يؤمر بالإعادة، سواء في اليدين أو في الرجلين، ولكنه ترك الأفضل والسنة، فالسنة والأفضلية في تقديم اليمين كما تقدم في سائر الأشياء المحبوبة.
شرح حديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين)
شرح حديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) أما الحديث الثاني في صفة الوضوء فقد جاء عن نعيم المجمر، وهو من التابعين، وكان يجمر المسجد، يعني: يطيبه بالدخنة، فيأتي بالجمر وبالدخنة التي يطيب بها المسجد فاشتهر باسم نعيم المجمر، وقد روى عن أبي هريرة صفة الوضوء، فنقل أن أبا هريرة لما توضأ غسل يديه إلى العضد حتى كاد أن يبلغ إلى المنكب، وغسل الرجلين فرفع حتى غسل نصف الساق أو نحو ذلك.
معنى الغرة والتحجيل ومفهوم الزيادة فيهما
معنى الغرّة والتحجيل ومفهوم الزيادة فيهما وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) ، الغرة: بياض الوجه، والتحجيل: بياض اليدين والرجلين. وقد صح هذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم من عدة طرق، وأخبر بأن أمته تعرف بين الأمم ببياض الوجوه وببياض اليدين والرجلين، فالذين يحافظون على الوضوء، ويحافظون على الطهارة، ويحافظون على الصلاة، تكون لهم علامة وميزة يتميزون بها، وهو أنهم يأتون بيض الوجوه، وهو معنى الغرة، كما يأتون بيض الأيدي والأرجل، وهو معنى التحجيل. فأخذ أبو هريرة من هذا الحديث أنه يستحب أن تطول الغرة ويطول التحجيل، ولكن الغرة لا يمكن تطويلها؛ لأن الوجه يغسل كله فلا يمكن أن يزاد فيه، وكذلك يمسح الرأس ولا يزاد فيه الرقبة؛ لأنها لا تمسح ولا تغسل على الصحيح، فالذي يغسل هو الوجه كله، وهو الذي يكون بياضه غرة، فلا يمكن إطالة الغرة ولا الزيادة فيها، ولا يجوز النقص منها، ولا يجوز أن يقتصر على بعض الوجه ولا أن يغسل الرأس، فالرأس فرضه المسح كما هو معروف. وقد اجتهد أبو هريرة فغسل بعض العضد، وغسل بعض الساق، وقصد بذلك أن يكون البياض في اليدين أطول، فلا يقتصر التحجيل على بياض الذراع وبياض القدم، بل يكون العضد أبيض، وكذلك الساق. وقد استدل أبو هريرة بهذا الحديث، واستدل أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) ، والحلية: هي الزينة التي يحلى بها أهل الجنة، فقد ذكر الله أنهم: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33] ، فمعناه أن أهل الجنة يحلون -بمعنى: يلبسون- حلياً للزينة وللكرامة، وتلك الحلي تكون في اليد وفي العضد ونحو ذلك، فالحلية تكون إلى منتهى الوضوء، فاستحب بعض العلماء أنه إذا توضأ يغسل بعض العضد ويغسل بعض الساق حتى يكون البياض أكثر.
قوله: (فمن استطاع أن يطيل غرته) مدرج وليس من الحديث
قوله: (فمن استطاع أن يطيل غرته) مدرج وليس من الحديث وعلى الصحيح فإن آخر الحديث الوارد عن أبي هريرة وهو قوله: (فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل) ، مدرج من كلام أبي هريرة، والحديث المرفوع انتهى عند قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) ، فيعرفهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذه العلامة إذا وردوا عليه الحوض، فإن علامتهم بارزة ظاهرة يعرفهم ويميزهم من بين من ليسوا من أمته، سواء كانوا ممن لم يدخل في الإسلام من هذه الأمة، ولم يطبق شريعة الإسلام ولم يأت بهذه الطهارة، أو من الأمم غيرهم، فيتميزون عن غيرهم بالغرة والتحجيل، فهو عليه السلام قائد الغر المحجلين. وبكل حال نقول: إن هذه الأمة تميزت بهذه الميزة الظاهرة، فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل.
حكم الزيادة في غسل الأعضاء
حكم الزيادة في غسل الأعضاء ذهب بعض من العلماء إلى أنه يستحب أن يزاد في غسل الأعضاء، فيغسل بعض العضد ويغسل بعض الساق حتى يكون البياض أكثر. وذهب آخرون إلى أنه لا حاجة إلى الزيادة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر هذه الزيادة ولا فعلها، وإنما أخبر بعلامة أمته في الآخرة، وأن الله يكرمهم بأن يجعل لهم ميزة يتميزون بها وهي الغرة والتحجيل، ويكرمهم أيضاً إذا دخلوا الجنة بأن يحليهم بالذهب في الموضع الذي يبلغه الوضوء، فتحلى أيديهم إلى منتهى الوضوء؛ سواء إلى العضد أو إلى منتهى الذراع، فهذه ميزة وكرامة ميز الله بها هذه الأمة. ومعنى ذلك أن من لم يكن من المحافظين على هذه الطهارة فلا حظ له في هذه العلامة، ومن لم يكن محافظاً على هذه الصلاة لم يكن من الذين يحضون بالعلامة الأخرى وهي موضع السجود، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من دخل النار من أهل الصلاة لم تأكل النار منه مواضع السجود فقال: (إن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود) ، فمن لم يكن من أهل السجود في الصلاة لم يحض بهذه العلامة، وهذا دليل على أهمية هذه الطهارة وهذه الصلاة، وأن الذين يحافظون على الطهارة يحضون بعلامة بارزة ظاهرة، وأن الذين يحافظون على الصلاة يعتق الله أعضاءهم من النار حتى ولو عذبوا، فيكونون إلى النجاة ولو دخلوا النار بسيئات وبأعمال اقترفوها. إذاً يستحب عند بعض العلماء أن يغسل إلى نصف الساق أو ربع الساق، وأن يغسل إلى نصف العضد أو نحو ذلك، وإذا لم يفعل واقتصر على ما أمر الله به في قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ومنتهى الكعب هو مستدق الساق، وإلى المرفقين، وبمعنى: يغسل المرفقين ويدير الماء عليهما، فإذا فعل ذلك فقد كفى إن شاء الله وحصل على المطلوب، وهو رفع الحدث. فالواجب على المسلم أن يفعل المأمور به ويحرص على المندوب، فعندنا مأمور به وهو مفروض واجب، وعندنا مسنون أي من سنن الوضوء، فالحرص عليه والعمل به يكون من تمام العبادة ومن أسباب قبولها إن شاء الله.
الأسئلة
الأسئلة
الجمع بين رواية: (أولاهن بالتراب) ورواية: (وعفروه الثامنة بالتراب)
الجمع بين رواية: (أولاهن بالتراب) ورواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) Q كيف نوفق بين قوله: (سبعاً أولاهن بالتراب) وقوله: (وعفروه الثامنة بالتراب) ؟ A التوفيق أن الغسلة الأولى تعد عن اثنتين؛ لأن فيها ماءً وتراباً، فتكون غسلة من حيث أنها مرة واحدة، وغسلتين من حيث أنه اجتمع فيها الماء والتراب.
طهارة الإناء إذا ولغ فيه الخنزير
طهارة الإناء إذا ولغ فيه الخنزير Q هل حكم الخنزير مثل حكم الكلب إذا ولغ في الإناء؟ A من العلماء من جعله مثله أو أشد منه لأنه نجس العين، ولكن إذا نظرنا إلى الحكمة وإلى ما يتعلق بنجاسة الريق ولزوجته فإننا نجعله خاصاً بالكلب؛ لأن الكلب هو الذي في لعابه لزوجة، وهذه اللزوجة ليست موجودة في الخنزير ولا في غيره، حتى قالوا: إن بول الكلب كسائر النجاسات، فيغسل حتى يزول أثر النجاسة -وهو في ذلك كبول الآدمي وغيره- ولا يلزم التقييد فيه بغسله سبع مرات أو أقل أو أكثر، ولا بوجود التراب في أول الغسل أو آخره.
متى يستخدم التراب في أول الغسل أم في آخره؟
متى يستخدم التراب في أول الغسل أم في آخره؟ Q إذا ولغ الكلب في الإناء فهل يكون التراب في أول غسلة أم في آخر غسلة؛ لأنه قد جاء في بعض ألفاظ الحديث: (أولاهن) وفي بعضها: (أخراهن) ؟ A يدل هذا على الجواز، بمعنى أنه يجوز أن تكون أولاهن وأن تكون أخراهن، ولكن نختار الأولى حتى لا يحتاج إلى غسلة تاسعة؛ لأن التراب إذا كان في الثامنة احتيج إلى تاسعة ليزال بها أثر التراب.
شرح عمدة الأحكام [2]
شرح عمدة الأحكام [2] الإسلام خير الأديان نظافة وآداباً، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمراً إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك.
شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث)
شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث) قال المصنف رحمه الله: [باب دخول الخلاء والاستطابة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) ، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) ] . هذا الباب من تمام الطهارة، يعقده العلماء في مؤلفاتهم لمسيس الحاجة إليه، ولو كان شيئاً طبيعياً عادياً، ولو كان شيئاً مما يستحيا من ذكره، ولكن لا حياء في الدين، والله عز وجل لا يستحي من الحق، وهذا الباب يتعلق به أحكام وأدعية لابد من معرفتها؛ فلأجل ذلك بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وعلمهم كيفية ذلك. وثبت في صحيح مسلم: أن اليهود قالوا لـ سلمان الفارسي: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة -يعني: حتى ما تفعلونه عند التخلي- فقال: نعم، والله لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، ونهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستجمر بها، وأن نمس عوراتنا باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) ، فبين لهم صحة ما قالوا وأن في ذلك علماً وفائدة. فالأحكام التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كلها ذات أهمية، وكذلك الأدعية التي يدعى بها. كذلك أيضاً نقول: إن الله علم نبيه صلى الله عليه وسلم ونبيه علم أمته، وهذه التعاليم تعاليم لها أهميتها. فمنها ما يتعلق بالأدعية التي فيها حفظ الإنسان من الشرور. ومنها ما يتعلق بالآداب التي فيها حفظ للإنسان من النجاسة. ومنها ما يتعلق بالأحكام التي فيها الامتثال وتعظيم حرمات الله عز وجل. فهذا الحديث الأول يتعلق بالأدعية. وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الحشوش محتضرة) ، (محتضرة) يعني: تحضرها الشياطين، فأمر بأن يتحصن الإنسان من الشياطين بذكر الله، ومعلوم أن الشياطين تألف الأماكن المستقذرة، وتألف الأماكن النجسة، فإذا لم يتحفظ الإنسان من الشياطين عبثت به، وورد أيضاً في بعض الأحاديث أن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم، فإذا لم يتحفظ منها ولم يتحصن منها عبثت به فأوقعته في نجاسة أو في خبث حسي أو معنوي، والحسي يتمثل بأن يتقذر بالنجاسة ولا يبالي، وأما معنوي فبأن يوسوس ويتوهم ويقع في وساوس شيطانية تدوم معه، فلأجل ذلك أمر بالاستعاذة وبذكر اسم الله تعالى.
ما يقال عند دخول الخلاء ومعنى الخبث والخبائث
ما يقال عند دخول الخلاء ومعنى الخبث والخبائث والثابت عند الدخول إلى الخلاء أن يذكر اسم الله للتحصن، وأن يدعو بهذا الدعاء فيقول: (بسم الله) ، يعني أتحصن وأتحفظ باسم ربي ليحصنني ويحفظني من كل سوء ومن كل شر. ثم يقول: (أعوذ بالله من الخُبْث -أو من الخُبُثْ- والخبائث) . والخُبُث: الذكور، والخبائث: الإناث. أو الخُبْث يعني: الشر، والخبائث: الأشرار. فيستعيذ من ذكران الشياطين وإناثهم، أو من الشر وأهل الشر. هذا هو المعنى في هذه الجملة، فكأنه يقول: أعوذ بك يا ربي! وأتحفظ بك وأتحصن بك وأستجير بك من الشرور ومن أهل الشرور، فإذا قال ذلك وهو صادق حماه الله وحفظه من شر هذه الشياطين. وقد ورد زيادة في بعض الروايات أنه يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم) فيخصص بعدما يعمم، فنقول: (من الرجس النجس) ، الرجس والنجس معناها واحد، ثم فسره بأنه الشيطان الرجيم، فخص الشيطان بعدما عم الشر وأهل الشر، أو الذكران والإناث من الشياطين، سواء من شياطين الجن أو مردتهم أو من شياطين الإنس، فيكون قد استعاذ من الشر وأهله.
الإتيان بدعاء دخول الخلاء قبل دخوله
الإتيان بدعاء دخول الخلاء قبل دخوله هنا مسألة: متى يقول هذا الذكر؟ يقوله عندما يريد أن يدخل بيت الخلاء؛ لأنه لا يستحب أن يقوله في نفس المكان المعد للتخلي؛ لأنه مكان مستقذر، فتنزه أسماء الله أن يؤتى بها في ذلك المكان، وإن كان يجوز أن يذكر الله بقلبه. فيكون الذكر المشروع عند دخول الخلاء: أولاً: التسمية. ثانياً: الاستعاذة من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم.
ما يقال عند الخروج من الخلاء
ما يقال عند الخروج من الخلاء أما عند الخروج من الخلاء فإنه يقول: (غفرانك) ، كما ورد في بعض الأحاديث، ومناسبة طلب المغفرة أنه لما أحس بخفة من ثقل الأذى تذكر ثقل الذنوب فسأل الله المغفرة، فقال: أسألك تخفيفاً من الذنوب كما خففتني من الأذى. وقد ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بعد الخروج: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) ، وفي بعض الروايات أو بعض الأحاديث أنه كان يقول: (الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ منفعته وأذهب عني أذاه) وكل ذلك اعتراف بفضل الله تعالى ونعمته. فيكون الدعاء عند الدخول بالاستعاذة من الشيطان، وعند الخروج بحمد الله تعالى وشكره على ما أنعم به على عبده، وهذا ما يتعلق بما يأتي به في هذا المكان من الأدعية.
شرح حديث: (إذا أتيتم الغائظ فلا تستقبلوا القبلة)
شرح حديث: (إذا أتيتم الغائظ فلا تستقبلوا القبلة) أما الحديث الثاني فجاء به لأجل تبيين كيفية الجلوس أثناء قضاء الحاجة، فأخبر بهذا الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحترم الكعبة المشرفة التي هي قبلة الصلاة، فنهاهم أن يستقبلوها بغائط أو بول، وأمرهم بأن يستقبلوا المشرق أو المغرب، حتى تكون القبلة عن يمين أحدهم أو عن يساره؛ وذلك لأنه يخاطب أهل المدينة، وأهل المدينة يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال في الصلاة، فيكون المصلي قد جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه، فأمرهم في التخلي أن يجعلوا القبلة عن يمين أحدهم أو عن يساره، إما أن يشرقوا فتكون القبلة عن اليمين، أو يغربوا فتكون القبلة عن اليسار، فلا يستقبلون القبلة فيجعلونها أمامهم وهم يقضون الحاجة، ولا يستدبرونها فيجعلونها خلف ظهورهم عند ذلك التخلي؛ احتراماً للقبلة التي هي قبلة المصلي، فتنزه هذه الجهة التي هي قبلة الصلاة عن أن يستقبلها الإنسان في حالة التخلي، هكذا أرشدهم عليه الصلاة والسلام.
عموم النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الأبنية وغيرها
عموم النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الأبنية وغيرها وهذا الحديث عام في جميع الحالات، وقد عمل به الصحابة، فهذا أبو أيوب راوي الحديث يقول: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) ، لما فتحت الشام في عهد عمر دخلها المسلمون واستوطنوها، وصارت أماكن التخلي في داخل البيوت بخلاف أهل المدينة، فإن أهل المدينة كانوا في قرية وكانوا يقضون حوائجهم في البقيع، فيذهب أحدهم إلى خارج البلد ويقضي حاجته في الصحراء، ولكن لما توسعت المدن احتاجوا إلى أن يجعلوا بيوت الخلاء في داخل الدور، لبعد الصحراء التي كانوا يتخلون فيها، كما في هذه البلاد وغيرها، حيث أصبحت أماكن التخلي في داخل البيوت، وهي التي تسمى بالحمامات، وقديماً كانت تسمى صهاريج أو نحو ذلك، وتسمى أيضاً مراحيض ودورات مياه أو بيوت خلاء أو كُنُف، وهي: جمع كنيف، وهي الأماكن المعدة لقضاء الحاجة. فنهوا أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو بغائط، فيقول أبو أيوب: لما قدمنا الشام وجدنا المراحيض، أي المقاعد وجدناها مهيأة ومركبة باتجاه القبلة، فلم نتجرأ أن نجلس فيها، فصار أحدنا إذا جلس انحرف عن يمينه أو عن يساره واستغفر الله عما يقع فيه من الخطأ ونحو ذلك، وذلك دليل على أنهم عمموا الحكم واعتقدوا أن المنع عام في داخل البيوت كالحمامات، وفي خارجها كالصحاري ونحوها، فالحكم فيها على عمومه ليس له مخصص، هذا هو الذي فهمه هذا الصحابي رضي الله عنه. وقد أباح بعض العلماء استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في داخل المباني أو نحوها، واستدلوا بحديث ابن عمر الذي ذكر بعد هذا الحديث، ولكن الصحيح أن الحكم عام، وهو الذي رجحه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم في (المحلى) والأئمة الثقات المعلومون المشهورون، وقد اعتذروا عن الأحاديث التي فيها شيء من الرخصة بأنها محمولة على وجود عذر، أو لأنها من الخصائص أو نحو ذلك، فعلى الإنسان أن ينتبه إذا دخل الخلاء، فمتى كان موجهاً للقبلة فإن عليه أن ينحرف ويميل عنها قليلاً حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، وكذلك أيضاً يُنتبه عند تأسيس الدورات ألا تكون مستقبلة القبلة حتى لا يعتقد من يدخلها أن ذلك جائز؛ لأن الأحاديث عامة، كما فهم ذلك أبو أيوب من هذا الحديث، وكما هو ظاهر في عمومات النصوص التي فيها النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط، وكذلك حديث سلمان: (نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط وأن نستدبرها) . وهذا لأجل احترام جهة القبلة التي هي جهة المصلي؛ لأنها أشرف الجهات وأفضلها، هذا هو الاحتياط في هذا الباب، وإن كان قد رخص أكثر العلماء في استقبال القبلة واستدبارها إذا كانت المراحيض في داخل البناء، ولكن الأحوط والأرجح هو العمل بالعموم.
شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام)
شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء) ، والعنزة: الحربة الصغيرة. والإداوة: إناء صغير من جلد. وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء) ] . هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الحاجة، وقد عرفنا أن الشرع الشريف تطرق إلى كل شيء تمس إليه الحاجة، ولا شك أن مما تمس إليه الحاجة أمور الطهارة، ولا شك أن الأقذار من البول ونحوه نجسة العين، فالشرع جاء بتعليم الإنسان كيف يتوقاها، وكيف يتطهر منها، وعلمه أيضاً كيف يجلس وكيف يتنزه وما أشبه ذلك، مما يدل على كمال هذه الشريعة وتضمنها لكل ما تمس إليه الحاجة، وقد ذكرنا أن اليهود قالوا لـ سلمان: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) . وتقدم لنا في حديث أبي أيوب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) ، وأخذنا من هذا الحديث أنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حالة التبول ونحوه، سواء في داخل البيوت أو خارجها، حيث إن أبا أيوب فهم الأمر على الإطلاق، فصار هو والصحابة إذا دخلوا تلك المراحيض وتلك المقاعد المبنية نحو الكعبة ينحرفون عنها ويخالفون ما بنيت عليه.
اختلاف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها داخل البناء
اختلاف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها داخل البناء وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز الاستدبار في داخل البيوت أو الاستقبال، واستدلوا بحديث ابن عمر، حيث ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة مستقبل الشام، وكان ذلك في المدينة، وعليه فتكون القبلة في جهة الجنوب والشام في جهة الشمال، فهو يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة. فجاء عن بعض العلماء أنه قال: يجوز الاستدبار فقط أخذاً بهذا الحديث، وبعضهم قال: لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار، وحملوا هذا الحديث على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: يحمل هذا على البنيان، ويحمل حديث أبي أيوب ونحوه على الصحراء، فإذا كنت في الصحراء فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وإذا كنت في داخل البيوت فلك ذلك، جمعاً بين الأدلة، ولكن الراجح من حيث الدليل عموم النهي في الأدلة الموجهة إلى الأمة، وأن هذا الحديث يعتبر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يكون هناك عذر، حيث إنه لو شرق أو غرب لكان مقابلاً للمارة أو الناس، ويمكن أن يكون استدباره للكعبة ليس استدباراً كلياً بل يكون مائلاً عنها يمنة أو يسرة. فالحاصل: أن أحاديث النهي عامة موجهة إلى الأمة، فالأحوط للإنسان ألا يستقبل ولا يستدبر حتى في داخل البيوت، وإذا بنيت المراحيض موجهة إلى الكعبة أو مستدبرة لها فإن عليك أن تنحرف يمنة أو يسرة ولو قليلاً، حتى لا يصدق عليك الاستقبال ولا الاستدبار، ولعل ذلك تشريف لجهة القبلة التي هي جهة الصلاة، والتي هي جهة بيت الله الحرام، فيشرف وينزه عن أن يستقبل في هذه الحالة المستقذرة، وهذا هو الراجح من حيث الدليل.
شرح حديث أنس في إثبات استنجاء النبي بالماء بعد قضاء الحاجة
شرح حديث أنس في إثبات استنجاء النبي بالماء بعد قضاء الحاجة ومن الأحاديث في هذا الباب حديث أنس في الاستنجاء، فقد ذكر أنه كان إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم للخلاء أو ذهب ليتخلى حمل إداوة من ماء وعنزة ليستنجي بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: (يدخل الخلاء) يعني: يذهب للتبول أو للغائط، وقوله: (أحمل أنا وغلام نحوي) أي: مثلي ومقارب لي في السن، وذكر أن هذا الغلام من الأنصار، فيحمل أحدهما الإداوة مرة والآخر يحمل العنزة، ومرة يكون العكس. والإداوة: قدح يتخذ للشرب يصنع من حجارة أو يصنع من خشب أو من صفر أو نحاس. والعنزة: هي العصا التي في رأسها حديدة، وهي الحربة الصغيرة، والفائدة من العنزة إما أنه يحفر بها الأرض حتى يلين التراب إذا وقع البول عليه حتى يأمن رشاشه، أو أنها تركز ويجعل عليها ستر يستتر به، أو نحو ذلك.
مشروعية الاستنجاء أو الاستجمار بعد قضاء الحاجة، وأفضلية الجمع بينهما
مشروعية الاستنجاء أو الاستجمار بعد قضاء الحاجة، وأفضلية الجمع بينهما ذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذهب إلى الخلاء تبعه غلام بماء ليستنجي به ويتبع أحيانا ًبعنزة ليستتر بها، وقد فعل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة: فتبعه ابن عباس بماء مراراً، وكذلك المغيرة بن شعبة، وكذلك أبو هريرة وغيرهم، وأحياناً لا يذكرون الماء، وإنما يذكرون أنه يطلب منهم حجارة يستجمر بها، كما نقل ذلك ابن مسعود وأبو هريرة، وفي هذا دليل على الاكتفاء بالاستجمار ودليل على الاكتفاء بالاستنجاء أحياناً والأفضل الجمع بينهما إذا تيسر. والاستجمار: هو مسح أثر الغائط بالحجارة ونحوها ليزول جرم النجاسة، والاستنجاء: غسل أثرها بالماء حتى يطهر المكان، فإذا تيسر الجمع بينهما قدم الاستجمار ثم أتبعه الاستنجاء، وإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الاستنجاء أفضل؛ لأن الماء ينقي أكثر مما ينقي التمسح. والاستجمار أكثر ما يستعمل فيه الحجارة، ولكن قد يكتفى بكل ما يزيل أثر النجاسة، ومما يستعمل لذلك في هذه الأزمنة المناديل الورقية ونحوها، فإنها تكفي في إزالة أثر النجاسة وتنقية المكان، فإذا نظف المكان بإزالة أثره وبمسحه بهذه المناديل أو نحوها طهر المكان ولم يحتج إلى غسل، وإن غسل فمن باب الزيادة في الطهارة ومن باب النظافة وإزالة أثر النجاسة إزالة كلية. وإن لم يحصل المسح بالأحجار ولا بالمناديل ونحوها وغسل بالماء اكتفي بذلك. والغسل: هو أن يصب الماء ويدلك باليد اليسرى إلى أن يعود المكان إلى خشونته ويزول أثر النجاسة ولزوجتها ورائحتها ونحو ذلك، والاستنجاء يكون بالماء والاستجمار بالأحجار. وقد ورد الجمع بينهما في قصة أهل قباء الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ، فسُئلوا: ما هذه الطهارة؟ فأخبروا بأنهم يتبعون الحجارة الماء، أي: يتمسحون بالحجارة لتزيل جرم النجاسة ثم يغسلون فروجهم بالماء ليزيل الماء أثرها، فمدحوا بذلك، وجعلت هذه هي الطهارة: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ، وحيث ثبت الاستنجاء في حديث أنس وفي غيره من الأحاديث وأنه يقتصر عليه، وأكثر الناس يقتصرون على الاستنجاء الذي هو الغسل، ولكن قد يبالغ كثير من الناس في الغسل بالماء، ويوسوس إليه الشيطان أنه لم ينظف المحل، فيمضي عليه زمن طويل وهو يغسله ويخيل إليه أنه لم ينظف. وقد ذكر بعض العلماء أن الغسل لا يكون بأكثر من سبع غسلات، ولكن الأولى أن يقال: إنه يغسل الدبر إلى أن يعود إلى خشونته وتزول عنه لزوجة الغائط ونحوه، هذا هو الأصل، ولا حاجة إلى عدد، فقد ينظف بأقل من سبع، وقد يحتاج بعض الناس إلى أكثر، ولكن لا يبالغ ولا يتمادى مع الوساوس والأوهام.
الحكمة من حمل العنزة عند قضاء الحاجة في حديث أنس
الحكمة من حمل العنزة عند قضاء الحاجة في حديث أنس وأما العنزة فذكروا أن حملها لأمرين: الأمر الأول: أنه كان يحفر بها الأرض، وذلك لأن الأرض قد تكون صلبة، فإذا وقع البول عليها تطاير رشاشة على الثوب أو على الجسد فيتنجس منه؛ فلأجل ذلك قالوا: يختار أن يبول في أرض لينة رخوة حتى لا يتطاير الرشاش على بدنه أو ثيابه فينجس وهو لا يشعر، فيحفر الأرض الصلبة، أو يختار أرضاً رطبة لينة رخوة، وإذا كان في أرض مبلطة كما هو الحال اليوم في أكثر المراحيض فإنه يحتاط حتى لا يتطاير الرشاش، وذكروا أنه أيضاً إذا ألصق ذكره بالأرض أمن رشاش البول، وعلى كل حال فعليه أن يحتاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) ، والتنزه هو التحفظ من النجاسة وهو واجب حتى تقبل الصلاة، وحتى لا يصلي الإنسان وعليه شيء يبطل عبادته. وأما القول الثاني: فهو أنه كان يتخذها سترة، واستدلوا به على أن الإنسان إذا جلس على حاجته يستر نفسه عن أعين الناظرين، هذا إذا كان يبول أو يتغوط في صحراء. فكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أولاً: أنه يذهب بعيداً حتى يختفي عن أعين الناس، وإذا كان قريباً اتخذ سترة من شجرة أو جبل أو حائط أو شيء شاخص، أو ينزل في مكان منخفض من الأرض ليخفي شخصه؛ لأنه على حالة مستقذرة فيستر نفسه، وأحياناً يكون معه عنزة وهي حربة صغيرة فيغرسها في الأرض وينشر عليها ثوباً حتى يستره عن أعين الناظرين، فكل هذا دليل على تأكد الاستتار والاختفاء عن الناس.
شرح حديث: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)
شرح حديث: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه) وأما حديث أبي قتادة ففيه هذه المسائل:
النهي عن إمساك الذكر باليمين عند البول
النهي عن إمساك الذكر باليمين عند البول المسألة الأولى: قوله: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) . وفي هذا تكريم لليد اليمنى، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في الأشياء المستحبة، ويجعل شماله للأشياء المستقذرة، فيأكل بيمينه ويشرب بها، ويأخذ بها ويعطي بها، ويقدمها في الأشياء الفاضلة؛ فيقدمها في دخول المسجد، وفي لبس النعل، وثبت عنه أنه قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع) ، وهذا مما يدل على تفضيل اليمين، فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها، والله تعالى قد فضل أهل اليمين فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8] ، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] ، فجعل لأصحاب الميمنة ميزة ولأصحاب اليمين ميزة {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90-91] . فكثيراً ما يقدم الله تعالى ويمدح أهل اليمين، واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة، فلذلك ميزت اليمين وفضلت، فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره في حالة البول بيمينه تنزيهاً لها. ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليسرى؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول، فإذاً يمسكه إذا كان ولابد باليد اليسرى وينزه اليد اليمنى.
النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى
النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ، فلا يستنجي باليد اليمنى؛ لأن الاستنجاء: هو غسل أثر البول أو غسل أثر الغائط، وهو يحتاج إلى دلك، والدلك يكون باليد، فاليد اليمنى لا تباشر النجاسة ولا تباشر الفرج، فلا يمس المرء فرجه بيده اليمنى؛ بل يتولى ذلك باليد اليسرى، فيصب بيده اليمنى ويدلك فرجيه بيده اليسرى حتى ينظف أثر النجاسة، ثم بعد ذلك يغسل يده مما تلوثت به أو مما علق بها، وكل ذلك كما عرفنا لأجل تكريم اليد اليمنى، وقد ذكرت عائشة أن يد النبي صلى الله عليه وسلم اليسرى كانت للاستنجاء والاستجمار والتمخط ونحو ذلك من الأشياء المستقذرة.
هل يمسك السواك باليمين أم بالشمال؟
هل يمسك السواك باليمين أم بالشمال؟ وقد اختلف الفقهاء في إمساك السواك إذا أراد أن يستاك: هل يمسكه بيده اليمنى؛ لأن ذلك تنظيف وعمل مبرور؟ أم يمسكه باليد اليسرى لأن ذلك إزالة قذر وإزالة وسخ في الأسنان؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أنه يمسكه باليسرى؛ وذلك لأنه إزالة وسخ وإزالة قذر من الأسنان ومن الفم، مما علق من بقايا الطعام ونحو ذلك، كذلك إذا خلل ما بين أسنانه فإنه يتخلل باليد اليسرى؛ لأن ذلك كله من باب تكريم اليمنى، حتى لا تباشر ولا تقوم بالأشياء التي فيها قذارة أو فيها رائحة مستنكرة ومستكرهة أو نحو ذلك.
النهي عن التنفس في الإناء والحكمة من ذلك
النهي عن التنفس في الإناء والحكمة من ذلك المسألة الثالثة: (ولا يتنفس في الإناء) أمره هنا بأن لا يتنفس في الإناء، والمراد به عند الشرب، فالإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه، ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يناوله أناساً آخرين ليشربوا منه، وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون، فقد يخرج من أنفه إذا تنفس شيء من الأذى أو نحوه، أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر، فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب الذي هو أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: (يا رسول الله! إنا لا نروى بنفس واحد) ، أي أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى، قال: (فأبعد القدح عن فمك) ، يعني: إذا أردت التنفس فأخّر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس، أي: أنه يشرب، ثم إذا احتاج إلى تنفس أبان القدح ثم تنفس، ثم يشرب مرة ثانية، إلى ثلاث مرات، وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعبه عباً؛ فإنه من الكباد) ، يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة فإنها تنصب على كبده فتؤثر فيه، وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد إليها أمته حتى ينتفعوا بها في حياتهم، وإن كانت من الأمور العادية. فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلاً وسوف يشربه كله ولا يبقي منه شيئاً، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب. وقد ذكروا أيضاً أن في هذا تشبهاً بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبه بحيوان بهيم، مستقذر طبعاً التشبه به، فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات. والشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر.
شرح حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)
شرح حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله! لم فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ] . هذا حديث يتعلق بالطهارة التي هي التنزه من النجاسة. وفي الحديث دلالة على وجوب البعد عن النجاسة، وعلى أن البول من جملة النجاسات، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين -كأنهما جديدان- فأوحى الله إليه أو أطلعه على أنهما يعذبان، أو أسمعه شيئاً من عذابهما، فأخبر الذين معه بأنهما يعذبان، وأن الذي يعذبان فيه ليس كبيراً، أي: أنه ليس شيئاً صعباً ولكنه سهل، أو أنه يسير في أعين الناس. أحدهما: كان لا يستنز أو لا يستبرئ من البول، أي: لا يبالي بما أصاب البول من ثوبه أو من بدنه. والثاني: كان يمشي بالنميمة. ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين وغرزهما في كلا القبرين، من أجل التخفيف عنهما ما لم ييبسا، وهذا يدل على أمرين: أولاً: أن هذا مما أطلع الله عليه نبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لأحد غيره، والاطلاع لابد أن يكون بوحي. ثانياً: نعرف أنه لم يفعل ذلك إلا للتحذير من هذين الأمرين، وهما: التهاون بالبول، والسعي بالنميمة، وبيان أنهما ذنبان مما يستحق العذاب بهما، وأن العبد يعذب بتهاونه فيهما في قبره.
عدم التنزه من البول والنميمة من الكبائر
عدم التنزه من البول والنميمة من الكبائر وأما قوله: (وما يعذبان في كبير) ، فقد فهم منه بعض العلماء أنهما من صغائر الذنوب، وليس الأمر كذلك؛ بل هما من الكبائر، وحينئذ فما معنى قوله: (وما يعذبان في كبير) ؟ قال بعض العلماء: معناه أن تداركه والإقلاع عنه ليس شيئاً صعباً، أو ليس كبيراً في أعين الناس؛ بل إن الناس يتساهلون به، ويعتقدون أنه من أيسر الأمور ومن أهونها، وأنه من صغائر الذنوب، ولكنه وصل إلى أن يعذب عليه في القبر. فالشيء الذي يعذب عليه في القبر لا يكون من الصغائر، ولهذا ورد في رواية أنه قال: (وما يعذبان في كبير) ، ثم قال: (بلى إنه لكبير) ، فدل على أنه ليس بكبير عند الناس، ولكنه كبير عند الله، فلا يحتج بهذا على أنه ليس من الكبائر، بل هو من كبائر الذنوب.
عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر
عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر أولاً: عدم التنزه من البول، ورد في رواية: (لا يستنزه من البول) ، وفي رواية: (لا يستتر من البول) ، وفي رواية: (لا يستبرئ من البول) ، والمعنى واحد، أي أنه لا يبالي إذا وقع البول على ثيابه أو على جسده، فهو يقوم من غير استبراء، وربما يبول وهو يسير، وربما يقوم وهو يبول ونحو ذلك، فينجس بذلك بدنه وثيابه، والنجس لا تقبل له عبادة؛ لأن الله تعالى أمر بالطهارة في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وأمر بتطهير الثياب: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، ولا شك أن البول من جملة النجاسات، وجاء في هذا حديث أنه مما يعذب عليه، لماذا؟ لأنه إذا تنجست ثيابه وصلى لم تقبل صلاته وهو يحمل النجاسة، وإذا لم تقبل صلاته ردت عليه هذه الصلاة، وإذا بطلت صلاته فليس معه صلاة، والذي بطلت صلاته بطلت أعماله -والعياذ بالله-؛ فإن الصلاة عمود الدين. فعلم بذلك أن سبب العذاب في القبر هو عدم التنزه من البول وعدم الاستبراء منه، وقد ورد حديث آخر بلفظ: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) ، كأنه يقول: إن أكثر ما يقع العذاب في القبر بسببه؛ لأنه مما يتساهل أو يتهاون كثير من الناس به، مع كونه يفسد العبادة، ويفسد الصلاة، ويفسد أيضاً الطواف الذي يفسد بسببه الحج، وما أشبه ذلك، ولذلك صار من كبائر الذنوب. هذا الحديث يحث على التنزه من البول.
التنزه من البول وكيفيته
التنزه من البول وكيفيته أما كيفية التنزه من البول: فيكون بأن يتحفظ الإنسان من أن يصيب البول ثوبه أو بدنه، فعند التبول يتحرى مكاناً رخواً أو ليناً؛ حتى يأمن من رشاش البول وتطاير قطراته على ثيابه أو على ساقه أو نحو ذلك، والذي قد يوقعه في إفساد عباداته، وكذلك بعد التبول لا يقوم إلا بعد أن يتأكد من انقطاع أثر البول؛ لأن العادة أن يتقاطر البول أثناء سيره أو نحو ذلك، ومن التنزه ألا يقوم إلا بعد الاستجمار، أو بعد أن يمسح محل البول، فيمسح الرجل مجرى البول وهو رأس الذكر، والمرأة تمسح مجرى البول ومخرجه، حتى يتحقق أنه نظف ولم يبق فيه شيء، وإذا تيسر الاستنجاء -وهو غسل محل البول بالماء أو غسل الفرج أو كلا الفرجين بالماء- فإن ذلك من أسباب انقطاع البول، ولكن بعض الناس قد يصل بهم الأمر إلى شيء من التوهم أو الوسوسة، فكثير منهم يشتكي بأنه يحس بتقاطر أو بخروج كلما قام أو كلما انتهى من الاستنجاء ومشى أو نحو ذلك. فالأصل أنه لا حاجة إلا إلى الاستنجاء، فإذا استنجى بغسل ذكره أمن بذلك إن شاء الله أن يبقى فيه بقية. وأما ما ورد في الحديث: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) فهو ضعيف لا يثبت، والصحيح: أنه لا حاجة إلى النتر، ولا إلى أن يسلته مثلاً، ولا إلى إدخال قطنة في مجرى البول، ولا إلى القفز كما يفعله البعض، ولا إلى أن ينزل في منحدر، ولا إلى أن يتعلق ويحرك نفسه ليخرج ما تبقى من البول في المجرى؛ فإن كل ذلك إنما يفعله الموسوسون، وهو مما لا حاجة إليه. ويقول العلماء: إن البول في المثانة بمنزلة اللبن في الضرع، إن حُلب در وإن ترك قر، فإذا أراد الإنسان إخراجه فإنه يخرج، وإذا كان يريد إمساكه فإنه يبقى، وذلك من تيسير الله على الإنسان، فلو كان البول يجري كلما اجتمع لشق على الإنسان؛ لأنه دائماً يمشي ويتحرك، ولكن جعله الله متوقفاً حتى يريد الإنسان إخراجه. فهؤلاء الذين يبتلون بهذه الوسوسة والتوهمات يقال لهم: اقطعوا عنكم التوهمات، وثقوا بأن هذا ليس بشيء، ولكن إذا أحس الإنسان بشيء متحقق، كخروج قطرات من ذكره؛ فإن ذلك يعتبر ناقضاً، فعليه أن يستنجي ويعيد الوضوء، وأن يغسل ما أصاب من ثيابه أو من سراويله. وأما إذا لم يكن هناك إحساس وإنما هي توهمات، فإنه لا يحتاج إلى أن يفتش نفسه، وكثير منهم يقطع الصلاة عدة مرات، ويقول: إني أحس بخروج البول، ثم إذا فتش ثيابه لم يجد رطوبة ولا غيرها. أما إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالسلس الذي هو جريان البول وعدم توقفه؛ فإنه يعتبر معذوراً، ولكن لا يتوضأ إلا بعد أن يدخل الوقت، وعليه أن يتحفظ بأن يجعل على فرجه شيئاً يمسك البول في وقت الصلاة؛ كالقطن أو الشاش أو نحو ذلك، إلى أن ينتهي وقت الصلاة حتى لا يلوث ثيابه، ثم بعد ذلك يغيره في الوقت الثاني أو ما أشبهه.
المشي بالنميمة مما يستوجب عذاب القبر
المشي بالنميمة مما يستوجب عذاب القبر الخصلة الثانية التي توجب العذاب: النميمة، وهي نقل الكلام من إنسان إلى آخر على وجه التحريش والإفساد، قال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] ، والنمام: هو الذي ينقل الكلام من هذا إلى هذا ليوقع الوحشة بين الناس، وليسبب التقاطع والتفرق بين هذا وهذا، ولا شك أنه مفسد، وذنبه كبير، والعادة أن النمام إذا حسد إنساناً على أمر فإنه ينم به حتى يبغضه إلى أصحابه، ويقول: إنه يقول فيكم كذا ويقول فيكم كذا، فتقع البغضاء، وتقع المقاطعة، وتقع الوحشة بين المسلمين بسبب هذا النمام، وقد ورد فيه وعيد شديد حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) والقتات: هو النمام. وورد في بعض الآثار أن النمام يفسد في الساعة الواحدة ما لا يفسده الساحر في السنة، وما ذاك إلا أنه قد يسبب القتال ووقوع الفتن والتناحر بين المسلمين، زيادةً على التقاطع والتهاجر وما أشبه ذلك، ولذلك ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس) ، فشبهه بالعضة الذي هو السحر أو نوع من أنواع السحر، فجعله شبيهاً به لهذا السبب الذي هو النميمة. فالنميمة على هذا من كبائر الذنوب؛ وذلك لأنها سببت عذاب القبر، وتتفاوت النميمة بحسب المفسدة التي تترتب عليها، فالنمام الذي هذا ديدنه دائماً لا شك أن ذنبه كبير، وقد يكون ذنبه صغيراً إذا لم يحصل بسببه مفسدة، وعلى كل حال فهذان الأمران من كبائر الذنوب.
الحكمة من غرز الجريدة في القبرين واختصاص النبي بذلك
الحكمة من غرز الجريدة في القبرين واختصاص النبي بذلك أما كونه صلى الله عليه وسلم غرز الجريدة في قبريهما وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، فقال بعض العلماء: إن ذلك لكون هذه الجريدة رطبة، والرطوبة فيها شيء من الخضرة، والخضرة قد تخفف الألم، وقد يخضر بسببها القبر، ويكون ذلك سبباً لتخفيف العذاب، وقيل: لأن الجريدة حال خضرتها تسبح، فتسبيحها قد يصل تأثيره إلى ذلك المدفون فيخفف عنه، هكذا قال بعضهم، ولكن هل يجوز لنا أن نفعل هذا الفعل فنجعل في القبور جريداً؟ لا يجوز ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله مع سائر المقبورين، مع أنه قد دفن بعض الناس، وقد استغفر لبعضهم، وقد صلى عليهم، ولو كان ذلك مشروعاً لفعله مع كل أحد، وكأنه خص هذين الاثنين بوحي من الله أنه إذا غرز هذه الجريدة خفف عنهما، ولهذا قال: (لعله يخفف عنهما) ، وهذا الفعل لم يفعله الصحابة، ولو كان مشروعاً لوضعوا في كل قبر جريدة خضراء، فلما لم يفعلوا ذلك عرف بذلك اختصاص النبي بهذا الفعل، وكذلك اختصاص هذين القبرين. والعبادات مبناها على التوقيف، فلما لم يقل النبي عليه السلام: افعلوا ذلك مع كل ميت؛ دل على أن هذا من خصوصياته أو من خصوصيات هذين القبرين. فعلى الإنسان أن يبتعد عن أسباب عذاب القبر؛ وذلك لأن القبر أول منازل الآخرة، وإذا خرجت روح الإنسان فقد قامت قيامته، فإما أن يلقى عذاباً وإما أن يلقى نعيماً.
من أسباب عذاب القبر
من أسباب عذاب القبر وأسباب عذاب القبر كثيرة، منها هذان الأمران المذكوران في هذا الحديث، ولا شك أن من أسبابه: الكفر والنفاق، والأعمال السيئة، وسائر المعاصي والذنوب. وأهل السنة يصدقون بأن الله تعالى يعذب هذا في قبره، أو ينعم هذا في قبره، كما وردت في ذلك أدلة مجملة ومفصلة، ولكن الكيفية محجوبة عنا، حتى ولو لم ندرك ذلك فقد أدركه الأنبياء، كما أدركه النبي عليه السلام في هذا الحديث، ولو كشفنا عن الميت ورأيناه كما وضع فإنا لا ننفي أنه يعذب أو ينعم، أو يضيق عليه قبره أو يوسع عليه؛ وذلك لأن هذا من علم الآخرة، وأهل الدنيا ليسوا مطلعين على أمور الآخرة.
شرح عمدة الأحكام [3]
شرح عمدة الأحكام [3] من رخص الشرع وتخفيفاته إباحة المسح على الخفين، ولكن لذلك شروط وصفات لابد من تحقيقها، وقد بينها الفقهاء في كتبهم حتى يعمل بها الناس.
أحكام المسح على الخفين والجوارب
أحكام المسح على الخفين والجوارب قال المصنف رحمه الله: [باب المسح على الخفين: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) . وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبال وتوضأ ومسح على خفيه) مختصراً] .
وقت ابتداء المسح على الخفين وانتهاؤه للمقيم والمسافر
وقت ابتداء المسح على الخفين وانتهاؤه للمقيم والمسافر من الأحكام المتعلقة بباب المسح على الخفين: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت له وقتاً، فجعل للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، إذا كان يتوضأ ويغسل قدميه رخص له أن يمسح ثلاثة أيام؛ لأن السفر مظنة المشقة، فزيد في الرخصة فجعل له ثلاثة أيام، واختلف متى تبدأ المدة. ولعل الأقرب أنها تبدأ من أول حدث بعد اللبس؛ وذلك لأن به يستحق أن يمسح، فإذا أحدث ابتدأ اليوم والليلة من أول حدث، فإذا توضأت مثلاً للفجر ولبست الخفين وصليت بطهارة، ثم نمت بعد الصلاة وانتقض وضوءك، فمن ذلك الوقت يبدأ اليوم والليلة، من حين نومك، فإذا كان من الغد تمت مدتها بعد الفجر، أي: وقت النوم، فلو قدر مثلاً أنك لم تنم في اليوم الثاني، وجلست في المسجد في حلقة أو نحوها، فإنك لا تصلي بذلك الوضوء؛ لكونه قد تمت مدته من حين الصلاة، أي: بعد الانتهاء من الصلاة، هذا هو القول الأقرب أنه يبدأ من أول حدث، وإذا رخص أحد وجعله يبدأ من أول مسح فله ذلك، فلو قدر أنك لبستها في صباح السبت ولكن لم تمسح إلا في وقت الظهر، فإن اليوم والليلة على هذا القول يبدأ من وقت الظهر الذي هو وقت مسحك، وعلى كل حال العمل على أنه يبدأ من أول حدث يوماً وليلة.
انتقاض الوضوء بمضي مدة المسح على الخفين
انتقاض الوضوء بمضي مدة المسح على الخفين ومن الأحكام: أنه متى مضت مدته انتقض، فلو أنك مثلاً صليت به الظهر، ثم انتقض وضوءك بعد الظهر يوم السبت، ثم صليت به العصر غداً يوم الأحد ولم ينتقض وضوءك بعد الظهر؛ فإنه لا يجوز أن تصلي به العصر؛ وذلك لأنه انتقض الوضوء من حين انتهاء المدة، كأنه قد انتقض الوضوء وإن لم ينتقض، هذا هو الأقرب: أنه بانتهاء المدة على الإنسان أن يجدد الوضوء ولو لم يكن محدثاً، فلو قلت مثلاً: أنا لا زلت على طهارة من الظهر، فنقول: إنك طاهر ولكن كأنك ما غسلت قدميك. والصحيح أنه ينتقض الوضوء بانقضاء المدة، وإن كان بعض العلماء يرى أنه يبقى على وضوئه حتى ينتقض، لكن الفتوى على أنه ينتقض؛ وذلك لأنه لم يغسل قدميه، المسح له مدة انتهت، فإذا تم اليوم والليلة فكأنه على وضوء ما عدا قدميه.
كون المسح خاصا بالحدث الأصغر فقط
كون المسح خاصاً بالحدث الأصغر فقط ومن الأحكام: أن المسح خاص بالحدث الأصغر، أما الحدث الأكبر الذي يوجب الغسل؛ فلا يمسح فيه بل لا بد من خلع الخفين وغسلهما بالحدث الأكبر، وقد جاء في حديث صفوان بن عسال قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أن نمسح وأن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة، لكن من بول وغائط ونوم) ، يعني: أما من الأحداث الصغرى فلا ننزع منها خفافنا ثلاثة أيام للمسافر.
حكم المسح قبل السفر أو أول ابتداء السفر
حكم المسح قبل السفر أو أول ابتداء السفر ثم من الأحكام: أنك إذا سافرت فإن كنت قد بدأت بالمسح قبل السفر فلا تزد عن يوم، وإن كنت لم تبدأ بالمسح فلك ثلاثة أيام، وإذا ابتدأت بالمسح في السفر ثم أقمت فلا تزد عن يوم، تغليباً لجانب الحضر، وذلك حرصاً على أن تأتي بالعبادة كاملة.
حكم المسح على الجوارب
حكم المسح على الجوارب ومما يلحق بالخف الجورب، والجورب: هو ما ينسج من الصوف أو من القطن المتين أو من الكتان ونحو ذلك، ويفصل على قدر القدم، ويعرف في هذه الأزمنة بالشراب، هذا فيه خلاف هل يمسح عليه أو لا يمسح؟ فذهب إلى جواز المسح عليه الإمام أحمد، وخالف في ذلك الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي فقالوا: لا يمسح عليه؛ وذلك لأنه يخرقه الماء، فلا يكون ساتراً للقدم، ولأنه يبين صورة القدم، أي: تعرف منه الأصابع والعقب والأخمص وظهر القدم، فكأنه لم يلبس عليه شيء يستره بخلاف القطن. قالوا: والحديث الذي فيه لم يثبت، وهو عن المغيرة: (أنه مسح على الجوربين والنعلين) قالوا: إنه خطأ من الراوي، وأن الصواب ما في رواية الباقين عن المغيرة أنه مسح على الخفين وليس فيه المسح على الجوربين، ولكن الإمام أحمد ترجح عنده أنه يمسح على الجوربين وإن لم يثبت عنده الحديث، ولكن قد روي فيه أحاديث وآثار عن جملة من الصحابة أنهم مسحوا على الجوارب، فأجاز ذلك اتباعاً لهم؛ فإنهم لا يفعلون إلا ما هو جائز أو مسنون، ولأن في ذلك رخصة؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى لبس هذه الجوارب لتدفئة القدمين، سيما في وقت اشتداد البرد، فإذا لبسهما رخص له بأن يمسح عليهما كما يمسح على الخفين.
شروط المسح على الجوارب
شروط المسح على الجوارب ولا بد من شرط في هذه الجوارب وهو أن تكون ساترة، فإذا كان فيها خرق أو خروق فلا يمسح عليها؛ وذلك لأن الخلاف في الخف ليس كالخلاف في الجورب، فالرخصة التي في المخرق خاصة بالخف، وأما الجورب فالراجح أنه لا يرخص في المخرق منه؛ لقوة الخلاف في الأصل، فإذا كان الأئمة الثلاثة لا يستبيحون المسح عليه أصلاً، فكيف به إذا كان مخرقاً؟! فإذا كان مخرقاً فإن عليك أن تلبس فوقه ما يستر تلك الخروق، وهي متيسرة، ولا بأس أن يلبس اثنين أو ثلاثة، فيحصل بهما تدفئة ويحصل بهما ستر للقدم ونحو ذلك، فيجتنب المسح على الجورب (الشراب) المخرق. كذلك أيضاً يشترط أن يكون الجورب صفيقاً، والصفيق معناه: الغليظ المتين الذي يستر البشرة ولا ترى من ورائه، فإذا كان خفيفاً فلا يمسح عليه، ويتساهل كثير من الناس فيمسحون مع أن جواربهم شفافة يرى منها البشرة ونحوها. وقد كانت خفاف الصحابة من جلود وقد يكون فيها خروق، أما جواربهم فإنها تنسج من الصوف ومن الشعر، ويجعلون في أسفلها جلدة يمشون عليها، وقد يلبسون تحتها نعلاً، ولكن كثيراً ما يمشون على الجورب وحده، حيث يجعلون تحته رقعة تقيهم كما يقيهم النعل، فكانت جواربهم غليظة جداً، بحيث إنه لا يخرقها الماء؛ لقوتها، وأنها يمكن المشي عليها حتى في الرمضاء وفي الأرض المليئة بالحجارة، يمكن لأحدهم أن يمشي فيها؛ لقوتها ولغلظها، ولأن تحتها تلك الجلدة، فعلى هذا إذا كان الدليل الذي أبيح لنا فيه المسح على الجوارب هو قصة الصحابة، فلنقف على جواربهم لنعرف أن جواربهم غليظة ليست شفافة، أما الذين يلبسون جوارب شفافة بحيث يخرقها البصر فضلاً عن الماء، فنقول: لا يجوز المسح على مثل هذه؛ لكونها خفيفة. فالعلماء اشترطوا الصفاقة والغلظ والمتانة في الجوارب، ومعلوم أنك ما لبستها إلا للتدفئة، وإذا كانت خفيفة فلا تحصل بها تدفئة ولا تحصل بها وقاية للقدم، مع أنه لا يمشى بها غالباً وحدها، فكل ذلك دليل على أنه لا بد من التثبت في هذا.
صفة المسح على الخفين
صفة المسح على الخفين أما صفة المسح على الخفين فيراد به مسحهما باليدين، وصفته: أنه بعدما ينتهي من مسح رأسه يبل يديه ويمسح كل قدم بيد، ويكون المسح على أعلى الخف أو أعلى الجورب، يبتدئ من رءوس الأصابع ويمر أصابعه على ظاهر قدمه إلى ساقه، فيمسح أعلاه ويمسح جانبيه بأصابعه، ولا يمسح أسفله ولا يمسح مؤخره، هكذا وردت صفة المسح. ولا يلزم أن يظهر البلل على الخف أو على الجورب؛ بل قد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما مسح على الخفين يقول الراوي: (كأني أنظر إلى أثر أصابعه خطوطاً في الخف) يعني: أن أصابعه قد أثرت بللاً في الخف كمثل الخطوط، مما يدل على أنه لا يلزم أن تبتل. أما مسح أسفله فليس من السنة، ولهذا ورد في حديث عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) . ويلاحظ أن البعض من الناس يمسح على خفيه ثم يخلعهما ويصلي في الشراب، فيبطل بذلك مسحه، فنقول: إذا كان عليك شراب وجعلت الخف كالنعل يخلع ويلبس، فاجعل المسح على الأسفل الذي هو الشراب، بحيث إذا أردت الوضوء خلعت الخف أو النعل ومسحت على الشراب ثم لبسته، وإذا دخلت المسجد خلعتهما وصليت في الشراب وحدها كما هو المعتاد. أما أن تمسح على الخف ثم تخلعه وتترك الشراب وحدها، فإنه يبطل مسحه؛ لأنك مسحت على شيء وخلعته، فلم يبق الممسوح معك، بل قد خلعته. فهذا مما يغلط فيه كثير من الناس، ترى أحدهم عندما يتوضأ يمسح على ظهر الخفين أو النعلين، وإذا دخل المسجد خلعهما وترك الشراب، فانتبهوا لهذا ونبهوا إخوانكم.
شرح عمدة الأحكام [4]
شرح عمدة الأحكام [4] من مميزات الإسلام أن شرع لأتباعه التنظف والطهارة والبعد عن الأرجاس والأوساخ، بل إن صحة العبادة متوقفة على ذلك، ولذلك كان على المسلم أن يعرف أعيان النجاسات وكيفية تطهيرها.
أحكام المذي
أحكام المذي قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المذي وغيره: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ) ، وللبخاري: (توضأ واغسل ذكرك) ، ولـ مسلم: (توضأ وانضح فرجك) . عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ] . هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لنواقض الوضوء، وذلك أن الله تعالى لما أمر بالوضوء ذكر بعض النواقض، وبين النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيلها، فالله ذكر منها في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فجعل هذين من جملة النواقض. والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن من النواقض الخارج من السبيلين؛ سواء كان له جرم كالبول والغائط والمني، أو ليس له جرم كالريح، كل ذلك جعله من نواقض الوضوء، ومتى وجدت هذه النواقض فالمحدث يسمى محدثاً، عليه أن يتوضأ مرة أخرى بعد أن كان متوضئاًً، فلو كان حديث عهد بوضوء، لو توضأت مثلاً وبعد خمس دقائق أو دقيقتين حصلت منك واحدة من هذه النواقض؛ فإن عليك أن تجدد الوضوء، وما لم يكن أحدث شيئاً من النواقض فإنه يبقى على وضوئه ولو عشر ساعات أو أكثر، حتى يحصل ما ينتقض به الوضوء. فمن جملة النواقض المذي المذكور في الحديث الأول، والباب عقد للمذي والريح وإزالة النجاسة وخصال الفطرة، كما ستأتي كلها من ضمن الأحكام التي جمعت في هذا الباب. والمذي: هو ماء أبيض لزج، يخرج من الرجل عند شهوة أو مداعبة أو تقبيل أو لمس أو نحو ذلك، يخرج من الذكر ويحس الإنسان بخروجه، وخروجه ليس كخروج المني، المني معروف أنه أصفر، الذي هو المادة التي يخرج منها الولد، والمذي أبيض، المني غليظ، والمذي رقيق، المني يخرج دفقاً وتصحبه لذة، والمذي يخرج سيلاناً كما يسيل البول، إلا أن علامته أنه أبيض وأنه يحس بشهوة عند خروجه، وأنه لا بد أن يسبقه شيء من المداعبة ونحوها أو حضور شهوة. ويخرج كثيراً من الشباب، ولا شك أن خروجه بكثرة يؤدي إلى مشقة في الاغتسال، الشباب غالباً يخرج منهم، سيما في أول الزواج أو عند البلوغ أو نحو ذلك، يتدفق منهم بكثرة، فيشق عليهم أن يغتسلوا، وعلي رضي الله عنه كان في سن الشباب في ذلك الوقت، سيما وهو حديث عهد بزواجه لما تزوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.
مشروعية الاستنجاء والوضوء من المذي وصفة الاستنجاء
مشروعية الاستنجاء والوضوء من المذي وصفة الاستنجاء يقول: (كنت رجلاً مذاءً) أي: كثير خروج المذي، يقول في بعض الروايات: (فكنت أغتسل منه حتى تشقق ظهري) أي: من كثرة ما أغتسل، فلما أنه شق ذلك عليه استحيا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا شيء يحدث بين الزوجين، فكأنه يحدث بينه وبين ابنته عندما يحصل ملامسة أو مداعبة أو تقبيل يخرج هذا المذي، دون أن يكون هناك جماع، فعند ذلك لما أنه لم يتجرأ على السؤال أرسل المقداد بن الأسود ليسأل ويخبره، وليس ذلك استحياء منه في طلب العلم، وإنما هو حياء أن يذكر له شيئاً مما يقع بينه وبين ابنته، فعند ذلك أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عادة؛ لقوله في بعض الروايات: (وكل فحل يمذي) ، هذا المذي يخرج غالباً من كل فحل، أي: من كل ذكر، ثم رخص له بترك الاغتسال وأمره بالاستنجاء وبالوضوء. ففي هذه الروايات: (يغسل ذكره) ، وفي رواية: (اغسل ذكرك) ، وفي رواية: (توضأ وانضح فرجك) ، فأخذ العلماء من ذلك أنه لا بد من غسل الذكر. وورد في بعض الروايات: (اغسل ذكرك وأنثييك) يعني: يغسل ذكره وخصيتيه؛ وذلك ليحصل تقلص الذكر وتوقف هذا الخارج؛ لأن الغالب أنه إذا حصل منه شيء من الانتشار أو من الشهوة، فإنه يسيل منه ويخرج، فإذا غسل ذكره كله وغسل أنثييه حصل بذلك توقف وحصل تقلص، والماء يحصل منه القطع حتى استعمال الماء بعد البول، فالاستنجاء يحصل منه فائدة توقف الخارج الذي هو البول، الماء يقطع خروج البول فكذلك يوقف خروج المذي. ومن العلماء من يقول: يغسل رأس الذكر فقط؛ لأنه الذي تلوث والذي خرجت منه النجاسة. ولكن الصحيح أنه يغسل ذكره كله، وأنه أيضاً يغسل أنثييه حتى تحصل المصلحة؛ وذلك لأن النص واضح لقوله: (يغسل ذكره) يعني: كل الذكر، وقوله: (اغسل ذكرك) ، وكذلك قوله: (توضأ وانضح فرجك) ، والنضح يطلق أيضاً على الغسل، نضحه بمعنى: غسله، أي: صب الماء عليه، والفرج اسم لما هو عورة، فيعم الذكر وقد يدخل فيه أيضاً الدبر. والحاصل: أن عليه أن يغسل الفرج كله، والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أن يوقف ذلك الخارج، ومتى خرج بعد ذلك فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه يعتبر ناقضاً من النواقض، لكن يحدث أن كثيراً من الشباب عندهم شيء من الوساوس والأوهام التي ليس لها حقيقة، فترى أحدهم يحس بأشياء لا حقيقة لها، فيتخيل أنه خرج منه مذي أو خرج منه بول، فيقطع الصلاة مراراً ويقطع الوضوء، أو يعتقد انتقاض الوضوء كثيراً، ويكلف نفسه ويشق على نفسه كثيراً. فنقول: لا ينبغي التمادي مع تلك الوسوسة ما دام أنها توهمات ليس لها حقيقة، لكن متى أحس بخروج المذي خروجاً يقينياً ولم يكن مستمراً بحيث يلحق بسلس البول، فإنا نأمره بأن يجدد وضوءه، فيستنجي ثم يتوضأ.
حكم نجاسة المذي
حكم نجاسة المذي في هذا الحديث أن المذي نجس؛ وذلك لأنه أمره بأن يغسل ذكره. وكذلك أيضاً يغسل الثوب الذي أصابه، أو يغسل محله من الثوب أو من السراويل، فإذا أصاب سراويلك أو أصاب ثيابك فإنك تغسل ما أصابه منها؛ لأنه ألحق بالبول. والمني فيه خلاف في طهارته، ولكن الأقرب أنه طاهر، وأن غسله إنما هو غسل نظافة، وأما المذي فإنه ملحق بالبول في أنه يغسل كما يغسل البول، يغسل من الجسد إذا وقع على الفخذ مثلاً، أو على البطن، ويغسل من الثوب إذا وقع على الإزار أو على السراويل، يغسل كما تغسل النجاسة، وغسله أن يغسل حتى تذهب عين النجاسة، فإذا ذهبت اكتفى بذلك. أما المذي فلا خلاف أنه يوجب الوضوء؛ وذلك لأنه خارج من أحد السبيلين، وقد استدلوا بهذا الحديث على أن كل ما خرج من السبيلين فإنه ناقض للوضوء؛ لعموم الآية وهي قوله تعالى: {وجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] ، ولعموم هذا الحديث، والحديث الذي بعده.
مشروعية الاستعانة بالغير في سؤال أهل العلم
مشروعية الاستعانة بالغير في سؤال أهل العلم ويستدل بهذا الحديث على أن الإنسان إذا احتاج إلى معرفة حكم، ولم يستطع أن يسأل؛ فعليه أن يوكل غيره حتى يسأل، ولا يبقى على جهل، فربما يقع في عمل لا يكون جائزاً، وذلك أن الإنسان مثلاً قد يظن أن هذا ليس بحدث أو أنه لا يضر، فربما بقي على نجاسته، أو تكلف واعتقد أنه موجب للغسل فأخذ يغتسل، فيكون قد أوجب شيئاً على نفسه لم يجب عليه، فإذا تبصر في ذلك عمل على برهان. وفي هذا أيضاً دليل على أن هذه الأحداث قد تحدث بكثرة، وأن حكمها قد يخفى على بعض الناس الذين لم يسألوا، وعلى كل حال فإن المذي من جملة النواقض التي توجب الوضوء، والتي يجب مع الوضوء قبله الاستنجاء الكامل، والغسل الذي قال فيه: (اغسل ذكرك) أو: (يغسل ذكره) أو: (توضأ وانضح فرجك) هو غسل كامل، بأن يصب على فرجه بيده اليمنى ويدلكه بيده اليسرى، حتى يزيل أثر ما خرج منه، وحتى يحصل منه الحكمة التي هي الطهارة والتقلص وتوقف الخارج.
شرح حديث: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة)
شرح حديث: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة) أما الحديث الذي بعده فهو يعتبر قاعدة من قواعد الشرع، وذلك أن الإنسان كثيراً ما يجد في بطنه شيئاً من القرقرة ومن الصوت الذي يحدث في بطنه، ثم يخيل إليه أنه خرج من دبره شيء، مع أنه في الحقيقة لم يخرج منه شيء، وهذه الحوادث تسمى: القراقر. والقراقر: قراقر البطن، قرقرة البطن عندما يكون الإنسان قد أكل مثلاً أو جاع أو نحو ذلك، يسمع في بطنه قرقرة، فيظن بعد حدوث هذه القرقرة أنه خرج منه ريح أو خرج منه ناقض، فإذا ظن ذلك كلف نفسه وقام وأعاد الوضوء، ثم عاودته تلك القرقرة، ثم يعيد الوضوء مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى يكلف نفسه ويشق عليها. ودين الله تعالى يسر، وليس فيه عسر ولا صعوبة، فلا ينبغي للإنسان أن يتمادى مع هذا الصوت أو مع هذه القرقرة التي في بطنه، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام للحدث علامة ظاهرة، وذلك بقوله: (لا ينصرف) ، يعني: لا ينصرف إذا كان في الصلاة، ولا يقم إذا كان جالساً ليجدد الوضوء لا ينصرف (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، مراده بالصوت: صوت الريح الخارجة، وكذلك وجودها كأن يشمها بأنفه، والمعنى: حتى يتحقق ويتيقن أنه أحدث بخروج الريح من دبره؛ وذلك لأن خروجها يحصل منه إحساس ظاهر جلي لا خفاء فيه، بخلاف القراقر فإنها توهمات.
علاج وساوس الشيطان في الوضوء
علاج وساوس الشيطان في الوضوء وورد أيضاً في أحاديث كثيرة ما يدل على أن هذه الوساوس تحدث من الشيطان، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فينفخ في دبره فيخيل إليه أنه أحدث، فإذا وجد ذلك فليقل: كذبت) ، كأن يقول له الشيطان: إنك أحدثت، فليقل في نفسه: كذبت، يعني: لا يلتفت إلى وسوسة الشيطان، هذه الوسوسة التي يبتلى بها كثير من الناس، فيحس بأنه خرج منه ريح، أو بأنه تحرك دبره أو نحو ذلك، فهذه أشياء ليس لها حقيقة إنما هي وساوس من الشيطان، ويقصد الشيطان بذلك أن يمل المسلم من العبادة، إذا رأى فيها هذه الكلفة والمشقة ملها وضجر منها، وأدى به ذلك إلى أن يتركها كلياً، وهذا هو مراد الشيطان، أو يريد بذلك أن يتهاون بهذه الأمور حتى لا يتوضأ من أي حدث. فنقول: الأمور تبقى على أصلها إلى أن يُتيقن زوال ذلك الأصل، فالأصل أنك متطهر وليس في طهارتك شك، فإذا اعتراك شك فالشك لا يرفع اليقين، يقينك الذي أنت عليه هو أنك على وضوء، وذلك العارض وَهْم أو شك أو وسوسة أو خيالات لا يلتفت إليها. وكثيراً ما يشكو إلينا بعض أهل الوسوسة وأهل التوهمات من شباب ومن شيب، كبار وصغار، رجال ونساء، يشتكون مما يلاقونه من أنه يخرج من أحدهم من ذكره كذا، يحس به، أو يخرج من دبره كذا يحس به، فيقول: إنني أتفقد نفسي ومع ذلك لا أجد خارجاً حسياً، وأسأل غيري ويقول: ما أحسست بشيء. فنقول: لا تلتفت إلى تلك التوهمات، فإنه لو كان يقيناً لأحس به من إلى جانبك، لوجدوا الريح مثلاً ولسمعوا الصوت، والرسول عليه الصلاة والسلام حدد ذلك، فإذا كنت لم تجد ريحاً ولم تسمع صوتاً ولم تحقق حدثاً، والذين عندك أيضاً لم يحسوا بشيء من ذلك؛ دل ذلك على أنها وسوسة فلا يلتفت إليها.
كيفية تطهير بول الغلام والجارية
كيفية تطهير بول الغلام والجارية [وعن أم قيس بنت محصن الأسدية: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه على ثوبه، ولم يغسله) . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه) ، ولـ مسلم: (فأتبعه بوله ولم يغسله) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) ] . هذان الحديثان في إزالة النجاسة وفي تطهير البول، فالأول: في بول الطفل، والثاني: في بول الرجل. ذكر في الحديث الأول: أن هذه المرأة -وهي أخت عكاشة بن محصن الأسدي - جاءت بطفل لها صغير لم يكن قد أكل الطعام، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال الطفل عليه كعادة الأطفال، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فصبه على بوله ولم يغسله، وكذلك ذكرت عائشة. وورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام) ، والجارية: الأنثى، والغلام: الصبي الذكر.
نضح بول الغلام وغسل بول الجارية
نضح بول الغلام وغسل بول الجارية والغسل معناه: أن يدلك الشيء ويفرك، أي: يصب الماء على الثوب ويدلك مرات إلى أن يطهر. وأما النضح فمعناه: أن يصب الماء عليه وأن يتبعه إياه بدون فرك، يقال: نضح الثوب أي: صب الماء عليه دون فرك. وغسل الإناء: دلكه بيديه ونظفه، ونضح الثوب: بلَّه بالماء، وغسل الثوب: فركه ودلكه، ومعنى هذا: أن بول الطفل الذكر إذا لم يكن قد أكل الطعام فإن نجاسته مخففة، يكتفى فيها بأن يصب الماء على الثوب من غير أن يحتاج إلى دلك، بخلاف بول الجارية وبول الكبير، وقد ورد في بعض الروايات تقدير ذلك بما إذا لم يكن قد أكل الطعام، إذا كان ذلك الطفل لم يكن قد أكل، إنما غذاؤه اللبن، فأما إذا كان قد أكل الطعام فإنه يغسل كبول الكبير. والأصل في الغسل أنه: دلك المتنجس إلى أن تذهب عين النجاسة ويزول أثرها، فكل شيء تنجس ببول أو نحوه لا بد من تطهيره بالماء، فإن الله تعالى جعل هذا الماء طهوراً، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] قوله: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي: أنه سبحانه جعل التطهير بهذا الماء، فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً بين بول الصغير وبول الكبير، وبين بول الصبي الذي لم يأكل الطعام وبول الجارية التي لم تأكل الطعام، فالجارية -وهي الأنثى- يغسل بولها كبول الكبير، والصبي الذي لم يأكل الطعام يقتصر في إزالة نجاسة بوله على مجرد الصب ومجرد النضح، بدون أن يحتاج إلى فرك أو دلك أو تكرار غسل، ولذلك قالوا: إن نجاسته مخففة.
الحكمة من نضح بول الغلام وغسل بول الجارية
الحكمة من نضح بول الغلام وغسل بول الجارية وقد علل العلماء في الفرق بين الذكر والأنثى بتعليلات: فمنهم من قال: إن الأنثى مخلوقة من لحم ودم نجس، وإن الذكر -الذي هو آدم- مخلوق من التراب والطين، والتراب طاهر. ولكن لو كان ذلك لم يكن هناك فرق بين الكبير والصغير، ومعلوم أن بول الكبير نجس فلا يكون له هذا الحكم. ومنهم من قال: إن بول الصبي ينتشر ويشق تتبعه؛ فلأجل ذلك اكتفي فيه بالنضح، وبول الجارية لا يشق تتبعه، فألزم بأن يغسل إلى أن ينظف، ولعل هذا مقارب. ومنهم من قال: إن الصبي تعلقه النفوس وتحبه، ويكثر حمله ونقله وإجلاسه، فيبتلى الناس بنجاسته كثيراً، فيكون من آثار هذا الابتلاء وهذه المشقة التيسير؛ فإن المشقة تجلب التيسير. ولعل هذا أيضاً مقارب في الفرق بينهما، وهو أن الصبي تعلقه النفوس وتحبه، ويكثر حمله والابتلاء بنجاسته. أما في هذه الأزمنة فإنه يمكن التحفظ من بولهما معاً بهذه الحفائظ التي تجعل على عورته في حال صغره، حتى لا تتعدى نجاسته لا بولاً ولا غائطاً، ومعلوم أن هذا الحكم خاص بالبول الذي هو الماء السائل، وأما الغائط فإنه كسائر النجاسات، يغسل كما تغسل النجاسات، ولا يتسامح فيه كما يتسامح في البول. فالغائط نجس من صغير وكبير وذكر وأنثى، والبول نجس من الكبير ونجس من النساء صغيرهن وكبيرهن، ونجس أيضاً من الطفل، إلا أن نجاسته مخففة ويكتفى في إزالته بالنضح الذي هو الصب، وأما سائر النجاسات فإنها تغسل إلى أن يذهب عين النجاسة. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من سبع غسلات لإزالة بول الجارية، أو بول الكبير، أو الغائط، ولكن الصحيح أنه لا حاجة إلى عدد؛ بل يكتفى في ذلك بمجرد إزالة العين، فمتى زالت عين النجاسة وذهب أثرها اكتفي بذلك وطهر المكان، ولا فرق حينئذ بين الثياب وبين الجسد وبين الأواني التي وقعت عليها النجاسة، وبين غيرها من سائر ما يتنجس.
كيفية تطهير بول الكبير من الأرض والثياب وغيرهما
كيفية تطهير بول الكبير من الأرض والثياب وغيرهما وذكر بعده حديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وذكر: أن ذلك الأعرابي يقال له: ذو الخويصرة، وكان رجلاً جافياً، وكان على عادته وعلى جهله، فهو لم يكن على علم بحرمة المساجد وبما يجب أن تنزه عنه وتنظف، فهو لما انتهى من الصلاة والناس في المسجد قام إلى ناحية من المسجد وجلس يتبول فيها، فلما رآه الناس على هذه الهيئة زجروه زجراً بليغاً وقالوا: مه مه! وأرادوا أن يقوموا عليه ليقطعوا بوله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، وذلك رفقاً به، وقال في آخر الحديث: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) . وقد بين العلماء سبب نهيه لهم عن أن يقطعوا عليه بوله؛ وذلك أنه لا شك سيشق عليه قطع بوله، إذا كان قد بال بعض البول ثم قام قبل أن يكمله شق ذلك عليه، وأيضاً من الأسباب: أنه قد يتلوث المسجد وتنتشر النجاسة، فلو قام وهو يبول لوقع البول في أكثر من موضع، بخلاف ما إذا ترك حتى ينتهي، فإن البول يكون في موضع واحد ويمكن إزالته، أما لو قام فإنه سيتقاطر من هنا ومن هنا، وهكذا لو قام قبل أن يتكامل بوله لتنجس جسده ولتنجست ثيابه، ولكن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ومما أعطاه الله تعالى من الرفق ومن التيسير أن تركه إلى أن انتهى من بوله، فعند ذلك أمرهم بأن يصبوا عليه ماءً، فصب على ذلك البول حتى زال أثره، وذلك بالمكاثرة. فأخذ العلماء من هذا أن نجاسة الأرض بالبول تطهر بالمكاثرة، بحيث تغمر بالماء إلى أن تذهب عين النجاسة، بدون أن يحتاج إلى تكرار صب أو تكرار دلك أو نقل التراب المتنجس أو نحو ذلك. ما نقلوا أنه أمر بحفر التراب المتنجس، بل ترك ذلك التراب الذي فيه البول على حاله وصب عليه دلواً من ماءٍ، ولا شك أن الدلو أكثر بكثير من ذلك البول، فلا شك أنه سيغمر البول وسيزيل أثره، وسوف يطهره ولا يبقى له عين ولا تبقى الأرض متنجسة، بعد ذلك يجوز أن يصلى في ذلك المكان؛ لأنه قد طهر، ولا حاجة إلى تكرار الصب بل يصب مرة واحدة. وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينقل التراب المتنجس، ولكن لا دلالة في الحديث على نقله، ولم يأت ما يدل على ذلك، وذهب بعضهم إلى أنه يغسل ويكرر، فإذا شرب الماء صب عليه مرة ثانية، فإذا شربه صب عليه ثالثة وهذا أيضاً لا دليل عليه، ولا حاجة إلى التكرار، بل يكتفى بأن يصب عليه مرة واحدة ويطهر بهذا الصب دون أن يحتاج إلى تكرار الغسل. كذلك أيضاً يقاس عليه كل ما كان ملتصقاً بالأرض، هناك مثلاً الفرش التي تكون ملصقة بالأرض يشق أن ترفع، كهذه الفرش التي في المساجد والتي أحكم فرشها وألصقت بالبلاط ونحو ذلك، فإذا وقعت عليها النجاسة اكتفي بغمرها بالماء، يصب عليها ماء وتكاثر به، وتزول عين النجاسة بهذه المكاثرة. أما إذا كانت الأرض لا تتشرب النجاسة كالأرض المبلطة فإن هذه الأرض إذا وقعت عليها النجاسة يكتفي بأن يصب عليها الماء كما صبت عليها النجاسة؛ وذلك لأن مثل هذه الأرض تنتشر فيها النجاسة، فإن كانت النجاسة باقية مستنقعة فإنها تنشف بخرقة أو إسفنج أو نحوه، وبعد ذلك يصب عليها ماء وينشف إن بقي شيء من الماء المصبوب. أما إذا شرب البلاط تلك النجاسة فإنه لا يحتاج إلى تنشيف وإنما يصب عليه ماء إلى أن يغمره. وأما إذا كانت النجاسة على الجدران ونحوها، فإن العلماء أيضاً ألحقوها بالنجاسة التي على الأرض، واكتفوا بأن يصب عليه الماء، ومعلوم أن الماء لا يستقر على الحائط وإنما يرش عليه رشاً كما تطاير عليه رشاش النجاسة، أو يصب عليه ماء أو ينضح عليه نضحاً إلى أن يطهر. وأما إذا كانت النجاسة على ثوب أو على بدن فقد تقدم أنه يغسل نجاسة الكلب سبعاً، وبعض العلماء يقول: بول الآدمي وغائطه تغسل سبع مرات من باب الاحتياط، ولكن لا دلالة أيضاً على هذا التكرار، والأصل أنه يكتفي بغسلها مرة واحدة أو مرتين أو مرات، بحيث يزول عين النجاسة وأثرها، وإذا كانت النجاسة مثلاً في قدح وغسلت غسلة أو غسلتين ولم يبق للنجاسة أثر من لون ولا رائحة ولا تغييراً للماء، فلا حاجة إلى تكرار الغسل. ومعلوم أيضاً أن تطهير النجاسات لا يحتاج إلى النية، بل تطهر بمجرد الغسل وإن لم يكن هناك من يغسلها، فإذا وقع البول مثلاً على الأرض وجاء المطر فغسله طهرت، وهكذا لو كان على ثوبك نجاسة ثم إنك علقته فنزل مطر كثير قغمره أو خضت به وهو عليك في سيل أو في بحر وزال من أثر ذلك عين النجاسة، طهر الثوب وإن لم تنو غسله وإن لم تكن متذكراً؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك فلا حاجة إلى نية. وفي هذا الحديث يظهر رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وحرصه على التأليف وعدم الإيذاء؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) .
خصال الفطرة ومعناها
خصال الفطرة ومعناها قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط) ] . هذا الحديث يتعلق بخصال الفطرة، وفسرت الفطرة بأنها السنة، وفسرت بأنها ما فطرت القلوب على استحسانه واستقباح ضده. يعني: أن هذه الأشياء تستحسنها الفطر السليمة، وفطرت القلوب على ملاءمتها وعلى حسنها وعلى موافقتها للعقل وللجبلة الحسنة، فهي مستحسنة وإن لم تأت بها الشريعة، وقد أخبر الله تعالى بأنه فطر الناس على الإسلام في قوله سبحانه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ، يعني: على الملة الحنيفية، أو على ما تستحسنه الفطر. الفطرة: الخلقة، يعني: خلقة الإنسان، يقال: أنت فطرت على كذا، يعني: خلقت عليه، فمعناه: أن الفطرة هي التي فطر الناس على استحسانها وعلى العمل بها واستقباح ضدها، فهي تتمثل في هذا، ولا شك أيضاً أنها إذا كانت تستحسنها الفطر فكذلك أيضاً تستحسنها الشرائع. فإن الشريعة جاءت باستحسانها والأمر بها، وليست شريعة الإسلام فحسب بل كل الشرائع، بل إن الذين لا شرائع لهم يستحسنونها ويشهدون بأنها ملائمة، ولو أن بعضهم تركها وعاند في مخالفة بعضها فإنه لا يعتبر به.
