تلبيس إبليس
ابن الجوزي
خطبة الكتاب
خُطْبَةُ الْكِتَابِ ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي سلم ميزان العدل إِلَى أكف ذوي الألباب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب وأنزل عليهم الكتب مبينة للخطأ والصواب وجعل الشرائع كاملة لا نقص فيها ولا عاب1 أحمده حمد من يعلم أنه مسبب الأسباب وأشهد بوحدانيته شهادة مخلص فِي نيته غير مرتاب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله وَقَدْ سدل الكفر عَلَى وجه الإيمان والحجاب فنسخ الظلام بنور الهدى وكشف النقاب وبين للناس مَا أنزل إليهم وأوضح مشكلات الْكِتَاب وتركهم عَلَى المحجة البيضاء لا سرب فيها2 ولا سراب فصلى اللَّه عَلَيْهِ وعلى جميع الآل وكل الأصحاب وعلى التابعين لهم بإحسان إِلَى يوم الحشر والحساب وَسَلَّمَ تسليما كثيرا. أما بعد فَإِن أعظم النعم عَلَى الإنسان العقل لأنه الآلة فِي معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إِلَى تصديق الرسل إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين فَإِذَا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس ولما ثبت عند العقل أقوال الأنبياء الصادقة بدلائل المعجزات الخارقة سلم إليهم واعتمد فيما يخفى عنه عليهم. ولما أنعم اللَّه عَلَى هَذَا العالم الإنسي بالعقل أفتتحه اللَّه بنبوة أبيهم آدم عَلَيْهِ السلام فكان يعلمهم عَنْ وحي اللَّه عز وجل فكانوا عَلَى الصواب إِلَى أن انفرد قابيل بهواه فقتل أخاه ثم
تشعبت الأهواء بالناس فشردتهم فِي بيداء الضلال حتى عبدوا الأصنام واختلفوا فِي العقائد والأفعال اختلافا خالفوا فيه الرسل والعقول اتباعا لأهوائهم وميلا إِلَى عاداتهم وتقليدا لكبرائهم فصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. فصل: وأعلم أن الأنبياء جاءوا بالبيان الكافي وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي وتوافقوا عَلَى منهاج لم يختلف فأقبل الشَّيْطَان يخلط بالبيان شبها وبالدواء سما وبالسبيل الواضح جردا1 مضلا وما زال يلعب بالعقول إِلَى أن فرق الجاهلية فِي مذاهب سخيفة وبدع قبيحة فأصبحوا يعبدون الأصنام فِي البيت الحرام ويحرمون السائبة2 والبحيرة والوصيلة والحام ويرون وأد البنات ويمنعونهن الميراث إِلَى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس3 فابتعث الله سبحانه وتعالى محمدا فرفع المقابح وشرع المصالح فسار أصحابه معه وبعده فِي ضوء نوره سالمين من العدو وغروره فلما انسلخ نهار وجودهم أقبلت أغباش الظلمات فعادت الأهواء تنشىء بدعا وتضيق سبيلا مَا زال متسعا ففرق الأكثرون دينهم
وكانوا شيعا ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف وإنما يصح لَهُ التلصص فِي ليل الجهل فلو قد طلع عَلَيْهِ صبح العلم افتضح. فرأيت أن أحذر من مكايده وأدل عَلَى مصايده فَإِن فِي تعريف الشر تحذيرا عَنِ الوقوع فيه ففي الصحيحين من حديث حذيفة قَالَ كان الناس يسألون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الخير وكنت أسأله عَنِ الشر مخافة أن يدركني وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ سَعْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَزَّازُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّرَيْثِيثِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا محمد بن إسحق عَنِ الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ الْيَوْمَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَى الشَّيْطَانِ هَلاكًا مِنِّي فَقِيلَ وَكَيْفَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيُحْدِثُ الْبِدْعَةَ فِي مَشْرِقٍ أَوْ مَغْرِبٍ فَيَحْمِلُهَا الرَّجُلُ إِلَيَّ فَإِذَا انْتَهَتْ إِلَيَّ قَمَعْتُهَا بِالسُّنَّةِ فَتُرَدُّ عَلَيْهِ كما أخرجها. فصل: وَقَدْ وَضَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ مُحَذِّرًا مِنْ فِتْنَةٍ وَمُخَوِّفًا مِنْ مِحْنَةٍ وَكَاشِفًا عَنْ مَسْتُورِهِ وَفَاضِحًا لَهُ فِي خَفِيِّ غُرُورِهِ وَاللَّهُ الْمُعِينُ بِجُودِهِ كُلَّ صَادِقٍ فِي مَقْصُودِهِ.
وَقَدْ قَسَّمْتُهُ ثَلاثَةَ عَشَرَ بَابًا يَنْكَشِفُ بِمَجْمُوعِهَا تَلْبِيسَهُ وَيَتَبَيَّنُ لِلْفَطِنِ بِفَهْمِهَا تَدْلِيسَهُ فَمَنِ انْتَهَضَ عَزْمُهُ لِلْعَمَلِ بِهَا ضَجَّ مِنْهُ إِبْلِيسُهُ وَاللَّهُ مُوَفِّقِي فِيمَا قَصَدْتُ وَمُلْهِمِي للصواب فيما أردت. ذكر تراجم الأبواب الباب الأول: في الأمر بلزوم السنة والجماعة. الباب الثاني: فِي ذم البدع والمبتدعين. الباب الثالث: فِي التحذير من فتن إبليس ومكايده. الباب الرابع: فِي معنى التلبيس والغرور. الباب الخامس: فِي ذكر تلبيسه في العقائد والديانات. الباب السادس: في ذكر تلبيسه عَلَى العلماء فِي فنون العلم. الباب السابع: في ذكر تلبيسه على الولاة والسلاطين. الباب الثامن: في ذكر تلبيسه على العباد في فنون العبادات. الباب التاسع: في ذكر تلبيسه على الزهاد. الباب العاشر: فِي ذكر تلبيسه على الصوفية. الباب الحادي عشر: فِي ذكر تلبيسه عَلَى المتدينين بما يشبه الكرامات. الباب الثاني عشر: فِي ذكر تلبيسه على العوام. الباب الثالث عشر: في ذكر تلبيسه على الكل بتطويل الأمل.
الباب الأول: الأمر بلزوم السنة والجماعة
الباب الأَوَّل: الأمر بلزوم السنة والجماعة. أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّيْمِي نا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن حَمْدَان ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ ابْن إِسْحَاقَ نا ابْنُ الْمُبَارَك ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَوْقَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَار عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ قَامَ فِينَا رَسُول الله فَقَالَ "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ1 فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ" أَخْبَرَنَا أَحْمَد وَحَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَطَبَ عُمَر النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ إن رسول الله قَامَ فِي مِثْلِ مَقَامِي هَذَا فَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنَالَ بَحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ" قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك الْحَافِظ وَيَحْيَى بْن عَلِيٍّ الْمَدِينِيّ نا أَبُو مُحَمَّد الصَّرِيفِينِيّ نا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن الْحَسَنِ بْن عَبْدَان ثنا أَبُو مُحَمَّد بْن صَاعِد ثنا سَعِيد بْن يَحْيَى الأُمَوِيّ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاش عَنْ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرٍّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَرَادَ بَحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَوَّل بْن عِيسَى نا أَبُو الْقَصَّارِ بْنِ يَحْيَى ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْن عَبْدِ الْعَزِيز أَنْبَأَنَا أَبُو عُبَيْد نا النَّضْر بْن إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّد بْنُ سَوْقَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَار عَنْ عُمَر قَالَ قال رسول الله: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْكُنَ بَحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ" أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّل نا أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْعَزِيز الْفَارِسِيّ نا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي شُرَيْحٍ ثنا ابْنُ صَاعِد ثنا إِبْرَاهِيم بْن سَعْد الْجَوْهَرِيّ ثنا أَبُو مُعَاوِيَة عن يزيد بن مرادنبه عَنْ زِيَاد بْن عِلاقَةَ عَنْ عَرْفَجَة قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الَّلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول "يد الله
عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ يُخَالِفُ الْجَمَاعَةَ" أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الأُرْمَوِيُّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِيُّ نا عَبْدُ الصَّمَد بْن الْمَأْمُون نا عَلِيّ بْن عُمَر الدَّارَقُطْنِيّ ثنا أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن إِسْحَاقَ بْن الْبُهْلُولِ حَدَّثَنِي أَبِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْلَى ثنا سُلَيْمَانُ الْعَامِرِيُّ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ زِيَاد بْن عِلاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَإِذَا شَذَّ الشَّاذُّ مِنْهُمُ اخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَخْتَطِفُ الذِّئْبُ الشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ" أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنْبَأَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْد اللَّهِ قَالَ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا قَالَ ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وَبِالإِسْنَادِ قَالَ أَحْمَدُ وثنا رَوْحٌ ثنا سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ثنا الْعَلاءُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلْيُكْم بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ" حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ثنا أَبُو الْيَمَانِ ثنا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ وَثَلاثَةٌ خَيْرٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاثَةٍ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْمَعْ أُمَّتِي إِلا عَلَى الْهُدَى". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَرُوخِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْعُرُوجِيُّ قَالا أَخْبَرَنَا الْحراجيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا الْمَحْبُوبِيُّ ثنا التِّرْمِذِيّ ثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ ثنا أَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَاد الإِفْرِيقِيِّ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ1 عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفَرَّقَتْ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا يُعْرَفُ إلا من هذا الوجه وروى أَبُو داود فِي سننه من حديث مُعَاوِيَة بْن أبي سفيان أنه قَامَ فَقَالَ ألا إن رسول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: "أَلا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارِي1 بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ كما يتجارى الكلب بصاحبه". أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ بْن عَلِيٍّ الْبَزَّاز نا أَحْمَد بْن عَلِيٍّ الطُّرَيْثِيثِيّ نا هِبَة اللَّهِ بْن الْحُسَيْن الْحَافِظ نا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الْفَارِسِيّ نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ثنا الْعَلاءُ بْنُ سَالِمٍ ثنا أَبُو مُعَاوِيَة ثنا الأَعْمَشُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يَزِيد عَنْ عَبْد اللَّهِ قَالَ الاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَدَّادِ نا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ ثنا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن الْحُسَيْن ثنا بِشْر بْن مُوسَى ثنا مُحَمَّد بْن سَعِيد ثنا ابْن الْمُبَارَك عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي إِخْلافٍ أَخْبَرَنَا سَعْد اللَّه بْن عَلِيّ نا الطريثيتي نا هِبَة اللَّهِ بْن الْحُسَيْن نا عَبْد الْوَاحِد بْن عَبْدِ الْعَزِيز نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّرْقِيُّ ثنا عُثْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ نا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْمَرْزَوِيُّ قَالَ ثنا أَبُو إِسْحَاق الأَقْرَعُ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي جَعْفَرّ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ النَّظَرُ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَدْعُو إِلَى السُّنَّةِ وَيَنْهَى عَنِ الْبِدْعَةِ عِبَادَةٌ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم قَالَ نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الأصبهاني ثنا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن الْحَسَنِ ثنا بِشْر بْن مُوسَى ثنا الحميدي قَالَ أَنْبَأَنَا سفيان بْن عيينة قَالَ سمعت عاصما الأحول يحدث عَنْ أبي العالية قَالَ عليكم بالأمر الأَوَّل الذي كانوا عَلَيْهِ قبل أن يفترقوا قَالَ عَاصِم فحدثت به الْحَسَن فَقَالَ قد نصحك وَاللَّه وصدقك أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ قَالَ نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ أَنْبَأَنَا بِشْر بْن مُوسَى نا مُعَاوِيَة بْن عمرو نا أَبُو إِسْحَاق الفزاري قَالَ قَالَ الأوزاعي اصبر نفسك عَلَى السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكف عما كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك مَا وسعهم أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أسلم أنبأنا محمد بن منصور
الهروي ثنا عَبْد اللَّهِ بْن عروة قَالَ سمعت يوسف بْن مُوسَى القطان يحدث عَنْ الأوزاعي قَالَ رأيت رب العزة فِي المنام فَقَالَ لي يا عَبْد الرَّحْمَنِ أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عَنِ المنكر فقلت بفضلك يا رب وقلت يا رب أمتني عَلَى الإسلام فَقَالَ وعلى السنة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ ثنا إِبْرَاهِيم بْن أبي عَبْد اللَّهِ ثنا مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ سمعت أبا همام السكوني يَقُول حَدَّثَنِي أبي قَالَ سمعت سفيان يَقُول لا يقبل قول إلا بعمل ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد نا أَحْمَد أَبُو نعيم أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ ثنا عمرو بْن عبدوية ثنا أَحْمَد بْن إِسْحَاقَ ثنا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عفان قَالَ ثنا يوسف بْن أسباط قَالَ قَالَ سفيان يا يوسف إذا بلغك عَنْ رجل بالمشرق أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام وإذا بلغك عَنْ آخر بالمغرب أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام فقد قل أهل السنة والجماعة أَخْبَرَنَا سَعْد اللَّه بْن عَلِيّ نا أَحْمَد بْن عَلِيٍّ الطُّرَيْثِيثِيّ نا هِبَة اللَّهِ بْن الْحُسَيْن الطَّبَرِيّ نا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن نا البغوي نا مُحَمَّد بْن زِيَاد البلدي ثنا أَبُو أسامة عَنْ حماد بْن زيد قَالَ أيوب إني لأخبر بموت الرَّجُل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي وبه قَالَ الطَّبَرِيّ وأَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بْن أَحْمَدَ ثنا عَبْد اللَّهِ اليزدجري ثنا عَبْد اللَّهِ بْن وهب ثنا إِسْمَاعِيل بْن أبي خالد قَالَ ثنا أيوب بْن سويد عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن شوذب عَنْ أيوب قَالَ قَالَ إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما اللَّه تعالى لعالم من أهل السنة. قَالَ الطَّبَرِيّ وأَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن حنون ثنا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نضير ثنا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مسروق ثنا مُحَمَّد بْن هارون أَبُو نشيط ثنا أَبُو عمير بْن النحاس ثنا ضمرة عَنْ أبن شوذب قَالَ إن من نعمة اللَّه عَلَى الشاب إذا نسك أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها قَالَ الطَّبَرِيّ وأَخْبَرَنَا عِيسَى بْن عَلِيّ ثنا البغوي ثنا مُحَمَّد بْن هارون ثنا سَعِيد بْن شبيب قَالَ سَمِعْتُ يوسف بْن أسباط يَقُول كان أبي قدريا وأخوالي روافض فأنقذني اللَّه بسفيان قَالَ الطَّبَرِيّ وأَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن حفص نا عَبْد اللَّهِ بْن عدي ثنى أَحْمَد بْن العباس الهاشمي ثنا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الأعلى قَالَ سمعت معتمر بْن سُلَيْمَان يَقُول دخلت عَلَى أبي وأنا منكسر فَقَالَ لي مالك قلت مات صديق لي فَقَالَ مات عَلَى السنة قلت نعم قَالَ تحزن عَلَيْهِ قَالَ الطَّبَرِيّ وأَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ نا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن ثنا أَحْمَد بْن زهير ثنا يعقوب بْن كعب ثنا عبدة ثنا عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك عَنْ سفيان الثوري قَالَ استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء أَخْبَرَنَا أَبُو منصور بْن حيرون نا إِسْمَاعِيل بْن أبي الفضل الإسماعيلي نا حمزة بْن يوسف السهمي
نا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيٍّ الْحَافِظ نا أَبُو عوانة ثنا جَعْفَر بْن عَبْدِ الْوَاحِد قَالَ قَالَ لنا ابْنُ أبي بَكْر بْن عَيَّاش السنة فِي الإسلام أعز من الإسلام فِي سائر الأديان. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ المقري يَقُول سمعت أبا مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن عطاء يَقُول سمعت أبا عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الإسكندراني يَقُول سمعت أبا منصور مُحَمَّد الأزدي يَقُول سمعت أبا العباس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن فراشة يَقُول سمعت أَحْمَد بْن منصور يَقُول سمعت الْحَسَن بْن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن المغيرة يَقُول سمعت يُونُس بْن عَبْدِ الأعلى يَقُول سمعت الشافعي يَقُول إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد أَبُو نعيم أخبرني جَعْفَر الخلدي فِي كتابه قَالَ سمعت الجنيد يَقُول الطرق كلها مسدودة عَلَى الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبع سنته ولزم طريقته فَإِن طرق الخيرات كلها مفتوحة عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا عُمَر بْن ظفر نا جَعْفَر بْن مُحَمَّدٍ نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي نا عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جهضم نا مُحَمَّد بْن حابان قَالَ سمعت حامد بْن إِبْرَاهِيم يَقُول قَالَ الجنيد بْن مُحَمَّد الطريق إِلَى اللَّه عز وجل مسدودة عَلَى خلق اللَّه تعالى إلا عَلَى المقتفين آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لسنته كَمَا قَالَ اللَّه عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
الباب الثاني: في ذم البدع والمبتدعين
الباب الثاني: فِي ذم البدع والمبتدعين. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِي قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن الْمُذْهِبِ نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن حَمْدَان نا أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن حَنْبَلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي ثنا يَزِيد عَنْ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد أَخْبَرَنِي أَبِي وأَخْبَرَنَا أَبُو غَالُبٍ مُحَمَّد بْن الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو سَعْد الْبَغْدَادِيُّ قَالا نا الْمُطَهِّرُ بْن عَبْدِ الْوَاحِد نا أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن مُحَمَّد الْمَرْزُبَانُ نا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الحروزي ثنا لُوَيْنٌ ثنا إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْن مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْن أَحْمَدَ نا عَلِيّ بْن أَحْمَدَ الْبُسْرِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن الْمُخَلِّصُ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد الْبَغَوِيُّ ثنا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيُّ وَإِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيم الْمَرْوَزِيُّ قَالا ثنا إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" قَالَ الْبَغَوِيُّ وَحَدَّثَنَا عَبْد الأَعْلَى بْن حَمَّادٍ ثنا عَبْدُ الْعَزِيز عَنْ عَبْدِ الْوَاحِد بْن أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيم عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ فَعَلَ أَمْرًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن وَمُغِيرَةَ الضَّبِّيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ رَغَبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر نا عَبْد اللَّهِ ابْن أحمد حَدَّثَنِي أَبِي ثنا الْوَلِيدُ بْن مُسْلِمٍ ثنا ثَوْرُ بْن يَزِيد ثنا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَمْرٍو السُّلَمِيُّ وَحِجْرُ بْن حِجْرٍ قَالا أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فسلمنا وقلنا أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين فَقَالَ عِرْبَاضٌ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً
ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن الْوَلِيدِ ثنا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَيَخْتَلِجَنَّ رِجَالٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن مُحَمَّد نا أَبُو نعيم ثنا أَحْمَد بْن إِسْحَاقَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن سُلَيْمَان ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كثير عَنْ الأوزاعي عَنْ يَحْيَى بْن أبي عمرو الشَّيْبَانِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محرز قَالَ يذهب الدين سنة سنة كَمَا يذهب الحبل قوة قوة أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ نا عُمَر بْن عَبْدِ اللَّهِ البقال نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران ثنا عثمان بْن أَحْمَدَ الدقاق ثنا حنبل قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّهِ يعني أَحْمَد بْن حنبل ثنا عَبْدُ الرزاق ثنا معمر قَالَ كان طاوس جالسا وعنده ابنه فجاء رجل من المعتزلة فتكلم فِي شيء فأدخل طاوس أصبعيه فِي أذنيه وقال يا بني أدخل أصبعك فِي أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئا فَإِن هَذَا القلب ضعيف ثم قَالَ أي بني أسدد فما زال يَقُول أسدد حتى قَامَ الآخر قال حنبل وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن داود ثنا عِيسَى بْن عَلِيٍّ الضبي قَالَ كان رجل معنا يختلف إِلَى إِبْرَاهِيم فبلغ إبراهيم أنه قد دخل فِي الإرجاء فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم إذا قمت من عندنا فلا تعد قَالَ حنبل وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن داود الحدائي قَالَ قلت لسفيان بْن عيينة إن هَذَا يتكلم فِي القدر يعني إِبْرَاهِيم بْن أبي يَحْيَى فَقَالَ سفيان عرفوا الناس أمره وسلوا اللَّه لي العافية قَالَ حنبل وَحَدَّثَنَا سعدوية ثنا صالح المري قَالَ دخل رجل عَلَى ابْن سيرين وأنا شاهد ففتح بابا من أبواب القدر فتكلم فيه فَقَالَ ابْن سيرين إما أن تقوم وإما أن نقوم أَخْبَرَنَا المحمدان ابْن ناصر وابن عَبْد الباقي قالا نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الْحَافِظ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ راشد ثنا إِبْرَاهِيم بْن سَعِيد بْن عامر عَنْ سلام بْن أبي مطيع قَالَ قَالَ رجل من أهل الأهواء لأيوب أكلمك بكلمة قَالَ لا ولا نصف كلمة قَالَ ابْن راشد وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الأشج ثنا يَحْيَى بْن يمان عَنْ مخلد بْن حسين عَنْ هشام بْن حسان عَنْ أيوب السختياني قَالَ مَا ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من اللَّه عز وجل بعدا أَخْبَرَنَا أَبُو
الْبَرَكَاتِ بْن عَلِيٍّ الْبَزَّاز نا الطُّرَيْثِيثِيّ نا هِبَة اللَّهِ بْن الحصين نا عِيسَى بْن عَلِيّ نا البغوي نا أَبُو سَعِيد الأشج نا يَحْيَى بْن اليمان قَالَ سمعت سفيان الثوري قَالَ الْبِدْعَة أحب إِلَى إبليس من المعصية المعصية يثاب منها والبدعة لا يثاب منها1 أَخْبَرَنَا ابْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ ثنا سُلَيْمَان بْن أَحْمَدَ ثنا الْحُسَيْن بْن عَلِيّ ثنا محمود بْن غيلان ثنا مؤمل بْن إِسْمَاعِيلَ قال مات عَبْد الْعَزِيز بْن أبي داود وكنت فِي جنازته حتى وضع عند باب الصفا فصف الناس وجاء الثوري فَقَالَ الناس جاء الثوري فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه فجاوز الجنازة ولم يصل عَلَيْهِ لأنه كان يرمي بالإرجاء أَخْبَرَنَا الْمُبَارَك بْن أَحْمَدَ الأنصاري نا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ السمرقندي نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ بْن روح النهرواني ثنا طلحة بْن أَحْمَدَ الصوفي ثنا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن أبي مهزول قَالَ سمعت أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُول سمعت شعيب بْن حرب يَقُول سمعت سفيان الثوري يَقُول من سمع من مبتدع لم ينفعه اللَّه بما سمع ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الأصفهاني ثنا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ نا عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد ثنا سَعِيد الكريري قَالَ مرض سُلَيْمَان التيمي فبكى فِي مرضه بكاء شديدا فَقِيلَ لَهُ مَا يبكيك أتجزع من الموت قَالَ لا ولكني مررت عَلَى قدري فسلمت عَلَيْهِ فأخاف أن يحاسبني ربي عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك وَيَحْيَى بْن عَلِيّ قالا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد الصَّرِيفِينِيّ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدَان نا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن البائع ثنى أبي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر قَالَ سمعت فضل بْن عياض يَقُول من جلس إِلَى صاحب بدعة فاحذروه أَخْبَرَنَا ابْن عَبْد الباقي نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم ثنا سُلَيْمَان بْن أَحْمَدَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْر ثنا عَبْدُ الصَّمَد بْن يَزِيد قَالَ سمعت فضيل بْن عياض يَقُول من أحب صاحب بدعة أحبط اللَّه عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ ثنا عَبْدُ الصَّمَد قَالَ سمعت الفضيل يَقُول إذا رأيت مبتدعا فِي طريق فخذ فِي طريق آخر ولا يرفع الصاحب الْبِدْعَة إِلَى اللَّه عز وجل عمل ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان عَلَى هدم الإسلام وسمعت رجلا يَقُول للفضيل من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها فقال له الفضيل من زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مَعَ صاحب بدعة لم يعط الحكمة وإذا علم اللَّه عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له سيئاته.
قَالَ المصنف وَقَدْ روي بعض هَذَا الكلام مرفوعا وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَقَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فقد أعان عَلَى هدم الإسلام" وقال مُحَمَّد بْن النَّضْر الحارثي من أصغى بسمعه إِلَى صاحب بدعة نزعت مِنْهُ العصمة ووكل إِلَى نفسه وقال إِبْرَاهِيم سَمِعْتُ أبا جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ القابني يَقُول سَمِعْتُ عَلِيّ بْن عِيسَى يَقُول سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ يَقُول سَمِعْتُ يُونُس بْن عَبْدِ الأعلى يَقُول قَالَ صاحبنا يعني الليث بْن سَعْد لو رأيت صاحب بدعة يمشي عَلَى الماء مَا قبلته فَقَالَ الشافعي إِنَّهُ مَا قصر لو رأيته يمشي عَلَى الهواء مَا قبلته وعن بِشْر بْن الحارث أنه قَالَ جاء موت هَذَا الذي يقال لَهُ المريسي1 وأنا فِي السوق فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكرا الحمد لله الذي أماته هكذا قولوا. قَالَ المصنف حدثت عَنْ أبي بَكْر الخلال عَنْ المروزي عَنْ مُحَمَّد بْن سَهْل البخاري قَالَ كنا عند القرباني فجعل يذكر أهل البدع فَقَالَ لَهُ رجل لو حدثتنا كان أعجب إلينا فغضب وقال كلامي فِي أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة. فصل: فَإِن قَالَ قائل قد مدحت السنة وذممت الْبِدْعَة فما السنة وما الْبِدْعَة فانا نرى أن كل مبتدع فِي زعمنا يزعم أنه من أهل السنة2 فالجواب أن السنة فِي اللغة الطريق ولا ريب في أن
أهل النقل والأثر المتبعين آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم عَلَى تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. والبدعة: عبارة عَنْ فعل لم يكن فابتدع والأغلب فِي المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أَوْ نقصان فان ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا حفظا للأصل وَهُوَ الاتباع وَقَدْ قَالَ زيد بْن ثابت لأبي بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حين قالا لَهُ اجمع القرآن كيف تفعلان شيئا لم يفعله رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن أَبِي عُمَر قَالَ أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الْحُسَيْن نا ابْنُ شَاذَانَ نا أَبُو سَهْل نا أَحْمَدُ الْبَرَنِيُّ ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ ثنا سُفْيَانُ عَنِ ابْن عَجْلانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ سَعْد بْن مَالِكٍ سَمِعَ رَجُلا يَقُول لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ فَقَالَ مَا كُنَّا نَقُولُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الْقَاسِمِ بِإِسْنَادٍ يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ كَبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَجَاءَ وَكَانَ رجلا حديدا فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَتَضِلُّنَّ ضَلالا بَعِيدًا أنبأنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي طاهر عَنْ أبي مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ عَنْ أبي عُمَر بْن أبي حياة ثنا أَحْمَد بْن معروف ثنا الْحُسَيْن بْن فهم ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنصاري ثنا ابْنُ عوف قَالَ كنا عند إِبْرَاهِيم
النخعي فجاء رجل فَقَالَ يا أبا عمران أدع اللَّه أن يشفيني فرأيت أنه كرهه كراهية شديدة حتى عرفنا كراهية ذلك فِي وجهه وذكر إِبْرَاهِيم السنة فرغب فيها وذكر مَا أحدثه الناس فكرهه وَقَالَ فِيهِ أَخْبَرَنَا المحمدان ابْن ناصر وابن عَبْد الباقي نا أحمد نا أبو نعيم سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن ريان يَقُول سمعت ذا النون وجاءه أصحاب الحديث فسألوه ِعَنِ الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ فَقَالَ أَنَا لا أَتَكَلَّمُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَإِنَّ هَذَا مُحْدَثٌ سَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِي الصَّلاةِ أَوِ الْحَدِيثِ وَرَأَى ذُو النُّونِ عَلَيَّ خُفًّا أَحْمَرَ فَقَالَ انْزَعْ هَذَا يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ شُهْرَةٌ مَا لَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا لَبِسَ أَسْوَدَيْنِ ساذجين. فصل: قَالَ الشيخ أَبُو الفرج رحمه اللَّه قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بِهَا بأس لئلا يحدثوا مَا لم يكن وَقَدْ جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها فلم يروا بفعلها بأسا كَمَا روى أن الناس كانوا يصلون فِي رمضان وحدانا وكان الرَّجُل يصلي فيصلي بصلاته الْجَمَاعَة فجمعهم عُمَر بْن الخطاب عَلَى أبي بْن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فلما خرج فرآهم قَالَ نعمت الْبِدْعَة هذه لأن صلاة الْجَمَاعَة مشروعة وإنما قَالَ الْحَسَن فِي القصص نعمت الْبِدْعَة كم من أخ يستفاد ودعوة مستجابة لأن الوعظ مشروع ومتى أسند المحدث إِلَى أصل مشروع لم يذم فأما إذا كانت الْبِدْعَة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة وإن كانت مضادة فهي أعظم فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون وأن أهل الْبِدْعَة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند لَهُ ولهذا استتروا ببدعتهم ولم يكتم أهل السنة مذهبهم فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَنُ بْن عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ ثني أَبِي ثنا يَعْلَى بْن عُبَيْد ثنا إِسْمَاعِيل عَنْ قَيْسٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" فِي الصَّحِيحَيْنِ أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ الْحَسَن بْن عَلِيّ نا ابْن ملك ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثني أَبِي قَالَ ثنا يُوسُفُ ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاوِيَةُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقُرَّةُ أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ النّورجِيُّ وَالأَزْدِيُّ قَالا نا الْحراجِيُّ ثنا الْمَحْبُوبِيُّ ثنا التِّرْمِذِيّ قَالَ قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيلَ قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ هم أصحاب الحديث.