الخصلة الأولى: الختان حكمه ومشروعيته
الخصلة الأولى: الختان حكمه ومشروعيته قد يقال: إن الختان شرعي فكيف يكون فطرياً، مع أن هناك دولاً لا يختتنون، وهم أمم وخلق كثير لا يعرفون الاختتان، فيقال: هؤلاء ممن بقوا على سذاجة وعلى بعد عن الخير وبعد عن استحسان الحسن، فلو فكروا لرأوا أن الختان من محاسن الدين وأن الله ما شرعه إلا لما فيه من المصلحة. والختان معروف، وشرع لأجل الطهارة، فإن من لم يختتن لا يأمن التنجس، فإن هذه القلفة التي في رأس ذكر الرجل إنما أمر بإزالتها حتى تكمل الطهارة بغسل آثار البول، فلو بقيت لكانت حاملة للنجاسة ولشق تطهير داخلها وتنظيفه. فالحكمة من الأمر بإزالتها، حتى تبرز الكمرة، وحتى يمكن تطهير النجاسة الموجودة في تلك الغلفة، وحتى لا تنتشر النجاسة. ولا شك أن الختان مشروع، وقد ثبت أن أول من اختتن إبراهيم، أو أنه اختتن بعد أن كان أهل زمانه لا يختتنون، فاختتن بالقدوم وهو ابن ثمانين سنة، ثم شرع الاختتان في ذريته، حتى غير المسلمين منهم من يختتن، وأما من غير ذريته من سائر الأمم والدول فإنهم بقوا على سذاجة وعلى بعد عن الاستحسان، ولم يكونوا يختتنون. ومشروعيته تعد من محاسن الإسلام، ويشرع الختان في حال الصغر حتى لا يتأثر به حال الكبر، وحتى لا تكون فيه خطورة، فإنه إذا ختن وهو طفل رضيع كان ذلك أسهل له وآمن؛ لئلا يتسمم. ويجب الختان عند البلوغ، وقبل البلوغ يعتبر سنة أي: يعتبر جائزاً غير واجب، لأن البلوغ هو وقت التكليف، ولأنه لم يكن ملزماً بالطهارة قبل البلوغ وهذا هو الصحيح.
الخصلة الثانية: الاستحداد حكمه ومعناه
الخصلة الثانية: الاستحداد حكمه ومعناه الاستحداد: هو حلق العانة، والعانة هي الشعر النابت حول الفرج، وهذا الشعر أنبته الله تعالى علامة على البلوغ، وأنبته لأجل حكمة تخفيف الشهوة، أو لأجل إتمام الرجولة أو الأنوثة أو لغير ذلك، وقد شرعت إزالته. وإزالته على الصحيح تكون محددة بأربعين يوماً أو بشهرين، أو إذا أطلق حتى يطول طولاً كثيراً فيجب إزالته، وإزالته من خصال الفطرة، يعني: مما تستحسنها الفطر، وإطالة هذا الشعر وتركه حتى يطول كثيراً مما تستقبحه الفطر، فيسن إزالته بالموسى أو بما يزيله من الكريم وغيره إذا لم يكن مؤذياً، ويسن أن لا يتركه فوق أربعين يوماً كما ذكر ذلك بعض العلماء، بل إذا طال بادر إلى إزالته حتى لا يكون مشوهاً ولا مؤذياً.
الخصلة الثالثة: قص الشارب حكمه والحكمة من قصه
الخصلة الثالثة: قص الشارب حكمه والحكمة من قصه الشارب: هو الشعر الذي على الشفة العليا كما هو معروف، وقد وردت السنة بقصه وبحفه وكلاهما بمعنى، وجاء في الحديث: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى) ، أي: قصوه بالمقص الذي هو المقراض، فالسنة أن يستعمل المقراض في قصة. ويجوز أن يستعمل غير المقراض كالموسى أو ما يجز به، حيث ورد في بعض الروايات: (جزوا الشوارب وأعفوا اللحى) ، فهذا يدل على مشروعية إزالته ولا شك أنها موافقة للفطرة؛ وذلك لأن إطالة هذا الشعر يعتبر تشويهاً للخلقة، والله تعالى إنما أنبته للزينة، ولكن إطالته لا شك أنها تشويه وتقبيح للمنظر. ثم أيضاً قد يخرج من الأنف شيء من الفضلات وتعلق به ويتلوث، وكذلك إذا شرب الإنسان وشاربه طويل فقد ينغمس في الشراب فيلوث الشراب على من بعده ويفسد ذلك الشراب، وقد يفسده على نفسه، فمن حكمة الله أن أمر نبيه بهذا وشرع له إزالته وتخفيفه. ويجوز حلقه، ولكن الأفضل القص، يعني: أن يستعمل المقراض فيه بحيث لا يزيله كله، ولكن يبقى له أثر، فإنه يميز الرجل من المرأة، فإذا بقي أصول الشعر كفى ذلك. من هذا يتبين لنا أن إعفاء اللحى من خصال الفطرة كما ورد في الأحاديث، والمراد من ذلك تركها، وعدم التعرض لها بإزالة، ولا بقص، ولا بأخذ شيء من جوانبها ونحو ذلك، وليس في هذا الحديث الذي معنا ذكر لها ولكنها في أحاديث أخرى، ولا نطيل فيها؛ لأن المقام ليس لها، ولعله يأتينا ما يناسب الكلام فيها في موضع آخر.
الخصلة الرابعة: تقليم الأظفار حكمه وحكمته وفائدته
الخصلة الرابعة: تقليم الأظفار حكمه وحكمته وفائدته لا شك أن الله تعالى أنبت هذه الأظفار في رءوس الأصابع لحكمة وفائدة، ولكن إطالتها كثيراً فيه تشويه وفيه تقبيح للرؤية؛ وذلك لأنها قد يجتمع تحتها أوساخ وأقذار فيتلوث بها الأكل الذي يأكله، فلذلك شرع أن يقلّم ما نبت فوق الظفر الملتصق باللحم وذلك في كل أسبوعين، أو في كل يوم جمعة، أو في كل عشرة أيام، أو كلما طال، وذلك أن الناس يختلفون، فمنهم من تطول أظافره كثيراً وتنبت سريعاً، ومنهم من لا تنبت سريعاً.
الخصلة الخامسة: نتف الإبط حكمه وحقيقته
الخصلة الخامسة: نتف الإبط حكمه وحقيقته الإبط: هو الشعر الذي تحت العضد في أعلى الجنبين، وينبت فيها شعر رقيق فلا يشق نتفه، لذلك شرع أن يستعمل فيه النتف؛ لأن شعر الإبط رقيق لا يعسر نتفه، أما حلقه فقد يجعله يستغلظ. ويشرع أن ينتفه ويزيله حتى لا يتسخ؛ لأن هذا موضع يكون فيه شيء من العرق والوسخ والقذر فيتلوث بذلك الشعر، وقد يكون له روائح منتنة تؤذي، أو يعلق به شيء من الأذى، فلا جرم في مشروعية إزالته. هذه هي خصال الفطرة التي ذكرت في هذا الحديث، وهناك خصال أخرى منقولة في أحاديث أخرى يمكن الاطلاع عليها.
شرح عمدة الأحكام [5]
شرح عمدة الأحكام [5] شرع الله للمؤمن التطهر من الجنابة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة هذه الطهارة، وبين ما يترتب على نزول المني وعلى إيلاج الذكر من أحكام، بل بين مقدار ما يتطهر به من الماء.
الأحكام المتعلقة بالجنابة
الأحكام المتعلقة بالجنابة
المؤمن لا ينجس
المؤمن لا ينجس قال المصنف رحمه الله: [باب الغسل من الجنابة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المسلم -وفي رواية: المؤمن- لا ينجس) ] . هذا الحديث يتعلق بباب الغسل فذكر فيه أبو هريرة أنه كان جنباً ودخل السوق وعليه جنابة، فصادف أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحيا وكره أن يجلس معه عليه الصلاة والسلام وهو جنب، فذهب مختفياً ورجع إلى بيته فاغتسل، وبعدما اغتسل جاء، فاستنكر النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك الذهاب بدون استئذان، ولما رجع سأله، فأخبره بعذره، فاستغرب ذلك وسبّح الله تعجباً، وأخبر بأن المؤمن طاهر البدن ولا ينجس، وإنما النجس هم الكفار، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] . فقوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة) يعني: في بعض أزقتها وأسواقها، قوله: (لقيه) بمعنى: نظر إليه وتقابل هو وإياه، وقوله: (وهو جنب) أي: عليه جنابة، أما من جماع، وإما من احتلام، ولا تصح عبادته إلا بعد الغسل، وذلك أن الله تعالى أوجب الطهارة الصغرى للحدث نفسه، وهي الوضوء كما تقدم، وأوجب الطهارة الكبرى التي هي الغسل إذا كان هناك جنابة، فقال تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] يعني: لا تفعلوا الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وسمي الجنب جنباً؛ لأنه يتجنب أشياء لا يتجنبها غيره، فالجنب يتجنب الصلاة، ويتجنب المساجد، ويتجنب قراءة القرآن، ويتجنب الطواف بالبيت، ويتجنب مس المصحف ولو لغير قراءة، وأمر بأن يبادر بالاغتسال حتى يزيل ذلك الأثر، أو تلك النجاسة التي هي نجاسة معنوية. ولكن يجوز أن يؤخر الجنب الاغتسال إلى الوقت الذي يحتاج فيه إلى عبادة، فهذا أبو هريرة أخر الاغتسال وأصبح جنباً إما من احتلام وإما من جماع ودخل السوق وذلك في وقت الضحى لقضاء حاجة أو نحوها دون أن يغتسل، فدل على أنه كان قد عرف أنه يجوز تأخير الغسل من الجنابة. وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم إذا أصاب أحدهم جنابة ولم يجد ماء ليغتسل به في الوقت القريب، ويخشى أن تفوته المجالس العلمية فإنه يتوضأ ويدخل المسجد لحضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم التعليمية، فيقتصر على الوضوء؛ لأن الوضوء يخفف الجنابة فـ أبو هريرة أخر الاغتسال لأجل حاجة، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ومن تعظيمه له ألا يجالسه وهو على تلك الحال، فرأى أن يذهب إلى البيت حتى يغتسل ويتطهر، فيقول: (انخنست) ، يعني: ذهبت بخفية إلى البيت واغتسلت، والاغتسال معروف. وأما قوله: (أين كنت) يعني: لماذا ذهبت يا أبا هريرة واختفيت عنا وقد رأيناك؟ فقال: (إني كنت جنباً) كلمة (جنب) تصدق على الرجل والمرأة والجماعة وغيرهم فيقال: هؤلاء الجماعة جنب، وهذا الرجل جنب، وهذه المرأة جنب، يعني: كل منهم عليه جنابة، وقوله: (فاستحييت) وفي رواية: (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) ، كأنه رأى حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وقداسته، ورأى أنه إذا جالسه لا بد أن يسمع منه قرآناً أو لا بد أن يسمع منه حديثاً، أو رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز مجالسته إلا على طهارة كاملة، فذهب واغتسل، ولكن بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يهم وأن المؤمن طاهر وإن كان عليه جنابة. فقوله: (إن المسلم لا ينجس) وفي رواية: (إن المؤمن لا ينجس) معناه: أن المؤمن موصوف بأنه طاهر طهارة معنوية؛ لأن الإيمان طهر أهله، فالإسلام والإيمان طهر المسلمين من الشرك، أما المشركون فإنهم نجس كما ذكر الله تعالى، وإن كانت النجاسة ليست حسية، ففي هذا دليل على جواز مجالسة الجنب، ومصافحته، وأن الجنابة لا تتعدى، بل يجوز أن تجالسه وأن تصافحه وأن تخاطبه وأن تكلمه وأن تمسه، ولا ينالك شيء من نجاسته فهو طاهر طهره الإيمان، وإنما عليه هذا الحدث، وهذا الحدث لا يسمى نجاسة وإنما يسمى حدثاً يسبب الاغتسال.
صفة الاغتسال من الجنابة
صفة الاغتسال من الجنابة قال المؤلف: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده) . وكانت تقول: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، نغترف منه جميعاً) . وعن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيديه) ] . هذه الأحاديث في صفة الغسل من الجنابة، وسيأتينا ما يدل على وجوبه في الأحاديث الآتية إن شاء الله، وقد ذكر الله وجوبه بالإجمال في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] أي: متى أصابت أحدكم جنابة فليطهر، وفي قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] . والاغتسال: تعميم الجسد كله بالماء، فالآية فيها إجمال وفيها ذكر للاغتسال المجزئ.
بيان صفة الاغتسال المجزئ والاغتسال الكامل
بيان صفة الاغتسال المجزئ والاغتسال الكامل الاغتسال نوعان: مجزئ، وكامل. فالمجزئ: هو أن يعمم جسده كله بالماء أعلاه وأسفله، بحيث لا يترك من جسده شيئاً إلا أوصل الماء إليه، ويتعاهد الأماكن التي لا يصل إليها الماء إلا بصعوبة فيدلك رأسه؛ لأنه ورد أن تحت كل شعرة جنابة، ويدلك الأماكن المنخفضة كالسرة، والآباط، وبطون الركبتين، وبطون الفخذين، حتى يتأكد من وصول الماء إلى جسده. إذا عمم جسده كله بالماء يعتبر قد ارتفع عنه الحدث الأكبر، سواء بدأ برجليه أو بدأ برأسه أو بدأ بجنبه أو بغير ذلك. وأما إذا أراد الغسل الكامل؛ فإن عليه أن يعمل بهذه الأحاديث التي ذكرت فيها صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أيضاً أشياء لم تذكر فيها، ولكن ذكرت في غيرها، فمثلاً: النية لا بد منها، وذلك لأن الاغتسال عمل ولا بد فيه من النية، فينوي رفع الحدث وينوي إزالة الجنابة التي اتصف بها؛ لقوله في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) ، فمن اغتسل بدون نية لم يرتفع حدثه. وبعد أن ينوي يسمّي، فإن التسمية قد أوجبها بعض العلماء لورودها في بعض الأحاديث في الوضوء، والغسل يقوم مقام الوضوء. وبعد التسمية يبدأ بالفعل، ففي حديث عائشة وكذلك في حديث ميمونة أنه غسل يديه، تقول ميمونة: (إنه أكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً أو مرتين) يعني: لم يدخل يده في الإناء حتى صب على يديه فغسلهما، (وكان يغتسل من قدح أو من إناء، يقال له: الفرق يسع ثلاثة آصع) ، فيفيض من الإناء حتى يصب على يده فيغسل كفيه، أي: يبدأ بتنظيفهما وإزالة النجاسة عنهما؛ لأن يديه هما الآلة التي يغترف بهما، فإذا نظف يديه ابتدأ بالاغتراف. وذلك أنه يغسل فرجه أولاً، أي: يستنجي، وقد يكون الفرج علق به أو بقي فيه شيء من آثار المني، فإذا نظف أثره قد يبقى في اليد فيها شيء من اللزوجة من آثار المني ونحوه، فيضرب بها الأرض أو الحائط الذي هو الجدار المبني من الطين حتى يعلق بها تراب ثم يغسلها بذلك التراب ليزيل أثر تلك اللزوجة، أو يغسلها بما يزيل ذلك، ولعله يريد بذلك مسح ما علق بها، أو يريد بذلك غسلها بتراب أو نحوه، وإذا وجد ما يزيل ذلك الأثر غير التراب كالصابون استعمله، والحاصل أنه إذا علق بيده شيء من لزوجة المني فإن عليه أن يزيلها حتى ينظف يديه للاغتراف، والمراد هنا اليد اليسرى التي باشر بها غسل فرجه، أما اليد اليمنى فإنه معلوم أنه يغترف بها. بعد ذلك ذكرت عائشة: (أنه توضأ وضوءه للصلاة) وفصلت ذلك ميمونة فذكرت: (أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه وغسل يديه -يعني: ذراعية- ولم يغسل رجليه، بل أخر غسلهما إلى أن فرغ) ، ولكن إطلاق عائشة يقتضي أنه غسل رجليه أيضاً، ولعله هو الأولى، أعني أن الأولى أن يتوضأ وضوءاً كاملاً بما في ذلك غسل القدمين، فإذا فرغ من الوضوء الكامل ابتدأ في الغسل. فأول شيء يبدأ به غسل رأسه، ومعلوم أنه قد يكون على رأسه شعر فيقوم بتخليله، وهو إدخال الأصابع في خلال الشعر حتى يتحقق أنه قد وصل الماء إلى بشرة الرأس. ثم ذكرت: (أنه أفاض على رأسه ثلاثاً) ، يعني: صب عليه ودلكه ثلاث مرات زيادة على التأكد قبل ذلك بتخليله، وذلك كله محافظة على غسل الرأس حتى لا يبقى شيء لم يمسه؛ لأن جلدته تغطى بالشعر، وتحت كل شعرة جنابة، فلا بد من التأكد، ولأن في الوجه وفي الرأس مغابن تحتاج إلى تعاهد كالأذنين، وكذلك العينان، وكذلك العنق، فلا بد من التأكد حتى يرتفع الحدث عنه. بعد ذلك ذكرت أنه غسل سائر جسده أو أفاض الماء على سائر جسده، لكن ورد في بعض الأحاديث البدء بالشق الأيمن، وأخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما غسلت بنته: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) ، فاستحب أن يبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، أو بمنكبه الأيمن ثم الأيسر، وجنبه الأيمن ثم الأيسر، وفخذه الأيمن ثم الأيسر وهكذا. والحاصل أنه لا بد من تعميم الجسد بالماء. استحب بعض العلماء أن يغسل جسده ثلاثاً، وبعضهم يقول: لا يستحب؛ لأنه لم يرد، ولكن قد يحتاج إليه إذا كان عليه وسخ أو لم يتحقق وصول الماء أو نحو ذلك، وأوجب بعضهم أن يمر يديه على ما يستطيعه من جسده وبعضهم يقول: ليس بواجب، ولكن الاحتياط أنه يدلك ما يستطيعه، فيمر يديه على بطنه وعلى ما يستطيع من ظهره، وعلى أسفل بطنه وأسفل ظهره، وعلى فخذيه وساقيه وعلى عضديه ومنكبيه وعنقه، يتعهد ذلك كله ويدلكه، فإن هذا هو حقيقة الغسل. الغسل في الأصل هو إمرار اليد على المغسول، فإذا استطاع ذلك فليفعل وإن لم يستطع إيصال يديه إلى مؤخر ظهره اكتفى بصب الماء عليه. ذكرت ميمونة: (أنه بعد فراغه تنحى وغسل قدميه في موضع غير الموضع الذي اغتسل فيه) ؛ وذلك لأن رجليه كانتا في مستنقع الماء وقد ابتلتا بذلك الغسال فأراد تنقيتهما، فتنحى عن ذلك الماء وغسلهما من باب التنظيف أو من باب غسل جميع جسده. وذكرت عائشة: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يغترفان من إناء واحد، تقول: تختلف فيه أيدينا حتى أقول: دع لي ويقول: دعي لي) يعني: إذا كان في آخره، وذلك دليل على جواز اغتسال الرجل وامرأته جميعاً، وكان ذلك في بيت مظلم قد لا يرى أحدهما عورة الآخر، وإن كان مباحاً للرجل أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة بالنسبة إلى زوجها، وبكل حال فإن هذا فيه وصف هذا الاغتسال. معلوم أن الناس في هذه الأزمنة قد توسعوا، وبالأخص في المدن، فصاروا يغتسلون تحت ذلك الرشاش الذي يرش الماء، ويقف الإنسان تحته فيعم جسده، ولكن على كل حال فالعمل بالسنة ممكن، فممكن لك قبل أن تبدأ بالاغتسال أن تغسل يديك وأن تستنجي وأن تتوضأ وضوءاً كاملاً، وممكن لك إذا كنت تحت الرشاش أن تبدأ بغسل رأسك وأن تخلله حتى تتأكد من وصول الماء إلى البشرة، وأن تثلث بعد ذلك، بأن تتركه يصب على رأسك ثلاثاً، ويمكنك بعد ذلك أن تبدأ بالجانب الأيمن فتدلكه ثم الأيسر، ويمكنك أن تثلث، يعني: أن تمر الماء على جسدك ثلاث مرات، ويمكنك أن تحرص على إمرار يديك على جسدك ودلك ما تستطيع دلكه. وأما غسل الرجلين في الآخر، فإن كانت الرجلان في الماء المستنقع تحت قدميك، فإن عليك أن تخرج وأن تغسلهما في مكان نظيف، وإن لم يكن هناك مستنقع وتحققت أنك قد غسلتهما حصلت بذلك النظافة، وبكل حال فإن هذا فيه بيان غسل الجنابة الذي يعتبر كاملاً. وجعله بعضهم منحصراً في عشرة أشياء: أولاً: النية، ثانياً: التسمية، ثالثاً: الاستنجاء، رابعاً: تنظيف اليدين بعد الاستنجاء مما يعلق بهما، خامساً: الوضوء الكامل، سادساً: تثليث الرأس وتخليل الشعر، سابعاً: تعميم الجسد بالماء كله، ثامناً: التيمن، تاسعاً: إمرار اليد على المغسول بحسب الاستطاعة، عاشراً: التثليث يعني: سنية أن يكرر غسل كل عضو ثلاث مرات، وزاد بعضهم الحادي عشر: إذا كانت رجلاه في مستنقع أن يغسلهما في مكان آخر.
حكم نوم الجنب قبل الاغتسال
حكم نوم الجنب قبل الاغتسال قال المؤلف: [وعن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب) . وعن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء) ] . حديث ابن عمر يتعلق بالجنابة وجواز أن ينام الجنب قبل أن يغتسل، ولكن عليه أن يتوضأ قبل أن ينام، ورد في ذلك عدة أحاديث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها فعله أمر من كان جنباً ولم يتيسر له أن يغتسل أن يخفف الجنابة بالوضوء ثم ينام؛ وذلك لأنه قد يشق عليه الاغتسال في أول الليل إما لبرد وإما لقلق وإما لعدم توافر ماء أو نحو ذلك من الأعذار، فإذا لم يتيسر وأراد أن ينام فعليه أن يخفف ذلك الحدث بأن يتوضأ، وبعض العلماء يقول: عليه أن يستنجي ويتوضأ. والاستنجاء: هو غسل الفرج وغسل آثار المني، والوضوء: هو غسل الأعضاء الظاهرة المذكورة في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] إلى آخره. هذا الوضوء ذهب بعضهم إلى أنه واجب، وأنه يحرم على الجنب أن ينام على جنابة قبل أن يتوضأ؛ لظاهر هذا الحديث ولأحاديث أُخر، ظاهرها الإلزام، ولكن الصحيح أنه للاستحباب؛ وذلك لأنه ثبت عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً) وهو القدوة، يعني: أنه قد يشق عليه أحياناً الوضوء فينام بعد الجماع ولا يتوضأ ولا يستنجي ولا يغتسل، وذلك لبيان الجواز، وأن الأمر ليس للوجوب ولكنه للاستحباب.
استحباب وضوء الجنب قبل النوم والأكل والمعاودة
استحباب وضوء الجنب قبل النوم والأكل والمعاودة وهناك حالات ثلاث للجنب: الحالة الأولى: أن الأفضل أن لا ينام إذا جامع في أول الليل إلا بعد أن يغتسل، حتى ينام على طهارة، بل ورد الأمر بالنوم على طهارة لغير الجنب في حديث البراء المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت على ذلك مت على الفطرة) . الشاهد منه: أنه أمره بأن يتوضأ قبل أن ينام، فيكون النوم على طهارة من القربات، ومن أفضل الأعمال، والجنب يتأكد في حقه أن ينام على طهارة كغيره، وذكر بعضهم الحكمة في ذلك، قالوا: إنه إذا نام صعدت روحه إلى السماء، فإذا كانت على طهارة أذن لها في السجود فإذا لم تكن على طهارة لم يؤذن لها، هكذا علل بعضهم، أو حكاه عن بعض السلف. والحالة الثانية: إذا لم يتيسر له الاغتسال فإنه يتوضأ والوضوء بلا شك يخفف من الحدث الأكبر، فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم يدخلون المسجد في الحلقات العلمية وعليهم جنابة بعدما يتوضئون، فيجلسون في المسجد لاستماع الفوائد. وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام منع الجنب من دخول المسجد؛ لقوله: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، ولكن إذا احتاج الجنب إلى أن يدخل المسجد ويجلس فيه لحاجة، فإنه يخفف ذلك بالوضوء، فكذلك إذا أراد أن ينام يخفف الجنابة بالوضوء حتى يتمكن مما أمر الله به، ومن أجل أن يؤذن للروح بالسجود إذا صعدت. والحالة الثالثة: إذا لم يتيسر له ذلك فإنه ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً؛ كما ورد ذلك عن عائشة. فأكمل الحالات الغسل، ثم يليه الوضوء كما جاء في الحديث. وقد ورد أيضاً حديث آخر وفيه أمر الجنب أن يتوضأ عند الأكل، وذلك لغلظ الحدث فيخفف الحدث بالوضوء؛ لأن تناول الطعام من جملة النعم التي تحتاج أن يتناولها وهو على هيئة كاملة من الطهارة من الحدث أو تخفيف الحدث. وورد أيضاً الأمر بالوضوء عند معاودة الوطء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جامع أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) ، فلأجل ذلك استحب الوضوء في هذه الأمور الثلاثة: عند النوم، وعند الأكل، وعند معاودة الوطء، والأمر فيه كما قلنا للاستحباب، ولكن آكدها الوضوء للنوم لكثرة الأدلة فيه وصراحتها.
حكم احتلام المرأة في المنام
حكم احتلام المرأة في المنام أما حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فذكرت عن أم سليم وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنها: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان هذا السؤال مما يستحيا منه، وهو أنه يتعلق بالعورات ويتعلق بالأمور الخفية، ولكن يترتب عليه حكم، وهو أنه يحصل به حدث وهذا الحدث يمنع من الصلاة، والصلاة عبادة ولا يجوز أن يتهاون بالأحداث ولا أن يترك الشيء الذي يتعلق بالطهارة لحياءٍ واحتشام، فمهدت هذا التمهيد وقدمت هذا النص وهو قولها: (إن الله لا يستحيي من الحق) أي: ليس في الدين حياء، ونحن أيضاً لا نستحيي أن نسأل عن الحق، ولو أن ذلك الذي نسأل عنه مما يستحيا منه عادة. كان سؤالها عن اغتسال المرأة إذا هي احتلمت، قد عرفوا أن الرجل إذا احتلم فإن عليه الاغتسال، فهل تقاس عليه المرأة إذا احتلمت على الرجل أم لا فالنبي عليه الصلاة والسلام أجابها بالإثبات والإيجاب، ولكن بشرط أن ترى الماء الذي يراه الرجل، يعني: أن يحصل منها الإنزال. وجه استحياء النساء من هذا السؤال، أن احتلام المرأة قليل، وأنه إذا وقع فإنه دليل على قوة شهوة تلك المرأة، سيما الاحتلام الذي يحصل منه الإنزال، ولكن لما لم يكن مستحيلاً أثبته عليه الصلاة والسلام، وأخبر بأن المرأة شقيقة الرجل. لما سألت أم سليم هذا السؤال قالت لها أم سلمة: (فضحت النساء تربت يمينك، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت تربت يمينك، ثم قال: إن النساء شقائق الرجال) ، وفي بعض الروايات: (أن أم سلمة غطت وجهها وقالت: يا رسول الله! أو تحتلم المرأة؟!) ، يعني: هل يتصور أن يوجد منها الاحتلام؟! فقال: (نعم، فبما يشبهها ولدها) ، يعني: أن الولد تارة يكون ذكراً فيشبه أباه، ويكون أنثى فيشبه أمه، فهذا يدل على أنه يكون مخلوقاً من ماءين: ماء الرجل، وماء المرأة، فالمرأة يكون منها إنزال الماء ويخلق منه الجنين، وكذلك من ماء الرجل أيضاً. على كل حال المرأة لها شهوة كشهوة الرجل، ويتصور منها أن يوجد منها الاحتلام في المنام كما يتصور من الرجل، ويمكن أيضاً أن يحصل مع الاحتلام إنزال، يعني: نزول سائل وإن لم يكن مثلما ينزل من الرجل في كثرته وفي غلظته، ولكنه مع ذلك يعطى نفس الحكم، فإذا احتلمت المرأة وأنزلت المني وإن كان خفيفاً، فإن عليها الاغتسال كما على الرجل تماماً.
حكم المني وصفة إزالته من الثوب وغيره، ومقدار الماء الرافع للجنابة
حكم المني وصفة إزالته من الثوب وغيره، ومقدار الماء الرافع للجنابة قال المؤلف: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه) ، وفي لفظ لـ مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيصلي فيه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل) ، وفي لفظ لـ مسلم: (وإن لم ينزل) . وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهما: (أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وعنده قوم فسألوه عن الغسل فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً وخير منك -يريد النبي صلى الله عليه وسلم- ثم أمنا في ثوب) ، وفي لفظ: (كان صلى الله عليه وسلم يفرغ الماء على رأسه ثلاثاً) . قال رضي الله عنه: الرجل الذي قال: ما يكفيني هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبوه محمد بن الحنفية] . الحديث الأول: يتعلق بالمني وحكمه. قول عائشة: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه) ، تريد أثر المني، أي: ما يخرج عند الجماع من المني فيصيب البدن ويصيب الثوب، وقد استدل بالغسل من يقول: إن المني نجس، وهذا قول جماعة من الفقهاء، وعللوا بأنه خارج من أحد السبيلين، وبأنه قد يخالط البول والبول نجس، وبأنه مستقذر عادة فلا بد أن يكون نجساً، واستدلوا بهذه الأحاديث التي فيها أن عائشة كانت تغسله، والغسل لا يكون إلا لنجاسة تقع على الثوب. ولكن وردت روايات كثيرة في صحيح مسلم وفي غيره تدل على عدم غسله والاقتصار على فركه، فقد ثبت أنها قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض الروايات: (لقد كنت أحته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) والحت والحك والفرك لا يزيل أثره كلياً.
أقوال العلماء في طهارة المني ونجاسته
أقوال العلماء في طهارة المني ونجاسته المني: هو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان عند الاحتلام أو عند الجماع، وهو ماء لزج أصفر غليظ، وهو الذي يخلق منه الإنسان كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] ، وفي قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:37-39] ، هذا المني يخرج عند اشتداد الشهوة، وقد يخرج عند المداعبة، ويخرج عند الوطء، ويخرج في الاحتلام، فيخرج من الإنسان بشهوة وتدفق. وهو يوجب الغسل إذا خرج بشهوة وتدفق، وأما إذا خرج يسيل سيلاناً كالبول فلا يوجب الغسل، فإن كثيراً من الناس قد يخرج منه بعد البول قطرات مني تسمى: ودياً هي مني، ولكنها تخرج تسيل فيسمى ودياً، فهذا حكمه حكم البول؛ لأنه يتقدمه. وإذا عرفنا هذا المني فنقول: الصحيح أنه طاهر ولكن يغسل من باب الاحتياط، ومن باب النظافة للثياب، ومن باب إزالة أثره حتى لا يرى في ثياب الإنسان بعد الاحتلام أو نحوه، وفركها له أيضاً دليل على إزالة أثره، والحرص على أن لا يرى في الثياب، فالفرك معلوم أنه لا يطهره؛ لأنه إنما يتساقط منه ما كان متجمداً على الثوب، وأما ما تشرب به الثوب فإنه يبقى بلا شك، واستدل على أنه طاهر بأحاديث الفرك. ومن العلماء من قال: إنه نجس نجاسة مخففة، تلك النجاسة تطهر بالغسل وبالفرك وبالحك وبالحت ونحو ذلك. ومنهم من فرق بين يابسه فيفرك، وبين رطبه فيغسل، يعني: ما دام رطباً فإنه نجس فيغسل، وعليه تحمل أحاديث الغسل، وإذا يبس وتجمد اكتفي بفركه فيطهر بالفرك، وإذا كان فيه هذا الاختلاف الكثير فإن على الإنسان أن يحتاط فيزيله مهما استطاع، فيغسله إن كان رطباً ويفركه أو يغسله إن كان يابساً؛ حتى يتخلص من شيء وقع فيه خلاف طويل بين العلماء. وإذا أصاب البدن فإنه أيضاً يغسل، وقد مر بنا في أحاديث الاغتسال أنه عليه الصلاة والسلام لما غسل فرجه ضرب بيده الأرض أو الحائط ليزيل عنها اللزوجة، وذكرنا: أن ذلك لكونه غسل أثر المني من يده فبقي فيها لزوجة من أثر المني، فأراد أن يزيل ذلك بالتراب، فدل على أنه يبدأ به، فإذا اغتسل الإنسان وعلى ثيابه شيء من المني حرص على إزالته، وإذا كان على بدنه شيء من المني حرص على تطهيره وإزالته، ثم يغتسل بعده.
ذكر بعض الأحكام المترتبة على الإيلاج
ذكر بعض الأحكام المترتبة على الإيلاج أما الحديث بعده فيتعلق بموجب الغسل، وهو الجماع، ولا شك أن الجماع يسبب الجنابة، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، والجنب هو الذي عليه حدث أكبر، وهذا الحدث يحصل بسبب الجماع أو الاحتلام أو ما أشبه ذلك، فإذا جامع وأنزل فإن عليه الاغتسال اتفاقاً، ولكن اختلف فيما إذا جامع ولم ينزل، كما إذا أعجل مثلاً أو أنه لم يحصل منه الإنزال، فهل عليه أن يغتسل أم لا؟ رويت أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ترك الاغتسال مع عدم الإنزال، وقال: (إنما الماء من الماء) ، يعني: ماء الاغتسال يجب بوجود الماء الذي هو نزول المني، ولما طرق على رجل من الأنصار وكان على امرأته فقام قبل أن ينزل فاغتسل، قال عليه السلام: (إذا أعجل أحدكم أو أقحط فعليه أن يغسل ما أصابه منها) ، ولم يأمره بالاغتسال، قالوا: فهذه الأحاديث التي فيها أن الماء من الماء كانت رخصة في أول الإسلام لقلة الثياب ولضعف الحال، فلما وسع الله عليهم، عند ذلك أمروا بأن يغتسلوا من الجماع، ولو لم يكن هناك إنزال. فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ، يعني: إذا أولج الرجل إلى أن غيب رأس الذكر ووصل إلى محل الختان فقد وجب الغسل، كذلك هذا الحديث الذي عندنا: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها) ، وشعبها: يداها ورجلاها، عادة أنه يجلس عليها، ثم بعد ذلك يجهدها بقوته، فإذا فعل ذلك عادة أنه يولج بعض الإيلاج، فإذا حصل أن أولج إلى أن التقى الختانان فإن هذا من موجبات الاغتسال. بل تترتب عليه الأحكام كلها، فيترتب عليه الحد فلو أن الزاني لم ينزل ولكن حصل منه أن أولج رأس الذكر، فإنه يجب به الحد، فيرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان غير محصن، فما دام أنه يجب به الحد فكذلك يجب به الاغتسال، وهكذا أيضاً إذا دخل بالمرأة وجامعها وإن لم ينزل، يعني: لو أولج رأس الذكر ثم جهدها ولم ينزل فإنه يستقر عليه الصداق، حتى لو كان الصداق مائة ألف أو أكثر فإنه يستقر بهذا، وكذلك يوجب العدة ونحو ذلك من الأحكام. فكذلك نقول: يوجب الاغتسال ولو لم يكن هناك إنزال، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى، في قوله: (وإن لم ينزل) . معلوم أن الإنزال هو الأصل وأن الإنسان يحصل له فتور بعد الإنزال وبعد خروج المني، ولا تبرد شهوته غالباً إلا بالإنزال، فبعض الناس ينزل وإن لم يجامع، وبعضهم يجامع ولا ينزل، ولكن تبرد شهوته بذلك ويسمى جماعاً، فالجميع من موجبات الاغتسال. هذا هو الصحيح الذي دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث، وهو الذي استقر عليه عمل الصحابة آخر الأمر، وانقطع الخلاف الذي كان قديماً بينهم.
الاغتسال بصاع والوضوء بمد
الاغتسال بصاع والوضوء بمد بعد أن عرفنا موجب الغسل فقد تقدمت لنا أحاديث في صفة الغسل، ولكن عندنا الآن حديث في مقدار ماء الغسل، في هذا الحديث أن جابراً رضي الله عنه لما سئل عن مقدار الغسل قال: (يكفيك صاع) ، أي: صاع من الماء، والصاع مكيال معروف، ولما اعترض رجل وهو الحسن بن محمد ابن الحنفية وقال: (لا يكفيني وذكر أن شعر رأسه كثير فلا يكفيه الصاع، فأخبره جابر أنه كان يكفي من هو أكثر منه شعراً وخيراً منه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. قد ذكرت عائشة، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) يعني: أن المد وهو ربع الصاع كان يكفيه للوضوء عليه الصلاة والسلام، وأما للاغتسال فإنه كان يغتسل بصاع، يعني: بأربعة أمداد أو خمسة أمداد. وبذلك يعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على الاقتصاد وعدم الإسراف حتى في الماء، كما روي أنه مر على سعد وهو يتوضأ فقال: (لا تسرف، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار) ، يعني: أنك مأمور بأن تقتصد، فاقتصاره عليه الصلاة والسلام على مد في الوضوء وعلى صاع في الاغتسال دليل على الاكتفاء بهذا القدر، حتى ولو كانت المياه متوافرة وكثيرة. وفي الحديث: (أنه عليه الصلاة والسلام أفاض على رأسه ثلاثاً) يعني: أنه يبدأ برأسه فيغرف عليه ثلاث غرفات، كل غرفة ترويه ويدلكه بها ثم يغسل بقية جسده إلى أن يبلغ جسده كله بالماء، وهذا هو الغسل الكامل كما تقدمت بعض صفاته، والذين يكررون الدلك ويبالغون فيه قد يكون بعضهم معذوراً بالحرص على الإسباغ والتبليغ، وبعضهم ليس بمعذور؛ لما يقع فيه من الإسراف وكثرة صب الماء، ومع ذلك فلا بأس أن يدلك الإنسان جسده لغرض النظافة وإزالة الأوساخ والأقذار إذا كان بعيد العهد بالاغتسال، وخاف أن يكون في بدنه شيء من الوسخ. وأما غسل الجنابة فإن القدر الكافي منه هو ما ذكرنا، وهو مقدار اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان يغتسل تحت الرشاش الذي يصب فوقه، حرص أيضاً على أن لا يضيع الماء وأن يكون بقدر ما يبلغ جسده، ثم يتحفظ عن الزيادة التي لا حاجة إليها، إلا إذا احتاج إلى دلك لإزالة وسخ أو قذر أو نحو ذلك. فهذه الأحاديث كلها تتعلق ببقية الغسل، يعني: الحديث الذي يتعلق بآثار الجنابة وهو المني، والذي يتعلق بموجبها والذي يتعلق بكيفية إزالتها.
شرح عمدة الأحكام [6]
شرح عمدة الأحكام [6] مما اختص الله به هذه الأمة دون غيرها مشروعية التيمم، وذلك من التوسعة عليها ومن وضع الآصار والأغلال عنها، ولكن قد يسيء بعض الناس استخدام هذه الرخصة والتوسعة، ولذلك يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها وشروطها كما بين ذلك العلماء.
مشروعية التيمم وصفته وأحكامه
مشروعية التيمم وصفته وأحكامه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب التيمم: عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك) . وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا. ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) ] . هذا باب التيمم، والمراد به التطهر بالتراب عند فقد الماء كما هو معروف، وسمي تيمماً للأمر به كما في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} [المائدة:6] ، فلما سماه الله تيمماً أخذوا اسمه من هذه الكلمة. وسبب نزول الآيات في مشروعية التيمم، أنهم كانوا مسافرين في غزوة من الغزوات، ولما كانوا ذات ليلة في مكان سقط عقد لـ عائشة في الليل، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن ينيخوا رواحلهم، فباتوا وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله في تلك الليلة آية التيمم، وفيها يقول أسيد بن حضير لـ عائشة: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بكم أمر أو شدة إلا جعل الله لكم منه مخرجاً، وجعل الله للمسلمين فيه خيراً) . وقد ورد في الأحاديث أنه من خصائص هذه الأمة، يعني: أن من خصائص هذه الأمة التيمم بالتراب، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] . قوله: (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، التطهير بهذا التراب تطهير معنوي، وذلك أن المسلم يستحضر أن ربه سبحانه أمره باستعمال التراب فيمسح به وجهه وكفيه، فهو يقصد ذلك امتثالاً لأمر الله.
التيمم يرفع الحدثين
التيمم يرفع الحدثين ويرتفع بالتيمم الحدث الذي على البدن، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الحدث الأصغر بقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6] فالحدث الأصغر هو الذي يرتفع بالوضوء، وذكر الحدث الأكبر بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] ، وهو الذي يوجب الغسل، لكن عند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله فكلا الحدثين يرتفع بالتيمم. قوله: (فَتَيَمَّمُوا) يعني: فاقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. فجعل الله هذا التيمم رافعاً للحدث، وجعله طهوراً معنوياً يحصل به نفع ويحصل به استباحة الصلاة، وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة، ولكنه تطهير معنوي جعله الله تعالى توسعة؛ لأنه لما فرض الوضوء والغسل فهو يعلم أن الماء قد ينعدم في بعض الأحيان أو يتعذر استعماله، فجعل له بدلاً وهو التراب، وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء، وقد ذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ولهذا ذكر العلماء من شروط العدول إلى التيمم: أن يكون قد بحث عن الماء في رحله وفيما كان قريباً منه ولم يجده، أو وجده وكان قليلاً وهو بحاجة إليه للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، ففيه رخصة وفيه توسعة. والتيمم يحصل من الحدثين الأصغر والأكبر، فالآية نزلت في الأصغر عندما كانوا مسافرين وانعدم الماء واحتاجوا إلى الوضوء، فأمرهم بأن يتيمموا، فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة، وذكر في الآية نفسها موجب الغسل في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] فإن الملامسة هي الجماع، والجماع موجب للغسل لا الوضوء، فتكون الآية اشتملت على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء، ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل. والأحاديث التي عندنا تتعلق بالغسل، فإن حديث عمران في الغسل، وذلك أن بعض الصحابة تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر، فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين؟! فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا بالرجل معتزلاً جالساً، فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة، فسأله لماذا تركت الصلاة؟ فاعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدثاً أكبر، وأنه أصابته جنابة من آثار احتلام أو نحوه، وليس معه ماء يكفيه للاغتسال، فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) ، والصعيد هو المذكور في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] .
تفسير الصعيد الطيب المجزئ للتيمم
تفسير الصعيد الطيب المجزئ للتيمم وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد، والصحيح أنه وجه الأرض المستوية الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه، وسمي بذلك لصعوده على وجه الأرض، أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد، أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه، وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوية، كما في قوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40] ، يعني: مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار، فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض، فإذاً التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض. اشترط بعض العلماء أن يكون له غبار، وأخذ هذا الشرط من قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] قالوا: إن كلمة: (منه) تدل على التبعيض، وأنه يعلق منه غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف، فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه. والصحيح أنه لا يشترط ذلك وإنما يكفي ضرب الأرض إذا كانت مستوية وفيها تراب ونحوه. ويكثر السؤال عن الأماكن التي قد يعوز فيها التراب، يعني: المساجد المبلطة أو المفروشة مثلاً، والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب، والصحيح أنه يجوز ضرب وجه مثل هذه الأرض؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد، ولكن لا بد أن يكون طاهراً حيث اشترط الله الطيب بقوله: (صَعِيدًا طَيِّبًا) ، فإذا كانت نجسة لم تجز التيمم منها، فلو ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك، فإنه لا يصح التيمم به. وإذا كان المكان فيه فراش أو نحوه وفيه شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض حتى يتطاير منه الغبار، وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكاناً يتيمم منه فإنه يأتي بتراب ليتيمم منه. وإذا لم يستطع إحضار التراب صلى ولو بدون تيمم، وذلك كالمرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء فهم معذورون، وقد ذكر الله تعالى المرض من جملة الأعذار كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة:6] ، خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء، وذكر المسافر لأنه غالباً يفقد الماء. فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء، وقد لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه، وقد لا يستطيع أيضاً غسل أعضائه من شدة المرض؛ فله أن يتيمم، فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار، فيمكن إحضار تراب له في طست أو في إناء ليضرب عليه، فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه، فإنه إن استطاع أن يضرب الفراش ولو بدون غبار فعل، وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب. والحاصل أن التيمم لا يكون إلا من الصعيد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك) ، وكما في الآية: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة:6] ، فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.
بيان إجزاء التيمم عن الغسل في حديث عمار
بيان إجزاء التيمم عن الغسل في حديث عمار وفي الحديث الثاني أيضاً الدلالة على أنه يكون من الحدث الأكبر، فإن عمار بن ياسر لما احتلم وكان في سفر وليس عنده ماء، وقد عرف أن الوضوء يقوم بدله مسح الوجه واليدين بالتراب، فاعتقد أن الغسل لا يقوم بدله إلا مسح البدن كله بالتراب، فتمرغ في الصعيد وتقلب فيه كما تفعل الدابة التي تتمرغ في التراب. وهذا ظن منه أنه لا يقوم مقام الغسل إلا التمرغ الكامل في التراب، وهذا من باب القياس، ولكن بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس فيها إلا مسح الوجه واليدين، مع ذكر الحدث الأكبر في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [المائدة:6] ، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صفة التيمم أن يضرب الأرض بيديه وأن يمسح بهما وجهه ويمسح كفيه.
عدد ضربات التيمم
عدد ضربات التيمم وقد اختلف في عدد الضربات، وحديث عمار ليس فيه إلا ضربة واحدة، وهو أصح من غيره. لكن ورد أحاديث فيها مقال منها قوله: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين) ، فإن اقتصر على ضربة واحدة مسح وجهه براحته، ومسح كفيه بأصابعه، وخلل أصابعه وأدخل بعضها في بعض حتى يكون قد عمم. فالغبار الذي على الراحتين يمسح به وجهه، والغبار الذي على الأصابع يمسح به ظاهر الكفين وباطنهما وداخل الأصابع، وإن ضرب ضربتين فلا بأس، ضربة يمسح بها وجهه، وضربة ليديه.
حد اليدين في المسح عليهما عند التيمم
حد اليدين في المسح عليهما عند التيمم وأما حد اليدين، فالآية فيها إطلاق: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] ، ولم يقل: إلى الكوع، ولم يقل: إلى المرفق، ولم يقل: إلى المنكب. فجاء في بعض الروايات: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين) ، فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وهو الذي يغسل إليه في الوضوء، ولكن في حديث عمار أنه اقتصر على مسح الكفين، والكف: هو الراحة والأصابع وما اتصل بها إلى المفصل، وفي بعض الروايات تحديده إلى الكوع، والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع، وقد يقال: إن الكوع هو طرف المفصل مما يلي الإبهام، والكرسوع: طرف المفصل مما يلي الخنصر، وهذا هو الراجح. في حديث عمار أنه مسح كفيه واقتصر عليهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد.
اشتراط النية وضرب الصعيد في صحة التيمم
اشتراط النية وضرب الصعيد في صحة التيمم وبكل حال لا بد من النية كما تقدم، ولا بد أن يكون هناك مسح. ولهذا يقول العلماء: لو أن إنساناً صمد بوجهه أمام الريح فألقت في وجهه تراباً لم يكفه ذلك ولو مسح به؛ لأنه ما أخذه من وجه الأرض، والله يقول: (فَتَيَمَّمُوا) أي: فاقصدوا، ويقول: (فَامْسَحُوا) . فلا بد أن يقصد ضرب الأرض ويستعمل التمسح الذي أمر الله تعالى به، ويكون المسح مرة واحدة، فلا يطلب فيه التكرار كما ورد في الوضوء، بل يقتصر على مرة واحدة؛ وذلك لأن القصد منه التعبد، والطهارة به طهارة معنوية وليست طهارة حسية كالطهارة بالماء، إنما هي طهارة معنوية، ولذلك كان لا بد من النية حتى يتم الامتثال.
شرح حديث (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي)
شرح حديث (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ] . هذا الحديث أورده المؤلف في باب التيمم، حيث ذكر فيه التيمم بتراب الأرض، ويعتبر هذا الحديث دالاً على ميزة وفضل وشرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكر الخصائص التي اختصه الله بها وهي خمس في هذا الحديث، ولكن لا يدل ذلك على الحصر، بل له خصائص أخرى سواء اختص بها عن الأنبياء قبله، أو اختص بها عن أفراد الأمة. ذكر العلماء من خصائصه الشيء الكثير، وسرد ذلك البيهقي في أول كتاب النكاح، حيث أنه اختص بأشياء في النكاح منها ما في قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، ومنها جمعه بين تسع نسوة، وهذه الخصال دالة على ما فضله الله به على الأنبياء قبله.
الخصلة الأولى: نصرته عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر
الخصلة الأولى: نصرته عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر فالخصلة الأولى قوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر) . الرعب: هو الخوف الذي يكون في قلوب الأعداء بسبب غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فالله يجعل في قلوبهم رعباً منه وخوفاً وفرقاً، بحيث إنهم لا يقدمون على قتاله ولا يصبرون على مواجهته، بل يتفرقون وينخذلون وينهزمون ويتبعثر جمعهم، وذلك نصر من الله تعالى وتأييد له حتى يتم أمر الله ويعلو دينه،؛ لأن الله تعالى قد وعده بإظهار هذا الدين كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] . فلما وعده بإظهار هذا الدين عرف بأن للدين أعداء وله مقاومين وحسدة يحسدونه على ظهوره وعلوه؛ وذلك لأنهم يفارقون مألوفاتهم إذا اعتنقوه، ويتركون دين أسلافهم وآبائهم وعقائد أجدادهم، فيفرق بينهم وبين ما هم عليه، فلما كان كذلك كان ولا بد أن يوجد من يعادي هذا الإسلام ويحول دون انتشاره، فإذا هم النبي عليه الصلاة والسلام بغزو أولئك الأعداء قذف الله في قلوبهم الرعب، وألقى عليهم الخوف والفرق، فتفرقوا وذهبوا، وإن قاتلوا لم يصمدوا للقائه ولا لمقاتلته. قد أخبر الله عز وجل بشيء من ذلك كما في قصة بني النضير، في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] أي: الخوف والفزع، فلم يطمئنوا حتى هربوا وفارقوا ديارهم؛ وذلك بسبب هذا الرعب. وهكذا لما تحزبت الأحزاب وأحدقوا بالمدينة في سنة خمس بقيادة أبي سفيان ومن معه من قريش ومن غطفان ومن سائر المشركين، فلما اشتد حصارهم قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، وكذلك في قلوب من عاونهم فقال تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] ، إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] ، كل ذلك من آثار هذا الرعب. والصحيح عند العلماء أن هذا الرعب باق في قلوب أعداء الإسلام، سواء كان الذي يقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته أو من هو على دينه، فمتى صمد المسلمون لقتال عدوهم، ومتى حققوا إسلامهم وصححوا عقيدتهم، وسلموا من الدخل والدخن ومن الاضطراب في المعتقد؛ فإن الله تعالى سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب والخوف؛ تحقيقاً لوعد الله تعالى بنصر نبيه: (نصرت بالرعب) . قوله: (مسيرة شهر) يعني: إذا هم بغزو قوم وبينه وبينهم مسيرة شهر على الأقدام وعلى الرواحل؛ فإن أولئك الأعداء يخافونه وبينهم وبينه هذه المسافة، ولا يصبرون على مقابلته، وكذلك يكون حالهم مع أتباعه.
الخصلة الثانية: جعل الله الأرض مسجدا وطهورا لنبيه وأمته
الخصلة الثانية: جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً لنبيه وأمته الخصلة الثانية هي الشاهد من باب التيمم، وهي قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) . قوله: (وجعلت لي الأرض) يعني: وجه الأرض. قوله: (مسجداً) المسجد هو الموضع الصالح للسجود عليه والصلاة فيه. قوله: (طهوراً) : والطهور معناه ما يتطهر به. يعني: أن الله تعالى فضل هذه الأمة ونبيها بأن أباح لهم أن يصلوا إذا أدركتهم الصلاة في أي بقعة، قد كان الأمم قبلنا لا يصلون إلا في كنائسهم وصوامعهم وبيعهم ومعابدهم وأديارهم، فلا يصلي أحدهم إلا في ديره الخاص به أو نحو ذلك، ولكن الله تعالى وسع على هذه الأمة، فالمسافر إذا أدركته الصلاة فلا يؤخرها، بل يصليها في أي بقعه من الأرض الطاهرة التي ليس فيها شيء مما نهي عن الصلاة فيه، إذ الأصل أن كل بقعة من الأرض تصلح أن تكون مصلى للمسلم إذا أدركته الصلاة. سمعت أن بعض الناس يحتج على جواز الصلاة في البيوت وفي الأسواق، ولكن ليس في هذا حجة، إنما الحديث حجة في أن المصلي إذا أدركته الصلاة وليس هناك موضع مخصص له، فإنه يصلي في تلك البقعة، أما إذا كان هناك مواضع للصلاة كالمساجد المبنية المهيأة لها، فإن المساجد إنما بنيت لأجل عمارتها بطاعة الله تعالى، والكلام على هذا ليس هذا موضعه. وأما كون الأرض طهوراً فمعناه أن من فقد الماء فإنه يتطهر بالتراب كما في آية التطهر به، وهي قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] ، إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] . سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً؛ لأن التيمم بها يرفع الحدث، والحدث هو ما يقوم بالبدن عند وجود ناقض من النواقض، فإذا انتقض وضوء الإنسان ولم يجد ماءً جاز له أن يتيمم بالتراب، ويقوم ذلك مقام الماء، توسعة من الله تعالى، ولم يكن ذلك في الأمم قبلنا، فإنهم لا يرتفع حدثهم إلا الماء ولا يباح لهم أن يتيمموا بالتراب، فعلم الله المشقة التي تنال الأمة لأجل فقد الماء فأباح لهم أن يتيمموا وأن يحبسوا ما معهم من الماء لطعامهم وشرابهم وغيرها. ولكن لا ينبغي التساهل في هذا غاية التساهل، فإن كثيراً من الناس يتيممون والماء قريب منهم أو معهم، فالماء إنما جعل ليطهر البدن طهارة ظاهرة، والماء لا شك أنه يرفع الأحداث ويزيل الأخباث ويطهر النجاسات، والتراب إنما هو مبيح للصلاة ورافع للحدث رفعاً مؤقتاً، وبشرط أن لا يوجد ماء؛ لقوله تعالى في الآية الكريمة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ، فإذاً لا يباح التيمم مع وجود الماء أو مع القرب منه أو مع توافره وتيسره. ذكر لي كثير من الإخوان أنهم خرجوا مع أناس والماء معهم كثير، حيث كان معهم سيارات محملة بالماء أو خزانات أو نحوها ملأى بالماء ومع ذلك يتيممون، هؤلاء لا يجوز لهم التيمم والحال هذه؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء وهؤلاء معهم المياه التي في السيارات وفي الأواني الكبيرة، ولو كانوا سيجلسون مثلاً أربعة أيام أو خمسة أيام، ولكن ما دام معهم هذا الماء بهذه الكثرة فلا يحل لهم التيمم. وذكر أنهم يغسلون الأواني غسلاً بليغاً، فإذا أكلوا أو شربوا في إناء فإنهم يصبون عليه ماءً كثيراً، وإذا أكل أحدهم وغسل يديه غسلهما بماء كثير يتجاوز ما يتوضأ به الإنسان أو يغتسل به، ومع ذلك يتيممون إذا حضر وقت الصلاة، فلا شك أن هذا خطأ وأنه توسع في شيء ليس فيه هذا التوسع. كما ذكر أيضاً أن معهم عدداً من السيارات، وأن المياه قد تكون قريبة منهم، أو البلاد التي هم حولها قد تبعد عنهم نصف ساعة أو ساعة بالسيارة أو ما أشبه ذلك، وأنهم متى بدا لأحدهم غرض أو شراء شيء كنعل مثلاً أو ملح أو كبريت أو ما أشبهه حركوا لأجله سيارة، فإذا كان كذلك فباستطاعتهم إذا قل عليهم الماء أن يرسلوا سيارة ويأتوا بماء في براميلهم ولا يكون عليهم حينئذ نقص، ولو غابت السيارة يوماً من أجل الإتيان بالماء، فإذاً لا يجوز لهم التيمم. قد عرفنا بعضاً من المسافرين يحملون معهم الماء ويتوضئون به إذا كان في إمكانهم أن يصلوا إلى الماء بعد ثلاث ساعات، مع أنهم يسيرون على الأقدام وعلى الرواحل، وأدركنا أيضاً بعض أهل البوادي يرسلون إلى الماء لأجل الوضوء يوماً ذهاباً ويوماً إياباً، فيرسلون الراوي ليرتوي لهم فيغيب عنهم يومين، والماء في ذلك الوقت في غاية الصعوبة، وإنما يؤتى به في القرب، ومع ذلك لا يتيممون. فإذاً: لا ينبغي التوسع في مثل هذا، بل إذا خرج جماعة للنزهة وكان معهم هذا الماء فليستعملوه في الوضوء ولا يتيمموا والماء معهم بهذه الكثرة، أما إذا كانت المسافة طويلة أو كان هناك صعوبة في تحصيله أو يوجد ولكن بثمن رفيع، فحينئذ لا بأس بأن يعدلوا إلى التيمم؛ لأنهم معذورون في ذلك.
الخصلة الثالثة: إباحة الغنائم للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته
الخصلة الثالثة: إباحة الغنائم للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) : الغنائم: غنائم المقاتلين، فإذا قاتل المسلمون أعداءهم وانتصروا عليهم فهربوا وتركوا أموالهم من دواب ومن أمتعة ومن مدخرات ونحو ذلك، وأخذها المسلمون واستولوا عليها وتقاسموها بينهم، فقد أباحها الله تعالى لهم كما في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا} [الأنفال:69] ، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شيء} [الأنفال:41] ، يعني: اعلموا أن ما استوليتم عليه من الغنائم: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] ، فعرف بذلك أن الغنيمة كانت محرمة على الأمم قبلنا، وكانوا إذا غنموا جمعوا الغنيمة، فتنزل عليها نار فتحرقها، أما هذه الأمة فإن الله علم ضعفها فأباح لها التمتع بها والتملك لها.
الخصلة الرابعة: اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالشفاعة العظمى يوم القيامة
الخصلة الرابعة: اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالشفاعة العظمى يوم القيامة قوله: (وأعطيت الشفاعة) : الشفاعة: المراد بها هنا نوع من أنواع الشفاعة وهي الشفاعة العظمى، وسيأتينا أقسام الشفاعة في توحيد العقيدة وأن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة شفاعات، ولكن أكبرها هي الشفاعة التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة العظمى، وتكون عندما يطول بالناس الموقف فيستشفعون بالأنبياء فيقولون: ائتوا آدم، فيقولون: يا آدم اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ثم يأتون نوحاً عندما يعتذر آدم، فيقولون له كذلك، ثم يأتون إبراهيم ثم موسى ثم عيسى -هؤلاء هم أولو العزم- ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) . هذه هي الشفاعة العظمى، وفسرت بالمقام المحمود كما في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، ولا شك أنها ميزة وفضيلة وخصيصة عظيمة له يوم القيامة يحمده بها الأولون والآخرون، هذه خصلة من الخصال التي ميزه الله تعالى بها وفضله على غيره من الأنبياء قبله.
الخصلة الخامسة: إرساله وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة
الخصلة الخامسة: إرساله وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة قوله صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) : يعني: أن كل نبي بعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] ، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] ، يعني: أخاهم في النسب، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73] يعني: في النسب أيضاً، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] يعني في النسب أيضاً. وبذلك كان كل نبي منهم يدعو قومه فيقول: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح:2] كما في قول نوح، وهود كما في قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] فدعا قومه، فدل على أن رسالته خاصة بقومه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد فضل بفضائل كثيرة، منها عموم رسالته وبقاؤها واستمرارها إلى قيام الساعة. أما عمومها فلأنه بعث إلى الأسود والأحمر، وبعث إلى القاصي والداني، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] يعني: أرسلناك للناس كافة أي: لكل الناس، وقال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: من بلغه القرآن فمحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إليه. وأخبر عليه الصلاة والسلام عن عموم رسالته بقوله: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي، أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي، إلا أدخله الله النار) ، فهذه خصوصية. وأما بقاء شريعته واستمرارها إلى يوم القيامة فلأنه خاتم الرسل والأنبياء.
ذكر ما لا يجوز التيمم به
ذكر ما لا يجوز التيمم به والشاهد من حديث جابر ما بينه في الخصلة الثانية من كونه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، يعني يتطهر بالتراب كما يتطهر بالماء. وقد بين العلماء أن هذا العموم قد يستثنى منه بعض الأشياء، وذلك لأنه جاء في بعض روايات الحديث: (وجعلت تربتها طهوراً) ، فخص التربة، فقالوا: إذاً لا يتيمم إلا بالتراب، ولكن الصحيح أيضاً أنه يتيمم بالرمل، ولو لم يكن له غبار، ومعلوم أن الرمل لا غبار له ولكنه يعلق باليد، فكل شيء يعلق باليد إما غبار وإما رمل فإنه يتيمم به. وأما وجه الأرض على ما قاله بعضهم فلا، يعني كونه يتيمم بكل ما تصعد على وجه الأرض وأخذوا ذلك من قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة:6] . لكن نقول: لو كان مثلاً على صخرة، وكان في إمكانه أن ينزل ويجد تراباً فإنه لا يتيمم منها إلا إذا لم يجد غيرها. واشترط بعضهم التراب؛ لأن الله قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] قالوا: كلمة: (منه) تدل على التبعيض، أي: أنه لا بد أن يعلق باليد شيء منه حتى يمسح به. واستثنوا ما كان نجساً فلا يجوز أن يتيمم بالأرض النجسة؛ لأن الله اشترط طيبها، في قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] ، فإذا كانت نجسة فليست صعيداً طيباً. وكذلك إذا كانت محترقة كالرماد مثلاً فلا يتيمم به؛ لأنه لا يوصف بأنه طيب، وهكذا كل شيء محرق كالنورة وما أشبهها، وهكذا أيضاً ما ليس بتراب، كدقيق الحنطة ولو كان على وجه الأرض؛ لأنه لم يكن تراباً، ولم يكن من وجه الأرض ولا من الصعيد. فإذاً التيمم خاص بما كان على وجه الأرض مما هو من أجزائها ومما هو ملتصق بها. وفي هذا القدر كفاية لمعرفة ما أباح الله تعالى التيمم به، ومعرفة الحكمة والعلة التي لأجلها أبيح التيمم.
شرح عمدة الأحكام [7]
شرح عمدة الأحكام [7] الحيض أمر جبلي كتبه الله على النساء لحكمة ومنفعة، ويتعلق به كثير من الأحكام، حيث تمنع الحائض من بعض العبادات، وتؤمر بترك بعض العبادات، وقد بينها الفقهاء في كتبهم، كما بينوا أحكام الاستحاضة التي قد تستمر في المرأة ولا تنقطع.
ذكر أحاديث الحيض
ذكر أحاديث الحيض قال المؤلف رحمه الله: [باب الحيض: عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي) ، وفي رواية: (وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي) . وعن عائشة رضي الله عنها: (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: هذا عرق، فكانت تغتسل لكل صلاة) ] .
تعريف الحيض والحكمة من إيجاد الله له
تعريف الحيض والحكمة من إيجاد الله له هذا باب الحيض، وعرفه العلماء: بأنه دم طبيعة وجبلة يرخيه الرحم في أوقات معلومة، خلقه الله تعالى في إناث البشر لحكمة تغذية الجنين في الرحم، فإذا حملت المرأة توقف خروجه وانصرف إلى تغذية جنينها في بطنها، فإذا لم تكن حاملاً فإنه يخرج في أيام معلومة لحكمة. يتكلم العلماء عليه وذلك لأن له أحكاماً، ولأنه يتعلق به عبادات وأمور في حق الرجال وفي حق النساء، فلذلك يتعلمه الرجال وتتعلمه النساء ليكونوا على بصيرة، ولا حياء في ذكره، ولو كان خاصاً بالنساء، ولو كان يخرج من مخرج البول، ولو كان دماً نجساً ومستقذراً، فلا يستحيا من ذكره ولا من الكلام فيه؛ وأيضاً فهو الأصل في غذاء الإنسان في الرحم فإذا علقت المرأة بالجنين صار ذلك الدم غذاءً لجنينها حيث يتغذى به من سرته، وينمو به جسده، وينبت عليه النبات الذي قدره الله تعالى، فإذا وضعت حملها وخرج الدم المحتبس فإنه يخرج في أيام النفاس، ثم يتوقف دم الحيض غالباً عن أكثر النساء، أين يذهب؟ يقلبه الله لبناً يخرج من الثديين، ولهذا إذا كانت المرضعة ترضع ولدها من ثدييها فإنها لا تحيض غالباً، نعم بعض من النساء تحيض ولكن الأكثر إذا كانت ترضع ولدها أنه يتوقف عنها دم الحيض، ويقلبه الله تعالى لبناً، فإذا فطم ولدها عاد إليها هذا الدم، ثم إذا علقت بحمل ثان توقف الحيض وهكذا.
ذكر مجمل ما يتعلق بالحيض من الأحكام
ذكر مجمل ما يتعلق بالحيض من الأحكام ذكر العلماء أنه يتعلق بالحيض كثير من الأحكام: الأول: تحريم وطء الحائض، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] ، فأمر باعتزالهن، وعلل ذلك بأنه أذى، فلذلك يحرم وطء المرأة وهي حائض لهذه الآية ولغيرها من الأدلة، ويأتي الكلام حول هذا. الثاني: تحريم العبادة على الحائض كالصلاة والصوم، يعني: أنها لا تصلي ولا تصوم، ويأتينا أنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، وذلك لحكم نتعرض لها إن شاء الله في شرح بعض الأحاديث. الثالث: أنه يتعلق به العدة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ، فدل على أن له حكماً في اعتداد المطلقة. الرابع: تحريم الطلاق في حال الحيض، وعللوا ذلك بتعليلات مذكورة في كتب الأحكام، ومنها هذا الكتاب. ومن الأحكام التي تتعلق بأمر الحيض ما يختص بالنساء: الأول: المنع من دخول المسجد، فالمرأة إذا كانت حائضاً فلا تدخل المسجد إلا لضرورة. الثاني: الحائض لا تقرأ القرآن. الثالث: الحائض لا تمس المصحف وإن رخص لها أحياناً، وغير ذلك من الأحكام. فلما تعلقت به أحكام كثيرة احتاج العلماء أن يتوسعوا فيه، وقد كتب فيه العلماء مؤلفات حتى إن بعضهم كتب فيما يتعلق بالحيض كتاباً يتكون من مجلدين كبيرين وذكر الخلاف الذي وقع فيه، وذلك دليل على أنه أمر مهم ولو أنه من خواص النساء.
أحكام الاستحاضة
أحكام الاستحاضة ثم مما يقع للنساء في الحيض ما تضمنته هذه الأحاديث، وهو أن بعضاً من النساء قد يطبق عليها الدم ويستمر ولا ينقطع، ويسمى ذلك استحاضة وفي هذا الحديث حديث فاطمة بنت أبي حبيش ذكرت أنها امرأة تستحاض ولا تطهر، يعني: يستمر معها الدم ولا ينقطع، فهل تترك الصلاة دائماً ما دام أنها نجسة بهذا الدم المستمر؟ فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا عرق، أي: دم عرق وليس هو دم حيض الذي ذكر الله أنه أذى، وأنه خلق لأجل تغذية الجنين ونحو ذلك. ذكر العلماء في بعض الروايات أن هذا العرق يسمى: العاذل، وهو عرق ينفجر من رحم المرأة، فهو يجري في غير أوانه ويستمر خروجه ولا يتوقف؛ وقد يكون ذلك بسبب مرض في بعض النساء؛ وقد يكون ذلك بسبب قوة بدنها أو كثرة غذائها أو نحو ذلك من الأسباب، فيختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة.
حكم المستحاضة التي لها عادة مستقرة
حكم المستحاضة التي لها عادة مستقرة أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة في هذا الحديث إلى أن تترك الصلاة قدر أيام عادتها ثم تتطهر وتصلي؛ وذلك لأن الغالب أن المرأة إذا ابتدأت حيضها، فإنها تستمر فيه مدة معينة، فتكون حيضتها قدر الأيام التي يأتيها فيه الحيض ثم ينقطع، فهذه عادتها، وهي قد تطول تارة وتقصر تارة، ولكن الغالب أنها تستمر على حالة محددة معينة، فمنهن من تكون أيام حيضها ستة أيام ثم ينقطع، ومنهن من تستمر إلى سبعة أيام، ومنهن من قد تصل إلى عشرة، وأكثر ما وصل إليه الحيض اليقيني خمسة عشر يوماً، أي أنه وجد من تحيض خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض من يكون حيضها يوماً وليلة، ومنهن من تحيض يومين، وإن كان نادراً، وصول المرأة في حيضها إلى خمسة عشر يوماً، وكذلك طهرها بعد يوم أو يومين، والغالب خمسة أيام أو ستة أو سبعة أو ثمانية، هذا أغلب النساء وأكثرهن. فالمرأة إذا مكثت مثلاً عشر سنين وهي على عادة مستمرة، بأن يأتيها الحيض سبعة أيام ثم ينقطع وتطهر، ثم يرجع إليها بعد حين ويبقى معها سبعة أيام ثم ينقطع وتطهر وتغتسل، فإذا مكثت على هذا عشر سنين أو أكثر أو أقل تكون عرفت بذلك عادتها، فإذا اختلف عليها الأمر فيما بعد وأطبق عليها الدم فماذا تفعل؟ ترجع إلى عادتها فتجلس قدر أيامها المعتادة ثم تغسل عنها الدم، ثم تغتسل ثم تصلي، ولكن تتطهر من الدم الذي قد يصيب بدنها أو ثيابها وتصلي ولو كان جارياً لم ينقطع، هكذا ورد في هذا الحديث في قوله: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة) ، يعني: أن ذلك الدم ليس هو دم حيضة إنما هو دم عرق انفجر. قوله: (فإذا أقبلت الحيضة) يعني: إذا جاء وقتها الذي تعرفينه (فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها) أي: قدر الحيضة المعتادة سواء كان خمسة أيام، أو ستة، أو سبعة، (فاغسلي عنك الدم وصلي) ، هكذا أمرها.
حكم المستحاضة المميزة
حكم المستحاضة المميزة ورد أيضاً في رواية ثانية أنه بين لها الفرق بين الدمين وأنه قال لها: (إن دم الحيض أسود يعرف وإن دم الاستحاضة أحمر، فإذا أقبل دم الحيض فدعي الصلاة، وإذا أدبر فاغتسلي وصلي) . والنساء يعرفن الدم الذي هو دم الحيض المعتاد، فمنهن من يكون دمها أسود غليظاً فيختلط بأحمر رقيق، فيكون الأسود هو الحيض، والأحمر هو الاستحاضة، ومنهن من يكون دم حيضها أحمر تعرف أنه دم الحيض المعتاد الأحمر، ولكنه متوسط الغلظة ليس بغليظ ولا برقيق، ويكون الدم الذي يخالطه دماً شديد الحمرة أو دماً خفيفاً ليس بغليظ، فتعرف دم الحيض من دم الاستحاضة، وهذه أيضاً تجلس مدة الحيض وتترك الصلاة، ثم تتطهر وتصلي، وتسمى هذه: المميزة، أي: التي تميز دم الحيض عن الاستحاضة. لذلك يقولون: إن المستحاضة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون معتادة وهو معرفتها لعادتها عند كل شهر، فإذا جاءت أيام عادتها تركت الصلاة ثم اغتسلت وصلت بقية الشهر، وسواء كان شهرها هلالياً أو أكثر، يعني: منهن من يكون شهرها عشرين يوماً تحيض منه خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، فهذه شهرها عشرون يوماً. ومنهن من يكون شهرها خمسة وثلاثين يوماً، تحيض سبعة أيام وتطهر ثمانية وعشرين يوماً، ثم تحيض سبعة أيام وتطهر ثمانية وعشرين وهكذا، فيكون شهرها خمسة وثلاثين يوماً، فشهرها هو الذي يأتيها فيه طهر وحيض كاملان. فإذا كانت قد اعتادت وعرفت أن أيام طهرها خمسة وعشرون يوماً وأيام حيضها سبعة أيام فكان شهرها اثنين وثلاثين يوماً، ففي كل اثنين وثلاثين يوماً طهر وحيض، فتجلس بضعة أيام وتصلي خمسة وعشرين يوماً وهكذا، وهذه تسمى: المعتادة التي عرفت عادتها.
حكم المستحاضة المتحيرة
حكم المستحاضة المتحيرة أما المرأة التي قد تنسى عادتها، أو لا تكون عادتها مستمرة بل أحياناً تكون خمسة أيام وأحياناً ستة وأحياناً أربعة وأحياناً ثمانية، ثم بعد ذلك يختلط عليها الأمر ويطبق عليها الدم، فمثل هذه إذا كانت تعرف دم الحيض بأنه أسود وغليظ ودم الاستحاضة بأنه أحمر رقيق، فإنها تسمى مميزة، وهي الحالة الثانية، وهذه المميزة تعمل بالتمييز الصحيح. ولكن قد يوجد في النساء من لا تميز، بل يختلط عليها الدم فلا تعرف هذا من هذا، ولا تميز رقيقاً من غليظ ولا أحمر من أسود، وليست عادتها مطردة بل تتقدم وتتأخر، تارة في أول الشهر وتارة في وسطه وتارة في آخره، أو أنها تارة تستمر خمسة وتارة ستة وتارة سبعة، فليس لها عادة بينة مستقرة، فمثل هذه تسمى المتحيرة، وهي التي لم تعرف ماذا تفعله. فمثل هذه تجلس عادة نسائها، كأمها وجدتها وأختها وخالتها ونحوهن، فإذا كانت عادتهن سبعة أيام جلستها من كل شهر هلالي، فكلما دخل الشهر الهلالي جلست ستة أيام أو سبعة أيام قدر عادة نسائها واغتسلت بقية الشهر الهلالي وصلت فيه، ويحكم بأن شهرها هو من أول الشهر الهلالي إلى آخره.
اختلاف العادة بسبب اللولب أو حبوب منع الحمل
اختلاف العادة بسبب اللولب أو حبوب منع الحمل وجد في هذه الأزمنة موانع الحيض، وذلك باستعمال الحبوب التي توقف خروج دم الحيض، وهذه الحبوب قد تؤثر على عادتها بحيث إنها تقدمها أو تؤخرها أو تزيدها أو تغيرها، فيحصل بذلك التباس على كثير من النساء، هذا سبب من أسباب التغير. وهناك سبب آخر موجود في هذه الأزمنة، وهو أن الكثير من النساء تركب ما يسمى باللولب الذي تقصد به منع الحمل، ثم هذا اللولب يكدر عليها أيضاً عادتها، بحيث إن الدم يخرج قليلاً ولكنه يزيد في المدة، فبدل ما كانت تحيض سبعة أيام يكون حيضها عشرة أيام أو نحو ذلك؛ بسبب تقليل خروجه من استعمال اللولب ونحوه، فيكون هذا أيضاً من الأسباب التي تغير على النساء عادتهن. ففي حالة استعمالها للحبوب وفي حالة استعمالها للولب نقول: ما دام الدم دم حيض فدعي الصلاة ولو زاد، فإذا كان يأتيها الحيض قبل تركيب اللولب سبعة أيام وبعد تركيبه عشرة أيام فإنها تجلس العشرة كلها؛ لأن أول الدم وآخره سواء، ومن المشايخ من يقول: بل لا تزيد عن عادتها التي هي السبعة الأولى؛ وذلك لأن هذه الزيادة ما حصلت إلا بسبب هي التي فعلته؛ فلا تترك الصلاة لأجله، أي أنهم يقولون ذلك من باب الاحتياط، مع أن أول الدم وآخره سواء لا فرق بين اليوم الأول والآخر في كون هذا دماً وهذا دماً، وهذا جارياً وهذا جارياً، ولا زيادة لهذا ولا نقص. وأما تأخر الحيض بسبب تعاطي حبوب المنع، فلا شك أنها إذا تأخرت فإنها تصلي، وتستعمل النساء هذا المانع لتأخير الحيض أو لمنع الحمل أو نحو ذلك، فإذا توقف ولم يجر معها شيء قلنا: لا تترك الصلاة ما دام أنها لم يخرج منها دم، ولكن إذا تركت موانع الحيض ورجع إليها الدم، نقول: ما دام أنه رجع وهو بصفته فإنها تترك الصلاة لوجود المانع الذي هو الحيض.
حكم اغتسال المستحاضة لكل صلاة
حكم اغتسال المستحاضة لكل صلاة المستحاضة التي يجري معها الدم، قلنا: إنها لا تترك الصلاة في بقية الأيام، فماذا تفعل؟ في الحديث أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة. فالنبي أمرها أن تغتسل؛ ولكن متى؟ أمرها أن تغتسل بعد أيام حيضها وبقية الأيام تتوضأ، كما أمر فاطمة بنت أبي حبيش أن تتوضأ لكل صلاة، والصحيح أنه لا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة لما فيه من المشقة، ولكن فعلت ذلك أم حبيبة من باب الاحتياط، حيث عرفت أنها ستصبر على المشقة ولو كان في ذلك ما فيه، فكانت تغتسل لكل صلاة. وفي بعض الروايات (أنه عليه الصلاة والسلام أرشدها إلى أن تجمع بين الصلاتين -جمعاً صورياً- وتغتسل لهما) ، وذلك بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً واحداً فتؤدي الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل غسلاً واحداً تصلي به المغرب في آخر وقتها والعشاء في أول وقتها، وتغتسل للفجر، فتغتسل كل يوم ثلاث مرات وذلك أخف من خمس، فإن شق ذلك عليها اقتصرت على أن تتوضأ ولكن عندما تريد الصلاة. ومع جريان الدم عليها أن تتحفظ فتغسل فرجها وتعصبه، وفي هذه الأزمنة توجد الحفائظ التي تلبسها النساء، بحيث إنها تمنع الخارج من أن يلوث ثيابها أو بدنها، فإذا تحفظت بهذه الحفائظ صلت ما شاءت ما دام الوقت باقياً، فتصلي فروضاً ونوافل، فإذا دخل الوقت الثاني جددت الوضوء بمنزلة صاحب السلس الذي حدثه دائم، فإنه يتوضأ لكل صلاة. كذلك المستحاضة تتوضأ لكل صلاة عملاً بحديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي في البخاري: (أنه أمرها بأن تتوضأ لكل صلاة) ؛ وذلك لأن هذا حدث مستمر عفي عنه في الوقت للمشقة، يعني: أنه قد يخرج وهي في نفس الصلاة، فلو أمرناها أن تقطع الصلاة لشق عليها، فكان ذلك سبباً في التخفيف عليها في الصلاة.
ما تمنع منه الحائض وما يباح لها
ما تمنع منه الحائض وما يباح لها قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكأ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن) . وعن معاذة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ] . هذه الأحاديث رويت عن عائشة رضي الله عنها، في هذا دليل على أنها رضي الله عنها اهتمت بما يختص بالنساء كالحيض ونحو ذلك، فنقلت للأمة هذه الأحكام وهذه الفوائد؛ لتكون نبراساً ونوراً يسيرون على نهجه.
حكم اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد
حكم اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد ففي الحديث الأول خصلتان متعلقتان بالحيض وخصلة عامة. فذكرت: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلاهما جنب) فاستدل العلماء بذلك على جواز غسل الرجل وامرأته من إناء واحد، وقد ذكرت: أنهما تختلف فيه أيديهما، وأن ذلك الإناء يقال له: الفَرَق يسع ثلاثة آصع، حتى إذا كان في آخره يقول: (دعي لي وتقول: دع لي، أي: اترك لي بقية. فيجوز للزوجان أن يغتسلا معاً، وكانت البيوت في ذلك الوقت ليس فيها أنوار ولا مصابيح، فيكونون في زاوية من الحجرة ويتجردان وكلاهما على جانب من الإناء، فكلاهما يغترف ويصب على رأسه وجسده ويدلكه إلى أن يعمم جسده بالماء؛ لتطهيره من الجنابة، فلا بأس بذلك، مع أنه يجوز للزوجين أن ينظر كل منهما إلى عورة الآخر، فالزوج له أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة لها أن تنظر إلى جسد زوجها كله، ولذلك قالت عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) ؛ لأنه يحل لهن أن يكشفن على جسده. ومع ذلك ما دام أن كلاهما جالس وكلاهما يغترف وكلاهما مقابل للآخر، والمكان ليس فيه ضياء ولا نور، فلا يلزم أن تبدو العورة. وقد أمر المغتسل بأن يتستر عن أعين الناس حتى ولو كان في الصحراء (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال عرياناً؟ فقال: الله أحق أن يستحيا منه) يعني: إذا كان الإنسان في الصحراء فإن عليه إذا تجرد أن يستر عورته بإزار أو بنحو ذلك؛ لأنه قد يفاجأ بمن ينظره، أو يستحيي من الله أن ينظره على تلك الحال، وإن كان الله لا يخفى عليه منه خافية.
حكم مباشرة الحائض
حكم مباشرة الحائض أما ما يتعلق بمباشرة الحائض القراءة في حجر الحائض، فإنه يباح للرجل أن يباشر امرأته وهي حائض فيما فوق الإزار، كأن يأمرها بأن تجعل إزاراً يستر ما بين السرة والركبة ثم يباشرها، يعني: يضطجع فوقها، أو يلاصقها ببشرته من فوق الإزار، حتى لا يقرب من المكان الذي منع منه وهو الفرج، والله تعالى يقول: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] المراد: اعتزلوا محل المحيض الذي ذكر الله أنه أذى، أي: نجس وقذر، وهو مخرج الحيض. وقد ذكر أن اليهود كانوا إذا حاضت فيهم المرأة اجتنبوها فلم يؤاكلوها ولم يجالسوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلوا كل شيء إلا النكاح) يعني: افعلوا المباشرة والمؤاكلة والمجالسة والمؤانسة والمحادثة ونحو ذلك. وقد ثبت: (أنه عليه الصلاة والسلام أمر عائشة أن تناوله الخمرة -يعني: السجادة- من المسجد، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) يعني: أن بدنك طاهر فلا نجاسة في سائر البدن، فأباح لها أن تدخل المسجد وتأتي بتلك الخمرة ليصلي عليها. فإذا كان بدنها طاهراً فلا بأس أن يضطجع الرجل إلى جانب زوجته وهي حائض، وأن تمس بشرته بشرتها، وله إذا باشرها أن يضمها ولو أنزل، إلا أنه لا يقرب من الفرج الذي هو محل الأذى، فإن المنع منه في الحديث: (افعلوا كل شيء إلا النكاح) . فثبتت هذه الأحاديث في أنه عليه الصلاة والسلام كان يباشر نساءه وهن حيض، ولا يمنعه الحيض من مباشرتهن بما فوق الإزار، وأباح ذلك لأمته، ولا ينافي ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة:222] فإن المراد: لا تقربوا المكان المستقذر الذي هو محل خروج الأذى.