فصل: في بيان انقسام أهل البدع أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ الْكَرُوخِيُّ نا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ النّورجِيُّ قَالا نا الْحراجِيُّ ثنا الْمَحْبُوبِيُّ ثنا التِّرْمِذِيّ ثنا الْحُسَيْن بْن حُرَيْثٍ ثنا الْفَضْلُ بْن مُوسَى عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيح. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَفِيهِ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أنا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُسَيْن نا ابْن الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر نا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ ثني أَبِي ثنا حَسَنٌ ثنا ابْنُ لهيعة خَالِدُ بْن زَيْدٍ عَنْ سَعِيد بْن أَبِي هِلالٍ عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بَنِي إِسْرِائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ فِرْقَةً وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً يَهْلَكُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَتَخْلَصُ فِرْقَةٌ" قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تِلْكَ الْفِرْقَةِ قَالَ: "الْجَمَاعَةُ" قال الشيخ أَبُو الفرج رحمه اللَّه فَإِن قيل وهل هذه الفرق معروفة فالجواب إنا نعرف الافتراق وأصول الفرق1 وإن كل طائفة من الفرق قد انقسمت إِلَى فرق وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها وَقَدْ ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية2 والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية وَقَدْ قَالَ بعض أهل العلم أصل الفرق الضالة هذه الفرق الستة وَقَد انقسمت كل فرقة منها عَلَى اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة. وانقسمت الحرورية اثنتي عشرة فرقة فأولهم الأزرقية3 قالوا لا نعلم أحدا مؤمنا
وكفروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم والأباضية1 قالوا من أخذ بقولنا فهو مؤمن ومن أعرض عنه فهو منافق والثعلبية2 قالوا إن اللَّه لم يقض ولم يقدر والحازمية3 قالوا مَا ندري مَا الإيمان والخلق كلهم معذورن والخلفية4 زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أَوْ أنثى فقد كفر والمكرمية5 قالوا ليس لأحد أن يمس أحدا لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل والكنزية قالوا لا ينبغي لأحد أن يعطي ماله أحدا لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه فِي الأَرْض حتى يظهر أهل الحق والشمراخية قالوا لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين والأخنسية6 قالوا لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر والمحكمية قالوا إن من حاكم إِلَى مخلوق فهو كافر والمعتزلة من الحرورية قالوا اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين والميمونية7 قالوا لا إمام إلا برضا أهل محبتنا. وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة الأحمرية وهي التي زعمت أن شرط العدل من اللَّه أن يملك عباده أمورهم ويحول بينهم وبين معاصيهم والثنوية وهي التي زعمت أن الخير من اللَّه والشر من إبليس والمعتزلة هم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا الرؤية والكيسانية8 هم الذين قالوا لا ندري هذه الأفعال من اللَّه أم من العباد ولا نعلم أيثاب الناس بعد الموت أَوْ يعاقبون والشيطانية9 قالوا إن اللَّه لم يخلق شيطانا والشريكية قالوا إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر والوهمية قالوا ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات ولا للحسنة والسيئة ذات والراوندية قالوا كل كتاب أنزل من اللَّه فالعمل به حق ناسخا كان أَوْ منسوخا والبترية10
زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية زعموا أن من نكث بيعة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا إثم عَلَيْهِ والقاسطية فضلوا طلب الدنيا عَلَى الزهد فيها والنظامية تبعوا إِبْرَاهِيم النظام فِي قوله من زعم أن اللَّه شيء فهو كافر. وانقسمت الجهمية 1 اثنتي عشرة فرقة المعطلة زعموا أن كل مَا يقع عَلَيْهِ وهم الإنسان فهو مخلوق ومن ادعى أن اللَّه يرى فهو كافر والمريسية2 قالوا أكثر صفات اللَّه مخلوقة والملتزمة جعلوا الباري سبحانه وتعالى فِي كل مكان والواردية قالوا لا يدخل النار من عرف ربه ومن دخلها لم يخرج منها أبدا الزنادقة قالوا ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربا لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس وما يدرك فليس بإله وما لا يدرك لا يثبت والحرقية زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار والمخلوقية زعموا أن القرآن مخلوق والفانية زعموا أن الْجَنَّة والنار تفنيان ومنهم من قالإنهما لم تخلقا والمغيرية3 جحدوا الرسل فقالوا إنما هم حكام والواقفية قالوا لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق والقبرية ينكرون عذاب القبر والشفاعة واللفظية قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق. وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة التاركية قالوا ليس لله عز وجل عَلَى خلقه فريضة سوى الإيمان به فمن آمن به وعرفه فليفعل مَا شاء والسائبية قالوا إن اللَّه تعالى سيب خلقه ليعملوا مَا شاءوا والراجية قالوا لا نسمي الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا لأنا لا ندري مَا لَهُ عند اللَّه والشاكية قالوا إن الطاعات ليست من الإيمان والبيهسية4 قالوا الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر والمنقوصية قالوا الإيمان لا يَزِيد ولا ينقص والمستثنية نفوا الاستثناء فِي الإيمان والمشبهة يقولون لله بصر كبصري ويد كيدي والحشوية جعلوا حكم الأحاديث كلها واحدا فعندهم إن تارك النفل كتارك الفرض والظاهرية5 وهم الذين نفوا القياس والبدعية أول من ابتدع الأحداث فِي هذه الأمة.
وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة العلوية قالوا إن الرسالة كانت إِلَى علي وإن جبريل أخطأ والأمرية قالوا إن عليا شريك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أمره والشيعة قالوا إن عليا رَضِيَ اللَّهُ عنه وصي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووليه من بعده وإن الأمة كفرت بمبايعة غيره والإسحاقية قالوا إن النبوة متصلة إِلَى يوم القيامة وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي والناووسية قالوا إن عليا أفضل الأمة فمن فضل غيره عَلَيْهِ فقد كفر والإمامية قالوا لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الْحُسَيْن وإن الإمام يعلمه جبرائيل فَإِذَا مات بدل مكانه مثله واليزيدية قالوا إن ولد الْحُسَيْن كلهم أئمة فِي الصلوات فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيره برهم وفاجرهم والعباسية زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره والمتناسخة قالوا إن الأرواح تتناسخ فمتى كان محسنا خرجت روحه فدخلت فِي خلق تسعد بعيشه ومن كان مسيئا دخلت روحه فِي خلق تشقي بعيشه والرجعية زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إِلَى الدنيا وينتقمون من أعدائهم واللاعنية الذين يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا مُوسَى وعائشة وغيرهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم والمتربصة تشبهوا بزي النساك ونصبوا فِي كل عصر رجلا ينسبون الأمر إليه يزعمون أنه مهدى هذه الأمة فَإِذَا مات نصبوا رجلا آخر. وانقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة فمنهم المضطربة قالوا لا فعل للآدمي بل اللَّه عز وجل يفعل الكل والأفعالية قالوا لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل والمفروغية قالوا كل الأشياء قد خلقت والآن لا يخلق شيء والنجارية1 زعمت أن اللَّه يعذب الناس عَلَى فعله لا عَلَى فعلهم والمتانية قالوا عليك بما خطر بقلبك فافعل مَا توسمت به الخير والكسبية قالوا لا يكسب العبد ثوابا ولا عقابا والسابقية قالوا من شاء فليعمل ومن شاء لا يعمل فَإِن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره والحبية قالوا من شرب كأس محبة اللَّه عز وجل سقطت عنه الأركان والقيام بِهَا والخوفية قالوا إن من أحب اللَّه سبحانه وتعالى لم يسعه أن يخافه لأن الحبيب لا يخاف حبيبه والفكرية قالوا إن من ازداد علما سقط عنه بقدر ذلك من العبادة والخسية قالوا الدنيا بين العباد سواء لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم والمعية قالوا منا الفعل ولنا الاستطاعة.
الباب الثالث: في التحذير من فتن إبليس ومكايده
الباب الثالث: فِي التحذير من فتن إبليس ومكايده. قال الشيخ أبو الفرج اعلم أن الآدمي لما خلق ركب فيه الهوى والشهوة ليجتلب بذلك مَا ينفعه ووضع فيه الغضب ليدفع به مَا يؤذيه وأعطى العقل كالمؤدب يأمره بالعدل فيما يجتلب ويجتنب وخلق الشَّيْطَان محرضا لَهُ عَلَى الإسراف فِي اجتلابه واجتنابه فالواجب عَلَى العاقل أن يأخذ حذره من هَذَا العدو الذي قد أبان عدواته من زمن آدم عَلَيْهِ الصلاة والسلام وَقَدْ بذل عمره ونفسه فِي فساد أحوال بني آدم وَقَدْ أمر اللَّه تعالى بالحذر منه فقال سبحانه وتعالى: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وقال تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وقال تعالى: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقال تعالى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وفي القرآن من هَذَا كثير. التحذير من فتن إبليس ومكايده فصل: قَالَ الشيخ أَبُو الفرج رحمه اللَّه وينبغي أن تعلم أن إبليس شغله التلبيس أول مَا التبس عَلَيْهِ الأمر فأعرض عَنْ النص الصريح عَلَى السجود فأخذ يفاضل بين الأصول فَقَالَ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ثم أردف ذلك بالاعتراض عَلَى الملك الحكيم فَقَالَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} والمعنى أخبرني لما كرمته علي غرر ذلك الاعتراض أن الذي فعلته ليس بحكمة ثم أتبع ذلك بالكبر فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ثم امتنع عَنْ السجود فأهان نفسه التي أراد تعظيمها باللعنة والعقاب.
فمتى سول للإنسان أمرا فينبغي أن يحذر مِنْهُ أشد الحذر وليقل لَهُ حين أمره إياه بالسوء إنما تريد بما تأمر به نصحي ببلوغي شهوتي وَكَيْفَ يتضح صواب النصح للغير لمن لا ينصح نفسه كيف أثق بنصيحة عدو فانصرف فما فِي لقولك منفذ فلا يبقى إلا أنه يستعين بالنفس لأنه يحث عَلَى هواها فليستحضر العقل إِلَى بيت الفكر فِي عواقب الذنب لعل مدد توفيق يبعث جند عزيمته فيهزم عسكر الهوى والنفس. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك نا عَاصِم بْن الْحَسَنِ نا أَبُو عُمَر بْن مَهْدِيٍّ ثنا الْحُسَيْن بْن إِسْمَاعِيلَ ثنا زَكَرِيَّا بن يحيى ثنا شامة بْن سَوَّارٍ ثني الْمُغِيرَةُ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أيها النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا إِنَّ كُلَّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدِي فَهُوَ لَهُ حَلالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَأَمَرْتُهُمْ أَنْ لا يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ". أَخْبَرَنَا ابْن الْحُصَيْنِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْن الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ ابْن أحمد ثنى أبي ثنا يَحْيَى بْن سَعِيد ثنا هِشَامٌ ثنا قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنَّ رَبِي ... " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. أَخْبَرَنَا ابْن الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا أَبُو مُعَاوِيَة ثنا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ أَوْ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ وَيَقُولُ نَعَمْ أَنْتَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثنا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ قَالَ إِنَّ إِبْلِيسَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ1 بَيْنَهُمْ قَالَ الْمُصَنِّفُ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالَّذِي قَبْلَهُ مُسْلِمٌ وَفِي لَفْظِ حَدِيثِهِ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ السَّمَرْقَنْدِيُّ نا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ نا ابْنُ بِشْرَانَ نا ابْنُ صَفْوَانَ نا أبو بكر
الْقُرَشِيُّ ثني الْحُسَيْنُ بْنُ السَّكَنِ ثنا الْمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ ثنى عَدِيُّ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ ثنا زِيَادُ النُّمَيْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ1 عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِنْ نَسِيَ اللَّهَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي مَنْصُورٍ نا عَبْدُ الْقَادِرِ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ ملك ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثنا أُبَيُّ ثنا عَبْد الرَّحْمَنِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ طَافَ بِأَهْلِ مَجْلِسِ الذِّكْرِ لِيَفْتِنَهُمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ فَأَتَى حَلْقَةً يَذْكُرُونَ الدُّنْيَا فَأَغْرَى بَيْنَهُمْ حَتَّى اقْتَتَلُوا فَقَامَ أَهْلُ الذِّكْرِ فَحَجَزُوا بَيْنَهُمْ فَتَفَرَّقُوا قال عَبْد اللَّهِ وحدثني عَلِيّ بْن مسلم ثنا سيار ثنا حبان الحريري ثنا سويد القناوي عَنْ قتادة رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ إن لإبليس شيطانا لَهُ قبقب يجمه2 أربعين سنة فَإِذَا دخل الغلام فِي هَذَا الطريق قَالَ لَهُ دونك إنما كنت أجمك لمثل هَذَا أجلب عَلَيْهِ وأفتنه. قَالَ سيار وَحَدَّثَنَا جَعْفَر ثنا ثابت البناني رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بْن زكريا عليهما السلام فرأى عَلَيْهِ معاليق من كل شيء فَقَالَ يَحْيَى يا إبليس مَا هذه المعاليق التي أرى عليك قَالَ هذه الشهوات التي أصيد بِهَا ابْن آدم قَالَ فهل لي فيها من شيء قَالَ ربما شبعت فثقلناك عَن الصلاة وثقلناك عَن الذكر قَالَ فهل غير ذلك قَالَ لا وَاللَّه قَالَ لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا قَالَ إبليس ولله علي أن لا أنصح مسلما أبدا قال عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثنا أُبَيُّ ثنا وكيع ثنا الأعمش عَنْ حثيمة عَنْ الحارث بْن قيس رضي اللَّه عنه قَالَ إذا أتاك الشَّيْطَان وأنت تصلي فَقَالَ إنك ترائي فزدها طولا. أَنْبَأَ إِسْمَاعِيلُ السَّمَرْقَنْدِيُّ نا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ نا أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَفْوَانَ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْدٍ نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعَ عمرو بن دينار عُرْوَةَ بْنَ عَامِرٍ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ رِفَاعَةَ يُبَلِّغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول كَانَ رَاهِبٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ جَارِيَةً فَخَنَقَهَا وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا أَنَّ دَوَاءَهَا عِنْدَ الرَّاهِبِ فَأَتَى بِهَا الرَّاهِبَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قَبِلَهَا فَكَانَتْ عِنْدَهُ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَسَوَّلَ لَهُ إِيقَاعَ الْفِعْلِ بِهَا فَأَحْبَلَهَا ثُمَّ أَتَاهُ فقال له