حكم ترجيل الحائض لرأس زوجها وغسله
حكم ترجيل الحائض لرأس زوجها وغسله ثم ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف كان يدني رأسه إليها وهي في حجرتها، فترجِّل رأسه وتغسله وهي حائض) ؛ وذلك لأن بدن الحائض طاهر، وفي هذا دليل على أنه يجوز للمعتكف أن يخرج بعض بدنه من المسجد لحاجة، فإنه عليه الصلاة والسلام كان له شعر ولم يكن يحلق رأسه، أي: لم يكن الحلق متوافراً عندهم، فكان يوفر شعره ويحتاج إلى تسريحه وإلى غسله وإلى ترجيله، فإذا اعتكف احتاج إلى ذلك، فيدنو برأسه إلى النافذة ويدخل رأسه وترجله، أي: تغسله وتمشطه وهي مع ذلك حائض، ولا يمنعه ذلك من أن تمسه أو يمسها. وفيه دليل على أن المعتكف إنما منع من المباشرة التي هي الوطء كما في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ، فأما مجرد لمسها لبشرته لحاجة من غير شهوة، فلا ينافي ذلك الاعتكاف.
حكم قراءة القرآن ومس المصحف للحائض
حكم قراءة القرآن ومس المصحف للحائض وأما الحديث الثاني فقد أخبرت بأنه كان يستند إلى صدرها وهي حائض ولا يرده ذلك عن قراءة القرآن، وقد ورد نهي الحائض أن تقرأ القرآن، ورد قوله: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، ونهي الجنب أن يقرأ القرآن ولو حرفاً، يعني على وجه التلاوة، وكذلك نهيت الحائض أن تقرأ القرآن. ولكن العلماء أباحوا لها ذلك للحاجة كما إذا خشيت أن تنسى ما حفظته فلها أن تتذكره، ولها أن تمره على قلبها دون قراءة، ولها أن تنظر إلى المصحف وتتبعه نظرها دون أن تمسه ودون أن تنطق به نطقاً ظاهراً. وأما مسها للمصحف فلا يجوز؛ وذلك لأن عليها هذا الحدث. وكذلك لها أن تقرأ الآيات التي فيها أدعية على أنها دعاء لا على أنها تلاوة، كقراءة آية الكرسي على أنها دعاء أو ورد أو حرز، وقراءة أواخر سورة البقرة وما فيه دعاء كقوله سبحانه: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201] ، أو: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] ، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها دعاء، فلا يدخل ذلك في النهي. ولها إذا طالت المدة كمدة النفاس أن تقرأ ما تخشى أن تنساه لتتذكره. وأبيح في هذه الأزمنة أن تحضر وقت الاختبارات إذا كانت طالبة في إحدى المدارس، وأن تجيب وأن تكتب أو تقرأ إذا كان الاختبار في قراءة أو نحو ذلك للحاجة؛ وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات. وأما قراءة زوجها وهو معتمد عليها ومستند إلى صدرها كما في حديث عائشة هذا الحديث فلا شك في إباحته، ولا ينافي ذلك كونها حائضاً.
قضاء الحائض للصوم دون الصلاة
قضاء الحائض للصوم دون الصلاة وأما الحديث الثالث الذي فيه قضاء الصوم دون قضاء الصلاة، فـ معاذة هذه أشكل عليها أن كلا الأمرين واجب، فالصلاة فرض والصوم فرض، ومع ذلك فإن الحائض تفطر في رمضان وتقضي أيامها التي أفطرتها وتترك جملة من الصلوات في الحيض وفي النفاس، وتبقى على هذه الحالة لا تصلي مدة طويلة، ومع ذلك لا تقضي شيئاً من هذه الصلوات. وإنما أشكل عليها ذلك لأن الصلاة أهم الأركان بعد التوحيد، بل هي عمود الدين، فقالت: لماذا لا تقضي الصلاة كما تقضي الصوم؟ ولما سألت عن ذلك، قالت لها عائشة: (أحرورية أنت؟ فقالت: لست بحرورية ولكني أسأل) . الحروريون من الخوارج، وقد كانوا يلزمون الحائض بأن تقضي الصلاة بعد طهرها، وذلك من تشددهم، والخوارج هم الذين خرجوا في عهد علي رضي الله عنه في سنة ست وثلاثين، اجتمع منهم جموع كثيرة بلغت نحو اثني عشر ألفاً ونزلوا في قرية من العراق اسمها حروراء، فينسب إليها كل خارجي وإن لم يكن من أهل حروراء. لم تذكر عائشة العلة من قضاء الصوم دون الصلاة، لكنها اقتصرت على الدليل وقالت: (كان يصيبنا ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: الحيض والنفاس- فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ، والذي إليه الأمر هو النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه الذي أخبر بأن المرأة عليها تكاليف، وأن بعض تلك التكاليف تتركها وقت حيضها، وأن منها ما يقضى ومنها ما لا يقضى.
الحكمة من قضاء للحائض والنفساء للصوم دون الصلاة
الحكمة من قضاء للحائض والنفساء للصوم دون الصلاة الحكمة في أن الحائض تترك الصلاة وقت حيضها أنها نجسة وحدثها مستمر، ويشق عليها أن تتوضأ كل حين، فلذلك عفي عنها؛ لاستمرار هذا الحدث معها ولنجاسة بدنها، فلم يجز لها أن تفعل الصلاة، وكذلك الصوم، بل تفطر في رمضان ولو لم يكن عليها مشقة؛ وذلك لأن هذا الخارج متنجس، فينافي العبادة، والصيام عبادة. وهذا الخارج وإن لم يكن مما يتغذى به، لكنه مما يضعف البدن وينهكه، لذلك أمرت بأن تفطر في رمضان، ولكن عليها أن تحصي أيامها التي أفطرتها ثم تقضيها بعد رمضان. وأما الصلوات التي تركتها فلا قضاء عليها؛ وسبب ذلك أن إفطارها يعتبر كإفطار المريض وإفطار المسافر وأصحاب الأعذار، ومعلوم أن أصحاب الأعذار يفطرون ويحصون أيامهم ويقضون؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فكذلك الحائض تقضي عدة أيامها التي أفطرتها من أيام أخر، وليس في قضاء الصوم صعوبة ولا مشقة؛ لأنها أيام قليلة وليس هناك صيام بعد ذلك، فالصيام إنما هو شهر واحد، وليس في شهر شوال صيام إلا التطوع، وكذلك الأشهر بعده، فلا مشقة في قضاء أيام الصوم. أما الصلاة فإنها تتكرر وفي قضائها شيء من الصعوبة؛ لأنها قد تكثر، فالحائض قد تترك الصلاة عشرة أيام، حيث إن الحيض قد يبلغ بإحداهن عشرة أيام وربما اثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً متوالية، فيكون نصف دهرها حيضاً، فإذا ألزمناها بأن تقضي صلاة خمسة عشر يوماً شق ذلك عليها، وكذلك صلاة أربعين يوماً في النفاس فمتى تقضيها؟! مع ما قد يعتريها من الأشغال والأمراض ونحو ذلك، فمن رحمة الله أن أسقط عنها قضاء الصلوات أيام حيضها ونفاسها، واكتفى بصلاة الأيام الأخرى، فإنها إذا طهرت صلت كما يصلي غيرها. فالصلاة متكررة، يعني: كونها تركت صلاة تسعة أيام أو سبعة أو خمسة ثم طهرت، فاليوم الذي يلي الحيض تصلي فيه خمس صلوات، وهكذا كل يوم تصلي فيه خمس صلوات، مع ما يتيسر لها من النوافل، فإذاً لا مشقة في قضاء الصوم بخلاف قضاء الصلاة فإن فيه مشقة، والمشقة تستدعي التيسير والتسهيل، وبهذا علل العلماء، لكن عائشة رضي الله عنها لم تعلل وإنما اقتصرت على الدليل حيث قالت: هكذا كان يصيبنا في العهد النبوي ولا نؤمر إلا بقضاء الصوم دون الصلاة. والعلماء رحمهم الله ذكروا إلى جانب هذا الدليل التعليل؛ لأن التعليل في شيء من القناعة، ولأن الإنسان إذا سمع التعليل للحكم وللمسألة عرف الحكمة من مشروعية ذلك، وأن الشريعة ما أمرت بشيء إلا وفيه مصلحة ومنفعة محققة، هكذا بين العلماء. من ذلك نعرف أن أحكام الحيض والاستحاضة قد فصلت وذكرت في الكتاب والسنة، منها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل، ولكن العلماء رحمهم الله استنبطوا من ذلك جميع المسائل التي يمكن أن تقع للنساء وذكروا أحكامها في أبواب الفقه، وبينوا للناس ما تحتاج إليه المرأة في أيام حيضها بحيث لا يقع إشكال إلا ويوجد جوابه في تلك الكتب، رحمهم الله وعفا عنهم!
شرح عمدة الأحكام [8]
شرح عمدة الأحكام [8] جعل الله الصلاة على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ولكل صلاة وقت محدد شرعاً بعلامات كونية تسهل معرفتها، والصلاة في وقتها من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وهناك أوقات وحالات تكره الصلاة فيها، وقد بينها أهل العلم بأدلتها.
شرح حديث: (أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها)
شرح حديث: (أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الصلاة، باب المواقيت. عن أبي عمرو الشيباني واسمه سعد بن إياس قال: حدثني صاحب هذه الدار، وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمرطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس) ] . هذا مبدأ كتاب الصلاة وهو المقصد الأصلي، فإن ما تقدم من الطهارة، والوضوء، وإزالة النجاسة، والاغتسال، والتيمم، والطهارة من الحيض، وما أشبه ذلك، كل ذلك وسيلة إلى فعل الصلاة، فإنها هي العبادة المطلوبة، وإن كان العبد قد يثاب على الطهارة إذا احتسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يمحو الله به الخطايا: (إسباغ الوضوء على المكاره) ، فهو مما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، ولكن الطهارة وسيلة إلى الصلاة وشرط من شروطها.
فضل الصلاة
فضل الصلاة الصلاة تطلق على الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: دعاءك، هكذا أصلها في اللغة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيمن دعي إلى طعام: (إن كان مفطراً فليأكل، ومن كان صائماً فليصلِ) يعني: فليدعُ. وسميت هذه الصلاة عبادة لاشتمالها على الدعاء؛ لأن المصلي يدعو في صلاته إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة: دعاء المسألة أن يسأل ربه أن يغفر له وأن يدخله الجنة وأن ينجيه من عذابه ومن النار، ودعاء العبادة كونه يرغب في هذه العبادة؛ لأجل آثارها، فيركع لأجل الثواب، ويرفع لأجل الثواب، ويحضر ويقوم ويقعد وغير ذلك من الأفعال لأجل أن يثاب عليها، فلسان حاله داعٍ، فكأنه يقول: أتيت إلى مساجدك وإلى بيوتك -يارب- لترحمني، أنا أقوم لك وأقعد، وأركع لك وأسجد، وأخضع وأتواضع بين يديك؛ لأجل أن أحصل على ثوابك وأسلم من أليم عقابك، فهو في الحقيقة داعٍ حتى ولو لم يكن في صلاته سؤال، بل فيها ذكر وقراءة ونحو ذلك، فالصلاة كلها دعاء. شرعت هذه الصلاة لأجل إقامة ذكر الله، وذلك أن العبد كلما غفل قسا قلبه، فإذا ذكر ربه لان قلبه، ولا شك أن الصلاة تذكر بالله سبحانه فتلين بها القلوب القاسية، وكلما طالت الغفلة صعبت الطاعة، فإذا تخلل تلك الغفلة عبادة وذكر سهلت الطاعة. معلوم أن العبد الذي دائماً في غفلة مشتغل بدنياه مقبل على لهوه وسهوه مكب على شهوات بطنه وفرجه، لا يهمه إلا ما تهواه نفسه، ويقطع بذلك أكثر زمانه، فإذا دعي إلى طاعة رأى لها صعوبة، وإذا دعي إلى عبادة استثقلها، بخلاف العبد الذي قد عوّد نفسه الطاعة فإنه يجدها خفيفة يجدها سهلة، بل يتلذذ بها كما يتلذذ أهل الشهوات بشهواتهم، فهناك من يتلذذون بالتهجد الذي هو صلاة الليل كما يتلذذ الذين يسهرون ليلهم على خمورهم وعلى شهواتهم البهيمية المحرمة أو المباحة، ولا شك أن هذه لذة دينية. هذا من الحكمة في شرعية هذه الصلاة، وقد ذُكر لها مؤكدات كثيرة، وأسباب تدل على شرعيتها، حتى عدها بعضهم عشرة يطول بنا المقام لو فصلناها، وذُكرت لها حكم ومصالح تفوق العد، ولو ألفت فيها المؤلفات ما اتسعت لها. ونحن نتكلم على هذه الأحاديث التي ذكرت، ومن طلب التوسع فيها وجده.
الحكمة في توقيت الصلوات
الحكمة في توقيت الصلوات من حكمة الله سبحانه أن فرق هذه الصلوات على اليوم والليلة، ولم يجعلها في ساعة واحدة، ولا متوالية في وقت من الأوقات، بل جعلها متفرقة: فبعضها أول الليل كالمغرب والعشاء، وبعضها أول النهار كالفجر، وبعضها وسط النهار كالظهر والعصر. والحكمة في ذلك: أن يكون العبد دائماً على صلة بالعبادة؛ فلا يبعد عهده بالعبادة، كلما اشتغل بشهواته وبدنياه في وقت من الأوقات، وأحس بشيء من القسوة دخل عليه وقت من هذه الأوقات فقام إلى عبادة من العبادات تصقل قلبه وتجلو همه وغمه، وتلين طبعه، وتذكره بربه، وتذكره بالوقوف بين يديه، فيحضر فيها قلبه ويخشع ويخضع ويتواضع، ويدعو ربه سراً وجهراً، ويذكره بعد تلك الغفلة، ويتلو كلامه ويخضع إليه، فينصرف منها وقد ازداد عبادة وقد تذكر الله وعظم قدر ربه في قلبه، هذه من الحكم. وأيضاً: فإن ذلك لأجل تخفيفها، فلو أمروا بأن يصلوا سبع عشرة ركعة متوالية في وقت لكان في ذلك شيء من الثقل، وحبس لهم عن قضاء حوائجهم، ولكن أمروا بأن يصلوا كل جزءٍِ منها في وقت، فأربع في وقت، وثلاث في وقت، وركعتان في وقت وهكذا. كما أمروا أن يتقربوا بجنس هذه الصلاة حسب استطاعتهم، كما يتقربون بجنس بقية العبادات.
أدلة المواقيت من القرآن
أدلة المواقيت من القرآن ومواقيت الصلوات الخمس قد ذكرت في السنة موضحة، ووردت أيضاً إشارة إليها في القرآن، استنبطت من مثل قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} [هود:114] فقالوا: الطرف الأول الفجر، والطرف الثاني: الظهر والعصر، أي: طرفي النهار، (وزلفاً من الليل) يعني: المغرب والعشاء، فإنهما في أول الليل. وأخذت من قوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] (دلوك الشمس) : ميلها، ويدخل فيه الظهر والعصر، و (غسق الليل) : ظلمة الليل، ويدخل فيه المغرب والعشاء، (قرآن الفجر) صلاة الفجر. وأخذت من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17-18] فقيل: (حين تمسون) صلاة المغرب والعشاء، (وتصبحون) صلاة الفجر، (وعشياً) صلاة العصر، (وحين تظهرون) صلاة الظهر، فالأوقات وجدت أدلتها في القرآن. ولا شك أن إيقاعها في وقتها هو الأكمل والأفضل، وأن تأخيرها عن وقتها يعتبر ذنباً قد يسبب نقص أجرها، وقد يسبب العقوبة عليها، وقد فسر قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] بأنهم الذين يؤخرونها عن وقتها، يقول بعض السلف: أما إنهم لم يتركوها، ولو تركوها لكانوا كفاراً، ولكن أخروها عن وقتها؛ فتوعدهم الله تعالى بالويل، فدل على أن من شروطها إيقاعها في وقتها. فلا يجوز تقديمها قبل الوقت، ومن قدمها لم تجزئه، فمن صلى المغرب قبل غروب الشمس، أو صلى الفجر قبل طلوع الفجر، أو صلى الظهر قبل زوال الشمس لم تقبل منه، حيث إنه لم يجعلها في وقتها، ومن أخرها حتى خرج وقتها اعتبر مفرطاً، كالذي يصلي الفجر بعدما تطلع الشمس، أو يصلي الظهر في الليل أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا قد فرط وفوت الوقت الذي شرعت فيه الصلاة.
الصلاة على وقتها أفضل الأعمال
الصلاة على وقتها أفضل الأعمال في هذا الحديث: أن ابن مسعود سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فأخبره بأن أفضلها الصلاة على وقتها، أي: إذا صليت في وقتها، وكملت شروطها وصفاتها فهي أفضل الأعمال، يعني: بالنسبة إلى من طولب بالأعمال الصالحة، فإن أداء هذه الصلاة خير الأعمال وأفضلها، سيما إذا كملت صفاتها وهيآتها، قال: أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصلاة على وقتها) . وورد في بعض الروايات: (الصلاة في أول وقتها) ومعناها تفضيل أول الوقت، ولكن أكثر الروايات على أن المراد الصلاة في وقتها، ومعلوم أن تقديمها في أول الوقت دليل على المحبة لها، ودليل على الهيبة، ودليل على الإقبال عليها؛ بحيث إنه لم يتوانَ ولم يتأخر، بل حينما أحس بدخول وقتها بادر وأتى بهذه الصلاة. واستثني من ذلك صلاة العشاء كما سيأتي، فالأفضل تأخيرها، وصلاة الظهر في شدة الحر، يعني: إذا كان هناك حر مزعج شديد، فيشرع تأخيرها إلى وقت الإبراد، أي: إلى أن تذهب تلك الشدة، ويخف الحر، وهذا أفضل حتى تحصل الطمأنينة، أما بقية الصلوات فتقديمها أفضل من تأخيرها.
فضل بر الوالدين والجهاد في سبيل الله
فضل بر الوالدين والجهاد في سبيل الله ابن مسعود سأل عن أفضل الأعمال، فدل على أنها الصلاة على وقتها أو في وقتها، ثم سأله عما يلي ذلك من الفضل فأخبره ببر الوالدين؛ وذلك لعظم حق الوالدين فهو قرين حق الله تعالى كما في قوله تعالى: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ؛ ولأن الوالدين لهما حق على ولديهما بإيجاده وبتربيته وبرعايته وحضانته ونحو ذلك، فعليه أن يبرهما ويؤدي حقهما. ثم سأل بعد ذلك عن العبادة الثالثة التي تلي بر الوالدين فدله على الجهاد في سبيل الله، يعني: قتال الكفار؛ وذلك لأنه ذروة سنام الإسلام؛ ولأنه سبب في إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار دينه، وإعزاز المسلمين وإذلال المشركين، وفيه غير ذلك من المصالح.
شرح حديث: (كان رسول الله يصلي العشاء بغلس)
شرح حديث: (كان رسول الله يصلي العشاء بغلس) الحديث الثاني يتعلق بصلاة الفجر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يبكر لصلاة الفجر، بحيث إنه يشهد الصلاة معه نساء متلفعات بمرطهن، وينصرفن ما يعرفهن أحد من الغلس، والغلس: الظلمة، أي: اختلاط الظلمة بضياء ذلك الوقت الذي هو غلس، أي: بقية ظلمة، فهؤلاء نساء يحضرن إلى المسجد، ويصلين في طرف المسجد وهن متلففات. والمروط: جمع مرط، والمرط: الكساء والرداء التي ترتديه المرأة، وتغطي به جسدها كله، ولا يعرفها أحد حتى من تصلي إلى جنبها، يعني: تصلي اثنتان بعضهما إلى جنب بعض ولا تعرف إحداهما الأخرى؛ وذلك من الظلمة، لا يعرفها أحد لا رجل ولا امرأة وذلك لوجود الظلمة. وفي هذا الحديث دليل على جواز صلاة النساء في المسجد مع الجماعة، بشرط أن يكن متلففات ومستترات ومحتشمات لا يرى من أبدانهن شيء، ودليل على أن نساء الصحابة كن على غاية من الاحتشام، فكانت المرأة إذا خرجت في الظلمة أو في الليل خرجت في غاية من التحفظ، وكذلك في سائر الأوقات، لا يرى بدنها ولا يرى شيء من جسمها، بل تلتف بالمرط أو بالرداء أو بالكساء أو بالعباءة أو نحو ذلك من الأكسية التي تستر جميع بدنها، فلا يرى منها يد ولا قدم ولا وجه ولا رأس ولا غير ذلك؛ لأجل الاحتشام والحياء والتستر من الرجال الأجانب. وفيه دليل على التبكير لصلاة الفجر وهو الشاهد من الحديث، بحيث إنها أخبرت بأنه لا يعرفهن أحد من شدة الغلس، يعني: من شدة الظلمة التي هي بقية الليل، والتبكير لصلاة الفجر والتغليس بها هو الأفضل.
مواقيت الصلاة
مواقيت الصلاة قال المصنف: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس، والهاجرة هي: شدة الحر بعد الزوال) . وعن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: (دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: حدثنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة، فقال: كان يصلي الهجير -وهي التي تدعونها الأولى- حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية- ونسيت ما قال في المغرب- وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين والمائة) ] . ورد عن رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه كثير من الأحاديث في تحديد أوقات الصلوات الخمس، وقد ذكرنا أنه قد أشير إليها في القرآن كقوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، ومن جملة ما ورد في هذا حديثان: حديث جابر وحديث أبي برزة الأسلمي.
وقت الظهر
وقت الظهر قال جابر: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، وفي حديث أبي برزة أنه كان يصليها حين تدحض الشمس، والهاجرة فسرت بأنها شدة الحر، ولكن ذلك مشروط بما إذا زالت الشمس، أي: بعد الزوال، فالهاجرة هي وسط النهار بعد الزوال، وسميت بذلك لأن الناس حينئذ يكتنون من شدة الحر في البيوت، فكأن بعضهم يهجر بعضاً، ويكتن كل منهم في بيته عند اشتداد الحر. كان يصلي بالهاجرة: أي إذا زالت الشمس، وكانوا إذا ابتدأ اشتداد الحر يقيلون، يعني: ينامون وسط النهار وقت القيلولة، فيستيقظون قرب الزوال إذا زالت الشمس، ويتوجهون لأداء هذه الصلاة. في حديث أبي برزة أنه كان يصليها حين تدحض الشمس، والدحض هو الدلوك: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] ، فدحضها هو ميلها إلى جهة الغروب، ومعلوم أن الشمس إذا طلعت انتصب لكل شاخص ظلال، ولا يزال ذلك الظلال ينقص ويتقلص إلى أن يتناهى قصره، فإذا تناهى قصره فذلك وقت قيام الشمس ووقوفها، فإذا ابتدأ الظل بالزيادة فذلك وقت دحوضها ووقت الزوال إذا دحضت يعني: زالت، وذلك وقت الظهر. وقد استثني من ذلك ما إذا كان هناك حر شديد، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبرد بالظهر، ويقول: (أبردوا بالظهر) ، وفي الحديث الآخر: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) فكان يأمرهم أن يبردوا؛ وذلك لأن شدة الحر قد تقلق الراحة وقد تشوش على المصلي، وقد لا يقبل على صلاته ولا يحفظ ما يقول فيها، فإذا أبرد وذهبت شدة وقوة الحر صلوها عند ذلك حتى يطمئنوا فيها. وفي هذه الأزمنة لا يوجد ذلك الحر والحمد لله؛ وذلك لوجود المكيفات والمراوح الكهربائية التي تخفف من شدة الحر، فلا يحس الناس بذلك الحر الشديد المزعج الذي يتصبب منه العرق، والذي تبتل منه الثياب فلا يطمئن المصلي في صلاته؛ فلأجل ذلك لم يروا داعياً إلى الإبراد في شدة الحر، لكن لو كان هناك بلاد ليس فيها هذه المكيفات ونحوها، فإن الإبراد مستحب في حقهم، وما ذاك إلا أن الحكم يدور مع علته، فمتى وجدت العلة وجد الحكم، أما في سائر السنة التي ليس فيها حر فإن وقت الصلاة إذا زالت الشمس، فإذا ابتدأت زيادة الظل في جهة الشرق فذلك وقت الظهر. يمتد وقت الظهر إلى دخول وقت العصر، ويقدر بأن يزيد حتى يصير ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر.
وقت العصر
وقت العصر في حديث جابر أنه كان يصلي العصر والشمس نقية، يعني: لم تبدأ في الاصفرار، فالشمس إذا كانت نقية لا يمكن للناظر أن ينظر إليها لقوة شعاعها، أما إذا بردت فإنه يستطيع أن ينظر إليها، ولا يكون فيها شعاع قوي، فيقول: إنه كان يصلي والشمس نقية، لم يبدأ تغيرها واصفرارها، وهذا يدل على التبكير بها، وقد وردت أدلة في التبكير بالعصر حتى قال في الحديث: (بكروا بالعصر، فإن من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) (وتر) يعني: سلب أهله وماله، وسيأتينا بعض الأدلة في أهميتها. وذكر في حديث أبي برزة كان يصلي العصر فيذهب أحدهم إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، أي: لم تغب، وأقصى المدينة يبعد مسيرة ساعتين على الأقدام بالسير المعتاد، يعني: أنه يقطع تلك المسافة التي هي مسيرة ساعتين بعد العصر، ويصل إلى أهله والشمس حية لم تغب مما يدل على أنه يبكر بها، أي: بين فراغه من صلاة العصر وغروب الشمس أكثر من ساعتين، هذا في النهار المعتدل وقد ينقص أحياناً إذا نقص النهار، وقد يزيد إلى ساعتين ونصف، أي: بين الفراغ من العصر وبين غروب الشمس، وذلك يختلف باختلاف طول النهار وقصره، ولكن الغالب وهو الوسط أنه يكون ساعتين ونحوها. أقصى المدينة يقال له: العوالي، وكانت تبعد هذه المسافة، وهي لا تزال موجودة وراء قباء بنحو اثنين أو ثلاثة كيلو؛ فيدل على أن المسافة طويلة. فالحاصل: أنه كان يصلي العصر مبكراً، والشمس نقية لم يدخلها شيء من التغير، ويقطعون تلك المسافة في وقت النهار يعني: في بقية النهار.
وقت المغرب
وقت المغرب أما صلاة المغرب فذكر في حديث جابر أنه كان يصليها إذا وجبت، ولم يذكر شيئاً في حديث أبي برزة، وقال: نسيت ما قال في المغرب، ولكن المشهور أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، فإذا غربت عن الأعين دخل وقت المغرب. قد ذكرنا أنه يستدل على وقتها بقوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} [هود:114] وبقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] فيدخل في (حين تمسون) صلاة المغرب، فإنها تبدأ حين دخول المساء، وفي هذا الحديث أنه كان يصليها إذا وجبت أي: غربت، يقال: وجبت الشمس أي: سقطت في المغيب، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] ، ويعبر عنه أيضاً بالتواري كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] يعني: احتجبت عن الأعين. كان يصليها مبكراً، فإذا تحقق من الغروب صلاها، وكان ينصرف منها والرجل يرى مواضع نبله، والنبل هي السهام التي يرمون بها، فكانوا ينصرفون من صلاة المغرب وإذا رمى أحدهم بالسهم الذي يبلغ مائتي ذراع أو نحوه يرى السهم إذا وقع في الأرض، هذا معنى (يرى مواقع نبله) ، يعني: لا يزال هناك ضياء ولم تستحكم الظلمة، مما يدل على أنه كان يبكر بها. والتبكير في صلاة المغرب يكون في أول وقتها بحيث يبقى ضوء من النهار، ولم تستحكم الظلمة، هذا هو السنة. وقال بعضهم: إنه ليس لها امتداد، ولكن الصحيح أن وقتها يمتد إلى دخول وقت العشاء، وهو وقت غروب الشفق، وهي الحمرة التي في الأفق، فهذه الحمرة إذا غربت دخل وقت العشاء، وما دامت باقية فوقت المغرب باق، ولكن السنة المبادرة والإتيان بها في أول الوقت.
وقت العشاء
وقت العشاء أما صلاة العشاء فذكر في حديث جابر أنه أحياناً يبكر بها وأحياناً يؤخرها، فإذا رأى الصحابة اجتمعوا بالمسجد عجل وصلى بهم لينصرفوا، وإذا رآهم تأخروا في بعض الأشغال أو نحوها أخرها حتى يجتمعوا ويصلي بهم، وسيأتينا أنه كان يستحب أن يؤخرها إلى نصف الليل أو إلى ثلث الليل، يعني: أن الوقت المختار التأخير لها، وأن التبكير إنما هو لأجل إزالة مشقة السهر. وذكر في حديث أبي برزة أنه كان يستحب أن يؤخرها، ويستحب تأخيرها حتى يتحقق دخول الوقت وحتى يقرب من الوقت المختار الذي هو ثلث الليل أو نصفه، فيستحب ذلك لولا أن ذلك يشق على الصبيان والنساء ونحوهم. ذكر في حديث أبي برزة أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، فالنوم قبلها مدعاة إلى الكسل؛ لأنه إذا نام قبلها فقد يستغرق في النوم فتفوته الصلاة، وقد لا يصلي إلا بعد خروج الوقت أو خروج الوقت المختار، وإذا أوقظ في الوقت فقد يصلي ومعه الكسل والنعاس والسنة والغفلة وعدم الإقبال على الصلاة، وأهم شيء أنه غالباً قد تفوته الصلاة إذا نام قبل أذان العشاء. أما الحديث بعدها فكان عليه الصلاة والسلام ينام مبكراً أي: ساعة ما يفرغ من صلاة العشاء، وهكذا صحابته كانوا ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة، ولا يسهرون أول الليل، واتخذوا ذلك عادة لأنهم يتحرون قيام الليل، فكانوا يقومون إذا بقي ثلث الليل الآخر أو نصف الليل الآخر للتهجد، فيعرفون أن السهر أول الليل يحول بينهم وبين قيام آخر الليل، أو على الأقل قد يؤخرهم إلى قبيل طلوع الفجر، وقد يسبب سهر الليل فوات صلاة الفجر؛ لأجل هذا كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يتحدث أو يسهر بعد صلاة العشاء حتى لا يحبسه هذا السهر عن قيام آخر الليل. هذا سبب كراهته للتحدث بعدها، ومعناه التحدث في أمور الدنيا، وقد أباح العلماء الحديث إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، مثاله: إذا كان التحدث مع ضيف نزل به، أو إذا كان الحديث في بحث علمي، وفي فوائد علمية يستفيد منها الإنسان، ولا يحصل عليها إلا بذلك، فأبيح له ولو كان سبباً في حرمان قيام آخر الليل؛ لأنه حصل على خير أول الليل. وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه تمنى أن تكون صلاة التراويح في رمضان آخر الليل، فلما مر على الصحابة وهم يصلون التراويح أول الليل، قال: (التي ينامون عنها خير من التي يقومون لها) يعني: التي ينامون عنها هي صلاة آخر الليل، لكن قيام أول الليل يسهل على العامة، فليس كل واحد يتيسر له قيام آخر الليل، وبكل حال من طمع أن يقوم آخر الليل فلينم مبكراً؛ حتى يتيسر له ويقوم بسهولة؛ فينام مبكراً بعد العشاء مباشرة أو بعدها بقليل؛ ليكون ذلك عوناً له في أن يقوم في آخر الليل ويصلي ما كتب له، ويتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم وبسلف الأمة، وبأهل الخير.
وقت الفجر
وقت الفجر أما صلاة الفجر ففي حديث جابر أنه كان يصليها بغلس، وتقدم أن الغلس هو بقية الظلمة؛ لقول عائشة رضي الله عنها في الحديث المتقدم: (كان يشهد معه نساء متلفعات بمرطهن، فينصرفن لا يعرفهن أحد من الغلس) فالغلس بقية ظلمة الليل، وفي حديث جابر أنه كان يصليها بغلس، يعني: في ظلمة، وهذا دليل على أنه كان يبكر بها. وقال أبو برزة في حديثه: (كان ينصرف حين يعرف الرجل جليسه) كانوا يصلون في مكان مظلم، ليس عندهم سرج ولا ضياء، بحيث إذا انصرف كان قد طلع شيء من ضياء الصبح فيعرف أحدهم به من إلى جنبه ولا يعرف البعيد عنه، فكان ينصرف حين يعرف الرجل من عن يمينه أو عن يساره، هذا أقل ما فيه.
إطالة القراءة في الفجر
إطالة القراءة في الفجر هذا الحديث دليل على أنه كان يبكر بها، وفي حديث أبي برزة أنه كان يطيل القراءة فيها، فيقرأ ما بين الستين إلى المائة، أي: ستين آية إلى مائة آية، وذلك لا شك أنه إطالة بالنسبة إلى ما يفعل في هذه الأزمنة، وسيأتينا أنه عليه الصلاة والسلام كان يطيل في قراءة هذه الصلاة. والمراد ستين آية أو مائة آية من الآيات المتوسطة، مثل آيات سورة البقرة لاسيما الجزء الأول، آيات متوسطة ليست طويلة، ومثل آيات سورة الأحزاب مثلاً، لا قصيرة كآيات سورة الشعراء، بل آيات متوسطة، وأغلب آيات القرآن متوسطة، ونقول: سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] تعتبر أقل من المائة، فهي من جنس ما يقرأ في صلاة الفجر، وكذلك سورة الفرقان أقل من المائة، وكذلك أكثر سور القرآن ما عدا سورة الكهف مائة وإحدى عشرة، وكذلك سورة الإسراء أكثر من المائة بقليل لكن ما بعدهما من السورة أقل من المائة وإن زادت فتلك الزيادة لأجل قصر الآيات كسورة طه. فالحاصل: أنه يقرأ مثل سورة ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] الأنبياء، وسورة النور، وسورة المؤمنون، والفرقان، والنمل، والعنكبوت، وهكذا سور (آل حم) كلها. ويحتمل أنه يقرأ في الركعة الواحدة ستين أو مائة، ويحتمل أنه يقرأ في الركعتين معاً هذا المقدار ولعله الأقرب؛ يعني: أنه يقرأ في الركعتين مائة آية أو ستين آية على الأقل، ولا شك أن قراءته صلى الله عليه وسلم كانت متوسطة لا يطيل فيها ولا يسرع، بل يقرأ قراءة مجودة تفهم من غير أن يكون فيها إطالة شديدة، وبذلك نعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان يبتدئ بصلاة الفجر مبكراً، ويطيل فيها القراءة، وتبعه أيضاً صحابته رضي الله عنهم، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بهم مرة الفجر وقرأ سورة البقرة حتى أتمها، فلما انصرف قال له بعض الصحابة: كادت الشمس أن تطلع. فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، يعني: أننا مشتغلون بعبادة. وثبت أيضاً أن عمر كان إذا كبر في صلاة الفجر ابتدأ بالسور الكبار كسورة يوسف أو سورة النحل يقرؤها كلها في الصلاة، وهكذا أشباهها من السور، وذلك دليل على أنهم اعتادوا على أن صلاة الفجر لها أهمية في إطالة القراءة، وسبب ذلك أنها قلت ركعاتها فزيد مقدارها، وقد سميت قرآناً في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر، فسميت باسم قرآن لأنها تطول فيها القراءة، ولأنها أيضاً لا تقصر في السفر، فهذه الأسباب جعلته يطيلها، وفيه أن الأفضل أن يبكر بها في أول وقتها. وأما الحديث المشهور عن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر) ، فقد استدل به من يؤخرها كالحنفية، ولكن لا دلالة فيه على التأخير الشديد الذي يفعل في كثير من البلاد، إنما فيه دلالة على أنه لا يصلي إلا بعدما يتحقق من طلوع الفجر، وأنه يطيلها حتى ينصرف وقد أسفر الفجر، يعني: قد أضاء الصبح، فبذلك يكون أعظم للأجر، فمعنى: (أسفروا بالفجر) : أطيلوا القراءة حتى تنصرفوا وقد أسفر الصبح، والإسفار معناه ظهور الضياء، قال تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] يعني: ظهر الضياء، فهذا بيان ما جاء في الحديثين في مواقيت الصلاة.
شرح حديث: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء)
شرح حديث: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء) قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء) ، وعن ابن عمر نحوه. ولـ مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) . عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب) ] . حديث تقديم الطعام على الصلاة إذا حضر، المراد به -والله أعلم-إذا كانت النفس متعلقة بالطعام ومشتاقة إليه، وكان ذلك في وقت شدة جوع وجهد وفي الطعام قلة، والناس في حاجة إليه، فإن النفس تبقى مشغولة بذلك الطعام، وإذا ذهب إلى الصلاة ونفسه متعلقة بذلك الأكل لم يقبل على صلاته، ولم يطمئن فيها، وخاف ألا يبقى له طعام يكسر شوكة الجوع وحدته وشدته، فلا يقبل على صلاته؛ وذلك لأن المطلوب في الصلاة الإقبال عليها بقلب متفرغ حتى يحصل فيها الخشوع، وتحصل فيها الطمأنينة، ويحصل فيها التعقل والتأمل لما يقرؤه ويفعله، وتخشع فيها جوارحه، ويحضر قلبه ولبه في صلاته، ويتأمل الحكم التي تمر عليه، وبذلك يستفيد من صلاته، أما إذا صلى وقلبه منشغل بغيرها فإنه لا يدري ما يقول، ولا يدري ما يفعل، فينصرف من الصلاة وهو لم يدر ماذا قال، ولا بماذا قرأ ولا ماذا حصل له، فلا يستفيد من الصلاة الفائدة المطلوبة، والمطلوب في الصلاة -كما قلنا- الإقبال عليها بالقلب والقالب، فكل شيء يشغل اللب ويوجب حديث النفس ويسبب الصدود عن الإقبال عليها فإنه لا يفعله ولا يأتيه. ولأجل ذلك ينهى عن الصلاة في شدة برد مزعج لا يطمئن معه في صلاته أو في شدة حر، ويؤمر إذا اشتد الحر أن يبردوا بالصلاة حتى تنكسر شوكة الحر، وكذلك: إذا كان هناك شغل شاغل يشوش على المصلي في صلاته فإنه يباح له أن يؤخر الصلاة إلى أن يقبل على صلاته ويزيل عنه ذلك الشغل الذي يشوش عليه فكره، ويشتت عليه أمره. فالمطلوب في الصلاة أن يأتي إليها المسلم بقلب فارغ، والمطلوب من المصلي إذا أتى إلى المسجد أن يخلف الدنيا خلف ظهره، وأن يأتي إليها وقد أقبل على عبادة ربه، وجعلها شغله الشاغل وحديث نفسه حتى لا يفكر في شيء من أموره الخاصة ولا العامة، وبهذا يستفيد من صلاته الفائدة المرجوة منها.
ضوابط تقديم الطعام على الصلاة
ضوابط تقديم الطعام على الصلاة موضوع تقديم الطعام على الصلاة ذكر العلماء أن الأولين كانوا في وقت قلة من الطعام، وإذا حضر الإفطار والنفس مشتاقة إلى الأكل، وكان في الأكل والأزواد قلة فيما بينهم؛ فإذا أفطروا قدموا عشاءهم، فإذا قدموه وأقيمت الصلاة قام بعضهم ونفسه متعلقة بذلك الطعام حتى لا تفوته الصلاة، فإذا قام لأجل المحافظة على الصلاة رجع وقد أكل الطعام، ولم يبق له ما يسد جوعته، فيبقى مشوش الفكر، أولاً: لأنه صلى وقلبه متعلق بالطعام. ثانياً: لأنه لما رجع لم يجد ما يسد جوعه، فبقي كأنه متكره لتلك الصلاة التي حالت بينه وبين أن يساهم في الأكل؛ فلأجل ذلك أصبح عذراً في تأخير الصلاة. ولا شك أن هذا يعتبر عذراً مع شدة الحاجة إلى الطعام، ومع القلة في الأزواد، ومع خوف فناء الأكل، وبقاء الصائم جائعاً بلا أكل، ولذلك روي عن ابن عمر أنه كان يتعشى وهو يسمع الإقامة إذا كان صائماً؛ وذلك لأجل أن يقبل على صلاته بقلب متفرغ ولا يكون قلبه مشتغلاً بالطعام. ثم معلوم أن طعامهم وعشاءهم لم يكن مثل أطعمة الناس في هذه الأزمنة، إنما يأكلون العلقة من الطعام كما قالت عائشة: (إنما كن النساء يأكلن العلقة من الطعام) ، ويمتثلون قوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) ، هذا أكلهم، إنما يأكلون ما يسد الرمق ويسد الجوعة، أما أنهم يستغرقون في أنواع الأطعمة فإن في هذا شيئاً من الإسراف، ثم فيه أيضاً كثير من الانشغال، فإذا كانت النفس متعلقة بالطعام فلا يقوم إلى الصلاة إلا بعدما يعطي نفسه ما يسد جوعته، وما يخفف حاجته إلى ذلك الأكل، دون إفراط وإسراف في الأكل، ودون تأخير زائد للصلاة. وكذلك أيضاً لا ينبغي أن يجعل الناس مواقيت الأكل هي مواقيت الصلاة، بحيث يعتذر أحدهم بأنه جاءه وقت الصلاة وهو يأكل وقد حضر الأكل؛ لأن للأكل مواقيت معروفة، كان الأكل فيما مضى أول النهار بعد الصبح غداء وأول الليل عشاء، بعد المغرب، هذا هو الوقت المعتاد، أما أنهم يتحرون وقت الفجر أو وقت المغرب أو وقت العصر للأكل ويعتذرون بأنهم أخروا الصلاة اشتغالاً بالأكل، ويجعلون ذلك عادة متبعة؛ فإن هذا لا يسوغ ولا يجوز، أعني: تعمد جعل وقت الطعام هو وقت الصلاة مع إمكان تقديمه أو تأخيره. وكذلك نعرف أن القصد أن ذلك في حالة قلة الأزواد والحاجة الشديدة إلى الطعام وتعلق النفس به.
النهي عن الصلاة وهو يدافعه الأخبثان
النهي عن الصلاة وهو يدافعه الأخبثان وأما قوله: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) الأخبثان: البول والغائط، والمراد: أن الصلاة في حالة كونه حاقناً يعني: حاصر البول، أو محتاجاً إلى التبرز (للغائط) فإنه في تلك الحالة لا يقبل على صلاته، ولا يطمئن فيها؛ لكون ذلك الأمر مما يشوش عليه فكره، ومما يكدر عليه حالته، فلا يقبل على العبادة، فأمر والحالة هذه بأن يتخلى حتى ولو فاتته الجماعة، حتى يقبل على الصلاة فارغ القلب، حتى رفع إلى بعض العلماء Q إذا كان الإنسان في حاجة إلى التخلي-يعني: إما حاقناً وإما حاقباً- وليس عنده ماء يتوضأ به إذا تخلى، فهل يصلي حاقناً وهو على طهر أو يتبرز ويصلي متيمماً؟ فرجح أن عليه أن يتخلى ولو لم يجد ماء، ويصلي بالتيمم بعد فراغه، ومع سعة باله، ومع بعده عما يشوش عليه فكره. لا شك أن الذي يحس باحتقان البول وحرقه والحاجة إلى التخلي يبقى متشوشاً، وأن ذلك يذهب طمأنينته وإقباله على الصلاة، وقد عرفنا أن روح الصلاة ولبها هو الخشوع، وأنه لا يتصور الخشوع مع هذه الحال التي هي كونه حاقناً أو حاقباً، يعني: محتاجاً إلى إخراج البراز ونحوه، وكذلك كونه متعلقاً بأكل وبحاجة إليه أو بشراب كمن كان شديد الظمأ أو شديد الجوع أو ما أشبه ذلك. والأصل من هذه الأحاديث: أن المصلي مأمور بأن يأتي إليها وهو فارغ القلب؛ حتى يستفيد من صلاته، وينصرف وقد تأثر بالعبادة.
شرح حديث: (نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)
شرح حديث: (نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) الحديثان الآتيان يتعلقان بأوقات النهي الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع) ، وفي الحديث الآخر: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس) وذكر أنه روي عن جملة من الصحابة، وعد منهم كما سمعنا أربعة عشر صحابياً، ومنهم أحد التابعين وهو الصنابحي، ومنهم الاثنان اللذان رويا الحديث فيكونون ستة عشر. هذه الأحاديث وإن لم تكن في الصحيح ولكنها مروية، وكثير منها ثابت ومروي بأسنايد، وقد ذكر بعضهم أنها جاءت عن أربعة وعشرين صحابياً، كلهم رووا هذه الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة في هذين الوقتين، وابن عباس كما سمعنا نقله عن رجال لا عن رجل قال: (حدثني رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر) ، وعمر رضي الله عنه هو أحد الخلفاء الراشدين، فهو أوثقهم وأشهرهم فلا جرم، فذكر أنه من جملة من روى حديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس. والمراد بالصلاة هنا: الصلاة المطلقة التي هي تطوع، ولعل الحكمة في ذلك أن هذا وقت يصلي فيه المشركون، أو أن المصلي عندما يصلي قد يستقبل الشمس عند طلوعها، أو يستقبلها عند غروبها، فيتشبه بمن يصلي لها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على المنافقين تأخير صلاة العصر في قوله في صفة المنافق: (تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) وذكر أن الشمس تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها المشركون، فإذا كانت تشرق وتغرب بين قرني شيطان فإن الصلاة قد تكون مشابهة لمن يسجد لها من المشركين أو لمن يعبد الشياطين ويعظم الشياطين، والصلاة يجب أن تكون لله تعالى، والمصلي يسجد لربه لا لغير الله. وهذه الأوقات ذكروا أن فيها ما هو موسع، وفيها ما هو مضيق، فالوقت الموسع هو بعد العصر إلى أن يبقى على غروب الشمس نحو ثلث ساعة أو نصف ساعة، وما بعد ذلك فهو المضيق. وكذلك بعد الفجر موسع إلى أن تبدأ الشمس في الطلوع فيكون ذلك مضيقاً حتى ترتفع بعد إشراقها بربع ساعة أو نحو ذلك، فذلك المضيق، وهناك وقت ثالث من المضيقات وهو إذا استقلت الشمس ووقفت، وهو حين يقوم قائم الظهيرة، وقد ثبت في حديث عقبة أنه قال: (ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وحين تتضيف للغروب، وحين يقوم قائم الظهيرة) ، فهذه ثلاثة أوقات أكد فيها النهي، ودل على أن الوقتين الآخرين وقتان موسعان. وقد ذكر العلماء أنه يجوز في الأوقات الموسعة بعض الصلوات، فيجوز فيها قضاء الفوائت، فإذا ذكر صلاة نسيها فإنه يصليها في هذه الأوقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) ، فإذا نام عن صلاة الفجر واستيقظ عند الطلوع أو قرب الطلوع صلى ساعة ما يستيقظ، وإذا نام عن صلاة العصر واستيقظ قرب الغروب صلاها ساعة ما يستيقظ؛ وذلك لأنه لم يصل، وكذلك لو تذكر مثلاً صلاة فائتة، كأن تذكر بعد العصر أن عليه صلاة ظهر أو صلاة عشاء، فليصليها ساعة ما يتذكرها ولو بعد العصر ولو بعد الفجر. أما صلاة الجنائز فتصلى في الوقتين الموسعين بعد العصر حتى يقرب الغروب وبعد الفجر حتى يقرب الشروق. أما سجود التلاوة فاختلف هل هو صلاة أم لا؟ وإذا قلنا إنه صلاة فإنه يجوز فعله في أوقات النهي لأنه من ذوات الأسباب، إذاً: يجوز فيها كلها.
الخلاف في صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة
الخلاف في صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة اختلف في بعض الصلوات التي لها سبب، فمنها: ركعتا الطواف، وهما الركعتان اللتان يصليهما إذا طاف بالبيت، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يصليها في أوقات النهي، وروي أن عمر رضي الله عنه طاف مرة بعد الفجر، وفرغ من الطواف والشمس لم تطلع، فلم يصل الركعتين وركب بعيره وذهب حتى وضع رحله بذي طوى، وهي مسافة طويلة، وكانت الطريق من الحجون، فسار حتى وصل إلى ذي طوى، ولما وصل والشمس قد طلعت صلاهما في مكانه، وهذا دليل على أنه فهم أن صلاة ركعتي الطواف لا تصح في أوقات النهي. وروي عن بعض الصحابة أنهم كانوا يكرهون الطواف في أوقات النهي، ولكن الجمهور على أنها تصلى فيها، وأنها من ذوات الأسباب، والاحتياط في الأوقات الضيقة أنه يؤخرها، فإذا فرغ من الطواف قرب الطلوع أخرها إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح ربع ساعة أو نحوها، وإذا فرغ من الطواف قرب الغروب أخرها حتى يتم غروب الشمس، وهكذا في الأوقات الضيقة. وكذلك اختلفوا في سنة الوضوء التي وردت في حديث بلال أنه كان إذا توضأ صلى ركعتين، فذهب بعض العلماء إلى أن من توضأ فإنه يسن له أن يصلي، ولكن الصحيح أن سنة الوضوء ليست من ذوات الأسباب؛ لأنها لم تروَ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عن بلال أنه كان يتوضأ في أوقات النهي، ولم يذكر أنه كان يصلي هاتين الركعتين في أوقات النهي، ولم يذكر أنه كان يصليهما ساعة ما يتوضأ، إنما ذكر أنه إذا توضأ صلى بذلك الوضوء فريضة أو نافلة. واختلف أيضاً في تحية المسجد، وهي أكثر ما ورد فيه الاختلاف، فإذا دخل الإنسان المسجد بعد الفجر أو بعد العصر، هل يجلس أو يصلي؟ قولان للعلماء، والاختيار والأقرب أنه يجوز له أن يصلي وأن يجلس ولا إنكار على من فعل أحدهما، ولكن الأفضل إذا دخل قرب الغروب أن يجلس ولا يصلي، وكذلك قرب الشروق لا يصلي حتى يخرج وقت النهي. أما بقية النوافل التي لا أسباب لها فلا خلاف أنه يمنع منها لكثرة الأحاديث، فقوله: (لا صلاة) نفي يدل على المنع، يعني: لا تجوز ولا تفعل أية صلاة في مثل هذه الأوقات حتى تزول، وقد عرفنا أن السبب في ذلك النهي عن مشابهة المشركين، وكل شيء فيه مشابهة لهم ينهى عنه المسلم، بل يبتعد عن الأشياء التي يشترك فيها مع المشركين؛ ليتميز المسلمون من الكفار، ولما كان المشركون يسجدون في هذه الأوقات أو يصلون في هذه الأوقات أو نحو ذلك نهي المسلم عن أن يفعل أفعالهم، وكذلك بقية خصائصهم، وبقية عباداتهم.
شرح حديث: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام العصر يوم الخندق بعد الغروب
شرح حديث: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام العصر يوم الخندق بعد الغروب قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال: (يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب) ] . هذه الحديث يتعلق بقضاء الفوائت، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العصر بعدما دخل وقت المغرب، أي: بعدما غربت الشمس، ويعتبر هذا قضاء حيث قد خرج وقتها، وقد تقدم الحديث الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ملأ الله قبورهم أو بيوتهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس) ، وكان ذلك في غزوة الخندق عندما جاء المشركون وحاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة، وكانوا قد حفروا حولهم خندقاً، وهو متسع لا يستطيع المشركون أن يتجاوزوه بخيولهم ولا برجالهم، وإنما يتناولونهم بالسلاح من بعيد برمي أو نحوه، وكان الذي أشار عليهم بهذا الخندق هو سلمان الفارسي، وسميت الوقعة أو الغزوة غزوة الخندق أو يوم الخندق. وفي هذا أنهم أخروا الصلاة لاشتغالهم بالقتال، وكان ذلك قبل أن يؤذن لهم في صلاة الخوف، ويمكن أن يكونوا لم يتفرغوا للصلاة واعتقدوا أن القتال سيتوقف قبل خروج الوقت، واستمروا في القتال، وإلا فقد رخص الله لهم في أن يصلوا صلاة الخوف في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] إلى آخر الآية، وسيأتي بعض صفاتها. ورخص لهم الصلاة رجالاً وركباناً كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] يعني: صلوا على أرجلكم أو صلوا على مراكبكم تومئون إيماء بالركوع وبالسجود، ولكن قد لا يتمكنون فينشغلون انشغالاً كلياً ويؤملون أن القتال ينفصل. وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أخروا صلاة العصر حتى غربت الشمس، أما عمر رضي الله عنه فإنه صلاها قبيل الغروب؛ فلهذا جعل يسب المشركين ويقول في سبب سبهم: إنا انشغلنا بهم فلم أصل العصر إلا بعدما كادت الشمس أن تغرب، أي: قرب الغروب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقسم أنه ما صلاها، قال: (والله ما صليتها) يعني: إلى الآن، فتوضأ الصحابة في موضع يقال له بطحان من المدينة، وتوضأ معهم، وصلى العصر بعد الغروب أربع ركعات صلاة عادية، وصلى المغرب بعدها، وفي هذا دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة إذا كان الوقت متسعاً. يقول العلماء: يجب الترتيب إلا إذا خشي فوت الوقت الحاضر، إما إذا كان الوقت واسعاً فإنها تقدم الفائتة، فمثلاً: لو فاتتك صلاة العشاء وصلاة الفجر، وقمت قبل طلوع الشمس، وبقي على طلوع الشمس قدر صلاة ركعتين، فهل تقدم صلاة العشاء أو صلاة الفجر؟ تقدم الفجر؛ لأنك إذا اشتغلت بصلاة العشاء طلعت الشمس، فقدم صلاة الفجر؛ لأن الوقت هو وقتها، ثم صل العشاء التي قد خرج وقتها بعد الطلوع؛ لأنها تعتبر قضاء، وسواء صليتها قبل طلوع الشمس أو بعدها فهي مقضية، أما إذا كان في الإمكان أن تصلي الثنتين قبل الطلوع فصلّ العشاء؛ لأنها أقدم. ومثل ذلك: لو فاتتك الفجر والظهر والعصر، وانتبهت لها قبيل غروب الشمس، فإذا صليت الثلاث غربت الشمس قبل أن تكملها، فقدم صلاتي الجمع: الظهر والعصر وصلهما، والفجر قد فات وقته، فتصليه قضاء. أما في هذه الحالة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم العصر؛ لأن الوقت متسع، ثم صلى بعدها المغرب؛ لأنها لا تفوت، فرتب وجعل ذلك من باب التعليم لأمته في كيفية قضاء الصلاة إذا فاتت، وكان الوقت يتسع للمقضية وللحاضرة.
شرح عمدة الأحكام [9]
شرح عمدة الأحكام [9] صلاة الجماعة فيها فضائل كثيرة، وقد حث عليها النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث متكاثرة، وقد بين العلماء حكمها وأسباب المحافظة عليها. وإن من أفضل القربات أداء الرواتب من الصلوات، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضلها ورغب فيها.
شرح حديث: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ)
شرح حديث: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) قال المصنف رحمه الله: [باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ] . هذا الحديث يتعلق بفضل صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة هي الاجتماع في المساجد لأداء الصلاة المكتوبة التي هي الصلوات الخمس، وقد دل على ذلك أدلة من القرآن كقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، فإن هذا دليل على أن المعية تحصل بجماعة يصلون هذه الصلاة ويركعون فيها ويسجدون، ومن الأدلة النداء لها في قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:58] فإنه دليل على النداء للناس أن هلموا إلى الصلاة؛ ولهذا المؤذن يقول بصوته: حي على الصلاة، يعني: تعالوا إلى فعل الصلاة في هذا المكان. كذلك توعد الله تعالى الذين يُدعَون إليها ولا يأتون في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] (قد كانوا يدعون) أي: في الدنيا، (إلى السجود وهم سالمون) فعوقبوا بأنهم إذا أرادوا السجود يوم القيامة فلن يستطيعوا، وحيل بينهم وبينه، فهذا دليل على شرعية أداء هذه الصلوات في هذه المساجد. وقد ذكر لها العلماء حكماً ومصالح، ولو لم يكن في اجتماع المصلين على الصلوات إلا التعارف وتفقد الأحوال لكفى، فأهل الحي يجتمعون في كل يوم خمس مرات يرى بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم على بعض، ويسأل بعضهم عن حال الآخر، ويتفقدون أحوال من افتقدوه، ويعرفون من هو تقي محافظ على العبادة ومن ليس كذلك، فيعرفون أهل الخير، ويشهدون لهم بالصلاح، ويقولون: فلان صاحب عبادة لا يفتقد من المساجد، يرى دائماً مواظباً على هذه الصلاة، فيشهد له بالصلاح وبالخير. هذا الاجتماع الذي يجتمعونه في كل يوم خمس مرات لأداء هذه الصلاة فيه هذا التعارف، وفيه فائدة ثانية وهي: النشاط في العبادة؛ وذلك بأن يؤديها بنشاط وبقوة لا بكسل وخمول، والعادة أن الذي يصلي وحده يقوم إلى الصلاة كسلاً يتثاءب ويتثاقل ولا يقوم إليها إلا وكأنه يدفع إليها دفعاً، وكأنما أكره عليها، بخلاف ما إذا جاء إلى المسجد فإنه يجد انشراحاً وقوة وانبساطاً، ونشاطاً في البدن ونشاطاً في القلب. وفيها مصلحة ثالثة وهي: تعلم الجاهل، فإن الإنسان قد يكون جاهلاً بأحكام الصلاة فيتعلمها بالفعل وهو أبلغ من التعلم بالقول، والتعلم بالقول هو أن تقول في صفة الصلاة: إذا قمت فكبر، واجعل ركوعك أخفض من سجودك، واسجد على سبعة أعضاء، وهذا قد يعلمه الإنسان ولكن يبقى عليه التصور، فإذا تعلم بالفعل بأن كبر مع الإمام وركع معه وسجد وجلس وتشهد؛ أخذ التعلم فعلاً فكان أبلغ. وفيه أيضاً فائدة رابعة وهي: سماعه لكلام الله، وسماعه لما يؤتى به في هذه الصلاة، فإنه يسمع القرآن يتلى عليه في الصلاة الجهرية، ويسمع التكبير، ويسمع التسميع، ويسمع التحميد، ويسمع التسليم، فيستفيد من هذا، ويعرف الحكمة في شرعية هذه الأشياء، فيزداد بذلك معلومات وثقافات. أما الفوائد الأخرى الأخروية فهي كثيرة، منها: كتابة خطواته، ثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبكل خطوة إلى الصلاة صدقة) ، وقوله: (لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة أو حط بها عنه خطيئة، أو رفعه بها درجة) ، وهذا خير كثير يحرمه الذي يصلي في بيته. وفائدة أخرى وهي: اكتساب الأعمال؛ وذلك لأنه إذا جاء إلى المسجد أدى راتبة أو تحية مسجد، وهذا عمل خير، وكذلك قرأ من القرآن إذا لم تكن الصلاة قد أقيمت، وهذا عمل خير، واستفاد وسمع الفائدة وهذا خير، فيؤجر على ذلك. وفيه أيضاً فائدة وهي: أنه يحظى باستغفار الملائكة له، ثبت قول النبي صلى الله عليه سلم: (الملائكة تستغفر لأحدكم ما دام في مصلاه ما كانت الصلاة تحبسه ما يمنعه أن ينصرف إلا الصلاة، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه) ، وهذا الأجر كله يفوت على الذي يصلي وحده في بيته، ولا يحظى بشيء من هذا الأجر. أما المضاعفة فسمعنا هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، ومعناه: أن الذي يصلي فرداً يحصل له درجة واحدة، والذي يصلي مع الجماعة له سبع وعشرون أو ثمان وعشرون، وهذه الدرجات التي يحصل عليها بزيادة سبع وعشرين خير كثير يحرمه الذي يصلي وحده. لو أن إنساناً اشترى سلعة بثمانية وعشرين ثم باعها بدرهم واحد، فإنه خسر فيها سبعة وعشرين، ماذا تكون حالته؟ يأكل يديه لهفاً؛ لأنه خسر هذه الخسارة الفادحة من ثمانية وعشرين لم يحصل على درهم أو ريال واحد، فكيف يفوت عليه هذا الخير الكثير والأجر العظيم الذي رتبه النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته مع الجماعة؟!. وقد استدل بهذا من صحح صلاته وحده، ولكن معلوم أنه حتى ولو قلنا: إن صلاته في بيته مجزئة أو مسقطة للفرض، لكن أين هذه الأرباح؟ وأين هذه الفوائد؟ وأين هذه الخيرات التي يحصل عليها؟ تفوته المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية والأجر والدرجات التي يحرمها.
شرح حديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه)
شرح حديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً؛ وذلك أنه إذا توضأ وأحسن الوضوء وخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) متفق عليه واللفظ للبخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) ] . قد ذكرنا شيئاً من المصالح التي شرعت لأجلها صلاة الجماعة، وذلك أن هذه العبادة التي هي الصلاة أجل العبادات البدنية؛ لأنها صلة بين العبد وبين ربه، ومن حكمة الله أن أمر بها علناً، فشرع الأذان برفع الصوت الذي يطبق البلاد، ويدوي في أطراف القرى؛ ذكراً لله، وتشهداً، ونداء إلى الصلاة وإلى الفلاح، وتهليلاً وتكبيراً، وشرع لها الاجتماع، وشرع لها الجماعة التي تؤدى بحركات متوافقة، بحيث إن حركات الإمام تتبعها حركات المأمومين، ويجتمع أهل الحي في مسجد واحد موجهة قبلته إلى البيت الحرام، فيه العلامات التي يعرف بها كالمحاريب والمنائر ونحوها مما يكون علماً على الإسلام، وأن البلاد بلاد إسلامية، وأن هذه شعائر الإسلام. زيادة على أن في الاجتماع قوة ونشاطاً، وفي التخلف تكاسلاً وتثبطاً. قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً) ، وتقدم في الحديث الأول أنها تفضل بسبع وعشرين درجة، فقد تكون الدرجة هي المنزلة التي هي رتب يصعد بها والمعنى: أن الذي يصلي في بيته لا يصعد إلا درجة، والذي يصلي في المسجد جماعة يصعد سبعاً وعشرين أو ثماني وعشرين درجة، وذلك فضل كبير، وأما المضاعفة فإنه أخبر بأنها تزيد عليها خمسة وعشرين ضعفاً، أي: صلاة الرجل مع الجماعة تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، يعني: كأنه صلى ستاً وعشرين صلاة، والذي صلى وحده صلى صلاة واحدة، ومع ذلك لو أنه أعادها لم يبلغ درجة الصلاة مع الجماعة التي ذكر فضلها. قرأت في بعض الكتب أن رجلاً من الصالحين كان محافظاً على الصلاة، لم تفته صلاة الجماعة في وقت من الأوقات، إلا أنه مرة من المرات نعس بعد المغرب ففاتته صلاة العشاء فانتبه وقد صلوا، فجاء إلى المسجد خاشعاً باكياً خائفاً فصلى العشاء أربعاً ثم صلاها أربعاً ثم أربعاً ثم أربعاً حتى صلاها خمسةً وعشرين مرة، يريد بذلك أن يحصل له الأجر، وأخبر بعض العلماء فقال: فاتتك الدرجات، وفاتك استغفار الملائكة، وما أشبه ذلك، يعني أنك لو صليتها وكررتها لم تبلغ الدرجات التي حصل عليها من صلاها مع الجماعة، وهذا دليل على حرص السلف عليها، حيث إنه صلاها خمساً وعشرين مرة في ليلة واحدة، ومن الذي يستطيع أن يصلي العشاء التي هي أربع ركعات هذا العدد؟ لعله لم يفرغ إلا قبل صلاة الصبح.
أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد
أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد: السبب الأول: الخروج من المنزل بنية صالحة، وهو قوله: (لا يخرجه - وفي رواية: لا ينهزه- إلا الصلاة) يعني: إنما حركه إلى المسجد أداء هذه الصلاة، فهذا حسن النية، ما نهزه ولا دفعه ولا أخرجه إلى المسجد إلا الصلاة، ترك أشياء كان يشتغل بها، وقد يكون البيت دافئاً والطريق بارداً أو حاراً مثلاً، قد يكون مع أهله فيترك الأنس بأهله، قد يكون على فراش وطيء فيترك الفراش الوطيء ويذهب إلى المسجد محبة للصلاة، وقد يكون المسجد بعيداً فيصبر على البعد والمشقة، وهذا لا شك أنه من الأسباب التي تضاعف بها الجماعة. السبب الثاني: الخطوات، فالخطوات مكتوبة مع حسن النية، وفي الحديث: (لم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة) ، ومن أجل هذا استحب بعض العلماء أنك إذا ذهبت إلى المسجد تقارب الخطى؛ حتى تكثر، فلا تسرع ولا تمد الخطوات بل تمشي بتؤدة وتأن، وقال في الحديث: (إذا سمعتم النداء للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة والوقار) فأمر المتوجه إلى المسجد بالمشي وألا يركب، ولا يسرع في مسيره، ولا يركض برجله، بل يمشي بتؤدة وبسكينة وبوقار. ولا شك أن هذا مما يدل على احترامه لهذه الصلاة وعظمتها في قلبه، وما ذاك إلا أنه يأتي إلى عبادة يجد فيها اللذة، ويجد فيها الانبساط والسرور والبهجة، يأتي إلى عبادة يجد فيها أنه يريح قلبه ويريح بدنه كما في الحديث: (أرحنا بالصلاة) وقوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإذا كان كذلك أتى إليها بطمأنينة وبسكينة وبهيئة تدل على الاحترام، وتدل على المحبة والهيبة لهذه العبادة. وقد وردت أدلة كثيرة في الخطوات، منها قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] يعني: ونكتب آثارهم ذهاباً وإياباً، وورد أيضاً في حديث جابر قال: (كان رجل منزله بعيد لا أعلم أحداً أبعد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الرمضاء وفي الشتاء، فقال: ما أحب أن بيتي إلى جانب المسجد، إني أريد أن يكتب لي مجيئي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد كتب لك ذلك كله) فهذا يأتي راجلاً من مكان بعيد ويعود راجلاً، وامتنع أن يركب حماراً، واحتسب خطواته، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنك تكتب لك خطواتك إذا أتيت إلى المسجد، وتكتب لك خطواتك إذا رجعت إلى منزلك؛ لأنك أتيت إلى عبادة ورجعت فارغاً من عبادة. ولما احتقر بعض الصحابة أعمالهم بالنسبة إلى أعمال الأغنياء؛ أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمال تقوم مقام العتق وتقوم مقام الصدقة والتبرعات ونحوها، فقال لهم: (إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة إلى المسجد صدقة) ، فجعل كل خطوة صدقة، فهذه أدلة تدل على أن خطواتك إلى المسجد تكتب حسنات، وهذا مما تضاعف به صلاتك جماعة على صلاتك وحدك. السبب الثالث: أنك إذا صليت وبقيت في مصلاك بعدما تفرغ مشتغلاً بالذكر حظيت بشيء آخر وهو دعاء الملائكة، فالملائكة تصلي عليك وتقول: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وصلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ودعاء الملائكة واستغفارهم خاص بأهل الإيمان، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] إذاً: إذا استغفرت لك الملائكة بقولهم: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فأنت من المؤمنين بنص هذه الآية: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، فهذا سبب. السبب الرابع: أن المصلي في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، فلو تقدم قبل الأذان بساعة أو نحوها وجلس ينتظر الصلاة فهو في حكم المصلي، وكذلك إذا أتى بعد الأذان واشتغل بعبادة فإنه يكتب بأنه يصلي حتى في طريقه، وورد في حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة) ، فجعله في حكم المصلي مادام أنه ما جاء به ولا دفع به إلا الصلاة، فهذا دليل واضح على أن هذه الأعمال تكون سبباً في مضاعفة العمل من واحد إلى خمس وعشرين ضعفاً. هذه هي أسباب مضاعفة صلاة الجماعة.
شرح حديث: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)
شرح حديث: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) أما الحديث بعده فيتعلق أيضاً بصلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) . المنافق هو الذي يخالط المسلمين وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، قلبه يضمر الكفر ويظهر الإيمان، أو هو مؤمن في الظاهر وليس بمؤمن في الباطن. المنافقون إذا لقوا المؤمنين ادعوا أنهم معهم، ولكنهم أعداء لهم في الباطن، وهم الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] ، وفي آيات كثيرة يذكر الله تعالى فيها مساوئهم وأعمالهم السيئة، فهؤلاء المنافقون تثقل عليهم الصلوات، يصلون مع الناس ولكن رياء وسمعة، وليس الدافع لهم الإيمان، ليس الدافع لهم طلب الثواب ولا طلب الأجر في الآخرة، ليسوا مصدقين في الحقيقة بالجزاء الأوفى، إنما يظهرون الإيمان ليحقنوا بذلك دماءهم، ويحفظوا بذلك أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا، فلذلك تكون عليهم الصلوات ثقيلة، تثقل على نفوسهم، لا سيما صلاة الليل كصلاة العشاء وصلاة الفجر، فكلاهما تقع في ليل وتقع في ظلمة وتقع في وقت راحة، فهي ثقيلة عليهم فلا يأتونها إلا كسالى وربما لا يأتونها، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54] فصلاة العشاء ثقيلة عليهم لأنها تقع في ظلمة، وكذلك صلاة الفجر تقع في وقت نوم وفي وقت راحة فهي ثقيلة عليهم، ولكنها ليست ثقيلة على المؤمنين بل كلها محبوبة وخفيفة عليهم. ويقول في هذا الحديث: (لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً) أي: ولو حبواً على الركب والأيدي كما يحبو الطفل، ولا شك أن فضلهما والأجر المرتب عليهما أجر عظيم، وكذلك بقية الصلوات، فلا شك أن الصلوات كلها فيها أجر وفي المحافظة عليها فضائل، ولكن في هاتين الصلاتين العشاء والفجر زيادة فضل وزيادة أجر، حيث إن فعلهما فيه مشقة، والعمل كلما كان شاقاً كلما كان الأجر عليه أعظم.
الحث على شهود صلاة الفجر جماعة والأسباب المعينة على ذلك
الحث على شهود صلاة الفجر جماعة والأسباب المعينة على ذلك في هذه الأزمنة ابتلي الناس بالتأخر عن بعض الصلوات، وبالأخص صلاة الصبح، فكثير من الناس يحافظون على الصلوات الخمس ولكن صلاة الفجر يتأخرون عنها، بحيث إن المسجد الذي يصلي فيه أربعة صفوف لا يحضر في الفجر إلا صف أو صفان، ولا شك أن هذا من عدم احتساب هذه الصلاة، وقلة معرفة بقدرها وبأجرها وبما فيها من الثواب، أو تقديم لشهوات النفس على العبادات التي هي حق الله تعالى، ويتعللون بالنوم وبعدم الانتباه أو نحو ذلك. ونحن نقول: عليك أولاً ألا تسهر أكثر ليلك، بل تنام مبكراً بعدما تصلي العشاء بساعة ونحوها، لأن السنة أن تنام مبكراً وتستيقظ مبكراً حتى تصلي وترك آخر الليل أو على الأقل حتى تؤدي صلاة الفجر مع الجماعة. وعليك ثانياً أن تكون منتبهاً للصلاة، ومهتماً بها، ومشتغلاً بها في قلبك، والإنسان كلما اهتم بشيء فإنه يستعد له أشد استعداد، فإذا أعطى موعداً محدداً لم يستطع التأخر عنه، سواء زيارة أو نحو ذلك. ونشاهد مثلاً في هذه الأيام أن الناس صاروا ينتبهون مبكرين لأجل الدراسة، ولأجل تدريس أولادهم ونحو ذلك، ونشاهد أنهم يبكرون عند بائعي الخبز، وكثير من الذين لم يحضروا الصلاة مع الجماعة تراهم مبكرين عند بائعي الخبز أو في البقالات ونحوها، ولا شك أن الذي يدفعهم إلى الانتباه هو الدراسة ومقدماتها وما أشبه ذلك. إذاً: فالإنسان إذا اهتم بالصلاة استطاع أن يستيقظ في الوقت المحدد لها، أما إذا لم يكن مهتماً ولم يكن منتبهاً ولم يكن في قلبه دافع؛ فإن النوم يغلبه ولو نام عشر ساعات أو ثمان ساعات. وهناك سبب ثالث وقد يكون معيناً لك وهو: أن توكل من ينبهك إما أهلك وإما جيرانك ونحوهم، يطرق عليك باباً أو يضرب عليك جرساً، أو يتصل بك هاتفياً، أو نحو ذلك، أو تجعل عندك ساعة منبهة ذات جرس أو نحو ذلك، ولا شك أن هذه مساعدات، ولو أن الناس استعملوها وعملوا بها لما فاتتهم هذه الصلاة، ولما حصل عندهم هذا التأخر وهذا التكاسل.
هم النبي عليه الصلاة والسلام تحريق بيوت من يصلون في بيوتهم
هم النبي عليه الصلاة والسلام تحريق بيوت من يصلون في بيوتهم في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد المتخلفين عن صلاة الصبح أو غيرها بأن يحرقهم بالنار؛ لقوله في هذا الحديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى أناس لا يشهدون الصلاة -وفي رواية أبي داود: يصلون في بيوتهم- فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) أليس الإحراق تعذيباً؟ أليس الإحراق قتلاً؟ لا شك أنه سيقتلهم بذلك. ما السبب أن يذهب إليهم بهذه الحزم من الحطب ويحرق عليهم بيوتهم؟ ليس لهم ذنب إلا أنهم يصلون في بيوتهم، فلأنهم لا يصلون الجماعة؛ فهم مستحقون لهذا، وفي بعض الروايات أنه ذكر المانع فقال: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأحرقتها عليهم) ، فاعتذر عن الفعل أن في البيوت من لا تجب عليهم الجماعة، ففي البيوت أطفال لم يكلفوا، وفي البيوت نساء ليس عليهن صلاة جماعة، فإحراقهم قد يكون إحراقاً لمن لا يستحق الإحراق، أو إحراقاً للمتاع والمال الذي لا ذنب له، فمنعه ذلك. ولم يقتلهم ولم يقاتلهم لأجل أنهم لم يعملوا عملاً ظاهراً أو لكون عملهم قد يكون خفياً، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم وقت الصلاة، وهو الوقت الذي يشتغل فيه المصلون، فإذا قالوا: ما هو السبب؟ قال: لأنكم لم تصلوا، فالجماعة يصلون في المساجد وأنتم جالسون في بيوتكم؛ فتستحقون أن تحرق عليكم، وما منعه إلا أن في البيوت من لا يستحق الإحراق. لا شك أن هذا الفعل دليل على أهمية هذه الصلاة، ودليل على وجوب أداء الصلاة مع الجماعة ولو كان فعلها في البيوت كافياً لما هم بالإحراق، ولا يهم عليه الصلاة والسلام بأمر إلا وهو حق، ولا يهم بباطل؛ لأجل هذا الحديث ذهب العلماء الموثقون إلى أن صلاة الجماعة فرض على الرجال المكلفين، ويستثنى من ذلك النساء والصبيان فلا تجب عليهم صلاة الجماعة، ويعرف من ذلك أن من تركها أو تخلف عنها فإنه مذنب ولو أنه أسقط الواجب، ولكن لا يمنع أن يكون الفعل واجباً، وأن يثاب على فعله حيناً ويعاقب على فعله، فتكون صلاته في بيته يحصل به على درجة أو على ضعف واحد وتفوته المضاعفات الكثيرة، ويستحق العقاب على تركه لصلاة الجماعة، فيثاب من جهة ويعاقب من جهة. وبكل حال فإن صلاة الجماعة عند المحققين من العلماء فرض على الأعيان، لكل من ليس له عذر، ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) وفسر العذر بأنه خوف أو مطر أو مرض، يعني: الأعذار المانعة العائقة عن الإتيان إلى المساجد، فإذا لم يكن للإنسان عذر وصلى في بيته فإنه -وإن أسقط عنه فرض الصلاة- يستحق العقاب على التخلف، حيث ترك ما هو مأمور به، وترك المحافظة على هذه الصلاة، زيادة على ما يفوته من الحسنات ومن المضاعفات، وزيادة على ما يفوته من الحكم والمصالح التي شرعت لأجلها الجماعة. ونحث كل مسلم على أن يكون مهتماً بأداء الصلاة في المساجد حيث ينادى بها كما حث على ذلك ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: (إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى-يعني: هذه الصلوات- حيث ينادى لها، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، وإنه كان ليؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) . هذه حالة الصحابة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا المنافق الذي عرفوا أنه منافق، وكان المريض يتكلف ويؤتى به يعضد له بين رجلين؛ كل ذلك محبة لأداء الصلاة مع الجماعة، فعلى كل مسلم أن يكون مهتماً بأداء الصلوات في الجماعة، وأن يحرض أولاده وإخوته وجيرانه على أداء صلاة الجماعة؛ ليحصل على الفضل ويسلم من الإثم.
شرح حديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)
شرح حديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنَّ، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً ما سمعته سبه مثله قط، فقال: أُخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنَّ!) ، وفي لفظ لـ مسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء) ، وفي لفظ: (فأما المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته) ، وفي لفظ للبخاري: أن ابن عمر قال: حدثتني حفصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) ، وفي لفظ لـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ] .
صلاة النساء في المساجد
صلاة النساء في المساجد الحديث الأول يتعلق بصلاة النساء في المساجد، وكان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً على الاقتداء به، وحرصاً على مضاعفة الصلاة، وحرصاً على الصلاة في المسجد، ولكن كُنَّ محتشمات في غاية التستر، كما قالت عائشة: (كان نساء يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلففات بمروطهنَّ، ينصرفن ولا يعرفهنَّ أحد من الغلس) وكونها متلففة، أي: مرتدية بردائها بحيث إنها تخرج متسترة في غاية التستر. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإذن لها في هذا الحديث: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) ، وفي الرواية الثانية: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) (إماء الله) جمع أمة، الأمة هي المملوكة، أي: أنهن ملك لله كما أنكم ملكه، فأنتم عبيد الله وهن إماء الله، وكما أنكم تعبدون الله وأنتم مماليك له، فكذلك نساؤكم يعبدن الله وهن مماليك له، وكما أنكم ترغبون في الخير وتحبون مضاعفة الأجر فهنَّ كذلك يرغبن في مضاعفته. وقد كان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحضر المرأة ومعها طفلها، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إني لأكبر في الصلاة أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأوجز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه) ، وهذا يدل على أن أمه قد كبرت للصلاة، وأنها لا تتفرغ له حتى تنصرف من صلاتها، ولو بكى ولو صرخ، فهو عليه الصلاة والسلام يراعي شفقتها، ويخفف الصلاة التي كان يريد إطالتها. ولكن ثبت أيضاً أنه حث النساء على البعد عن الرجال، وحث الرجال على البعد من النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها) ، يعني: أن آخرها أقرب إلى النساء فهو شرها، (وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) ، لما كان أولها قد يتصل بصفوف الرجال أو قد يراه المتأخرون من الرجال كان شرها، وكان خيرها آخرها لكونه بعيداً عن الرجال، وهذا فيما إذا كان النساء متصلة صفوفهن بصفوف الرجال، وليس بينهم شيء من الحواجز، فمثل هذا يكون آخر صفوف النساء خيرها، أما إذا كان بينهم حاجز منيع -كما في هذه الأزمنة حيث يستمعن الصلاة بواسطة المكبر ولو كن بعيداً- فنرى أن صفوفهن كصفوف الرجال، يعني: أن أولها خيرها لعدم الاختلاط. في هذا الحديث أن ابن عبد الله بن عمر كأنه حملته الغيرة على نسائه فهمّ أن يمنع امرأته أو يمنع نساءه من المسجد، وكأنه رأى أن خروج النساء فتنة، فقال: (والله لنمنعهنَّ) ، ولما تكلم كلاماً بدون تأدب ويظهر منه الاعتراض على الحديث؛ غضب والده وسبه على هذا الاعتراض، إذ كيف يعترض على قول النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضاً بدون مقدمات؟! ومعلوم أنه رحمه الله إنما حملته الغيرة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) ، وذكرت عائشة أن النساء في زمنها أحدثن أشياء تستحق المرأة أن تُمنع لأجلها، وكأنها رأت شيئاً من التجمل ومن اللباس ومن التعطر الذي قد يخشى منه الفتنة، وذلك لأن خروج النساء فتنة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكنَّ تفتنَّ الحي وتؤذين الميت) . فخروجها إذا كان في زمن قد استتب فيه الأمن، وقد عرف الناس فيه الحق وعملوا به، ولم يكن هناك شيء من الخوف، وكان الناس على جانب متين من الديانة، وكان الرجال معهم الورع، ومعهم الخوف من الله تعالى، والنساء معهنَّ الاحتشام والتستر والبعد عن الاحتكاك بالرجال والبعد عن الفتنة وأسباب الفتنة من التعطر والتجمل والتكشف والتطيب وما أشبه ذلك، إذا كان ذلك كذلك فإنها تخرج، فأما إذا تغيرت الحال -كما ذكرت عائشة - فإن الأولى أن تجلس في بيتها كما نص على ذلك العلماء وكما ورد في بعض الأحاديث، ففي حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (صلاتها في مسجد حيها أفضل من صلاتها في المسجد الكبير -الجامع-، وصلاتها في سوقها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في رحبة دارها أفضل من صلاتها في مسجد الحي، وصلاتها في أقصى حجرتها أفضل من صلاتها في رحبة بيتها) فكانت المرأة تتحرى أظلم مكان في بيتها فتصلي فيه ولو أنها متسترة.