الآنَ تَفْتَضِحُ يَأْتِيكَ أَهْلُهَا فَاقْتُلْهَا فَإِنْ أَتَوْكَ فَقُلْ مَاتَتْ فَقَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فَأَتَى الشَّيْطَانُ أَهْلَهَا فَوَسْوَسَ لَهُمْ وَأَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ أَحْبَلَهَا ثُمَّ قَتَلَهَا وَدَفَنَهَا فَأَتَاهُ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا فَقَالَ مَاتَتْ فَأَخَذُوهُ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ أَنَا الَّذِي ضَرَبْتُهَا وَخَنَقْتُهَا وَأَنَا الَّذِي أَلْقَيْتُ فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا وَأَنَا الَّذِي أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا فَأَطِعْنِي تَنْجُ اسْجُدْ لِي سَجْدَتَيْنِ فَسَجَدَ لَهُ سَجْدَتَيْنِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} وقد روى هَذَا الحديث عَلَى صفة أخرى عَنْ وهب بْن منبه رَضِيَ اللَّهُ عنه أَنَّ عَابِدًا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مِنْ أَعْبَدِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ فِي زَمَانِهِ ثَلاثَةُ أُخْوَةٍ لَهُمْ أُخْتٌ وَكَانَتْ بِكْرًا لَيْسَ لَهُمْ أُخْتٌ غَيْرُهَا فَخَرَجَ الْبَعْثُ عَلَى ثُلاثَتِهِمْ فَلَمْ يَدْرُوا عِنْدَ مَنْ يَخْلُفُونَ أُخْتَهُمْ وَلا مَنْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا وَلا عِنْدَ مَنْ يَضَعُونَهَا قَالَ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَ عَابِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ ثِقَةً فِي أَنْفُسِهِمْ فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَخْلُفُوهَا عِنْدَهُ فَتَكُونُ فِي كَنَفِهِ وَجِوَارِهِ إِلَى أن يرجعوا1 مِنْ غَزَاتِهِمْ فَأَبَى ذَلِكَ وَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ وَمِنْ أُخْتِهِمْ قَالَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَطَاعَهُمْ فَقَالَ أَنْزِلُوهَا فِي بَيْتٍ حِذَاءَ صَوْمَعَتِي قَالَ فَأَنْزَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ ثُمَّ انْطَلَقُوا وَتَرَكُوهَا فَمَكَثَتْ فِي جِوَارِ ذَلِكَ الْعَابِدِ زَمَانًا يَنْزِلُ إِلَيْهَا بِالطَّعَامِ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَيَضَعُهُ عِنْدَ بَابِ الصَّوْمَعَةِ ثُمَّ يَغْلِفُ بَابَهُ وَيَصْعَدُ إِلَى صَوْمَعَتِهِ ثُمَّ يَأْمُرُهَا فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَتَأْخُذُ مَا وَضَعَ لَهَا مِنَ الطَّعَامِ قَالَ فَتَلَطَّفَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَغِّبُهُ فِي الْخَيْرِ وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ خُرُوجَ الْجَارِيَةِ مِنْ بَيْتِهَا نَهَارًا وَيُخَوِّفُهُ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ فَيُعَلِّقُهَا فَلَوْ مَشَيْتَ بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعَهُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكَ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا وَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا وَلَمْ يُكَلِّمْهَا قَالَ فَلَبِثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالأَجْرِ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَوْ كُنْتَ تَمْشِي إِلَيْهَا بِطَعَامِهَا حَتَّى تَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكَ قَالَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَشَى إِلَيْهَا بِالطَّعَامِ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهَا فَلَبِثَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهْ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَوْ كُنْتَ تُكَلِّمُهَا وَتُحَدِّثُهَا فَتَأْنَسُ بِحَدِيثِكَ فَإِنَّهَا قَدِ اسْتَوْحَشَتْ وَحْشَةً شَدِيدَةً قَالَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى حَدَّثَهَا زَمَانًا يَطْلُعُ إِلَيْهَا مِنْ فَوْقِ صَوْمَعَتِهِ قَالَ ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَوْ كُنْتَ تَنْزِلُ إِلَيْهَا فَتَقْعُدُ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِكَ وَتُحَدِّثُهَا وَتَقْعُدُ هِيَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَتُحَدِّثُكَ كَانَ آنَسَ لَهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى بَابِ صَوْمَعَتِهِ يُحَدِّثُهَا وَتُحَدِّثُهُ وَتَخْرُجُ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْتِهَا حَتَّى تَقْعُدَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا قَالَ فَلَبِثَا زَمَانًا يَتَحَدَّثَانِ ثُمَّ
جَاءَهْ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا وَقَالَ لَوْ خَرَجْتَ مِنْ بَابِ صَوْمَعَتِكَ ثُمَّ جَلَسْتَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ بَيْتِهَا فَحَدَّثْتَهَا كَانَ آنَسَ لَهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَعَلَ قَالَ فَلَبِثَا زَمَانًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَرَغَّبَهُ فِي الْخَيْرِ وَفِيمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ فِيمَا يَصْنَعُ بِهَا وَقَالَ لَهُ لَوْ دَنَوْتَ مِنْهَا وَجَلَسْتَ عِنْدَ بَابِ بَيْتِهَا فَحَدَّثْتَهَا وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا فَفَعَلَ فَكَانَ يَنْزِلُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَيَقِفُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا فَيُحَدِّثُهَا فَلَبِثَا عَلَى ذَلِكَ حِينًا ثُمَّ جَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَوْ دَخَلْتَ الْبَيْتَ مَعَهَا فَحَدَّثْتَهَا وَلَمْ تَتْرُكْهَا تُبْرِزُ وَجْهَهَا لأَحَدٍ كَانَ أَحْسَنَ بِكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهَا نَهَارَهَا كُلَّهُ فَإِذَا مَضَى النَّهَارُ صَعَدَ إِلَى صَوْمَعَتِهِ قَالَ ثُمَّ أَتَاهُ إِبْلِيسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يُزَيِّنُهَا لَهُ حَتَّى ضَرَبَ الْعَابِدُ عَلَى فَخْذِهَا وَقَبَّلَهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ إِبْلِيسُ يُحَسِّنُهَا فِي عَيْنَيْهِ وَيُسَوِّلُ لَهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَحْبَلَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ غُلامًا فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ أُخْوَةُ الْجَارِيَةِ وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْكَ كَيْفَ تَصْنَعُ لا آمَنُ أَنْ تَفْتَضِحَ أَوْ يَفْضَحُوكَ فَاعْمَدْ إِلَى ابْنِهَا فَاذْبَحْهُ وَادْفِنْهُ فَإِنَّهَا سَتَكْتُمُ ذَلِكَ عَلَيْكَ مَخَافَةَ إِخْوَتِهَا أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا صَنَعْتَ بِهَا فَفَعَلَ فَقَالَ لَهُ أَتُرَاهَا تَكْتُمُ إِخْوَتَهَا مَا صَنَعْتَ بِهَا وَقَتَلْتَ ابْنَهَا قَالَ خُذْهَا وَاذْبَحْهَا وَادْفِنْهَا مَعَ ابْنِهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى ذَبَحَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْحُفْرَةِ مَعَ ابْنِهَا وَأَطْبَقَ عَلَيْهِمَا صَخْرَةً عَظِيمَةً وَسَوَّى عَلَيْهِمَا وَصَعَدَ إِلَى صَوْمَعَتِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهَا فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ حَتَّى أَقْبَلَ إِخْوَتُهَا مِنَ الْغَزْوِ فَجَاءُوا فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَنَعَا لَهُمْ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهَا وَبَكَاهَا وَقَالَ كَانَتْ خَيْرَ امْرَأَةٍ وَهَذَا قَبْرُهَا فَانْظُرُوا إِلَيْهِ فَأَتَى إِخْوَتُهَا الْقَبْرَ فَبَكَوْا أُخْتَهُمْ وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهَا فَأَقَامُوا عَلَى قَبْرِهَا أَيَّامًا ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى أَهَالِيهِمْ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ جَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي النَّوْمِ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ مُسَافِرٍ فَبَدَأَ أَكْبَرَهُمْ فَسَأَلُهْ عَنْ أُخْتِهِمْ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْعَابِدِ وَمَوْتِهَا وَتَرَحُّمِهِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ أَرَاهُمْ مَوْضِعَ قَبْرِهَا فَكَذَّبَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَمْ يَصْدُقْكُمْ أَمْرَ أُخْتِكُمْ إِنَّهُ قَدْ أَحْبَلَ أُخْتَكُمْ وَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلامًا فَذَبَحَهُ وَذَبَحَهَا مَعَهُ فَزَعًا مِنْكُمْ وَأَلْقَاهَا فِي حُفَيْرَةٍ احْتَفَرَهَا خَلْفَ بَابِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ فَانْطَلِقُوا فَادْخُلُوا الْبَيْتِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ عَنْ يَمِينِ مَنْ دَخَلَهُ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُمَا كَمَا أَخْبَرْتُكُمْ هَنَاكَ جَمِيعًا وَأَتَى الأَوْسَطَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى أَصْغَرَهُمْ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ أَصْبَحُوا مُتَعَجِّبِينَ مِمَّا رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ عَجَبًا فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا رَأَى فَقَالَ كَبِيرُهُمْ هَذَا حُلُمٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَامْضُوا بِنَا وَدَعُوا هَذَا عَنْكُمْ قَالَ أَصْغَرُهُمْ وَاللَّهِ لا أَمْضِي حَتَّى آتِيَ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ فَأَنْظُرَ فِيهِ قَالَ فَانْطَلَقُوا جَمِيعًا حَتَّى أَتَوُا الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ أُخْتُهُمْ فَفَتَحُوا الْبَابَ وَبَحَثُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي وُصِفَ لَهُمْ فِي
مَنَامِهِمْ فَوَجَدُوا أُخْتَهُمْ وَابْنَهَا مَذْبُوحَيْنِ فِي الْحُفَيْرَةِ كَمَا قِيلَ لَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهَا الْعَابِدَ فَصَدَّقَ قَوْلَ إِبْلِيسَ فِيمَا صَنَعَ بِهِمَا فَاسْتَعْدُوا عَلَيْهِ مَلِكَهُمْ فَأُنْزِلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَقُدِّمَ لِيُصْلَبَ فَلَمَّا أَوْثَقُوهُ عَلَى الْخَشَبَةِ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي فَتَنْتُكَ بِالْمَرْأَةِ حَتَّى أَحْبَلْتَهَا وَذَبَحْتَهَا وَابْنَهَا فَإِنْ أَنْتَ أَطَعْتَنِي الْيَوْمَ وَكَفَرْتَ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَصَوَّرَكَ خَلَّصْتُكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ قَالَ فَكَفَرَ الْعَابِدُ فَلَمَّا كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى خَلَّى الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَصَلَبُوهُ قَالَ فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} إلى قوله جزاء الظالمين وَقَدْ تقدم ذكرها. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم نا أَبُو بَكْر الآجري ثنا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد العطيني ثنا إِبْرَاهِيم بْن الجنيد ثنى مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن ثنا بِشْر بْن مُحَمَّد بْن أبان ثنى الْحَسَن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلم القرشي عَنْ وهب بْن منبه رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ كان راهب فِي صومعته فِي زمن المسيح عَلَيْهِ السلام فأراده إبليس فلم يقدر عَلَيْهِ فأتاه بكل رائدة فلم يقدر عَلَيْهِ فأتاه متشبها بالمسيح فناداه أيها الراهب اشرف علي أكلمك قَالَ انطلق لشأنك فلست أرد مَا مضى من عمري فَقَالَ أشرف علي فأنا المسيح فَقَالَ إن كنت المسيح فما لي إليك حاجة ألست قد أمرتنا بالعبادة ووعدتنا القيامة انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك فانطلق اللعين عنه وتركه. أنبأ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ نا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ نا أَبُو عَلِيٍّ الْبَرْدَعِيُّ ثنا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيُّ ثنا أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ثنا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا رَكِبَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي السَّفِينَةِ رَأَى فِيهَا شَيْخًا لَمْ يَعْرِفْهُ فَقَالَ لَهُ نُوحٌ مَا أَدْخَلَكَ قَالَ دَخَلْتُ لأُصِيبَ قُلُوبَ أَصْحَابِكَ فَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَعِي وَأَبْدَانُهُمْ مَعَكَ فَقَالَ لَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ اخْرُجْ يَا عَدُوَّ اللَّه فَقَالَ إِبْلِيسُ خَمْسٌ أُهْلِكُ بِهِنُّ النَّاسَ وَسَأُحَدِّثُكَ مِنْهُنُّ بِثَلاثٍ وَلا أُحَدِّثُكَ بِاثْنَتَيْنِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهُ لا حَاجَةَ لَكَ إِلَى الثلاث مرهيحدثك بِالاثْنَتَيْنِ فَقَالَ بِهِمَا أُهْلِكُ النَّاسَ وَهُمَا لا يَكْذِبَانِ الْحَسَدُ1 وَالْحِرْصُ2 فَبِالْحَسَدِ لُعِنْتُ وَجُعِلْتُ شَيْطَانًا رَجِيمًا وبالحرص أبيح لآدم الجنة
كُلَّهَا فَأَصَبْتُ حَاجَتِي مِنْهُ فَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ وَلَقَى إِبْلِيسُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَّمَكَ تَكْلِيمًا وَأَنَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَذْنَبْتُ وَأُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ فَاشْفَعْ لِي إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتُوبَ عَلَيَّ فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَقِيلَ يَا مُوسَى قَدْ قُضِيَتْ حَاجَتُكَ فَلَقِيَ مُوسَى إِبْلِيسَ فَقَالَ لَهُ قَدْ أُمِرْتَ أَنْ تَسْجُدَ لِقَبْرِ آدَمَ وَيُتَابُ عَلَيْكَ فَاسْتَكْبَرَ وَغَضِبَ وَقَالَ لَمْ أَسْجُدْ لَهُ حَيًّا أَأَسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا ثُمَّ قَالَ إِبْلِيسُ يَا مُوسَى إِنَّ لَكَ حَقًّا بِمَا شَفَعْتَ إِلَى رَبِّكَ فَاذْكُرْنِي عِنْدَ ثَلاثٍ لا أَهْلَكُ فِيهِنَّ اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ فَأَنَا وَحْيٌ فِي قَلْبِكَ وَعَيْنِي فِي عَيْنِكَ وَأَجْرِي مِنْكَ مَجْرَى الدَّمِ وَاذْكُرْنِي حِينَ تَلْقَى الزَّحْفَ فَإِنِّي آتِي ابْنَ آدَمَ حِينَ يَلْقَى الزَّحْفَ فَأُذَكِّرُهُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَهْلَهُ حَتَّى يُوَلِّي وَإِيَّاكَ أَنْ تُجَالِسَ امْرَأَةً لَيْسَتْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ فَإِنِّي رَسُولُهَا إِلَيْكَ وَرَسُولُكَ إِلَيْهَا قَالَ الْقُرَشِيُّ وَحَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الصَّفَّارُ ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلا لَمْ يَأْمَنْ مِنْ إِبْلِيسَ أَنْ يُهْلِكَهُ بِالنِّسَاءِ قَالَ الْقُرَشِيُّ وثنى الْقَاسِمُ بْنُ هاشم عن إبراهيم بن الأشعت عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَشْيَاخُنَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ جَاءَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَهُوَ يُنَاجِي رَبَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ وَيْلَكَ مَا تَرْجُو مِنْهُ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ يُنَاجِي رَبَّهُ قَالَ أَرْجُو مِنْهُ مَا رَجَوْتُ مِنْ أَبِيهِ آدَمَ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْقُرَشِيُّ وثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ ثنا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال بينهما مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ جَالِسٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِهِ إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ1 لَهُ يَتَلَوَّنُ فِيهِ أَلْوَانًا فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ خَلَعَ الْبُرْنُسَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ أَتَاهُ وَقَالَ لَهُ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا إِبْلِيسُ قَالَ فَلا حَيَّاكَ اللَّهُ مَا جَاءَ بِكَ قَالَ جِئْتُ لأُسَلِّمَ عَلَيْكَ لِمَنْزِلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَكَانِكَ مِنْهُ قَالَ فَمَا الَّذِي رَأَيْتُهُ عَلَيْكَ قَالَ بِهِ أَخَتَطِفُ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ قَالَ فَمَا الَّذِي إِذَا صَنَعَهُ الإِنْسَانُ اسْتَحْوَذْتَ عَلَيْهِ قَالَ إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسَهُ وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ وَأُحَذِّرُكَ ثَلاثًا. لا تَخْلَوْنَ بِامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَكَ قَطُّ فَإِنَّهُ مَا خَلا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ إِلا كُنْتُ صَاحِبَهُ دُونَ أَصْحَابِي حَتَّى أُفْتِنَهُ بِهَا. وَلا تَعَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا إِلا وُفِيتُ بِهِ فَإِنَّهُ مَا عَاهَدَ اللَّهَ أَحَدٌ إِلا كُنْتُ صَاحِبَهُ دُونَ أَصْحَابِي حَتَّى أَحُولَ بَيْنَهُ وبين الوفاء به
وَلا تُخْرِجْنَ صَدَقَةً إِلا أَمْضَيْتَهَا فَإِنَّه مَا أَخْرَجَ رَجُلٌ صَدَقَةً فَلَمْ يُمْضِهَا إِلا كُنْتُ صَاحِبَهُ دُونَ أَصْحَابِي حَتَّى أَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْرَاجِهَا ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ يَا وَيْلُهُ ثَلاثًا عَلِمَ مُوسَى مَا يُحَذَّرُ بِهِ بَنِي آدَمَ. قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثنا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ لِلْمَرْأَةِ أَنْتٍ نِصْفُ جُنْدِي وَأَنْتِ سَهْمِي الَّذِي أَرْمِي بِهِ فَلا أخطيء وَأَنْتِ مَوْضِعُ سِرِّي وَأَنْتِ رَسُولِي فِي حَاجَتِي. قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَحَدَّثَنَا إسحق بن إبراهيم ثني هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عقيل بن معقل بن أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ سَمِعْتُ وَهْبًا يَقُولُ قَالَ رَاهِبٌ لِلشَّيْطَانِ وَقَدْ بَدَا لَهُ أَيُّ أَخْلاقِ بَنِي آدَمَ أَعْوَنُ لَكَ عَلَيْهِمْ قَالَ الْحِدَّةُ1 إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ حَدِيدًا قَلَّبْنَاهُ كَمَا يُقَلِّبُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ. قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ يُرْسِلُ شَيَاطِينَهُ إِلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجيئون إِلَيْهِ بِصُحَفِهِمْ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَيَقُولُ لَهُمْ مَالَكُمْ لا تُصِيبُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَقَالُوا مَا صَحِبْنَا قَوْمًا مِثْلَ هَؤُلاءِ فَقَالَ رُوَيْدًا بِهِمْ فَعَسَى أَنْ تُفْتَحَ لَهُمُ الدُّنْيَا هُنَالِكَ تُصِيبُونَ حَاجَتَكُمْ مِنْهُمْ. قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَمِيلٍ الْمَرْوَزِيُّ نا ابْنُ الْمُبَارَك نا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ فِي الأَرْضِ فَيَقُولُ مَنْ أَضَلَّ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ فَيَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَالَ يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيَقُولُ آخَرُ لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى عَقَّ قَالَ يُوشِكُ أَنْ يَبَرَّ وَيَقُولُ آخَرُ لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى زَنَى قَالَ أَنْتَ وَيَقُولُ آخَرُ لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ قَالَ أَنْتَ قَالَ وَيَقُولُ آخَرُ لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ أنت أَنْتَ. قَالَ القرشي: وسمعت سَعِيد بْن سُلَيْمَان يحدث عَنْ الْمُبَارَك بْن فضالة عَنْ الْحَسَن قَالَ كانت شجرة تعبد من دون اللَّه فجاء إليها رجل فَقَالَ لأقطعن هذه الشجرة فجاء ليقطعها غضبا لله فلقيه إبليس فِي صورة إنسان فَقَالَ مَا تريد قَالَ أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من
دون اللَّه قَالَ إذا أنت لم تعبدها فما يضرك من عبدها قَالَ لأقطعنها فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَان هل لك فيما هو خير لك لا تقطعها ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند وسادتك قَالَ فمن أين لي ذلك قَالَ أنا لك فرجع فأصبح فوجد دينارين عند وسادته ثم أصبح بعد ذلك فلم يجد شيئا فقام غضبا ليقطعها فتمثل لَهُ الشَّيْطَان فِي صورته وقال ما تريد قالأريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون اللَّه تعالى قَالَ كذبت مالك إِلَى ذلك من سبيل فذهب ليقطعها فضرب به الأَرْض وخنقه حتى كاد يقتله قال أتدري من أنا أنا الشَّيْطَان جئت أول مرة غضبا فلم يكن لي عليك سبيل فخدعتك بالدينارين فتركتها فلما جئت غضبا للدينارين سلطت عليك. قَالَ القرشي: وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن الوليد الكندي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ طلحة عَنْ زيد ابْن مجاهد قَالَ لإبليس خمسة من ولده قد جعل كل واحد منهم على شيء من من أمره ثم سماهم فذكر ثبر والأعور ومسوط وداسم وزكنبور فأما ثبر فهو صاحب المصيبات الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية وأما الأعور فهو صاحب الزنا الذي يأمر به ويزينه وأما مسوط فهو صاحب الكذب الذي يسمع فيلقى الرَّجُل فيخبره بالخبر فيذهب الرَّجُل إِلَى القوم فيقول لهم قد رأيت رجلا أعرف وجهه ولا أدري مَا أسمه حدثني بكذا وكذا وأما داسم فهو الذي يدخل مَعَ الرَّجُل إِلَى أهله يريه العيب فيهم ويغضبه عليهم وأما زكنبور فهو صاحب السوق الذي يركز رايته فِي السوق. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم ثنا إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّهِ ثنا مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ ثنا إِسْمَاعِيل بْن أبي الحارث ثنا سنيد عَنْ مخلد بْن الْحُسَيْن قَالَ مَا ندب اللَّه العباد إِلَى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرين مَا يبالي بأيهما ظفر إما غلو فيه وإما تقصير عنه وَبِالإِسْنَادِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ سَمِعْتُ حَيَاةَ بْنَ شَرَاحِيلَ يَقُول سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّ إِبْلِيسَ مُوَثَّقًا فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَإِذَا هُوَ تَحَرَّكَ كَانَ كُلُّ شَرْقِيّ الأَرْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَحَرُّكِهِ. قال الشيخ أَبُو الفرج رحمه اللَّه: قلت وفتن الشَّيْطَان ومكايده كثيرة فِي غضون هَذَا الْكِتَاب منها مَا يليق بكل موضع مِنْهُ إن شاء اللَّه تعالى ولكثرة فتن الشَّيْطَان وتشبثها بالقلوب عزت السلامة فَإِن من يدع إِلَى مَا يحث عَلَيْهِ الطبع كمداد سفينة منحدرة فيا سرعة انحدارها
ولما ركب الهوى فِي هاروت وماروت لم يستمسكا فَإِذَا رأت الملائكة مؤمنا قد مات عَلَى الإيمان تعجبت من سلامته. وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي مَنْصُورٍ نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا الْحَسَن بْن عَلِيٍّ التميمي ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمْدَان ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثنى ابْن سريج قَالَ ثنا عتبة بْن عَبْدِ الْوَاحِد عَنْ مالك بْن مغول عَنْ عَبْدِ الْعَزِيز بْن رفيع قَالَ إذا عرج بروح المؤمن إِلَى السماء قالت الملائكة سبحان الذي نجى هَذَا العبد من الشَّيْطَان يا ويحه كيف نجا. ذكر الإعلام بأن مَعَ كل إنسان شيطانا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُصَيْنِ الشَّيْبَانِيُّ نا أَبُو عَلِيٍّ الْمُذْهِبِ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمْدَان ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثني أَبِي ثنا هرون ثنا عَبْد اللَّهِ بْن وهب أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنِ ابْن قُسَيْطٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدَهَا لَيْلا قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: "مَالَكِ يَا عَائِشَةُ أَغَرْتِ" 1 فَقُلْتُ وَمَالِي لا يُغَارُ مِثْلِي على مثلك فقال: "أو قد جَاءَكِ شَيْطَانُكِ" قَالَتْ يَا رَسُولَ الله أو معي شَيْطَانٌ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "نَعَمْ وَلَكِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ" انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَيَجِيُء بَلِفَظْ ٍآخَرَ "أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ" قَالَ الْخَطَّابِيُّ عَامَّةُ الرُّوَاةِ يَقُولُونَ فَأَسْلَمَ عَلَى مَذْهَبِ الْفَعْلِ الْمَاضِي إِلا سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فَأَسْلَمُ مِنْ شَرِّهِ وَكَانَ يَقُولُ الشَّيْطَانُ لا يُسْلِمُ قال الشيخ وقول ابْن عيينة حسن وَهُوَ يظهر أثر المجاهدة لمخالفة الشَّيْطَان إلا أن حديث ابْن مسعود كأنه يرد قول ابْن عيينة وَهُوَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثنا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ ثني مَنْصُورٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ" قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِحَقٍّ" وَفِي رِوَايَةٍ "فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ" قال الشيخ انفرد به مسلم واسم أبي الجعد رافع وظاهره إسلام الشياطين ويحتمل القول الآخر
بيان أن الشَّيْطَان يجري من ابْن آدم مجرى الدم أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَن بْن عَلِيّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر نا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيُّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ زَوْجِ النَّبِيِّ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيُقَلِّبَنِي1 وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكُمَا أَنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ2 يَجْرِي من ابْن آدم مجرى الدم وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا" أَوْ قَالَ: "شَيْئًا" الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْعِلْمِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يَحْذَرَ الإِنْسَانُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْمَكْرُوهِ مِمَّا تَجْرِي بِهِ الظُّنُونُ وَيَخْطُرُ بِالْقُلُوبِ وَأَنْ يَطْلُبَ السَّلامَةَ مِنَ النَّاسِ بِإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الرِّيَبِ وَيُحْكَى فِي هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ خَافَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقَعَ فِي قُلُوبِهِمَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرٍ فَيَكْفُرَا وَإِنَّمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا لا عَلَى نَفْسِهِ. ذكر التعوذ من الشَّيْطَان الرجيم3 قَالَ الشيخ أَبُو الفرج رحمه اللَّه قد أمر اللَّه تعالى بالتعوذ من الشَّيْطَان الرجيم عند التلاوة فَقَالَ تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وعند السحر فَقَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخر السورة فَإِذَا أمر بالتحرز من شره فِي هذين الأمرين فكيف فِي غيرهما. أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَن بْن عَلِيّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر نا عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثنا أُبَيُّ ثنا سَيَّارٌ ثنا جَعْفَرٌ ثنا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُنَيْشٍ أَدْرَكْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَقَالَ إِنَّ الشياطين تحدرت4 تلك الليلة.
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَبِطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ قال ما قول قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ: قَالَ فَطُفِئَتْ نَارُهُمْ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ نا عَاصِم بْن الْحَسَنِ نا أَبُو الْحُسَيْن بْنُ بِشْرَانَ نا ابْنُ صَفْوَانَ ثنا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ ثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَكَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَكُمْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ" قَالَ الْقُرَشِيُّ ثنا هَنَّادُ بْنُ السِّرِيِّ ثنا أَبُو الأَحْوَصٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُرَّةَ الْهَمَذَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ قَالَ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لُمَّةً1 بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلِكِ لُمَّةً فَأَمَّا لُمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لُمَّةُ الْمَلِكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} الآيَةَ. قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ رَوَاهُ جَرِيرٌ عن عَطَاءٍ فَوَقَفَهُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَن بْن عَلِيّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ نا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَيَقُولُ أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ ثُمَّ يَقُولُ هَكَذَا كَانَ أَبِي إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ2 وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ الْهَامَّةُ وَاحِدُ الْهَوَامِّ وَيُقَالُ هِيَ كُلُّ نَسَمَةٍ تَهِمُّ بِسُوءٍ وَالْلامَّةُ الْمُلِمَّةُ وَإِنَّمَا قَالَ لامَّةُ لِيُوافِقَ لَفْظَ هَامَّةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ أخف على اللسان.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا الْمُبَارَك بْن عَبْدِ الجبار نا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر البرمكي نا أَبُو الْحَسَنِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيم الزينبي ثنا مُحَمَّد بْن خلف ثنا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ ثنا فضيل بْن عَبْدِ الْوَهَّاب ثنا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ ثابت قَالَ قَالَ مطرف نظرت فَإِذَا ابْن آدم ملقى بين يدي اللَّه عز وجل وبين إبليس فمن شاء أن يعصمه عصمه وإن تركه ذهب به إبليس وحكي عَنْ بعض السلف أنه قَالَ لتلميذه مَا تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا قَالَ أجاهده قَالَ فَإِن عاد قَالَ أجاهده قَالَ فَإِن عاد قَالَ أجاهده قَالَ هَذَا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أَوْ منعك من العبور مَا تصنع قَالَ أكابده وأرده جهدي قَالَ هَذَا يطول عليك ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك. قال الشيخ رحمه اللَّه واعلم أن مثل إبليس مَعَ المتقي والمخلط كرجل جالس بين يديه طعام فمر به كلب فَقَالَ لَهُ أخسأ فذهب فمر بآخر بين يديه طعام ولحم فكلما أحساه لم يبرح فالأول مثل المتقي يمر به الشَّيْطَان فيكفيه فِي طرده الذكر والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشَّيْطَان لمكان تخليطه نعوذ بالله من الشَّيْطَان.
الباب الرابع: في معنى التلبيس والغرور
الباب الرابع: فِي معنى التلبيس والغرور. قال المصنف: التلبيس إظهار الباطل فِي صورة الحق والغرور نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا والردىء جيدا وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك وإنما يدخل إبليس عَلَى الناس بقدر مَا يمكنه ويزيد تمكنه منهم ويقل عَلَى مقدار يقظتهم وغفلتهم وجهلهم وعلمهم واعلم أن القلب كالحصن وعلى ذلك الحصن سور وللسور أبواب وفيه ثلم1 وساكنه العقل والملائكة تتردد إِلَى ذلك الحصن وإلى جانبه ربض2 فيه الهوى والشياطين تختلف إِلَى ذلك الربض من غير مانع والحرب قائم بين أهل الحصن وأهل الربض والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم وأن لا يفتر عَن الحراسة لحظة فَإِن العدو مَا يفتر قَالَ رجل للحسن البصري أينام إبليس قَالَ لو نام لوجدنا راحة وهذا الحصن مستنير بالذكر مَشْرِق بالإيمان وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صور كل مَا يمر به فأول مَا يفعل الشَّيْطَان فِي الربض إكثار الدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة وكمال الفكر يرد الدخان وصقل الذكر يجلو المرآة وللعدو حملات فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكر عَلَيْهِ الحارس فيخرج وربما دخل فعاث3 وربما أقام لغفلة الحارس وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة فيمر الشَّيْطَان ولا يدري به وربما جرح الحارس لغفلته وأسر واستخدم وأقيم يستنبط الحيل فِي موافقة الهوى ومساعدته وربما صار كالفقيه في الشر قال بعض
السلف رأيت الشَّيْطَان فَقَالَ لي قد كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم فأتعلم منهم وربما هجم الشَّيْطَان عَلَى الذكي الفطن ومعه عروس الهوى قد جلاها فيتشاغل الفطن بالنظر إليها فيستأسره وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى الجهل وأوسطه فِي القوي الهوى وأضعفه الغفلة وما دام درع الإيمان عَلَى المؤمن فَإِن نبل العدو لا يقع فِي مقتل. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الْحَافِظ نا أَبُو مُحَمَّد ابْن حيان ثنا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يعقوب ثنا مُحَمَّد بْن يوسف الْجَوْهَرِيّ ثنا أَبُو غسان النهدي قَالَ سمعت الْحَسَن بْن صالح رحمه اللَّه يَقُول إن الشَّيْطَان ليفتح للعبد تسعة وتسعين بابا من الخير يريد به بابا من الشر أنبأنا عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ نا مُحَمَّد بْن مُحَمَّد النديم نا عمى عَبْد الْوَاحِد بْن أَحْمَدَ ثنى أبي أَحْمَد بْن الْحُسَيْن العدل ثنا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن صالح ثنا حيان بْن الفلس الجماني ثنا حماد بْن شعيب عَنْ الأعمش قَالَ حَدَّثَنَا رجل كان يكلم الجن قالوا ليس علينا أشد ممن يتبع السنة وأما أصحاب الأهواء فإنا نلعب بهم لعبا.