خروج النساء إلى المسجد وهن تفلات
خروج النساء إلى المسجد وهن تفلات أذن النبي عليه الصلاة والسلام للنساء في الخروج إلى المسجد، واشترط التبذل فقال: (وليخرجن تفلات) ، والتفلة هي: الغير المتبرجة، يعني: تخرج بثياب بذلة لا بثياب زينة، ولا بثياب جمال، ولا بشيء يلفت الأنظار، ولا تتعطر، ولا تتخضب، ولا تتطيب، ولا يكون معها شيء مما يكون لافتاً لأنظار الناس إليها، وألا تكون شابةً بحيث يفتتن بها الرجال، وألا تقترب من صفوفهم، وأن تحذر من مزاحمة الرجال، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا انصرف من الصلاة مكث قليلاً قبل الانصراف بوجهه حتى لا ينصرف الرجال مع النساء، بل يمهل حتى يخرج النساء ويتمادين في المسير، ولا يكون بذلك احتكاك ولا ازدحام عند الأبواب. عرفنا أن ابن عمر رضي الله عنه روى الحديث على ظاهره، وأن ولده بلالا لم يعترض إلا لما رأى من المخاوف، ولما خافه من المفسدة، وإلا فهو أجل من أن يعترض على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر رضي الله عنه كان له امرأة محتشمة، وكانت تُحب أن تصلي في المسجد، فطلبت منه أن يأذن لها، ولكنه نصح وقال: (صلاتك في بيتك أفضل) فقالت: أحب الصلاة في المسجد مع الجماعة فلم يستطع أن يمنعها، وقد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، ثم إنه احتال حيلة تسبب توقفها، فلما علم أنها ستخرج في وقت العشاء وقف لها في الطريق في مكان مظلم مختفياً في زاوية من الزوايا، فلما مرت به وعرفها جاءها من خلفها وضربها بيده على عجيزتها، وهرب كأنه يريد السوء، فلما فعل ذلك وهي لم تعرفه رجعت إلى بيتها وبقيت، وسألها بعد ذلك وقال: (لماذا لا تخرجين إلى المسجد؟ فقالت: كنا نخرج والناس ناس، فأما الآن فإن الناس ذئاب) أو كما قالت، فهذه حيلة منه رضي الله عنه، وهو دليل على شدة غيرته، وأنه يخشى أن تتعرض- وإن كانت عفيفة- لبعض الفتن، إما أن تفتتن وإما أن يُفتتن بها، وإن كان ذلك مأموناً في ذلك الزمان. وبكل حال فخروج النساء إلى المساجد إذا كن في غاية من التستر والتبذل والاحتشام لا بأس به، ولكن بيوتهنَّ خير لهنَّ سيما في الأزمنة المتأخرة، سيما والنساء قد أحدثن أكثر مما ذكرت عائشة في قولها: (لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) .
شرح حديث: (صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر)
شرح حديث: (صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر) هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب وتسمى أيضاً صلاة التطوع، وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على عشر ركعات تسمى الرواتب، وهي قبلية وبعدية: كان يصلي ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، هذه الرواتب كان يحافظ عليها طوال وقته إلا إذا سافر فإنه كان يترخص بتركها إلا سنة الفجر. ولا شك أن هذه السنن نوافل وعبادات من جنس الصلاة، والصلاة من أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كانت من أفضل القربات شرع أن يتنفل، وشرع أن يأتي بزيادة على الفرائض، وأهم ذلك وأفضله ما كان قبل الفريضة أو بعدها في وقتها أو في موضعها، فإن ذلك مما يسهل ومما يهون، حيث إنك تتوضأ للظهر وتصلي سنتها القبلية، وتصلي سنتها البعدية بذلك الوضوء، ولا يكون عليك مشقة. وهكذا تصلي سنة المغرب بعده، وسنة العشاء بعده، ولا يكون عليك بذلك مشقة، وهكذا أيضاً سنة الفجر تصليها بوضوء واحد ولا يكون عليك مشقة، وقد روي أن الحكمة فيها أنها جبر للنقص الذي يحصل في الفرائض، وفي بعض الأحاديث أنه ينظر في صلاة العبد، فإذا لم يكملها قال الله: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فتكمل بها الفريضة) فإذا كانت الفريضة فيها شيء من النقص والخلل؛ فإن الله يُكملها بهذه السنن التي يتطوع بها، وإذا كانت الفريضة كاملة فإن هذه السنن تكون قربات يرفع الله بها العبد درجات، ويثيبه عليها حسنات، وما أعظم ذلك من أجر! فعلى المسلم ألا يحرم نفسه من هذا الأجر، وأن يكثر من النوافل.
أهمية سنة الفجر
أهمية سنة الفجر أهم هذه الصلوات التي تُسمى الرواتب سنة الفجر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها ويتعهدها في سفره وفي حضره، كما في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على سنة الفجر أو على ركعتي الفجر، يعني: أنه يُحافظ عليها أشد المحافظة. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: (صلوهما ولو طردتكم الخيل) يعني: ولو كنتم في حال المسايفة فلا تفوتوا هاتين الركعتين اللتين هما سنة الفجر، ولعل سبب المحافظة عليها أن صلاة الفجر إنما هي ركعتان، فلما كان عددها قليلاً تأكد أن يضاف إليها ركعتان قبلها كسنة، ويكون ذلك جبراً لنقصها، هكذا قالوا. وقيل: لأنها بعيدة عن الصلوات، فقبلها نحو تسع ساعات لا صلاة فيها، وبعدها ثمان أو سبع ساعات لا صلاة فيها، يعني: ما بينها وبين الظهر، وما بينها وبين العشاء، فكان من المؤكد أن يصلى معها نافلة، ليكون عمل في هذا الوقت صلاة تطوع وصلاة فرض. ومن فضلها هذا الحديث الذي يقول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، أي: ثوابها خير من أن تحصل لك الدنيا بحذافيرها، ومعلوم أن الدنيا وما فيها متاع قليل، يذهب عن الإنسان ويبقى عليه حسابه، وأما عمل الآخرة فإنه يثاب عليه، فذرة من ذرات الآخرة من حسناته خير من متاع الدنيا بأكمله. وبكل حال فإنه عليه الصلاة والسلام حافظ عليها في سفره ولم يتركها، فضلاً عن الحضر، فدل ذلك على تأكدها. وهاتان الركعتان لهما أحكام كثيرة، وقد أفردها بعض المؤلفين في كتاب مستقل، مما يدل على كثرة الأحكام التي تتعلق بها؛ في كيفيتها، وفي تخفيفها، والحكمة في ذلك، وفي قضائها متى تقضى إذا فاتت، وما أشبه ذلك مما هو معروف مشهور.
المحافظة على الرواتب
المحافظة على الرواتب بقية النوافل -التي هي الرواتب- يسن أيضاً المحافظة عليها، وورد أيضاً أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر، فعلى هذا تكون اثنتي عشرة ركعة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، فتكون اثنتي عشرة، يضاف إليهن أنه عليه السلام كان يوتر بإحدى عشرة ركعة فتكون ثلاثاً وعشرين، ويضاف إليهن سبع عشرة التي هي الفرائض فتكون أربعين، وورد في بعض الآثار أن من ضرب الباب أربعين مرةً يوشك أن يفتح له، فإذا كنت تحافظ كل يوم على أربعين ركعة فإن ذلك حري أن تقبل منك صلاتك، وكل يوم يصعد لك أربعون ركعة. وإذا صعب عليك قيام التهجد فزد من الركعات ما يتمه، مثلاً صل قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً، وقبل العصر أربع ركعات، وقبل المغرب ركعتين، وقبل العشاء ركعتين، فيتم بذلك قريب من الأربعين مع الوتر ثلاث، فتكون بذلك قد أضفت زيادات، وذلك خير كثير، وكان كثير من العلماء ومن العباد يضيفون إلى ذلك عشرين ركعة زيادة على اثنتي عشرة، وكل ذلك من العمل المبرور، فالإنسان عليه ألا يمل من الخير، فإن العبادة محبوبة عند الله، وأفضل العبادة الصلاة، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أوصى بعض أصحابه لما قال له: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: (أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: بكثرة الصلوات التي هي من التطوعات.
شرح عمدة الأحكام [10]
شرح عمدة الأحكام [10] الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ودعوة إلى ركن من أركانه، وقد وردت صفاته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عنه آدابه والأذكار التي تقال أثناءه وبعده، وقد بين العلماء ذلك في شرح الأحاديث الواردة فيه.
شرح حديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)
شرح حديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن أنس رضي الله عنه قال: أُمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة. وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له حمراء من أدم قال: فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال: فتوضأ وأذن بلال قال: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم رُكزت له عنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة] .
أهمية الأذان وفضله
أهمية الأذان وفضله هذا باب الأذان، وهو من شعائر الإسلام الظاهرة، فرفع الصوت بهذه الكلمات في أوقات الصلاة من شعائر الدين، ومن أعلام الإسلام، ومما يُعرف به أن أهل هذه البلد مسلمون مُعلنون لكلمات الله مظهرون لدين الله، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا وقرب من أهل قرية أو أهل بادية انتظر وقت الصلاة، فإن سمع أذاناً منهم تركهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، فجعل الأذان علامة على أنهم مسلمون؛ وذلك لأنه أصبح شعاراً للمسلمين. شُرع هذا الأذان للإعلان بدخول الوقت، وأوقات الصلوات محددة، لكل صلاة وقت له أول وآخر، والناس قد لا يعرفون الوقت بالزمان؛ فلذلك جعلت علامة يعرفون بها أوقات صلواتهم، فإذا سمعوا الأذان توجهوا لأداء هذه الصلوات في بيوت الله سبحانه، وإذا سمعوا الأذان عرفوا أن الوقت قد دخل فصلى المعذور في محله. وهذا الأذان مشتمل على كلمات كلها ذكر، فلا جرم كان فيه من الأذكار ما هو تذكير مناسب؛ وذلك لأنه يرفع به الصوت، فناسب أن يكون مبدوءاً بالتكبير الذي يذكر بكبرياء الله وبعظمته وبحقارة ما سواه، وكذلك فيه تكرار الشهادتين وما ذاك إلا ليعلم أن هذا التكبير وهذه الشهادة شعار الإسلام، فإن الشهادتين من شعائر المسلمين، وفيه دعاء إلى الصلاة، وإلى نتيجتها، يدعو الناس بقوله: حيَّ، يعني: هلموا وتعالوا إلى هذه الصلاة التي يحصل بها الفلاح، وفي ذلك ما يدفعهم إلى أن يأتوا مسرعين حريصين على الفلاح الذي هو الفوز، وختم بالتكبير مرة ثانية، وبالتهليل الذي هو تذكير بالشهادة. فهذا الأذان من شعائر الإسلام؛ ولذلك كانت وظيفته من أشرف الوظائف، ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للمؤذن مدى صوته) ، وأوصى أبو سعيد رجلاً من أصحابه فقال: إني أراك تحب البادية، فإذا كنت في باديتك أو في غنمك وأذنت للصلاة فارفع صوتك بالأذان، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر إلا شهد له يوم القيامة، وقرأ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] . وقال بعضهم في قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] : نزلت في المؤذنين؛ لأنهم أحسن الناس قولاً؛ لأنهم يأتون بكلمات حسنة، ويأتون بهذه الدعوة إلى عبادة الله، فلا أحسن منهم قولاً، وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم يُعرفون يوم القيامة بطول أعناقهم سيمة وعلامة لهم، وذلك دليل على فضيلة الأذان، وأنه شعيرة من شعائر الإسلام. قال أنس: (أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة) ، وهذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، والمعنى أن يجعل كلمات الأذان شفعاً، يعني: مكررة، وكلمات الإقامة مفردة وتراً غير مكررة، فيكبر في الأذان أربعاً في الأول، وفي الإقامة تكبيرتين فهي على النصف، يتشهد أن لا إله إلا الله في الإقامة مرة، وفي الأذان مرتين، كل واحدة من الشهادتين يكررها في الأذان مرتين، والحيعلتان يأتي بهما مرتين في الأذان، ومرةً في الإقامة، فمعنى كونه شفعاً يعني: مرتين، والإقامة وتر يعني: مرة، إلا أن الإقامة تزيد بكلمة (قد قامت الصلاة) حيث إنما لإعلام الناس بالقيام، ويؤتى بها مرتين لإعلام الحاضرين بأن يقوموا إلى الصلاة.
كيفية الأذان والإقامة
كيفية الأذان والإقامة أذان بلال خمس عشرة جملة، أربع تكبيرات، وأربع تشهدات، وأربع حيعلات، هذه اثنتا عشرة كلمة، ومعها تكبيرتان تصير أربع عشرة، وتهليلة، فهذه خمس عشرة، هذا هو أذان بلال الذي استمر عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. لكن روي عن أبي محذورة أنه كان يُكرر الشهادتين، ويسمي ذلك ترجيعاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان بالترجيع، فكان أذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، حيث إنه يأتي بالشهادتين مرتين مرتين، ثم يعيدها مرتين مرتين، فتكون الشهادتان ثمان مرات، فيصل العدد إلى تسع عشرة جملة، هذا أذان أبي محذورة، وكان يؤذن في الحرم المكي في أيام الموسم، وعنه أخذ أكثر الوافدين من المدن البعيدة فنقلوه إلى تلك البلادة البعيدة كالهند والسند وما وراء النهر وبلاد تركيا وما أشبهها، فكانوا يؤذنون بأذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، ولكنه كان يخفض الشهادتين للمرة الأولى، ويرفعهما للمرة الثانية. ونحن نقول: لا بأس بذلك، ولكن أذان بلال الذي ليس فيه ترجيع أصح، فإنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالترجيع، وبه حصل الأمر في هذا الحديث، أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، والإقامة عند أبي محذورة كان يكررها ولا يوترها، ولا يعمل بهذا الحديث الذي هو حديث أنس، فيكبر في الإقامة أربعاً، ويتشهد أربعاً، ويحيعل أربعاً، فهذه اثنتا عشرة كلمة، ويأتي بقد قامت الصلاة مرتين، فهذه أربع عشرة، ثم بتكبيرتين هذه ست عشرة، وبتهليلة فهذه سبع عشرة كلمة، وإلى هذا ذهبت الحنفية، فكان أذانهم تسع عشرة كلمة، فإقامتهم سبع عشرة كلمة، إقامتهم مثل أذاننا إلا أنهم يضيفون إليها (قد قامت الصلاة) مرتين، فيصير العدد سبع عشرة كلمة في الإقامة، وتسع عشرة في الأذان. ونحن نقول: ما دام أنهم معتمدون على دليل فلهم دليلهم، ولكن دليلنا أرجح؛ وذلك لأنه الذي كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وفي حضره، فهو أقوى دليلاً.
شرح حديث أبي جحيفة في صفة أذان بلال
شرح حديث أبي جحيفة في صفة أذان بلال من صفات المؤذن أن يلتفت في الحيعلتين؛ ليبلغ من هنا ومن هنا، ودل على ذلك حديث أبي جحيفة الذي سمعنا، وفيه أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في منى في حجة الوداع، ولما جاء إليه وجده في قبة حمراء قد نصبت له في منى، والقبة هي: خيمة صغيرة من أدم، يعني: من جلود، وقد دبغت بالحمرة فأصبح لونها أحمر، جعلها النبي صلى الله عليه وسلم يستظل بها، ولم يكن هناك خيام رفيعة ولا بنايات، إنما هي قبة صغيرة مبنية له من أدم لأجل الظل. ولما حضرت الصلاة خرج صلى الله عليه وسلم ليتوضأ وأخرجوا له وضوءاً، فذكر أبو جحيفة أنه رآه وعليه حُلة حمراء، والحلة: ما يتكون من إزار ورداء، أو إزار وقباء، أو إزار وقميص، أو إزار ومعطف مما يلبس على الظهر، أي: ثوبان يسميان حلة، والواحد لا يسمى حلة، وهذه الحلة كانت حمراء، وكأنها غير خالصة الحمرة، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام قد نهى الرجال أن يلبسوا اللباس الأحمر، يعني: الأحمر الخالص، وجعل ذلك للنساء، بل نهى عن المعصفر المطلي بعصفر أو بورس أو بزعفران، وجعل ذلك أيضاً للنساء، فدل على أن هذه الحلة ولو وصفت بالحمرة فحمرتها ليست خالصة، وإنما فيها لون أو بها خطوط حمر. وذكر أنه لما أخرج وضوءه- يعني: الماء الذي توضأ به صلى الله عليه وسلم -كان الناس حوله يتلقون ما تقاطر من أعضائه، فالقطرات التي تتقاطر من وجهه أو من يديه يتلقاها هذا وهذا، وكل من وقعت قطرة في يده مسح بها وجهه أو مسح بها صدره تبركاً بما مسه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: فمن ناضح ونائل، يعني: واحد منهم يحصل على ماء ينضح به جسمه وثيابه، والآخر لا يجد إلا بلل يد صاحبه أو كفه أو وجهه أو نحو ذلك. وهذا التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتبركوا بغيره ممن بعده من الأولياء والصالحين ونحوهم؛ وذلك لما جعل الله فيما مسه من البركة والخير. وقد ذكر أنه لما حضر وقت الصلاة أذن بلال، وهو الذي كان يؤذِن للنبي صلى الله عليه وسلم في سفره وفي حضره، ولما أذن جعل يلتفت، يقول أبو جحيفة: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يعني: يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أي: يلتفت إذا قال: حي على الصلاة عن اليمين حتى يسمعه الذين عن اليمين، ويلتفت إلى اليسار يلتفت في قوله: حي الفلاح، هكذا فعل وأقره على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك استحب العلماء للمؤذن أن يلتفت في الحيعلتين رجاء أن يذهب صوته من هنا ومن هنا. ولكن هذا خاص بما إذا كان يؤذن بغير المكبر، أما إذا كان يؤذن مع وجود هذا المكبر فلا حاجة إلى الالتفات؛ لأن الالتفات قد يُضعف صوته، فإذا التفت مال عن المكبر الذي أمامه فضعف بذلك صوته، والمطلوب أن يأتي بما يستطيعه من رفع الصوت حتى يسمعه القاصي والداني، ومعلوم أن المكبر يلتقط الصوت ويدفعه إلى تلك السماعات التي قد جُعلت في أعلى المساجد، وتلك السماعات موجهة إلى الجهات، فهي تُرسل الصوت إلى تلك الجهات التي وجهت إليها، سواء قابلها الصوت أو لم يقابلها، إنما تأخذه هذه اللاقطة، فنقول: لا حاجة إلى الالتفات في مثل هذا، إنما يحتاج إليه إذا أذن بغير المكبر؛ لأنه مشروع أن يُبلغ صوته لمن في سائر الجهات. ثم ذكر أنه لما حضرت الصلاة رُكزت عنزة، أي: حربة قصيرة، وهي عصاً في رأسها حديدة محددة، يجعلها سترة له يستقبلها حتى تكون له سترة؛ ولهذا استحب أن يُصلي الإمام إلى سترة إذا كان في الصحراء، فتركز له عصا أو حربة أو عنزة أو نحو ذلك؛ ليقتصر بصره عليها، ولا يمتد إلى ما وراءها؛ ولئلا يمر بينه وبينها أحد، فيردُ من مر بينه وبينها. وذكر أبو جحيفة أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر ركعتين، والعصر ركعتين؛ وذلك لأنه مسافر، فمن حين خرج من المدينة وهو مسافر، ومعه عدة السفر، ورواحله معه، وليس هو بمقيم سواء كان في منى أو في عرفة أو في الأبطح أو في الطريق، كان يعتبر نفسه مسافراً، فكان يقصر الصلاة الرباعية ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة، هكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. والحديث فيه أحكام كثيرة، وإنما نأخذ المهم منها، وهو ما ذكره من أذان بلال، وكيفية التفافه في الحيعلتين، وهذا هو الشاهد من الحديث.
شرح حديث: (إن بلالا يؤذن بليل)
شرح حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل) قال المؤلف: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) ] .
حكم الأذان الأول للفجر
حكم الأذان الأول للفجر الحديث الأول يتعلق بأذان آخر الليل، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) أو (حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) ، ظاهر هذا الحديث أن كلاً منهما يؤذن في وقت حدد له، فأمروا بأن يأكلوا ويشربوا ولا يردهم ذلك عن سحورهم حتى يسمعوا أذان ابن أم مكتوم الذي يؤذن عند الصباح. استدل بهذا الحديث كثير من العلماء وقالوا: إنه دليل على جواز الأذان للصبح في آخر الليل؛ لأن أذان بلال لصلاة الصبح، لكن يظهر أن الأذان ليس لصلاة الصبح وإنما هو لتنبيه من يريد السحور حتى ينتبه للوقت الذي يتسحر فيه، ويتناول فيه طعامه، ويدل على ذلك أن في حديث آخر قوله عليه الصلاة والسلام: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم) ، وفي حديث آخر: (لا يغركم أذان بلال من سحوركم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ، وبتأمل هذه الروايات يظهر أن الأذانين في رمضان، إذ كان في رمضان أذن ابن أم مكتوم وقت الصبح وقبله أذان بلال لوقت السحور، هذا هو المتبادر، مع أن أكثر الشراح لم يتعرضوا لذلك، ولا أذكر أن أحداً ممن شرح الحديث نبّه على أن هذا في رمضان، ولكن سياق الروايات والأحاديث دليل على أنه في رمضان، فلم يذكر أنه في غير رمضان كان يؤذن مؤذنان للفجر، ففي قوله: (كلوا واشربوا) دليل على أنهم كلهم يصومون، وأما في غير رمضان فلا يصوم إلا أفراد منهم، وهنا أمرهم بقوله: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ، وفي الرواية الأخرى قال: (لا يغرنكم أذان بلال من سحوركم أي: لا يردكم أذان بلال من سحوركم، فهو يخاطبهم كلهم، ومعلوم أنهم لا يتسحرون كلهم للصوم إلا في رمضان، أما في غيره فإنما يتسحر أفراد منهم لا كلهم، وهذا يُرجح أنهم كانوا يخصون رمضان بمؤذنين في آخر الليل، وقد بينت ذلك الرواية الأخرى وهي قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل) لماذا؟ (ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم) أي: يستيقظ نائمكم للتسحر حينما يعلم أن وقت التسحر قد دخل، وينتبه قائمكم الذي يصلي ينتبه إذا سمع أذان بلال وعلم أن وقت السحور قد قرب، فيصلي الوتر وينهي صلاته ويشتغل بسحوره. (لا يغرنكم أذان بلال من سحوركم) أي: إذا قررتم السحور وسمعتم الأذان فلا تتوقفوا عن الأكل (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) . وقوله: (إنه يؤذن بليل) دليل على أنه يؤذن وقد بقي من الليل جزء إما ساعة وإما ساعتان وإما ساعة ونصف قبل طلوع الصبح. وفي بعض الروايات ليس بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا، وهذه الرواية أشكلت، إذ كيف لم يكن بين أذانهما إلا نزول هذا وصعود هذا؟ لو كان كذلك لما كان بينهما إلا دقائق، لكن لعل الجواب أنه إذا نزل بلال صعد ابن أم مكتوم ووقف على المئذنة وبقي إلى أن يطلع الصبح، وربما يبقى أكثر من ساعة، وكان رجلاً أعمى لا يبصر الصبح وإنما ينتظر أن يقول له الناس: أصبحت أصبحت، وفي بعض الروايات أنهم كانوا يقولون له: لا تصعد لا تصعد، يعني: حتى نفرغ من سحورنا، فهذا دليل على أنه لا يؤذن إلا بعدما يتبين الصبح، وبعدما ينظره من ليس صاعداً على سطح أو مئذنة، فينظره الذين على وجه الأرض فيقولون له: أصبحت أصبحت فيؤذن. فاستدل بهذا على استحباب أو تأكد الأذانين في رمضان، فيكون هناك مؤذنان: مؤذن آخر الليل للتسحر، ومؤذن وقت الصبح لصلاة الفجر، وإذا أذن واحد غاير بينهما، فجعل أذانه الأول مثلاً سريعاً، ومد في الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر؛ حتى يُعرف أن هذا أذان الفجر وهذا أذان السحور، فيُعرف بذلك أن الوقت وقت تسحر أو وقت صلاة؛ وذلك لأنه ليس كل أحد يسمع الأذانين، ويفرق بينهما، ويميز بينهما، ومن ذلك أن يقول في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) وهذا هو الصحيح.
التثويب في أذان الفجر الثاني لا الأول
التثويب في أذان الفجر الثاني لا الأول يوجد في بعض الروايات أنه كان يقول: (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول للفجر، وأشكلت هذه الرواية على كثير من الشراح، حيث اعتقدوا أنه يقولها في الأذان الأول الذي هو آخر الليل، ولكن هذا خطأ، إنما المراد بالأذان الأول أذان الصبح، والأذان الثاني هو الإقامة، فالإقامة تسمى أذاناً كقوله: (بين كل أذانين صلاة) أي: بين الأذان والإقامة، وقد عرفنا أنه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان هناك أذانان إلا في رمضان، أما في بقية السنة فليس هناك أذانان للفجر، أذان آخر الليل وأذان عند الفجر، وإنما يؤذنون لصلاة الصبح فقط، لكن في رمضان جعلوا مؤذنين: مؤذناً للسحور ومؤذناً للصلاة، هذا هو ظاهر هذه الأحاديث. فكون بعض المؤذنين في آخر الليل يقولون: الصلاة خير من النوم، ويجعلون الأذان طوال السنة؛ هذا لا دليل عليه، وأخذوا ذلك من تلك الرواية التي فيها أنه يقول: الصلاة خير من النوم، في الأذان الأول، وهذا يسمى التثويب، ولكنهم لم يفهموا أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الذي فيه الشفع، والأذان الثاني: هو الإقامة، فلا يغتر بمن جعل التثويب -وهو (الصلاة خير من النوم) - في الأذان الأول الذي في آخر الليل، وقد اعتمدوا على هذه الرواية: (كان يؤذن بليل) فقالوا: يؤذن بليل، يعني: للصبح. ولكن فاتهم أنه ليس للصبح وإنما هو للسحور. وقد روي أن بلالا بكر مرة بالأذان قبل أن يطلع الصبح، فلما أذن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع وينادي: ألا إن العبد نام؛ لينبه الناس على أنه أخطأ، فرجع ورفع صوته ممتثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مع ما ركبه من الخجل والفشل حتى كان يقول: ليت بلالاً لم تلده أمه، يعني: لكونه ألزم بتلك المقالة، فرجع ونادى وقال: ألا إن العبد نام؛ لأن الناس اغتروا بهذا الأذان الذي هو قبل الصبح، فدل على أن من أذن قبل الصبح فإنه يعيد؛ وذلك لأن الأذان إنما يكون عند دخول الوقت؛ ليُعلم بذلك أن وقت الصلاة قد دخل، فيصلي المعذورون في بيوتهم، ويأتي المصلون إلى المساجد لأداء سنة الصبح ولأداء صلاتها جماعة. هكذا شرع هذا الأذان، فلا يجوز أن يكون آخر الليل، والذي يكون آخر الليل إنما هو أذان السحور كما عرفنا. وأما التثويب بقوله: (الصلاة خير من النوم) فلا يكون إلا في أذان الصبح؛ وذلك لأنه نداء لهذه الصلاة، وكأنه يقول: احضروا صلاة الفريضة فهي خير من النوم، فمن كان نائماً فلينتبه، فإن الصلاة التي هي الفرض أفضل لكم أن تأتوا إليها من أن تبقوا في مضاجعكم نائمين، فمناسبتها ظاهرة؛ ولأجل ذلك يقول المؤذن للفجر في السنة كلها: الصلاة خير من النوم.
شرح حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)
شرح حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) الحديث الثاني يتعلق بإجابة المؤذن، فالمؤذن يأتي بهذه الكلمات التي هي ذكر، فإذا أتى بها فنحن السامعون ننتبه إلى ما يقوله من الذكر، فنتكلم بمثل ما تكلم به، ونقول مثلما يقول؛ حتى يحصل لنا ثواب الذكر، روي أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا -يعني: يكونون أفضل منا- فقال: قولوا مثلما يقول) يعني: إذا كان المؤذن قد فضلكم بهذا الذكر فتابعوه حتى تشاركوه في هذا الذكر، إذا ذكر الله فاذكروا الله، ولا شك أن أذكار الأذان من جملة القربات، فالسامع يُجيب المؤذن، أي: يتابعه ويقول مثلما يقول حتى يحصل له أجر الذكر، وأجر هذه المتابعة. فالتكبيرات الأربع الأول يتابعه بها تكبيرة تكبيرة، والتكبير تعظيم لله سبحانه، فإذا قال: الله أكبر، فمعناه: أعتقد وأجزم بأن الله أكبر من كل شيء، وإذا اعتقد أن الله هو الكبير المتعال صغرت عنده الدنيا، وصغُر عنده الخلق كلهم، وصغرت عنده نفسه، واستحضر عظمة ربه في قلبه، فيكون هذا ذكراً وأي ذكر! وكيفية المتابعة أن يتبع كل كلمة بمثلها إلا في الحيعلتين فيجعل بدلها الحوقلة، ودليل ذلك حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال أحدكم: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال أحدكم: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: حي على الصلاة، فقال أحدكم: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: حي على الفلاح، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة) يعني: إذا قال ذلك من قلبه معتقداً للشهادتين معتقداً لمعنى الحوقلة معتقداً للتكبير الأول والأخير مستحضراً لمدلول ذلك متقرباً إلى ربه بما تضمنته هذه الكلمات؛ دخل الجنة. ولا شك أنه سيحصل له تأثير في قلبه فإن الشهادة تجديد للعقيدة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فمعناه: أعتقد وأقر وأعترف بأن الإلهية الحقة إنما هي لله وحده، وسيحمله ذلك على أن يعبد ربه، وأن تعرض جوارحه عن الخضوع لغير ربه تعالى. وكذلك إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، اعترف برسالته، وحمله ذلك على اتباعه وطاعته، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فكأنه يستحضر بأنه ليس له استطاعة على الحضور إلا إذا قواه ربه وأعانه، فكأنه يقول: لا أستطيع أن أتقرب ولا أستطيع أن أذهب إلا إذا أعطيتني قوة -يا ربي- وإعانة على الحضور أو على الذهاب، فأنت الذي تمنح القوة وتمنح القدرة، أنا العبد الضعيف المستغفر الذي ليس لي حول ولا قوة، أي: لا تحول لي من حال إلى حال، ولا قدرة لي ولا استطاعة إلا إذا أعنتني بذلك، هذا معنى الحوقلة (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وهي تقال بدل الحيعلة.
إجابة المؤذن في التثويب والإقامة
إجابة المؤذن في التثويب والإقامة التثويب في أذان صلاة الصبح هو قوله: (الصلاة خير النوم) ، فإذا سمعته فإنك تقول: صدقت وبررت، ولا شك أنك إذا قلت ذلك فأنت تصدقه بما يقول، فتكون بذلك قد أتيت بكلمة تحفزك على الاندفاع إلى هذه العبادة وهي الصلاة، وترك الكسل والنعاس والنوم، فتقول: صدقت وبررت. وإن قلت مثلاً: (صدق الله ورسوله، الصلاة خير من النوم) ، وجمعت بينهما فذلك أيضاً ذكر وعبادة، أما الاقتصار على قول: الصلاة خير من النوم. فلا ذكر فيها ولا فائدة، وبعضهم يقول: إذا سمعت المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، فقل: الصلاة خير النوم، فهذه ليست بذكر، ولا فائدة فيها، بخلاف ما إذا قلت: (صدقت وبررت) ونحو ذلك. وفي الإقامة تتابعه في كلماتها؛ وذلك لأنها كلها ذكر إلا كلمة (حي على الصلاة، حي الفلاح) فتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكلمة: (قد قامت الصلاة) ، ورد في حديث أنه عليه السلام لما أقيمت الصلاة قال: (أقامها الله وأدامها) والحديث في إسناده ضعف كما في سنن أبي داود، ولكن سكت عنه أبو داود واعتبره صالحاً للاستدلال، ولو كان في سنده مجهول أو ضعيف، فسكوته عليه يدل على اعتماده، فإذاً: لا مانع من أن تقول: أقامها الله وأدامها؛ وذلك لأن هذا دعاء، والدعاء يثاب عليه الإنسان، وأنت تدعو الله أن يقيم هذه الصلاة فيجعلها قائمة، بمعنى: ظاهرة معلنة، ودائمة، بمعنى: مستمرة دوام هذه الحياة، أي: ما دامت الدنيا باقية. فهذه دعوة يرجى إجابتها، فهو أفضل من أن تردد الكلمة وتقول: قد قامت الصلاة؛ لأنه لا فائدة في ذلك، فالمؤذن يخبر الحاضرين ويقول: قد قامت الصلاة فقوموا، فمعلوم أنه يخبرهم، وأنت لست تخبرهم، فلا فائدة في أن تقول: قد قامت الصلاة فقوموا. فالصحيح -إن شاء الله- أنه يدعو بقوله: أقامها الله وأدامها، وهذا أفضل من ترديدها، وعرفنا بذلك أنه يأتي بالكلمات التي فيها ذكر إلا الكلمات التي لا ذكر فيها، كقوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فهذه يأتي بدلها بالحوقلة، وكذلك (الصلاة خير من النوم) يأتي فيها بالتصديق، (وقد قامت الصلاة) يأتي فيها بالدعاء لإقامة الصلاة وإدامتها.
الأذكار التي تقال بعد الأذان
الأذكار التي تقال بعد الأذان وبعد ذلك يأتي بما تيسر من الأذكار، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمرنا بعد الفراغ من الأذان أن نأتي بما تيسر من الأذكار في قوله: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) ، وقال: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة) ، ومن ذلك الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالوسيلة التي ذكرها في قوله: (إن الوسيلة درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد) ، فأمرنا بأن نقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة -وفي رواية: والفضيلة-، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وفي رواية: إنك لا تخلف الميعاد) ، وإذا قال بعد ذلك مثلاً: (آمنت بالله وحده، وكفرت بالجبت والطاغوت، واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم) ؛ فهذا تجديد للعقيدة، وإذا قال مثلاً: (حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى) ؛ كان ذلك أيضاً من الأذكار، وإذا قال مثلاً: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً) ؛ كان ذلك أيضاً تجديداً للعقيدة، وإذا دعا بعد ذلك بما تيسر من الأدعية التي فيها سؤال الله الرحمة أو المغفرة فيرجى قبول دعائه.
شرح عمدة الأحكام [11]
شرح عمدة الأحكام [11] من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة، ومن إقامة الصلاة تسوية الصفوف، ولهذين الأمرين أحكام شرعية كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله تعالى. وقد خفف الله عن المسافر شرط استقبال القبلة في النافلة، فله أن يصليها على راحلته حيثما توجهت به، ويومئ بالركوع والسجود.
شرح حديث: (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه)
شرح حديث: (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استقبال القبلة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه) وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعله، وفي رواية: (كان يوتر على بعيره) ، ولـ مسلم: (غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة) ، وللبخاري: (إلا الفرائض) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) . وعن أنس بن سيرين قال: استقبلنا أنساً حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب -يعني: عن يسار القبلة- قلت: رأيتك تصلي لغير القبلة، فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته] .
استقبال القبلة من شروط الصلاة
استقبال القبلة من شروط الصلاة استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة دل عليه القرآن، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] يعني: إذا أردت الصلاة، {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] . أمر الله باستقبال البيت الحرام في سورة البقرة في ثلاث آيات، وكرر ذلك بالتأكيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما فُرضت عليه الصلاة وهو بمكة يستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس، فكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس؛ وذلك لأن بيت المقدس قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، والكعبة هي قبلة أبينا إبراهيم، ولما هاجر أُذن له أن يستقبل بيت المقدس؛ تأليفاً وبياناً أنه على ملة الأنبياء قبله، ولكن بعد أن مضى عليه ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ولم يُفد ذلك في تأليف بني إسرائيل ولم يزدهم إلا عصياناً وتمرداً، أعاده الله ورجّعه إلى قبلة أبيه إبراهيم، فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142] ، واستقبل الكعبة وترك القبلة الأولى فاستنكر ذلك السفهاء والمنافقون واليهود ونحوهم؛ لذا أمر الله نبيه أن يخبرهم بأن له المشرق والمغرب: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] فأمره بأن يستقبل الكعبة التي هي بيت الله، ولا شك أن استقبالها فيه تعظيم لها، ولتلك المناسك، وبيان لأهميتها، وحثٌ للناس على أن يأتوا إليها ويتعبدوا بالعبادات التي لا تصح إلا بها من الحج والعمرة والطواف والاعتكاف ونحو ذلك. والمسلمون يستقبلون الكعبة في أي مكان وفي أي قطر من أقطار الأرض، يتوجهون في صلواتهم كل يوم خمس مرات في الفرائض وما شاء الله من نوافل، ويستقبلون هذه الكعبة، ولا شك أن هذا الاستقبال يحفز هممهم ويشوقهم ويبعث اشتياقهم إلى تلك الرحاب، حيث إنهم إذا كانت هي قبلتهم انبعثت الهمم إلى أن ينظروا إليها، وأن يأتوا إليها رجالاً وركباناً ليقرءوا، وليتعبدوا، وليقيموا العبادات التي يتعبد بها هناك. والحاصل: أن استقبال الكعبة ركن واجب وشرط من شروط الصلاة، فالفرائض لابد فيها من استقبال الكعبة، فمن كان قريباً فلابد حينئذٍ أن يصيب عينها، وإن كان بعيداً اكتفى بأن يستقبل جهتها، وأما النافلة فإن أمرها أخف، فله والحال هذه أن يصلي وهو راكب، ويتنفل ولو كان وجهه لغير القبلة؛ حرصاً من الشارع على أن يكثر الناس من النوافل، وألا يعوقهم عنها عائق؛ وذلك لأن الإنسان قد يكثر سفره، وقد تطول مدة سفره، فينقطع عن النوافل مدة؛ وذلك لعدم تمكنه منها لكثرة مسيره، وكثرة تطوافه فهو دائماً راكب أو ماش على الراحلة أو نحو ذلك، فلو منع من التنفل إلا مستقبلاً القبلة لانقطع عن كثير من النوافل، فلا جرم أبيح له أن يصلي على الراحلة ولو لم يأت بالأركان كلها. ولو لم يأت بالشروط كلها، وقد جعل العلماء استقبال القبلة من شروط الصلاة التي لا تصح إلا بها، فإن كانت فريضة فلابد أن يستقبلها بكل جسده، إما أن يستقبل عينها إذا تمكن، وإما أن يستقبل جهتها؛ لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) يخاطب أهل المدينة، وكانت قبلته في جهة الجنوب، فقوله: (ما بين الشرق والمغرب قبلة) أي: هذا الجانب الجنوبي، ولو ملتم يميناً أو يساراً وأنتم قد استقبلتم جهة الكعبة، فأنتم على خير، ونقول: في هذه البلاد (الرياض) ما بين الشمال والجنوب قبلة، ولو قُدّر أنه مال يميناً أو يساراً، وإن كان الأفضل أن يستقبل الشطر للآية: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] .
التخفيف في ترك استقبال القبلة في النافلة حال الركوب في السفر
التخفيف في ترك استقبال القبلة في النافلة حال الركوب في السفر النافلة التي يُخفف فيها، ويسقط فيها الاستقبال، يدخل فيها الرواتب التي تصلى قبل الفرائض وبعدها، ويدخل فيها صلاة التهجد لمن يريد أن يتهجد بالليل وهو مسافر، ويدخل فيها صلاة الوتر، وصلاة الضحى، ونحوها من النوافل، فكلها يصح أن يصليها على راحلته ولو كان وجهه لغير القبلة؛ وذلك لأنه قد يسير إلى جهة مخالفة للقبلة، حتى تكون القبلة خلف ظهره إذا توجه مثلاً إلى جهة الشرق من هذه البلاد إلى الأحساء أو إلى البحرين أو إلى الهند أو السند أو نحو ذلك، فتكون الكعبة وراءه فيصلي على جهته، وإذا توجه إلى الجنوب إلى نجران أو إلى اليمن صارت القبلة عن يمينه، فيصلي إلى الجهة التي هو سائر إليها، وهكذا إذا توجه إلى الشمال، كما لو توجه إلى العراق أو ما وراءه صارت القبلة عن يساره فيصلي إلى جهته. وذكر بعض العلماء أنه يُستحب أن يستقبل القبلة في الاستفتاح، ولكن لم يرد دليل، بل الظاهر أنه يجوز أن يستقبل جهته من أول صلاته، فيستفتح ويكبر ويركع ويسجد وهو إلى تلك الجهة، وكل ذلك لأجل أن يُكثر من النوافل حتى يغتنم نوافل الصلوات ولا تفوته؛ لأنه لو اشترط أن يستقبلها لما تمكن؛ وذلك لأنه مجد يستغرق أكثر وقته؛ ولأنه قد يتعب إذا نزل وقد سار على البعير عشر ساعات متوالية أو أكثر أو أقل، فإذا نزل وقد أجهده السير وقد تعب تعباً كثيراً، فإنه يتمنى أن يضطجع على الأرض ولا يتمكن من التهجد، ولا من الإتيان بالنوافل ونحو ذلك، فلا جرم أن أبيح له أن يكثر من النوافل وهو راكب على دابته. وفي هذه الأزمنة قد يقال: إن الأمر فيه شيء من التحسن، وفيه شيء من التغير؛ وذلك لقُرب المسافات وقلة المدة، فإن المسافر وهو سائر مجد قد يواصل سيره خمس ساعات أو أقل أو أكثر، ومع ذلك لا يلقى المشقة التي يلاقيها من هو راكب للدابة كالحمار والبعير، وكذلك أيضاً قد يريح نفسه، فإذا سار ساعتين أو ثلاث ساعات متواصلة يقف ويريح نفسه، ويتمكن في وقوفه من أن يتنفل أو نحو ذلك، ومع ذلك إذا أراد أن يتنفل إذا كان مستعجلاً فيجوز له ذلك، فإذا كنت سائراً إلى مكة أو إلى الأحساء، فتصلي الفريضة على الأرض مطمئناً، ثم تركب سيارتك أنت ورفقتك وتأتون بالنوافل وأنتم راكبون، ولو كانت وجوهكم لغير القبلة، ولو كانت القبلة خلفكم أو عن يمين أو عن يسار، فيكبر الراكب ثم يقرأ ويركع ويومئ بالركوع حيث إنه قد لا يستطيع أن يركع قائماً، ويومئ بالسجود ويجعل سجوده أخفض من ركوعه. هكذا كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة، لا يتمكن من القيام ولا من الركوع ولا من السجود، وإنما يتمكن من التحريم والتسليم، ويقرأ، ويسبح، ويحرك يديه، ويضعها على صدره في حالة القيام، وعلى ركبتيه في حالة الركوع، وعلى رحله في حالة السجود، وعلى فخذيه في حالة الجلسة بين السجدتين أو التشهد تشبهاً بالصلاة، وهكذا أيضاً إذا كان راكب سيارة أو نحوها.
كيفية صلاة راكب القطار والسفينة والطائرة
كيفية صلاة راكب القطار والسفينة والطائرة إذا كان راكباً في قطار، فالقطار قد يكون أمره أسهل، وكذا إذا كان راكباً في باخرةٍ أو في سفينةٍ، فإن فيها شيئاً من التوسعة؛ وذلك لأنه يتمكن غالباً من الوقوف، فقد يتمكن من استقبال القبلة راكب الباخرة ونحوها، ويتمكن من الاستدارة نحو القبلة إن استدارت الباخرة أو انحرفت يميناً أو يساراً، فنقول: متى قدرت على استقبال القبلة فلتأت منه ما تستطيع، وإذا شق ذلك عليك وخشيت من القيام دوراناً أو سقوطاً إذا جاءت للسفينة أمواج أو مر القطار في انحرافات أو نحو ذلك مما يكون فيه شيء من الحركة؛ فلك أن تصلي جالساً ولو لغير القبلة، وإن استطعت استقبال القبلة فاستقبلها مهما تستطيع. أما راكب الطائرة ونحوها من المراكب الجوية فمعلوم أنه قد يحتاج إلى أن يتنفل، فقد تطول المدة في بعض الأحيان، وفي داخل المملكة قد لا تطول أكثر من ساعة ونصف أو نحوها، ولكن إلى خارج المملكة قد يتمادى بهم السير سبع ساعات أو عشر ساعات متواصلة كما في بعض الرحلات الطويلة، ففي هذه الحال قد يحتاج إلى التنفل، فيتنفل وهو على كرسيه ولو لغير القبلة. أما الفرائض فقد سمعنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصليها إلا على الأرض، ولا يصليها على الراحلة، وذلك لأهميتها؛ ولأنه لابد من استقبال القبلة فيها، فينزل ويصليها بأصحابه جماعة ويصفهم خلفه صفوفاً. ويشتكي كثير من الذين يرحلون في الطائرة، ويستمر سيرهم ساعات، أنه قد يدخل عليهم الوقت ويخرج وهم في رحلة واحدة، فيفتيهم المشايخ ويقولون: إذا كان الوقت متسعاً فأخر الأولى إلى أن تنزل، كما لو كانت رحلة في الضحى ودخل عليك وقت الظهر ولم تستطع أن تصلي، وخشيت أن يفوت فأخره إلى العصر، فإذا نزلت في آخر النهار، وما بقي إلى الليل إلا ساعة أو نصف ساعة أمكنك أن تصلي قبل الغروب، فتجمع الفرضين في وقت واحد. فإذا كنت تعرف أنك تنزل قبل غروب الشمس فأخر الظهر وصلها مع العصر قبل أن تغرب الشمس، وإذا دخل عليك وقت الظهر قبل الانطلاق، وأنت تعرف أنك ستستمر خمس ساعات أو نحوها، جاز لك أن تصلي الظهر وتقدم معه العصر قبل الرحلة، ثم بعد ذلك تواصل السير. وإذا دخل عليك وقت المغرب وأنت سائر فلك أن تؤخره وتجعله مع العشاء ولو لم تنزل إلا قُبيل الفجر، فإن وقت المغرب والعشاء لا يخرج ولا ينتهي إلا بطلوع الفجر الثاني، أي: بطلوع ضياء الصبح، فإذا وصلت وما بقي على الفجر إلا ساعة أو نصف ساعة نزلت وصليت العشاء، وأجزأك ذلك إن شاء الله؛ وذلك لأنك أدركت آخر الوقت فهو أولى من أن تصلي على السرير. أما إذا خشيت خروج الوقت في الصبح، لأن وقتها ضيق -من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس- ففي هذه الحال لك أن تصليها إن وجدت متسعاً في الطائرة، فتصل وأنت على تؤدة تقوم وتركع وتسجد، وإن لم تجد فصلي وإن كنت على كرسيك جالساً، وأومئ واستقبل ما أنت مستقبل له؛ وذلك اغتناماً للوقت حتى لا يخرج وأنت لم تصل؛ لأن الوقت شرط والشرط مقدم على الأركان التي منها الركوع والسجود وما أشبه ذلك، وكل ذلك حرصاً على إيقاع الصلاة في وقتها، والإتيان بها على هيئتها دون أن يختل شيء منها؛ وذلك لعظم شأن هذه الصلاة، وأهمية المحافظة عليها.
شرح حديث: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت)
شرح حديث: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت) حديث ابن عمر هو في قصة أهل قباء، فقد ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة استقبل الشام قبلة أنبياء بني إسرائيل، وبقي كذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، حتى اشتاق إلى أن يستقبل الكعبة، فلما اشتاق إلى ذلك أخذ يقلب بصره، فقال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] يعني: انتظار الوحي الذي يتضمن صرفك إلى القبلة؛ قال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] فنزلت عليه هذه الآية في الليل، فأخبر صحابته بأن هذا أمر من الله، وأنه أمرنا بأن نستقبل الكعبة بدل ما كنا نستقبل بيت المقدس. وكان مكان أهل قباء نائياً، فجاءهم الخبر بعدما كبروا، ولعلهم قد صلوا بعض الصلاة أو لم يصلوا بعضها، وفي أثناء الصلاة كلمهم ذلك المتكلم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى جهة الشمال، فاستداروا كما هم يمشون، وإمامهم يمشي معهم، واستداروا إلى أن أصبحت وجوههم إلى جهة الجنوب، وهذا عمل كثير، وبالأخص الإمام، فإنه سار وهو قدامهم وهم ينحرفون إلى أن صارت وجوههم إلى جهة الجنوب، فالذي كان في طرف الصف من جهة الشرق أصبح في طرف الصف من جهة الغرب، والإمام بدل ما كان أمامهم وهم إلى الشمال أصبح أمامهم وهم إلى الجنوب إلى جهة اليمن، وهذه الحركة لم تعتبر مبطلة للصلاة؛ وذلك اغتنام منهم لإيقاع الصلاة كلها كما أمر الله، فانحرفوا وقد كانوا على قبلة متحققين لها، وعملوا بذلك الخبر. فالحاصل أن هذا دليل على أن آيات القبلة نزلت، وأن المسلمين عملوا بها، وأنهم بادروا إليها، وأن استقبال القبلة واجب على المصلين في فرائضهم ونوافلهم إلا أنه يُخفف في النوافل إذا كان الإنسان راكباً، وذلك اغتناماً لكثرة العبادة والتنفل حال السفر.
شرح عمدة الأحكام [12]
شرح عمدة الأحكام [12] تسوية الصفوف في الصلاة معدودة من تمام الصلاة، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلها، وبين فضيلة ميامن الصفوف والتراص فيها، وقد شرح العلماء ذلك وبينوه، فعلى المسلم أن يتعرف على ذلك كي تتم له صلاته.
شرح حديث: (سووا صفوفكم)
شرح حديث: (سووا صفوفكم) قال المؤلف رحمه الله: [باب الصفوف: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة) . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتسوّن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم) . ولـ مسلم (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسوي صفوفنا حتى كأنما يُسوي بها القداح، حتى إذا رأى أن قد عقلنا، ثم خرج يوماً فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلاً بادياً صدره، فقال: عباد الله! لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ] . يؤمر المصلون بأن يقوموا خلف الإمام، وأن يصفوا الصفوف، وفي هذه الأحاديث الأمر بتسوية الصفوف، يقول: (سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) ، وتسوية الصف معناه: محاذاة بعضهم لبعض، وعدم تقدم أحدٍ على أحد، بل يكون أحدهم مصافاً للآخر دون أن يكون متقدماً أو متأخراً عنه، هكذا تكون تسوية الصفوف. وأخبر في هذا الحديث أن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، وورد في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (صفوا كما تصف الملائكة عند ربها، قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ فقال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف) ، فيؤمر في الصفوف بأمور: أولها: التسوية، بحيث يكون كل واحد محاذياً للآخر، ولا يكون هناك اختلاف بتقدم ولا تأخر، فإن ذلك مما توعد عليه، ففي الحديث الأول يخبر بأن تسوية الصف من تمام الصلاة. الأمر الثاني: سد الخلل، وهو أن يتراصوا في الصف، فلا يكون بينهم خلل ولا فُرج، بل يحرصون على سدها. الأمر الثالث: أن يتموا الصفوف الأول، وأن يكون النقص في الصف الأخير، فيتمون الصف الأول ثم الثاني ثم الثالث، ولا يصفون في صف حتى يمتلئ الذي قبله، هكذا أُمروا أن يصفوا. هذه حالة الصفوف في الصلاة، ولا شك أن الصفوف في الصلاة تبين أهميتها، فإن المسلمين إذا قاموا صفوفاً خلف إمامهم، وكل صف مستقيماً ليس فيه اعوجاج، وليس فيه تقدم ولا تأخر؛ كان ذلك أقرب إلى احترامهم لهذه العبادة، وأقوى على اهتمامهم بها، ومعرفتهم بقدرها، وكان ذلك أدعى ليكونوا مستقيمين في حالتهم، مستقيمين في عبادتهم.
شرح حديث: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)
شرح حديث: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) في الحديث الثاني يقول: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) وفي رواية: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم) والمعنى واحد، وكأن هذا من باب العقوبة، وكأنه يقول: إذا لم تتحاذوا فتقدم هذا وتأخر هذا كان ذلك سبباً في وقوع الاختلاف فيما بينكم عقوبة لكم، فإذا اختلفتم في الصف فلن تنظموا صفوفكم ولن تنسقوها. ويخبر في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يُبالغ في تسويته للصفوف؛ حتى كأنما يُسوي بها القداح، يعني: يساوي بينهم كما يسوى القداح بعضها ببعض، والقداح جمع قدح، وهي السهام التي يبريها الإنسان؛ لأجل أن يرمي بها، والعادة أنه يجعلها مستوية، ولا يكون واحد منها أطول ولا أقصر ولا مائلة يمنة ولا يسرة، وقد ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً في حديث آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) ، والقذة هي: السهام، وهي القداح (حذو القذة بالقذة) يعني: ريشة السهم تحاذي ريشة السهم الثاني دون اختلال ودون تقدم أو تأخر، فهكذا أيضاً تسوية الصفوف. كان يسوي صفوفهم كأنما يساوي القداح التي هي السهام، ليس فيها واحد متقدماً على واحد، بل كلها متحاذية، فالتحاذي هو التساوي. وقد ورد أن التساوي يكون بالمناكب وبالكعاب، أي: يكون المنكب محاذياً للمنكب إذا لم يكن أحدهما أحدب، أما إذا كان هناك من في ظهره حدب فهذا معذور إذا تقدم لأجل ضرره، وكذلك يكون التساوي بالكعاب، فكعب القدم يكون محاذياً لكعب القدم دون أن يكون فيه شيء من التقدم أو التأخر، ولا يلزم المحاذاة برءوس الأقدام، فرءوس الأقدام قد تختلف، قد يكون هذا أطول قدماً من هذا، وليس الصبي الذي قدر قدمه مثلاً عشرة سنتيمترات كالكبير الذي قد قدمه ثلاثون سنتيمتراً. إذاً: المحاذاة تكون بالكعاب، وبعض الأئمة يقول: تحاذوا بالأقدام، فبعضهم يقدم قدمه حتى تكون رءوس أصابعه محاذية لرءوس أصابع الآخر، فيكون قد تقدم صدره وقد تقدم جسده حتى اختل الصف، وصار متقدماً بجزء من بدنه، وهذا فيه اختلال، بل المراد بالمحاذاة هو نفس المحاذاة بالأكعب. وفي حديث عن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحاذوا ويتصافوا، يقول: فرأيت الرجل منا يُلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه، والمراد بهذا المبالغة في القرب، يعني: تقاربهم بحيث إن أحدهم يحرص على أن يكون قريباً من أخيه محاذياً له، لا يترك بينه وبينه فرجةً، ولا يختل بذلك الصف. وقد ورد النهي عن الفرج في الصفوف في الحديث الذي ذكرنا، قال: ويتراصون في الصف، يعني: يقرب بعضهم من بعض حتى لا يكون بينهم فرج؛ وذلك لأن هذه الفرج لا شك أنها خلل في الصف وعيب فيه، وأنها سبب لدخول الشياطين، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال: (والله إني لأراه يدخل بينكم مثل الحذف) يعني: تدخل الشياطين فيما بينكم من تلك الفرج مثل أولاد الغنم الصغيرة، تدخل بين الاثنين إذا كان بينهما فرجة وخلل، لذلك يؤمرون أن يتحاذوا ويتراصوا في الصفوف حتى لا تدخل هذه الشياطين.
كيفية ترتيب الصفوف
كيفية ترتيب الصفوف ويؤمر المصلون في ترتيب الصفوف أن يتقدم في الصف الأول الرجال البالغون وأهل الفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم) ؛ ولذلك ذكر العلماء من يلي الإمام فقالوا: يليه من المصلين الرجال البالغون، ثم بعدهم الأطفال، ثم يليهم النساء، فجعلوا الأطفال الذين هم الصبيان في المؤخر؛ وذلك لعدم رشدهم، وعدم معرفتهم التامة بهيئة الصلاة. ومع ذلك إذا تقدم أحدهم وهو مميز وقد عقل ما يقول، فلا بأس أن يصلي في وسط الصف، وإن كان المندوب أن يكون الأطفال الذي دون العشر في أطراف الصف، ويجوز إذا صفوا من الوسط إذا لم يُخش منهم شيء من العبث وما يذهب الطمأنينة ويقلل الخشوع، فإن عادة الطفل أن يكون معه شيء من الحركة. وقد ورد الحث على الصف الأول كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه -التهجير التبكير-، ولو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) ، والمراد أنهم لو يعلمون فضيلة الصف الأول لاندفعوا جميعاً ودخلوا دفعة واحدة، ولم يجدوا إلا أن يقترعوا عليه لينظروا من هو أولى به، ومن تخرج له القرعة حتى يكون في الصف الأول! ولا شك أن هذا دليل على فضل الصف الأول. كما تفضل ميامن الصفوف، وقد ورد في ذلك حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) يعني: على أيمن الصف، فأيمن الصف أفضل، ولكن القرب من الإمام أفضل من البعد ولو كان على اليمين، فيفضل إذا كان على اليسار وبينه وبين الإمام عشرة مثلاً على من كان في جهة اليمين وبينه وبين الإمام عشرون أو ثلاثون رجلاً، وما ذاك إلا لمزية القرب وأهميته، فإن القرب من الإمام أيضاً له ميزة كما ذكرنا في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) ، ثم هو دليل على التقدم، فالقرب من الإمام والسبق إلى الصف الأول له أهميته ومزيته. أما صلاة النساء فورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) فأخذوا من ذلك أن النساء يقمن صفوفاً كما يقوم الرجال صفوفاً، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان ذلك أفضل لها وأسلم، ولكن ذكر بعض العلماء أنه إذا كان بينهن وبين الرجال حاجز وهن يسمعن الصوت بواسطة المكبر كما في هذه الأزمنة فإنهن يبدأن بالصف الأول كما يبدأ الرجال؛ وذلك لأنهن لو بدأن بالصف المؤخر لأدى ذلك إلى مرور المتأخرات أمام المتقدمات، فيكون في ذلك شيء من قطع الصلاة أو نحوه، فيُفضل والحال هذه أن يبدأن بالصف الأول كما يبدأ الرجال. وعلى الإنسان أن يحرص على القرب من الإمام ومحاذاته إن استطاع، وإذا فاته ذلك فليحرص على أن يكون عن يمين الإمام، وإذا فاته ذلك فليحرص على أن يكون في الصف الأول، ثم في الذي يليه، وفي هذه فضل وهو مهم.
استعانة الإمام بمن يسوي الصفوف
استعانة الإمام بمن يسوي الصفوف على المصلين إذا قاموا إلى الصلاة أن يسووا صفوفهم، وعلى الأئمة أن ينظروا إليهم وأن يسووهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصف ينظر ويلتفت عن يمينه ويساره فيأمرهم بقوله: (استووا) أي: سووا صفوفكم، ويأمرهم كما جاء في الحديث: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) ، وكذلك قوله: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ، وكان تارة يتكلم معهم بحيث يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان، حتى يستووا، فكان يسويهم كأنما يسوي بهم القداح التي هي ريش السهام. وكذلك كان خلفاؤه رضي الله عنهم، فكان عمر رضي الله عنه قد وكل رجلاً بالصفوف إذا أقيمت الصلاة، فيمشي بينهم فيقدم هذا ويؤخر هذا بالدرة التي هي عصا عمر، فكلما رأى رجلاً متأخراً أمره أن يتقدم، وإذا رأى رجلاً متقدماً دفعه حتى يقوم في الصف، فلا يُكبر عمر حتى يقول له: قد استووا يا أمير المؤمنين! فعند ذلك يكبر، وكل ذلك حرص منهم على تمام الصلاة، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة. فالصلاة التي فيها شيء من الانحراف والاختلاف تكون ناقصة غير تامة، وروى في حديث: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج) يعني: الذي فيه انحراف، فهذا بالنسبة إلى التسوية التي هي المحاذاة.
كيفية التراص في الصفوف
كيفية التراص في الصفوف أما الأمر الثاني وهو تراص الصفوف: فدليله ما ورد في الأحاديث من أنهم إذا تفرقوا يدخل بينهم مثل أولاد الغنم من الشياطين، أي: تدخل بين الاثنين، فيؤمرون أن يتراصوا ولا يتركوا بينهم هذه الفرج، فيتقاربون بالأقدام، ويتحاذون بالمناكب وبالأكعب وإن لم تحصل مماسة. وقوله في حديث النعمان: (حتى كان الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه) يقول العلماء: هذا على وجه المبالغة، لا أنه على وجه الحقيقة؛ وذلك لأن في الإلصاق شيء من المضايقة. وأيضاً نلاحظ أن بعضهم يُفرج بين قدميه إذا قام فيترك بين قدميه نحو ذراع أو أكثر، فيكون بذلك متسبباً في وجود فرجة بينه وبين الآخر، فيكون هناك تفريج كبير بين الأقدام، وقصده من ذلك العمل بظاهر الحديث، وهو إلصاق الكعب بالكعب، فنقول: لا يلزم الالتماس، ولكن التقارب هو المطلوب فقط، فإذا حصل التقارب لم يحصل هذا التفرق، ولا الفرج ولا الاختلال. وقد بيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه التسوية من تمام الصلاة، وخاف على أمته إذا لم يفعلوا ذلك الاختلاف في القلوب فقال: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، أو بين وجوهكم) وكأنه جعل ذلك من باب العقوبة، يعني: إذا تركوا هذا الذي أرشدهم إليه فعقوبتهم أن تقع هذه المخالفة، ولا شك أن آثار المخالفة بين الوجوه والمخالفة بين القلوب سيئة؛ لأنهم إذا اختلفوا اختلفت قلوبهم فحصل تقاطع، وحصل تهاجر، وحصل تخالف في الآراء، وحصل اختلاف في المودة والمحبة، فلا يكونون إخواناً كما أمرهم الله تعالى، بل كل منهم ينفر من الآخر، وكل منهم يكون ضداً للآخر، هذا قد يكون عقوبة لهم إذ تركوا ما أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح عمدة الأحكام [13]
شرح عمدة الأحكام [13] الصلاة عمود الإسلام، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه بالاهتمام بها والإتيان بها على أكمل الوجوه، وحثهم على الاقتداء به، وقد نقلت صفة الصلاة عنه في كل جزء من أجزائها، وقد بين العلماء ذلك وشرحوه، وذكروا أدنى الكمال فيها وأعلاه كما فهموا ذلك من الأحاديث الصحاح، كما سترى ذلك مبيناً في هذا الشرح بإذن الله تعالى.
شرح حديث: (كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة)
شرح حديث: (كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة) قال المصنف رحمه الله: [باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعداً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعية افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم) ] .
دعاء الاستفتاح وما اشتمل عليه من معان
دعاء الاستفتاح وما اشتمل عليه من معان هذه الأحاديث في صفة الصلاة، فالحديث الأول يتعلق بالاستفتاح، وهو: الدعاء بين التكبير والقراءة، وهو من سنن الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم به أمته، ولم يعلمهم دعاءً محدداً، بل دعا بجملة كثيرة من الأدعية، فدل على أن الأمر فيه سعة، فإن أتى به فهو سنة وفضيلة، وإن لم يأت به وابتدأ بالقراءة فإن صلاته مجزئة إن شاء الله. أول ما يكبر يأتي بالاستفتاح، وأصح الاستفتاحات ما في هذا الحديث أن يقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. إذا قلت هذا فكأنك تعترف بالخطايا، وتطلب من ربك إزالتها وإزالة أثرها، فأنت تطلب أموراً: الأول: الإبعاد، أن تبعد عنك حتى لا يضرك أثرها، فإذا كان بينك وبينها بعد المشرقين دل على أنها لا تضرك. الثاني: الغسل منها بأنواع ما يغسل به: الماء والثلج والبرد. ويقول بعض العلماء: اختيار الثلج والبرد مع أنه شديد البرودة؛ ليطفئ حرارة الذنوب، فكأن الذنوب لها حرارة على البدن وعلى القلب، فإذا استعمل الثلج خففت تلك الحرارة وأزال أثرها. والثالث: التنقية، كأنه يقول: إن الذنوب تدنس صاحبها وتوسخه، فهي تكسب صاحبها قذراً ووسخاً ودنساً كثيراً، فهو بحاجة إلى ما يزيل ذلك الدنس، مع طلبه من ربه أن ينظفه منها ويطهره كتطهير الثوب الأبيض شديد البياض من الدنس، يعني: إذا طهر زال عنه أي دنس وأي وسخ وأي قذر، فهكذا طلب من ربه إزالة آثارها. هذا الاستفتاح متفق عليه يعني: رواه البخاري ومسلم، فهو حديث صحيح.
تعدد أدعية الاستفتاح يقتضي التنويع في استعمالها
تعدد أدعية الاستفتاح يقتضي التنويع في استعمالها هناك استفتاحات أخرى، منها: ما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ، واختار هذا الاستفتاح الإمام أحمد، وقال: إنه ثناء وذكر وتنزيه وتقديس لله تعالى وتوحيد له. والثناء يقوم مقام الدعاء، فقد روي في بعض الآثار القدسية أن الله يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) ، فهذا سبب اختيار الإمام أحمد للاستفتاح الذي فيه الثناء: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره. هناك استفتاح أيضاً في السنن، مبدوء بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) إلى آخره، مروي عن علي رضي الله عنه، وهو استفتاح طويل يستحبه أيضاً بعض العلماء. وهناك استفتاح رابع لكن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم استعماله في التهجد إذا قام من الليل وهو قوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل) إلى آخره. هذا الدعاء استفتاح وتوسل. هناك أيضاً أدعية أخرى عن الاستفتاحات وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة بعنوان: أنواع الاستفتاحات، ورجح أن الكل صحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يستعمل هذا وتارة يستعمل هذا، وأنه لما لم يعلم الأمة واحداً منها ويقصرهم عليه؛ دل على أن الأمر فيه سعة. وقد استحب شيخ الإسلام وكثير من العلماء أن يأتي بهذا تارة وأن يأتي بهذا تارة، يعني: أن تستعمل قوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) حيناً، وتستعمل حيناً آخر قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره، وتارة تستعمل قوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) إلى آخره، وحيناً تستعمل قوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل) إلى آخره، يقولون: حتى لا يبقى شيء من السنة مهجوراً. إذا عملت هذا حيناً وهذا حيناً عملت بالسنة كلها. فتعلمها وحفظها سهل، وهي ميسرة، وفي سنن النسائي أوردها متوالية تحت عنوان: الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر من الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر، وهكذا حتى أورد عدة أنواع، وغيره من الأئمة سردوها تحت هذا العنوان. فإذا حفظها الإنسان وأتى بها كلها أحيا بذلك السنة، ولكن مع ذلك إذا كان يريد أن يختار فيختار واحداً يكثر منه، يكون أكثر استعمالاً له، والبقية يأتي بها أحياناً، في كل أسبوع مرة أو في كل أسبوع مرتين أو نحو ذلك، حتى يعمل بما بلغه من الشريعة. وقد عرفنا أنه من السنة وليس من الواجب ولا تبطل الصلاة بتركه.
الاستعاذة تلي الاستفتاح
الاستعاذة تلي الاستفتاح ثم بعد الاستفتاح يأتي بالاستعاذة لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] والاستعاذة المنقولة أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، هكذا علم النبي صلى الله عليه وسلم بعض صحابته.
شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير)
شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير)
البسملة واستحباب الإسرار بها
البسملة واستحباب الإسرار بها وبعد ذلك يأتي بالبسملة ويأتي بها سراً، هذا هو المشهور من السنة النبوية، ودليله: حديث عائشة الذي تقول فيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير) يعني: بالتحريم لتكبيرة الإحرام، أي: لا يجعل بدلها سبحان الله، ولا لا إله إلا الله، ولا الحمد الله، ولا لا حول ولا قوة إلا بالله! بل يبدأ الصلاة بقول: الله أكبر، كما أنه يستعمل التكبير في التنقل، الذي هو تكبير الانتقال، فهذا هو المشهور عنه، وهذه التكبيرة ركن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، فجعل التكبير تحريمها، فأخذوا من ذلك أن هذا التكبير ركن، فتكبيرة الإحرام ركن لا تتم الصلاة إلا بها. تقول عائشة: (والقراءة بالحمد لله) يعني: ويستفتح القراءة بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، هذا هو الذي يسمع المأمومين أول ما يسمعون منه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ثم يتم الفاتحة، وليس المراد أنه يستفتح القراءة بالفاتحة، بل المراد أنه يأتي بكلمة: الحمد لله رب العالمين مبدأ لقراءته، أي: يبدأ القراءة بهذه الكلمة. ويأتينا أنه لا يستعمل البسملة، فإن هذا الحديث دليل على أنه لم يكن يأتي بالبسملة -يعني بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم- وقد خالف في ذلك الشافعية فاستحبوا البداءة بالبسملة. وأجابوا عن حديث عائشة هذا أن المراد: (يستفتح القراءة بالفاتحة) ولكن هذا في الحقيقة كلام لا حقيقة له ولا معنى له، لقد كان يقرأ الفاتحة قبل السورة وكان ذلك معلوماً من صلاته بالضرورة، ولا حاجة إلى ذكره؛ لأنه أشهر من أن يذكر، فكيف يجعل محملاً لهذا الكلام؟! بل الصواب أن محمله أنه يأتي بالقراءة مبدوءة بقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] . فهذه الجملة الثانية، يعني: في حديث عائشة عشر جمل:
الجمل المستفادة من حديث عائشة في صفة الصلاة
الجمل المستفادة من حديث عائشة في صفة الصلاة الجملة الأولى: الاستفتاح بالتكبير. والجملة الثانية: بداءة القراءة بالحمد لله يعني: بقول: الحمد لله، دون أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. الجملة الثالثة: صفة الركوع، تقول: (إنه إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) ، فالتصويب: الرفع، والتشخيص: الخفض، (لم يصوبه) يعني: لم يجعل رأسه مرتفعاً كرأس الطائر، ولم يصوب رأسه ولم يخفضه يعني: التدنية، يعني: أنه يجعل رأسه في أعلى ظهره، فلا يشخصه ولا يصوبه، فالإشخاص: أن يدنيه، والتصويب: أن يرفعه. بل كان يجعله محاذياً لظهره، ويجعل ظهره مستوياً، فلا يجعله محدودباً، وقد ورد النهي عن تحديب الظهر، فالتحديب هو أن يقوس ظهره كأنه قوس، وقد كان يجعله مستوياً بحيث لو وضع عليه إناء لركد، هذا الصواب. الجملة الرابعة: الطمأنينة في الرفع: (إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) يستوي قائماً: ويقف ويعود كل عضو إلى مكانه، ومعلوم أيضاً أنه يطيل هذا القيام حتى يقول القائل: قد نسي. الجملة الخامسة: إذا رفع من السجدة الأولى جلس ولم يسجد السجدة الثانية حتى يستوي جالساً ويطيل أيضاً، حتى يقول القائل: قد نسي، يطيلها بين الركنين، وقد ابتلي كثير من الناس بتخفيفهما، كثير من الناس تشاهده أنه أول ما يرفع وإذا به ساجد، وكذلك يفعل في القيام إذا ركع ثم رفع، فأول ما يرفع وإذا به ينزل. ومن كان جالساً ثم سجد وإذا به يسجد للسجدة الثانية دون طمأنينة، فمثل هذا خالف السنة ولم يأت بالطمأنينة المطلوبة، ولم يأت بالفاصل المعروف بين السجدتين، ولم يأت بهذا الدعاء الذي ورد فيها من قولها: (رب اغفر لي وارحمني) إلى آخره. فهذه خمس جمل. الجملة السادسة: تقول: (وكان يقول في كل ركعتين التحية) يعني: كل ركعتين يتشهد بينهما ويسلم، ويأتي بقوله: (التحيات لله) إلى آخره، وهو التشهد المعروف.
صفة جلوسه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين وفي التشهد
صفة جلوسه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين وفي التشهد الجملة السابعة: قولها: (وكان يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها) يعني: في حالة جلوسه يطمئن فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى، فيجعلها خارجة من تحته منتصبة، وبطون أصابعها إلى الأرض، ورءوس الأصابع إلى القبلة، هذه صفة الجلوس بين السجدتين أو الجلوس في التشهد الأول ونحو ذلك. وقد ورد في حديث أبي حميد: (أنه يتورك في التشهد الأخير) أي: التشهد الذي قبل السلام وهو الذي يسلم بعده، ولكن أبا حميد وصف الصلاة الرباعية، فذكر أنه في التشهد الأول يفترش، وفي التشهد الأخير يتورك، فيخرج رجليه من تحته ويجلس بمقعدته على الأرض، هذا إذا كان هناك متسع. ومن العلماء من يقول: لا يتورك إلا إذا كان محتاجاً لكبر أو مرض، فهو الذي لا تحمله رجله، كما روي: (أن ابن عمر صلى ومعه ولده، فلما صلى تورك، فتورك ابنه ونهاه، قال: لماذا تتورك وتخرج رجليك من تحتك؟ فقال: إن رجلي لا تحملاني) يعني: أنه لكبر سنه يشق عليه أن يجلس جلسة المفترش. وبعض العلماء يقول: يفترش في صلاته كلها، في التشهد الأول والتشهد الأخير، وسواء كانت الصلاة ركعتين أو أربعاً، فلا يتورك. وبعضهم يقول: يتورك في كل تشهد بعده سلام، كتشهد صلاة الفجر، وصلاة الجمعة، وصلاة النفل الركعتين ونحو ذلك. وبعضهم يقول: لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، يتورك في التشهد الأخير منهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد. هذا صفة جلوسه أنه يجلس مفترشاً يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى.
النهي عن عقبة الشيطان وعن افتراش السبع في الجلوس في الصلاة
النهي عن عقبة الشيطان وعن افتراش السبع في الجلوس في الصلاة الجملة الثامنة: قولها: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) ، وعقبة الشيطان: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه، هذه الجلسة تسمى: عقبة الشيطان، كان ينهى عنها؛ وذلك لأنها تدل على عدم الطمأنينة، وتدل على عدم الارتياح في الصلاة، وعلى العجلة أو نحو ذلك، فإذا جلس مستوفزاً رافعاً قدميه وجلس بإليتيه عليهما لم يطمئن في صلاته، فجلسته هذه تدل على الجفاء. وهكذا لو نصب إحدى رجليه عن يمينه والأخرى عن يساره وجلس بينهما وهما منتصبتان، يصدق على ذلك أنه عقبة الشيطان. الجملة التاسعة: ذكرت أنه ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، يعني: إذا سجد لا يبسط ذراعية على الأرض كافتراش السبع، فالسبع أو الكلب يبسط يديه إذا أقعى فإنه يمد يديه أو يمد رجليه على الأرض فنهي عن التشبه به. والمأمور أنك إذا سجدت تسجد على الكفين وترفع الذراعين ولا تبسطهما على الأرض حتى تكون بذلك ساجداً سجوداً حقيقياً، فيدل ذلك على صدق الرغبة وعلى محبة العبادة وعلى النشاط فيها والبعد عن الكسل، فهذه الصفة التي هي بسط الذراعين صفة المتكاسلين. الجملة العاشرة والأخيرة: ذكرت أنه (يختم الصلاة بالتسليم) ، وقد دل على ذلك الحديث الذي ذكرنا: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فيختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله. وبالجملة فهذا الحديث اشتمل على صفات عديدة، والتوسع فيها وذكر الخلاف فيها والكيفية وما إلى ذلك يحتاج إلى وقت طويل، ولكنها -والحمد لله- واضحة، والمسلمون يعرفون كيف يبدءون صلاتهم وكيف يختمونها وكيف يفعلون، يشاهدون ذلك من أئمتهم سواء بالأفعال التي يرونهم يفعلونها، أو بسماع ما يسمعونه من الأدلة ومن شروحها ومن توجيهاتهم.
شرح حديث: (كان يرفع يديه حذو منكبيه)
شرح حديث: (كان يرفع يديه حذو منكبيه) قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس) ] . هذه الأحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في رفع اليدين ومواضعه. والحديث الثاني: في أعضاء السجود وأسمائها وعددها. والحديث الثالث: في تكبيرات الانتقال وعددها.
مواضع رفع اليدين في الصلاة وكيفيته
مواضع رفع اليدين في الصلاة وكيفيته فرفع اليدين ورد في ثلاثة مواضع في حديث ابن عمر، وورد في موضع رابع، وأكثر ما ورد وروداً ثابثاً في هذه الثلاثة. ذكر في هذا الحديث أنه إذا استفتح الصلاة رفع يديه، يعني: عندما يكبر تكبيرة الإحرام، فابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه إلى المنكبين، وتكون كل يد محاذية لمنكبها. وورد في بعض الروايات: أنه يرفع يديه إلى أذنيه، وجمع بينهما بأن أصابعه تحاذي الأذنين، وأن الكف يحاذي المنكب، فيكون بذلك رفعاً متوسطاً عند استفتاح الصلاة، يعني: عند تكبيرة الإحرام، وهذا الرفع هو آكدها، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، الأئمة كلهم يرون أن هذا الرفع من سنن الصلاة، ولم يقل أحد إنه من الواجبات. عرفنا أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام آكد ما روي في الرفع وأنه متفق عليه. والحكمة فيه كما قال بعض العلماء: رفع الحجاب، إشارة إلى أنه يرفع الستر والحجب ويدخل على ربه، فعند ذلك يخشع، كأنه إذا رفع هذه الحجب لم يبق بينه وبين ربه ما يستره، وبكل حال فهو من سنن الصلاة، وابتداء الرفع وتحريك اليدين يكون من ابتداء التكبير، وانتهاؤه بانتهاء التكبير. وبعد ذلك يضع يديه على صدره وهو أقوى ما ورد في وضعهما، وهناك من يقول: تحت سرته، ومن يقول: فوق سرته، ولكن الأصح أنهما على صدره، هذا هو الأرجح. أما عند الركوع وعند الرفع من الركوع فقد ثبت في هذا الحديث وعدة أحاديث كثيرة صريحة بأنه يرفع يديه إذا ابتدأ تكبير الركوع، قبل أن ينحني، ثم ينحني بظهره ويمد يديه ويكون تكبيره في حالة انحنائه، يعني: أنه قبل أن يتحرك يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه، ثم يكبر حال كونه منحنياً للركوع، فيضع يديه على ركبتيه مفرقتي الأصابع، فهذا أيضاً رفع مسنون. كذلك إذا تحرك من الركوع رافعاً للقيام رفعهما، فإذا استتم قائماً وإذا هو قد انتهى من رفعهما محاذياً لمنكبيه، فعند ذلك أيضاً يردهما إلى صدره، وفي حالة وقوفه ومعلوم أنه يقول: سمع الله لمن حمده، في حالة حركته وارتفاعه من الركوع، ويقول في حالة قيامه: ربنا ولك الحمد، هذه المواضع الثلاثة. أما حالة انحطاطه إلى السجود، أو رفعه من السجدة الأولى إلى الجلسة، أو خروره إلى السجدة الثانية، أو قيامه من السجدة الثانية إلى الركعة، فلا يفعل ذلك؛ لأن ابن عمر ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك فقال: (كان لا يفعل ذلك في السجود) أي: لا في الانحطاط إليه ولا في الرفع منه، هذا هو المشروع. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه أيضاً إذا قام من الركعتين أي: إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما يفعل إذا افتتح الصلاة، فيكون هذا أيضاً موضعاً رابعاً في الصلاة الرباعية أو الثلاثية بعد التشهد الأول وعند نهوضه يكبر ويرفع يديه. وهكذا أيضاً يرفع يديه لتكبيرات العيد الزوائد، فإنه يكبر في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً على اختلاف في عدد التكبير، ويرفع يديه في كل تكبيرة. وكذلك في تكبيرات صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يرفع يديه في التكبيرات الزوائد التي في كل ركعة، فهذه أيضاً مواضع رفع في حالة القيام. وقد استنبط من ذلك أن رفع اليدين يكون في الحالات التي ليس فيها حركة كثيرة، فإن حركة القيام إلى الركوع، أو الركوع إلى القيام، أو حركة التكبير في حالة القيام عند التحريمة: حركة قليلة، وكذلك حركة القيام من الجلوس في الركعة الثانية حركة أيضاً قليلة وليست كحركة السجود، سواء للانحطاط له أو للجلوس أو للرفع منه. فيكون رفع اليدين خاصاً بالانتقال الذي حركته قليلة، هذا هو المعتمد. وقد ورد في رواية: أنه يرفع يديه أيضاً في تنقلات السجود، ولعل ذلك أحياناً لعله فعله مرة أو مرتين، ولكن المعتاد والأكثر أنه لا يفعله في السجود كما نص على ذلك ابن عمر.
شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)
شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) أما الحديث الثاني: فيتعلق بأعضاء السجود، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم -وفي رواية: أعضاء-: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين) ، هذه أعضاء السجود السبعة. الجبهة معلوم أنها الجبين الذي ليس عليه شعر، وحدها منابت الشعر، ونهايتها شعر الحاجبين، ولكن الأنف أيضاً متصل بها، فتكون عضواً واحداً أي: أن الجبهة والأنف يكونان عضواً واحداً، فلا بد أن يسجد عليهما، فلا يسجد على الجبهة ويرفع الأنف، ولا يسجد على رأس الأنف فقط ويرفع الجبهة، بل السجود عليهما معاً، ويعتبران عضواً واحداً.