الباب الخامس: في ذكر تلبيسه في العقائد والديانات
الباب الخامس: فِي ذكر تلبيسه فِي العقائد والديانات. ذكر تلبيسه عَلَى السوفسطائية.1 قَالَ الشيخ هؤلاء قوم ينسبون إِلَى رجل يقال لَهُ سوفسطا زعموا أن الأشياء لا حقيقة لها وأن مَا يستبعده يجوز أن يكون عَلَى مَا نشاهده ويجوز أن يكون عَلَى غير مَا نشاهده وَقَدْ أورد العلماء عليهم بأن قالوا لمقالتكم هذه حقيقة أم لا فَإِن قلتم لا حقيقة لها وجوزتم عليها البطلان فكيف يجوز أن تدعوا إِلَى مَا لا حقيقة لَهُ فكأنكم تقرون بهذا القول أنه لا يحل قبول قولكم وإن قلتم لها حقيقة فقد تركتم مذهبكم وقد ذكر مذهب هؤلاء أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن مُوسَى النوبختي فِي كتاب الآراء والديانات فَقَالَ رأيت كثيرا من المتكلمين قد غلطوا فِي أمر هؤلاء غلطا بينا لأنهم ناظروهم وجادلوهم وراموا بالحجاج والمناظرة الرد عليهم وهم لم يثبتوا حقيقة ولا أقروا بمشاهدة فكيف تكلم من يَقُول لا أدري أيكلمني أم لا وَكَيْفَ تناظر من يزعم أنه لا يدري أموجود هو أم معدوم وَكَيْفَ تخاطب من يدعي أن المخاطبة بمنزلة السكوت فِي الإبانة وأن الصحيح بمنزلة الفاسد قَالَ ثم إِنَّهُ إنما يناظر من يقر بضرورة أَوْ يعترف بأمر فيجعل مَا يقر سببا إِلَى تصحيح مَا يجحده فأما من لا يقر بذلك فمجادلته مطروحة قَالَ الشيخ وَقَدْ رد هَذَا الكلام أَبُو الوفاء بْن عقيل فَقَالَ إن أقواما قالوا كيف نكلم هؤلاء وغاية مَا يمكن المجادلة أن يقرب المعقول إِلَى المحسوس ويستشهد بالشاهد فيستدل به عَلَى الغائب وهؤلاء لا يقولون بالمحسوسات فبم يكلمون قَالَ وهذا كلام ضيق العطن ولا ينبغي أن
يوئس عَن المعالجة هؤلاء فَإِن مَا اعتراهم ليس بأكثر من الوسواس ولا ينبغي أن يضيق عطننا من معالجتهم فإنهم قوم أخرجتهم عوارض انحراف مزاج وما مثلنا ومثلهم إلا كرجل رزق ولدا أحول فلا يزال يرى القمر بصورة قمرين حتى إِنَّهُ لم يشك أن فِي السماء قمرين فَقَالَ لَهُ أبوه القمر واحد وإنما السوء فِي عينيك غض عينك الحولاء وأنظر فلما فعل قَالَ أرى قمرا واحدا لأني عصبت إحدى عيني فغاب أحدهما فجاء من هَذَا القول شبهة ثانية فَقَالَ لَهُ أبوه إن كان ذلك كَمَا ذكرت فغض الصحيحة ففعل فرأى قمرين فعلم صحة مَا قَالَ أبوه. أنبأنا نا مُحَمَّد بْن ناصر نا الْحَسَن بْن أَحْمَدَ بْن البنا ثنا ابْن دودان نا أبو عبد الله المرزناني ثني أَبُو عَبْد اللَّهِ الحكيمي ثني يموت بْن المزرع ثني مُحَمَّد بْن عِيسَى النظام قَالَ مات ابْن لصالح بْن عَبْدِ القدوس فمضى إليه أَبُو الهذيل ومعه النظام وَهُوَ غلام حدث كالمتوجع لَهُ فرآه منحرفا فَقَالَ لَهُ أَبُو الهذيل لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع فَقَالَ لَهُ صالح يا أبا الهذيل إنما أجزع عَلَيْهِ لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك فَقَالَ لَهُ أَبُو الهذيل وما كتاب الشكوك قَالَ هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان فَقَالَ لَهُ النظام فشك أنت فِي موت ابنك واعمل عَلَى أنه لم يمت وإن كان قد مات فشك أيضا فِي أنه قد قرأ الْكِتَاب وإن كان لم يقرأه وحكى أَبُو القاسم البلخي أن رجلا من السوفسطائية كان يختلف إِلَى بعض المتكلمين فأتاه مرة فناظره فأمر المتكلم بأخذ دابته فلما خرج لم يرها فرجع فَقَالَ سرقت دابتي فَقَالَ ويحك لعلك لم تأتي راكبا قَالَ بلى قَالَ فكر قَالَ هَذَا أمر أتيقنه فجعل يَقُول لَهُ تذكر فَقَالَ ويحك ويحك مَا هَذَا موضع تذكر أنا لا أشك أنني جئت راكبا قَالَ فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء وإن حال اليقظان كحال النائم فوجم السوفسطائي ورجع عَنْ مذهبه. ذكر تلبيس الشَّيْطَان عَلَى فرق الفلاسفة فصل: قال النوبختي قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة فِي نفسها بل حقيقتها عند كل قوم عَلَى حسب مَا يعتقد فيها فَإِن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مرا ويجده غيره حلوا قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه محدث عند من اعتقد حدوثه واللون جسم عند من اعتقده جسما وعرض عند من اعتقده عرضا قالوا فلو توهمنا عدم المعتقدين وقف الأمر عَلَى وجود من يعتقد وهؤلاء من جنس السوفسطائية فيقال لهم أقولكم صَحِيح فسيقولون هو صَحِيح عندنا باطل عند خصمنا قلنا دعواكم صحة قولكم مردودة وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ومن شهد عَلَى قولهم
بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه ومما يقال لهم أتثبتون للمشاهدة حقيقة فَإِن قالوا لا لحقوا بالأولين وإن قالوا حقيقتها عَلَى حسب الاعتقاد فقد نفوا عنها الحقيقة فِي نفسها وصار الكلام معهم كالكلام مع الأولين. فصل: قال النوبختي ومن هؤلاء من قَالَ إن العالم فِي ذوب وسيلان قالوا ولا يمكن الإنسان أن يتفكر فِي الشيء الْوَاحِد مرتين لتغير الأشياء دائما فيقال لهم كيف علم هَذَا وَقَدْ أنكرتم ثبوت مَا يوجب العلم وربما كان أحدكم الذي يجيبه الآن غير الذي كلمه.
ذكر تلبيسه على الدهرية
ذكر تلبيسه عَلَى الدهرية قال المصنف قد أوهم إبليس خلقا كثيرا أنه لا إله ولا صانع وأن هذه الأشياء كانت بلا مكون وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحس ولم يستعملوا فِي معرفته العقل جحدوه وهل يشك ذو عقل فِي وجود صانع فَإِن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد لَهُ من بان بناه فهذا المهاد الموضوع وهذا السقف المرفوع وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية عَلَى وجه الحكمة أما تدل عَلَى صانع وما أحسن مَا قَالَ بعض العرب إن البعرة تدل عَلَى البعير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان عَلَى اللطيف الخبير ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلا ولشفت غليلا فَإِن فِي هَذَا الجسد من الحكم مَا لا يسع ذكره فِي كتاب ومن تأمل تحديد الأسنان لتقطع وتقريض الأضراس لتطحن واللسان يقلب الممضوغ وتسليط الكبد عَلَى الطعام ينضجه ثم ينفذ إِلَى كل جارحة قدر مَا تحتاج إليه من الغذاء وهذه الأصابع التي هيئت فيها العقد لتطوي وتنفتح فيمكن العمل بِهَا ولم تجوف لكثرة عملها إذ لو جوفت لصدمها الشيء القوي فكسرها وجعل بعضها أطول من بعض لتستوي إذا ضمت وأخفي فِي البدن ما فيهقوامه وهي النفس التي إذا ذهبت فسد العقل الذي يرشد إِلَى المصالح وكل شيء من هذه الأشياء ينادي أفي اللَّه شك وإنما يخبط الجاحد لأنه طلبه من حيث الحس ومن الناس من جحده لأنه لما أثبت وجوده من حيث الجملة لم يدركه من حيث التفصيل فجحد أصل الوجود ولو أعمل هَذَا فكره لعلم أن لنا أشياء لا تدرك إلا جملة كالنفس والعقل ولم يمتنع أحد من إثبات وجودهما وهل الغاية إلا إثبات الخلق جملة وَكَيْفَ يقال كيف هو أَوْ مَا هو ولا كيفية لَهُ ولا ماهية ومن الأدلة القطعية عَلَى وجوده أن العالم حادث بدليل أنه لا يخلو من الحوادث وكل مَا لا ينفك عَن الحوادث حادث ولا بد لحدوث هَذَا الحادث
من مسبب وَهُوَ الخالق سبحانه وللملحدين اعتراض يتطاولون به عَلَى قولنا لا بد للصنعة من صانع فيقولون إنما تعلقتم فِي هَذَا بالشاهد وإليه نقاضيكم فنقول كَمَا أنه لا بد للصنعة من صانع فلا بد للصورة الواقعة من الصانع من مادة تقع الصورة فيها كالخشب لصورة الباب والحديد لصورة الفأس قالوا فدليلكم الذي تثبتون به الصانع يوجب قدم العالم فالجواب أنه لا حاجة بنا إِلَى مادة بل نقول إن الصانع اخترع الأشياء اختراعا فإنا نعلم أن الصور والأشكال المتجددة فِي الجسم كصورة الدولاب ليس لها مادة وَقَد اخترعها ولا بد لها من مصور فقد أريناكم صورة وهي شيء جاءت لا من شيء ولا يمكنكم أن ترونا صنعة جاءت لا من صانع.
ذكر تلبيسه على الطبائعيين
ذكر تلبيسه عَلَى الطبائعيين1 قال المصنف: لما رأى إبليس قلة موافقته عَلَى جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لا بد للمصنوع من صانع حسن لأقوام أن هذه المخلوقات فعل الطبيعة وقال مَا من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه فدل عَلَى أنها الفاعلة وجواب هَذَا نقول اجتماع الطبائع عَلَى وجودها لا عَلَى فعلها ثم قد ثبت أن الطبائع لا تفعل إلا باجتماعها وامتزاجها وذلك يخالف طبيعتها فدل عَلَى أنها مقهورة وَقَدْ سلموا أنها ليست بحية ولا عالمة ولا قادرة ومعلوم أن الفعل المنسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم فكيف يفعل من ليس عالما وليس قادرا فَإِن قالوا ولو كان الفاعل حكيما لم يقع فِي بنائه خلل ولا وجدت هذه الحيوانات المضرة فعلم أنه بالطبع قلنا ينقلب هَذَا عليكم بما صدر مِنْهُ من الأمور المنتظمة المحكمة التي لا يجوز أن يصدر مثلها عَنْ طبع فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للابتلاء والردع والعقوبة أَوْ فِي طية منافع لا نعلمها ثم أين فعل الطبيعة من شمس تطلع فِي نيسان عَلَى أنواع من الحبوب فترطب الحصرم والخلالة وتنشف البرة وتيبسها ولو فعلت طبعا لأيبست الكل أَوْ رطبته فلم يبق إلا أن الفاعل المختار استعملها بالمشيئة فِي يبس هذه للادخار والنضج فِي هذه للتناول والعجب أن الذي أوصل إليها اليبس فِي أكنة2 لا يلقى جرمها والذي رطبها يلقى جرمها ثم إنها تبيض ورد الخشخاش وتحمر الشقائق وتحمض الرمان وتحلي العنب والماء
واحد وَقَدْ أشار المولى إِلَى هَذَا بقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} .
ذكر تلبيسه على الثنوية
ذكر تلبيسه عَلَى الثنوية وهم قوم قالوا صانع العالم اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين وهما مختلفان فِي النفس والصورة متضادان فِي الفعل والتدبير فجوهر النور فاضل حسن نير صاف نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه نفس خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخير واللذة والسرور والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر وجوهر الظلمة عَلَى ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسه نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة ضرارة منها الشر والفساد1 كذا حكاه النوبختي عنهم قَالَ وزعم بعضهم أن النور لم يزل فوق الظلمة وقال بعضهم بل كل واحد إِلَى جانب الآخر وقال أكثرهم النور لم يزل مرتفعا فِي ناحية الشمال والظلمة منحطة فِي ناحية الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه قَالَ النوبختي وزعموا أن كل واحد منهما لَهُ أجناس خمسة أربعة منها أبدان وخامس هو الروح وأبدان النور أربعة النار والريح والتراب والماء وروحه الشبح ولم تزل تتحرك فِي هذه الأبدان وأبدان الظلمة أربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت وبعضهم يَقُول الظلمة تتوالد شياطين والنور يتوالد ملائكة وأن النور لا يقدر عَلَى الشر ولا يجوز مِنْهُ والظلمة لا تقدر عَلَى الخير ولا تجوز مِنْهُ وذكر لهم مذاهب مختلفة فيما يتعلق بالنور والظلمة ومذاهب سخيفة فمنها أنه فرض عليهم ألا يدخرون إلا قوت يوم وقال بعضهم عَلَى الإنسان صوم سبع العمر وترك الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنى والسرقة وأن لا يؤذي ذا روح فِي مذاهب طريفة اخترعوها بواقعاتهم الباردة وذكر يَحْيَى بْن بِشْر النهاوندي أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم2 كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم الباري الذي هو النور زمانا فتأذى بها فلما
طال عَلَيْهِ ذلك قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بِهَا فتركب منها هَذَا العالم النوري والظلمي فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يخلصون بذلك النور من الظلمة مذاهب سخيفة والذي حملهم عَلَى هَذَا أنهم رأوا فِي العالم شرا واختلافا فقالوا لا يكون من أصل واحد شيئان مختلفان كَمَا لا يكون من النار التبريد والتسخين وَقَدْ رد العلماء عليهم فِي قولهم إن الصانع اثنان فقالوا لو كان اثنين لم يخل أن يكونا قادرين أَوْ عاجزين أَوْ أحدهما قادر والثاني عاجز لا يجوز أن يكونا عاجزين لأن العجز يمنع ثبوت الألوهية ولا يجوز أن يكون أحدهما عاجزا فبقي أن يقال هما قادران فتصور فيها أن أحدهما يريد تحريك هَذَا الجسم فِي حالة يريد الآخر تسكينه ومن المحال وجود مَا يريدانه فَإِن تم مراد أحدهما ثبت عجز الآخر وردوا عليهم فِي قولهم إن النور يفعل الخير والظلمة تفعل الشر فإنه لو هرب مظلوم فاستتر بالظلمة فهذا خير قدر صدر من شر ولا ينبغي مد النفس فِي الكلام مَعَ هؤلاء فَإِن مذهبهم خرافات.
ذكر تلبيسه على الفلاسفة وتابعيهم
ذكر تلبيسه عَلَى الفلاسفة وتابعيهم إنما تمكن إبليس من التلبيس عَلَى الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات إِلَى الأنبياء فمنهم من قَالَ بقول الدهرية أن لا صانع للعالم حكاه النوبختي وغيره عنهم وحكى النهاوندي أن أرسطاطا ليس وأصحابه زعموا أن الأَرْض كوكب فِي جوف هَذَا الفلك وأن فِي كل كوكب عوالم كَمَا فِي هَذَا الأَرْض وأنهارا وأشجارا وأنكروا الصانع وأكثرهم أثبت علة قديمة للعالم ثم قَالَ بقدم العالم وأنه لم يزل موجودا مَعَ اللَّه تعالى ومعلولا لَهُ ومساويا غير متأخر عنه بالزمان مساواة المعلول للعلة والنور للشمس بالذات والرتبة لا بالزمان فيقال لهم لم أنكرتم أن يكون العالم حادثا بإرادة قديمة اقتضت وجوده فِي الوقت الذي وجد فيه فَإِن قالوا فهذا يوجب أن يكون بين وجود الباري وبين المخلوقات زمان قلنا الزمان مخلوق وليس قبل الزمان زمان ثم يقال لهم كان الحق سبحانه قادرا عَلَى أن يجعل سمك الفلك الأعلى أكثر مما هو بذراع أَوْ أقل مما هو بذراع فَإِن قالوا لا يمكن فهو تعجيز ولأن مَا لا يمكن أن يكون أكبر مِنْهُ ولا أصغر فوجوده عَلَى مَا هو عَلَيْهِ واجب لا ممكن والواجب يستغني عَنْ علة وَقَدْ ستروا مذهبهم بأن قالوا اللَّه عز وجل صانع العالم وهذا تجوز عندهم لا حقيقة لأن الفاعل مريد لما يفعله وعندهم أن العالم ظهر ضروريا لا أن اللَّه فعله ومن
مذاهبهم أن العالم باق أبدا كَمَا لا بداية لوجوده فلا نهاية قالوا لأنه معلول علة قديمة وكان المعلول مَعَ العلة ومتى كان العالم ممكن الوجود لم يكن قديما ولا معلولا وَقَدْ قَالَ جالينوس لو كانت الشمس مثلا تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول1 فِي هذه المدة الطويلة فيقال لَهُ قد يفسد الشيء بنفسه بغتة لا بالذبول ثم من أين لَهُ أنها لا تذبل فإنها عندهم بمقدار الأَرْض مائة وسبعين مرة أَوْ نحو ذلك فلو نقص منها مقدار جبل لم يبن ذلك للحس ثم نحن نعلم أن الذهب والياقوت يقبلان الفساد وَقَدْ يبقيان سنين ولا يحس نقصانهما وإنما الإيجاد والإعدام بإرادة القادر والقادر لا يتغير فِي نفسه ولا تحدث لَهُ صفة وإنما يتغير الفعل بإرادة قديمة. فصل: وحكى النوبختي فِي كتاب الآراء والديانات أن سقراط كان يزعم أن أصول الأشياء ثَلاثَة علة فاعلة والعنصر والصورة قَالَ وَاللَّه تعالى هو الفعال2 والعنصر هو الموضوع الأَوَّل للكون والفساد والصورة جوهر للجسم وقال آخر منهم اللَّه هو العلة الفاعلة والعنصر المنفعل وقال آخر منهم العقل رتب الأشياء هَذَا الترتيب وقال آخر منهم بل الطبيعة فعلته. وحكى يَحْيَى بْن بشير بْن عمير النهاوندي أن قوما من الفلاسفة قالوا لما شاهدنا العالم مجتمعا ومتفرقا ومتحركا وساكنا علمنا أنه محدث ولا بد لَهُ من محدث ثم رأينا أن الإنسان يقع فِي الماء ولا يحسن السباحة فيستغيث بذلك الصانع المدبر فلا يغيثه أَوْ فِي النار فعلمنا أن ذلك الصانع معدوم قَالَ واختلف هؤلاء فِي عدم الصانع المدبر عَلَى ثلاث فرق فرقة عزمت أنه لما أكمل العالم استحسنه فخشي أن يَزِيد فيه أَوْ ينقص مِنْهُ فيفسد فأهلك نفسه وخلا مِنْهُ العالم وبقيت الأحكام تجري بين حيواناته ومصنوعاته عَلَى مَا اتفق وقالت الفرقة الثانية بل ظهر فِي ذات الباري تولول فلم يزل تنجذب قوته ونوره حتى صارت القوة والنور فِي ذلك التولول وَهُوَ العالم وساء نور الباري وكان الباقي منه سنور. وزعموا أنه سيجذب النور من العالم إليه حتى يعود كَمَا كان ولضعفه عَنْ مخلوقاته أهمل أمرهم فشاع الجور.
وقالت الفرقة الثالثة: بل الباري لما أتقن العالم تفرقت أجزاؤه فيه فكل قوته فِي العالم فهي من جوهر اللاهوتية قَالَ الشيخ رحمه اللَّه هَذَا الذي ذكره النهاوندي نقلته من نسخة بالنظامية قد كتبت منذ مائتين وعشرين سنة ولولا أنه قد قيل ونقل فِي ذكره بيان مَا قد فعل إبليس فِي تلبيسه لكان الأولى الإضراب عَنْ ذكره تعظيما لله عز وجل أن يذكر بمثل هَذَا ولكن قد بينا وجه الفائدة فِي ذكره. فصل: وقد ذهب أكثر الفلاسفة إِلَى أن اللَّه تعالى لا يعلم شيئا وإنما يعلم نفسه وَقَدْ ثبت أن المخلوق يعلم نفسه ويعلم خالقه فقد زادت مرتبة المخلوق عَلَى رتبة الخالق. قال المصنف وهذا أظهر فضيحة من أن يتكلم عَلَيْهِ فانظر إِلَى مَا زينه إبليس لهؤلاء الحمقاء مَعَ ادعائهم كمال العقل وَقَدْ خالفهم أَبُو عَلِيّ بْن سيناء فِي هَذَا فَقَالَ بل يعلم نفسه ويعلم الأشياء الكلية ولا يعلم الجزئيات وتلقف هَذَا المذهب منهم المعتزلة وكأنهم استكثروا المعلومات فالحمد لله الذي جعلنا ممن ينفي عَن اللَّه الجهل والنقص ونؤمن بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} وذهبوا إِلَى أن علم اللَّه وقدرته هو ذاته فرارا من أن يثبتوا قديمين وجوابهم أن يقال إنما هو قديم موجود واحد موصوف بصفات الكمال. فصل: قال المصنف وَقَدْ أنكرت الفلاسفة بعث الأجساد ورد الأرواح إِلَى الأبدان ووجود جنة ونار جسمانيين وزعموا أن تلك أمثلة ضربت لعوام الناس ليفهموا الثواب والعقاب الروحانيين وزعموا أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمديا أبدا إما فِي لذة لا توصف وهي الأنفس الكاملة أَوْ ألم لا يوصف وهي النفوس المتلوثة وَقَدْ تتفاوت درجات الألم عَلَى مقادير الناس وَقَدْ ينمحي عَنْ بعضها الألم ويزول فيقال لهم نحن لا ننكر وجود النفس بعد الموت ولذلك سمي عودها إعادة ولا أن لها نعيما وشقاء ولكن مَا المانع من حشر الأجسام ولم ننكر اللذات والآلام الجسمانية فِي الْجَنَّة والنار وَقَدْ جاء الشرع بذلك فنحن نؤمن بالجمع بين السعادتين وبين الشقاوتين الروحانية والجسمانية وأما الحقائق فِي مقام الأمثال فتحكم بلا دليل فَإِن قالوا الأبدان تنحل وتؤكل وتستحيل قلنا القدرة لا يقف بين يديها شيء عَلَى أن الإنسان إنسان بنفسه فلو صنع لَهُ البدن من تراب غير التراب الذي خلق مِنْهُ لم يخرج عَنْ كونه هو هو كَمَا أنه تتبدل أجزاؤه من الصغر إِلَى الكبر وبالهزال والسمن فَإِن قالوا لم يكن البدن بدنا حتى يرقى من حالة إِلَى حالة إِلَى أن صار لحما وعروفا قلنا قدرة اللَّه سبحانه وتعالى لا تقف عَلَى
المفهوم المشاهد ثم قد أَخْبَرَنَا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأجسام تنبت فِي القبور قبل البعث وأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ نا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ نا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الزَّيَّاتِ ثنا قَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ ثنا أَبُو كُرَيْبٍ ثنا أَبُو مُعَاوِيَة عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ1 قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالُوا أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ قَالُوا أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ قَالَ ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مَاءً مِنَ السَّمَاءِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ قَالَ وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلا يَبْلَى إِلا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجَبُ2 الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أخرجاه في الصحيحين. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت عَلَى نهاية الذكاء وكمال الفطنة كَمَا ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطا ليس وجالينوس وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أمور خفية إلا أنهم لما تكلموا فِي الالهيات خلطوا ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا فِي الحسيات والهندسيات وَقَدْ ذكرنا جنس تخليطهم فِي معتقداتهم وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة والرجوع فيها إِلَى الشرائع وَقَدْ حكى لهؤلاء المتأخرين فِي أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلا فصدقوا فيما حكي لهم عنهم ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات والمبتدعة فِي الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر فِي الأدلة وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء أتراهم مَا علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة وما قد حكى لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال فَإِن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة وَقَدْ رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى
الإسلام بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي ثم يأخذ فِي الاعتراض عَلَى الخالق وعلى النبوات ويتكلم فِي إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فأضر به فهو عامة زمانه فِي تسخط عَلَى الأقذار والاعتراض عَلَى المقدر حتى قَالَ لي بعضهم أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك وكان يَقُول أشعار كثيرة فِي هَذَا المعنى فمنها قوله فِي صفة الدنيا قَالَ: أتراها صنعة من غير صانع ... أم تراها رمية من رام وقوله: واحيرتا من وجود مَا تقدمه ... منا1 اختيار ولا علم فيقتبس كأنه فِي عماء مَا يخلصنا ... مِنْهُ ذكاء ولا عقل ولا شرس2 ونحن فِي ظلمة مَا إن لها قمر ... فيها يضيء ولا شمس ولا قبس مدلهين حيارى قد تكنفنا ... جهل يجهمنا3 فِي وجهه عبس فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل ... والقول فيه كلام كله هوس فصل: ولما كانت الفلاسفة قريبا من زمان شريعتنا والرهبنة كذلك مد بعض أهل ملتنا يده إِلَى التمسك بهذه وبعضهم مد يده إِلَى التمسك بهذه فترى كثيرا من الحمقى إذا نظروا فِي باب الاعتقاد تفلسفوا وإذا نظروا فِي باب التزهد ترهبنوا فنسأل اللَّه ثباتا عَلَى ملتنا وسلامة من عدونا إِنَّهُ ولي الإباحة.
ذكر تلبيسه على أصحاب الهياكل
ذكر تلبيسه عَلَى أصحاب الهياكل" وهم قوم يقولون إن لكل روحاني من الروحانيات العلوية هيكلا أعني جرما من الأجرام السماوية هو هيكله ونسبته إِلَى الروحاني المختص به نسبة أبداننا إِلَى أرواحنا فيكون هو مدبره والمتصرف فيه فمن جملة الهياكل العلوية السيارات والثوابت قالوا ولا سبيل لها إِلَى الروحاني بعينه فيتقرب إِلَى هيكله بكل عبادة وقربان وقال آخرون منهم لكل هيكل سماوي شخص من الأشخاص السفلية عَلَى صورته وجوهره فعمل هؤلاء الصور ونحتوا الأصنام وبنوا لها بيوتا.
وقد ذكر يَحْيَى بْن بِشْر النهاوندي أن قوما قالوا الكواكب السبعة وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر هي المدبرات لهذا العالم وهي تصدر عَنْ أمر الملأ الأعلى ونصبوا لها الأصنام عَلَى صورتها وقربوا لكل واحد منها مَا يشبهه من الحيوان فجعلوا لزحل جسما عظيما من الآنك1 أعمى يقرب إليه بثور حسن يؤتى به إِلَى بيت تحته محفور وفوقه الدرابزين من حديد عَلَى تلك الحفرة فيضرب الثور حتى يدخل البيت ويمشي عَلَى ذلك الدرابزين من الحديد فتغوص رجلاه ويداه هناك ثم توقد تحته النار حتى يحترق ويقول لَهُ المقربون مقدس أنت أيها الإله الأعمى المطبوع عَلَى الشر الذي لا يفعل خيرا قربنا لك مَا يشبهك فتقبل منا وأكفنا شرك وشر أرواحك الخبيثة ويقربون للمشتري صبيا طفلا وذلك أنهم يشترون جارية ليطأها السدنة2 للأصنام السبعة فتحمل وتترك حتى تضع ويأتون بِهَا والصبي عَلَى يدها ابْن ثمانية أيام فينخسونه بالمسل والإبر وَهُوَ يبكي عَلَى يد أمه فيقولون لَهُ أيها الرب الخير الذي لا يعرف الشر قد قربنا لك من لم يعرف الشر يجانسك فِي الطبيعة فتقبل قرباننا وارزقنا خيرك وخير أرواحك الخيرة ويقربون للمريخ رجلا أشقر أنمش3 أبيض الرأس من الشقرة يأتون به فيدخلون فِي حوض عظيم ويشدون قيوده إِلَى أوتاد فِي قعر الحوض ويملأون الحوض زيتا حتى يبقى الرَّجُل قائما فيه إِلَى حلقه ويخلطون بالزيت الأدوية المقوية للعصب والمعفنة للحم حتى إذا دار عَلَيْهِ الحول بعد أن يغذى بالأغذية المعفنة للحم والجلد قبضوا عَلَى رأسه فملخوا عصبه من جلده ولفوه تحت رأسه وأتوا به إِلَى صنمهم الذي هو عَلَى صورة المريخ فقالوا أيها الإله الشرير ذو الفتن والجوائح قربنا إليك مَا يشبهك فتقبل قرباننا واكفنا شرك وشر أرواحك الخبيثة الشريرة ويزعمون أن الرأس تبقى فيه الحياة سبعة أيام وتكلمهم بعلم مَا يصيبهم تلك السنة من خير وشر ويقربون للشمس تلك المرأة التي قتلوا ولدها للمشتري ويطوفون بصورة الشمس ويقولون مسبحة مهللة أنت أيتها الآلهة النورانية قربنا إليك مَا يشبهك فتقبلي قرباننا وارزقينا من خيرك وأعيذينا من شرك ويقربون للزهرة عجوزا شمطاء ماجنة4 يقدمونها بين يديها وينادون حولها
أيتها الآلهة الماجنة أتيناك بقربان بياضه كبياضك ومجانته كمجانتك وظرفه كظرفك فتقبليها منا ثم يأتون بالحطب فيجعلونه حول العجوز ويضرمون فيه النار إِلَى أن تحترق فيحثون رمادها فِي وجه الصنم. ويقربون لعطارد شابا أسمر حاسبا كاتبا متأدبا يأتون به بحيلة وكذلك يفعلون بالكل يخدعونهم ويبنجونهم ويسقونهم أدوية تزيل العقل وتحرس الألسنة فيقدمون هَذَا الشاب إِلَى صنم عطارد ويقولون أيها الرب الظريف أتيناك بشخص ظريف وبطبعك اهتدينا فتقبل منا ثم ينشر الشاب نصفين ويربع ويجعل عَلَى أربع خشبات حوله ويضرم كل خشبة النار حتى تحترق ويحترق الربع معها ويحثون رماده فِي وجهه. ويقربون للقمر رجلا آدم كبير الوجه ويقولون لَهُ يا بريد الآلهة وخفيف الأجرام العلوية.