السجود على الوجه آكد أعضاء السجود
السجود على الوجه آكد أعضاء السجود ولا شك أن السجود على الوجه هو آكد أعضاء السجود، وبه يسمى ساجداً وبرفعه لا يسمى ساجداً، لو سجد على اليدين والركبتين وأطراف القدمين ورفع وجهه أو رفع صلبه لم يسم ساجداً حتى يضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأن حقيقة التذلل حقيقة الخشوع حقيقة الخضوع: وضع الوجه على الأرض. والوجه هو أشرف أعضاء الإنسان وأعلاها، والوجه هو مجمع المحاسن، والوجه هو مجمع الحواس، فإذا وضع وجهه على الأرض فقد حصل منه التواضع والتذلل، وقد ظهرت فيه العبودية، ويحمله ذلك على أن يخشع، وعلى أن يخضع، وعلى أن يتواضع وعلى أن يتذلل، وعلى أن يستحضر أنه خاشع لربه واقف بين يديه، متذلل له، عابد له غاية العبودية، فيكون هذا السجود أعظم أركان الصلاة وأشرفها بهذه الميزة، وهذه الخصوصية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، حيث إنه في هذا السجود قد ذل لربه، وقد خضع له وخشع. فلا شك أنه بهذه الحال قد قرب منه قرباً معنوياً، فهو أقرب إلى أن يجيب دعوته وإلى أن يسمعها سماع قبول، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حريٌ وقريبٌ أن تستجاب دعوتكم، حيث إن الساجد خاضع وخاشع لربه ومتواضع.
كيفية وضع اليدين والأصابع أثناء السجود
كيفية وضع اليدين والأصابع أثناء السجود أما الأعضاء الباقية فالسجود عليها للاعتماد، فالسجود على اليدين للاعتماد عليهما، والمراد: الكفان. وقد تقدم أنه ينهى عن أن يبسط ذراعيه، فإذا سجدت فضع يديك وارفع مرفقيك، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وارفع أيضاً ساعدك، والساعد: هو الذراع، ولا تبسطه كانبساط الكلب: (لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) . وقد أمر بأن يضم أصابعه حتى تكون رءوس الأصابع إلى القبلة، فلا يميل بها ولا يصرف يديه فيجعلها إحداهما شمالاً والأخرى جنوباً، أو يفرق الأصابع فيكون بعضها لغير القبلة، بل يضمها حتى تكون رءوسها كلها للقبلة. أما الركبتان فالسجود عليهما ضروري؛ وذلك لأن الاعتماد عليهما.
كيفية وضع القدمين حال السجود
كيفية وضع القدمين حال السجود أما القدمان فالمراد رءوس القدمين، ومأمور بأن يجعل بطون أصابع القدمين على الأرض، ورءوس أصابع القدمين إلى القبلة، وعليه أن يتأكد من السجود على القدمين، فإن كثيراً من الناس يتهاون في ذلك، حيث إن الاعتماد عليهما، فتراه رافعاً قدميه غير ساجد عليهما أو غير ساجد على بطونهما، بل تكون قدماه مائلتين لغير السجود، أو يضع إحداهما على الأخرى، فلا يسجد إلا على ستة أو نحو ذلك، فعلى المصلي أن يتعاهد هذه المواضع. روي في بعض الأحاديث: (أن العبد إذا ترك عضواً لم يسجد عليه لم يزل ذلك العضو يلعنه) ، حيث إنه أخل بالسجود عليه، وحيث إن السجود عليه عبادة، فعليه أن يحرص على السجود على وجهه كله يعني: جبينه وأنفه، ولا يسجد على أنفه فقط ولا على جبهته فقط، ويسجد على قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض، ولا يرفعهما ولا يسجد على رأس الأصبع مثلاً، ولا يجعل إحداهما على الأخرى، ولا يجافيهما أو يميلهما بحيث لا يكون ساجداً عليهما السجود الحقيقي، هكذا أمر الساجد بأن يمكن أعضاءه من السجود؛ ليكون بذلك محققاً لهذا الاتباع.
شرح حديث: (كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم)
شرح حديث: (كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم)
عدد التكبيرات في الصلاة
عدد التكبيرات في الصلاة أما الحديث الثالث فيتعلق بالتكبير الذي ينتقل به من حال إلى حال، لينتقل به عبر القيام إلى الركوع فيقول: الله أكبر، وينتقل به من القيام إلى السجود فيقول: الله أكبر. وهذا التكبير من واجبات الصلاة، فإذا ترك تكبيرة أو ترك أكثر من تكبيرة كان قد ترك واجباً، فإن كان سهواً فإنه يسجد للسهو، وإن كان عمداً بطلت صلاته. وإذا عددته وجدت في كل ركعة خمس تكبيرات، ووجدت في الصلاة الرباعية اثنتين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي الصلاة الثنائية إحدى عشرة تكبيرة، كل ركعة فيها خمس تكبيرات، التكبيرتان الزائدتان في الظهر هما: تكبيرة القيام من الجلوس للتشهد الأول، وتكبيرة الرفع من السجدة الثانية التي يجلس بعدها للتسليم، فإنهما زائدتان على الخمس. ففي الركعة الأولى: التكبيرة الأولى: للإحرام، التكبيرة الثانية: للركوع، الثالثة: للسجود، الرابعة: للرفع من السجود، الخامسة: للسجدة الثانية، هذه خمس، وفي الركعة الثانية: تكبيرة القيام من السجدة الثانية إلى القيام، ثم تكبيرة الركوع، ثم السجود، ثم الرفع من السجود ثم السجدة الثانية، وهذه خمس تكبيرات، وكل ركعة فيها خمس تكبيرات، وابتداء الخمس: إما تكبيرة الإحرام وإما تكبيرة القيام من السجدة، فيزيد على ذلك في الظهر تكبيرة القيام من التشهد الأول وتكبيرة القيام من السجود الأخير للجلسة بين السجدتين.
سبب إنكار بعض المتقدمين للجهر بالتكبير
سبب إنكار بعض المتقدمين للجهر بالتكبير يحافظ المسلم على هذا التكبير حتى تتم بذلك صلاته، وقد روي عن بعض المتقدمين أنهم أنكروه، وما ذاك إلا أن بعض أمراء بني أمية كانوا يخفونه ولا يسمعه المصلون خلفهم، وكانوا يعتمدون حركة بعضهم مع بعض، وذلك أن بني أمية كانوا يقتدون بـ عثمان رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنها لما كان في آخر حياته وكبر سنه كان يخفيه لثقله عليه فظنوا أنه لا يكبر إلا سراً، فصاروا يكبرون سراً. أما بقية الصحابة فإنهم يكبرون جهراً، ويرفعون التكبير حتى يسمعهم المصلون، والمصلون يعتمدون على تكبير الإمام، فإذا سمعوه كبر للتحريم كبروا، وقد أكد بذلك في المتابعة. تقدم لنا قوله صلى الله عليه وسلم في الاقتداء: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا) ، فدل على أنه يكبر وأنهم يوافقونه في ذلك التكبير، الإمام يكبر والمأمومون يكبرون.
الحكمة من التكبير
الحكمة من التكبير الحكمة من هذا التكبير: أولاً: تنبيه المأمومين حتى يسمعوه، وحتى يتابعوه، فليس كلهم يرونه، فقد يراه أهل الصف الأول أو بعضهم والباقون لا يرونه، فينبههم بهذا التكبير. ثانياً: التكبير ذكر يشتمل على التعظيم، فإذا قلت: الله أكبر، فمعناه: الله أجل وأعظم من كل شيء، ولا شك أنك إذا قلت ذلك معتقداً بقلبك كان ذلك أرسخ لهذا التكبير ولهذه العظمة في قلبك، ولا شك أن من استحضر عظمة الله سبحانه في صلاته وفي كل حالاته، واستحضر أنه أعظم وأجل من جميع المخلوقات خضع له وذل، وتواضع له واستكان، أي: الله أكبر وأجل من كل شيء. علمنا أن تكبيرة الإحرام عندما يريد التحريم للصلاة وفي الحديث: (تحريمها التكبير) فعندما يسوَّي الإمام الصفوف وينتهي من تسويتها يكبر، فيتبعونه في التكبير، ثم يبدأ بعد ذلك في القراءة، ثم تكبيرة الركوع عندما يتحرك منحنياً للركوع، فيأتي بها في حالة تحركه وينتهي بها في حالة انتهائه.
التسميع تنبيه على موضع الحمد
التسميع تنبيه على موضع الحمد أما في رفعه من الركوع فلا يكبر، بل يقول: (سمع الله لمن حمده) ، في هذا الركن خاصة؛ وذلك لأن هذا الركن بعده حمد لله، فكأنه يذكرهم ويقول: احمدوا الله فإن الله يسمع من يحمده، والسمع هنا سمع استجابة، فمعنى: (سمع الله لمن حمده) أي: استجاب، أو سماع قبول كأي: قبل منكم هذا الحمد وأثابكم عليه. أما المأموم إذا رفع من الركوع واستوى قائماً فإنه يأتي بالحمد، لأنه لما ذكرهم الإمام وقال: سمع الله لمن حمده، فكأنهم انتبهوا، فقالوا: مادام أن الله يسمع من يحمده فلماذا لا نحمده؟! فنبادر فنحمده فنقول: ربنا ولك الحمد، فالتسميع يأتي تنبيهاً على أن هذا موضع الحمد.
صفة تكبير الإمام والمنفرد والمأموم للانتقال
صفة تكبير الإمام والمنفرد والمأموم للانتقال أما إذا أراد أن يسجد فيكبر حالة انحنائه، فلا يأتي بالتكبير قبل أن ينحني، ولا يأتي بالتكبير أول ما يتحرك، بل يأتي به في حالة الانحناء، وعليه أن يسرع الحركة حتى لا يسابقه المأموم، وبعض الأئمة ينحني ولا يكبر إلا إذا وصل إلى الأرض، فقد يسابقونه ويتحركون قبل أن يسمعوا تكبيره، فعليه أن يجعل تكبيره في حالة حركته. كذلك تكبيرته عندما يتحرك رافعاً رأسه من السجدة فإنه يكبر بعدما يرفع رأسه وينتهي إذا جلس، فتكون نهايته إذا جلس بين السجدتين، وكذلك تكبيرته إذا سجد للسجدة الثانية، فإنه يكبر عندما يتحرك نحو الأرض فيقول: الله أكبر، وينتهي بنهاية سجوده، وتكبيرته عندما يرفع رأسه من السجدة الثانية ناهضاً للركعة الثانية يأتي بها أيضاً، وكذلك تكبيرته إذا قام من الركعتين، أي: إذا جلس للتشهد الأول وانتهى منه كبر حالة ما يتحرك، هذا بالنسبة إلى الإمام. أما المأموم فإنه أيضاً يتابع الإمام في هذا التكبير كله، إلا التسميع فلا يقول: سمع الله لمن حمده، بل يقتصر على التحميد؛ وذلك لأن قصد الإمام من التسميع تنبيه المأمومين، أما التكبير فإنه ذكر، فيوافق الإمام في تكبيره فيقول: الله أكبر كما يقوله الإمام. والمنفرد كالإمام يسمع كما يسمع ويكبر كما يكبر، فهذا التكبير هو من واجبات الصلاة، وكذلك التسميع والتحميد وأذكار الركوع والسجود، وهي التسبيح في الركوع والسجود ونحو ذلك، هذه من الواجبات التي تتم الصلاة بفعلها والمحافظة عليها.
شرح حديث: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب)
شرح حديث: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن مطرف بن عبد الله قال: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم) . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء) ، وفي رواية البخاري: (ما خلا القيام والقعود: قريباً من السواء) . وعن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إني لا آل أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي) ] . هذه أحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في تكبيرات الانتقال، تكبير النقل هو أن يكبر عندما ينتقل، وقد تقدمت أحاديث في ذلك. وذكرنا أن في كل ركعة أربع تكبيرات، وأن للرباعية ثنتين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي صلاة الفجر إحدى عشرة تكبيرة، وذلك لكونها تزيد بتكبيرة الرفع التي للجلوس. وهذه التكبيرات قد خفيت على بعض المتقدمين، وذلك أن بعض الأئمة كانوا يصلون وهم كبار السن فيصعب عليهم رفع الصوت بالتكبير، ويصير انتقال المأمومين بسماع الحركة، ولكن تحققوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر عندما ينتقل، إلا إذا رفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، وإذا انصرف التفت للخروج من الصلاة فإنه يقول: السلام عليكم ورحمة الله. أما بقية انتقالاته فإنه يستعمل التكبير، والحكمة في ذلك والله أعلم: تذكير المأمومين الذين يسمعون، وتذكير المنفرد نفسه، وتذكير الإمام نفسه بهذا الوصف لله تعالى وهو كونه أكبر، فإنك كلما كررت أو كلما سمعت: الله أكبر، كان ذلك مذكراً لك بكبرياء الله، ومن عظّم الله وكبّره واعتقد أنه أكبر من المخلوقات كلها، عظُم قدر ربه في قلبه، وصغرت المخلوقات عنده واستحقرت مهما كان مقدارها، سواء كانت موجودة على قيد الحياة أو فانية فكلها تصير حقيرة ولا يبقى في قلبه لها قدر، وإنما القدر العظيم لله تعالى الذي هو أكبر من كل شيء، وكل شيء فهو حقير فقير ناقص أمامه، فهذا هو السبب في تكرار التكبير.
شرح حديث: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم)
شرح حديث: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم) أما الحديث الثاني: ففيه مدة البقاء في الأركان أو مقدار البقاء في الأركان، يقول البراء: إنه رمق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدر مكثه في كل ركن، فوجد الأركان متساوية، ولكن في الرواية الثانية استثنى القيام والقعود، فإنها أطول من غيرها. وإذا مشينا على الرواية الأولى فإنه ليس المراد التسوية بين القيام والركوع، بل المراد التقارب، وأنه إذا أطال في ركن أطال في بقية الأركان، وهذا هو السبب في الطمأنينة، وفي حضور القلب، وفي الإتيان بالأفعال التي يأتي بها وحصول الحكمة من ورائها.
التسوية في مقدار الاطمئنان بين أفعال الصلاة
التسوية في مقدار الاطمئنان بين أفعال الصلاة أولاً: في الحديث التسوية بينها، يعني: التقارب بينها، فإذا ركع فمكث في ركوعه -مثلاً- ربع دقيقة أو نصف دقيقة، فإنه إذا رفع من الركوع مكث في رفعه قبل أن يسجد مثل مكثه في الركوع، نصف دقيقة أو دقيقة أو ما أشبهها على قدر ما يتحمله، ثم إذا سجد مكث بقدر ركوعه، وإذا جلس بين السجدتين فكذلك، يعني مثل ركوعه أو مثل قيامه بعد الركوع، وكل ذلك متقارب، وكذا يفعل في السجدة الثانية، فيسوي بين أركان الصلاة، فيمكث في هذا بقدر ما يمكث في هذا، وقد حفظ أنه عليه الصلاة والسلام كان يسبح للسجود عشر تسبيحات. وحفظ أنهم صلوا خلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان أميراً على المدينة وحسبوا تسبيحات الركوع وتسبيحات السجود: عشراً عشراً، فكان يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، حتى يقول عشراً، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى حتى يعد عشراً.
أذكار الصلاة الواجبة
أذكار الصلاة الواجبة أما في الرفع من الركوع فحفظ أنه كان يدعو بالثناء، والثناء الذي كان يدعو به هو قوله: (ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) . هذا مما حفظ في الركوع وفي الرفع من الركوع. وسمع مرة رجلاً لما رفع من الركوع قال: (ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فأخبر بأنه رأى أن ملائكة يبتدرونها ليكتبوها) ، مما يدل على أنه أقر هذا الحمد. وروي أيضاً أنه كان يقول: (ربنا لك الحمد كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعلم جلاله) ، وبكل حال فإنه موطن فيه الثناء، أي: يندب فيه أن يشتغل بالثناء على الله، وبحمده وبتكرار هذا الحمد. ويمكث فيه بقدر ركوعه أو بقدر سجوده كما ذكرنا. وحفظ أيضاً أنه قال في الركوع: (عظموا فيه الرب) يعني: أكثروا من تعظيم الله والثناء عليه. وقال في السجود: (اجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) يعني: حري أن تستجاب دعوتكم؛ لأن: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، فحث على الدعاء في السجود، ولم يحدد لهم دعاءً معيناً، بل أطلق الأمر لهم. هذه الأركان التي هي الركوع والرفع منه والسجود والاعتدال والجلسة بين السجدتين والسجود الثاني هذه من أركان الصلاة كما هو معروف. والأدعية فيها والأذكار فيها تعتبر من واجبات الصلاة، فالتسبيح في الركوع واجب، والتسبيح في السجود واجب، وقول: ربنا ولك الحمد واجب، وقول: رب اغفر لي واجب، فلا بد أن يأتي المصلي بقدر الواجب، فإذا أتى بقوله: سبحان ربي الأعلى، مرة كفى، ولكن قد لا تحصل الطمأنينة التي هي الركود، وإذا أتى بقول: رب اغفر لي، مرة كفى، ولكن لا بد من الطمأنينة التي هي الركود، وهكذا يقال في بقية أفعال الصلاة.
إطالة القيام وقعود التشهد
إطالة القيام وقعود التشهد في الرواية الثانية أنه استثنى القيام والقعود؛ وذلك لأنهما أطول، والقعود هو التشهد، فالجلوس للتشهد معلوم أنه أطول من جنس السجود وجنس الركوع؛ وذلك لأنه يقرأ فيه التشهد ثم يأتي فيه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي فيه بأدعية فهو أطول من أدعية الركوع أو أدعية السجود. كذلك القيام أطول من الركوع؛ وذلك لأن فيه قراءة الفاتحة، ثم قراءة ما تيسر من القرآن، فهو أطول من جنس الركوع، وجنس السجود، بل قد يطيله إطالة كبيرة. وأما الأحاديث التي فيها أن ركوعه بقدر قيامه، فالمراد أنه يطيل الركوع إذا أطال القيام، ويقصر الركوع إذا قصر القيام، فإذا قام في الصلاة وقرأ قراءة طويلة يعني: قدر عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة فإنه يطيل الركوع نحو دقيقتين أو ثلاث دقائق، وإذا خفف القراءة فجعل القراءة قدر خمس دقائق، أو سبع دقائق، خفف الركوع وجعله دقيقة أو ثلثي دقيقة، أو ما أشبه ذلك، فالمعتاد أنه إن أطال ركني القيام والقعود أطال بقية الأركان، وإن قصر قصر. والإطالة لها أسباب، فقد يطيل بعض الصلوات كما أطال صلاة الكسوف إطالة زائدة، وكما أطال صلاة التهجد التي هي قيام الليل. وفي ليلة في رمضان قرأ في ركعة واحدة أكثر من خمسة أجزاء، البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ثم ركع فأطال الركوع، فهذا دليل على أنه كلما أطال القيام أطال ما بعده، ولكن لا يلزم التساوي، فلا يلزم أن قيامه إذا كان نصف ساعة يكون ركوعه نصف ساعة، بل يطيله بقدره. وبكل حال فإن الأذكار قد وردت، فورد في الركوع قوله: سبحان ربي العظيم، وورد أنه يعظم فيه الرب لقوله: (عظموا فيه الرب) وتعظيم الرب يكون بالألفاظ الدالة على العظمة سواء من القرآن أو من غيره، فإذا قال في الركوع: اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض، وما أشبه ذلك، أو قال: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء إلى آخره، فهذا يعتبر تعظيماً يكون مناسباً في الركوع. وإذا أتى في السجود بالدعاء أو بالتسبيح فقد امتثل ما أمر به؛ لأنه مأمور في السجود بأن يكثر من الدعاء، سواء أدعية قرآنية كأن يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] ، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ، أو أدعية من الأدعية النبوية الواردة كقوله: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، أو اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، وما أشبه ذلك من الأدعية فيعتبر أيضاً ممتثلاً. فالحاصل أنه يشرع أن يشغل هذه الأركان بالذكر وبالتسبيح وبالثناء على الله تعالى وبالدعاء حتى يأتي فيها بروح الصلاة وبلبها وهو الخشوع والخضوع وحضور القلب.
شرح حديث: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا)
شرح حديث: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا)
مقدار الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين
مقدار الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين أما الحديث الثالث: فيتعلق بإطالة الركنين، وهما: الرفع من الركوع والجلسة بين السجدتين، يذكر أن أنساً رضي الله عنه كان إذا رفع من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي، أي: من طول وقوفه، وإذا جلس بين السجدتين مكث حتى يقول القائل: قد نسي، يعني: من طول جلوسه، وقد يكون هذا مخالفاً لحديث البراء، فإن حديث البراء يفهم منه أن ركوعه ورفعه على حد سواء، متقاربات، وكذلك سجدته والجلسة بينهما، أنهما سواء، متقاربات. فكيف يكون أنس مطيلاً لهذين الركنين حتى يقول القائل: قد نسي؟ A أنهم رأوا كثيراً من الناس يخففون هذين الركنين تخفيفاً زائداً، فصاروا إذا رأوا من يطيلهما ظنوا أنه قد نسي، أو قد أوهم، أو قد سها، وإلا فالإطالة ليست إطالة غريبة.
بيان وجوب الطمأنينة وأهميتها
بيان وجوب الطمأنينة وأهميتها الآن نحن نشاهد كثيراً من الناس إذا رأيتهم يصلون الصلاة وحدهم، أو يصلون نافلة، فإنك ترى بعضهم راكعاً، ثم إذا رفع من الركوع لا تقول: إنه اعتدل، بل يرفع قليلاً ثم يخر ساجداً، ولا يتم وقوفه، وهذه عادة سيئة، وهي أنه يطمئن في الركوع ولا يطمئن في الاعتدال، بل يرفع قليلاً وقبل أن يصير قائماً ينحني، فكأنه ما استقام صلبه ولا وقف، بل إذا رفع وقارب من الرفع خر ساجداً. ومثل ذلك أيضاً تخفيفهم للجلسة بين السجدتين، فتراه مثلاً ساجداً مطمئناً في سجدته، ولكن إذا رفع رأسه للجلسة بين السجدتين لم يجلس، إنما يرفع قليلاً وقبل أن يعتدل جالساً يخر للسجدة الثانية، ولا يفصل بينهما بجلسة فيها طمأنينة. فكأن الذين كانوا يصلون في وقت أنس كانوا يخففونها بين الركنين تخفيفاً زائداً عن غيرهما من الأركان، فأنكروا عليهم بفعل أنس حيث كان يطمئن فيمكث في الرفع بعد الركوع وفي الرفع بعد السجدة الأولى مكثاً زائداً على ما يفعلونه، فإذا صلوا معه ظنوا أنه قد نسي في زيادته لهذا الفعل. فالحاصل أنا نلاحظ وتلاحظون هؤلاء الذين يخففون هذين الركنين أو يخففون غيرهما من الأركان، فإذا لاحظت فعليك التنبيه، وإخباره بأن هذه الصلاة ناقصة؛ وذلك لعدم الطمأنينة فيها، فإن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة. والمسيء صلاته لماذا أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصلِّ) ثلاث مرات، ما الذي أنكره عليه؟ أنكر عليه تخفيف الصلاة وترك الطمأنينة فيها، ولهذا نبهه وقال له: (اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) فأكدت كلمة (تطمئن) الطمأنينة وهي: الثبات والركود، فمن لم يطمئن في أركان صلاته فإنه يقال له كما في هذا الحديث: (ارجع فصل فإنك لم تصلِّ) ، فانتبهوا وفقكم الله. وكذلك نبهوا إخوانكم الذين يخففون هذه الأركان حتى تكون صلاتهم مجزئة ومقبولة إن شاء الله.
شرح حديث: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة)
شرح حديث: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة) قال المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. وعن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأُصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقلت لـ أبي قلابة: كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض، أراد بشيخهم أبا بريد عمرو بن سلمة الجرمي، ويقال: أبو يزيد. وعن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ] .
الاطمئنان في الصلاة والتوسط فيها هو السنة
الاطمئنان في الصلاة والتوسط فيها هو السنة في الحديث الأول: عن أنس رضي الله عنه ذكر أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت خفيفة تامة، وأنه ما صلى خلف إمام أخف ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أنساً رضي الله عنه صلى خلفه عشر سنين؛ لأنه كان يخدمه فكان ملازماً له في السفر وفي الحضر، وهذه المدة لا شك أن لها أثراً في معرفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صلى بعده خلف بعض الأئمة كالخلفاء، وكذلك أئمة في البصرة؛ لأن أنساً انتقل إلى البصرة واستوطنها حتى توفي بها. فيذكر أن الذين صلى خلفهم لم تكن صلاتهم مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الخفة والتمام، والحاصل أنه يفيد أنها تامة وكذلك خفيفة، تمامها: أنه يتم الأركان، فيتم الركوع والسجود ويطمئن فيها اطمئناناً كاملاً، ويأتي فيها بالأذكار التامة. وثبت في حديث عن أنس نفسه رضي الله عنه: أنه صلى خلف عمر بن عبد العزيز عندما كان أميراً على المدينة، يقول: شهدت لـ عمر بأنه كان أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسب تسبيحاته في الركوع والسجود عشراً عشراً، أي: أنه إذا ركع سبح عشراً بقوله: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد سبح عشراً بقوله: سبحان ربي الأعلى، فهذا هو التمام. قوله: (أتم) : التمام كونه يأتي بها باطمئنان، ووجد بعده من يطيل في القراءة ويخفف في الركوع وفي السجود، أو يطيل في الجميع إطالة مملة، أو نحو ذلك، فأنكر عليهم أنس وقال: خففوا وأتموا لا تنقروها نقراً فتكونوا مخالفين للطمأنينة، ولا تطيلوها إطالة طويلة فتكونوا منفرين، بل استعملوا الوسط الذي هو التمام، والتخفيف الذي ليس بمنفر. وقد تقدم أن بعض النقارين استدل بحديث معاذ في النهي عن الإطالة على النقر، فيقال: ليس الأمر مع هؤلاء النقارين الذين ينقرون الصلاة نقراً، ولا مع أولئك المنفرين الذين يمكث أحدهم في الصلاة ساعة أو أكثر فيكون بذلك منفراً، بل الوسط هو خير الأمور.
شرح حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة
شرح حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة وفي الحديث الثاني حديث أبي قلابة ذكر أن مالك بن الحويرث جاءهم في مسجدهم وصلى بهم ولم يكن قصده أن يصلي في ذلك الوقت، ولكن قصده أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته التي تلقاها عنه صلى الله عليه وسلم. وكان مالك بن الحويرث ممن تأخر إسلامه، وقد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، أي: في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل البحرين أي: من أهل الشرق في ذلك الوقت، وكانوا يأتون من أماكن بعيدة، ويبذلون جهداً كبيراً، ويقطعون مسافة طويلة في زمن طويل. يقول مالك بن الحويرث: (إننا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأقمنا عنده عشرين يوماً، فلما رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، قال: لو رجعتم إلى أهليكم وعلمتموهم ما تعلمتم، وقال لهم: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم) ، وأمرهم بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . فأخبرهم بأن عليهم أن يقتدوا به في هذه الصلاة التي تلقوها بالفعل، وكذلك تعلموا بقية الأحكام بالقول، فأمرهم بهذه الحال بأن يقتدوا به. فجاء ابن الحويرث إلى مسجد أبي قلابة وبين لهم الصلاة فصلى بهم، ثم إن الذين رووا عن أبي قلابة سألوه: عن كيفية صلاة مالك بن الحويرث؟ فأخبرهم بأنه يصلي بهم كما يصلي بهم شيخهم في ذلك الوقت، والشيخ يراد به الطاعن في السن، هذا هو الشيخ في اللغة، وليس المراد به العالم، فأطلق عليه شيخاً لكونه كبير السن. وأبو بريد عمرو بن سلمة هذا هو أبو بريد عمرو بن سلمة الجرمي، وكان قد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يره ولم تثبت صحبته لكونه صغيراً. ذكر أنه كان في صغره يتلقى الركبان ويتعلم منهم القرآن الذي تعلموه فحفظ قرآناً أكثر من غيره، فلما جاء وفدهم من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (إنه يقول: يؤمكم أقرؤكم أو أكثركم قرآناً) لم يجدوا أكثر من أبو بريد عمرو بن سلمة، فقدموه إماماً لهم مع صغر سنه، وقد ذكر في بعض الروايات أنه كان صغير السن ولكنه كان أكثرهم قرآناً فقدموه، ثم ذكر أنه ما صحب قوماً بعدهم إلا صار إماماً لهم، فكل من صحبوه قدموه ورضوا بإمامته. فكان يصلي في المسجد الذي فيه أبو قلابة، وأبو قلابة تلميذ لـ أنس وتلميذ للصحابة، وهو من الأجلاء التابعين.
جلسة الاستراحة وخلاف العلماء في مشروعيتها
جلسة الاستراحة وخلاف العلماء في مشروعيتها فالحاصل أنه ذكر أن أبو بريد عمرو بن سلمة كان إذا نهض من السجدة الثانية ليقوم إلى الركعة الثانية جلس قبل أن ينهض، فلم ينهض حتى يستوي جالساً، هكذا كان يفعل شيخهم الذي هو أبو بريد عمرو بن سلمة، فاستدلوا بهذا على مشروعية هذه الجلسة، وسموها جلسة الاستراحة. وقد اختلفوا في مشروعيتها: هل تشرع جلسة الاستراحة التي فعلها أبو بريد عمرو بن سلمة أم لا؟ وهل أبو بريد عمرو بن سلمة تلقاها عن أحد أو فعلها استحساناً؟ وهل إقرار أبي قلابة أو تشبيه أبي قلابة لصلاته بصلاة مالك بن الحويرث في جميع الصلاة كلها حتى هذه الجلسة، أو في معظم الصلاة وفي حسنها وفي طولها وفي قصرها وما أشبه ذلك؟ الأقرب أن أبا قلابة يقول: إن صلاة أبو بريد عمرو بن سلمة أقرب إلى صلاة مالك بن الحويرث وأشبه بها في كونه يطمئن، وفي كونه يتم الركوع والسجود، وفي كونه يقرأ كما يقرأ، وفي كونه يخشع فيها، ويمكن أنه لم يذكر أن من فعله هذه الجلسة وإنما ذكرها الذي روى عن أبي قلابة يعني: نقل عن أبو بريد عمرو بن سلمة أنه كان يجلس هذه الجلسة، فبعض العلماء ذهب إلى استحباب جلسة الاستراحة كالشافعية، ورأوا أنها من سنن الصلاة، فإذا قام من الركعة الأولى قبل أن ينهض جلس ثم قام، وإذا قام من الركعة الثالثة قبل أن ينهض جلس ثم قام. وأكثر الأئمة لم يستحبوها ورأوا أنها ليست مستحبة ولا مشروعة، وقالوا: إنها لم تذكر في الأحاديث، وإن الأحاديث كثيرة والسنة التي فيها صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر فيها هذه الجلسة، فدل على أن أبو بريد عمرو بن سلمة ما فعلها عن دليل وإنما فعلها عن كبر؛ لأنه كان قد طعن في السن، ففعلها لأجل أن يرتاح قبل أن ينهض، فكان هذا هو السبب في فعله لها. وعلى هذا: لا تكون من سنن الصلاة. وبعض العلماء قال: لما شبه أبو قلابة شبه صلاة أبو بريد عمرو بن سلمة بصلاة مالك ومالك صحابي فإنا نثبتها كما أثبتها، ولكن نقول: لعلها خاصة لكبير السن، أو بمن احتاج إليها لضعف أو نحو ذلك، فهي لمن كان كبير السن كحال عمرو بن سلمة أو لمن هو مريض يشق عليه أن ينهض من السجود سريعاً. وإلا فالثابت المتواتر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يجلس، بل كان إذا قام من السجدة الثانية نهض واعتمد على ركبتيه، واستتم قائماً، هذا هو المعتاد. فإذاً عرفنا أن فيها ثلاثة أقوال: قول الشافعية أنها تستحب؛ لأجل فعل أبو بريد عمرو بن سلمة. وأكثر الأئمة لم يستحبوها. وتوسط آخرون وقالوا: يفعلها من هو عاجز لكبر أو مرض، ومن ليس كذلك لا يفعلها. وهذا هو القول الوسط الذي جمعوا به بين القولين.
شرح حديث عبد الله بن مالك بن بحينة في صفة السجود
شرح حديث عبد الله بن مالك بن بحينة في صفة السجود
عظمة السجود والدليل على أهميته
عظمة السجود والدليل على أهميته أما الحديث الثالث ففيه صفة سجود النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن السجود في الصلاة ركن من أركان الصلاة، وأنه أهم أركانها، ومن أهميته أنه يكرر، ففي كل ركعة يأتي بسجودين، مع أنه لا يأتي إلا بركوع واحدة، فلماذا يكرر السجود؟ لأهميته ولفضله. وقد ورد التعبد بالسجود وحده، مما يدل على أنه أفضل، وذلك كسجود التلاوة وسجود الشكر، سجدة واحدة يسجد فيها من غير أن يسبقها تحريم ولا ركوع ولا غير ذلك. كذلك أيضاً جعل السجود جابراً للصلاة كما في سجود السهو مما يدل على أهمية السجود. وورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وأمر في السجود أن يُكثر فيه من الدعاء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيها الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حريٌ أن يستجاب إذا دعوتم الله في حالة السجود؛ وذلك لأنكم في تلك الحالة متواضعون، فالعبد غاية تواضعه إذا وضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأن وجه الإنسان هو أشرف أعضائه، وهو أرفعها، وهو مجمع حواسه، فإذا تواضع ووضع وجهه على الأرض كان ذلك غاية التواضع وغاية التعبد. ولأجل ذلك ورد في صيغة السجود ما يحقق كمال الخشوع، وكمال الذل، فمنها: أنه يسجد على سبعة أعضاء، ويمكن هذه الأعضاء من الأرض. ومنها: أنه يرفع ذراعيه، وتقدم أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع ذراعيه عن الأرض، ونهى أن يبسط الرجل ذراعيه في السجود كانبساط الكلب. ومنها: أنه كان عليه الصلاة والسلام يتجافى في السجود، فكان ينصب رجليه ويسجد على بطون أصابعه، وكان يرفع فخذيه عن ساقيه، ويجافي بطنه عن فخذيه، ويجافي عضديه عن جنبه حتى يبدو بياض إبطيه، لأنه أحياناً لا يكون عليه إلا رداء، فإذا فرج يديه ظهر إبطه من وراء الرداء، فظهر بياض إبطيه من تفريجه ومن شدة مجافاته يديه عن جنبيه. وهذه الصفة هي الصفة المتميزة بالاعتدال، يعني: أنها الوسط.
الهيئة الصحيحة للسجود وبيان أخطاء المصلين فيه
الهيئة الصحيحة للسجود وبيان أخطاء المصلين فيه فهذه المجافاة يفعلها بقدر استطاعته، فإذا كان إماماً تمكن من التجافي فيجافي عضديه عن جنبه، أما إذا كان مأموماً، فالغالب أنه لا يتمكن تمكناً زائداً؛ وذلك لأن المأمومين يصف بعضهم بجانب بعض، ويؤمرون بأن يتراصوا ولا يتركوا بينهم خللاً، فلا يتمكن كل منهم في السجود من المجافاة الكثيرة، بل يتجافون بقدر ما يستطيعون، فكل منهم يجافي عضديه عن جنبيه بقدر استطاعته سواء قلت المجافاة أو كثرت. أما بالنسبة لمجافاة البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين فإنها تكون متوسطة، وقد وصفت في بعض الروايات: بأن ينصب فخذيه، أي: أن تكون فخذاه منتصبة يعني: قائمة، فيعتمد على ركبتيه، ويكون فخذه شبه مرتفع أي: قائم، فلا يميل إلى جهة الساق ولا يميل إلى جهة الأرض، فإن في ميله إلى جهة الأرض شيئاً من المشقة والصعوبة عليه، وفي ميله إلى جهة الساق شيئاً من الكسل أو نحو ذلك. فنرى أن بعض الناس إذا سجد أبعد موضع جبهته بعداً زائداً كمتر أو نحوه! ففي ذلك شيء من المشقة، حيث يشق على نفسه حتى ربما تجاوز الفراش الذي يصلي عليه، أو سجد على الفراش الثاني وربما ضايق الصف الذي أمامه إذا كان هو في الصف الثاني ونحو ذلك. ونرى آخرين يسجد أحدهم بين ركبتيه! فيجعل رأسه أو وجهه أو ذقنه قرب ركبتيه فلا تحصل بذلك مجافاة. والوسط هو المشروع، فإذا جعلت بين رأسك وبين ركبتك قدر نصف متر أو نحو ذلك كان فيه شيء من الاعتدال، وليس فيه شيء من المشقة، هذا هو التفريج الذي ذكر في هذه الأحاديث.
شرح حديث الصلاة بالنعال
شرح حديث الصلاة بالنعال قال المصنف رحمه الله: [عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: (أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم) . وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) ] . هذه من أحاديث صفة الصلاة، فصفة الصلاة -كما عرفنا- متلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ومن فعله، وأكثرها أخذت من أفعاله، حيث إنه القدوة عليه الصلاة والسلام، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] .
صفة النعال في العهد النبوي
صفة النعال في العهد النبوي فمن ذلك الصلاة في النعلين، كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه، وكانت النعال في عهده من جلود الإبل، وكانوا يقطعونها بأيديهم، يعني: يخرزها الخراز، فيقطع على قدر القدم، ويجعلها -مثلاً- ثلاثة أطباق أو أربعة، ثم يجعل فيها سيوراً في حافاتها وفي وسطها تمسك بعضها ببعض، ويجعل لها شسعاً وشراكاً. والشسع: هو السير الذي يمسك النعل من الخلف فوق العقب، والشراك: هو الذي يمسك النعل فوق الأخمص وبين الأصبعين، ويربط فوق الأخمص الذي هو وسط القدم، والمنخفض من القدم، ويحتاجون إلى شدها بتلك السيور وإحكامها وعقدها من خلف القدم وفوق الأخمص، فإذا لبسها فمن المشقة عليه أن يخلعها؛ فلأجل ذلك كان يصلي بها، وكان يدخل بها المجالس، ويجلس بها وكذلك صحابته كانوا يصلون بالنعال؛ وما ذاك إلا لأنه يصعب لبسها ويصعب خلعها في كل حين، لما ذكرنا من أنها تحتاج إلى ربط وعقد فوق الأخمص، وكذلك فوق العقب بتلك السيور التي من أسمائها الشراك والشسع، فلأجل ذلك رأى أن من الأسهل عليهم الصلاة فيها.
مشروعية الصلاة بالنعال وشروط ذلك
مشروعية الصلاة بالنعال وشروط ذلك ثم اشترط لذلك شرطاً وهو تفقدها عن الأذى، ففي بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى فيهما أذىً أو قذراً فليمسحه وليصلِّ فيهما) فأمر بتفقدهما، بأن يقلبها وأن ينظر فيها وأن يتحقق من نظافتها ومن نزاهتها، ثم بعد ذلك له أن يصلي فيها. كذلك ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة فيها، أو أمر بذلك مخالفة لليهود، فقال: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم) ، أي: فصلوا في نعالكم مخالفة لهم، فجعل ذلك مقصداً من مقاصد الشريعة. وكان اليهود يتشددون في أمرها، فيخلعونها ولو كان في خلعها صعوبة، ولو كان أيضاً في لبسها شيء من الصعوبة ومن الثقل، فلذلك أمر بمخالفتهم، وأمر بأن يصلى فيها؛ وكل ذلك لأجل المشقة التي ذكرنا في خلعها وفي تجديد لبسها وما أشبه ذلك.
حكم لبس النعال قائما
حكم لبس النعال قائماً وقد ورد في حديث أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل وهو قائم) أي: أن يلبس نعليه وهو قائم؛ ولعل السبب في ذلك صعوبة اللبس؛ لأنها تحتاج إلى أن يشدها فوق الأخمص وفوق العقب، ويربط تلك السيور وتلك الخيوط فيتكلف إذا لبسها وهو قائم، فلذلك أمر بأن يلبسها وهو جالس حتى لا يتكلف ولا يشق عليه، هذه هي الحكمة في ذلك. ذكرنا أن هذا خاص بأحذيتهم الموجودة عندهم، أما أحذيتنا هذه الموجودة فإن خلعها وكذلك لبسها ليس فيه شيء من الصعوبة، بحيث يمكن أن يخلعها وهو قائم ويلبسها وهو قائم، ويمسك شراكها المقدم بأصابعه ولا تسقط منه، فلأجل ذلك قالوا: لو خلعها وهو في هذه الحال فلا إثم. ولو صلى بغيرها فلا إثم، ورأوا أيضاً أن كثيراً من الناس يتساهلون في تفقد الأحذية عند دخولهم المساجد، ورأوا أيضاً أن المساجد فرشت بهذه الفرش، وأنها تتلوث بذلك الغبار الذي تحمله الأحذية، وكذلك ما تحمله من الرطوبة ونحوها فقالوا: لا بأس والحال هذه أن يخلعها عند الأبواب وأن لا يصلي فيها. وبكل حال فلا ينكر على من صلى في نعليه، بل إن ذلك من السنة، بشرط أن يتفقد نعليه، وأن يتأكد من نظافتهما، ولا يشدد في طلب الخلع، ولا يقال: إن من دخل المسجد بنعليه مع نظافتهما إنه فاجر وإنه عاص وإنه وإنه، ما دام لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: لا تلبسوها في البيوت المفروشة أو نحوها. فبكل حال لا ينكر على من خلعها؛ لأنا رأينا أن الناس يتساهلون في تفقدها، وكذلك لا ينكر على من لبسها وصلى بها لما ورد من الأحاديث، وذلك بعد أن يتأكد من صحتها ونظافتها.
اختلاف الناس في شأن النعال
اختلاف الناس في شأن النعال والناس في أمر الأحذية: منهم من يتساهل كثيراً فيدخلون المساجد والبيوت بأحذية ملوثة ودنسة وسخة ولا يتفقدونها، فيحصل بذلك القذر والأذى والتلويث، وربما حمل النجاسات ونحوها. ومنهم من يتشدد وهو الغالب الكثير، وتشدد هؤلاء لا شك أنه تقليد لليهود كما ذكر في الحديث: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم) ، فجاء هؤلاء واستقبحوا هذه الأحذية، واستقذروها واستنقصوا من يدخل المساجد بها، ومن يجعلها أمامه ولو مقلوبة، ورأوا أن الحذاء أقذر الأشياء، ورأوا عيباً كثيراً على من يدخله أي مجلس ولو كان نظيفاً أو نحو ذلك. وصاروا يضربون المثل بالحذاء ودنسه ووساخته فيقولون: فلان لا يساوي أحذيته أو مواطئ النعال، أو ما أشبه ذلك تحقيراً له وازدراء به. نقول: هذا التشدد لا ينبغي، بل الحذاء إذا كانت نظيفة فلا مانع من دخول المساجد بها والمرور فيها بشرط التنظيف ونحو ذلك. وإنما جعلت عند الأماكن وعند الأبواب ونحو ذلك لما رئي من التساهل من بعض الناس أو كثير منهم في تفقد نظافتها. ففي هذا الحديث أنه عليه السلام كان يصلي في نعليه قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، وحدث مرة أنه خلع نعليه في الصلاة فخلع الصحابة نعالهم، فأخبرهم بأن جبريل أخبره بأن فيها قذراً أو أذى فخلعها، فدل على أنه إذا صار فيها شيء من القذر فإنه يخلعها، ويستمر في صلاته، هذا ما يتعلق بصلاته بالنعال.
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة) هذا الحديث يتعلق بشيء من العمل في الصلاة، روى أبو قتادة هذا الحديث وذكر فيه: أن المسلمين بينما هم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الصلاة خرج عليهم وقد حمل هذه الطفلة على كتفه، وهي طفلة هو جدها، واسمها أمامة، وأمها زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوها: أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس وهو أول من صاهر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو زوج زينب بنته تزوجها بمكة، ولم يسلم مع من أسلم، فإن صهره عثمان رضي الله عنه أسلم في أول الأمر، وأما أبو العاص فبقي على دين قومه، وخرج معهم لما خرجوا في غزوة بدر وأسره المسلمون، أو ساقوه وقدموا به المدينة وهو مع الأسرى، وأرسلت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم قلادة من ذهب أو من خرز ورثتها عن أمها خديجة، فأرسلتها في فداء زوجها، فمنّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط عليه أن يبعث إليه زينب فبعث بها. وبقيت عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أسلم أبو العاص فردها عليه، وماتت في حياة النبي صلى الله علي وسلم. والحاصل أنه كان لها هذه الابنة التي هي أمامة (وعندما جاءت أمها من مكة مهاجرة كانت طفلة، وكان عليه الصلاة والسلام يلين مع الأطفال، ويحملهم، ويقبلهم، ولا سيما من له صلة وقرابة، وذلك دليل على كمال شفقته وكمال رقة قلبه مع الأطفال. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي فقال له الأقرع: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فقال: من لا يَرحم لا يُرحم أو قال: أوأملك أن نزع الله من قلبك الرحمة) .
الفوائد المستنبطة من حديث حمله صلى الله عليه وسلم لأمامة وهو يصلي
الفوائد المستنبطة من حديث حمله صلى الله عليه وسلم لأمامة وهو يصلي فمن رحمته ومن شفقته على هذه الطفلة أن تقدم وهو يحملها على كتفه، وسوى الصفوف وهو يحملها، وكبر تكبيرة الإحرام وهي على كتفه، وقرأ حتى أراد أن يركع فوضعها على الأرض، فركع وسجد وهي على الأرض، ولما قام للركعة الثانية قام بها وحملها معه، واستمر حاملاً لها إلى أن ركع فوضعها، فإذا قام حملها وإذا سجد أو ركع وضعها. لا شك أن هذا شيء من العمل، ولكنه عمل يسير فيتسامح به، فاستفاد العلماء من ذلك: أولاً: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم، ورقته ورحمته بالأطفال والصغار. ثانياً: جواز حمل الصبي إذا كانت ثيابه وبدنه طاهرة، ولا شك أنه تأكد من طهارة ثيابها ومن طهارة بدنها؛ لأنه لا يجوز حمل شيء فيه نجاسة في الصلاة، بل لا يحمل النجاسة حتى ولو كانت في قارورة أو في خرقة في جيبه أو نحو ذلك. أما إذا كانت طاهرة فلا بأس، فهذه لا بد أنه تأكد من نظافتها، ومعلوم أن الطفل لا يملك أن يحدث أو مثل ذلك، فحدث الطفل الذي ينقض الوضوء لا يبطل بذلك صلاة من يحمله، فلذلك حملها والحال هذه. ثالثاً: إباحة العمل اليسير في الصلاة، وعمله هنا أنه إذا أراد أن يقوم حملها، وقام وهو حامل لها، وإذا أراد أن يركع وضعها على الأرض بيديه أو بيده، هذا أيضاً شيء من الشغل، وشيء من العمل، فمثل هذا العمل اليسير يتسامح فيه، ويعرف منه أنه لا ينافي الخشوع في الصلاة، وليس في هذه الحركة ما يبطل الصلاة.
الحركة الكثيرة مبطلة للصلاة بخلاف الحركة اليسيرة
الحركة الكثيرة مبطلة للصلاة بخلاف الحركة اليسيرة الحركة المبطلة للصلاة هي الكثيرة المتوالية، كأن يمشي خطوات متوالية لغير حاجة، وكأن يكثر من الالتفات، وكأن يكثر من العمل بيديه في تسوية عمامته، أو تسوية عباءته، أو تسوية شعر رأسه ولفه، أو كثرة حركته بيديه أو تشبيك أصابعه وإدخال بعضها ببعض، أو فرقعتها أي: ليها حتى تصوت، أو كثرة مراوحة رجليه برفع قدم أو وضع قدم، أو شغله مثلاً بشيء يشغل قلبه ككثير من الناس عندما ينظر إلى ساعته التي في ذراعه مثلاً، أو يحرك شيئاً من ثيابه أو من بدنه أو ما أشبه ذلك، لا شك أن كثرة الحركة تبطل الصلاة إذا توالت. ثبت أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً يكثر الحركة، فقال: منذ كم تصلي؟ قال: منذ أربعين سنة، فقال له: (لو مت مت على غير الفطرة) وفي حديث أنه عليه السلام رأى رجلاً كثير الحركة فقال: (لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه) . فأما الحركة اليسيرة مثل هذه الحركة فلا تنافي الصلاة، فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام في صلاة النفل إذا طرقت عائشة الباب تقدم وفتح الباب لها، يعني: خطوة أو نصف خطوة ومد بيده، وفتح الباب لها، هذا أيضاً عمل يسير. وثبت أيضاً أنه عليه السلام كان مرة يصلي وقد بعث أحد أصحابه يلتمس خبراً، فجعل يلتفت إلى ذلك الشعب الذي بعثه إليه، وينظر هل جاء؟ فمثل هذا الالتفات اليسير لا يبطل الصلاة.
الأسباب التي يحصل بها حضور القلب
الأسباب التي يحصل بها حضور القلب وكذلك المصلي مأمور بأن يأتي بالأسباب التي يحصل بها حضور القلب والخشوع في صلاته، وذلك بكثرة الذكر والقراءة وتأمل ما يقول، وكذلك أيضاً بتقليل الحركة وبسكون الأعضاء. فأمر المصلي بأن يجعل يديه على صدره، فيمسك إحداهما بالأخرى، ويضعهما على صدره حتى يسكن حركته، ويصف قدميه ولا يراوح بينهما إلا لضرورة. وأمر أيضاً بأن ينظر إلى موضع سجوده؛ ليكون ذلك أجمع لقلبه حتى لا يتشتت عليه إذا رفع بصره، ونهي عن رفع البصر، وعن النظر إلى السماء، حتى هدد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن) ، وفي رواية: (أو لا ترجع إليهم أبصارهم) . وذلك كله محافظة على أسباب حضور القلب، وعلى الخشوع في الصلاة.
وضع اليدين على الصدر حال القيام من سنن الصلاة
وضع اليدين على الصدر حال القيام من سنن الصلاة من سنن الصلاة قبض اليد اليسرى باليد اليمنى ووضعهما على الصدر أو على البطن، فهذا من السنن وليس من الواجب؛ والدليل على أنه يجوز تركه ما كما في هذه القصة. ومعلوم أن الذي يحمل شيئاً ثقيلاً كحمل الطفل أو نحو ذلك، أنه غالباً يحمله بيد، فاليد الأخرى لا يمكنه أن يقبضها، فدل على أن قبض اليدين ووضعهما على البطن من السنن، وتسقط إذا اشتغل الإنسان بمثل هذا، أو إذا لم يتيسر له ذلك لبعض الأسباب، هذا عند الجمهور. والمذهب المالكي أنه لا يسن، فتجد المالكية يسبلون أيديهم في صلاتهم: يدلون أيديهم، ولا يرفعونها ولا يقبضونها، ويزعمون أن ذلك هو مذهب مالك. وقد ذكر العلماء أن مالكاً رحمه الله لم يكن يقبض يديه لعذر، لا أن ذلك من السنة، وذلك لمرض في يديه؛ لأنه لما أوذي وضرب بأمر بعض الخلفاء كانت الضربات في عضديه وفي يديه وفي ذراعيه وتأثر منها، هذا هو الظاهر، فرأى أن الأيسر والأسهل عليه أن يدلي يديه ويسبلهما في حالة الوقوف بعد الرفع من الركوع. فأخذ ذلك بعض أصحابه وجعلوا ذلك سنة له، واقتدوا به في ذلك، هكذا اعتذر بعضهم، وإلا فقد ثبت في الحديث الذي في الموطأ نفسه أنه نقل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض يده اليسرى بيده اليمنى) ، ولا يليق أن يروي ذلك ويترك العمل به. فعلى كل حال هذا من سنن الصلاة، أو من صفات الصلاة.
شرح عمدة الأحكام [14]
شرح عمدة الأحكام [14] حديث المسيء صلاته من أعظم الأحاديث في بيان أركان الصلاة وواجباتها التي لا تصح إلا بها، وقد شرحه العلماء مبينين دلالاته والرد على من خالف في العمل به.
شرح حديث المسيء في صلاته
شرح حديث المسيء في صلاته قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصل. ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها) ] . هذا حديث في صفة الصلاة، مشتمل على أغلب صفة الصلاة، ولكن القصد منه: الطمأنينة فيها. وذكر في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في ناحية من المسجد ومعه صحابته يعلمهم ويقرئهم ويستفيدون منه، وهكذا كانت عادته في كل صباح غالباً، يجلس ويتوافدون إليه للتعليم، فجاء هذا الرجل فدخل المسجد كغيره، ولما دخل المسجد كان عليه أن يصلي تحية المسجد، فجاء وصلى تحية المسجد ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، ولكنه خففها ولم يتمها. فلما انتهى جاء وسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم, فرد عليه السلام وأمره أن يرجع فيعيد الصلاة، وأخبره بأن هذه الصلاة التي صلى ليست صلاة، ولا تحسب له صلاة، فكأنه لم يصلِّ، وكأنه لم يأت بعبادة، وأمره بأن يعيدها، ثم إنه أعادها المرة الثانية وأعادها المرة الثالثة وكرر ذلك ثلاثاً، ولما صلاّها ثلاث مرات على تلك الحالة، أخبر بأنه لا يعرف غير هذا، وأن هذا منتهى ما يعرفه، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف له الصلاة المجزئة التي إذا فعلها خرج من العهدة وبرئت ذمته، فوصف له صلى الله عليه وسلم الصلاة المجزئة. فأمره بالقيام، ثم أمره بالتكبير، ثم أمره بقراءة ما تيسر من القرآن، ثم أمره بعد ذلك بالركوع وأمره بالطمأنينة فيه، ثم بالرفع من الركوع وأمره بالاعتدال فيه، ثم أمره بالسجود وبالطمأنينة فيه، وأمره بالرفع منه وبالطمأنينة فيه، ووصف له ركعة إلا أنه لم يذكر سوى سجدة في هذه الرواية، وأمره أن يفعل ذلك في كل ركعاته. وهكذا اشتمل هذا الحديث على وصف ركعة، ولكن ليس فيها إلا سجدة، وفي بعض الروايات أنه وصف له السجدة الثانية: أن يسجد سجدتين، وفي بعض الروايات أنه ذكر له الطهارة، قال: (إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله) ، وفي بعض الروايات أنه وصف له الوضوء فقال: (اغسل وجهك ويديك وامسح برأسك واغسل قدميك) ، فكل ذلك مما أخبر به عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث. وصف له هذه الصلاة، وبيّن له أن هذه هي الصلاة المجزئة، وأنه إذا لم يفعل هذا يكون بذلك لم يصل، وكأنه صلى صلاة لا تكفي ولا تجزي. ومباحث الحديث كثيرة لعلنا نتعرض لشيء منها:
وجوب تكبيرة الإحرام وصفتها
وجوب تكبيرة الإحرام وصفتها قوله: (فكبر) ؛ المراد بها تكبيرة الإحرام، ولا شك أنها أمر بها، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبقوله، فكان إذا قام إلى الصلاة يقول: (الله أكبر) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) يعني: أن الصلاة لها تحريم ولها تحليل، فكون الإنسان محرماً بالصلاة يقول: (الله أكبر) ، فإذا كبّر أصبح حراماً عليه أن يعمل ما لا يعمل في الصلاة. وجمهور الأمة على أن تكبيرة الإحرام ركن، وعلى أنه لا يجزئ غيرها بدلها، فلا يجزئ أن يقول: (الله أعظم) ، ولا (الله أجل) ، ولا (الله الأكبر) ، بل لا بد من قول: (الله أكبر) . وذهب بعض الحنفية إلى أنه يجزئ ما يدل على المعنى، ويجزئ عندهم أن يقول: الله أجل، أو الله أمجد، أو الله أقوى. يعني: تأتي كلمة تدل على الكبرياء وعلى العظمة، ولكن معلوم أن الصلاة تعبدية، وأن أفعالها مبنية على النقل، وأنه لا يصح فيها شيء إلا ما ثبت دليله، فلما لم يأت ما يدل على أنه يبدل التكبير بالتعظيم ولا بالتبجيل ولا بالإجلال، دل على أن اللفظة مقصودة. والحنفية يقولون: إن القصد من التكبيرة: استحضار عظمة الله تعالى. فنقول: الكلمة مقصود لفظها ومقصود معناها؛ وذلك لأن المكبر إذا قال: (الله أكبر) فعليه أن يستحضر مدلول هذه الكلمة، وهو كبرياء الله وعظمته وجلاله وهيبته، ويوجب له ذلك تبجيله وتعظيمه، ويوجب له ذلك حضور قلبه وخشوعه وخضوعه بين يدي ربه؛ لأنه إذا قال: (الله أكبر) تمثّل أن الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأن المخلوقات صغيرة وحقيرة بين يديه، وحقيرة بالنسبة إلى عظمته، فيحتقر المخلوق، ويعظم الخالق، وعند ذلك يخبت إلى الله وينيب إليه، ويخشع ويخضع بين يديه. وهذا هو المقصود من استفتاح هذه الصلاة التكبير.
استحباب دعاء الاستفتاح
استحباب دعاء الاستفتاح قوله: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) لم يذكر في هذا الحديث دعاء الاستفتاح، وهو قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) أو قول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) وقد ذكر في أحاديث أخرى، وقد استدل بتركه هنا على أنه ليس من الواجبات بل هو من المستحبات، ولو تركه عمداً ما بطلت الصلاة بتركه ولكنه سنة مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك يتأكد أن يستفتح وأن يواظب على هذا الاستفتاح إذا تيسر له. بأي نوع يستفتح؟ ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بقوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلى آخره، وتارة يستفتح بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل) إلى آخره، وتارة بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره، فأيها استفتح به أجزأ ذلك إن شاء الله. ولكن اختار الإمام أحمد الاستفتاح بقول: (سبحانك اللهم) ؛ لأنه ثناء ولأنه مختصر. ورجح بعض العلماء أنه يأتي بهذا تارة، وبهذا تارة؛ حتى لا يترك شيئاً من السنة، ولا يهجر شيئاً مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجوب قراءة الفاتحة
وجوب قراءة الفاتحة أما القراءة فلم يذكر في هذا الحديث قراءة الفاتحة، وقال: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وقد استدل بذلك بعض الحنفية على أن قراءة الفاتحة ليست بواجبة، بل الواجب جنس القراءة، واستدلوا أيضاً بالآية الكريمة في سورة المزمل، وهي قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] . ولكن دلت أحاديث أخرى على أنه يجب قراءة الفاتحة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، وفي حديث آخر: (صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) فأخذ من هذا أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد، وأما المأموم فإنها مستحبة في حقه، وذلك لأنه قد يكون مع الإمام والإمام يقرأ، وهو مأمور بأن ينصت لقراءة إمامته، فإن تيسر له قراءتها في سكتات إمامه قرأها، وإن لم يتيسر له اقتصر على قراءة الإمام. وذهب بعضهم إلى أنه يقرأ ولو قرأ الإمام، وروي ذلك عن أبي هريرة لما قيل له: إني أكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، واستدل بحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) ، وبكل حال فيتأكد قراءتها لمن خلف الإمام في سر وفي جهر. أما من يقول: إنها كغيرها من السور الأخرى، فأخذوا بظاهر هذا الحديث؛ ولعله صلى الله عليه وسلم لم يذكر الفاتحة؛ لأنها معلومة مشهورة، أو لأن ذلك الرجل قد علم حكمها من فعلها المتكرر، فإن الصحابة كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحوالهم، ولم يتركوا قراءة الفاتحة، وكانوا يعرفون حكمها من قوله ومن فعله، فبذلك يعلم أنه ما ترك تعليم الفاتحة أو ذكر الفاتحة إلا لكونها معلومة مشهورة.
وجوب الركوع
وجوب الركوع بعد ذلك ذكر الركوع، ومعناه: الانحناء من قيام إلى أن تصل يداه إلى ركبتيه، ولا شك أنه ركن في الصلاة، وقد أمر الله تعالى به في عدة آيات، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] ، وفي قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] وفي قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] . والركوع وهو الانحناء من القيام وهو عبادة من العبادات، بل هو من أجل العبادات، وما ذاك إلا لما فيه من الانحناء وما فيه من الذل والخضوع بين يدي الرب سبحانه وتعالى، فإنه في تلك الحال يكون مخبتاً منيباً متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه، خاضعاً بين يديه، قد خفض رأسه، فلذلك يأتي فيه بالذكر المناسب، فيقول فيه: سبحان ربي العظيم، فكأنه يقول: أنا الذليل وأنت العظيم، أنا العبد وأنت المعبود، أنا العبد وأنت المالك، فأنت مالكي وأنت ربي، أنا المربوب وأنت رب العباد، فأنا أعظمك حق التعظيم. وقد ورد في حديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أما إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) . يعني: حريٌ أن تستجاب دعواتكم، فأمرهم في الركوع بأن يعظموا الرب، ولأجل ذلك يسن أن يؤتى بالأذكار التي فيها تعظيم لله تعالى، وتسبيحه، وتنزيهه وتقديسه، وكل ذلك ليستحضر العبد عظمة ربه، وأنه خاشع خاضع واقف بين يديه، فيوجب له ذلك الانكسار الذي يوجب رحمة الله تعالى، وورد في حديث: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) وإذا انكسر القلب تواضع الجسم، فيكون ذلك سبباً في نزول الرحمة.
وجوب الطمأنينة
وجوب الطمأنينة وفي هذا الحديث الأمر بالطمأنينة، في قوله: (حتى تطمئن راكعاً) والطمأنينة هي الركود وذلك بأن يتمكن ويركد. وتمام الركوع هو أن تمس يداه ركبتيه، وكماله: أن يلقم كل ركبة يداً، وأن يفرق أصابعه، وأن يمسك ركبتيه إمساكاً قوياً، وأيضاً: أن يمد ظهره ويجعله مستوياً ويجعل رأسه بحياله، فلا يرفعه ولا يخفضه، بل يجعل ظهره مستوياً بحيث لو وضع عليه قدح لركد ولم يمل هاهنا أو هاهنا. ومقدار الطمأنينة: بقدر ما يقول: سبحان ربي العظيم مرة باطمئنان لا بعجل، هذه حقيقة الطمأنينة المذكورة في هذا الحديث. إذاً: الطمأنينة: الركود والركون. أي: حتى تطمئن وتركد وتركن وتقف. يعني: حتى يتحقق أنك ركنت، وهذا دليل على أن الطمأنينة ركن، وهي التي أنكر على ذلك الرجل الذي أساء صلاته، ولم يحسن أن يأتي بها، فلذلك قال: (فإنك لم تصل) لما لم يأت بهذه الطمأنينة. وذهب جمهور الأمة إلى أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، ولكن روي عن بعض الحنفية أنهم يوجبون الطمأنينة وأنه يجوز عندهم الصلاة بلا طمأنينة، وعليه: فكثير من الذين يدعون أنهم على مذهب أبي حنيفة لا يطمئنون، فلا يصل أحدهم إلى الركوع حتى يرفع، ولا يرفع حتى ينخفض، ولا يسجد ويصل الأرض حتى يرفع، فإذا مست جبهته الأرض رفع بسرعة، وإذا انحنى رفع بسرعة فيترك ركناً أكده النبي صلى الله عليه وسلم، ويدّعون أن أبا حنيفة لم يوجبه. فيقال لهم: لعل أبا حنيفة لم يفصح بترك ذلك، ثم أيضاً ارجعوا إلى فعل أبي حنيفة رحمه الله فقد كان كثير العبادة، وقد كان كثير الصلاة، وأبو حنيفة الذي تقتدون به وتخففون الصلاة ما اقتديتم به في كل الحالات، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يقوم الليل كله حتى أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة أو قريباً منها، ولا شك أنه يطيل أركان الصلاة، فربما تكون الركعة في نصف ساعة أو نحوها، ولا شك أنه يطمئن فيها، ولم ينقل أيضاً في أفعاله أنه كان يخفف صلاته، فهؤلاء الذي يقتدون به ما اتبعوه حقاً. يمكن أنه نقلت عنه رواية أن الطمأنية ليست واجبة، ولكن الرواية قد تكون في وقت له مناسبة، فأخذها هؤلاء وقالوا: الطمأنينة ليست ركناً وليست واجبة، حتى نقول لهم: هل حرمها أبو حنيفة؟ وهل كرهها؟ وهل نهى عنها؟ وهل كونه يقول في هذه الرواية: إنها ليست ركناً، يقتضي أنكم تنقرون الصلاة، وتخففونها التخفيف الذي قد يبطلها. اعتبروا بهذا الحديث الذي قال فيه: (فإنك لم تصلِّ) ، وتذكروا أن نبينا صلى الله عليه وسلم نهى عن التخفيف الزائد وسماه نقراً، ونهى عن نقر كنقر الغراب، ولا شك أن الذي ينقر الصلاة لا يصل إلى الأرض إلا وقد رفع، فيكون شبيهاً بالغراب، ونهى صلى الله عليه وسلم عن النقر في الركوع وفي السجود، فلينتبه المسلم إلى ذلك.
شرح عمدة الأحكام [15]
شرح عمدة الأحكام [15] أمر الله تعالى بقراءة القرآن في الصلاة، وجعل القراءة ركناً من أركانها، وقد جاء في السنة تحديد مقدار التطويل والتخفيف في ركعات الصلاة، وبين العلماء السنة في ذلك، وكل ذلك مما ينبغي للمصلي معرفته.
القراءة في الصلاة
القراءة في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [باب القراءة في الصلاة: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين في صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، يُسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى في صلاة الصبح ويقصر في الثانية) . وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور) ] .
حركات الصلاة كلها عبادة
حركات الصلاة كلها عبادة معلوم أن الصلاة عبادة، وأن الصلاة عبادة يتعبد بها وفيها حركات وكلمات، ونيات، فتشتمل على عبادة القلب، وعبادة الأركان، وعبادة اللسان، فأما عبادة القلب فهي القصد والنية حتى يكون مثاباً على العمل إذا كانت النية خالصة. كذلك من عبادة القلب حضوره بين يدي الرب في هذه العبادة وتأمله وتعقله لأحكامها ولأقوالها. وأما عبادة البدن فالعين لها عبادة، والأذن لها عبادة، واليد لها عبادة، وكذلك الرجلان وأعضاء السجود والظهر كانحنائه في الركوع، وسجوده على الأعضاء السبعة، وقيامه في أول الصلاة، وقبضه ليديه وجعلهما على صدره، ورفعهما عند الرفع من الركوع، فكل ذلك عبادة. فحركاته في هذه الصلاة بأعضائه تعتبر عبادة، أما اللسان فعبادته بالقول واللفظ، ولذلك ليس في الصلاة سكوت، إلا لاستماع قراءة الإمام أو دعائه ونحو ذلك، وإلا فهو مأمور من حين يكبر إلى أن ينتهي بأن يأتي بأذكار أو بدعوات ولا يسكت.
الصلاة ذكر وقراءة ودعاء
الصلاة ذكر وقراءة ودعاء وكلامه في الصلاة إما ذكر وإما قراءة وإما دعاء، ولا يخلو عن هذه، فلا يخلطها بشيء من كلام الناس، ولأجل ذلك لما تكلم الأعرابي في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم دعاه ونبهه وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الدعاء والذكر وقراءة القرآن) . فجعل الكلام الذي يأتي به إما ذكر كالتسبيح والتحميد والتهليل والتعظيم والاستغفار، وإما دعاء بالمغفرة وبالرحمة ودخول الجنة وبالنجاة من النار ونحو ذلك، وإما قراءة لما تيسر من القرآن كما أمر الله بذلك. وحيث إن الباب للقراءة فمعلوم أن القراءة لا تكون إلا من هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي هو معجزته التي تحدى بها الله تعالى البشر، هذه المعجزة هي الباقية وهي كلام الله الذي هو أشرف الكلام، والذي جعل الله تلاوته عبادة وقربة تقرب إليه سبحانه.
قراءة الفاتحة في الصلاة
قراءة الفاتحة في الصلاة وورد في بعض الأحاديث: (أحب ما تقرب به العبد إلى الله ما خرج منه وهو القرآن) فإذا كان يتعبد به خارج الصلاة فكذلك في الصلاة. ثم ذكر العلماء أن أعظم سور القرآن سورة الفاتحة، وسميت بفاتحة الكتاب؛ لأنها كتبت في أوله، واستفتح بها القرآن، فقد ثبتت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها في الصلاة فرضاً ونفلاً، وكذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكد قراءتها وحث على قراءتها وأخبر بآكديتها. فعندنا هذا الحديث الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، وهذا ظاهر في أن صحة الصلاة تتوقف على قراءة الفاتحة، وإذا كان كذلك فإنها تعتبر ركناً، فإن الركن هو الذي يتوقف صحة الصلاة عليه، فعرف بذلك أن قراءتها لا تتم إلا بها. وقد ذهب إلى ذلك جماهير الأمة وأشهر علماء الأمة؛ فقالوا: لا تصح الصلاة إلا بقراءة الفاتحة، وقد تقدم في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته. وأجاز الحنفية قراءة قدرها من غيرها، فقالوا: إذا قرأ قدر الفاتحة من السور الأخرى اكتفي بذلك، واستدلوا بما في حديث المسيء صلاته حيث قال: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) واستدلوا أيضاً بالآية وهي قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] . ولكن الآية محمولة على ما زاد على الفاتحة. يعني: أكثروا أو أقلوا على حسب ما تيسر. وقد ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم علم المسيء صلاته ما أخل به، وما كان يجهله، وقد كان مشتهراً أن فاتحة الكتاب لا تتم صلاته إلا بها، لكونهم كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهرية ويسمعون قراءته، ويعرفون أنها لا تتم إلا بها.
حكم قراءة الفاتحة للمأموم
حكم قراءة الفاتحة للمأموم وقد ذهب بعض العلماء كالإمام البخاري إلى أنها لا تتم صلاة إمام أو مأموم أو منفرد إلا بفاتحة الكتاب، فاشترطها حتى على المأموم، ولم يفرق بين المأموم في صلاة جهرية أو سرية. لذلك اختلفوا في الصلاة الجهرية: هل يقرأ المأموم خلف الإمام أم لا يقرأ؟ وكثر الاختلاف في ذلك. فذهب قوم إلى أن كل إنسان عليه أن يقرأ الفاتحة، إماماً أو مأموماً في جهر أو في سر؛ ودليلهم في ذلك حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فإن كلمة (من) يدخل فيها كل مصل، واستدلوا أيضاً بالحديث الآخر: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، خداج، خداج غير تمام، فقال قائل: يا أبا هريرة: إني أحياناً أكون خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) إلى آخر الحديث، فاستدل بأن كل أحد يقرأ الفاتحة ويجيبه الله بقوله: (حمدني عبدي أثنى عليّ علي عبدي مجدني عبدي هذا بيني وبين عبدي هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) يعني في حديث: (قسمت الصلاة) وذكر الفاتحة فسماها صلاة، فدل على أن كل أحد ينطق بالفاتحة حتى يجيبه الله تعالى بقوله: (حمدني عبدي) إلى آخر ذلك. فهذا دليل على أن كل أحد عليه أن يقرأ الفاتحة إماماً أو مأموماً. وقد ذهب أكثر العلماء: إلى أن المأموم تكفيه قراءة الإمام سواء في سرية أو في جهرية، وجعلوا قراءته إنما هي فرض على الإمام وحده، واستدلوا بحديث يروى بلفظ: (من كان له إمام فقراءته له قراءة) أي أن قراءة الإمام قراءة للمأموم، ولكن الحديث فيه مقال، فلأجل ذلك لم يعتمده أكثر العلماء. وذهب آخرون -ولعله الأقرب- إلى أن الصلاة الجهرية يتحمل فيها الإمام القراءة على المأموم إذا لم يتيسر للمأموم قراءتها، وأما الصلاة السرية فإن المأموم يأتي بالقراءة فيها كما يأتي بها الإمام، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] . يقول الإمام أحمد: أجمعوا على أنها في الصلاة. يعني: أن الإنصات الذي أُمرنا به في الصلاة. وكذلك في حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) ، والإنصات هو الاستماع، والذي يقرأ الفاتحة خلف الإمام لا يكون منصتاً. يعني: مستمعاً لما يقول؛ وذلك لانشغاله بالقراءة، فهذا دليل على أنه مأمور بالإنصات ولو بفاتحة الكتاب.
السكوت بعد قراءة الفاتحة
السكوت بعد قراءة الفاتحة ذهب كثير من العلماء إلى أنه يستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة خفيفة يقرأ المأموم فيها الفاتحة، ورويت هذه السكتة في حديث سمرة وغيره أنه قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين: إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال: (وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] سكت هنيهة) أو كما قال. وبعض العلماء لم يستحب هذه السكتة، ويواصل قراءة السورة بقراءة الفاتحة، وحجتهم أنهم قد اختلفوا فيها فلم يثبتها إلا بعضهم، ولو كانت ثابتة لما اختلفوا فيها، وحيث ورد إثباتها فقد استحبوا أن يسكت ولكن لا يطيلها، وإذا سكت الإمام ابتدر المأموم وقرأ ما قدر عليه من الفاتحة، فإذا ابتدأ الإمام في قراءة السورة بعدها فإن كان قد بقي عليه آية أو آيتان كملهما ولو مع قراءة الإمام، وإلا اكتفى بقراءة الإمام ولم يكمل، وقطع القراءة، هذا هو الأقرب. وعلى كل حال، فقراءة الفاتحة في حق المأموم فيها هذا الخلاف، فنقول: الأولى إذا كنت في سرية كالظهر والعصر والأخيرة من المغرب والأخيرتين من العشاء فإنك تقرأ، ولا تسقط عنك القراءة؛ لأن الإمام لا يسمعك قراءته، وإذا كنت في الجهرية كالأولتين من المغرب، والأولتين من العشاء، وصلاة الصبح، فإن سكت الإمام فاقرأ الفاتحة، وإن لم يسكت فإنها تسقط عنك، وإن قرأتها سراً -كما قال أبو هريرة - جاز ذلك إن شاء الله.
مقدار القراءة في الصلاة
مقدار القراءة في الصلاة الصلاة السرية، وهي صلاة الظهر والعصر، جاء في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما بسورتين، وأنه كان يسمعهم الآية أحياناً، وأنه يطيل في الأولى ويقصر في الثانية. يعني: في صلاة الظهر وصلاة العصر، وأنه يقرأ في الركعتين الأخيرتين الفاتحة فقط، فلأجل هذا الحديث ذهبوا إلى أنه يطيل الركعتين الأوليين أكثر من الأخريين. وقد قدرت القراءة فيهما بأنه يقرأ في الركعتين الأوليتين من الظهر بنحو سورة السجدة، التي هي قريب من ورقة ونصف. أي: ثلاث صفحات، يقرأها ويقسمها بين الركعتين، ولكنه يطيل في الأولى ويقصر في الثانية، ومعنى ذلك أنه يقرأ في الأولى صفحتين وفي الثانية صفحة، أو قريباً من ذلك. أما إذا شق على المأمومين فإنه يقرأ ما يناسبهم، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ذكر إطالة صلاة الظهر وبالأخص الركعة الأولى، قال: (كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب أحدنا إلى البقيع خارج المدينة فيقضي حاجته ثم يأتي إلى بيته فيتوضأ، ثم يذهب إلى المسجد فيدركهم في الركعة الأولى مما يطيلها) ، وهذه المدة قد تستغرق عشر دقائق في الركعة الأولى، مما يدل على أنه كان يطيلها أحياناً، ولعل ذلك لأجل أن يتداركوها وأن يلحقوا الركعة الأولى والصلاة كلها، ولعل ذلك لأن صلاة الظهر تقع في شدة الحر، والناس مكتنون في بيوتهم يحتاجون إلى مدة لقضاء حاجة أو لوضوء أو ما أشبه ذلك، فلعله لهذا تسن إطالة صلاة الظهر في الركعة الأولى أكثر من الثانية. أما الركعتان الأخيرتان فاتفق في هذه الرواية وغيرها على أنه يقتصر فيهما على الفاتحة في الركعتين الأخيرتين من الظهر، وكذا الأخيرتان من العصر. أما الأولتان من العصر فيقرأ فيهما بسورتين، ولم تقدر تلك السورتان، ولكن ورد في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أنه قدرهما بنحو ورقة ونصف. أي: صفحة ونصف، أي: قدر نصف سورة (السجدة) ، وذلك على وجه التقريب. فهذا يدل أيضاً على أنه يقرأ فيها أكثر من الفاتحة وسورة. يعني: يقسم السورة بين الركعتين أو يقرأ في كل ركعة سورة، وهو الأكثر.
الحكمة من جعل صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية
الحكمة من جعل صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية وعلى كل حال حيث إن الصلاة سرية فإن للإمام أن يقرأ ما يشاء، فيقرأ سورة أو بعض سورة أو بعضاً من سورة من وسط سورة أو ما أشبه ذلك، والأمر فيه سعة؛ وذلك أن هذه الصلاة شرعت سرية ليكون كل إنسان يناجي ربه، ويقرأ القرآن لنفسه، ويقبل على قراءته ويتأمل ويتعقل فيها. أما النهار فإن الأشغال فيه كثيرة، والحرف والأعمال قائمة، فالقلب منشغل، فلو كان هناك قراءة جهرية لكان الناس غالباً يسهون ويغفلون، فلا ينصتون لقراءة الإمام ولا يستفيدون، فإذا قرأ الإنسان بنفسه كان ذلك أدعى إلى أن يتأمل ويتعقل ما يقوله وما يقرؤه، ويستفيد من قراءته. أما الليل فشرعت والقراءة فيها جهراً؛ ولعل ذلك لأن الليل تنقطع فيه الشواغل غالباً، فحينئذٍ بكون القلب متفرغاً، فيسمع القراءة ويستفيد، ليسمع قراءة الإمام للفاتحة وقراءة السور ويتعقلها ويعرضها على قلبه، ويستفيد منها، ويتعلم ما كان يجهله عندما يسمع القراءة مرة بعد مرة، ويسمع سورة مراراً يحفظها، ويتزود من حفظ ما كان لا يحفظه، فيكون ذلك سبباً في التلقي والحفظ، فهذا هو سبب كون هذه سرية وهذه جهرية. والقراءة الجهرية معروف أنها الأولتين من المغرب والأولتين من العشاء وكذلك صلاة الصبح، وكذلك الصلوات العابرة كصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، فهذه كلها جهرية؛ ولعل السبب في ذلك أنها عابرة وأن الجمع فيها كثير فشرع الجهر بها حتى يسمع القرآن، ويستفيد منه من لم يكن قد استمعه. والجمعة تجمع خلقاً كثيراً، وقد يكون منهم من لم يسمع القراءة كما ينبغي، ولا يسمع إلا قراءة سورة قصيرة أو يسمعها محرفة، فإذا سمع يوم الجمعة استفاد مما يسمع، وهكذا في الصلوات الأخرى.
الإطالة في الصلاة
الإطالة في الصلاة المشروع في الصلاة: القراءة بخشوع، وبتأمل، وبتعقل وبتدبر، وليس العجلة، كما أنه يشرع إطالة القراءة فيها بحسب ما يتحمله الناس، وقد تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم حث معاذاً على أن يخفف، وقال: (أفتان أنت يا معاذ) وقال: (أيكم أم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة) . ولكن التخفيف الذي أراده التخفيف النسبي. أي: بالنسبة إلى قراءة معاذ وما أشبهها، ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يطيل، فإطالته بالنسبة إلى قراءة أئمة زماننا تعتبر إطالة، وتعتبر أن في قراءتهم اختصاراً زائداً. كذلك أيضاً: تعتبر صلاته تخفيفاً بالنسبة إلى صلاة المطولين كثيراً. وعندنا مثال في هذا الحديث الذي سمعنا: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الطور) ، وسورة الطور من طوال المفصل، والمفصل يبدأ من سورة (ق) . أي: فهي الثالثة من سوره، وهي من طوال المفصل. ولنفرض أنه قرأها في الركعتين، أي: قسمها، مع أن الغالب أنه كان يقرأ في كل ركعة سورة كاملة، وكان أحياناً يقرأ في الركعة سورتين يقرن بينهما، ويقرأ سورة ثم يقرأ سورة أخرى في ركعة واحدة من المفصل، وربما من غير المفصل، كما قرأ سورة الواقعة والدخان في ركعة، وسورة الذاريات والقلم في ركعة، يعني: من صلاة الصبح.
الترتيل والتدبر في القراءة
الترتيل والتدبر في القراءة وكان أيضاً يتأمل ويرتل قراءته، وهذه في صلاة المغرب، وقد ثبت أيضاً أنه قرأ بأطول من ذلك، فقرأ فيها بسورة الأعراف التي هي أكثر من جزء وربع، وسورة الأعراف قرأها في صلاة المغرب، وقسمها في الركعتين، فهذا دليل على أنه كثيراً ما يطيل في صلاة المغرب التي اعتاد كثير من الناس تخفيفها، فلا يستنكر على من أطال فيها. وكذلك في صلاة العشاء ذكروا أن قراءته تكون متوسطة بين المغرب التي يخفف فيها وبين الفجر التي يطيل فيها.
شرح عمدة الأحكام [16]
شرح عمدة الأحكام [16] المصلي معرض للسهو والنسيان والشك في صلاته بالزيادة أو النقصان، وقد وقع السهو للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يبين لأمته ما تفعله إذا سهت، وهذا ما بينه العلماء وذكروا أحكامه مسترشدين بالأحاديث.
سجود السهو وما يتعلق به من أحكام
سجود السهو وما يتعلق به من أحكام قال المؤلف رحمه الله: [باب سجود السهو: عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال ابن سيرين وسماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا- قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: أقصرت الصلاة؟! وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟! قالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلم؟ قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم) . العشي: ما بين زوال الشمس إلى غروبها، قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] . وعن عبد الله بن بحينة وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم) ] .
معنى سجود السهو وحكمة سهو النبي صلى الله عليه وسلم
معنى سجود السهو وحكمة سهو النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب عقد لسجود السهو، والسهو: هو النسيان في الصلاة بزيادة أو بنقص أو بشك، والإنسان محل النسيان، وقد حدث هذا النسيان للنبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الباب في هذين الحديثين وفي غيرهما، والحكمة في ذلك معرفة الحكم، أي أنه حدث هذا النسيان وهذا السهو من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعرف حكم النسيان في حق غيره؛ وذلك لأنه إذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم فسجد له عرفنا كيف نفعل إذا وقع لنا، فوقع هذا النسيان الذي حصل منه صلى الله عليه وسلم لهذه الحكمة. ولعله صلى الله عليه وسلم كان قد اشتغل فكره بتأمل ما يقوله أو ما يفعله من الأمور الأخروية التي هو مقبل عليها، فشغله ذلك عن عدد الركعات ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه هذا، ثم اعتذر في بعض الروايات، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) ، وقال في بعض الروايات: (إنه لو حدث شيء في الصلاة لأخبرتكم) .
شرح حديث ذي اليدين في السهو
شرح حديث ذي اليدين في السهو في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم إحدى صلاتي العشي سماها أبو هريرة ونسيها الراوي، وأكثر الروايات على أنها صلاة العصر، وفي رواية أنها الظهر، فالراوي شك فيها هل هي الظهر أو العصر؟ وسميت صلاة العشي؛ لأنها في آخر النهار، فالنهار ينقسم إلى قسمين: أوله يسمى بكرة، وآخره يسمى عشياً، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] (بكرة) يعني: أول النهار إلى الزوال، (وعشياً) يعني: آخر النهار من الزوال إلى الغروب. وصلاة العشي هما صلاتا الظهر والعصر، إحداهما وقع فيها أنه صلى بهم ركعتين وترك ركعتين، واستمر في التشهد وسلم بعد ركعتين، ولما سلم ظنوا أنه حدث في الصلاة شيء؛ لأنهم لم يعهدوا ذلك من قبل، فقد كان دائماً يصلي بهم أربعاً ولم يحدث أن اقتصر على ركعتين، فظنوا أن الصلاة قد قصرت. و (خرج السرعان) أي: الذين يخرجون سريعاً دائماً، خرجوا من الأبواب وهم يقولون: (قصرت الصلاة، قصرت الصلاة) يعتقدون أنه نقص عددها، وأنها رجعت إلى ركعتين، وكان الحاضرون قد توقفوا في الأمر. النبي صلى الله عليه وسلم قام من مصلاه الذي صلى فيه، وكان هناك خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع إحدى يديه على الأخرى، وأدخل أصابعه بعضها في بعض أي: شبك بينهما وفهموا منه أنه غضبان، أو أنه قد أتاه ما يشغله أو ما يسوءه من أمر شغل باله عن عدد الركعات، ففهموا أنه غضبان، ولم يجرؤ أحد أن يتكلم حتى أبو بكر وعمر، فتجرأ هذا الرجل وهو ذو اليدين ويقال له: الخرباق وكان في يديه طول؛ فتجرأ وقال: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟!) يعني: لا بد من أحدهما. فالنبي عليه الصلاة والسلام على ما يعرف، قال: (لم أنس ولم تقصر) يعني: في نظري أني لم أنس، ولم يأت ما يغيرها ولم تقصر، فكرر عليه وقال: (بلى قد نسيت) يعني: إما أنك نسيت وإما أنها قصرت، فلما تأكد أنها لم تقصر، عرف أنه وقع نسيان فسأل الحاضرين: (أكما يقول ذو اليدين؟) فلما استقروا على أنه قد ترك من الصلاة ركعتين قام وصلى الركعتين اللتين تركهما، وبعد ذلك سلم بعدما صلاهما، ثم سجد سجدتين وأطال فيهما يعني: مثل سجوده المعتاد أو أطول بقليل ثم سلم. هذا الحديث يعرف بحديث ذي اليدين؛ لأنه اشتهر فيه ذكر ذي اليدين. في بعض الروايات أنه دخل بيته وأن ذا اليدين طرق عليه الباب كما في حديث عمران، وأنه صلى الله عليه وسلم خرج مسرعاً وأنه قال: (إن هذا قال: إني تركت ركعتين) فاستدلوا بهذا الحديث على أن الفاصل اليسير لا تبطل به الصلاة فإن هاهنا فصلاً، وهو أنه قام من مكانه وجلس في مكان آخر واستقبل القبلة ومشى وقعد وتكلم وكلموه، ثم بعد ذلك رجع إلى مصلاه ولم يعد ذلك مبطلاً مع كونها حركات من غير جنس الصلاة، وكذلك الذين خرجوا من سرعان الناس خرجوا وهم يعتقدون أن الصلاة قد قصرت وقد تمت، واستدبروا القبلة وتكلموا فيما بينهم ومشوا مشياً قليلاً أو كثيراً، ومع ذلك رجعوا وبنوا على ما مضى من صلاتهم ولم يعدوا هذا الفاصل من المشي والكلام مبطلاً للصلاة. في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعدما سلم من الركعتين اللتين تركهما، ثم سلم تسليمتين، كأنه انتهى من الصلاة، ثم سجد سجدتين يكبر لكل سجدة ويسجد، ويطيل سجوده كسجود الصلاة أو أطول ثم يرفع، ثم بعد ذلك سلم كما في حديث عمران بن حصين فيكون سلم ثلاث مرات: المرة الأولى: لما صلى الركعتين وسلم قبل أن يكمل صلاته. المرة الثانية: لما أكمل ما بقي من صلاته. المرة الثالثة: لما سجد للسهو.
موضع سجود السهو عند الإمام أحمد رحمه الله
موضع سجود السهو عند الإمام أحمد رحمه الله قد اختلف العلماء في مواضع سجود السهو، فالإمام أحمد رحمه الله يقول: إن سجود السهو كله قبل السلام إلا في ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص. الحالة الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه. الحالة الثالثة: إذا ذكره بعد السلام، ذكر ذلك صاحب كتاب (عمدة الفقه) وغيره من العلماء. أما ما سوى ذلك فإنه يسجد قبل السلام؛ وذلك لأنّا جعلنا سجود السهو جزءاً من الصلاة، والصلاة تنتهي بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) فإذا سلم فقد انتهت صلاته، لكن يستثنى من ذلك هاتان الحالتان: إذا سلم عن نقص، وإذا بنى على غالب ظنه. حديث أبي هريرة هذا فيه حالة من تلك الحالتين، وهو كونه سلم عن نقص، حيث نقص من صلاته ركعتين، فمن صلى الظهر ثلاثاً ثم سلم جاء بالرابعة ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم، ومن صلى الظهر ركعتين ثم سلم ناسياً جاء بالركعتين اللتين تركهما ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم، ومن صلى المغرب ركعتين ثم سلم ناسياً جاء بالثالثة ثم سلم، ثم سجد ثم سلم، فمن سلم قبل تمام الصلاة ساهياً أتى ببقية الصلاة ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم. الحالة الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه، كما إذا صليت بجماعة ثم إنك في أثناء الصلاة شككت هل صليت ثلاثاً أم أربعاً؟! وأغلب ظنك أنها ثلاث، فبنيت عليها، ثم قمت وأتيت بالرابعة وسكت عنك المأمومون ولم ينبهوك، فإذا انقلب ظنك الغالب إلى يقين فإنه لا حاجة إلى سجود، وأما إذا لم ينقلب بل بقي معك ظن ولكنه ليس بظن اليقين، بل لا يزال معك شيء من الشك، ففي هذه الحالة تفعل ما ذكر، فتسلم ثم تسجد ثم تسلم. الحالة الثالثة: إذا لم يتذكر السجود إلا بعد السلام، كما إذا كان عليه سجود سهو لترك تسبيح وما أشبه ذلك، ثم سلم ناسياً ثم ذكروه، فإنه يسجد بعدما يسلم.
المواضع التي يسجد فيها للسهو قبل السلام عند أحمد
المواضع التي يسجد فيها للسهو قبل السلام عند أحمد أما حديث ابن بحينة ففيه أيضاً حالة أخرى وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لما صلى بهم ركعتين وانتظروا أن يجلس قام، ولم يجلس في التشهد الأول، فقالوا: سبحان الله! فلم يرجع، ثم إنه لما انتهى من صلاته وانتظروا تسليمه سجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم، فهذا سهو بترك التشهد الأول. وقد استدلوا بهذا الحديث على أن التشهد الأول من الواجبات وليس من الأركان، فإن الأركان لا تسقط، بل لا بد من الإتيان بها، فلما أسقطه وجبره بسجود السهو دل على أنه من واجبات الصلاة، وواجبات الصلاة هي التي تجبر بسجود السهو، فمن ترك التشهد الأول سجد له، كما أن من ترك قول: (سبحان ربي الأعلى) ، أو قول: (سبحان ربي العظيم) أو قول: (سمع الله لمن حمده) فإنه يسجد لها؛ لأن هذه من الواجبات. كذلك بقية واجبات الصلاة الثمانية المعروفة إذا تركت فإنه يسجد لها ثم في هذا الحديث أن سجود السهو كان قبل السلام، لأنه تشهد ولم يبق عليه إلا أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، فلما سجدهما سلم بعدهما، فدل على أن ترك هذه الواجبات يسجد له قبل السلام، وكذلك بقية أنواع السهو كما إذا زاد ركناً أو زاد ركعة ساهياً، أو زاد صفة من صفات الصلاة، أو شك في شيء من الواجبات، أو ترك واجباً أو نحو ذلك، فالسجود له كله يكون قبل السلام؛ لأن السجود في الأصل جزء من الصلاة، والأصل أن جزء الصلاة يتصل بها فلا يفصل بينه وبينها شيء.
مذاهب العلماء في موضع سجود السهو
مذاهب العلماء في موضع سجود السهو وقد ذهب بعض العلماء إلى أن سجود السهو كله قبل السلام، وجعله جزءاً من الصلاة، بينما ذهب آخرون إلى أنه كله بعد السلام، وجعلوه شيئاً زائداً على الصلاة، فيسلم ويأتي به بعد أن يسلم؛ لأنه يعتبر جابراً للسهو، وقد ورد السجود قبل السلام في حديث أبي هريرة. وجاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم إذا أقيمت الصلاة فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل فلا يدري كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فإذا وجد ذلك فليجعلها ثلاثاً، وليأت برابعة ثم ليسجد سجدتين، فإن كان صلى خمساً شفعت له صلاته، وإن صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) أي: فهاتان السجدتان تكونان ترغيماً وإذلالاً للشيطان، فجعل هاتين الركعتين جابرة للنقص الذي حصل بهذا السهو، فهو بمنزلة تكميل النقص الذي يحتاج إلى تكميل.
إذا نسي الإمام التشهد الأوسط وتذكره قبل تمام القيام أو بعده
إذا نسي الإمام التشهد الأوسط وتذكره قبل تمام القيام أو بعده تكلم العلماء على ترك التشهد الأول فقالوا: إذا قام الإمام من الركعة الثانية للثالثة ولم يجلس وتذكر قبل أن يستتم رفع رأسه ورفع ظهره ورفع ركبتيه عن الأرض، فإنه يلزمه أن يجلس؛ لأنه لم يستتم قائماً، وحينئذٍ يجلس ويتشهد ويسجد للسهو عن هذه الحركة وهذا القيام. أما إذا قام من السجود في الركعة الثانية ونهض حتى استتم قيامه، ثم تذكر قبل أن يبدأ في القراءة جاز له الرجوع مع الكراهة، وإن استمر وكمل الثالثة وترك التشهد جازت الصلاة وعليه السجود، وإن رجع جازت الصلاة مع الكراهة، فيرجع ويتشهد ثم يقوم ويأتي بالركعتين الباقيتين أو الواحدة، ثم يسجد أيضاً للسهو. أما إذا شرع في القراءة ولم يتذكر أن عليه جلوساً إلا بعدما شرع في القراءة، ففي هذه الحال يستمر ولا يرجع، وإذا رجع وهو عالم بطلت صلاته، أما إذا رجع وهو ناس أو ساه فهو معذور وعليه سجود السهو في كل حال.
شرح عمدة الأحكام [17]
شرح عمدة الأحكام [17] المصلي يناجي ربه، فلا ينبغي أن يشغل نفسه بشيء أمامه، وقد شرع له اتخاذ السترة حتى لا يمر أحد بين يديه فينشغل به وينقص ثواب صلاته، كما شرع له دفع من يمر بين يديه، وقد بين الفقهاء حكم المرور بين يدي المصلي، وما يشرع للمصلي لاتقاء ذلك.
المرور بين يدي المصلي
المرور بين يدي المصلي قال المصنف رحمه الله: [باب المرور بين يدي المصلي: عن أبي جهيم عبد الله بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يدي المصلي) ، قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة؟ رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان -وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين بعض الصف، فنزلت فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليّ، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) .
الحكمة من النهي عن المرور بين يدي المصلي
الحكمة من النهي عن المرور بين يدي المصلي هذه الأحاديث تتعلق بالمرور بين يدي المصلي، وفيها ما يدل على أنه ذنب وأنه كبيرة من الكبائر؛ وذلك لأن المصلي عندما يكبر فإنه يشتغل بمناجاة ربه، ويقبل على صلاته بقلبه، وينظر إلى موضع سجوده، ويفرغ لذلك باله، ويتأمل فيما يقوله وفيما يفعله؛ فلأجل ذلك يندب أن يكون حاضر القلب خاشعاً ذليلاً مقبلاً على عبادته، مبتعداً عن كل شيء يشغله عن العبادة. ولأجل هذا نهي أن يستقبل أشياء تصرف قلبه عن العبادة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي مرة وأمامه ستر -يعني: كساء- فيه شيء من النقوش فقال لـ عائشة: أنيطي عني قرامك، فإني إذا نظرته ذكرت الدنيا) يعني: إذا نظرت ذلك القرام وما فيه من تلك النقوش ونحوها تذكرت الدنيا. ومرة صلى وعليه حلة أو كساء، فلما صلى وانصرف قال لبعض أصحابه: (اذهبوا بسترتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) فجعل العلة أنها ألهته عن صلاته، يعني: كأنه نظر إليها فاشتغل قلبه بها، ومطلوب من المصلي أن لا يشغل قلبه بغير ما هو فيه، حتى يكتب له أجر صلاته كاملة.
حقيقة الوقوف واستشعار إثم المرور بين يدي المصلي
حقيقة الوقوف واستشعار إثم المرور بين يدي المصلي في الحديث: أن الذي يمر بين يدي المصلي عليه إثم، وهذا الإثم لم يصرح به، ولكنه دل عليه بكونه لو وقف هذه المدة لكان خيراً له من المرور بين يدي المصلي. لم يحفظ الراوي تحديد المدة إلا أنها أربعون، يقول: (لو يعلم ما عليه من الإثم) ، يعني: ما عليه من الوزر وما عليه من الذنب، (لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) لم يقل: أربعين سنة أو أربعين شهراً أو أربعين يوماً، قد تكون واحدة منها، كيف لو وقف أربعين يوماً ماذا تكون حالته؟! كأنه يقول: لو علم أنه يأثم هذا الإثم الكبير لآثر أن يقف في مكانه أربعين يوماً؛ ينتظر فراغ هذا المصلي، بل لو وقف أربعين ساعة لتحسر من ذلك! ليته يقف ولو أربعين دقيقة ليته يقف ولو عشر دقائق حتى يفرغ هذا المصلي، ليته يقف ولو أقل من ذلك بقدر ما يفرغ المصلي من صلاته، وبكل حال فعلى الداعية أن يخبر من يريد المرور بين يدي المصلي أن عليه إثماً وأن وقوفه أفضل له، قل له: قف بضع دقائق حتى يفرغ أخوك من صلاته، وذلك لا يفوت عليك شيئاً ولا تمر بينه وبين سترته، ولا تمر بين يديه فتشغل قلبه، وتقطع عليه تفكيره، وتقطع عليه إقباله على ربه، دعه يكمل صلاته وانتظر قليلاً، فإما أن تصلي كما يصلي حتى تفرغ مع فراغه، وإما أن تنتظر حتى ينتهي من صلاته، هؤلاء الذين يتخللون الصفوف كثيراً ويمرون بين يدي المصلي، ساعة ما ينصرف أحدهم من صلاته، أو ساعة ما يفرغ من راتبته، يتسلل أمام من يتم صلاته كمسبوق، أو من قد شرع في النافلة، فيمر بينه وبين موضع سجوده، وبينه وبين موضع سترته، فيلحقه هذا الإثم الكبير الذي ذكر في هذه الأحاديث، ولو علم مبلغ هذا الإثم وعلم مقداره لآثر الوقوف، ولفضل أن يقف أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، ولكنه لم يتصور. فالحاصل أن عليه إثماً كبيراً؛ ولذلك يكون هذا المرور كبيرة من كبائر الذنوب التي يعاقب عليها، ولا تكفر مع الصغائر، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، وقد ذكر العلماء تعريف الكبيرة فقالوا: الكبيرة ما ورد فيها وعيد، وهذا الفعل قد ورد فيه وعيد، والوعيد إما أن يكون وعيداً بلعنة، أو وعيداً بغضب، أو وعيداً بعذاب، أو وعيداً بنفي إيمان، أو وعيداً بإثم، أو ما أشبه ذلك، فهذا ورد فيه هذا الوعيد الذي هو إثم، فيكون بذلك من كبائر الذنوب.
حكم السترة وتشبيه المار بين يدي المصلي بالشيطان فيدفع
حكم السترة وتشبيه المار بين يدي المصلي بالشيطان فيدفع المطلوب من المصلي أن يضع أمامه سترة تستره، حتى إذا مر الناس وراء السترة لم يردهم ولم يضروه، ومطلوب منه أن ينظر إلى موضع جبهته، وإذا لم يتيسر له سترة فليقترب من الحائط الذي أمامه، وإذا اتخذ سترة دنا منها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين) يعني: معه الشيطان. ووقع ذلك أيضاً في حديث أبي سعيد الذي ذكر في هذا الباب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا كبر في الصلاة أن يتخذ له شيئاً يستره، فإذا أراد أحد أن يمر بين يديه فعليه أن يدفعه بقوة، ولو أدى ذلك الدفع إلى أنه يسقط ولو أدى إلى قتاله، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) أو: (فإن معه القرين) ، والقرين هو الشيطان، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] يعني: أن الشيطان هو الذي يدفعه إلى أن يمر، فلذلك شبهه بأنه شيطان، فقال: (إنما هو شيطان) لو قيل لهذا المار: إنك شيطان، أو إن معك شيطاناً لغضب، والنص وارد بأن معه الشيطان الذي يدفعه حتى يخل بصلاة المصلين وحتى ينقصها.
المقاتلة المأمور بها لمن يمر أمام المصلي هي المضاربة
المقاتلة المأمور بها لمن يمر أمام المصلي هي المضاربة علينا أن ننبه هؤلاء الذين يمرون بين يدي المصلي ونأخذ على أيديهم، وقد ابتلي هؤلاء بعدم صبرهم وبكثرة مرورهم، فيكون سبباً في وقوعهم في هذا الإثم، والناس قد غفلوا عنهم، فلا ينكر أحد على من يمر بين يديه، بل يتركه يمر بين يديه ولا ويبالي، وكأنه لن يمتثل هذا الحديث. أنت مأمور بأن تدفعه ما استطعت؛ حتى لا ينقص عليك صلاتك، ومأمور بأن تخبره بأنه شيطان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال العلماء: لو قدر أنك دفعته بقوة فسقط فحصل له عيب أو انكسر منه عضو فلا إثم عليك؛ وذلك لأنك مأمور بهذا الدفع، فحتى لو حصل له تلف لن يكون عليك بأس؛ لأنك مأمور بأن تقاتله. والمقاتلة: هي المضاربة فقوله: (فليقاتله) يعني: فليضاربه، فيفعل المصلي ذلك ولو مشى قليلاً أو تحرك قليلاً؛ فكل ذلك لأجل إنكار المنكر، وللزجر عن اقتراف هذا الفعل الذي يخل بالصلاة وينقصها.
مرور المرأة والكلب والحمار بين يدي المصلي
مرور المرأة والكلب والحمار بين يدي المصلي أما بالنسبة للأحاديث الأخرى فهي فيما يقطع الصلاة، فقد ورد حديث عن عمر، وحديث عن ابن عمر وحديث عن جابر وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فسأله أبو ذر: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأبيض؟ فقال: الكلب الأسود شيطان) . فأخبر بأن هذه الأشياء الثلاثة تقطع الصلاة، وقد ورد في بعض الروايات تقييد المرأة بأنها المرأة الحائض، كما قيد الكلب بأنه أسود، فالمرأة قيدت بأنها حائض، ولكن قال بعضهم في المرأة الحائض: أي المرأة التي قد بلغت سن المحيض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) يعني: صلاة بالغة سن المحيض. فهنا ذكر بأن المرأة تقطع الصلاة، وأن الحمار يقطع الصلاة، وأن الكلب الأسود يقطع الصلاة.
المراد بقطع الصلاة عند مرور الحمار والمرأة والكلب
المراد بقطع الصلاة عند مرور الحمار والمرأة والكلب وقد اختلف ما المراد بهذا القطع؟ فقال بعضهم: القطع: هو الإبطال، فمن مر بين يديه شيء من هذه الثلاثة بطلت صلاته، فعليه أن يعيدها. وقال آخرون: القطع هنا هو التنقيص، بمعنى: أن ثواب صلاته يكون أنقص، حيث إنه مر بين يديه ما يخل بإقباله على صلاته وما يكون سبباً في انشغال باله بغيرها. ولعل الأرجح هو أن المراد بالقطع هنا هو النقص. فقوله: (يقطع الصلاة) ، يعني: ينقص أجر الصلاة وثوابها، وكأنه أراد بذلك الحث على التحفظ على الصلاة والإقبال عليها، والزجر الشديد عن التهاون بمن يمر بين يدي المصلي، والتهاون بعدم رد المار من رجل أو امرأة أو نحو ذلك.
وجه الاستدلال على أن الحمار لا يقطع الصلاة بحديث ابن عباس
وجه الاستدلال على أن الحمار لا يقطع الصلاة بحديث ابن عباس والدليل على أن الحمار لا يقطع الصلاة ما ورد في حديث ابن عباس، فقد ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمنى -يعني: في حجة الوداع- وكان يصلي بالناس ولم يكن أمامهم جدار، فكان أمام النبي صلى الله عليه وسلم سترة يعني: عصاً قد غرسها في الأرض واتخذها سترة. وأما الجماعة فلم يكن أمامهم جدار يسترهم، بل هم يصلون صفوفاً وقد جعلوا سترتهم سترة إمامهم، ولهذا قالوا: من كان له إمام فسترة الإمام سترة له، والصف الثاني سترته الصف الأول، فلا يمر أحد بين الصفين، فإنه بمروره بين يدي الصف الثاني يكون قد مر بينه وبين سترته وهو الصف الأول، وكذلك المأمومون الذين يمر المار بينهم وبين إمامهم. أو بينهم وبين سترة إمامهم، والحاصل أن ابن عباس ذكر: (أنه كان راكباً على حمارٍ أتان) الحمار الأتان: هو أنثى الحمار، يقول: (وكنت قد ناهزت الاحتلام) يعني: كان عمره قريباً من أربع عشرة سنة في ذلك العام ولما يحتلم، وكان راكباً على تلك الأتان، فمر بين يدي الصف، فيحتمل أنه مر بينهم وبين موضع سجودهم، ويحتمل أنه مر أمامهم، أي: قدام الصف وإن كان بعيداً، فإنه يصدق عليه أن مر بين أيديهم، وهذا هو الأقرب والأليق به؛ لأنه لا يليق بـ ابن عباس أن يقترب من الصف وهو على ذلك الحمار، بل مر قدامهم، ولو كان بينه وبين الصف مثلاً ثلاثة أمتار أو أكثر فإنه يصدق عليه أنه مر من بين أيديهم. فلما حاذاهم نزل وأرسل الأتان ترتع، ودخل في الصف وصلى مع المصلين ولم ينكروا عليه لما مر قدامهم، فاستدل بهذا على أن الحمار لا يقطع الصلاة؛ لأن ابن عباس مر أمامهم. وأجيب بأن هذا المرور ليس بينهم وبين موضع سجودهم بل قدامهم بكثير، أي: بنحو ثلاثة أمتار أو أكثر، وأجيب أيضاً بأن سترة الإمام سترة لهم، فهم قد اكتفوا بسترة إمامهم والذي يمر من بين أيديهم لم يكن مروره بينهم وبين السترة. وعلى كل حال فالمرور حتى ولو كان على الأرجل ممنوع كما دلت عليه الأحاديث، ولكن أخذوا من هذا أن مرور الحمار ونحوه لا يقطع الصلاة القطع المبطل لها، بل ذلك ينقص الصلاة فقط.
وجه الاستدلال بحديث عائشة على أن المرأة لا تقطع الصلاة
وجه الاستدلال بحديث عائشة على أن المرأة لا تقطع الصلاة أما الحديث الذي بعده فقد ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل وهي نائمة، وكانت آنذاك صغيرة يعني: ابنة ثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة أو نحوها؛ فكانت صغيرة في أول الأمر، والصغير قد يغلبه النوم، فكانت ربما يغلبها النوم والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما كان يكبر كانت البيوت ليس فيها مصابيح أي: لا يوجد فيها سراج ولا مصابيح يستضيئون بها، حتى تعرف متى يسجد، أو حتى تراه. فكانت تمد رجليها في قبلته؛ وذلك أيضاً لضيق المكان، فلم تجد بداً من أن تنام معترضة قدامه وهو يصلي، فإذا أراد أن يسجد كانت رجلاها في موضع سجوده، فكان يغمز رجليها فتقبضهما، وإذا قام بعد السجود مدت رجليها وبسطتهما، فاستدلت رضي الله عنها بذلك على أن المرأة لا تقطع الصلاة؛ حيث إنها اعترضت قدامه كاعتراض الجنازة كما في بعض الروايات، أو مدت رجليها في قبلته كما في هذه الرواية، فأفاد أن المرأة لا تقطع الصلاة إذا مرت، ولكن ليس في هذا الحديث مرور إنما فيه اعتراضها، أو إنما فيه مد رجليها قدامه. وعلى كل حال حتى لو قيل مثلاً: إنها مرت بين يديه، فما دام المكان مظلماً وهي لم تمر مروراً تاماً، فإن ذلك لا يدل على أنها لا تقطع الصلاة. والقول الأرجح أنه لا يقطع الصلاة شيء ولكن ينقصها، ورد ذلك أيضاً في حديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) يعني: ادفعوا المار مهما تستطيعون، فمهما كنت مستطيعاً فادفع من يمر بين يديك ولو كان لا يقطع الصلاة، أي: ولو كان لا يبطل ثوابها كلياً بحيث تستأنف، ولكن ينقصها، فادفعوا ما استطعتم ممن يمر بين أيديكم.
وجه استثناء الحرم في جواز المرور بين يدي المصلي
وجه استثناء الحرم في جواز المرور بين يدي المصلي وأما استثناء الحرم المكي أو المدني فلم يرد فيه حديث، في كون هذه الأشياء لا تقطع الصلاة فيه، ولكن معلوم أن الزحام شديد قرب المطاف، وأن الناس يكثرون بل كلما كبر واحد فجاء آخرون، فلو وقف الإنسان لطال وقوفه دون أن يفرغ المكان، فلذلك رخصوا في المرور بين يديه إذا كان قريباً من المطاف، واستدلوا بما روي؛ (أنه صلى الله عليه وسلم كان مرة يصلي عند المقام والناس يمرون بين يديه) وعلل ذلك بأنه كان لأجل ضيق المطاف وكثرة الطائفين فلم يردهم. وأما بقية أركان المسجد غير المطاف فإن حكمها كحكم سائر المساجد، فإذا كنت مثلاً في المصابيح أو كنت في الرحبة بعيداً عن المطاف، فإياك أن تمر بين يدي أحد، وإياك أن تترك أحداً يمر بين يديك، بل اعمل معه كما تعمل في سائر البلاد، بأن ترده كما ترده إذا مر بين يديك في أي مكان؛ لأن الأوامر عامة، فهذه الأحاديث التي منها: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) لم يقل: إلا في المسجد الحرام أو إلا في المسجد النبوي، بل أطلق، فدل على أن الحكم واحد وأن المساجد كلها يشملها حكم واحد، إنما استثني المطاف لكثرة الطائفين ولاستمرارهم.
شرح عمدة الأحكام [18]
شرح عمدة الأحكام [18] للصلاة حرمة عظيمة في الإسلام، لذلك حرص الشرع على توفير أسباب الخشوع للمصلي وتجنيبه ما يشغل عليه فكره، فحرم الله الكلام في الصلاة، وشرع الإبراد بالظهر في الحر الشديد، ونهى عن إيذاء المصلي بما فيه رائحة كريهة كالثوم والبصل. ولما كان الإنسان قد ينسى الصلاة أو ينام عنها حتى يفوت وقتها، فقد شرع له صلاتها حين يذكرها، وكل ما ذكرناه قد فصل العلماء أحكامه وأحواله.
تحريم الكلام في الصلاة وبطلانها به
تحريم الكلام في الصلاة وبطلانها به قال المؤلف رحمه الله: [عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فأمنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم) ] .
الكلام الخارج عن أذكار الصلاة ومصلحتها يبطلها
الكلام الخارج عن أذكار الصلاة ومصلحتها يبطلها حديث زيد دليل على أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ وذلك لأن الصلاة عبادة، فكانوا أول ما فرضت الصلاة كأنهم يحتاجون أن يتسامح معهم؛ لكونهم حديثي عهد بالإسلام، فرخص لهم في أن يكلم أحدهم صاحبه في حاجته أو يرد عليه أو نحو ذلك، ثم بعدما عقلوا وبعدما فهموا نهوا عن الكلام في الصلاة، ففي هذا الحديث دليل على النهي. وهذه الآية في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فالقيام لله معناه الوقوف في العبادة، والقنوت: هو دوام الطاعة، ولكن يفهم من القنوت الخشوع، والخشوع يستلزم الإقبال على الصلاة، وأن التكلم في نفس الصلاة فيه شيء من المنافات للقنوت؛ فلأجل ذلك أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام. والكلام الذي نهوا عنه هو الكلام الذي يكون خارجاً عن الصلاة ولا يتعلق بمصلحتها، ومعلوم أن الصلاة ليس فيها سكوت مطلق، بل الإنسان لا يسكت إلا إذا كان خلف الإمام والإمام يقرأ، فإنه يسكت ويستمع لقراءته، أما في غير ذلك فإنه يقرأ، ففي حالة القيام يقرأ الإمام والمنفرد السورة والفاتحة، وكذلك المأموم في السرية يقرأ، وكذلك في الركوع كل منهم يسبح، يقول: (سبحان ربي العظيم) ، أو يثني على الله، وفي السجود يسبح، وفي جلسته بين السجدتين يدعو، وفي التشهد يتشهد، وفي الرفع بعد الركوع يأتي بالثناء على الله تعالى، فليس في الصلاة سكوت بل فيها كلام، ولكنه مناجاة بين العبد وربه. فالكلام الذي نهوا عنه هو الكلام الذي كان يجهر بعضهم لبعض به، فيأمر أحدهم صاحبه بحاجته، ويكلم خادمه، ويردون السلام بالكلام ونحو ذلك، ثم نهوا عن ذلك وأمروا أن يتركوا الكلام الذي لا صلة له بالصلاة.
العفو عن الكلام في الصلاة لمصلحتها
العفو عن الكلام في الصلاة لمصلحتها ثم قد يحتاجون إلى أن يتكلموا لمصلحة الصلاة، كما إذا سها إمامهم ولم يجدوا بداً من أن يفتحوا عليه، ففي هذه الحال لهم أن يكلموه بقدر الحاجة لا أكثر، وذلك إذا لم يفهم فيتكلمون معه بقدر الحاجة، كما تقدم في حديث ذي اليدين: (أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى ركعتين وانصرف واعتقد أن الصلاة قد تمت، فتكلم معه ذو اليدين فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى قد نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم) ، كل هذا كلام ليس من جنس الصلاة، ولكنه من مصلحتها، فللمأمومين أن يكلموا إمامهم إذا سها ولم يفهم إلا بإيضاح ذلك. أما من تكلم ساهياً أو جاهلاً فإنه يعذر؛ وذلك لحديث معاوية بن الحكم السلمي لما أسلم وكان جاهلاً بالصلاة وصلى معهم؛ يقول: (فعطس رجل فقلت: يرحمك الله -يعني: وهو في الصلاة- فنظر الناس إليّ -يعني: استنكاراً- فقلت: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم يسكتونني، فسكت، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم استدعاني يقول: فوالذي نفسي بيده ما رأيت معلماً أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا زجرني، ولكنه قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن) ، فهذا هو الذي يشرع في الصلاة، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى ودعاؤه وقراءة كلامه، أما الكلام العادي الذي بين الناس فإنه لا يجوز التكلم به. فمن تكلم وهو جاهل فإنه معذور كما في قصة معاوية هذا، وأما من تكلم عامداً عالماً بالحكم فإنه تبطل صلاته. وقد وقع في زمن أبي موسى أنه صلى مرة بأصحابه فتكلم رجل خلفه فقال: (ويحك! أقرنت الصلاة بالبر والزكاة، فلما سلم أبو موسى سأل: من الذي تكلم بهذه الكلمة؟ فسكتوا كلهم، ثم علمهم واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) والإنصات معناه السكوت والاستماع، يعني: لا تتكلموا بشيء ليس من جنس الصلاة. فالواجب على كل من يعرف أهمية الصلاة وحرمتها أن يخشع فيها ويحضر قلبه، وأن ينكر على من رآه متساهلاً فيها، فكما أن الكلام يبطلها فكذلك كثرة الحركات قد تكون أشد من الكلام، فتبطل بذلك.
الحكمة من تأخير صلاة الظهر عند شدة الحر والإبراد بها
الحكمة من تأخير صلاة الظهر عند شدة الحر والإبراد بها أما الحديث الذي بعده فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة -أو فأبردوا بالصلاة- فإن شدة الحر من فيح جهنم) ، يعني بذلك صلاة الظهر. هذا الحديث يتعلق بالمواقيت، وهو أن الصلاة إذا كان في شدة الحر فإنها تؤخر إلى أن تنكسر شدة الحر، ولعل السبب في ذلك هو الإقبال على الصلاة، فإنهم إذا كانوا في حر شديد لم يقبلوا عليها ولم يخشعوا فيها، والمطلوب الخشوع، وهو لب الصلاة وروحها. كانوا يصلون في المسجد وقد تكون دورهم بعيدة، قد يكون بين بعضهم وبين المسجد نحو أكثر من كيلو، وكانوا يأتون على أرجلهم مع شدة الحر وشدة الرمضاء، والمسجد أيضاً ليس فيه مكيفات، وليس فيه مراوح كهربائية، بل فيه حر شديد وعرق فهم عند أدائهم للصلاة قد يلاقون هذا الحر الشديد، فلا يقبلون على صلاتهم، ولا يطمئنون فيها، ويتمنون أن ينصرفوا؛ لما يجدون من التعب ومن المشقة، فلهذا الغرض أمرهم بأن يبردوا بالصلاة. وقد روي: (أنه عليه الصلاة والسلام كان يبرد بالصلاة حتى في السفر) ، وذكروا: (أنه كان مرة في سفر فأراد بلال أن يؤذن فقال: أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال: أبرد؛ حتى رأوا فيء التلول) ، والتلول: هي كثب الرمل المجتمع، ومفردها تل، قوله: (حتى رأوا فيئها) أي: رأوا لها ظلاً، وذلك لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس وتمشي كثيراً؛ فيكون ذلك سبباً لخفة الحر وحصول الإبراد.
استحباب الإبراد عند شدة الحر دون غيره
استحباب الإبراد عند شدة الحر دون غيره ثم أحاديث الإبراد كثيرة وقد عللت بأن شدة الحر من فيح جهنم، وعلى هذا التعليل فالحكم عام؛ لأنه إذا كان ذلك من فيح جهنم، فإن المسلمين لا يشتغلون ولا يصلون في هذا الوقت، وقد ورد أن هذا الحر الذي يكون في وسط النهار هو حر الشمس، ولكن الشمس لا بد أن الله يوقدها ويشدد حرارتها، أو أن تلك الحرارة هي من فيح النار، وفي الحديث المشهور: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم -أو من فيح جهنم- وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم) . وإذا كان هذا من فيح جهنم؛ فإنه يسن الإبراد على كل حال، ولكن الجمهور من العلماء فهموا أن الأمر بالإبراد منوط بالعلة وبالسبب، وهو أن الحر لا يحصل معه خشوع ولا إقبال على الصلاة، بل يصلي أحدهم وهو منشغل مشتت الفكر غير مقبل على صلاته، بل يتمنى الخروج منها، فإذا زالت هذه الأسباب فلا داعي للإبراد. أما حالتنا نحن في هذه الأزمنة وفي هذه البلاد ونحوها، فإنه ليس علينا مشقة؛ وذلك لقرب الدور من المساجد، ولأن المساجد مفروشة وفيها مراوح كهربائية ومكيفات، فلم يبق هناك ما يشق معه الجلوس والانتظار، إذاً: فلا داعي إلى الإبراد.
جواز الصلاة في شدة الحر
جواز الصلاة في شدة الحر وعلى هذا فالغرض من الإبراد هو أن يحضر الإنسان قلبه في الصلاة، فلا يصلي وقلبه منشغل بشيء يمله أو يضجره أو نحو ذلك، ومنه الحديث الذي يذكر فيه: (أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، حتى إن أحدهم إذا سجد يفرش طرف ردائه أو كمه ويسجد عليه) ، فهذا دليل على أنهم قد يصلون أحياناً في مكان شديد الحرارة. ومعلوم أيضاً أنهم كانوا يصلون على الأرض، وقد تكون الأرض حصباء، فإذا وقعت عليها الشمس حميت تلك الحصباء، ولا تبرد إلا في قرب وقت العصر، فيضطرون إلى أن يصلوا، فلا يجد أحدهم بداً من أن يفرش طرف ردائه أو يفرش طرف كمه أو طرف عمامته ويسجد عليه، ليقي جبهته من ذلك الحر الشديد. وأما بقية أعضاء بدنه فيصبر على الحرارة التي تصيبها كيديه وقدميه ونحو ذلك، فهذا دليل على أنه يجوز أن يصلي ولو مع شدة الحر. لكن الأولى أن يقبل على صلاته إقبالاً كلياً، وأن يفعل فيها الأفعال التي إذا أتى بها عن رغبة وعن محبة وعن إقبال أثيب عليها.
من موانع الخشوع في الصلاة
من موانع الخشوع في الصلاة وقد ذكروا أشياء مما يشتت على الإنسان فكره، فمنها ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، إذاً: لا يصلي وهو يشتهي الطعام، كالصائم شديد الحاجة إلى الطعام؛ لأنه إذا صلى قبل أن يتناول شهوته من الطعام لم يقبل على صلاته، وكذلك إذا خشي أن يؤكل الطعام قبل رجوعه، فيبقى قلبه متعلقاً بذلك الأكل حال صلاته، فأمر بأن يقدم الأكل على الصلاة. كذلك صلاته وهو يدافعه الأخبثان: البول والغائط؛ وذلك لأنه إذا صلى لم يقبل على صلاته، بل يصلي وهو في حالة ملل وضجر وفي حالة شدة، ويتشوش عليه فكره وذهنه؛ فلأجل ذلك أمر بأن يتخلى وبأن يزيل عنه هذا الخبث؛ حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ ليس فيه ما يكدره، فكذلك لا يصلي في حر شديد ولا يصلي في برد شديد وهو يجد ما يخفف ذلك الحر وذلك البرد، كل ذلك لأجل تحصيل الخشوع في الصلاة والإقبال عليها. وإذا اضطر إلى ذلك وخاف فوت الوقت، فإنه يصلي ويتقي الحر بما يستطيع من طرف عمامته الذي يسجد عليها أو طرف كمه أو طرف ثوبه أو نحو ذلك.
قضاء الفوائت بنوم أو نسيان
قضاء الفوائت بنوم أو نسيان أما حديث: (من فاتته صلاة وخرج وقتها، فإنه يصليها، ولا عذر له بتركها) ، فمثلاً: فوات الصلاة إما أن يكون للنسيان، وإما أن يكون للنوم، فمن تركها للنوم فالنوم عذر، ولكن لا ينبغي للإنسان أن ينام في الوقت الذي يغلب على ظنه أنه يستغرق وقت الصلاة، إلا أن يجعل من يوقظه إذا حضرت الصلاة، فإذا وكل أحداً يوقظه فنسي ولم يوقظه حتى طلعت الشمس أو حتى ارتفعت، فإنه معذور، وفي الحديث (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة) ، فإذا نام واستغرق في النوم ولم يوقظه أحد أو كانت عادته أنه ينتبه ولكن غلبه النوم، فهو معذور. ومتى يصلي؟ جاء في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) . وهكذا أيضاً إذا غفل عن الصلاة بأن انشغل ونسي وقتها، كما إذا قدم من سفر فاشتغل ونسي، أو أخرها يعتقد أنه سيصليها ثم نسيها، فالناسي أيضاً معذور، ولكن يصليها إذا تذكرها. فإذا تذكرها بادر بأدائها ولو كان في وقت نهي، فإذا تذكر صلاة الفجر بعد أن شرقت الشمس وقبل أن ترتفع صلاها في ذلك الوقت، وكذلك إذا تذكر صلاة العصر أو استيقظ لصلاة العصر وقد تضيفت الشمس للغروب، فإنه لا يؤخرها بل يصليها في ذلك الوقت، وهكذا لو غفل ونسي صلاة الظهر ولم يذكرها إلا بعد العصر فإنه يصليها في ذلك الوقت، وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وهي قوله تعالى في سورة طه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، قيل معنى الآية: أقم الصلاة لتذكرني بها، وقيل معنى الآية: أقم الصلاة إذا تذكرتها، وكلا المعنيين صحيح، كما سيأتي في الأحاديث التي ذكرها المؤلف.
قضاء الصلاة الفائتة بسبب النسيان
قضاء الصلاة الفائتة بسبب النسيان قال المؤلف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ولـ مسلم: من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة) . وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالصلاة، فالحديث الأول يتعلق بقضاء الصلاة الفائتة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قوله الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ) . فالآية ظاهرها الدلالة على مشروعية الصلاة لأجل الذكر وهو صحيح، فإن الصلوات شرعت لأجل ذكر الله تعالى؛ لأن الصلاة تذكر بالله، فمن حين يسمع المؤذن وهو يسمع ذكر الله، مثل: تكبيرات الأذان وكذلك الشهادتان، وهكذا أفعال الصلاة تذكر بالله، وهكذا الأقوال فيها تذكر بالله، فهي كلها ذكر لله. ولكن يدخل في ذلك أيضاً الإتيان بالصلاة عند ذكرها بعد النسيان، فمثلاً: إذا نسي صلاة أو غفل عنها حتى خرج وقتها لشغل أو لغيبة أو لسفر ثم تذكرها، فإنه يبادر في تلك الساعة ويصليها ولو كان في وقت نهي، فإذا تذكر صلاة الظهر بعد العصر صلاها في ذلك الوقت، وإذا تذكر صلاة العشاء بعد الفجر صلاها في ذلك الوقت، وكذلك لو قدر أنه نام عن صلاة العشاء غفلة أو غلبة أو نحو ذلك، ثم استيقظ وصلى الفجر، ولما صلى الفجر تذكر أنه لم يصل العشاء، فإنه يبادر ويصليها في حينه ولا يؤخرها، ولو كان في وقت نهي، وهكذا بقية الصلوات كلما تذكر صلاة بادر وأتى بها دون تأخير.
قضاء الصلاة الفائتة بسبب النوم
قضاء الصلاة الفائتة بسبب النوم وهكذا يقال في النوم، قد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم كان مرة في سفر، ثم إنهم ساروا أكثر الليل، ولما كان آخر الليل نزلوا ليريحوا أنفسهم، فغلبهم النوم كلهم، ولم يستيقظوا إلا بعدما طلعت الشمس، فلما استيقظوا توضئوا من حينهم، وصلوا صلاة الصبح بعدما طلعت الشمس وانتشرت ولم يؤخروها) ، فصار ذلك سنة فيمن فاتته صلاة لنوم أو لغفلة أو لنسيان أو نحو ذلك أن يبادر ويصليها حين يذكرها. ولا يجوز للإنسان أن يكثر الاشتغال عن الصلاة بما يسبب غفلته، وكذلك لا يجوز له تعاطي الأسباب التي تجعله ينام عن الصلاة حتى يمضي وقتها، بل على المؤمن أن تكون له همة للمحافظة على الصلاة، وأن يكون له ميل إليها ورغبة شديدة تحمله على أن لا يغفل عنها، وتحمله على أن ينتبه لها في وقتها، فإذا انتبه لها وأتى بها كان إتيانه بها في وقتها، هكذا حالة من يكون حريصاً على العبادة. وقد ذكر العلماء أن أوقات النهي تقضى فيها الفوائت، فالصلاة التي فاتت وخرج وقتها إذا تذكرها وهو في وقت نهي فإنه يصليها في ذلك الحين، ودليلهم هذا الحديث: (فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك) ، هذا وجه الدلالة من هذا الحديث.
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس أما حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ففيه أنه كان حريصاً على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم وللقراءة، فكان يحضر معه المغرب، ويتعلم منه ما ينزل من الوحي، وما يتجدد من الأحكام، ويطيل ملازمته، ويمكث على ذلك أكثر الوقت ثم يحضر صلاة العشاء، وبعدما يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ينصرف إلى قومه، وحيث إنه أقرؤهم، حيث كان من حملة وحفظة القرآن مع كونه من شبابهم، حيث كان في ذلك الوقت شاباً دون العشرين، فكان لذلك مقدماً في قومه، فلذلك كانوا يقدمونه في الصلاة، وينتظرونه ولو تأخر عليهم، فيصلي بهم تلك الصلاة التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يرفق بهم وأن لا يطيل عليهم، وقد ذكرنا أنه كان يتأخر؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام غالباً ما يؤخر صلاة العشاء حتى يمضي من الليل ساعتان وربما ثلاث ساعات، ثم الطريق من المسجد النبوي إلى العوالي يستغرق ساعة أو قريباً منها، فلا يأتيهم إلا وقد مضى نحو ثلث الليل أو قريب منه. وقد كانوا أهل عمل وأهل حرفة، فلأجل ذلك نصح وأمر بأن يرفق بهم وأن لا يطيل عليهم وأن يقرأ من قصار المفصل، ولكن الشاهد في هذا الحديث أنه كان يصلي بهم وهم مفترضون وهو متنفل؛ وذلك لأنه قد أدى الفريضة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأفادنا أنه يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل، والمفترض هو الذي يصلي الفرض، والمتنفل هو الذي صلاته نفل. اشتهر عن بعض الفقهاء رحمهم الله أنه لا يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل؛ وذلك لأن صلاة المفترض أقوى، فلأجل ذلك لا يكون الضعيف إماماً للقوي، ولكن هذا الحديث يخالف ما اختاره، حيث إن فيه دليلاً على أنه يجوز. وإذا جاز هذا جاز العكس، وهو كون المتنفل يصلي خلف المفترض وتكون له نافلة، فقد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلين معتزلين في ناحية المسجد، وكان في مسجد الخيف بمنى، فلما انصرف من صلاة الفجر، أمر بهما فجيء بهما فقال لهما: لماذا لم تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم، وتكون لكما نافلة) . فأفاد أنه يجوز أن يصلي المتنفل خلف المفترض وذلك بأن تصلي مع الجماعة في المسجد النائي، ثم بعد ذلك تأتي وتجد جماعة يصلون فتعيد تلك الصلاة معهم، وتكون الثانية هي النافلة، ولو صليت الأولى وأنت منفرد، فإنك تصلي الثانية مع الجماعة، وتكون الثانية هي النافلة، والفريضة هي التي أديت في أول وقتها.
حكم الصلاة في الثوب الواحد ووجوب ستر المنكبين
حكم الصلاة في الثوب الواحد ووجوب ستر المنكبين وأما حديث الصلاة في الثوب الواحد فقد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل تصح الصلاة بالثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان؟! -وفي رواية-: أوكلكم يجد ثوبين؟!) وهذا يفيد أنه يجوز أن يصلي المرء في ثوب واحد ولكن إذا كانت الصلاة فريضة فإنه يستر منكبيه أو أحد منكبيه، وإذا كانت نافلة اكتفى بستر عورته من السرة إلى الركبة فقط ويصلي؛ لأن النافلة أمرها أخف من الفريضة.
مسمى الثوب عند العرب
مسمى الثوب عند العرب مسمى الثوب يدخل فيه كل قطعة تستر جزءاً من البدن، فيسمى الإزار الذي يلبس على العورة ثوباً، والرداء الذي يرتديه الإنسان على ظهره يسمى ثوباً، والقميص الذي له جيب وأكمام يسمى ثوباً، والسراويل التي تفصل على العورة تسمى ثوباً، وهكذا بقية الأغطية كل واحد منها يسمى ثوباً. والحديث ورد في القطعة التي ليست مخيطة، والتي كانت هي غالب لباسهم في ذلك الوقت؛ لأنه لم يتوفر عندهم خياطة القمص التي لها جيوب ولها أكمام، فكان أغلب لباسهم الأزر والأغطية كلباس المحرم، هذا أغلب ما كانوا يلبسونه، فكثيراً ما يصلي أحدهم وليس عليه إلا قطعة واحدة، ولكن يتأكد في الصلاة المفروضة أن يستر منكبيه أو أحد منكبيه، بأن يلتحف بهذه القطعة فيضعها على منكبيه ثم يلفها على بدنه إلى ما تحت الركبة، وبذلك يكون قد ستر عورته وظهره ومنكبيه. وأما النافلة فورد في الحديث: (إذا كان الثوب ضيقاً فأتزر به، وإن كان واسعاً فالتحف به) ، فأفاد أنه إذا كان قطعة واسعة كالرداء العريض ألقاه على ظهره والتحف به حتى يستر عورته ويستر ركبتيه إلى ساقيه، وإذا كان الثوب ضيقاً فيكتفى بأن يأتزر به، يعني: يجعله على عورته كالإزار الذي يستر العورة، فهذا ونحوه هو الذي ورد في الحديث.
خلاف العلماء في وجوب ستر المنكبين في الصلاة
خلاف العلماء في وجوب ستر المنكبين في الصلاة ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزم ستر المنكبين بل يجزئ أن يصلي وهما مكشوفان، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الثوب ضيقاً فأتزر به) ، وذهب آخرون وهو الصحيح: إلى أنه يفرق بين الفرض والنفل، ففي النافلة يتسامح فيجوز أن يقتصر على ستر العورة بإزار يشده على عورته من السرة إلى الركبة، فلو صلى وهو مكشوف الظهر ومكشوف الرأس ومكشوف الساقين صحت نافلته. وأما الفريضة فلها أهمية، فلا بد أن يستر فيها ما بين السرة والركبة وهذه هي العورة، ثم مع ذلك يستر الظهر، فيلقي على ظهره كساء يستره، ويستر منكبيه أو أحد منكبيه، وإذا كان عليه قميص واحد مفصل بالجيب والأكمام، وقد ستر ما تحت الركبة اكتفى بذلك ولو كان حاسر الرأس.
حكم الصلاة بالثياب الشفافة
حكم الصلاة بالثياب الشفافة يلاحظ أنه لا بد أن يكون الثوب الذي يصلي فيه صفيقاً أي: متيناً لا يصف البشرة، فإنه يلاحظ أن كثيراً من الذين يلبسون الثياب الشفافة الرقيقة ويلبسون تحتها تباناً -وهي السراويل القصيرة- أنه يظهر بعض عورتهم، بحيث يظهر الفخذ أو بعض الفخذ لرقة الثوب، فلا بد أن يكون الثوب متيناً غليظاً إذا كان واحداً، فإن كان الثوب رقيقاً فلا بد أن يلبس تحته سراويل أو إزاراً؛ ليستر العورة التي هي ما بين السرة والركبة كما هو معروف. وأما بقية الجسد فلا يلزم، فلو صلى مثلاً وهو مكشوف الرأس لم يكن عليه بأس في ذلك، وكذلك بقية أجزاء الجسم كاليدين والرجلين ونحو ذلك، هذا كله بالنسبة إلى الرجل.
صفة ثياب المرأة في الصلاة
صفة ثياب المرأة في الصلاة أما المرأة فإنها تستر جميع بدنها إلا وجهها؛ ولذلك سألت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تصلي المرأة في الدرع الواحد؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها) فاشترط أن يغطي ظهور القدمين، يعني: حتى الأصابع. فعلى المرأة أن تستر قدميها، وإذا ألزمت بستر القدمين فمن باب أولى بقية البدن، وتستر أيضاً رأسها وشعرها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) والمراد بالحائض هنا: التي قد بلغت سن المحيض. فإذا بلغت المرأة بالحيض كلفت، ولو كانت بنت عشر أو إحدى عشرة، فمتى بلغت بالحيض وجب عليها أن تستر بدنها كله في الصلاة فلا تبدي من بدنها شيئاً، فمن ذلك الرأس تستره بالخمار الذي يغطي شعرها ويغطي رأسها وعنقها ونحو ذلك، وهذا يتعلق بشروط الصلاة.
حكم دخول المساجد لمن أكل ما له رائحة كريهة
حكم دخول المساجد لمن أكل ما له رائحة كريهة قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في الثوم والبصل ونحوها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أكل ثوما أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، وأتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحاً فسأل عنها؟ فأخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها -إلى بعض أصحابه كان معه- فلما رآه كره أكلها قال: كل؛ فإني أناجي من لا تناجي) وعنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل البصل أو الثوم أو الكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو الإنسان -وفي رواية-: بنو آدم) ] . هذه الأحاديث تدل على ضرورة احترام المساجد واحترام العبادات بتجنيبها الروائح المستكرهة، وكذلك احترام المصلين واحترام الملائكة عن الأقذار وعما يستنكر أو تكره رائحته.
العلة من النهي عن أكل الثوم والبصل لمن يأتي المساجد
العلة من النهي عن أكل الثوم والبصل لمن يأتي المساجد معلوم أن الثوم والبصل والكرّاث من البقول التي خلقها الله وأنبتها، وجعلها مباحة وفيها منفعة، وفيها مصلحة، ويأكلها الناس للعلاج، وفيها منافع وعلاج لكثير من الأمراض، كما ذكر ذلك العلماء في الكلام على منافعها، ومع ذلك فإن فيها رائحة مستكرهة عند الناس، ولما كانت مستكرهة؛ فإن الإنسان إذا شم هذه الرائحة من غيره كره مجالسته وكره القرب منه وابتعد عنه؛ حتى لا يتأذى بهذه الرائحة المستكرهة؛ فلأجل ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي المسجد من فيه هذه الروائح ونحوها. وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكلها دائماً، ويعتذر بأنه يناجي الملائكة أو أنه ينزل عليه الملك، والملائكة تتأذى من هذه الرائحة مطلقاً؛ فلأجل ذلك أباح أكلها لبعض أصحابه الذين لا يناجون ما يناجي، فقوله: (فإني أناجي من لا تناجي) المناجاة: هي الكلام الخفي بين اثنين، كما في قوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9] يعني: إذا تخاطبتم فيما بينكم بخطاب خفي. فيقول: (فإني أناجي من لا تناجي) يعني: أنه ينزل علي الملك ويكلمني ويعلمني القرآن، ولما كان الملك له حرمة فإني أحب أن لا أقابله برائحة مستكرهة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يوجد منه شيء من الروائح المستكرهة، ولذلك لما شرب عسلاً عند إحدى زوجاته قالت له زوجة أخرى: (إني أجد منك ريح مغافير -المغافير: هو شجر من شجر العضاة له رائحة- فقال: إنما شربت عسلاً، فقالت: جرست نحلها العرفط) ، يعني: أن نحلة أكلت من شجر العرفط الذي له رائحة، فعند ذلك كره ذلك العسل مخافة أن يوجد منه رائحة مستكرهة، فهذا دليل على أنه لا يحب أن يشم منه رائحة مستكرهة. كذلك كان يحب الروائح الطيبة، فكان دائماً يستعمل الطيب في بدنه وفي ثيابه؛ وذلك لكي توجد منه الرائحة الطيبة التي يحبها والتي تألفها الملائكة، والتي يحبها المصلون والمؤمنون، وحث على الطيب وأمر به ورغب فيه وأخبر بأنه يحبه، وكل ذلك حرصاً منه على قطع الرائحة الكريهة واستعمال الرائحة الطيبة بحسب المستطاع. ولما اشتكى إليه أناس في يوم الجمعة أنهم يتأذون ببعض الروائح، أمرهم بالاغتسال والتنظف في يوم الجمعة، وأن يستعمل الإنسان من طيب أهله ليوم الجمعة، حتى لا يتأذى بعضهم ببعض مما يحصل منهم من الوسخ وروائح الجلد والثياب المتسخة ونحو ذلك؛ كل ذلك لأجل احترام العبادة وأن يأتي إليها وهو راغب محب لها بكل قلبه، وأن لا يوجد منه ما ينفر منه الملائكة أو ما ينفر منه المصلون، هذه الحكمة من النهي عن هذه الروائح المستكرهة في هذه العبادة التي هي الصلاة. والإنسان مأمور بأن يخشع ويخضع في صلاته وأن يكون قلبه مطمئناً فيها، ومن المعلوم أنه لا يطمئن اطمئناناً كاملاً إذا كان إلى جانبه من يشم منه رائحة مستكرهة، لا يكون في صلاته ولا يحضر قلبه، ولا يتأمل ما يقول لما يتأذى به. نقول: هذا هو السبب في كونه عليه الصلاة والسلام نهى عن أن يأتي إلى المساجد من فيه هذه الروائح: (من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فلا يقربنّ مسجدنا) هذه الأشياء موجودة وهي مباحة، والدليل على إباحتها أنه قال لبعض الصحابة: (كل؛ فإني أناجي من لا تناجي) فدل على أنها مباحة وحلال. فإذاً: نهيه في هذا الحديث بقوله: (لا يقربن مسجدنا) فيه أمر بعدم أكلها في الأوقات التي تبقى رائحتها وهو في المسجد، بل يأكلها في الأوقات التي يزول ريحها قبل أن يأتي وقت الصلاة، فإذا أكل بصلاً مثلاً أو كراثاً أو نحو ذلك أكله في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء؛ حتى يزول أثرها قبل أن يدخل وقت الصلاة. وورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إذا احتاج أحدكم إلى أكل هذه البقول فليمتها طبخاً) أي: أنها إذا طبخت زال أثر الرائحة منها، هذا إذا احتاج إليها قرب وقت الصلاة، وعلى كل حال فالنهي عنها قرب وقت الصلاة، وأما في الأوقات التي ليس فيها وقت صلاة، أو بالنسبة للمعذور الذي يصلي في بيته لمرض، أو المسافر الذي يصلي وحده أو نحو ذلك، فإن له ذلك، أما المساجد فلا يجوز أن يأتيها من فيه هذه الروائح. وقد علل في الحديث الثاني بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: أن الملائكة تحضر الصلوات وتحضر المساجد، وحضورها في هذه المساجد وقت الصلاة لأجل مشاهدة صلاة العباد لا شك أن فيه خيراً، ولذلك تشهد للمصلين، حيث يسألهم ربهم عن عباده وهو أعلم بهم؟ فيقولون: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) ، فهؤلاء الملائكة إذا وجدوا هذه الرائحة في المساجد تأذوا بذلك، فلذلك نهي عن استعمال هذه الأشياء قرب وقت الصلاة والإتيان إلى المساجد بها.
حكم من يأكل البصل والثوم والكراث لأجل ترك صلاة الجماعة
حكم من يأكل البصل والثوم والكراث لأجل ترك صلاة الجماعة ثم نقل إلينا أن بعضاً من المتمعلمين جعلوا ذلك عذراً لترك صلاة الجماعة، ذكروا أن الحبشي الذي اشتهر قبل سنوات في لبنان، وكان قد تتلمذ عليه أكثر من عشرين ألفاً، أو انخدعوا به، فقال لهم: كلوا البصل حتى تسقط عنكم صلاة الجماعة وصلاة الجمعة فلا تكونوا مطالبين؛ فإنكم منهيون عن إتيان المسجد إذا أكلتموه. نقول: هذا كذب لا يجوز أن يتخذ عذراً في ترك صلاة الجماعة، والصحابة ماذا فعلوا وماذا فهموا لما أنه أخبرهم بأن الملائكة تتأذى بهذه الرائحة؟ قالوا: (شيء يحرمنا من المسجد لا نريده) ، يعني: لا حاجة لنا في هذا الذي يمنعنا من حضور الصلاة ومن حضور المساجد، فتركوه في الأوقات القصيرة، ولم يأكلوه إلا لحاجة في الأوقات الطويلة التي يذهب معها رائحته، ولم يجعلوه عذراً ولم يقولوا: نأكل البصل ونأكل الكراث ونصلي في البيوت، ما دام أن لنا عذراً؛ لأنهم عرفوا أن صلاة الجماعة واجبة وأن فيها فضلاً، وأنهم مأمورون بحضورها، وأنها تكتب لهم خطواتهم ونحو ذلك، كل ذلك فهموه من النصوص، فلما فهموا هذا من النصوص عرفوا أن ترك المساجد فيه عقوبة، فقالوا: لا حاجة لنا في الشيء الذي يحول بيننا وبين المساجد، فتركوا هذه الأشياء حتى تحصل لهم صلاة الجماعة باطمئنان. إذاً فالذين يجعلون ذلك عذراً لهم، ويتخذون وسيلة يحتالون بها في ترك صلاة الجماعة، كأكل هذه الأشياء التي فيها رائحة ويقولون: نحن منهيون عن حضور المسجد! نقول: إنكم مخطئون باستعمال هذه الأشياء، قد يضطر الإنسان إلى أكل الثوم أو نحوه لعلاج يكون ضرورة أو لا يندفع ألمه أو مرضه إلا به، والثوم يظهر ريحه على البدن ويطول بقاؤه، فإذا كان مضطراً كان له عذر في أن يصلي وحده ولا يؤذي المصلين ولا الملائكة لضرورته، فإذا لم يكن هناك ضرورة لم يجز له استعماله، إلا إذا تحقق أن هناك ما يزيل رائحته، هذا هو الحكم.
حكم الروائح الكريهة غير البصل والثوم والكراث
حكم الروائح الكريهة غير البصل والثوم والكراث ثم ألحق العلماء بذلك كل ما هو خبيث الرائحة، ومن المعلوم أن هذا الدخان الخبيث المنتن ذو رائحة مستكرهة، وكذلك ما يلحق به من (النارجيل) ، (الجراك) وغيرها من هذه الأشياء الخبيثة؛ من المعلوم أنها ذات رائحة مستكرهة، بل هي أشد من رائحة الثوم والبصل والكراث التي هي من المخلوقات التي فيها نفع، فلا يجوز أن تتعاطى قرب أوقات الصلاة. إذا كان الذي يستعمل (الجراك) يصلي إلى جانبك، فإنك تشم منه هذه الرائحة المستكرهة سيما إذا تعاطاها قريباً، وهكذا أيضاً إذا استعمل الدخان وأكثر منه ظهرت رائحته على ثيابه وعلى فمه، وتأذى من قرب منه، ويلحق بذلك كل شيء فيه رائحة خبيثة فلا يجوز استعماله. معلوم أن المسجد له حرمته فأمر بأن ينظف وأن يطيب، وكان الصحابة في كثير من الأوقات يطيبون مساجدهم بالدخنة التي هي دخان العود، وكذلك كانوا ينضحونه بالطيب وغيره؛ كل ذلك لأجل أن يطمئن المصلون في صلاتهم، وأن تحضر قلوبهم، ولئلا يلقوا شيئاً يشوش عليهم صلاتهم. فإذا كان الإنسان مأموراً بإزالة الروائح المستكرهة، فهو كذلك مأمور باستعمال الروائح الطيبة ونحوها. هذا الحكم في استعمال هذه الأشياء وبكل حال فإننا نهينا عن استعمالها؛ لما يحصل بها من الأذى، ولكن لا يتخذ ذلك حيلة لترك العبادات ولا للتهاون في صلاة الجماعات.
شرح عمدة الأحكام [19]
شرح عمدة الأحكام [19] من الأركان المشروعة في الصلاة التشهد، وقد ورد بألفاظ مختلفة شرحها العلماء، كما شرعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وكذلك الدعاء، وقد وردت أدعية كثيرة في ذلك، وللمصلي أن يتخير منها ما شاء.
التشهد في الصلاة وأصح رواية فيه
التشهد في الصلاة وأصح رواية فيه قال المؤلف رحمه الله: [باب التشهد: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد -كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، وفي لفظ: (إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل: التحيات لله -وذكره إلى آخره- وفيه: فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض وفيه: فليتخير من المسألة ما شاء) . وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب من عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، وفي لفظ لـ مسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم - ثم ذكر نحوه) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: (أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]- إلا يقول فيها: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) . وفي لفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) ] . في هذين الحديثين ما يقوله في التشهد آخر الصلاة، وسمي تشهداً؛ لأن فيه ذكر الشهادتين، وهذا التشهد يعتبر ركناً من أركان الصلاة؛ وذلك للأمر به في هذه الأحاديث: (إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل) والأمر لا صارف له عن الوجوب، فلذلك ذهب أكثر العلماء إلى أن التشهد ركن من أركان الصلاة، وأن تركه يبطلها فلا تتم إلا به كسائر أركان الصلاة، ثم هذا التشهد قد رواه عبد الله بن مسعود، ونقله تلامذته مع كثرتهم ولم يختلفوا فيه، بل كلهم نقلوه نقلاً واحداً دون أن يقع بينهم اختلاف. وروي التشهد أيضاً عن عمر بن الخطاب، ولكن فيه شيء من الزيادة وشيء من النقص، يعني: فيه زيادة كلمة أو كلمتين أو ما أشبهها. وروي التشهد عن جابر وفيه شيء من التغيير، ووقع فيه أيضاً شيء من الزيادة والاختلاف بين الرواة. وقد اختار الإمام أحمد تشهد ابن مسعود حيث لم يقع فيه اختلاف بين تلامذته، إلى أن وصل إلى المؤلفين؛ ولعل ذلك أن ابن مسعود اعتنى به فذكر أنه تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة دون واسطة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتعليمه إياه حيث جعل كفه بين كفيه يعني: أن كف ابن مسعود بين كفي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك أدعى إلى الاهتمام، وإلى إقباله بقلبه وقالبه، وكذلك علمه هذا التشهد كما يعلمه السورة من القرآن؛ ولأجل ذلك حفظه وأتقنه كما يحفظ السورة، أي: كما يحفظ الفاتحة والمعوذتين وسائر السور، دون أن يزيد فيها أو يضيف إليها أو يخل بشيء منها، فكذلك نقل هذا التشهد دون أن يغير فيه شيئاً. هذا التشهد مشتملٌ على هذه الجمل، وقد ذكر في بعض الروايات، قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله) إلى آخره. فعلل أن الله هو السلام، وأنه سبحانه يحيّا ولا يسلم عليه؛ وذلك لأن السلام اسم من أسماء الله، فهو يذكر به، وأيضاً فالسلام دعاء، والله تعالى يدعى ولا يدعى له؛ فلأجل ذلك لم يجز أن نقول: السلام على الله، ولا نقول: عليك السلام، أما التحية فإنها توقير وتعظيم وعبادة، ولأجل ذلك تسمى جميع التعظيمات: عبادة، وتسمى: تحيات. السلام الذي نحن نتبادله يسمى تحية؛ لأنه يحيي به بعضنا بعضاً، قال تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] ، وقال سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] .
تفسير ألفاظ التحيات ومعناها
تفسير ألفاظ التحيات ومعناها أذكر تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الثلاثة الأصول وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها، ولعلكم تحفظونه، فأذكره وأعلق عليه بعض التعليقات، مع أنه مشهور لا بد أنكم قد قرأتموه مراراً.
معنى التحيات لله
معنى التحيات لله لما تكلم على التشهد فسره تفسيراً مختصراً فقال: (التحيات لله) أي: جميع التعظيمات لله تعالى ملكاً وخلقاً وتقديراً، قوله: (التعظيمات) يعني: جميع ما يعظم به، فهو تعالى يعظم بالتكبير ويعظم بالتبجيل ويعظم بالتسبيح، فكل ما فيه وصف له بالرفعة وبالعلو فهو من التعظيمات التي يعظم بها ويحيّا بها، فيدخل فيه: (التحيات لله) .
معنى قوله: (والصلوات)
معنى قوله: (والصلوات) قوله: (والصلوات) قيل: الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس، هكذا ذكر الشيخ أن الصلوات: جميع الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس. ومعلوم أن الصلاة في اللغة هي الدعاء، ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم، وكان يدعو لهم بقوله: (اللهم صل على آل فلان) فنحن إذا قلنا: (الصلوات لله) معناه: الدعوات، يعني: أنه تعالى هو الذي ندعوه ونضرع إليه، ونلح في دعائه. و (الصلوات) أي: التي نتعبد لله بها، التي هي الركوع والسجود والقيام والقعود، والتي فيها تحريم وتسليم لا تصلح إلا لله، فلا يصلى للأموات ولا يصلى للأنبياء ولا يصلى للأولياء ولا غيرهم، إنما تصح الصلاة عبادة لله تعالى.
معنى قوله: (والطيبات)
معنى قوله: (والطيبات) وأما قوله: (الطيبات) ففسرها بأنها الأعمال الطيبة، وهي عامة في كل شيء من الأقوال والأعمال والعقائد ونحوها، والمعنى: أنه تعالى إنما يتقرب إليه بكل طيب؛ لأنه طيب ولا يقبل إلا طيباً، فيستحضر العبد عندما يتشهد هذه الكلمات: (التحيات) يعني: التعظيمات، قوله: (والصلوات) يعني: الدعوات، قوله: (والطيبات) يعني: كل طيب وكل عمل طيب.
صفة السلام على النبي وحكمه والحكمة من مشروعيته في التحيات
صفة السلام على النبي وحكمه والحكمة من مشروعيته في التحيات ثم بعد ذلك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) فبعدما تقرب إلى الله بهذه التحية كان من المناسب أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الله المبعوث منه إلى عباده فيناسب أن يسلم عليه. الله تعالى قد أمرنا بذلك في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ، فناسب أن يسلم عليه، والسلام عليه مثل السلام على سائر العباد؛ لأنك تقول لمن تسلم عليه: السلام عليك يا أخي، السلام عليكم يا إخوتي، السلام عليكم أيها المسلمون، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جاء بهذه التحية: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) وهذه التحية هي تحية المسلمين التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] . ما صفة هذا السلام؟ لقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت: (أنه عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا: لماذا لم تزده؟ فقال: إنه لم يترك لنا شيئاً) معنى: أنه أتى بالتحية كاملة وهي إلى قوله: (ورحمة الله وبركاته) ؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الرحمة والبركة في حق آل إبراهيم في قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] فلما ذكرت الرحمة والبركات ناسب أيضاً أن تذكر في التحيات، وناسب أن تذكر في التشهد. ثم تتفاوت الدرجات والحسنات بحسب هذه التحية، ثبت: (أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، فرد عليه وقال: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه وقال: ثلاثون -يعني: ثلاثين حسنة- ثم قال: هكذا تتفاضل الأعمال) يعني: كل من زاد زاد له الأجر، وزادت الحسنات في حقه، فهذا هو الأصل في التحيات وفي السلام. لا شك أن السلام دعاء، ولذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: السلام دعاء، والصالحون يدعى لهم ولا يدعون مع الله، ولما قال: (السلام عليك أيها النبي) ، قال: تدعون له والذي يدعى له لا يدعى مع الله. فأفاد أن الله تعالى يدعى ولا يدعى له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعى له ولا يدعى، إنما الدعاء خالص لله وحق لله تعالى. فهذا هو الأصل في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء له بالرحمة التي هي زيادة البركة والخير، والدعاء له بالبركة التي هي كثرة الخير. ويعتبر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم من تتمة التشهد لا يسقط بحال، يعني: هذه التحيات والصلوات والطيبات، والسلام على النبي تعتبر من أصل التشهد، لا يعفى عنه ولا يسقط. أما السلام على عباد الله فإنه سنة، إن أتى به فهو فضيلة وإن لم يأت به لم تبطل صلاته، بخلاف السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بكاف الخطاب
حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بكاف الخطاب ثم قولنا: (السلام عليك أيها النبي) الصحيح أنه يؤتى بهذه اللفظة في كل الأوقات وفي كل الأزمنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، لكن ورد في بعض الروايات عن ابن مسعود أنه قال: (كنا نقول ذلك في حياته وهو بيننا فلما مات قلنا: السلام على النبي) يعني: كأنه يقول: إننا نقول: (السلام عليك) لما كان حاضراً يسمع، فلما توفي قلنا: (السلام على النبي) ، ولم نقل: عليك؛ لعدم التمكن من مخاطبته. ولكن لا مانع من استعمال الخطاب له؛ وذلك لأن السلام يبلغه من أمته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) وقال: (إن لله ملائكة يبلغونني من أمتي السلام) . وقد أمر عليه الصلاة والسلام بأن يسلم عليه البعيد والقريب، وأخبر بأنه يبلغه من أي مكان؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلوا عليّ -وفي رواية-: وسلموا عليَّ؛ فإن صلاتكم أو تسليمكم يبلغني حيث كنتم) فنحن إذا قلنا: (السلام عليك أيها النبي) أو (الصلاة على النبي) بلغه ذلك من أي مكان كان، تبلغه إياه الملائكة، ولا شك أيضاً أن في ذلك ثواباً عظيماً؛ لأن الله تعالى أمر به في قوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ولا يأمر إلا بما هو طاعة، فيعتبر هذا ذكراً من الأذكار والأذكار أيضاً يثاب عليها العبد.
صفة السلام على عباد الله الصالحين ومعناه وحكمه
صفة السلام على عباد الله الصالحين ومعناه وحكمه فأما قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فذكر في الحديث أنك إذا قلتها: (سلمت على نفسك وسلمت على كل عبد صالح لله تعالى في السماء والأرض، فإن العباد اسم لكل من هو عبد لله، ولكل من هو عابد متعبد لله، فقد وصف في هذا الحديث بأنه صالح. والصالحون: هم الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، والذين أصلحوا ما بينهم وبين ربهم، فأنت تسلم عليهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، وسواء كانوا من الملائكة أو من الآدميين، فأنت تخص الصالحين بهذا الدعاء الذي هو السلام. لا شك أن التسليم عليهم هو الدعاء لهم بالسلامة، كأنك تقول: تغشاهم السلامة من الله، وكأنك تقول: اسم الله عليهم تغشاهم آثاره وبركته. وصفوا بأنهم عباد الله، العباد هنا: العبادة الخاصة؛ لأن العباد يدخل فيها المتعبدون ويدخل فيها العابدون، وهو المراد هنا؛ ولأجل ذلك وصفوا بأنهم صالحون.
معنى الشهادتين ومقتضاهما وحكمهما
معنى الشهادتين ومقتضاهما وحكمهما ثم بعد ذلك ذكر التشهد بقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، وفي بعض الروايات لم يذكر فيها: (وحده لا شريك له) ، فهاتان الشهادتان هما تأسيس العقيدة، وتأسيس الدين؛ ولأجل ذلك سمي هذا تشهداً؛ لأن فيه هذه اللفظة. ومعنى (أشهد) كما قال الشيخ محمد: أقر وأعترف أن لا إله في الوجود، أو لا إله يستحق الألوهية إلا الله سبحانه وتعالى. والإله: هو المألوه، لا إله يعني: لا مألوه، ولا أحد يستحق أن يؤله، أي: تألهه القلوب وتوده وتحبه وتعظمه وتقر له بالعبودية، غير الله تعالى. وهذه الشهادة تستدعي من العبد أن يتأله الله، أن يتخذه إلهاً، فإنك إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يجب عليك أن تألهه؟! كيف تقر أنه الإله ولا تألهه، عليك أن تألهه وتتألهه بقلبك وبقالبك وبدنك، فترغب إليه، وترهب منه وتحبه وتخافه وترجوه وتتواضع له وتتذلل بين يديه، وتتخذه بذلك إلهاً ومألوهاً ومعبوداً. أما الشهادة الثانية: فهي أيضاً بمعنى الإقرار والاعتراف، فقوله: (أشهد) يعني: أقر وأعترف بأن محمداً عبده ورسوله، ولا شك أن هذه هي مكملة الشهادة، ولا تكفي واحدة منهما، لا بد من الشهادتين؛ وذلك لأن الشهادة الأولى تستدعي العبادة والطاعة لله، والشهادة الثانية تستدعي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، والاقتداء به فيما بلغه، وطاعته فيما جاء به. وشهادة أن محمداً رسول الله مقتضاها: أن تؤمن بأنه رسول الله، وأن تؤمن بأنه بلغ ما أرسل به، وأن تؤمن بأن على الأمة تصديقه، وأن تؤمن بأنه تجب طاعته، والتحاكم إليه، وامتثال ما أمر به ودعا إليه، وأن تؤمن بأنه بلغ ما أرسل به أتم بلاغ وأتم بيان، وأن تؤمن بأن لا نجاة لأحد إلا باتباعه، وأن الطرق مسدودة إلا من طريقه. وإذا آمنت بذلك ظهرت عليك آثار ذلك بأن تطبق كل ما جاء به وتمتثله، وتقدم أقواله على كل قول، وترضى بالتحاكم إلى شريعته، هذا هو الرسول، والرسول معلوم أنه الذي يحمل الرسالة من الله، أي: فهو مرسل من الله، وهذه الرسالة هي هذه الشريعة التي جاء بها وبلغها قولاً وفعلاً. فهذا هو التشهد الأول، يأتي به بعد الركعتين الأوليين في صلاة الظهر، وبعد الركعتين في العصر، وبعد الركعتين في المغرب، وبعد الركعتين في العشاء.
معنى الصلاة الإبراهيمية وحكمها وصفتها
معنى الصلاة الإبراهيمية وحكمها وصفتها أما التشهد الأخير الذي هو بعد الركعة الرابعة في الظهر وكذلك في العصر، وبعد الثالثة في المغرب، وبعد الرابعة في العشاء، وبعد الركعة الثانية في صلاة الصبح، وبعد كل ركعتين في التنفلات، فإنه يزيد فيه بالأدعية التي جاءت في بعض الروايات؛ وذلك لقوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، أو ما شاء) فهذه الأدعية مناسبتها أو محلها بعد التشهد الأخير، أي: إذا تشهد التشهد الأخير أتى بما يحضره من الدعاء. ولكن في التشهد الأخير الذي يعقبه السلام، يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي في حديث كعب؛ وذلك لأن الله تعالى أمر بهما معاً في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فلا بد من الإتيان بهما، فيكره الاقتصار على السلام وحده، أو على الصلاة وحدها، لا بد إذا قلت: اللهم صل على محمد أن تقول: وسلم؛ لأن الله قال: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) ، فلذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام عليه، فالصحابة يقولون: (قد علمنا كيف نسلم عليك) ، أي: علمتنا بقولك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبقي أن تعلمنا كيف نصلي عليك، ما صفة الصلاة عليك؟ والصلاة عليه يدخل فيها كل دعاء. روي عن بعض الصحابة أنه قال: (يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فهل أجعل لك ربع الصلاة؟ فقال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك ثلث الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك نصف الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: فإني أجعل لك كل صلاتي، أو جميع صلاتي، قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) والمراد أنه يجعل له دعاءه يقول: بدل ما أدعو بالمغفرة وأدعو بسؤال الجنة أشتغل بالصلاة على محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، أجعل ذلك هو الدعاء كله. قوله: (صلاتي) يعني: دعائي، فجعل ذلك سبباً لغفران الذنوب، وكف الهموم. إذا عرف العبد فضل هذه الصلاة فإنه قد ورد فيها فضائل كثيرة، ذكر جملة كثيرة منها ابن كثير عند تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وأفردت أيضاً بالتأليف والتصنيف في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وذكرت فيها الأحاديث الواردة في ذلك وفضيلتها، ويذكرها ويتعرض لها الخطباء في خطبة الجمعة؛ وذلك لأنهم مأمورون بها في يوم الجمعة، ولها مواقيت معروفة ليس هذا موضع تعدادها. وهذه الصلاة هي قولنا: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلى آخرها، لا شك أن هذه الصلاة دعاء، ولكن ما هو هذا الدعاء؟ من العلماء من قال: الصلاة رحمة، وهذا قول مشهور عند الفقهاء؛ وذلك لأنهم قالوا: إنه قال: (كما صليت على آل إبراهيم) ، والصلاة الإبراهيمية هي قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} [هود:73] عبر عن عن الصلاة بالرحمة، ثم عبر عن البركة بالبركة نفسها في قوله: (وبارك على محمد) إلى آخره، فأفاد أن الصلاة هي الرحمة. ومن العلماء من قال: الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، هكذا رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية، وهذا هو الأقرب، أي: أننا إذا قلنا: اللهم صل عليه، فمعناه: اذكره بين ملائكتك بالفضل، وإذا صلينا على إنسان فقلنا: عليك صلاة الله، فمعناه: أن يذكرك الله في الملأ الأعلى، مثل قوله: صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) . هذه الصلاة تسمى الصلاة الإبراهيمية؛ وذلك لأنه أمر بأن يصلى عليه كما يصلى على آل إبراهيم، ولا شك أن المراد بقولك: (اللهم صلِّ عليه كما صليت على آل إبراهيم) أي: كما أنك ترحمت على آل إبراهيم وباركت عليهم، وليس المراد أن آل إبراهيم أفضل منه، بل إننا نطلب أن يحظى بصلاة من الله، كما أن آل إبراهيم حظوا بصلاة من الله، فصلت عليهم الملائكة بقولهم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] ، ولهذا ذكر هذين الاسمين في آخر هذه الصلاة. وقوله: (وبارك على محمد) المراد: أكثر عليهم من خيرك ومن فضلك وجودك وامتنانك، وقد ذكرت البركة أيضاً في السلام في قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ، فالبركات هي الخيرات الكثيرة. والمعنى: أنك تبارك في أعماله وفي أقواله، وتبارك له فيما أعطيته كما ورد في دعاء القنوت: (وبارك لنا فيما أعطيت) ، وتبارك في حسناته بأن تضاعفها، فيدعى لكل مسلم بهذه البركة التي هي كثرة الخير، وهي لا نهاية لها. فإذا علمنا معانيها عرفنا حكم هذه الصلاة، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جعلها كثير من العلماء ركناً في التشهد الأخير، واستحب كثير منهم في التشهد الأول أن يأتي بها أو ببعضها، ولكن الصحيح أنها إنما تشرع في التشهد الأخير؛ لأنه الذي يطول فيه الجلوس، وقد جعلها بعضهم من الواجبات بحيث إن من نسيها فإنه يسجد للسهو، وجعلها كثير من الأركان بحيث لا تتم الصلاة إلا بها، ولعل هذا هو القول الراجح. ويكفي منها أن تقول: (اللهم صل على محمد) ، وقال بعضهم: لا بد أيضاً من الصلاة على آله (وآل محمد) ، وإذا أتيت بذلك فالبركة وما بعدها من السنن، وكذلك الأدعية، وستأتينا الأدعية فيما بعد، وهي التي تقال بعد الشهادتين وبعد الصلاة الإبراهيمية. قد تقدم التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وهو قوله: (التحيات لله) إلى آخره، وهذه تقرأ في التشهد الأول وتقرأ في التشهد الأخير كما هو معروف، وتقدم لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: (اللهم صل على محمد) إلى آخره، وهذه يؤتى بها في التشهد الأخير، واستحب بعض المشايخ أن يؤتى بها أو ببعضها في التشهد الأول، فالواجب في الصلاة أن يأتي بالتحيات وأن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. أما التشهد الذي هو: (التحيات لله) إلى آخره فالجمهور على أنه ركن لا تصح الصلاة إلا به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة كما يعلمهم السورة من القرآن، وقال: (إذا جلس أحدكم في التشهد فليقل: التحيات الله) إلى آخره، وقال: (لا تقولوا: السلام على الله ولكن قولوا: التحيات لله) فكل ذلك يستدل به على أنه ركن، وأن من تركه لم تصح صلاته، فلو جلس وسلم قبل أن يقرأه بطلت صلاته إذا كان متعمداً، وإذا كان ساهياً رجع وأتى به وسلم بعدما يسجد للسهو، وكل ذلك دليل على أهمية هذا التشهد. أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فذهب جمع من العلماء منهم الإمام أحمد إلى أنها ركن أيضاً كما أن التحيات ركن، بمعنى: أنها لا تصح الصلاة إلا بها، فمن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً رجع وأتى بها إذا تذكر ذلك، فإذا سلم قبل أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد) إلى آخره فلا صلاة له. والقدر المجزئ كما ذكرنا سابقاً أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد) . وأجاز بعضهم أن يقتصر على الصلاة عليه دون آله، والبقية سنن، يعني قوله: (وبارك على محمد) إلى آخره من السنن، إن أتى بها فمستحب، وإلا فلا حرج.
مشروعية الدعاء بالمأثور بعد التشهد
مشروعية الدعاء بالمأثور بعد التشهد بعد ذلك يأتي بالأدعية في آخر تشهده، أو يأتي ببعضها كما سيأتي في ركوعه وسجوده.
حكم التعوذ بالله من جهنم وفتنة المحيا والممات والقبر والدجال ومعناها
حكم التعوذ بالله من جهنم وفتنة المحيا والممات والقبر والدجال ومعناها فأما الاستعاذة من هذه الأربع فهي بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الاستعاذة من النار، وورد الاستعاذة من جهنم، وكلاهما سواء، فإن النار هي جهنم؛ لأن جهنم اسم من أسمائها، قيل: إن النار سبع طبقات، وقيل: إن لها سبعة أسماء مشهورة، فمن أسمائها جهنم. فيقول: (اللهم إني أعوذ من عذاب جهنم -أو يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم- ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، فعذاب جهنم يكون بعد البعث وقد يكون بعضه في البرزخ، فإن الأموات في البرزخ يأتيهم من حرها وسمومها، وعذاب القبر يكون في البرزخ بعد الموت. يؤمن أهل السنة بوجود عذاب القبر وإن لم يكن مشاهداً، يعني: أننا لا نشاهده، وقد نحفر القبر ولا نشاهد فيه نعيماً ولا عذاباً ولا أصواتاً ولا غير ذلك، ولكن الأموات في عالم غير عالمنا؛ لأن الميت قد انتقل من عالم الدنيا، وأصبح في عالم اسمه عالم البرزخ، فالعذاب والنعيم على الروح التي قد انفصلت من الجسد، والروح نحن لا ندركها، ولا ندري ما كيفيتها؛ لأن الله تعالى حجبها عن معرفة البشر، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] . فالعذاب في القبر والنعيم على الأرواح، والأجساد تبع لها، فما دام أننا نؤمن بأن عذاب القبر حق؛ فإننا نستعيذ بالله منه، وإن لم نشاهده بالعين، وكان قد كشف لبعض العلماء عن بعض الأشياء فرأوا بعض العلامات ونحوها. وعلى كل حال عليه أن يستعيذ من عذاب القبر، ثم يستعيذ من فتنة المحيا والممات، والفتنة في الأصل هي الاختبار، ومنه قولهم: فتن الحداد الحديد أو فتن الذهب والفضة، يعني: اختبره حتى ميز ما هو صحيح وما ليس بصحيح، ثم تطلق الفتنة على الابتلاء في الدنيا، كون الإنسان يبتلى بعذاب أو يبتلى بسجن أو بضرب مثلاً أو بأذى من أنواع الأذى، أو يبتلى بمرض أو بفقر أو بفاقة، أو بشدة مئونة، أو بهم وغم أو نحو ذلك من الابتلاء، فهذه من فتن الدنيا فيستعيذ بالله منها، ومن ذلك فتن الشبهات والشكوك التي يروجها المبتدعة، ويروجها دعاة الضلال، ويدعون بها إلى الشك وإلى الشرك وإلى المعاصي وإلى الكفر ونحو ذلك، فيدعو أيضاً بأن يؤمنه الله تعالى ويعيذه من فتنة المحيا، من الفتنة التي تأتي في هذه الحياة، والتي تأتي عند الموت، ويدخل في فتنة الموت عذاب القبر، أو الفتنة عند خروج الإنسان من الدنيا عند الممات، والحاصل أنه يستعيذ من هذه الفتن. كذلك أيضاً من فتنة المسيح الدجال، وهو من أعظم الفتن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في عدة أحاديث بأن الدجال يخرج في آخر الدنيا، وأنه يفتتن به خلق كثير، وأنه يدعي أنه هو الرب، ويكون معه آيات أو معجزات يفتن بها الناس، فالإنسان يستعيذ بالله من أن يدركه، أو أن يفتتن به إذا أدركه، وأصل الاستعاذة الاحتماء والتحصن والتحفظ، إذا قال مثلاً: أعوذ بالله، فمعناه: ألتجئ وأعتصم وأتحفظ وأحترس وأستجير بالله تعالى، يشعر بأن هذه الشرور تتوارد عليه، وأن هذه الفتن ونحوها تتكاثر عليه إذا لم يحمه ربه عنها، وخيف عليه أن تفتنه وأن تضله فهو يقول: الله تعالى هو الذي يحفظني منها، وهو الذي يحرسني، وأنا على خطر إذا لم يحفظني ولم يحطني بعنايته، فهذا هو السبب في كونه يقول: أعوذ، يعني: ألوذ وأستجير وأحتمي وأعتصم وأتحصن وأستجير بالله ربي أن يعذبني بعذاب جهنم، أو يسلط عليّ شيئاً من فتن الدنيا، أو من فتن المحيا والممات، أو من فتن المسيح الدجال، فإذا استعاذ بالله تعالى شعر من نفسه بأنه عاجز عن مقاومتها، وأنه لا قدرة له على التحفظ عنها إلا إذا أعاذه الله تعالى وحفظه وحماه، فهو الذي يحفظ العبد منها.
الاعتراف بظلم المرء لنفسه وطلب المغفرة بسبب ذلك
الاعتراف بظلم المرء لنفسه وطلب المغفرة بسبب ذلك أما الحديث الثاني ففيه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، فعلمه هذا الدعاء وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) . هكذا علم الصديق أن يدعو بهذا الدعاء ونحن أحق بأن ندعو به. أمر الصديق بأن يعترف بهذا الاعتراف: (ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) وفي رواية: (ظلماً كبيراً) هذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه هل يقال: إنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، وهو من أول السابقين إلى الخيرات والمسارعين إلى الأعمال الصالحة، وهو من أهل الإيمان الصادق الثابت الذي لا يتزعزع، وهو من المصدقين لله وللرسول دون تردد، ومع ذلك يقول له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) ، إذا كان هذا يقال لـ أبي بكر الصديق، فنحن أولى بأن نكون قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وظلم الناس قد يكون بشيء من حقوق النفس، وقد يكون بمطاوعة النفس في شيء من المعاصي والمخالفات، وكل ذلك من ظلم النفس. وقد ذكر الله تعالى الاعتراف بالظلم من عباده أو من بعضهم، كما حكى الله تعالى عن يونس في قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فيونس عليه السلام اعترف أنه من الظالمين، ومع ذلك فإن ظلم النفس عن تقصير في شيء من حقوقها يعفى عنه إذا حافظ العبد على أوامر الله سبحانه وتعالى، ويغفر الله له ذلك، لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: أينا لم يظلم نفسه؟! أي: إذا كان الأمن والاهتداء لا يكون إلا لمن لم يلبس إيمانه بأي ظلم، فأينا يحصل على ذلك؟! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظلم هاهنا هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح -يعني: لقمان- {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] . وعلى كل حال فالظلم الذي وصف به أبو بكر نفسه هو تقصيره في حقوق الله، يعني: فيما يجب لله؛ وذلك لأن العبد مقصر دائماً في حقوق ربه، ولا بد أن يكون قد وقع منه شيء من الغفلة، وشيء من الخطايا والخطرات ونحو ذلك، وكل ذلك من ظلم النفس، وكذلك قد تكلم فيما لا يعنيه، أو نظر إلى ما لا يشتهيه، أو أكل شيئاً بغير حقه أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من الظلم، فعلى الإنسان أن يعترف بهذا الظلم وأن يطلب من ربه أن يغفره. ثم هذا الذكر يأتي به في آخر الصلاة: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ليعترف بأنه ولو أدى هذه الصلاة ولو ذكر الله فيها، ولو قرأ كتابه، ولو قرأ ما قرأه، ولو خشع وخضع وركع وسجد، فإنه مع ذلك مقصر فيما يجب عليه لله سبحانه وتعالى، فسبيله أن يطلب العفو، وأن يطلب المغفرة، فهكذا يختم الإنسان صلاته بالاعتراف بالتقصير؛ رجاء أن يتداركه ربه برحمته. هذا الدعاء في هذين الحديثين من السنن، يعني: قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي) إلى آخره، أو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، هذا من سنن الصلاة، يعني: يتأكد أن يأتي به، وبعض العلماء يرى وجوبهما، حتى روي أن طاوساً أمر ابنه أن يعيد الصلاة لما لم يقل: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) إلى آخره؛ لأنه ورد في حديث (إذا صلى أحدكم فليستعذ بالله من أربع) . ولعل القول بأنه مستحب لا واجب هو الراجح، والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام قد خير العبد في الدعاء لما ذكر التشهد قال: (ثم ليتخير بعد من الدعاء ما شاء) وفي رواية: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ، فلما أمره بأن يتخير من الدعاء ما يناسبه، دل ذلك على أن هذا الدعاء ليس بواجب، وإنما هو مندوب ومستحب. ومع ذلك يحرص على أن يأتي به مهما استطاع، وبعض الأئمة قد يخففون التشهد الأخير، فلا يتمكن المصلون خلفهم إلا من بعض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والواجب أن ترشدوا الأئمة الذين يخففون وتأمروهم بأن يتأنوا بعد أن يقولوا: (اللهم صل على محمد) ، حتى يقول المأمومون خلفهم: (اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، وقوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) إلى آخره، وليس في ذلك إطالة على المأمومين ولا مشقة عليهم.
ذكر بعض الأدعية الواردة بعد التشهد
ذكر بعض الأدعية الواردة بعد التشهد كذلك ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو في آخر الصلاة ويستعيذ من المأثم والمغرم، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) ، والمراد بالمغرم الديون التي يتحملها حتى يكون من الغارمين، والغارم: هو المتحمل لحقوق الناس، فشرع له أن يستعيذ من المغرم، والمأثم: هو الذنب الذي يكون به آثماً. ورد أيضاً: أنه يستعيذ من ضيق الصدر وشتات الأمر بعد قوله: (من عذاب القبر) يقول: (وضيق الصدر وشتات الأمر) ، كل ذلك من المستحب أيضاً. واستحب بعض العلماء أن يأتي بالذكر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ في قوله: (إني أحبك يا معاذ فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فيقولون: إن دبر الصلاة يعني: آخرها، فيقول في آخر التشهد قبل السلام: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . والبعض الآخر قالوا: يأتي به بعد السلام، فإن دبر الصلاة يعني: بعد الانتهاء منها. واستحب بعض العلماء أن يأتي بشيء من الثناء مثل قوله: (اللهم بك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أسرفت) وما أشبه ذلك، إذا تيسر ذلك أتى به؛ لأنه قال في الحديث: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) يعني: أنه إذا طال جلوس الإنسان في صلاته كأن يصلي وحده وأطال التشهد فإنه يدعو؛ لأنه في صلاة، ولأنه ينتظر الإجابة في آخر الصلاة، فيرجى أن يكون ذلك سبباً في إجابة الدعاء، لأنه لما أتى بهذه العبادة كان الإتيان بها من أسباب قبول الدعاء يعني: كأنه يقول: جعلت الصلاة وسيلة وسبباً فأدعو بعدها بهذا الدعاء رجاء أن يقبل مني.
استحباب قول: (سبحانك اللهم ربنا، اللهم اغفر لي) في الركوع والسجود
استحباب قول: (سبحانك اللهم ربنا، اللهم اغفر لي) في الركوع والسجود أما حديث عائشة ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في صلاته: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) وفي رواية: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه) وتقول: (إنه يتأول القرآن) ، وإنه يقول ذلك في ركوعه وفي سجوده، لما أمره الله تعالى بذلك في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] فذكر الله التسبيح، وذكر الحمد، وذكر الاستغفار، وذكر التوبة، فيجمع بينهما بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك) أو: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) أو: (اللهم اغفر لي وتب عليّ) ، فإذا أتى بهذا أو بما تيسر منه رجي أن يستجاب له؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، والتوبة هي طلب قبولها، كأنه يقول: إذا تبت فاقبل توبتي، والتوبة هي الرجوع إلى الله بعد المعصية وبعد المخالفة وما أشبه ذلك. فهذا يكون في الركوع والسجود، إذا قلت مثلاً: (سبحان ربي العظيم) ، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً تقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) ، أو (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) أو (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) . وكذلك في السجود إذا قلت: (سبحان ربي الأعلى) (سبحان ربي الأعلى) ما شئت، تقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) امتثالاً لهذه الآية {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] .
شرح عمدة الأحكام [20]
شرح عمدة الأحكام [20] ذِكْر الله عز وجل على نوعين: أولهما: ذكر مطلق لا يتقيد بزمان معين ولا مكان محدد، والثاني: ذكر مقيد إما بزمان أو بمكان، وهو فيما قيد به أفضل من الذكر المطلق. ومن هذا النوع الثاني الأذكار بعد الصلوات الخمس، فهي سبب في تكفير السيئات ورفع الدرجات، وهي وصية رسول الله لأصحابه وأحبابه كما وردت بذلك النصوص.
شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور)
شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) قال المصنف رحمه الله: [عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة. قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث، فقال: وهمت، إنما قال: تسبح الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين، فرجعت إلى أبي صالح فذكرت له ذلك، فقال: قل: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثاً وثلاثين) رواه مسلم. عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) ] .
حرص الصحابة على الخير
حرص الصحابة على الخير الحديث الأول يتعلق بالذكر بعد الصلاة، وفيه قصة فقراء المهاجرين الذين كانوا ذوي أموال في بلادهم، ولكنهم تركوها وهاجروا لله، كما قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8] . فهؤلاء المهاجرون أسلموا في مكة أو في غيرها من القرى، ثم تركوا أموالهم وبلادهم؛ لكون تلك البلاد بلاد كفر، وذهبوا بأنفسهم ونجوا برقابهم، وقصدهم بذلك أن يسلموا من الفتن، وأن يهربوا بدينهم، فجاءوا إلى المدينة وليس معهم رءوس أموال، فصاروا محلاً للصدقات والنفقات، فكانوا يشتغلون في النهار فيكتسبون ما يقوتون به أنفسهم وأهليهم، وفي الليل يصلون ويتهجدون، ولما رأوا أصحاب الأموال من أهل المدينة من الأنصار عندهم فضل من أموالهم يتصدقون ويعتقون وينفقون ويجهزون الغزاة في سبيل الله ونحو ذلك، غبطوهم على هذا الفعل، وعرفوا أنهم لا يدركونهم في ذلك. فأرادوا أن يكون لهم بدل هذا الأمر عمل يعملونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكين حالتهم، وأخبروه بما ساءهم من هذا الشيء الذي لا يستطيعونه، ووصفوا له أهل الدثور، وهم أهل الأموال الطائلة الكثيرة الموجودة بأيديهم، وأنهم تفوقوا عليهم، وأنهم عملوا أكثر منهم، فهم أهل بأن يذهبوا في الآخرة بالدرجات العلى وبالنعيم المقيم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي به تفوقوا عليهم، فأخبروه بأنهم يشتركون معهم في الأعمال البدنية، وقالوا: إنهم يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويجاهدون بأبدانهم كما نجاهد، ويتهجدون كما نتهجد، ونشاركهم في الأذكار وفي القراءة، ولكن لا نستطيع أن نحصل على مثل أموالهم، فهم يعملون أعمالاً مالية لا نستطيع أن ندركها، ومن ذلك الصدقات التي مدح الله أهلها بقوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ، وحث على الصدقة على الفقراء في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274] . ومعلوم أن أثرياء الصحابة من الأنصار رضي الله عنهم كان عندهم من الأموال ما يتصدقون بفضله على الفقراء، ويواسون به المساكين، بل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويعطون المستحقين؛ لأجل ذلك عرف فقراء المهاجرين أنهم لا يدركونهم في هذا الأمر الذي هو الصدقة والنفقة في وجوه الخير، حيث إنهم يجهزون الجيوش في سبيل الله تعالى، ويجاهدون بأموالهم وأبدانهم، بخلاف الفقراء فإنهم يجاهدون بالأبدان دون الأموال. وكذلك غبطوهم بأنهم يعتقون الرقاب، ويفكون العاني وهو الأسير إذا أسره المشركون بأموالهم، وإذا أسلم أحد من عبيد المشركين اشتروه وأعتقوه، والعتق من الأعمال الخيرية التي ورد فيها الوعد بالخير والثواب، فهذه هي التي غبطوا بها هؤلاء الأثرياء.
الذكر يقوم مقام الصدقات
الذكر يقوم مقام الصدقات ولما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دلهم على الذكر بعد الصلاة، وأخبرهم بأن هذا الذكر يقوم مقام الصدقات، ففي بعض الروايات أنه قال: (إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وكل خطوة إلى الصلاة صدقة) حتى قال: (وفي بضع أحدكم صدقة -يعني: في إتيانه لأهله- فقالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! فقال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟) فحثهم على هذه الأقوال التي هي الأذكار، وقد أخذ العلماء من هذا: أن الذكر بعد الصلاة يقوم مقام الصدقات.
صفة الذكر بعد الصلاة
صفة الذكر بعد الصلاة والذكر هو التسبيح والتكبير والتحميد ثلاثاً وثلاثين كما في هذا الحديث الذي رواه سمي مولى أبي بكر، وهو من علماء التابعين، وهو عتيق لـ أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام وأبو بكر هو أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد أعتق سمياً هذا، فتعلم سمي العلم وحفظ الحديث، وروى هذا الحديث عن أبي صالح السمان. وأبو صالح هو تلميذ أبي هريرة، رواه عن أبي هريرة، وذكر سمي أنه حدث به بعض أهله، وأنهم قالوا له: إنك وهمت إنما هو: (تكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتسبحون ثلاثاً وثلاثين) ، وهذا هو مراد أبي صالح، فهو يقول: (تكبرون وتحمدون وتسبحون ثلاثاً ثلاثين) ، أي: يكرر كل واحدة ثلاثاً وثلاثين؛ ولأجل ذلك ورد في حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) ، فدل على أنه يقول: سبحان الله والحمد الله والله أكبر، ثم يكررها حتى يبلغ ثلاثاً وثلاثين، فتكون تسعاً وتسعين، فالتسبيحات ثلاث وثلاثون، والتكبيرات ثلاث وثلاثون، والتحميدات ثلاث وثلاثون. قال العلماء: هو مخيّر بين أن يقول: سبحان الله ويكررها حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين، ثم يسرد التكبير فيقول: الله أكبر، ويكررها حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين، ثم يسرد الحمد فيقول: الحمد لله، ويكررها إلى أن يكمل ثلاثاً وثلاثين. وإن شاء جمعها بقوله: سبحان الله والحمد لله والله أكبر هذه واحدة، ثم يكرر ذلك إلى أن يبلغ ثلاثاً وثلاثين فيكون الجميع تسعاً وتسعين، ثم يهلل تمام المائة. ويجوز أن يقدم بعضها على بعض، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأفضل الكلام بعد القرآن وهن من القرآن، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر) ، وذكر أن هذه الأربع هي الباقيات الصالحات التي مدح الله أهلها، وكذلك بين أنه يجوز البداءة بأي واحدة منهن، قال (أربع بعد القرآن لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وعلى كل حال فهذا الذكر المشروع جعله النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مقام الصدقات، ومقام إعتاق الرقاب ومقام النفقات في سبيل الله، ومقام الأعمال المالية التي تنفق في المشاريع الخيرية، فدل على ميزته وفضيلته وأنه يشرع للإنسان المحافظة عليه.
مشروعية عد الذكر بالأنامل
مشروعية عد الذكر بالأنامل والمشروع أن يسبحه بعد كل صلاة، ويشرع أيضاً أن يعد التسبيحات والتكبيرات بأصابع يديه اليمين واليسار، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أمهات المؤمنين: (اعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات) والأنامل: هي أصابع اليدين معاً، فيدل على أنه يشرع أن يعد بالأصابع كلها، لا يقتصر على اليد اليمنى كما اشتهر عن بعض المتأخرين أنهم اختاروا عدّ التسبيح باليد اليمنى، ولم يعهد هذا عن المتقدمين الذين قرأنا لهم، فالمتقدمون لم يخصوا اليد اليمنى بالعدّ فقط، بل يذكرون أنه يعد التسبيح بأصابعه أو بأنامله ويستدلون بهذا الحديث: (اعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات) يعني أن جميع هذه الأصابع تشهد وتنطق بما عدته من هذه الأذكار ونحوها. وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على أن تعد هذه الأذكار فقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) ومعلوم أن مائة مرة تحتاج إلى العد بالأصابع كلها لا بيد واحدة، فإن العد بيد واحدة قد يسبب الغلط والخطأ، وكذلك التهليل الذي ورد مائة مرة أيضاً. وأما الحديث الذي يستدل به في سنن أبي داود فهو حديث صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الذكر، ويقول لهم: (عليكم أن تسبحوا وتكبروا دبر الصلوات) ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده) هكذا الرواية، وكلمة (بيده) اسم جنس يدخل فيها اليد اليمنى واليد اليسرى، وكثيراً ما تطلق اليد ويراد بها اليدان، أما رواية: (بيمينه) فقد انفرد بها راوٍ واحد تفرد عن عدد من الرواة فأبدل كلمة (بيده) بكلمة (يمينه) ، ولا شك أن تطرق الخطأ إليه أولى من تطرق الخطأ إلى عشرين راوياً كلهم يقولون: (بيده) . فيقال أولاً: إن هذا المقام مقام تعليم، وإنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يعد التسبيح بيده ليعلم أصحابه، فيمكن أن يكون اقتصر على يدٍ واحدة، يحتمل أنها اليد اليسرى ويحتمل أنها اليد اليمنى. ويقال ثانياً: قد يطلق اسم اليد على اليدين، (بيده) يعني بجنس اليد، فيدل على أنه عدّ التسبيح باليدين معاً، ولكن ذكر إحداهما كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] وكقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] مع قول النبي صلى الله عليه وسلم (الخير بيديك) ، فاليد هنا اسم للجنس يعم اليدين، وعلى كل حال: لا شك أن عدها باليدين وعدّ التسبيح بالأصابع كلها أفضل لكونه عبادة استعمل فيها جوارحه، واستعمال الجوارح الكثيرة أفضل. وأما استدلالهم بقول عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وفي شأنه كله) فهو حديث صحيح، ولكن ليس معناه أنه يقتصر على اليد اليمنى، بل معناه أن يبدأ بها، فإذا توضأ غسل اليمنى قبل اليسرى، وإذا انتعل لبس اليمنى قبل اليسرى، وإذا ترجل بدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر، فكذلك إذا سبح، يبدأ العد بأصابعه اليمنى ثم بأصابعه اليسرى، فليس فيه أنه يقتصر على واحدة، فعرف بذلك أن الأفضل والسنة أن يستعمل أصابع يديه كلها، ولا حرج في استعمال اليسرى في عدّ الأصابع لأنها إحدى يديه؛ ولأنها طاهرة، ولا يقال: كيف يعد بها التسبيح وهو يستنجي بها أو نحو ذلك؟! فإنها يد طاهرة، ويتكئ عليها في الركوع، ويسجد عليها في السجود، وتوضع على الفخذ في التشهد. وهي إحدى يديه، فلا مانع من أن يعد بأصابعها التسبيح، والتسبيح ليس باليد ولا بالأصابع إنما هو باللسان، ولكنها مجرد ضبط عدد حتى لا يخطئ. وعلى كل حال فهذا التسبيح الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (تسبحون وتكبرون وتحمدون ثلاثاً وثلاثين) يدل على فضيلة ومزية الذكر، وأن على الإنسان أن يحرص على الإتيان بهذه الأذكار بعد الصلوات الخمس، فإذا انصرف من الصلاة يقول: اللهم أنت السلام إلى آخره، ثم يبدأ بقوله: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين.
الاهتمام بمعاني الأذكار بعد الصلوات
الاهتمام بمعاني الأذكار بعد الصلوات وعلى المصلح أن يهتم بمعاني هذه الألفاظ ويستحضرها حتى يكون تأثيرها أقوى، فالتسبيح معناه التنزيه، فإذا قال: سبحان الله فمعناه: أنزه الله تعالى عن النقائص والعيوب، وأنزه الله سبحانه وتعالى عما يصفه به المشركون من الشريك والولد والوالد والكفء والند والشبيه والمثيل والنظير وما أشبه ذلك، أنزه الله عن النقائص من الجهل والسِنَةِ والنوم واللغوب وما أشبه ذلك، هذا مقتضى سبحان الله، يعني: تنزيهاً لله وتقديساً له، وتعظيماً له. إذا قال: الحمد لله، فإن معناه أنه يثني عليه بصفاته التي هي صفات كمال، ويعترف بأنه المنعم المتفضل عليه وعلى غيره، وأن حمده له مقابل نعمه، ومقابل فضله ومقابل صفاته الاختيارية ونحوها. وإذا قال: الله أكبر، فإن معناه التعظيم والإجلال والإكبار، وأن العبد صغير وحقير بالنسبة إلى كبرياء الله سبحانه، فالتكبير معناه التعظيم والإجلال، فإذا قال: الله أكبر، أي أنه أكبر وأعظم وأجل من كل شيء، وما سواه صغير حقير وهكذا، فيستحضر هذه المعاني عندما يقولها فيكون لها أثر في عقيدته، هذا هو السبب في شرعية هذه الأذكار التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قائمة مقام الصدقة، وهي لا تستغرق وقتاً كثيراً يقولها، فقد يقولها الإنسان في خمس دقائق أو أقل، ولكن الكثير من الناس عندما ينصرفون من الصلاة يستبقون الأبواب ويذكرهم الشيطان بحوائجهم، أو يذكرهم بأمور تهمهم، وقد لا يكون لهم أغراض إلا مجرد الخروج والمسابقة إلى الأبواب، فيفوتهم هذا الخير، ولو أنهم حبسوا أنفسهم حتى يأتوا بهذا الذكر لحصلوا على هذا الخير الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مقام الصدقات وقائماً مقام العتق ومسبباً للحاق بالصالحين. وفي هذا الحديث أن أثرياء الصحابة وأغنيائهم لما سمعوا الفقراء يسبحون سألوهم: ما هذا التسبيح والتكبير؟ فأخبروهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم ذلك، فصار أغنياء الصحابة يسبحون ويكبرون دبر الصلوات ثلاثاً وثلاثين، فذهب فقراء الصحابة إلى الرسول وقالوا: يا رسول الله! قد علم إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، وأنت تقول: (إنه لا يدرككم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) أي: أن الله تعالى هو الذي تفضل عليهم وأعطاهم الأموال، وجعلها رخيصة عندهم بحيث إنهم ينفقونها في وجوه الخير، ولا يقتصرون على البعض، بل ينفقونها ويجودون بها، ثم أعانهم على الأعمال البدنية والأعمال القولية فهو فضل الله ومنته يؤتيه من يشاء، فيدل على أن الغني إذا عمل في ماله وعمل ببدنه أدرك من سواه.
شرح حديث: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم)
شرح حديث: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) أما الحديث الذي يتعلق بالخشوع في الصلاة ففيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة وعليه خميصة لها أعلام، فلما انصرف نظر إليها وقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) .
معنى الخميصة
معنى الخميصة الخميصة كساء له أعلام، أي: فيه شيء من الخطوط الممتدة، وقد تكون في طوله وقد تكون في عرضه، وهذه الخطوط قد ينظر إليها الإنسان فيحدث بها نفسه، أو ينشغل قلبه بالأشياء التي يراها أمامه، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لبه وقلبه وحديثه في الصلاة كله حاضراً فيما يتعلق بالصلاة، ولا يحدث نفسه بشيء خارج عن عبادته، فعرف أن هذه الخطوط التي في هذه الخميصة قد تشغل قلبه ولو كان قليلاً، فأحب أن يهدي هذه الخميصة إلى غيره، فأرسل بها إلى بعض الصحابة من المهاجرين وهو أبو جهم وأمره بأن يعطيه بدلها أنبجانية يعني: كساء ليست فيه تلك الخطوط حتى إذا صلى فيها لم يكن هناك ما يشغله في صلاته.
الابتعاد عما يشغل في الصلاة
الابتعاد عما يشغل في الصلاة فهذا الحديث فيه بيان أن الإنسان عليه أن يحضر قلبه ولبه في صلاته، ولا يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا وأن يتجنب الأشياء التي تشوش عليه وتذكره الدنيا، أو تشغل شيئاً من قلبه. وجاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى النافلة في بيت عائشة، وكان أمامه قِرام قد سترت به عائشة سهوة لها، يعني: نافذة، فقال: (أميطي عني هذا القِرام فإن تماثيله تعرض لي كلما نظرت إليه ذكرتُ الدنيا) ، أي: أن فيه شيئاً من الخطوط والتماثيل، وليست صور حيوانات ولكنها نقوش أو ما أشبهها، فإذا نظر إليها ذكر الدنيا، فأحب أن لا يخطر على باله وفي قلبه شيء من الأمور الدنيوية وهو في صلاته، فأحب أنه متى دخل في الصلاة استقر قلبه فيها وانشرح لها وأقبل بقلبه كله على عبادته حتى تكون الصلاة كلها له لا نقص فيها. فيؤخذ من هذا أن على الإنسان أن يتجنب الأشياء التي تشوش عليه في صلاته، فإذا كان أمامه شيء مما يشوش عليه فإنه يزيله؛ ولأجل ذلك حرص العلماء على أن لا يكون في جدران المساجد التي أمام المصلين خطوط أو كتابات تشغل المصلين إذا نظروا إليها، بل كره بعضهم الأنوار التي تكون في قبلة المصلي، وكل ذلك لأجل تحصيل حضور القلب للصلاة ليستفيد منها، لأنه ورد في الحديث أنه (ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل) يعني: ما أقبل بقلبه عليها وعقلها. أما الذي يحدث نفسه في صلاته ويجول قلبه فيها، فلا يدري ما قرأ الإمام ولا يدري ما سبح ولا ما كبر ولا عدد ما دعا به، ولا يقبل بقلبه على الدعاء، فمثل هذا لا يستفيد من صلاته ولا تؤثر فيه ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تزيده إيماناً إلا أن يشاء الله. فعلى المسلم أن يحرص على الأشياء التي يحضر بها قلبه في صلاته ويبعد ما يشوش عليه في صلاته.
شرح عمدة الأحكام [21]
شرح عمدة الأحكام [21]
حكم من سبق الإمام بالتسليم ثم جبر ذلك بالإتيان بركعة خامسة
حكم من سبق الإمام بالتسليم ثم جبر ذلك بالإتيان بركعة خامسة Q بعد التشهد الأخير في صلاة الظهر سلمت قبل أن يسلم الإمام ناسياً، وعندما تذكرت انتظرت إلى أن سلم الإمام فقمت وأتيت بركعة خامسة جهلاً مني بالحكم، فماذا علي في ذلك؟ A أخطأت في هذه الزيادة، وكان عليك أن تسجد وحدك للسهو جبراً لذلك بعد أن يسلم إمامك، ومن العلماء من يقول: إن الإمام يتحمل عن المأموم ولا سجود عليه. على كل حال: هذه الزيادة خطأ، وتعتبر مجزئة لك لعذر الجهل.
حكم من صلى العشاء مع الإمام بنية المغرب
حكم من صلى العشاء مع الإمام بنية المغرب Q دخلت المسجد قرب إقامة صلاة العشاء، وكنت لم أصل المغرب، فدخلت مع الإمام في صلاة العشاء، ولكني في الركعة الثالثة بقيت جالساً حتى سلم الإمام ثم سلمت معه، ثم أقمت الصلاة وصليت العشاء، فهل فعلي هذا صحيح؟ A أجازه بعض المشايخ، إلا أن العلماء الأوائل وأهل المؤلفات لا يجيزون مثل هذا، بل يأمرونك بأن تصلي وحدك صلاة المغرب، ثم بعد ذلك تدخل معهم في بقية صلاة العشاء، ولكن أفتى بعض مشايخنا، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز وفقه الله بأنه يجوز أن تدخل معهم في عشائهم وتجعلها مغرباً وتصلي معهم ثلاثاً وتنوي السلام، أو تنتظرهم حتى يسلموا وتنويها مغرباً لك وتصلي بعدها العشاء. وإن كان هذا لم يكن عليه نقل، ولكن أجازوه من باب الاغتنام لصلاة الجماعة، والأفضل أن يصلي وحده صلاة المغرب، ثم بعد ذلك يصلي ما بقي من صلاة العشاء مع الإمام. مداخلة: لو دخل مع الإمام في صلاة العشاء كاملة ثم صلى بعدها المغرب؟ الشيخ: أما تقديم العشاء على المغرب فلا يجوز ما دام الوقت متسعاً؛ وذلك لترتيب الصلوات، وقد مر بنا الحديث الذي جاء فيه أنه عليه السلام صلى العصر ثم صلى بعدها المغرب.
حكم قول: أقامها الله وأدامها، بعد قول المؤذن: قد قامت الصلاة
حكم قول: أقامها الله وأدامها، بعد قول المؤذن: قد قامت الصلاة Q ما رأيكم في قول بعض المصلين عندما يسمعون جملة: قد قامت الصلاة، يقولون: أقامها الله وأدامها؟ وهل لها أصل في السنة؟ A ورد فيها حديث ولكنه ضعيف، ومع ذلك استحبها كثير من العلماء، وذكروها في مؤلفاتهم وفي أدعيتهم، وإن لم يكن الدليل قوياً؛ وذلك لأنهم اعتبروها دعاء، والدعاء لا يحتاج إلى توقيف بل يدعو الإنسان بما تيسر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقر أصحابه على كثير من الأدعية لم يكن علمهم إياها بل استحسنوها فدعوا بها فأقرهم على ذلك، فهذا دعاء فيه خير لإقامة الصلاة ولاستمرارها ودوامها، فلا مانع من القول بذلك إن شاء الله.
أفضل صفوف النساء في المساجد المفصولة فصلا تاما عن مساجد الرجال
أفضل صفوف النساء في المساجد المفصولة فصلاً تاماً عن مساجد الرجال Q يكون في المساجد هذه الأيام قسم خاص كمصلى للنساء ينعزل فيه النساء عن الرجال، فيحصل أن يصطف بعض النساء في مقدمة المصلى ويتركن المؤخرة، وفي نفس الوقت تأتي بعض النساء ويقفن في المؤخرة ويتركن المقدمة، فما هو رأيكم فيما يقع من اختلاف الصفوف وعدم إقامتها إقامة تامة؟ A ما دام أنه محجوز بينهن وبين الرجال بحاجز، ويوجد المكبر الذي يوصل الصوت، فنرى أن صفوفهن كصفوف الرجال، فيكون أفضلها هو المقدم، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، فهذا فيما إذا كانت الصفوف متصلة ليس بينها وبين صفوف الرجال حاجز، فجعل أفضلها أبعدها عن الرجال، وشرها أقربها من صفوف الرجال مخافة الاختلاط ومخافة السماع، أما وقد انعزلن بحاجز قوي لا يمكن معه الرؤية ولا الملامسة ولا الاتصال فصفوفهن كصفوف الرجال يبدأ بالأول؛ ومعلوم أنهن إذا صففن في مؤخرة الصفوف فإن من بعدهن يدخلن بعد اكتمال الصف فيحتجن إلى أن ينشئن صفاً ثانياً متقدماً، وستضطر عندها كل من دخلت إلى المرور أمام المصليات وهكذا، فيحصل بذلك شيء من التشويش، فالأولى كما قلنا أن يبدأ بالصفوف المتقدمة الأول فالأول.
مشروعية صلاة تحية المسجد بعد غروب الشمس ولو لم يؤذن المؤذن
مشروعية صلاة تحية المسجد بعد غروب الشمس ولو لم يؤذن المؤذن Q إذا غربت الشمس والمؤذن لم يشرع في الأذان ثم دخل رجل المسجد، فهل يصلي تحية المسجد أم ينتظر؟ A يصلي ما دام أن الشمس قد غربت؛ لأن النهي يمتد إلى غروب الشمس، يقول الحديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ولم يقل: حتى يؤذن المؤذنون، فإذا تحققت أن الشمس قد غربت فلك أن تصلي.
مشروعية التكلم مع الإمام لمصلحة الصلاة عند عدم فهمه للتسبيح عند السهو
مشروعية التكلم مع الإمام لمصلحة الصلاة عند عدم فهمه للتسبيح عند السهو Q هل يجوز التكلم لتنبيه الإمام، مثل قول: قم، أو اجلس بعد عدم فهمه لقولنا: سبحان الله؟ A يقولون: إذا احتيج إلى الكلام في مصلحة الصلاة مع كون الإمام لم يفهم المطلوب، فيمكن أن يختار كلمة من القرآن إذا كان يستحضر، فمثلاً: إذا أراد منه أن يقوم قرأ عليه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] يعني: أمر بالقيام، وإذا أراد له أن يجلس أو أن يقعد جاء بمثل قوله تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] أو نحو ذلك. وكذلك إذا أراد منه الركوع قرأ عليه: {ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أو أراد منه السلام، قرأ عليه: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وما أشبه ذلك فإذا لم يستحضر ذلك، وقال له: اسجد بدون كلمة ((واقْتَرِبْ)) أو قال له: اجلس، عفي عن ذلك؛ لأنه من مصلحة الصلاة.
بقاء أثر النجاسة بعد غسلها ودلكها بالماء وزوال عينها
بقاء أثر النجاسة بعد غسلها ودلكها بالماء وزوال عينها Q إذا أصاب الإنسان نجاسة في بدنه وغسلها عدة مرات، وبعد ذلك اكتشف أن هناك رائحة نجاسة في بدنه، فهل تكون هذه الرائحة مانعة من الصلاة؟ A لا تكون ما دام أنه قد غسلها عدة مرات؛ وذلك لأن الأصل أن النجاسة تزول بالغسل بالماء، فإذا كانت على يديه مثلاً أو على ساقيه وغسلها ودلكها -ولو لم يكن معه صابون أو منديل أو نحو ذلك- اكتفى بذلك، كذلك إذا كانت على الثوب وغسلها حتى لا يبقى إلا ما لا يزيله الماء، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن دم الحيض يصيب الثوب فقال للمرأة: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره) أي: اغسليه حتى يزول ولو بقيت بقعه في الثوب فإنه لا يضر ذلك، كذلك لو بقيت رائحة -وإن كان ذلك نادراً- فإن ذلك أيضاً لا يضر.
قول شيخ الإسلام والظاهرية ببطلان الصلاة في حضرة الطعام ودليلهم على ذلك
قول شيخ الإسلام والظاهرية ببطلان الصلاة في حضرة الطعام ودليلهم على ذلك Q ما دليل الظاهرية وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية على بطلان صلاة من صلى بحضرة طعام؟ A أخذوه من ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام) ، فهذا النهي يدل على أنه ترك واجباً، يقول شيخ الإسلام في قواعده: إن الله ورسوله لا ينفيان مسمى اسم شرعي إلا للإخلال ببعض واجباته، فهنا نفي اسم شرعي وهو كلمة (الصلاة) مثل قوله: (لا صلاة لمن أحدث حتى يتوضأ) ، ومثل قوله: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله) ، أخذوا من وجوب ذكر التسمية عند الوضوء مع التذكر أن من صلى وهو متعلق القلب بالطعام، أو متعلق القلب بإخراج البول أو الغائط أنه لا يقبل على صلاته ولا يطمئن فيها، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، والخشوع روح الصلاة ولبها، فهذا مذهب الظاهرية أنهم تشبثوا بهذا الحديث، ولكن الجمهور قالوا: تنعقد الصلاة مع الكراهة.
المقصود من النهي عن الصلاة في حضرة الطعام ومدافعة الأخبثين
المقصود من النهي عن الصلاة في حضرة الطعام ومدافعة الأخبثين Q هل الصلاة مع الجوع أو مع مدافعة الأخبثين جائزة، وهل النهي في الحديث للكراهة أو التحريم؟ A يظهر أن النهي لأجل التعليم والتوجيه والإرشاد، والحث على الإتيان بالأسباب التي يخشع فيها الإنسان، ويخضع ويقبل على صلاته، ويطمئن فيها، وإلا فالصلاة مجزئة إن شاء الله وإن كانت ناقصة.
إدراك الركعة بالركوع واكتفاء المسبوق بقراءة الإمام للفاتحة
إدراك الركعة بالركوع واكتفاء المسبوق بقراءة الإمام للفاتحة Q تعتبر الفاتحة ركناً من أركان الصلاة، فكيف يتم الجمع بين ذلك وبين ما جاء في الحديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، مع العلم أن من أدرك الركوع لم يقرأ الفاتحة، وجزاكم الله خيراً؟ A المسألة لها فروع وفيها كلام طويل قد يطول استقصاؤه، ولكن المختار أنها واجبة في حق الإمام، وهو يتحملها عن المأموم، ومع ذلك فإنها مستحبة للمأموم في سكتات إمامه، وإذا كانت تسقط عن المأموم فإن المسبوق لا قراءة عليه، فتسقط عنه القراءة، أما إذا أدرك الإمام وهو قائم فإنه يتأكد عليه أن يقرأ ولا يركع حتى يتم القراءة، ولكن لو لم يدركه قائماً سقطت عنه وتحملها الإمام، هذا القول الذي يجمع به بين الأقوال مع كثرتها وكثرة النزاع فيها.
ماهية صلاة الإشراق ووقتها
ماهية صلاة الإشراق ووقتها Q نرجو أن توضح لنا ماهية صلاة الإشراق، ومتى يكون وقتها؟ وهل هي صلاة الضحى أم لا؟ مع العلم أني قد رأيت أناساً يصلونها في الأوقات التي لا يجوز الصلاة فيها مثل بعد صلاة الفجر، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ A السنة أن الإنسان إذا جلس يذكر الله في المسجد بعد صلاة الفجر أو يقرأ أو يتعلم؛ أن يجلس حتى تطلع الشمس حسناء، يعني: حتى تشرق وحتى ترتفع ارتفاعاً حسناً، وبذلك يخرج وقت النهي، فإذا خرج وقت النهي -بعدما ترتفع قيد رمح أو بعد طلوعها بربع ساعة، أو ما يقارب ذلك- صلى ركعتين، وفي هذه الحال يسمون هذه صلاة الإشراق، ولكن قد تكفيه عن صلاة الضحى، والأفضل أن يصلي الضحى وقت اشتداد الشمس، كما ورد في الحديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) ، فصلاة الضحى الأفضل فيها أن تكون في وسط الضحى عندما تبتدئ الشمس بشدة الحرارة، وحين ترمض الفصال، والفصال: أولاد الإبل الصغيرة، إذا اشتدت الشمس رمضت وصارت تستظل أو تألف الظل أو نحو لك، فذلك الوقت هو الذي تكون فيه صلاة الأوابين.
الصلاة على النبي عند سماع قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في الصلاة
الصلاة على النبي عند سماع قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في الصلاة Q هل يجوز قول الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى في الصلاة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ؟ A عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعه المستمع من قارئ أو نحوه فإنه يتأكد الصلاة عليه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليّ) ، فإذا سمعنا ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم امتثلنا أمر الله، فنقول: عليه الصلاة والسلام، أو صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك. مداخلة: إذا كان المصلي سمع الآية والإمام يقرأ بها؟ الشيخ: أما في نفس الصلاة فإنه يقول ذلك بقلبه ولا ينطق؛ وذلك لأنه مأمور بأن يكون منصتاً في نفس الصلاة، فإذا سمع ذكر الله ذكر بقلبه، وإذا سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه بقلبه دون أن ينطق بذلك؛ لأنه مأمور بالإنصات والاستماع.
الموضع الذي ينظر إليه المصلي في جلوسه
الموضع الذي ينظر إليه المصلي في جلوسه Q عند التشهد هل يكون بصر المصلي إلى موضع السجود أو ينظر إلى السبابة عند الإشارة للتوحيد؟ A في حالة جلوسه بين السجدتين أو جلوسه للتشهد ينظر إلى سبابته أو ينظر إلى يديه، وأما في حالة قيامه فينظر إلى موضع سجوده؛ وكل ذلك لأجل أن لا يتشتت عليه فكره، ولئلا ترد عليه الأوهام والوساوس في صلاته.
حكم الذكر للمأموم عند سماع آيات الرجاء وآيات الوعيد
حكم الذكر للمأموم عند سماع آيات الرجاء وآيات الوعيد Q إذا وردت آية وعيد في قراءة الإمام في صلاة الفريضة أو النافلة، هل يتعوذ المصلي، وكذلك في آية الرجاء؟ A في صلاة النفل لا بأس إذا سمع ذكر الجنة أن يسألها، وإذا سمع ذكر النار أن يتعوذ منها، أما في صلاة الفرض فإنه يواصل القراءة، أو يواصل الإنصات. وورد في صلاة النفل: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله من فضله، وإذا قرأ آية عذاب وقف وتعوذ) فيدل على أن ذلك جائز بالنسبة إلى الإمام. أما بالنسبة للمأمومين فبعضهم يجيز ذلك، ويقول: ما دام يجوز للإمام القارئ فيجوز للمأمومين المستمعين. والبعض الآخر -وهم الأكثرون- قالوا: وظيفة المأمومين الاستماع والإنصات: {إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] فيستعيذون بالقلب، ويسألون الله تعالى بالقلب. أما إذا كنت خارج الصلاة سواء أكنت قارئاً أو مستمعاً فإن ذلك مندوب؛ لما فيه من طلب الخير والاستعاذة من الشر.
حال حديث: (تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها)
حال حديث: (تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها) Q ما هي درجة حديث: (تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها) ؟ A في ذلك أحاديث، والحديث في مرتبة الحسن، يعني: فضل تكبيرة الإحرام أنها خير من الدنيا وما فيها، وإن كان ذلك -أيضاً- ورد في سنة الفجر: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، فتكبيرة الإحرام ورد في شهودها فضل، وقد كان السلف يحرصون على ألا تفوتهم تكبيرة الإحرام، وذلك دليل على أنهم عرفوا أهميتها وفضيلتها.
الاكتفاء بالاستعاذة في الركعة الأولى بعد دعاء الاستفتاح
الاكتفاء بالاستعاذة في الركعة الأولى بعد دعاء الاستفتاح Q هل الاستعاذة والبسملة تتكرر في كل ركعة أم ذكرهما في أول الركعة الأولى يكفي عن ذكرهما في باقي الركعات؟ A يكفي ذكرهما في الركعة الأولى، فبعد الاستفتاح يستعيذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة، ولا يعيد في الركعة الثانية غير البسملة، ولا يعيد فيها الاستفتاح، ولا الاستعاذة؛ وذلك لأن الله أمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن فيكفيه أن يستعيذ مرة واحدة، ثم بعد ذلك لو سكت قليلاً ثم أراد أن يعود للقراءة لم يحتج إلى إعادة الاستعاذة.
أحكام السفر لا يعمل بها إلا بعد مفارقة العمران
أحكام السفر لا يعمل بها إلا بعد مفارقة العمران Q إذا أراد رجل السفر إلى بعض البلاد وأذن المغرب وهو لا زال في بلده، فهل يصلي المغرب والعشاء جمعاً قبل خروجه من البلد؟ A الصحيح أنه ليس له حكم السفر ولا حكم المسافر حتى يفارق البيوت العامرة، فإذا جدّ به السير، وخرج من حدود البلد ولو بقي بعض البيوت الخارجة غير مسكونة، ففي تلك الحال يجوز له القصر والجمع، أما ما دام أنه في داخل البلد، أو فيما يلحق بالبلد كمطار الرياض -فهو متصل بالرياض، وفيه سكان من أهل الرياض، فله حكم البلد- فليس له أن يجمع فيه؛ لأنه بذلك يكون قد قدم صلاة قبل أن يدخل وقتها، كما أنه ليس له أن يقصر قبل أن يفارق عامر القرية ونحوها. فإذا دخل عليه الوقت ثم أخر الفريضة حتى خرج من البلد، فالراجح عند العلماء أنه يلزمه الإتيان بالفريضة تامة. مثال ذلك: إذا ركبت سيارتك مسافراً إلى مكة، وأذن الظهر وأنت في وسط البلد لم تفارقه، وإنما قطعت مثلا عشرة كيلومترات، أو عشرين، ولكن لم تزل البيوت عن يمينك ويسارك وأمامك، فواصلت السير، وبعد أن خرجت من البلد وسرت -مثلاً- مائة كيلو متر أو مائتين وقفت وصليت الظهر والعصر فصل الظهر أربعاً؛ لأنها وجبت عليك وأنت في البلد، فوجوبها يلزمك أن تؤديها أربعاً، وصل العصر ركعتين، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين) . فقوله: (بالمدينة) الظاهر أنه إما في مسجده، وإما بعدما خرج من مسجده؛ وذلك لأن بين مسجده وبين ذي الحليفة ستة أميال، وهذه المسافة لا تقطع على الإبل إلا في زمن طويل، فيظهر أنه صلاها إما في المسجد ثم ركب في حينه، أو بعدما سار قليلاً. الحاصل أنه لا يبدأ العمل بأحكام السفر حتى يفارق البلد.
جواز الاكتفاء بالتيمم لرفع الحدث الأكبر عند خشية الضرر
جواز الاكتفاء بالتيمم لرفع الحدث الأكبر عند خشية الضرر Q إذا وجب على الإنسان غسل وكان الجو بارداً ولم يستطع الغسل لشدة البرد، فهل يجوز له التيمم والصلاة في هذه الحالة؟ A يجوز إذا كان في سفر والماء بارداً وليس عنده ما يستدفئ به؛ لقصة عمرو بن العاص حين كان أميراً على سرية ذات السلاسل، يقول: فاحتلمت في ليلة شديدة البرد، وخفت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بقومي، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: (أصليت بهم وأنت جنب) فقلت: سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك وأقره، ففي مثل تلك الحال له ذلك، أما في البلد فلا يجوز؛ وذلك لأنه يتمكن من تسخين الماء، لوجود أدوات يسخن بها الماء كالحطب مثلاً في بعض البلاد، أو آلات الوقود الحديثة (البوتغاز) وما أشبهه، أو السخانات الكهربائية التي توجد في بعض المساجد وفي بعض البيوت، أو ما أشبه ذلك، هذه بلا شك من الأسباب التي تمكنه من أن يسخن الماء حتى يصلي بطهارة كاملة، ولو فاتته صلاة الجماعة بسبب تأخره في الاغتسال أو نحو ذلك، حتى قال بعضهم: لو استيقظ ولم يبق على طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي فيه ركعتين بدون طهارة -اغتسال- فإن اللازم في حقه أن يغتسل؛ وذلك لأن وقته وقت الانتباه والاستيقاظ. ولو احتاج أيضاً إلى الاشتغال بتدفئة الماء وتسخينه، فليس له عذر في أن يصلي وهو جنب، وإذا كان ضيفاً عند قوم أو نحو ذلك فلا يستحي أن يطلب ما يسخن له ماء إذا لم يكن في البيت سخانات ونحوها، أو كان في قرية لم تصلها الكهرباء فيطلب منهم تسخين ذلك على الغاز أو على الحطب أو ما أشبه ذلك. فالحاصل أنه ليس له عذر في أن يصلي وهو جنب.
حكم من صلى قبل دخول الوقت بوقت يسير دون أن يعلم
حكم من صلى قبل دخول الوقت بوقت يسير دون أن يعلم Q ما حكم الصلاة قبل دخول الوقت بدقيقة واحدة إذا لم يعلم المصلي؟ A إذا لم يعلم فيعفى عنه، ولكن عليه أن يحتاط فلا يكبر إلا بعدما يتأكد من دخول الوقت، فالمعلوم أنه إذا تأكد أنه أحرم بالصلاة قبل دخول وقتها، كأن يكبر قبل غروب الشمس ولو بدقيقة، أو قبل طلوع الفجر الصادق ولو بدقيقة لم تصح، ولكن إذا لم يعلم يعفى عن ذلك إن شاء الله. والأصل أن يتأكد من هذه الثلاثة الأوقات: فالظهر يدخل بزوال الشمس وهو ارتفاع الظل بالزيادة، فمن أحرم قبل أن تزول الشمس ولو بدقيقة لم تنعقد، والمغرب يدخل بغروب الشمس، فمن أحرم بها قبل أن تغرب الشمس، ولو بقي من قرصها جزء يرى بالعين، يعني: يراه هو أو من هو في منزلته، وإن رآه الذين أمامه في البلاد الأخرى أو رآه مثلاً أهل الطائرة ونحو ذلك فلا يضره، إنما الذي في البلد إذا أحرم قبل أن تغرب الشمس لم تنعقد، أو أحرم قبل أن يطلع الفجر لم تنعقد.
الاقتصار على الإتيان بدعاء الاستفتاح في الركعة الأولى
الاقتصار على الإتيان بدعاء الاستفتاح في الركعة الأولى Q هل يشرع دعاء الاستفتاح في غير الركعة الأولى؟ A لا، إنما هو في الركعة الأولى وهو قول: (اللهم باعد بيني وبين خطايا) إلى آخره، أو قول: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره، يؤتى به بعد التكبيرة الأولى، وهي تكبيرة الإحرام، وأما في الركعات الثانية والثالثة إلى آخره فلا يؤتى به.
وقت قضاء الوتر وصفته
وقت قضاء الوتر وصفته Q إذا نام الرجل عن صلاة الوتر، ولم يستيقظ إلا بعد أذان الفجر فمتى يقضيها؟ A روي عن بعض السلف أنهم كانوا يصلون ركعة خفيفة أثناء الأذن أو بعد الأذان بدقيقة أو نحو ذلك، أما إذا تأخر فإن الأولى أن يقضيها في الضحى، ولكن بما أن وقتها قد فات فيقضيها شفعاً، فإذا كان وتره ركعة صلى ركعتين، وإذا كان وتره ثلاثاً جعلها أربعاً وهكذا، فيكون ذلك قضاء، كما ثبت عن عائشة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا كسل أو مرض أو تعب صلى من الضحى ثنتي عشرة ركعة) .
وقت إدراك فضل تكبيرة الإحرام
وقت إدراك فضل تكبيرة الإحرام Q متى يدرك فضل تكبيرة الإحرام ومتى يفوت ذلك؟ A فيها أقوال، ولكن الصحيح من الأقوال أنها ما بين التكبيرة إلى القراءة، فإذا كبرت قبل أن يبدأ الإمام في قراءة الفاتحة في الجهرية مثلاً، أو في قدرها، فقد أدركت تكبيرة الإحرام. وأما إذا كنت مشتغلاً بإكمال النافلة، أو أنك في الصف ولكن شغلك شيء عن التحريمة، فلعلك إن شاء الله تكون مدركاً لها ولو بعد القراءة.
حكم من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام إلا أنه تشاغل حتى ركع الإمام
حكم من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام إلا أنه تشاغل حتى ركع الإمام Q مأموم أدرك مع إمامه تكبيرة الإحرام، ولكنه تشاغل حتى كاد الإمام أن يركع فما حكم صلاته لا سيما وأنه لم يقرأ الفاتحة في الركعة الأولى بسبب عبثه وتباطئه عن الدخول في الصلاة مع إمامه؟ A بكل حال صلاته منعقدة، فما دام أنه أدرك الركوع واطمأن فيه فركعته تامة؛ لأن من أدرك الركوع عدّ مدركاً للركعة لكونه أدرك معظم الصلاة، ولكن الأولى أنه ساعة ما يدخل يكبر، ولا يشتغل بشيء عن الصلاة، فإذا وصل إلى الصف صف فيه وكبر واشتغل بالاستفتاح، وبقراءة الفاتحة وما بعدها إلى أن يركع إمامه، فإن جاء والإمام قريب الركوع كبر، فإذا ركع إمامه كبر معه وركع ولو لم يقرأ الفاتحة وتعد له الركعة كاملة إن شاء الله. فينهى من يفعل ذلك عن هذا التلهي وعن هذا العبث ويقال: إنك سببت بطلان صلاتك عند بعض الأئمة، وسببت أيضاً فوات الأجر الكثير حيث إنك تشاغلت بما لا أهمية له عما هو مهم. مداخلة: وإذا كان دخل مع الإمام ولكنه لم يقرأ الفاتحة؟ الشيخ: نقول: تجزيه ما دام أنه أدرك الركوع حتى ولو فاتته الفاتحة. مداخلة: ولو كان في غير الأولى. الشيخ: على كل حال عند الجمهور أنه إذا أدرك الركوع أدرك الركعة ولو لم يقرأ الفاتحة فيتحملها إمامه عنه.
عدم اشتراط ملاصقة الأقدام بين الرجل وجاره في الصلاة
عدم اشتراط ملاصقة الأقدام بين الرجل وجاره في الصلاة Q هل يلزم من التحاذي بالأقدام ما يفعله البعض من وضعه لرجله على رجل جاره في الصف، أو إلصاقه رجله برجل جاره بما يشغله به عن الصلاة، ومثل هذا نراه كثيراً، وفيه صرف لاهتمام من حرص على ذلك عن الصلاة، نرجو التوجيه؟ A تكلمنا عليه قريباً، وذكرنا أن الحديث الوارد في ذلك عن النعمان قوله: (حتى رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه) ، أن العلماء قالوا: المراد بذلك المبالغة في القرب وإن لم يحصل مماسة ولا إلصاق. وقلنا: إن في هذا الإلصاق ضرراً؛ وذلك لأنه يلزم منه التفريق بين قدميه حتى يجعل بين قدميه ذراعاً أو أكثر، يعني: إذا فرق بينهما حتى يلصق قدمه بقدم الآخر وقعت الفرجة بين قدميه، فيكون بذلك قد سبب وجود فرجة بينه وبينه، فيكون عمل بسنة وترك سنة، وهي سنة المقاربة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية: ما ذكره السائل وهو أن ذلك يكون شاغلاً لباله، وقد يجلب له شيئاً من الاهتمام لهذا الأمر أو نحو ذلك، وبعض الناس قد لا يطمئن بأن يمسه أحد، أو يكون معه شيء من الحساسية والشعور بالألم حين يمس جلده أحدٌ، لذلك نقول: تكفي المقاربة وإن لم تكن هناك مماسة.
حكم إخراج الصبي من الصف الأول والقيام في مكانه
حكم إخراج الصبي من الصف الأول والقيام في مكانه Q هل يحق للكبير أن يخرج الصبي من الصف الأول خلف الإمام ويقوم مكانه، أو كان ذلك المتقدم غير فاضل والقادم أفضل منه، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A بكل حال من سبق من المكلفين فهو أحق، ولكن إذا كان الصبي دون التمييز -دون السبع- فتأخيره إلى الصفوف المتأخرة أولى حتى لا يشغل مكان المكلفين. أما إذا كان مميزاً -يعني: قد عقل ببلوغه السابعة وما فوقها وصار يفهم- وكان ممن يؤمن عبثه فلا بأس أن يترك، ولكن مع ذلك فالأولى أن يؤخر إلى أطراف الصف أو إلى الصفوف المتأخرة؛ لأن الصبي حتى ولو كان ابن عشر يحصل منه شيء من الحركة والاضطراب في الصلاة فيشوش على من بجانبه. وكذلك إذا جعل أمثاله في أطراف الصفوف قل تشويشهم إن شاء الله.
مشروعية المساواة بين ميامن الصفوف وشمائلها وتوسيط الإمام
مشروعية المساواة بين ميامن الصفوف وشمائلها وتوسيط الإمام Q ما هو الأولى والأفضل للمأموم أن يقف في يمين الصف ولو كان بعيداً من الإمام، أم القرب من الإمام ولو كان عن شماله، خاصة إذا كان العدد في شمال الصف قليلاً بحيث يكون الإمام غير متوسط؟ وهل للإمام أن يأمر من عن يمين الصف أن ينصرف إلى شماله ليعتدل الصف، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A ذكرنا هذا أيضاً قريباً وقلنا: ورد الأمر بتوسيط الإمام (وسطوا إمامكم) أي: اجعلوا الإمام في الوسط، وفي المساجد تجعل المحاريب في الوسط بحيث يكون طول الصف من اليمين مساوياً لطوله من الشمال، بحيث لا يزيد هذا على هذا، لكن بالنسبة إلى الصافين إذا كانوا أقل من صف، فنرى أن القرب من الإمام أولى من البعد. وذكرنا مثالاً لما سبق فقلنا: من كان بينه وبين الإمام عشرة وهو عن يسار الإمام، أفضل مما إذا كان بينه وبين الإمام عشرون وهو عن يمينه، فإنه يمتاز بالقرب وإن كان الآخر يمتاز باليمين، فالقرب له مزية وله أهمية. فنحن نقول: إن القرب من الإمام له أهميته، وعلى الإمام أن يحرص على استواء طرفي الصف، فإذا كان الذي عن اليمين أطول بعشرة مثلاً أو بالنصف فله أن يأمر بعضهم أن يذهبوا إلى اليسار حتى يستوي الصف ويخبرهم بأن القرب من الإمام له أهميته.
حكم إنشاء صف جديد قبل تمام الصف الأول
حكم إنشاء صف جديد قبل تمام الصف الأول Q إذا أنشأ المصلون صفاً جديداً قبل أن يكتمل الصف الأول فهل يأثمون؟ A نعم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف) في صفة صف الملائكة، فيأثمون لعدم امتثالهم لهذا، وقد ورد الأمر بأن تكون الصفوف تامة، وأن يكون النقص في الصف الأخير.
حكم صلاة من غيروا إمامهم أثناء الصلاة
حكم صلاة من غيروا إمامهم أثناء الصلاة Q صلى رجل بآخر صلاة رباعية فلما صليا أول ركعة جاء رجل آخر وهم في الركعة الثانية فقدم المأموم فأصبح إماماً وأتم الصلاة فما حكم هذه الصلاة؟ A لا تجوز، إذ كان الواجب أن يؤخر المأموم وأن يتقدم الإمام إذا كانا إلى جانب بعضهما البعض، وهذا الذي دخل وهما يصليان له أن يصف إلى جانبهما يعني: معلوم أن الإمام هو الأيمن، والذي جاء يجوز أن يصف إلى جانب الإمام، فيكون الإمام في الوسط، وله أن يصف إلى جانب المأموم، ويكون الإمام هو الأيسر يعني: يجعلهم كلهم عن يمنيه، ولو صفوا وصلوا كذلك أجزأتهم صلاتهم. فأما وقد كانوا إماماً ومأموماً، ولما دخل هذا الثالث أخر الإمام وقدم المأموم وجعل المأموم إماماً انقلبت النية وتغيرت، يعني: قد كان مأموماً ثم قلب نفسه إماماً، فهذا أرى أنه لا يصح. ولو أن بعض الأئمة أجازه واستدل بقصة أبي بكر لما عاد مأموماً، فنقول: ليس في تلك القصة أنه كان مأموماً ثم عاد إماماً، بل إن أبا بكر كان إماماً لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضر تأخر أبو بكر وصف في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصار هو الإمام، وعلى هذا فنرى لهؤلاء الذين قدموا المأموم أن يعيدوا صلاتهم.
تسوية الصفوف للصلاة تلزم الإمام والمصلين
تسوية الصفوف للصلاة تلزم الإمام والمصلين Q بالنسبة لتسوية الصفوف هل هي من شئون الإمام أو المأموم والإمام على حد سواء، وإذا رأى المأموم أن الصفوف لم تستو هل يلزمه تسويتها أو يأثم؟ A المأمومون كلهم مخاطبون بذلك، إذا سمعوا الإمام يأمرهم بقوله: استووا أو استقيموا أو أقيموا صفوفكم، أو سووا صفوفكم كما في الأحاديث، فإنهم ينظرون في بعضهم، وكل منهم يحاذي الآخر وينتبه، ولابد أن يكون لكلام الإمام وقع في نفوس المأمومين، فالإمام عليه أن يلتفت عن يمينه ويساره، وعليه أن يحاذي الصف الأول، أما الصفوف التي خلفه فإذا سمعوا اكتفوا بذلك، ولكن بعضهم أيضاً عليه مسئولية، أنت مثلاً إذا كنت في الصف الثاني ورأيت فيه اعووجاجاً أو اختلالاً أو تقدماً أو تأخراً، فإن عليك أن تنبه الذي تراه بالإشارة أو بكلمة خفية أو نحو ذلك، حتى لا يكون هناك تشويش وحتى تستوي الصفوف، فكل منا عليه مسئولية، الإمام يسوي ما يراه، والمأمومون ينتبهون لذلك ويسوون ما يرونه من الاختلال.
حكم قيام أحد المأمومين عن يمين الإمام
حكم قيام أحد المأمومين عن يمين الإمام Q هل يصح الصف بجانب الإمام عن اليمين إذا كان المصلى صغيراً وقد امتلأ بالمصلين؟ وما الدليل على ذلك؟ A نعم يصح أن يصف إلى جانبه صف كامل إذا ضاق المسجد، بل ويصح أن يكون هو في وسط صف، بحيث يصفون عن يمينه وعن يساره ويكون هو في وسط الصف الأول، ودليله ما ثبت عن ابن مسعود أنه صلى بين يدي اثنين من أصحابه علقمة والأسود وصار هو في الوسط وهما على جانبيه. فصلاته في وسطهما دليل على أنه جائز أن يتوسط الإمام الصف، مع أن في إمكانه أن يتقدم ويتأخر من بجانبه لأنهما رجلان، وفي إمكانه أن يكون هو الأيسر، وهما عن يمينه، ومع ذلك جعلهما عن يمينه ويساره، فدل على أنه يجوز للإمام إذا ضاق المسجد أن يصف المأمومون عن يساره وعن يمينه، ويقوم هو في وسطهم، ولا إثم عليه في ذلك إن شاء الله. وبطريق أولى إذا صفوا كلهم عن يمينه؛ ذلك لكونه محلاً للصف، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام قام مرة يصلي، فجاء جابر بن عبد الله فصف عن يساره، فأداره عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فصف عن يساره فدفعهما خلفه، فدل على أن هذا هو موقف الإمام إذا كان معه اثنان فأكثر.
كيفية الجمع بين الأحاديث الدالة على الإطالة في الصلاة والأحاديث الدالة على التخفيف
كيفية الجمع بين الأحاديث الدالة على الإطالة في الصلاة والأحاديث الدالة على التخفيف Q كيف نجمع بين الأحاديث الدالة على طول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث الدالة على خفة صلاته صلى الله عليه وسلم؟ A يجمع بينها بأن يقال: إن الأمر نسبي فطول صلاته بالنسبة للذين يخففون، وتخفيف صلاته بالنسبة إلى أناس يطيلون، فمثلاً: اشتهر أن معاذاً رضي الله عنه كان يطيل، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما نوع إطالته؟ استفتح مرة سورة البقرة ليكملها في صلاة العشاء، وكان كذلك يقرأ سوراً طويلة في صلاة الصبح، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الإطالة، وقال: (إن منكم منفرين) ، فالإطالة التي أنكروها وقالوا: إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خفيفة في قول بعضهم: (ما رأيت أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام) ، فالمراد بها بالنسبة إلى من يقرأ بأمثال سورة البقرة أو آل عمران ونحو ذلك في صلاة الفريضة، والتخفيف الذي يريدونه بالنسبة إلى من لا يطمئن، يعني: إن صلاته طويلة بالنسبة إلى من يخفف، وصلاته خفيفة بالنسبة إلى من يطيل الإطالة الزائدة. فعلى هذا لا يكون هناك اختلاف. وقد ورد في صلاة الظهر أنه كان يقرأ فيها بنحو ثلاثين آية، وورد أيضاً: (أنه كان يكبر في صلاة الظهر فيذهب أحدهم إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى بيته فيتوضأ، ثم يأتي إلى المسجد فيجدهم بالركعة الأولى مما يطيل بهم) ، وهذا في حديث جابر الذي في صحيح مسلم، فكان يتعمد مثل هذه الإطالة حتى يدركوا الركعة الأولى، أو حتى يقضوا حوائجهم ونحو ذلك. ثم قد يخفف أحياناً، فثبت أنه عليه السلام كان يقول: (إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف؛ كراهة أن أشق على أمه) ، فهو يخفف أحياناً إذا عرض عارض، يعني: قد يكون قاصداً للإطالة أكثر ثم يعرض له ما يسبب تخفيفه. فالحاصل: أن الإطالة والتخفيف يعتبر نسبياً.
ما يشرع في حق من يؤم الناس في أسواقهم
ما يشرع في حق من يؤم الناس في أسواقهم Q أنا إمام مسجد أسواق تجارية، وإذا أطلنا عليهم في القراءة أو الركوع أو السجود تضايقوا وغضبوا؛ لانشغالهم بالدنيا، هل أطيل عليهم في الصلاة أم أخففها؟ A الزم الوسط، فلا تخففها تخفيفاً زائداً بحيث لا تطمئن فيها، ولا تطل عليهم إطالة منفرة، بل صلاة متوسطة، قد تكون أخف من غيرهم حيث إنهم منشغلون وقلوبهم متعلقة بأسواقهم وبدنياهم، فتخفف تخفيفاً يناسبهم، ولكن لا تخفف التخفيف الزائد الذي يسبب عدم الاطمئنان في الصلاة.
حكم متابعة المأموم للتسبيح في السجود بعد سماعه تكبيرة الإمام للقيام
حكم متابعة المأموم للتسبيح في السجود بعد سماعه تكبيرة الإمام للقيام Q إذا قام المصلي من السجود إلى الركعة الثانية، دون أن يكمل دعاء السجود، فهل يجوز له أن يكمل دعاء السجود، أو يبدأ بقراءة الفاتحة وهو لم يستقم ظهره؟ A إذا كان إماماً فمعلوم أنه ينهض بعد التسبيح ويقوم، والمأموم إذا سمعه فعليه أن يتابعه، ولا يتأخر إذا كان قد أتى بالواجب. وقد أجاز بعضهم أن يأتي بالتسبيحات الثلاث، ولو في حالة رفع إمامه؛ لأنه يتأخر بعد الإمام حتى ينتصب الإمام ويستقيم، ففي حالة ارتفاع إمامك وأنت ساجد بإمكانك أن تقول: سبحان ربي الأعلى مرتين قبل أن يصل إلى القيام، فلا بأس بأن تأتي بذكر بعدما يقوم، فإذا استتم قائماً فإن عليك أن تتبعه، ومتابعة الإمام هي أنه إذا انتهى من التسبيح، ثم كبر وانقطع صوته، تحرك المأموم بعده متابعاً له.
حكم اتخاذ السترة للمنفرد
حكم اتخاذ السترة للمنفرد Q ما حكم وضع السترة للمنفرد؟ A إذا كان يخشى أن يمر أحد بين يديه صلى إلى سارية مثلاً أو إلى شيء شاخص، وإذا كان في المسجد ولم يخش أحداً، أو كان أمامه الصفوف أو نحو ذلك اكتفى بذلك إن شاء الله.
حكم رفع اليدين في الدعاء وصفته
حكم رفع اليدين في الدعاء وصفته Q هل يشرع رفع اليدين عند كل دعاء، وما هي مواضع رفع اليدين في الدعاء؟ A يشرع رفع اليدين عند كل دعاء، فإن رفع اليدين من مظنة استجابته، أو من أسباب إجابة الدعاء أياً كان ذلك الدعاء الذي هو سؤال وطلب، فإذا دعا الإنسان ربه سؤالاً لمغفرة أو لرحمة أو لجنة أو لنجاة من عذاب أو نحو ذلك، شرع له أن يرفع يديه؛ لأن ذلك يدل على ابتهاله وعلى استجدائه وطلبه من ربه أن يغفر له، وأن يعطيه ما طلبه، فهذا الدعاء مع رفع اليدين مظنة الإجابة، وقد ورد في ذلك حديث سلمان المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني خاليتين. موضعه أن يرفعهما إلى الصدر، أو إلى محاذاة الوجه، أو أنزل من الوجه قليلاً، ويجمع يديه كأنه يسأل، ويجعل بطونهما إلى السماء كأنه يطلب من ربه أن يعطيه فيهما خيراً.
حكم رفع اليدين للدعاء بعد النافلة وبين الأذان والإقامة، وحكم مسح الوجه بعد الدعاء
حكم رفع اليدين للدعاء بعد النافلة وبين الأذان والإقامة، وحكم مسح الوجه بعد الدعاء Q هل يشرع رفع يديه عند الدعاء بعد الانتهاء من صلاة نفل، أو بين الأذان والإقامة، وما حكم مسح الوجه بعد الدعاء. A كلما أراد الإنسان أن يدعو فإنه يشرع له رفع اليدين، وبعد النوافل مظنة إجابة الدعاء فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يدعو صلى ركعتين ليكون ذلك وسيلة، وأمر في صلاة الاستخارة بالدعاء بعدها، فإذا أردت أن تستخير الله تعالى، فإنك تصلي ركعتين ثم تدعو، وهذا دليل على أن الصلاة تعتبر وسيلة لإجابة الدعاء، فإذا صليت نافلة، أو صلاة ذات سبب، أو نحو ذلك ورفعت يديك ودعوت الله بعدهما رجي بذلك استجابة هذا الدعاء، هذا هو الأفضل. أما مسألة مسح الوجه فقد ورد فيها أحاديث لا تخلو من مقال، وإن كان مجموعها حسناً، فقد حسنها الحافظ ابن حجر، بمجموعها لا بأفرادها، يقول الحافظ رحمه الله: إنها تبلغ درجة الحسن كما نبه على ذلك في آخر بلوغ المرام، لكن ورد العمل بها عن الصحابة وعن الأئمة وعن التابعين وعلماء الأمة، فورد أنهم كانوا يرفعون أيديهم ثم يمسحون بها وجوههم، فأصبح العمل بها من الصحابة دليل على أنهم تأكدوا من مشروعية ذلك، وذكروا الحكمة في ذلك، وهو أنها إذا اشتملت على خير فإن الأولى بهذا الخير هو وجه الإنسان رجاء أن تظهر آثار هذا الخير على وجهه يوم تبيض وجوه.
الإتيان بدعاء الاستخارة بعد التسليمتين
الإتيان بدعاء الاستخارة بعد التسليمتين Q إذا صلى الإنسان صلاة الاستخارة، فهل يدعو بدعاء الاستخارة قبل التسليمتين أم بعدهما؟ A الاستخارة بعد السلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (يصلي ركعتين ثم يدعو) ، وهذا دليل على أن الدعاء متعقب للركعتين.
حكم الاكتفاء بالخط واتخاذه سترة في الصلاة، وما يلزم المار بين يدي المصلي
حكم الاكتفاء بالخط واتخاذه سترة في الصلاة، وما يلزم المار بين يدي المصلي Q هل يعد الخط سترة أم لا، علماً بأنه يوجد أشياء يمكن أن يجعلها المصلي سترة له؟ A ورد فيه حديث جاء فيه: (ومن لم يجد فليخط خطاً) ، وإن كان الحديث فيه مقال، يعني: لم يكن مشتهراً، ولم يكن صحيحاً كأحاديث الصحيح، ولكن مع ذلك عمل به الأئمة، فإذا لم يجد عصاً يعرضها، أو نعلاً ينصبه، أو شيئاً شاخصاً كسارية أو جدار، فإنه يخط خطاً إذا كان -مثلاً- في صحراء أو ما أشبه ذلك ويكفيه ذلك حيث إنه يقصر نظره على طرف الخط ولا يتجاوزه، ولا يجوز لأحد أن يمر بينه وبين ذلك الخط، وإذا كان في المسجد والمسجد ليس فيه تراب حتى يظهر فيه الخط، فإنه والحال هذه لا يجوز أن يمر بينه وبين موضع سجوده، فيلزم المار أن ينظر إلى موضع جبهته ثم يمر وراءه، ولا يمر بين يديه، يعني: بين رجليه وبين موضع جبهته. ومن مر بين يديه في تلك الحال فإنه يأثم. مداخلة: إذا لم تكن هناك سترة فهل هناك مسافة مقدرة ترفع هذا الإثم إذا مر الرجل؟ الشيخ: نعم. هو ما ذكرنا من أنه يجعل بينه وبين رجلي المصلي ثلاثة أذرع، ويمر وراءها، والذراع مقدر بنصف متر أو أكثر قليلاً، هذا إذا لم يكن له سترة، كذلك يمكن أن يقدر المار بينه وبين موضع جبهة المصلي نحو ممر الشاة، فقد ثبت أنه عليه السلام كان يجعل بين جبهته وبين سترته مثل ممر الشاة، وممر الشاة قد يصل إلى (40 سم) أو ما يقاربها، ودل هذا على أنه يكون بين رجليه وبين سترته مقدار ثلاثة أذرع أو ما يقاربها.
ما يلزم المؤذن إذا نسي التثويب في أذان الفجر
ما يلزم المؤذن إذا نسي التثويب في أذان الفجر Q إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خيرٌ من النوم) في أذان الفجر، فهل يعيد الأذان؟ A إن تذكر قريباً أتى بعبارة التثويب التي هي (الصلاة خير من النوم) ، وإذا لم يذكر إلا بعدما قد طال الوقت سقطت؛ لأنها من السنن، ولا يعيد لأجلها الأذان كله.
حكم المرور بين يدي المصلي إذا صلى في موضع مرور الناس في العادة
حكم المرور بين يدي المصلي إذا صلى في موضع مرور الناس في العادة Q ما الحكم إذا صلى إنسان في مكان مرور الناس كما لو صلى قرب الباب؟ A المرء مأمورٌ بأن يصلي في المكان المناسب لذلك، ولا يصلي في المكان الذي هو مفترق يمر الناس فيه كثيراً فيضايقهم ويحجزهم، أو يؤثمهم بأن يمروا بين يديه، ولكن إذا فعل ذلك ومروا بين يديه، فهو ملوم على كل حال، وهم ملومون أيضاً، والحكم أن الإنسان إذا رأى من يصلي توقف وانتظره أن يتم صلاته، ولو حجزه ذلك مدة، وقد يحدث مثل هذا فيما إذا كان الإنسان مسبوقاً. فإذا قام المسبوق ليصلي ما فاته بعدما يسلم الإمام، يقوم كثير من الناس من أوساط الصفوف ويخرقون الصفوف ويمرون بين يدي المصلين الذين يتمون صلاتهم فيقعون في بعض الإثم. فنقول: عليكم أن تتأنوا قليلاً حتى يصلي إخوانكم ويكملوا صلاتهم، اصبروا دقيقة أو نحوها حتى ينهوا صلاتهم بحيث لا تأثمون ولا تفسدون عليهم صلاتهم أو تنقصوها.
الاكتفاء بالنافلة عن تحية المسجد
الاكتفاء بالنافلة عن تحية المسجد Q إذا دخل الرجل مسجداً بقصد صلاة الضحى، فهل يجب عليه أن يصلي تحية المسجد ثم يصلي صلاة الضحى، وكذلك سنة الفجر؟ A تحية المسجد يكفي أن يصلي ركعتين، فإذا دخل وصلاة الظهر -مثلاً- قد أقيمت كفاه أن يصلي الظهر وتكون تحية للمسجد، وإذا دخل والفجر قد أقيمت اكتفى بالفريضة عن تحية المسجد، وإذا كان للصلاة سنة قبلها كسنة الظهر، وسنة الفجر فصلى ركعتين ينويهما سنة الفجر أو سنة الظهر، اكتفى بهما عن تحية المسجد. وكذلك إذا دخل لصلاة الضحى فيصلي ركعتي الضحى ويكتفي بهما عن تحية المسجد، وإذا دخل للتهجد في الليل أو صلى ركعتين مثلاً اكتفى بهما تهجداً وتحية للمسجد؛ وذلك لأنه حصل له جنس الصلاة.
تأخير الأذان لمن أراد الإبراد بالظهر أو تأخير العشاء إلى ثلث الليل
تأخير الأذان لمن أراد الإبراد بالظهر أو تأخير العشاء إلى ثلث الليل Q إذا أراد الجماعة الإبراد بالظهر في شدة الحر، فهل يؤذنون لها عند دخول وقتها أم يؤخرون الأذان؟ وما الحكم أيضاً عند تأخير صلاة العشاء في الأذان؟ A سمعنا: (أنه صلى الله عليه وسلم كلما أراد بلال أن يؤذن قال له: أبرد) فهذا يدل على أنهم لا يؤذنون إلا عندما يريدون القيام إلى الصلاة، فلا يؤذنون عند الزوال الذي هو وقت الظهر، بل يؤذنون إذا أرادوا أن يصلوا، أو قبل أن يقيموا الصلاة بربع ساعة ونحو ذلك، وكذلك لو تيسر لهم وأخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نحوه فإنهم يؤخرون الأذان إلى قرب إقامتهم للصلاة.
شرح عمدة الأحكام [22]
شرح عمدة الأحكام [22] الإسلام دين اليسر والسهولة، ومن ذلك أن الله رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين وقصر الرباعية، إلا أن كثيراً من الناس قد يسيئون استخدام هذه الرخص فيعملون بها في غير محلها، فلذلك كان من الواجب عليهم أن يتعلموا أحكام الجمع والقصر لكثرة الحاجة إليها.
الجمع بين الصلاتين في السفر
الجمع بين الصلاتين في السفر قال المؤلف رحمه الله: [باب الجمع بين الصلاتين في السفر: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء) . باب قصر الصلاة في السفر: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك) ] . هذا يتعلق برخص السفر: الجمع في السفر، والقصر في السفر.
تعريف السفر وذكر رخصه والحكمة منها
تعريف السفر وذكر رخصه والحكمة منها السفر هو: قطع المسافة التي بين البلاد والبلاد، ولَمَّا كان السفر مظنة المشقة وردت فيه الرخص، ورخص السفر أربع: - الفطر لأجل المشقة. - والقصر. - والجمع. - وزيادة توقيت المسح على الخفين. فهذه رخص السفر الأربع. وسبب ذلك: أن السفر مشقة وصعوبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم لذته وراحته، أو طعامه وشرابه، فإذا قضى نهمته فليتبع الفيئة) يعني: الرجوع. فلما كان قطعة من العذاب جاءت السنة بالترخيص فيه، فرخَّص الله تعالى في الإفطار فيه كما سيأتي في الصيام، وجعل سببه اليسر، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] . أي: رخَّص لكم ذلك لأجل اليسر والسهولة وصرف العسر والمشقة والصعوبات التي على العباد.
حكم الجمع للنازل
حكم الجمع للنازل وقد ترخَّص كثير من الناس وصاروا يجمعون وهم نازلون، وهذا لم يُنقل إلا في حديث لا يثبت، وإلا خاصاً لسبب من الأسباب، وروي حديثٌ لا بأس به (أنه صلى الله عليه وسلم جمع مرة وهو في تبوك، بين الظهرَين وبين العشاءين) أي: وهو نازل في تبوك؛ ولكن تلك المرة يمكن أن يكون له عذر، إما مرض وإما شغل أو نحو ذلك مما له سبب، أما بقية أيامه فإنه كان يقصر ويوقت، وأقام في تبوك عشرين يوماً، يصلي كل فرض في وقته؛ ولكنه كان يقصر. وأقام أيضاً في حجة الوداع في الأبطح قبل أن يذهب إلى منى أربعة أيام، يصلي كل صلاة في وقتها، وكذلك أقام في منى أربعة أيام، يصلي كل فرض في وقته، ولم يكن يجمع، إنما كان يقصر الرباعية ركعتين. وكذلك في غزوة الفتح أقام في مكة في الأبطح ستة عشر يوماً أو نحوها يقصر الصلاة؛ ولكنه لم يجمع، إنما يصلي كل صلاة في وقتها. فنقول: إذا كنتَ نازلاً في بلد، وأنت ممن يُباح له القصر فصلِّ كل وقت في وقته مع القصر، وأما الجمع فإنه -على الصحيح- يختص بمن هو جادٌّ به السير، لا يجمع إلا إذا كان بين البلدين، إذا سار -مثلاً- من الرياض إلى المدينة أو إلى تبوك أو إلى البلاد الخارجية كالشام أو مصر أو ما أشبه ذلك عن طريق البر، فإنه بحاجة إلى أن يجمع ما دام في الطريق. إذا عرف -مثلاً- أن الوقوف يتكرر ويقطع عليه وقتاً، فإذا زالت الشمس وقف وصلى الظهر والعصر، ثم واصل سيره إلى أن تغرب الشمس، فينزل فيصلي المغرب والعشاء، ثم يواصل سيره إلى أن يأتي الوقت الذي ينام فيه أو يقف فيه، وهكذا. أو إذا زالت الشمس واصل السير إلى أن ينزل لصلاة العصر في الساعة الرابعة أو الثانية والنصف أو ما أشبه ذلك، ثم يصلي هناك الظهر والعصر، أو إذا غربت الشمس وهو سائر واصل السير حتى ينزل في الساعة التاسعة أو العاشرة، ثم إذا نزل صلى المغرب والعشاء في ذلك الوقت نزولاً واحداً وصلى جمعاً واحداً. أما إذا كان نازلاً فإنه يوقت، إذا كان مسافراً -مثلاً- إلى بلدة في داخل المملكة أو في خارجها ووصل -مثلاً- إلى تبوك أو إلى نجران أو إلى جيزان -مثلاً- وهو مسافر؛ ولكنه سيقيم يومين أو ثلاثة أيام أو مدة، فله أن يقصر الرباعية ويصليها ركعتين، وليس له أن يجمع بين صلاتين لكونه ليس على ظهر سير.
الجمع لعذر المطر والمرض ونحوه
الجمع لعذر المطر والمرض ونحوه ويجوز الجمع أيضاً لبعض الأعذار، كالجمع للمطر والمرض ونحو ذلك. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بن الظهرَين للمطر، وجمع بين العشاءين للمطر، وسبب ذلك المشقة، وذلك أن المدينة كانت ضيقةً أسواقُها ودحضاً ومزلَّةً وتمتلئ إذا جاء السيل بالوحل وبالطين ونحو ذلك، فيصعب عليهم أن يصلوا إلى المسجد إلا بمشقة، وربما سقط أحدهم بذلك الحمأ المسنون وتلوثت ثيابه، وصعُب عليه أن يخرج منه، فرُخِّص له فجمع الظهرَين مرةً وجمع العشاءين مراراً لسبب المطر. وأما حديث ابن عباس: (أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير سفر ولا مطر) ، فقيل لـ ابن عباس: ماذا أراد بذلك؟ فقال: أراد ألَّا يحرج أمته. فإن هذا دليل على أن هناك عذراً وحرجاً أراد أن يمحوه. فقيل: إنه كان هناك شغل لكثير من صحابته، وقيل: إن هناك مرضاً له أو لغيره، والمرض من الأسباب التي يباح للمريض بها أن يجمع، والمريض يجوز له أن يجمع بين الصلاتين إذا كان يشق عليه أن يذهب إلى دورات المياه لأجل الوضوء كل وقت، وأحب أن يتوضأ للظهرَين وضوءاً واحداً ويصليهما، وللعشاءين وضوءاً واحداً، حتى لا يشق عليه. وكذلك إذا كان يشق عليه الجلوس، فإذا أُجْلِس للظهر صلى معها العصر، وإذا أُجلس للمغرب صلى معها العشاء، حتى لا يشق عليه كثرة الجلوس وكثرة الحركة. فمثل هذا عذر من الأعذار وهو المرض؛ فيجوز له الجمع. وورد أيضاً: الجمع بالنسبة للمرأة التي هي مستحاضة؛ ولكن قال بعضهم: إنه جمع صوري، فالمستحاضة وهي المرأة التي يجري معها الدم ولا ينقطع، أمرت بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً واحداً تجمع بينهما، وتصلي الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها؛ ولكن جمع صوري -كما يقولون- وليس معه قصر، إنما هو جمعٌ مع الإتمام. فهذه هي الأسباب التي لأجلها يُجمع بين الصلوات. أما القصر في السفر فهو أيضاً من الرخص التي ذكر العلماء أنه يترخص بها إذا وُجد سببها. وبكل حال فهو من الأسباب التي يشرع للإنسان القصر فيها، فيعرف أن الإسلام دين السهولة واليُسر، وأنه جاء بما فيه السهولة ونهى عن الصعوبات ونحوها. ومفاد هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قَصَر الرباعية ركعتين؛ لأن الله تعالى رخص له في ذلك بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنها رخصة من الله تعالى وصدقة لقوله: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) .
شرح عمدة الأحكام [23]
شرح عمدة الأحكام [23] شرف الله هذه الأمة بيوم الجمعة، فهو أفضل الأيام، ويختص بصلاة الجمعة التي يجتمع فيها المسلمون ليسمعوا ما ينفعهم في دينهم وما يهمهم لصلاح دنياهم وآخرتهم، ولهذه الصلاة أحكام كثيرة بينها الفقهاء رحمهم الله.
أحكام الجمعة
أحكام الجمعة قال المصنف رحمه الله: [باب الجمعة: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليتَ يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين، وفي رواية: فصلِّ ركعتين) . وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رجالاً تمارَوا في منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أي عودٍ هو؟! فقال سهل: من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس! إنما صنعتُ هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي، وفي لفظ: فصلى وهو عليها، ثم كبر عليها، ثم رفع وهو عليها، ثم نزل القهقرى) ] . باب الجمعة أي: باب صلاة الجمعة. والجمعة: اليوم المعروف، يسمى يوم الجمعة للاجتماع لهذه الصلاة، ولاجتماع أهل القرية جميعاً لأداء هذه الصلاة، فالصلاة تسمى: صلاة الجمعة، واليوم يسمى: يوم الجمعة.
ما يستحب يوم الجمعة
ما يستحب يوم الجمعة ليوم الجمعة فضائل وخصائص كثيرة يطول ذكرها، أوصلها ابن القيم في زاد المعاد إلى ثلاثة وثلاثين خصلة، من أرادها فليقرأها في زاد المعاد، وإنما نحن بحاجة هنا إلى معرفة الأحكام التي يعمل بها العباد. فيوم الجمعة تؤدى فيه صلاة الجمعة، ويوم الجمعة يكثر فيه العباد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أُمِروا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ. فقالوا: يا رسول الله! كيف تُعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمْتَ -أي: قد بَلِيْتَ- فقال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) . كذلك يخبر عليه الصلاة والسلام بأن (يوم الجمعة فيه ساعة الإجابة، ساعةٌ يستجاب فيها دعاء العبد المسلم ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم) . فيكون الإنسان مشتغلاً بأداء الصلاة، وبالاجتهاد في الدعاء؛ رجاء موافقة تلك الساعة التي قد أخِّرت في ذلك اليوم، وقد شُرِع فيه صلاة الجمعة.
الحكمة من الخطبة والجهر في صلاة الجمعة
الحكمة من الخطبة والجهر في صلاة الجمعة هذه الصلاة الخاصة فيها خطبتان، وفيها جهر بالقراءة، ولا يوجد في بقية الصلاة خطب، ولا في الصلاة النهارية جهر بالقراءة. والحكمة أنه يجتمع في الجمعة خلق من أماكن متباينة متباعدة، فيناسب أن يستمعوا للتعليمات وللنصائح والعظات، فيخطب الإمام بهم خطبة يعلمهم فيها الأحكام، ويعلمهم الحلال والحرام، وينبههم على الأخطاء والخلل الذي قد يقعون فيه، ويرغِّبهم في الدار الآخرة وثوابها، ويزهِّدهم في الدنيا ومتاعها، ويحثهم على الأعمال الصالحة؛ لتؤهلهم لدخول الجنة وتحميهم وتنقذهم من النار، فيجتمع المصلون في هذه المساجد ويتلقون هذه الخطب.
الاجتماع في مسجد واحد لأداء الجمعة
الاجتماع في مسجد واحد لأداء الجمعة والسنة أن يجتمع أهل القرية في مسجد واحد، ولهذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا جمعة واحدة في مسجده، يأتي إليها أهل العوالي، ويأتي إليها أهل المدينة من مسيرة ساعتين أو أكثر من ساعتين، ثم يصلون جميعاً، ولم يرخص لأحد أن يصلي في مسجد آخر مع حاجتهم، لا في مسجد قبا مع بعده، ولا مساجد أبعد منه.
مشروعية المنبر لخطيب الجمعة
مشروعية المنبر لخطيب الجمعة سن في هذه الصلاة سنناً، فمنها: أن يكون الإمام مرتفعاً على المأمومين عندما يخطب، فيخطبهم فوق مكان عالٍ، وهو ما يسمى بالمنبر الذي يلتصق بالمسجد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة مغروسة في قبلة المسجد، يرقى عليها ويخطب، ثم صُنع له هذا المنبر من طرفاء الغابة. والطرفاء هو: نوع من الأثل، صنعه نجار كان لبعض الصحابيات مملوكاً عندها، فجعله ثلاث درجات، يعني: أنه قطع من متين عروق الأثل ثلاث قطع، كل قطعة جعلها كدرجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على الدرجة الثالثة التي هي أرفعها. وهكذا استمر يخطب على هذا المنبر، وأول ما قام عليه وابتدأ في الخطبة حنَّ عليه ذلك الجذع لِمَا فَقَدَ من ذكر الله، فنزل إليه وضمه حتى هدأ وقال: (لو تركتُه لحنَّ إلى يوم القيامة) ثم رجع وكمَّل خطبته، وبعدما أتم الخطبة وأقيمت الصلاة كبر وهو على الدرجة السفلى من ذلك المنبر، وقرأ وهو عليها، وركع وهو عليها، ثم عند السجود نزل القهقرى -أي: رجع خلفه- حتى نزل في الأرض، ثم سجد السجدتين وبينهما جلسة، ثم قام للركعة الثانية، وصعد على الدرجة الأولى، وصلى الركعة الثانية كالأولى. والسبب في ذلك أن يكون الإمام ظاهراً حتى يراه المصلون ليقتدوا ويأتموا به، وحتى يسمعوا خطبته وقراءته وتكبيره، حيث لم يكن هناك مكبر، وكان المسجد مكتظاً وممتلئاً، فلأجل ذلك ارتفع فوق أعلى درجة. هذا هو السبب في كونه صلى بهم وهو على هذه الدرجة من المنبر، وذكر أن السبب أن يأتموا به، ويقتدوا بصلاته، ويسمعوا صوته، وهذا دليل على جواز أن يكون الإمام أرفع من المأمومين شيئاً يسيراً لحاجة تبليغهم ولحاجة سماعهم لقراءته وتكبيراته.
غسل يوم الجمعة
غسل يوم الجمعة من جملة الأحاديث التي مرت بنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) . والأحاديث في الأمر بالاغتسال يوم الجمعة كثيرة، واعتقد بعضهم أنه واجب، واستدلوا بحديث أبي سعيد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) . وذهب آخرون إلى أنه سنة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، ومعنى قوله: (فبها) يعني: أخذ بالسنة ونعمت السنة ما أخذ، فإذا اقتصر على الوضوء وأخذ به فلا بأس. وقيل: معناه: أخذ بالرخصة. أي: أخذ بالرخصة (وبها ونعمت) . والقول الثالث: إنه يجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال، ومستحب لغيره. وبكل حال فلما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر به عرفنا آكديته، فهو آكد السنن، يعني: آكد من كثير من المأمورات التي يذهب بعضهم إلى وجوبها. فمثلاً: الأحاديث التي في نقض الوضوء بأكل لحم الجزور حديثان، والأحاديث التي في الاغتسال للجمعة أكثر من حديثين وثلاثة وأربعة، والأحاديث التي في نقض الوضوء من مس الذكر حديثان أو نحوهما، والأحاديث التي في غسل الجمعة: أكثر وأكثر؛ فلأجل ذلك أكده كثير من العلماء. ولعل القول الثالث هو الأولى، وهو أنه واجب على من كان بعيد العهد بالاغتسال، فمن كان حديث العهد بالاغتسال، وكان نظيف الجسد، فإنه يكون سنة في حقه، ودليل ذلك: ما روته عائشة من سبب الأمر بالاغتسال، وهو أن الناس كانوا يأتون لصلاة الجمعة وهم أهل عمل، وقد اتسخت أبدانهم وثيابهم، فيؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم ونتن الوسخ وما أشبه ذلك، فأمروا أن يتنظفوا ليوم الجمعة حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً. وهذه حكمة عظيمة، ومعلوم أن الصحابة في ذلك العهد كانوا فقراء، وأغلبهم مهاجرون ليس لهم مأوى، وبعضهم إنما يكون في المسجد وهم أهل الصُّفَّة الذين ليس لهم بيوت وليس لهم أهل، وليس لأحدهم إلا قميص أو رداء وإزار يلتف به كلباس المحرم، وقد يبقى عليه لباسه خمسة أشهر، ولا يجد ما يغيِّره، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم أيضاً لا يتيسر له غسله ولا تنظيفه، حيث إنه لا يملك إلا ذلك القميص أو ذلك الثوب، فيقيم مدةً طويلة لم يغسله، فمع طول المدة يبقى ذلك الثوب متسخاً. كذلك أيضاً كثير منهم أصحاب عمل في مزارعهم وفي أشجارهم، ومع كثرة العمل ومع التعب تتسخ الأبدان، ويكون فيها العرق الذي يتجمد فوقها، ومع اتساخ البدن وطول العهد بالنظافة يتولد القمل، وتتولد الروائح المنتنة التي تؤذي المصلين. فإذا جلس من هذه حالته إلى جانب غيره تأذى برائحته، وتأذى بوسخه، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المسجد لم يكن فيه تهوية، وليس فيه تكييف، بل هو يضيق بهم، ويكتظ بالمصلين، والجو شديد الحر؛ فلذلك ونحوه تضرروا لذلك، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى هذا الأمر الذي هو الاغتسال؛ رجاء أن يخفف هذا الأمر الذي يتأذى منه الكثير، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال، فلذلك نقول: من كانت هذه حالته وجب عليه أن يغتسل، حتى لا يتأذى به المصلون، ولا تتأذى به الملائكة، ومن كان حديث عهد بنظافةٍ وباغتسال فلا يجب ذلك عليه
نظافة المساجد
نظافة المساجد سن التنظُّف يومَ الجمعة والتطيُّبُ ولُبسُ أحسنِ الثياب والسواكُ وما أشبه ذلك، وكلُّ ذلك لأجل ألَّا يؤذي بعض المصلين بعضاً، وكله لأجل أن يحترموا ذلك اليوم وذلك المكان، فالمساجد لها أهميتها وحرمتها، وكذلك المصلون، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الملائكة (أنهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم) ، ولذلك نهاهم عن أكل الثوم والبصل قرب وقت الصلاة حتى لا يتأذى بهم الملائكة أو المصلون؛ لأن الثوم والبصل لهما رائحة مُسْتَنكَهة مُسْتَكرَهة في مَشامِّ الناس، والملائكة تتأذى وإن لم يكن هناك أحد من بني الإنسان، فكل ما فيه رائحة مستكرهة في مشام الناس كالوسخ والقذر والقذى ونحو ذلك فينبغي صيانة المساجد عنها. وقد وردت الأحاديث في تنظيف المساجد والأمر بإزالة القذى عنها، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة كانت تقمُّ المسجد أي: تخرج قمامته وتنظفه-، فلما ماتت قال: (دلوني على قبرها، فصلى عليها) . وكذلك ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي حسنات أمتي وسيئاتها فرأيت في حسناتها القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، يعني: أية قذاة حتى ولو عوداً أو خرقة أو نحو ذلك يدركها البصر، فمن الحسنات إخراجها من المسجد ليبقى المسجد نظيفاً. يقول (ورأيت في سيئات أمتي البصاق يكون في المسجد ولا يدفن) يعني: إذا كان المسجد -مثلاً- رملياً، وقد أنكر عليه الصلاة والسلام على الذين يبصقون في المسجد وأمام المصلين، ورأى مرة بصاقاً في حائط المسجد فساءه ذلك وغضِب حتى قال: (أيحب أحدكم أن يُستقبَل وجهُه فيُبصَق فيه؟!) وقال: (إن أحدكم إذا كان يصلي فإنه يناجي ربه، فلا يبصُق قِبَل وجهه) ، (ولما رأى ذلك البصاق حكَّه بعود ودعا بخلوق -يعني: بطيب- وطيب) . وكل ذلك لأجل أن يكون المسجد نظيفاً، ولأجل أن يكون المصلون قد نظفوا أبدانهم وثيابهم. وكذلك أيضاً: حث على الطيب، وأخبر بأنه محبوب لديه، فيستحب للإنسان أن يكون متطيباً، طيب رائحة الثوب والبدن، ونحو ذلك، حتى يوجد منه رائحة طيبة تقوي القلب، وترغب في المسجد، وترغب المصلين في أداء الصلوات وما أشبه ذلك. وفي ذلك أيضاً: تعظيم لهذه العبادة واحترام لها، بأن يأتي وهو نظيف، قد أزال ما عليه من الوسخ والقذر ونحو ذلك، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال.
أحكام الغسل يوم الجمعة
أحكام الغسل يوم الجمعة وللاغتسال أيضاً أحكام أخرى، منها: أنه يجوز الاغتسال في أول النهار وفي وسطه قبل الصلاة، أما الاغتسال بعد الصلاة فإنه يعتبر قد فات أوانه وذهب وقته؛ وذلك لأن الحكمة فيه -كما عرفنا- الإتيان إلى المسجد وقد نظف بدنه. كذلك أيضاً الاغتسال هو: تعميم البدن بالماء حتى يعمه، وذُكر في بعض الأحاديث: (أن يغتسل كغسل الجنابة) ؛ ولكن إذا كان بعيد العهد من نظافة فإن عليه أن يستعمل ما يزيل الوسخ وينظفه كالسدر أو الأشنان أو الصابون أو ما أشبه ذلك مما هو معروف لإزالة الوسخ ونحوه.
أحكام الخطبة
أحكام الخطبة من الأحاديث التي ذُكرت في هذا الباب: حديث الخطبة، والجمعة تُصلى ركعتين، ويُخطب قبل الركعتين بخطبتين، وبينهما جلسة كما هو معروف ومعتاد. والحكمة من ذلك أن المصلين غالباً يأتون من أماكن نائية، وغالباً قد يكون زيادةً في الأحكام، فيجتمعون ويصلون في هذا المكان، ويتلقون هذه التعليمات من هذا الإمام، فينصرفون وقد تزودوا علوماً لم يكونوا قد سمعوها، ويتأثرون بها، ويعملون بما أُمروا، فهذا هو السبب في شرعية هذه الخطبة. وينبغي للخطباء أن يتحروا الأشياء المهمة التي يحتاج إليها الحاضرون المستمعون، فيتطرقون إليها، فإذا رأوا غفلة من المصلين عن الآخرة رغَّبوهم في الدار الآخرة، وإذا رأوا منكراً من المنكرات قد ظهر حذروهم من ذلك المنكر ونهوهم عنه، وإذا رأوا تقصيراً في الطاعات وتكاسلاً وتأخراً عن بعض العبادات نهوهم وحذروهم عن ذلك التقصير، وهكذا. وليس المراد أن يقتصروا على ذكر الموت أو الزهد في الدنيا والتقلل منها دائماً، بل القصد الموعظة التي تحرك القلوب.
شروط الخطبة وما ينبغي أن تشتمل عليه
شروط الخطبة وما ينبغي أن تشتمل عليه ذكر العلماء خمسة شروط للخطبة، وهي تجتمع في الخطبتين: الشرط الأول: حمد الله والثناء عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ خطبه إلا بالحمد، وذلك استفتاحاً لذكر الله تعالى، ولأنه إذا لم يبدأ بذلك الأمر فخطبته بتراء أي: ناقصة البركة. الشرط الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الخطب تشتمل على تعليمات، وتشتمل على أدعية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب القبول، كما ورد في الحديث: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصَلى على النبي صلى الله عليه وسلم) . الشرط الثالث: الوصية بتقوى الله، يعني: أن يكون هناك تذكير وموعظة وتنبيه للناس وتخويف لهم وما أشبه ذلك، ولو لم تأتِ كلمة التقوى ما دام أن هناك ما يقوم مقامها. الشرط الرابع: الشهادة، فقد ورد في حديث: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) ، فيأتي بالشهادتين. والحكمة في ذلك: أن فيهما تجديد العقيدة، والتذكير بالتوحيد، وبحقوق (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ، وتنبيه الناس إلى علامات وضمانات تتضمنها هذه الشهادة. الشرط الخامس: أن يقرأ آية من القرآن سواءً في أول الخطبة أو في آخرها أو في وسطها، وذلك لأنه مشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آيات، ويذكر بمعانيها ويدعو إلى ما تتضمنه. ثم لا بد أن تكون الخطبتان مشتملتين أيضاً على تعليمات للأشياء المهمة، من الأحكام التي يجهلها معظم الناس، من الأوامر والنواهي، ونحوها. ولا بد أن تشتمل الخطبة على تعليمات للأشياء المهمة، فبذلك يستفيد الحاضرون من هذه الخطبة. كذلك أيضاً: لما كانت الجمعة بها ساعة الإجابة نُدب أن يدعو فيها، وقد ورد ما يدل على أن ساعة الإجابة هي: وقت أداء الصلاة، ووقت الخطبتين، وما أشبه ذلك، فقد روي أنه أقرب إلى أن يكون ساعة الإجابة، فلما كان كذلك استُحب للخطيب أن يكثر من الأدعية، وأن يدعو بما يستطيعه، أو بما يتيسر من الأدعية التي هي صلاح عام للإسلام والمسلمين، رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، والحاضرون يؤمِّنون على دعائه. ويُستحب إذا دعا أن يرفع يديه، فإن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، كما في حديث سلمان (إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين. وإذا رفع الإمام يديه للدعاء فعلى المأموم أن يرفع يديه للتأمين، فالمأمومون يؤمِّنون على الدعاء؛ رجاء أن تُقبل دعوتهم جميعاً، والله قد وعد بإجابة الدعاء ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم؛ لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] . الشرط السادس: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة خطبتين، وكذلك كان في العيد يخطب خطبتين، وكان يجلس بين الخطبتين، وذلك أيضاً دليل على أنه يطيل الخطبة، فإنه ما جلس إلا وقد خطب خطبة طويلة احتاج إلى أن يجلس ليستريح قليلاً ثم يستقبل الخطبة الثانية. وتشتمل الخطبة الثانية أيضاً: على حمد وثناء ووصية بالتقوى، وعلى شهادة وترغيب وترهيب، وعلى قراءة آية وما أشبه ذلك، فهي أيضاً اسمها خطبة، فيخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس.
مقدار الخطبة
مقدار الخطبة لا يُستنكر إطالة الخطبة ما دام أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بينهما، فالحكمة في هذا الجلوس الاستراحة، ومعلوم أنه لا يحتاج إلى استراحة إذا كانت الخطبة عشر دقائق أو خمسة عشر دقيقة، فدل على أنه يطيل، فتكون الخطبة -مثلاً- نصف ساعة أو ثلثي ساعة، يخطب خطبة ثم أخرى بعدما يجلس بينهما، فلأجل هذا لا يُستنكر على الخطيب الذي يخطب ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة، لا يُستنكر عليه، فإن الجلوس بينهما دليل على أنه يطيل في هذه الخطبة. والأدلة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبة متوسطة، ليست بالطويلة التي تستغرق عدة ساعات، وليست بالقصيرة التي تكون في خمس دقائق أو في عشر دقائق، والتي لا يتمكن فيها من تبليغ ما يريد. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه) يدل على أنه يحث على قصر الخطبة، والمراد بالخطبة القصيرة: التي تبلغ -مثلاً- عشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة، فهذه تعتبر قصيرة، أما الطويلة فهي التي تستغرق ساعة أو ساعتين، هذه هي الخطبة الطويلة التي نهى عنها. إذاً: هو الوسط في اختيار الخطب، وبذلك يعرف أن الحكمة من الخطبة هو التعليم، وذلك لأن الكثير من الناس لا يسمعون إلا إلى الخطب، ولا ينصتون إلا للخطبة، إذا قام واعظ يعظهم بعد الصلاة نفر الكثير منهم، ولم يبق إلا أفراد، وإذا كان هناك محاضرات في أماكن كالمساجد ونحوها لم يحضر إلَّا قلة قليلة، أما الأكثرون فلا يحضرون، وإذا كان هناك مجالس علم لم يحضرها إلَّا أفراد، وإذا كان هناك تعليمات أخرى ببعض الوسائل الحديثة كنشرات أو كتب دينية أو أشرطة دينية لم يستعملها إلا أفراد قلة من الناس، وهم أهل الخير والصلاح، أما هؤلاء العامة الباقون فلا يحضرون إلا خطبة الجمعة، فمن المناسب أن يخطبهم الخطيب بخطبة تناسبهم، وأن يعلمهم التعليمات البليغة، ولا يُستنكر عليه إذا أطال إلى نصف ساعة أو ثلثي ساعة أو ما أشبه ذلك على حسب القدرة، لكن قد يؤمر بالتخفيف إذا رأى منهم نفرة أو شدة كراهية لهذا، وسموا ذلك إطالة، كما كانوا أيضاً يكرهون إطالة الصلاة.
الإنصات للخطيب
الإنصات للخطيب قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) . وعن سلمة بن الأكوع -وكان من أصحاب الشجرة- رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي لفظ: كنا نجمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] السجدة، وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] ) . هذه الأحاديث كلها تتعلق بصلاة الجمعة، ومنها ما يتعلق بالمأموم، ومنها ما يتعلق بالوقت والزمان، ومنها ما يتعلق بيوم الجمعة وما يكون فيه. فالحديث الأول يتعلق بالمأمومين في حالة الخطبة، والخطبتان اللتان للجمعة شُرعتا للعظة وللتذكير وللتعليم، والمأمومون الذين يحضرون جاءوا للاستفادة والتعليم، فيلزمهم أن يكونوا متعلمين، وأن يستفيدوا من هذه الخطب، فينصتوا لذلك، فإذا لم ينصتوا لم يستفيدوا، ومع ذلك يحصلون على ضد ذلك وهو نقصان أجرهم، فالمأموم مأمور بأن ينصت للخطبة ويستمع لها، ويطيع لما يقال ولما يلقى، ومنهي عن أن يتكلم أو يتحرك أو يضطرب أو يرفع صوته، ورد في الحديث: (من مس الحصى فقد لغى) ؛ لأن حركته بتسوية الأرض أو تسوية الحصى قد تشوش عليه، وقد تلفت الأنظار نحوه، فيكون ذلك نقص في الصلاة. كذلك أيضاً الكلام، أدنى كلمة في الخطبة ممنوعة كالحديث بكلمة (أنصت) ، فإذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب؛ فقد لغوت أي: أتيت باللغو، وقد ورد أن اللغو يبطل الصلاة أو ينقصها، وفي بعض الروايات: (ومن لغى فلا جمعة له) وهذا على وجه التهديد، وهو زجر وتهديد عن اللغو في حالة الخطبة. فيؤمر المصلي في حالة الخطبة أن ينصت للخطيب وأن يصيخ له، وأن يرعي سمعه لما يقوله الخطيب، وأن يترك الحركة والالتفات والاضطراب ونحو ذلك حتى لا تبطل صلاته. وكلمة (أنصت) قد تكون مفيدة، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيها نهي عن منكر تراه من إنسان يتكلم، فتقول له: أنصت، ومع ذلك أخبر في هذا الحديث بأن الذي يقولها يعتبر لاغياً: (فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له) . قد يُستثنى من ذلك: ما إذا احتيج إلى أن يتكلم مع الإمام، فقد ثبت (أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فوقف وناداه طالباً له أن يستسقى) كما ي الحديث المشهور، ويأتينا في الاستسقاء إن شاء الله. كذلك أيضاً كلام الإمام مع غيره، وجوابه له، وقد تقدم أنه لما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال له: (أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين) فهنا الكلام من الخطيب لذلك المأموم، والمأموم أجابه بقوله: (لا) . ثم أمره بقوله: (صلِّ) ، فيجوز من الإمام لأحد الحاضرين، ويجيبه إذا سأله. فأما من مأموم لمأموم أو من مستمع لمستمع فلا يجوز؛ لكن إذا رأيت من يعبث فأشر إليه إشارة، والإشارة تكفي حتى لا تلفت أنظاراً نحوك، أو ارمقه وانظر إليه ليدل على إنكارك له ونحو ذلك. وقد يُتسامح في بعض الحركات اليسيرة، مثل رفع الأيدي في الدعاء عندما يدعو الخطيب ويرفع يديه، فالمأمومون يرفعون أيديهم للتأمين على دعائه، هذا مستثنىً وفيه فائدة، فإنه من أسباب قبول الدعاء. كذلك أيضاً: بعض الإخوة يسأل عن استعمال السواك في حالة خطبة الخطيب؟ فنقول: نرى أنه لا يَشْغَلُ، إذا رأى أنه يتسوك والإمام يخطب، فهذه حركة يسيرة لا تَشْغَل البالَ ولا تلفت الأنظار، وليست شبيهةً بتسوية الحصى. كذلك كل مَن رأيتَه -مثلاً- يتخطى رقاب الناس فلك أن تشير إليه، والنبي عليه السلام رأى رجلاً يتخطى الرقاب من صف إلى صف، فقال له: (اجلس فقد آذيت) . وفي رواية: (آذيت وآنيت) فإذا رأيته وأشرت إليه بأنه قد آذى هؤلاء المصلين الذين كونه يتخطى رقابهم، فمثل هذا يكفي فيه الإشارة إليه دون الكلام أو إمساكه ورده حتى لا يتأذى به المصلون؛ لأنه كلما تخطى صفاً التفتوا إليه، وشوش عليهم، وتحركوا لأجل أن يفرِّجوا له فرجةً، وليس له ذلك إلا إذا رأى فرجة في صف من الصفوف قد أخلوا بها، فله والحال هذه أن يتخطاهم حتى يسد تلك الفرجة، وما ذاك إلا لأنهم هم الذين فرطوا وأسقطوا حقهم بترك هذه الفرجة في أثناء الصف. كذلك يقع كثيراً -لا سيما في بعض الأماكن الجامعة حتى في الحرمين- تخطي أولئك الذين يتسولون، بحيث إنهم يؤذون ويتكلمون ويسألون ويطلبون والإمام يخطب، فمثل هؤلاء: يُمنعون؛ لأنه إذا مُنع من كلمة (أنصت) والإمام يخطب ومن حركة تسوية الحصى فكيف يمكنون من كونهم يسيرون بين الصفوف، وكونهم يتخطون الرقاب، ويخرقون الصفوف، ويتكلمون ويشغلون كثيراً من الذين ينظرون إليهم. فعلى الأئمة أن يأمروا بإجلاسهم ومنعهم إذا فعلوا ذلك، وعلى المأمومين إذا رأوهم يتسولون أن يمسكوهم ويقبضوهم ويؤخروهم حتى لا يشوشوا على المأمومين. وبكل حال فالفائدة من ذلك هي: حصول الإنصات والاستماع، وترك ما يشوش على المصلي.
التبكير إلى الجمعة
التبكير إلى الجمعة الحديث الذي بعده يتعلق بفضل التبكير إلى صلاة الجمعة، وقد تقدم لنا حكم الاغتسال، وذكرنا أن الراجح: أنه واجب على من هو بعيد العهد بالنظافة، متسخ البدن أو الثياب أو نحو ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وأما إذا كان نظيفاً وحديث عهد بنظافة وليس في بدنه شيء من الوسخ ولا من الروائح المستكرهة؛ فإنه يكون مستحباً في حقه. قوله صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى ومن راح في الساعة الثانية ومن راح في الساعة الثالثة) إلخ، يدل على فضل التقدم، وأن الإنسان كلما أسرع وتقدم فإنه له أجر أكبر. و (التقرب) هو: التصدُّق، والقربان هو: ما يُتَقَرب بلحمه، والقرابين هي: التي تُقرَّب إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة:27] يعني: تقربا به إلى الله تعالى، فالقرابين هي: الذبائح التي تذبح للتقرب بها إلى الله تعالى، ومنه تسمى الأضاحي قرابين، كما في قول ابن القيم: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القـ ـسري يوم ذبائح القربانِ شكرَ الضحيةَ كلُّ صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربانِ فالقربان هو: الأضاحي والهدايا ونحوها، وسميت بذلك لكونها تقرب إلى الله تعالى. وهذا التقريب معنوي في قوله: (فكأنما قرب بدنة فكأنما قرب بقرة فكأنما قرب كبشاً أقرن) والبدنة هي: الواحدة من الإبل، والبقرة معروفة، والكبش هو ذكر الضأن، والدجاجة والبيضة معروفتان، والمعنى: كأنه تصدق بها قرباناً، وهذا دليل على فضل التبكير. وبين كل واحد والآخر ساعة، (في الساعة الأولى في الساعة الثانية) والساعة هي الساعة الزمنية؛ لأنها معروفة قديماً، وهذه الساعة التي هي ستون دقيقة هي: الساعة الزمنية. ورد في حديث في سنن ابن ماجة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الجمعة -يعني: النهار غالباً- اثنا عشر ساعة، منها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها إلا أعطاه) ، فجعل النهار اثني عشرة ساعة، يعني: النهار المتوسط: اثنا عشرة، والليل: اثنا عشرة، فدل على أن المراد بالساعة هي: الساعة الزمنية، فمعناه: أن الذي يذهب في الساعة الأولى بينه وبين الذي يذهب في الساعة الثانية ستون دقيقة، وهكذا. ومعنى هذا: أنه يذهب مبكراً في أول النهار، والذي يريد أن يكون متقرباً ببدنة، هو الذي يذهب في أول النهار، وكانت الساعة في ذلك الوقت بالتوقيت الغروبي، فكانت الساعة الأولى بعد طلوع الشمس وانتشارها بقليل، فتبدأ الساعة الأولى وتستمر إلى الساعة الثانية، والأذان والخطبة غالباً يكونان في الساعة السادسة إلى عهد قريب. قبل عشرين سنة أو نحوها كان التوقيت بالتوقيت العربي الذي يبدأ من غروب الشمس في كل البلاد، ويبدأ أيضاً من طلوع الشمس أو نحوها، وإذا كان الليل اثني عشرة ساعة من الغروب إلى الطلوع، والنهار اثنا عشر من الطلوع إلى الغروب فتكون الصلاة أداؤها قريب الساعة السادسة أو نحوها. فالنبي عليه الصلاة والسلام حث على التبكير، وحثنا على أن نتقدم وأن نحظى بهذا الأجر، ونحرص أن نكون الذي يذهب في الساعة الأولى وكأنه قرب بدنة، ولا نكون مثل الذي يذهب في الساعة الخامسة وكأنه قرب بيضة، ما قيمة هذه البيضة التي يتصدق بها؟! وماذا تغني؟ ما هذا إلَّا شيء يسير لا أهمية له ولا قيمة له، فيفوته خير كثير، ولو تقدم ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً لحصل على هذا الأجر الكبير. فعلى الإنسان ألَّا يزهد في هذا الخير، لا سيما إذا كان عنده وقت فراغ، وعنده سعة وقت، فعليه أن يتقدم، فإنه في تقدمه يشتغل بالأذكار في جلوسه، أو القرآن، أو يستمع لقارئ، أو يصلي ما كُتب له، ولو صلى عشر ركعات، ولو صلى عشرين ركعة، ولو أطال الصلاة أو خففها، فيتقرب بالصلاة والذكر، ويشتغل بالقرآن، ويشتغل بالعلم، وينصت لكلام الله، ولو سكت ولم يتكلم ولم يقرأ لَكُتب في صلاة حيث إن الصلاة هي التي تحبسه، فإنه في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تستغفر له تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما دام في مصلاه) ، وما دام لا يمنعه أن ينصرف إلا انتظار الصلاة. فما أعظم ذلك من فائدة! وما أكثر الأجر الذي يترتب على ذلك! وما أعظم زهد الناس في ذلك! فأنت تأتي المسجد الجامع قبل أن يؤذن الأذان الأخير بعشر دقائق، فلا تجد فيه إلا صفاً أو صفين، أو ربما أقل من ذلك، ولا يأتي أكثرهم إلا بعد سماع الأذان الأخير الذي هو أذان الخطبة، فتفوتهم هذه الخيرات التي هي هذه القربات، فيفوتهم أجر انتظار الصلاة بعد الصلاة، ويفوتهم استغفار الملائكة لهم، وإذا ما حصلوا هذه الخيرات فما الذي حصلوا عليه؟! ماذا حصلوا عليه من جلوسهم؟! جلوسُهم غالباً إما على فرش مضطجعين عليها وليس لهم شغل، وإما مع أطفال يلعبون معهم، وإما على لهو أو نظرٍ إلى ملاهٍ أو آلات لهوٍ أو نحو ذلك، وإما مع مجموعة يتكلمون في فلان أو علان، ويخوضون في قيل وقال وما لا فائدة فيه، وما علموا قدر ما فاتهم، وما علموا أن هذا الذي فوَّتوه لا يُقْدَر قَدْرُه. فالنبي عليه الصلاة والسلام حثنا على أن نتقرب بالقربات المعنوية التي هي الصدقات المعنوية، والصدقات الحسية فيها أجر، فلو أن الإنسان -مثلاً- رأى حاجة بالناس وشدة جوع، وذبح كل أسبوع بدنة وتصدق بلحمها، لكَثُر الذين يدعون له، وصاروا يترحمون عليه، ويأكلون ويدعون له بأن يتقبل الله منه، أو -مثلاً- تصدق بلحم بقرة وأعطى ذوي الحاجة ونحوها كل أسبوع لكان ذلك خيراً كثيراً، فهذا يحصل له بمجرد أن يتقدم هذه الساعات، ويتقدم هذا الزمان، ويجلس ينتظر الصلاة، ويترك الأشغال، ويشتغل بعبادة الله تعالى، ويترك اللهو والسهو. وذَكر في هذا الحديث أنه إذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر، ورد في بعض الآثار وفي بعض الأحاديث: (أن الملائكة يقفون على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول -الأول فلان، الثاني فلان- حتى إذا قام الإمام وخرج للخطبة طوَوا صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر) ، فمعناه: أن الذين يأتون بعد الأذان لا يُكتبون في تلك الصحف، وتفوتهم هذه الكتابة التي هي كشاهد على أنهم تقدموا أو على أنهم من أهل الصلاة الذين جاءوا راغبين فيها. صحيحٌ أنه يُحكم بأن الجمعة ابتُدئ في فعلها: من وقت الأذان، ولأجل ذلك يحرم الاشتغال بالأمور الدنيوية بعد الأذان، ولا يجوز البيع ولا الشراء ولا الحرف ولا الأشغال الدنيوية بعد سماع الأذان الأخير، بل كلها تلغى لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ؛ ولكن التقدم فيه خير، والتقدم إلى المسجد والاشتغال بالقربات فيه أجر وخير كبير، يفوت هؤلاء الذين يجلسون ويشتغلون بأمورهم الدنيوية، هذا يتعلق بالتبكير ونحوه.
وقت صلاة الجمعة
وقت صلاة الجمعة حديث سَمُرة يتعلق بوقت الصلاة، يقول فيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصعد المنبر بعد الزوال) يعني: يبدأ بالخطبة بعد الزوال مباشرة، (ثم ينصرف وليس للحيطان ظل يُستظل به) ولا يجدون ظلاً يستظلون به، إنما هو ظل قصير ولا يمكن أن يجلس فيه الواحد، وحيطانهم كانت قصيرة، يمكن أن يكون الحائط متراً أو مترين أو نحو ذلك، فإذا انصرفوا يتتبعون الظل، يجدون ظلاً يكفي لأن يضعوا فيه أقدامهم احترازاً من الرمضاء؛ ولكن لا يجدون ظلاً يكفي لأن يجلسوا فيه. فأخذوا من هذا أنه عليه الصلاة والسلام كان يبكر في الصلاة، فيصلي بعد الزوال مباشرة، وأن صلاته وخطبته قد تستغرق -مثلاً- نصف ساعة أو ثلثي ساعة أو ساعة إلا ربع، أو نحو ذلك، حتى يكون للحيطان ظل؛ ولكنه لا يكون ظلاً يكفي للجلوس، وهذا معنى قوله: (ظل يُستظل به) . ومعنى قوله: (نتتبع الفيء) أي: نتتبع الظل لنمشي فيه، فعُرف بذلك أنه يُهتَم بالصلاة ويُبكَّر بها بعد الزوال مباشرة، وربما أباح بعضهم أن تُصلى أو بعضها قبل الزوال. وقد ذهب بعضهم إلى أن وقتها واسع، وأنه يبدأ من خروج وقت النهي. أي: من دخول وقت صلاة العيد، وصلاة العيد معروف أنها تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فيقولون: الجمعة كذلك؛ ويستمر وقت الجمعة إلى نهاية وقت الظهر وإلى دخول وقت العصر، وكله وقت الجمعة، فإذا فات ذلك فاتت الجمعة، وإذا دخل وقت العصر وهي لم تُصَلَّ فات وقت الجمعة، فأما ما دام وقت الظهر باقياً فإنهم يصلوا، حتى ولو قبل العصر بنصف ساعة أو بساعة أو نحو ذلك، فلو انشغلوا ولم يأتِهم خطيب إلا قرب وقت العصر صلوها جمعةً كما كانوا يصلونها.
ما يقرأ في فجر يوم الجمعة
ما يقرأ في فجر يوم الجمعة في الحديث الأخير: ما يُقرأ في فجر يوم الجمعة، ففيه: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بهاتين السورتين: سورة {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] السجدة، وسورة: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] ) . ويذكر العلماء أن تخصيص هاتين السورتين لمعنىً فيهما، لا لأجل اختيار السجدة -مثلاً-، بل لمعنىً في السورتين، فيقولون: إن هاتين السورتين قراءتهما في صبح الجمعة سنة مؤكدة، كان عليه الصلاة والسلام يداوم على ذلك أو يكثر من قراءتهما في صلاة الصبح. سورة {ألم} [السجدة:1] مشتملة على المعاد، مشتملة على الثواب والعقاب، ففيها مبدأ خلق السماوات: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:4-5] إلى قوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] . فذكر خلق السماوات، ثم ذكر خلق الإنسان وأنه بدأه من طين، ثم ذكر بعد ذلك نهايته: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] . ثم ذكر بعد ذلك البعث في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة:12] . والذي يسمعها يتذكر مبدأ الخلق؛ خلق السماوات وخلق الإنسان ووفاته والبعث بعد الموت والحضور عند الرب تعالى في ذلك اليوم، وكون الحاضرين ناكسي رءوسهم يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] . كذلك أيضاً: ذكر الثواب والعقاب في أثناء هذه السورة في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20] ، ولما ذكر ثواب هؤلاء ذكر عقاب هؤلاء. فالحكمة في قراءتها: ما اشتملت عليه من المبدأ والمعاد والوعد والوعيد، وليس لأجل السجدة كما يفعله بعض العامة ويعتقدونه، ويعتقدون أن القصد هو السجدة، فيقرأ بعضهم سورة: {اقْرَأْ} [العلق:1] ويقول: سجدت، ويقرأ بعضهم سورة: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ويقول: سجدت، وليس ذلك هو المقصود، بل نفس السورة هي المقصودة. كذلك السورة الثانية أيضاً فيها ذكر المبدأ والمعاد، وذكر الله تعالى فيها المبدأ والمعاد، وذكر فيها الثواب والعقاب. مبدأ الإنسان: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] . ومبدأ خلقه: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] إلى قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ} [الإنسان:5] ، هذا هو الثواب، كذلك العقاب: فيما ذَكَرَه. فالحاصل: أن هاتين السورتين مقصودتان بالذات، فالذي يريد السنة يقرأهما، وبعض الأئمة يقتصرون على قراءة واحدة منهما، وربما بعض واحدة، وهذا لم يأتِ في السنة، ولا تكون السنة إلا إذا قرأهما كاملتين كما هما، فهذه هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض العلماء يكره المداومة عليهما مخافةَ أن يُعتقد أن قراءتهما واجبة، وأن الذي لا يقرأهما لا صلاة له، والصحيح: قراءتهما سنة وليس بواجب.
شرح عمدة الأحكام [24]
شرح عمدة الأحكام [24] يوما العيد في الإسلام هما يومان يفرح فيهما المسلمون بإتمام عبادتين عظيمتين: عبادة الصيام ويأتي بعدها عيد الفطر، وعبادة الحج ويأتي بعدها عيد الأضحى، وللعيدين آداب وصلوات وأذكار بينها العلماء، فعلى المسلم أن يحرص على معرفتها.
أحكام العيدين
أحكام العيدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العيدين: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له، فقال أبو بردة بن نيار -خال البراء بن عازب -: يا رسول الله! إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: شاتك شاة لحم، قال: يا رسول الله! فإن عندنا عناقاً، هي أحب إلينا من شاتين، أفتجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزىء عن أحد بعدك) . وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، وقال: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله) ] .
معنى العيد والحكمة من مشروعيته
معنى العيد والحكمة من مشروعيته قوله: (باب صلاة العيدين) العيد في الأصل: كل يوم يكون فيه اجتماع على فرح وسرور، وقد كان في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، فجاء الإسلام بالأعياد الشرعية، فالأعياد الشرعية هي عيد الفطر، وعيد الأضحى، ويتبع عيد الأضحى أيام التشريق التي هي من تمامه، هذه هي الأعياد الشرعية، ولا شك أن لها مناسبة، فمناسبة عيد الفطر: الإتمام لصيام رمضان، فإذا أتم المسلمون صيام رمضان وقيامه، والعبادة التي فيه، وقاموا بحقوق الله عليهم، ووفقهم ربهم لذلك وأعانهم عليه حتى أتموه، كان ذلك فضلاً كبيراً، ونعمة عظيمة، وعملاً صالحاً كثيراً يكون لهم به أجر كبير، فيفرحون بتوفيق ربهم لهم إذ أتموا صيامهم وعبادتهم، فيكون من آثار هذا الفرح أن يجعلوا عيداً بعد هذا الشهر، هذا العيد لا شك أنهم يشكرون ربهم فيه، ويعبدونه، ويحمدونه على تمام العمل، ويسألونه أن يقبل منهم أعمالهم، وأن يعطيهم ثوابهم؛ ولأجل ذلك يُسمى يوم العيد يوم الجوائز، وكأن الناس بعد انصرافهم من صلاة العيد ينصرف كل منهم بجائزة قد أخذها، لا تشبه جوائز الأمراء، فهذه هي الحكمة في شرعية عيد الفطر، فإنه في غاية المناسبة. وأما عيد الأضحى، فشرع في وقت مناسب، بل هو غاية المناسبة، وهو أداء نسك الحج؛ وذلك لأن الله تعالى لما فرض الحج حدد له زماناً وهو يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، وجعل هذا الزمان هو الزمان الذي لا يصلح أن يُؤدى الحج إلا فيه، فإذا وفق الله العباد إلى أداء هذا الحج وتكميله ناسب أن يكون هناك عيد يجتمعون فيه، ويؤدون فيه عبادات خاصة أو عامة. كذلك -أيضاً- العشر الأول من ذي الحجة لها مزيتها، ولها فضيلتها، وجميع العباد في كل مكان مأمورون أن يجتهدوا فيها في العبادات، فيصوموا منها ما يتيسر، وأن يصلوا فيها، وأن يكبروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومأمورون بأن يتعبدوا بعبادات خاصة، كالتسبيح والتكبير والتهليل والصدقة والصلة وما أشبه ذلك، ثم إذا كان آخرها -وهو يوم عرفة- أمروا بأن يحتسبوه ويصوموه، ويجتهدوا في العبادة فيه، فإذا كملوا هذه العشر ناسب أن يكون في آخرها يوم عيد يوم فرح يوم سرور بنعمة الله عليهم، وهو توفيقهم للأعمال الصالحة في هذه المواسم.
الفرق بين عيدي الإسلام وأعياد الكفار
الفرق بين عيدي الإسلام وأعياد الكفار لا شك أن شرعية عيد الفطر وعيد الأضحى من باب الشكر لله عز وجل، ولأجل ذلك لم يبدءوها باللهو واللعب، ولم يبدءوها بالغناء والطرب، ولم يبدءوها بالأشر والبطر، بل ابتدءوها بالصلاة، وهذا دليل على أنها أيام شكر، ولأجل ذلك فالمسلمون في كل مكان إذا أصبحوا في عيدهم -عيد فطر أو عيد أضحى- خرجوا خارج البلاد في طرفها، واجتمعوا رافعين أصواتهم بالتكبير، وصلوا لله لا لغيره صلاة متميزة بالتكبير؛ لأن فيها تكبيراً لا يُكبر في غيرها، وتفتتح كل ركعة بعدد تكبيرات، ثم بعدها يخطبهم الخطباء بخطب تناسبهم، ويبينون لهم الأعمال التي يعملونها في ذلك اليوم، ويبينون لهم ما يجب عليهم، فينصرفون من كل صلاة عيد وقد ازدادوا حسنات، وقد عرفوا الحِكَم والأحكام التي شرعت لها هذه العبادات. وهذا بخلاف أعياد الكفار وأعياد الملاحدة وأعياد الجهلة ونحوهم؛ فإنها أعياد أَشَرٍ وبطر، أعياد لهو ولعب، أيام يتخذون فيها الطبول والرقص والضرب بالدفوف وما أشبه ذلك، يجتمعون فيها على قيل وقال، أو على لهو ولعب، أو على طرب ونحوه، أو على مآكل محرمة، أو ما أشبه ذلك، وقليل ذكر الله عندهم، وقليل شكره، وقليل الاعتراف بفضله، فأين هذا من هذا؟! فأعياد الإسلام مشتملة على ذكر الله وتعظيمه وإجلاله، ولأجل ذلك كان كثير من السلف في أيام الأعياد يحزنون، ويخشون ألا تقبل أعمالهم، كما رئي بعضهم في ليلة عيد وهو ينوح ويبكي على نفسه ويقول: بحرمة غربتي كم ذا الصدود ألا تعطف علي ألا تجود سرور العيد قد عم النواحي وحزني في ازدياد لا يبيد لئن كنت اقترفت خلال سوء فعذري في الهوى ألا أعود فهذا ونحوه هو من الذين يخشون أن ترد أعمالهم؛ فلأجل ذلك يظهر عليهم الحزن. ورأى بعض السلف قوماً في يوم العيد يضحكون فقال: (إن كان هؤلاء قُبِلَ صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان رُدَّ صيامهم فما هذا فعل الخائفين) ، وهذا يدل على أنهم كانوا يحزنون، مع أن اليوم يوم فرح.
صلاة العيد قبل الخطبة
صلاة العيد قبل الخطبة صلاة العيد التي يُبدأ بها العيد تتميز عن غيرها، فتقدم قبل الخطبة، وهذا بخلاف الجمعة، فالجمعة يُبدأ فيها بأداء الخطبتين وبعدهما الصلاة، وأما العيد فيبدأ بالصلاة ركعتين، ثم بعدها يأتي الخطيب بخطبتين: خطبة بعد خطبة يجلس بينهما، هذا هو المشروع. وفي عهد خلفاء بني أمية كان بعض الخطباء يجعل في خطبته شيئاً من التنقص لـ علي رضي الله عنه لما كان بينهم أو لاتهامهم له بأنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه، فكان الناس إذا بدأ الإمام في الخطبة خرجوا ولم يستمعوا له، فاحتال بعض أمرائهم فقدموا الخطبة قبل الصلاة حتى ينحبس الناس وينتظروا الصلاة، وأنكر عليهم كثير من الصحابة، وقالوا: إن الصلاة تقدم في العيد قبل الخطبة. وانقطع ذلك العمل الذي عمله ذلك الخطيب أو ذلك الأمير والحمد لله، ورجع الناس إلى السنة، وهي: البداءة بالصلاة ثم الخطبة.
الذبح في الأضحى بعد الصلاة
الذبح في الأضحى بعد الصلاة من أحكام عيد الأضحى أن يبدأ بالصلاة قبل الذبح، ففي عيد النحر يتقرب الناس بذبح أضاحي قربة إلى الله تعالى، فيذبحونها للنسك، ويسمونه عند الذبح، فهذا النسك الذي يذبحونه يحيون به سنة أبيهم إبراهيم، فإنه عندما امتحنه الله بذبح ولده فداه سبحانه كما قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] فقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأضاحي: (إنها سنة أبينا إبراهيم) ، وأخبر بأن لهم فيها أجراً، وجعل من أحكامها أنها لا تذبح إلا بعد الصلاة، فلما صلى وخطبهم أخبرهم بأن من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له، يعني: كأنه لم يذبح أضحية، وأن وقت الذبح بعد الانتهاء من الصلاة والخطبتين، ولما أخبر بذلك قام هذا الرجل الذي هو خال راوي الحديث البراء بن عازب، وهو أبو بردة بن نيار، وسأله عن هذا الحكم، وهو أنه ذبح قبل الصلاة، وأراد أن تكون شاته أول ما يؤكل في بيته، فذبحها آخر الليل، وطبخ منها، وأكل قبل أن يأتي إلى الصلاة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن شاته شاة لحم، وليست أضحية، وأنها كسائر الذبائح التي تذبح لأجل الصدقة أو لأجل الكرامة أو لأجل اللحم أو نحو ذلك، ولا تكون أضحية إلا إذا ذبحت بعد الصلاة. وحيث إنه ذبحها جاهلاً بالحكم، ولم يكن عنده أضحية يذبحها أخرى إلا عناقاً صغيرة لم تبلغ أن تكون مجزئة، ولكنها أغلى عنده من شاتين -يعني: لسمنها أو للرغبة فيها- فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنها تجزئه، ولا تجزئ عن أحد غيره لجهله. وأخذوا من ذلك أنه لابد أن تشتمل الخطبة على بعض أحكام الأضاحي ونحوها، فالخطباء يشرحون للناس أحكام الأضحية حتى يعرفها الناس، وأخذوا من ذلك أن وقت الذبح بعد الصلاة لا قبله، وأن من ذبح لم تجزئه تلك الذبيحة، بل تكون شاة لحم كسائر اللحوم التي تذبح لأجل التفكه ونحو ذلك، وأخذوا من ذلك أن من ذبح قبل الصلاة فعليه أن يذبح أخرى. وقد استدل به بعضهم على أن الأضحية واجبة على من وجد الثمن؛ ولقوله في حديث آخر: (من وجد سعة فلم يضحِ فلا يقربن مصلانا-) ، ولكن لعل هذا من باب التأكيد لها، فالجمهور على أنها مستحبة ولا تصل إلى الوجوب. وعلى كل حال فهي من شعائر الإسلام، وعلى المسلمين أن يهتموا بها، وأن يذبحوا ما تيسر لهم. ولها موضع آخر في باب: الذبائح والأضاحي، وسيأتي في آخر الحج إن شاء الله، وعلى كل حال فمحل ذبحها -كما في هذه الأحاديث- بعد الصلاة وبعد قدر الخطبتين، ومن ذبح فعليه أن يعيد الذبح مرة أخرى. وأخذ من هذا أيضاً أن الذبح يكون باسم الله كما في الحديث الأخير، وهو قوله: (ومن لم يذبح فليذبح باسم الله. فهذا ونحوه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجعل في الخطبة شيئاً من التعاليم ومن العلوم التي تهم المسلمين، ويهتمون بتعلمها وبتعليمها.
شرح حديث جابر: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة)
شرح حديث جابر: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، فقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإنكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير. قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن) رواه مسلم. وعن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا -تعني: النبي صلى الله عليه وسلم- أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين) ، وفي لفظ: (كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها، وحتى نخرج الحيض؛ فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم؛ يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته) ] . قد ذكرنا أن العيد اسم لما يعود ويتكرر مع الاجتماع العام على وجه مخصوص، ويصحبه شيء من الفرح والابتهاج، وأن أعياد المسلمين هي: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وهي تعود كل سنة، وعيد الأسبوع هو يوم الجمعة، وذكرنا أن هذه الأعياد شرعت لأجل الابتهاج بنعمة الله تعالى على إكمال ما أتمه لهم، فعيد الأسبوع فيه الفرح والسرور بما يسر الله لهم في ذلك الأسبوع من إقامة العبادة التي هي هذه الصلوات الخمس مدة أسبوع، ثم بعد ذلك يجتمعون في مسجد واحد، ويؤدون هذه الصلاة الخاصة. وعيد الفطر فرح وابتهاج بإكمال الصوم الذي هو ركن من أركان الإسلام، فبعدما يكملونه يظهرون الفرح والسرور، ويصلون هذه الصلاة الخاصة. وعيد الأضحى فرح وابتهاج بإكمال ركن آخر من فرائض الإسلام وهو الحج، وإن لم يكونوا كلهم أدوه، ولكن أداه إخوتهم الذين حجوا وكانوا في المناسك، وهم شاركوهم في بعض الأعمال: من تكبير، وصوم، وذكر، وذبح قرابين، وما أشبه ذلك. هذه هي الحكمة في شرعية هذه الأعياد، وهي أعياد الإسلام، ولا يجوز أن يضاف إليها أعياد أخرى، وقد جاء الإسلام بالاقتصار على هذه الأعياد، فلا يجوز مشاركة اليهود والنصارى في أعيادهم كعيد الميلاد النصراني، وعيد النيروز، وعيد المهرجان، ونحوها من أعياد أهل الكتاب وغيرهم، بل يقتصر المسلمون على أعيادهم الشرعية. وما يعمله المسلمون في هذه الأعياد مخالف لما يعمله أولئك، فاليهود والنصارى ونحوهم يجعلون أعيادهم أشراً وبطراً، ولعباً ولهواً، ومعاصٍ، ومآكل آثمة، ومشارب محرمة، واختلاط رجال بنساء، وغير ذلك من المآثم. وأعياد المسلمين بخلافهم، فهي مشتملة على ذكر، وعلى شكر، مبدوءة بالتكبير في الصباح وفي الليل، ومبدوءة في أول النهار بهذه الصلاة الخاصة التي تختص بالعيد، والتي يكثر فيها المصلون من التكبير الذي أمروا به في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ، فهذه هي أعياد الإسلام وما اشتملت عليه.
الخروج في العيد إلى المصلى ومخالفة الطريق
الخروج في العيد إلى المصلى ومخالفة الطريق في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العيد، وأنه لم يكن هناك أذان ولا إقامة، وذلك لأنهم خرجوا في ظاهر البلد، فالسنة أن يكونوا في مكان قافر نظيف في خارج البلد، وفي طرف من أطرافها في صحراء، ولعل الحكمة في ذلك: أنهم ببروزهم يفارقون البلد وما فيها، وأنهم بذلك يؤجرون؛ لأنهم متعبدون كلهم لله. ومن الحكمة -أيضاً-: تكثير مواضع العبادة؛ فإنهم يأتون بعبادات في طريقهم، ويأتون بعبادة في مجتمعهم ذلك الذي في خارج البلد. وقد ذكروا -أيضاً- من السنن أن المصلي يخالف الطريق، فإذا خرج من طريق رجع من طريق ثانٍ، هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الحكمة في ذلك -أيضاً-: تكثير مواضع العبادة، أو تفقد أحوال البلاد، أو إغاضة المنافقين وتفريح المؤمنين، أو غير ذلك من الحكم.
صلاة العيد ليس فيها أذان ولا إقامة
صلاة العيد ليس فيها أذان ولا إقامة وفي هذه الأحاديث أنه صلى العيد بلا أذان ولا إقامة، وسبب ذلك: أن وقت الصلاة واضح لا حاجة إلى تبيينه، ولا حاجة إلى إيضاحه بشيء زائد، بل هو معلوم ظاهر، فلم يحتج إلى أذان، ولما كانوا قد اجتمعوا، وتكاملوا في ذلك المكان، ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً قد أقبل متوجهاً إلى المكان الذي أعد للصلاة فيه؛ لم يحتاجوا إلى إقامة، بل قاموا فور وصوله إليهم، فهذا يفيد أنه لا يؤذّن ولا يقام لصلاة العيدين. وفي هذا الحديث أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وتقدم ذلك -أيضاً- في الأحاديث التي قبله، وهذه هي السنة: أن يقدم الصلاة، ثم يأتي بعدها بالخطبتين، خلافاً لما في صلاة الجمعة، فإن الجمعة -كما هو معروف- تقدم الخطبتان، ثم يأتي بالصلاة، وقد حدث في عهد ولاية مروان بن الحكم على المدينة أنه قدم الخطبة قبل الصلاة، وتعلل بأن الناس لا يجلسون للخطبة؛ لأنهم كانوا إذا صلوا انصرفوا، وقد أنكر عليه أبو سعيد الخدري، وأنكر عليه من معه من الصحابة، ثم استقر أمر المسلمين على تقديم الصلاة في جميع بلاد الإسلام.
حكم سماع خطبتي العيد
حكم سماع خطبتي العيد دل الحديث على أن سماع الخطبتين سنة، ولكنه مؤكد؛ لأن المسلمين ما خرجوا إلا ليستفيدوا، وما أتوا إلى هذه الصلاة إلا ليستفيدوا مما يسمعوا، ولكن لا يلزمهم الجلوس، بل يجوز بعد الصلاة الانصراف، والأولى جلوسهم حتى يستمعوا تلك المواعظ والنصائح، ويستفيدوا منها.
كيفية صلاة العيد
كيفية صلاة العيد في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين، وقد ذكروا فيها -أيضاً- التكبيرات الزوائد، وأنها في الأولى سبع تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة القيام، وكلها تكبيرات زوائد. ثم بعد التكبيرات يبدأ في القراءة كما هو معروف، ويقرأ جهراً كما يجهر في صلاة الجمعة. بعد ذلك يخطب، ويضمن خطبته مواعظ وتذكيراً وتنبيهاً، وهذه هي السنة، فالسنة: أن الخطيب يذكر ما يناسب في الحال، فيذكر الناس بربهم، ويذكرهم بنعمه عليهم، ويذكرهم ببعض حقوق الله، ويخوفهم من آثار المعاصي والذنوب، ويقوي هممهم لفعل الطاعات، ويرغبهم في الثواب الأخروي وما أشبه ذلك، وهكذا -أيضاً- يذكر لهم في الخطب شيئاً من الأحكام، فإن كان في خطبة عيد الفطر ذكر لهم زكاة الفطر، وكيف صرفها، وآخر وقتها، وما أشبه ذلك، ويذكر لهم -أيضاً- عملهم في ذلك اليوم، وما ينبغي أن يكونوا عليه من الفرح والسرور بذلك اليوم، وما ينبغي أن يجتنبوه من الأشر والبطر واللهو واللعب وما أشبه ذلك، وإن كان في عيد النحر ذكر لهم الأضاحي، والسنن التي تجب فيها، وما يجزئ فيها وما لا يجزئ، ومصارفها، وما أشبه ذلك. ويذكرهم -أيضاً- بأركان الإسلام وبواجباته، ويحذرهم من الآثام والمحرمات، وما أشبه ذلك، وهذا معنى قوله: (ذكرهم، وخوفهم) .
خطبة النساء في يوم العيد
خطبة النساء في يوم العيد في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى من خطبته للرجال كان النساء في مكان بعيد، وعرف أنهن لم يصل إليهن صوته، ولم يسمعهن، فأتاهن وخطبهن بخطبة خاصة وذكرهن، وكان من جملة ما ذكرهن تخويفهن بقوله: (تصدقن؛ فإنكن أكثر حطب جهنم) يعني: كأنه عرف أو أطلعه الله على أن النساء ممن يأثمن، لكثرة الأعمال التي يذنبن فيها، وكأنهن استغربن ذلك، ففي بعض الروايات أنهن قلن: لمَ؟ وفي هذا الحديث أنها امرأة واحدة كأنها جريئة، وقوله: (سفعاء الخدين) معناه: جريئة على الكلام، ليس معناه: أنها كانت كاشفة عن خديها، إنما كلمة (السفع) يراد بها: المرأة الجريئة التي لا تستحي أن تتكلم أمام غيرها من الرجال، فهي التي نطقت دون هؤلاء النساء مع كثرتهن، وقالت: لماذا نحن أكثر حطب أهل النار؟ فأخبرهن بأنهن يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، و (كفر العشير) أي: كفر الزوج، يعني: أنهن يكفرن إحسان الزوج إليهن، ومثل ذلك في بعض الأحاديث بقوله: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) . وبكل حال: هذا وصف أغلبي، وليس عاماً لهن كلهن، بل فيهن ذوات الإيمان وذوات التقوى، وفيهن من تخاف الله وتراقبه وتعبده، والرجال -أيضاً- فيهم كثير ممن هو جاحد للإحسان وجاحد للمعروف، ولكن وصف إنكار المعروف في النساء أغلب، وعلى هذا جرى هذا الحديث في قوله: (إنكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكفرن العشير وتكفرن الإحسان) . وهذا يدل على أن الإنسان عليه أن يعترف لصاحب الفضل بفضله الذي امتن به عليه، فمن أحسن إليك فلا تنكره، ولا تنكر إحسانه وفضله، واحرص على أن تكافئه، فإن كان إحسانه إحساناً دنيوياً فأحسن إليه بمثل ذلك ما استطعت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) هذا في الإحسان الذي هو نفع مالي أو نفع بدني أو نحو ذلك. وأما في الإحسان الذي هو نفع ديني كالفائدة والمعرفة ونحو ذلك فإن عليك -أيضاً- ألا تنكر فضله عليك، بل تدعو له على ذلك، وفي ذلك يقول بعضهم: إذا أفادك إنسان بفائدة من العلوم فلازم شكره أبداً وقل فلان جزاه الله صالحة أفادنيها، وألق الكبر والحسدا ثم لما حثهن النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة أخذن يتصدقن من حليهن؛ لأنه ليس معهن إلا الحلي، وليس معهن حلي ذو قيمة أو ثمن رفيع، إنما معهن أقراط وخواتيم، والقرط هو: ما يعلق في الأذن، والخواتيم: ما يجعل في الأصابع، وغالباً تكون من فضة، فجعلت المرأة تخلع القرط من أذنها وتلقيه في ثوب بلال، وتخلع الخاتم الذي في يدها -وهو من فضة غالباً- وتلقيه في ثوب بلال، حتى يجتمع من ذلك ما يجتمع، ويباع ويتصدق بثمنه على المهاجرين والمستضعفين.
شرح حديث أم عطية: (أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدود)
شرح حديث أم عطية: (أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدود) الحديث الثاني: حديث أم عطية، أخذوا منه وجوب صلاة العيد على كل فرد؛ ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا النساء، حتى يخرجوا المخدرات، فتخرج الأبكار من خدورهن، وتخرج العواتق وذوات الخدور، حتى تخرج الحيض اللاتي لا صلاة عليهن؛ يخرجن ليذكرن الله إذا ذكره المسلمون، وكذلك -أيضاً- يستمعن ويستفدن من هذا الاجتماع، وهكذا تنزل عليهن الرحمة معهم. ولكن أمر الحيض بأن يعتزلن المصلى، وأن يكن منفردات في مكان ليس ببعيد، ولكنهن ينفردن في مكان خاص لا يختلطن بالمصلين، وأما بقيتهن فيقمن في صفوف الصلاة التي يصلين فيها. ومن هذا الحديث أخذ بعضهم أن صلاة العيد فرض عين، وقال: ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تخرج النساء حتى الأبكار، وحتى المخدرات اللاتي يحتجبن في خدورهن، وحتى الحيض اللاتي لا صلاة عليهن، أمر بأن يخرج لها كل أحد، حتى النساء فكيف بالرجال الذين هم مكلفون وليس لهم عذر ولا مانع؟! فيلزم -إذاً- أن يخرج كل أفرادهم شيوخاً وشباباً وكهولاً، أي: كل من كان عنده قدرة واستطاعة أن يصل إلى المسجد الذي أعد للصلاة، فاستدلوا بهذا على أنها فرض على كل إنسان بعينه. وذهب آخرون إلى أنها فرض كفاية، وقالوا: إن الفريضة حصرت في خمس صلوات؛ لأن ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن فريضة الله قال له: (خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تتطوع) فأفاد بأنه لا يُطلب منه إلا خمس صلوات فقط، ولم يطلب منه غير ذلك إلا تطوعاً. ولكن لعل المراد الصلوات اليومية التي يؤديها كل يوم، ولا يدخل في ذلك الصلوات الأسبوعية، أو الصلوات السنوية كهذه الصلاة، وعلى كل حال إذا قلنا: إنها ليست فرض كفاية فإنها مؤكدة، وعلى الإنسان ألا يتركها وهو قادر ليس له عذر.
مشروعية صلاة العيد في المصلى
مشروعية صلاة العيد في المصلى إذا كانت البلاد واسعة جاز أن تصلى في أكثر من موضع، والأصل أنها تصلى في صحراء، ولا يجوز أن تصلى في المساجد العادية إلا إذا لم يجدوا مكاناً صالحاً لأدائها في الصحراء، أو كانت الصحراء بعيدة لا سيما على الضعفاء والمرضى وكبار السن ونحوهم، فحينئذٍ يجوز أن تُصلى في داخل البلد في المساجد، كما فعل ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة لما اتسعت، فإنه لما اتسعت الكوفة ترك رجلاً يصلي في المسجد في داخل البلد بالمستضعفين ونحوهم، وخرج هو يصلي بالبقية في خارج البلد. والأفضل -أيضاً- أن تكون في مسجد واحد أو في مساجد قليلة، ولا يكثر العدد، وفي هذه الأزمنة في هذا البلد خاصة يكثرون المواضع، بحيث إن بعض الخطباء يسمع خطبة الآخر، وهذا خلاف السنة، بل الأفضل أن يختاروا مسجداً واسعاً، أو يختاروا صحراء واسعة، تتسع لعدد كثير ولو عشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً، فالصحارى كثيرة واسعة، والناس عندهم استطاعة، والصلاة إنما هي مرتان في السنة، وعندهم تمكن؛ لأنهم يجدون السيارة ولو بأجرة، فيخرجون إليها، والأفضل عدم التكرار إلا لعذر. وبكل حال: فإن هذه الصلاة من شعائر الإسلام التي جاء بها وأقرها، واستمر العمل عليها إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله، ومتى أظهرها المسلمون وتمسكوا بها أظهروا شعائر إسلامهم، وأحيوا سنة نبيهم.
شرح عمدة الأحكام [25]
شرح عمدة الأحكام [25] من رحمة الله بعباده إنذارهم وتخويفهم بما يوجب رجوعهم إليه إذا أكثروا من المعاصي، ومن ذلك ما يحدث في الكون من آيات عظيمة تفزع لها القلوب، كالكسوف والخسوف ونحوهما، ففي حصولهما موعظة وذكرى للذاكرين.
أحكام صلاة الكسوف
أحكام صلاة الكسوف
معنى الكسوف وأسباب حدوثه
معنى الكسوف وأسباب حدوثه قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب صلاة الكسوف. عن عائشة رضي الله عنها: (أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة. فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات) . وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته، فإذا رأيتم منهما شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) . والله أعلم] . هذا باب صلاة الكسوف، ويطلق الكسوف والخسوف على انمحاء النيرين، المحو الذي يكون في النيرين -الشمس والقمر- يسمى كسوفاً وخسوفاً، وقد ذكر في القرآن باسم الخسوف في قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8] ، وهذا الخسوف من الحوادث التي تحدث في هذه الكواكب التي سيرها الله تعالى وجعلها آية لعباده، يقول الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] يعني أنهما سائران بحساب محدد. ويقول في آية أخرى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] أي: تجري إلى مستقر لها. ثم يقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، فهذه الكواكب التي يسيرها الله في هذا السماء هي مسيرة ومذللة بأمر الله تعالى، يشاهدها العباد تطلع وتغرب، ويشاهدون الشمس والقمر تارة مجتمعين ببعضهما كأول الشهر أو آخره، وتارة يكون بينهما بعد ما بين المشرقين، فتكون الشمس في المشرق والقمر في المغرب، أو بالعكس، وذلك دليل على أنهما يسيران بحسبان، فالقمر له منازل، كما في قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39] يعني: جعلنا له كل ليلة منزلة ينزلها. فهذا دليل على أن الله هو الذي يسيرها ويسخرها كما شاء، قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد:2] أي: كل منهما جار إلى أجل مسمى محدد بأمر الله تعالى. وأجرى الله تعالى العادة بأنه يحصل اضمحلال في هذين النيرين - الشمس والقمر-، يحصل هذا الاضمحلال والمحو الذي يسمى كسوفاً وخسوفاً، ولا شك أن حصوله تغير ظاهر مشاهد معروف، هذا التغير الظاهر لابد أنه آية من آيات الله. وبين أيدينا هذا الحديث الذي ذكر فيه أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وآيات الله بمعنى الدلالات التي نصبها لعباده ليستدلوا بها على كمال قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أنه المتصرف في الكون وحده دون غيره، فإذا عرف العباد ذلك استدلوا على عظمته وجلاله بهذه الأشياء، فهذا تسميتها آيات، فهما آيتان من آيات الله، أعني الآيات الكونية التي يشهدها العباد ويرونها. وهذه الآيات التي جعلها الله علامات ودلالات على كمال قدرته وكمال تصرفه يعتريها هذا التغير الذي أجراه الله وجعل له أسباباً خفية أو جلية، وأمرهم إذا شاهدوا هذه الأسباب أن يحدثوا عبادة، وأن يحدث لهم شيء من الخوف وشيء من الوجل، وذلك لأن هذا التغير يحدث تغييراً في النفوس، فيكون ذلك سبباً للخوف، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] أي: ما نحدث من الآيات الكونية في النيرين وفي السماء وفي الأفلاك وفي النجوم إلا لأجل أن يخاف العباد، فإذا رأوا هذه الأمور متجددة يتجدد لهم الخوف من الله تعالى وتوقيره وتعظيم حدوده. ولا شك أن الخوف يسبب انزعاجاً في النفوس، هذا الانزعاج لابد أن يفزع العباد فيه إلى عبادة ربهم، ومعلوم أن العبادة تتمثل في الصلاة، والصلاة هي أمثل العبادات وأشهرها وآكدها، فلذلك شرعت في الكسوف صلاة تسمى باسمه (صلاة الكسوف) ، وهذه الصلاة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت عن صحابته ثبوتاً قطعياً كثبوت كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما مات ابنه إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى بهم صلاة الكسوف، وأخبرهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آيتان مما يخوف الله به عباده، فلا يجعلوا سببهما موت فلان أو ولادة فلان أو غير ذلك، بل عليهم أن يعتبروهما من الآيات والدلالات، ويعتبروهما من أسباب التخويف. قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) ، وفي بعض الروايات أنه حث على الذكر وعلى الصلاة والصدقة والعتق والأعمال الصالحة التي تكون سبباً للنجاة؛ مخافة أن يكون ذلك قرب الساعة أو قرب عذاب، أو مقدمة بين يدي عذاب شديد أثاره غضب الله تعالى على العباد بسبب معاص اقترفوها، فعليهم أن يفزعوا إلى الصلاة. نقول بعد ذلك: هذا الكسوف الذي يحدث للشمس ويحدث للقمر له أسباب، وأسبابه قد تعرف بواسطة السير وتسيير الشمس والقمر، ولكن معرفتها ومعرفة تحديد أوقاتها لا يدل على أنها ليست آية من آيات الله، ولا يدل على أنها ليست مما يخوف الله به العباد، بل هي آيات الله، وآيات كونية، وهي مما يحصل به التخويف، ولكن مع ذلك كله قد تعرف أسبابها بالحساب وبالمقدمات وبسير الشمس والقمر. وقد ذكروا أن سبب كسوف الشمس أن القمر في آخر الشهر قد يحول بيننا وبينها، وذلك لأن سير الشمس أسرع من سير القمر، فتدركه وهو سائر؛ لأن القمر في أول الشهر قد يكون أمامها -مثلاً- أو في آخر الشهر فتدركه، فإذا أدركته حال بينها وبيننا، فإذا حال بينها وبيننا عند ذلك اختفت الشمس أو اختفى جزء منها، فاختفى ضوؤها ونورها، فذلك هو الكسوف. ولا شك أن هذا -أي: الحيلولة دونها- آية من آيات الله، فكيف بقمر هذه علاماته وهذه آثاره، ومع ذلك يغطي ضوء الشمس أو جزءاً من ضوئها، وذلك يسبب لنا الخوف، ويسبب لنا الانزعاج ونحو ذلك. أما كسوف القمر فذكروا أن الشمس تنير القمر وتضيئه، وأن ضوءه يأخذه من الشمس، فيستمد ضوءه ونوره من الشمس، ففي وسط الشهر تحول الأرض بينه وبينها، فلا تحصل مقابلته لها حتى يشع فيه نورها، فيحصل بذلك هذا الانمحاء الذي في القمر أو في جزء منه. ولا شك -أيضاً- أن هذا آية من آيات الله، كيف أن هذا الجرم الكبير يحال بينه وبين هذه الشمس البعيدة التي هي بعيدة عنه، أجرى الله ذلك بقضاء وقدر، فما دام كذلك فإنه مما يخاف من حدوثه، ومما يوجب على المسلمين أن يحدثوا عبادة تدل على تعظيمهم لما عظم الله، وخوفهم من آيات الله التي تتجدد، والتي يخشى أن يكون وراءها غيرها، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] ي