ذكر تلبيسه على عباد الأصنام
ذكر تلبيسه عَلَى عباد الأصنام قال المصنف كل محنة لبس بِهَا إبليس عَلَى الناس فسببها الميل إِلَى الْحَسَن والأعراض عَنْ مقتضى العقل ولما كان الحس يأنس بالمثل1 دعا إبليس لعنه اللَّه خلقا كثيرا إِلَى عبادة الصور وأبطل عند هؤلاء عمل العقل بالمرة فمنهم من حسن لَهُ أنها الآلهة وحدها ومنهم من وجد فيه قليل فطنة فعلم أنه لا يوافقه عَلَى هَذَا فزين لَهُ أن عبادة هذه تقرب إلى الخالق: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
ذكر بداية تلبيسه على عباد الأصنام
ذكر بداية تلبيسه عَلَى عباد الأصنام أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك الْحَافِظ نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو جَعْفَر بْن أَحْمَدَ بْن السلم نا أَبُو عُبَيْد اللَّه مُحَمَّد بن عمران المرزناني نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيّ ثنا أَبُو علي الْحَسَن بْن عليل العنزي ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْن الصباح بْن الفرات قَالَ أَخْبَرَنَا هشام بْن مُحَمَّد بْن السائب الحلبي قَالَ أخبرني أبي قَالَ أول مَا عبدت الأصنام كان آدم عَلَيْهِ السلام لما مات جعله بنوشيث بْن آدم فِي مغارة فِي الجبل الذي أهبط عَلَيْهِ آدم بأرض الهند ويقال للجبل بوذ وَهُوَ أخصب جبل فِي الأَرْض قَالَ هِشَامٌ فَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أبي الصالح عن ابن
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَكَانَ بَنُو شَيْثَ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَأْتُونَ جَسَدَ آدَمَ فِي الْمَغَارَةِ فَيُعَظِّمُونَهُ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَابِيلَ يَا بَنِي قَابِيلَ إِنَّ لِبَنِي شَيْثَ دُوَارًا يَدُورُونَ حَوْلَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَلَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ فَنَحَتَ لَهُمْ صَنَمًا فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ وَدٌ وَسُوَاعُ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسرٌ قَوْمًا صَالِحِينَ فَمَاتُوا فِي شَهْرٍ فَجَزِعَ عَلَيْهِمْ أَقَارِبُهُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَابِيلَ يَا قَوْمِ هَلْ لَكُمْ أَنْ أَعْمَلَ لكن خَمْسَةَ أَصْنَامٍ عَلَى صُوَرِهِمْ غَيْرَ أَنَّنِي لا أَقْدِرُ أَنْ أَجْعَلَ فِيهَا أَرْوَاحًا فَقَالُوا نَعَمْ فَنَحَتَ لَهُمْ خَمْسَةَ أَصْنَامٍ عَلَى صُوَرِهِمْ وَنَصَبَهَا لَهُمْ فَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ يَأْتِي أَخَاهُ وَعَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ فَيُعَظِّمُهُ وَيَسْعَى حَوْلَهُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ الأَوَّلُ وَعَمِلَتْ عَلَى عهد يزذ بْن مهلاييل بْن قينان بْن أنوش بْن شيت بْن آدَمَ ثُمَّ جَاءَ قَرْنٌ آخَرُ فَعَظَّمُوهُمْ أَشَدَّ تَعْظِيمٍ مِنَ الْقَرْنِ الأَوَّلِ ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمُ الْقَرْنُ الثَّالِثُ فَقَالُوا مَا عُظْمُ الأَوَّلُونَ هَؤُلاءِ إِلا وَهُمَ يَرْجُونَ شَفَاعَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَبَدُوهُمْ وَعَظَّمُوا أَمْرَهُمْ وَاشْتَدَّ كُفْرُهُمْ فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَيْهِمْ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَدَعَاهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَشْتَدُّ فِيمَا قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى أَدْرَكَ نُوحٌ فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن أربعمائة وَثَمَانِينَ سَنَةً فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً فَعَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ فَعَمِلَهَا وَفَرَغَ مِنْهَا وَرَكِبَهَا وَهُوَ ابْنُ ستمائة سَنَةً وَغَرَقَ مَنْ غَرَقَ وَمَكَثَ بعد ذلك ثلاثمائة سَنَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً فَكَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَلْفَا سَنَةٍ وَمَائَتَا سَنَةٍ فَأَهْبَطَ الْمَاءُ هَذِهِ الأَصْنَامَ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ حَتَّى قَذَفَهَا إِلَى أَرْضِ جُدَّةَ فَلَمَّا نَضَبَتِ الْمَاءُ بَقِيَتْ عَلَى الشَّطِّ فَسَفَتِ الرِّيحُ عَلَيْهَا حَتَّى وَارَتْهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لحي كَاهِنًا وَكَانَ يُكْنَى أَبَا ثمامة لَهُ رئي مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ لَهُ عَجِلِّ الْمَسِيرَ وَالظَّعْنِ مِنْ تُهَامَةَ بِالسَّعْدِ وَالسَّلامَةِ ائْتِ صَفَا جِدِّهِ تَجِدُ فِيهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً فَأَوْرِدْهَا تُهَامَةَ وَلا تَهَبُ ثُمَّ ادْعُ الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا تَجِبُ فَأَتَى نَهْرَ جِدَّةَ فَاسْتَثَارَهَا ثُمَّ حَمَلَهَا حَتَّى وَرَدَ بِهَا تُهَامَةَ وَحَضَرَ الْحَجَّ فَدَعَا الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا قَاطِبَةً فَأَجَابَهُ عَوْفُ بْنُ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدٍ اللات فَدَفَعَ إِلَيْهِ وَدًّا فَحَمَلَهُ فَكَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَسُمِّيَ ابْنُهُ عَبْدُ وَدٍّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى بِهِ وَجَعَلَ عَوْفٌ ابْنَهُ عَامِرًا سَادِنًا لَهُ فَلَمْ يَزَلْ بَنُوهُ يُدِينُونَ بِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ حَارِثَةَ أَنَّهُ رَأَى وُدًّا قَالَ وَكَانَ أَبِي يَبْعَثَنِي بِاللَّبَنِ إِلَيْهِ وَيَقُولُ اسْقِ إِلَهَكَ فَأُشْرِبَهُ قَالَ ثُمَّ رَأَيْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بَعْدَ كَسْرِهِ فَجَعَلَهُ جُذَاذًا وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِهَدْمِهِ فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَدْمِهِ بَنُو عَبْدِ وُدٍّ وَبَنُو عَامِرٍ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَهَدَمَهُ وَكَسَرَهُ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ رَجُلا مِنْ بَنِي عَبْدِ وُدٍّ يُقَالُ لَهُ قَطَنُ بْنُ سُرَيْجٍ فَأَقْبَلَتْ أُمُّهُ وَهُوَ مَقْتُولٌ وَهِيَ تَقُولُ: أَلا تِلْكَ الْمَوَدَّةُ لا تَدُومُ ... وَلا يَبْقَى عَلَى الدَّهْرِ النَّعِيمُ وَلا يَبْقَى عَلَى الْحَدَثَانِ عفر1 ... له أم بشاهقة رؤوم ثُمَّ قَالَتْ: يَا جَامِعًا جَمَعَ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدِ ... يَا لَيْتَ أُمَّكَ لَمْ تُولَدْ وَلَمْ تَلِدِ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ وَمَاتَتْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ فَقُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ حَارِثَةَ صِفْ لِي وُدًّا حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ قَالَ كَانَ تِمْثَالُ رَجُلٍ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ مِنَ الرجال قد دير أي نفس عَلَيْهِ حُلَّتَانِ مُتَّزِرٌ بِحُلَّةٍ مُرْتَدٍ بِأُخْرَى عَلَيْهِ سَيْفٌ قَدْ تَقَلَّدَهُ وَتَنَكَّبَ قَوْسًا وَبَيْنَ يَدَيْهِ حَرْبَةٌ فِيهَا لِوَاءٌ وَوَفْضَةٌ فِيهَا نَبْلٌ يَعْنِي جُعْبَتَهَا2. قَالَ وَأَجَابَتْ عَمْروُ بْنُ لُحَيٍّ مُضَرَ بْنَ نِزَارٍ فَدَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلَ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلَ بْنِ مُدْرَكَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ سُوَاعًا وَكَانَ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا رُهَاطُ مِنْ بَطْنِ نَخْلَةٍ يَعْبُدُهُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ مُضَرَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ. تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتِهِمْ عُكُوفًا ... كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعٍ يَظَلُّ حَيَاتَهُ صَرْعَى لَدَيْهِ ... غَنَائِمُ مِنْ ذَخَائِرِ كُلِّ راعي وَأَجَابَتْهُ مَذْحِجٌ فَدَفَعَ إِلَى أنعم بْنِ عَمْرٍو الْمُرَادِيِّ يَغُوثَ وَكَانَ بِأَكَمَةَ بِالْيَمَنِ تَعْبُدُهُ مَذْحِجٌ وَمَنْ والاها. وأجابته هَمَدَانُ فَدَفَعَ إِلَى مَالِكِ بْنِ مَرْثَدِ بْنِ جُشْمٍ يَعُوقَ وَكَانَ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَوَانٌ تَعْبُدُهُ هَمَدَانَ وَمَنْ وَالاهَا مِنَ الْيَمَنِ. وَأَجَابَتْهُ حِمْيَرُ فَدَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ ذِي رُعَيْنِ يُقَالُ لَهُ مَعْدِي كَرِبَ نَسْرًا وَكَانَ بِمَوْضِعٍ من أرض
سَبَأَ يُقَالُ لَهُ بَلْخَعٌ تَعْبُدُهُ حِمْيَرُ وَمَنْ وَالاهَا فَلَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَهُ حَتَّى هُوَ دُهْمٌ ذُو نُواسٍ وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الأَصْنَامُ تُعْبَدُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَحَدَّثَنَا الكبي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَتْ لِيَ النَّارُ فَرَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لَحْي قَصِيرًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ يَجُرُّ قَصَبَةً فِي النَّارِ قُلْتُ مَنْ هَذَا قِيلَ هَذَا عَمْرُو بْنُ لَحْي أَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَمَامَ وَغَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَدَعَا الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ" قَالَ هشام وحدثني أبي وغيره أن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصلاة والسلام لما سكن مكة وولد لَهُ فيها أولاد فكثروا حتى ملؤا مكة ونفوا من كان بِهَا من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقست بينهم الحروب والعداوات فأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا فِي البلاد والتمسوا المعاش فكان الذي حملهم عَلَى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا أحتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصيانة لمكة فحيث مَا حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بِهَا وصيانة للحرم وحبا لَهُ وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون عَلَى أثر1 إِبْرَاهِيم وإسماعيل ثم عبدوا مَا استحسنوا ونسوا مَا كانوا عَلَيْهِ واستبدلوا بدين إِبْرَاهِيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إِلَى مَا كانت عَلَيْهِ الأمم من قبلهم واستخرجوا مَا كان يعبد قوم نوح وفيهم عَلَى ذلك بقايا من عهد إِبْرَاهِيم وإسماعيل يتمسكون بِهَا من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة والمزدلفة وإهداء البدن والإهلال بالحج والعمرة وكانت نزار تقول إذا مَا أهلت لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وكان أول من غير دين إِسْمَاعِيل ونصب الأوثان وثيب السائبة ووصل الوصيلة عمرو بْن ربيعة وَهُوَ لحى بْن حارثة وَهُوَ أَبُو خزاعة وكانت أم عمرو بْن لحى فهيرة بنت عامر بْن الحارث وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغنا عمرو بْن لحى نازعه فِي الولاية وقاتل جرهم بْن إِسْمَاعِيلَ فظفر بهم وأجلاهم عَن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت من بعدهم ثم أنه مرض مرضا شديدا فَقِيلَ لَهُ أن بالبلقاء من أرض الشام حمة إن أتيتها برئت فأتاها فاستحم بِهَا فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فَقَالَ مَا هذه فقالوا نستسقي بِهَا المطر ونستنصر بِهَا عَلَى العدو فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بِهَا مكة ونصبها حول الكعبة واتخذت العرب الأصنام.
وكان أقدمها مناة وكان منصوبا عَلَى ساحل البحر من ناحية المسلك بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعا تعظمه والأوس والخزرج ومن نزل أدينة ومكة وما والاها ويذبحون لَهُ ويهدون لَهُ. قَالَ هِشَامٌ وَحَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرِ بن يسار قال كَانَتِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَمَنْ يَأْخُذُ مَأْخَذَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ وَغَيْرِهَا يَحُجُّونَ فَيَقِفُونَ مَعَ النَّاسِ الْمُوَاقِفَ كُلَّهَا وَلا يَحْلِقُونَ رُؤُوسَهُمْ فَإِذَا نَفَرُوا أَتَوْهُ فَحَلَقُوا عِنْدَهُ رُؤُوسَهُمْ وَأَقَامُوا عِنْدَهُ لا يَرَوْنَ لِحِجِّهِمْ تَمَامًا إِلا بِذَلِكَ وَكَانَتْ مُنَاةُ لِهُذَيْلَ وَخُزَاعَةَ فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَدَمَهَا عَامَ الْفَتْحِ. ثُمَّ اتَّخَذُوا اللاتَ بِالطَّائِفِ وَهِيَ أَحْدَثُ مِنْ مَنَاةَ وَكَانَتْ صَخْرَةً مُرْتَفِعَةً1 وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا مِنْ ثَقِيفٍ وَكَانُوا قَدْ بَنَوْا عَلَيْهَا بِنَاءً وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَجَمِيعُ الْعَرَبِ تُعَظِّمُ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي زَيْدً اللاتَ وَتَيْمَ اللاتَ وَكَانَتْ فِي مَوْضِعِ مَنَارَةِ مَسْجِدِ الطَّائِفِ الْيُسْرَى الْيَوْمَ فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَهَدَمَهَا وَحَرَقَهَا بِالنَّارِ. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعُزَّى وَهِيَ أَحْدَثُ مِنَ اللاتِ اتَّخَذَهُ ظَالِمُ بْنُ أَسْعَدَ وَكَانَتْ بِوَادِي نَخْلَةَ الشَّامِيَّةِ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ وَبَنَوْا عَلَيْهَا بَيْتًا وَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الصَّوْتَ. قَالَ هِشَامٌ وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَتِ الْعُزَّى شَيْطَانَةً تُأْتِي ثَلاثَ سَمِرَاتٍ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَالَ ائْتِ بَطْنَ نَخْلَةٍ فَإِنَّكَ تَجِدُ ثَلاثَ سَمِرَاتٍ فَاعْتَضِدِ الأُولَى فَأَتَاهَا فَعَضَدَهَا فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ قَالَ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا قَالَ لا قَالَ فَاعْضِدِ الثَّانِيَةَ فَأَتَاهَا فَعَضَدَهَا ثُمَّ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا قَالَ لا قَالَ فَاعْضِدِ الثَّالِثَةَ فَأَتَاهَا فَإِذَا هُوَ بِجِنِّيَّةٍ نَافِشَةٍ شَعْرَهَا وَاضِعَةٍ يَدَيْهَا عَلَى عَاتِقِهَا تَصُرُّ بِأَنْيَابِهَا وَخَلْفَهَا دَيْبَةُ السُّلَمِيُّ وَكَانَ سَادِنَهَا فَقَالَ خَالِدٌ: يَا عُزُّ كُفْرَانَكَ لا سُبْحَانَكَ ... إِنِّي رَأَيْتُ الله قد أهانك
ثُمَّ ضَرَبَهَا فَفَلَقَ رَأْسَهَا فَإِذَا هِيَ حِمَمَةٌ1 ثُمَّ عَضَدَ الشَّجَرَةَ وَقَتَلَ دَيْبَةَ السَّادِنَ ثُمَّ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ تِلْكَ الْعُزَّى وَلا عُزَّى بَعْدَهَا لِلْعَرَبِ. قال هشام وكان لقريش أصنام فِي جوف الكعبة وحولها وأعظمها عندهم هبل وكان فيما بلغني من عقيق أحمر عَلَى صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا لَهُ يدا من ذهب وكان أول من نصبه خذيمة بْنِ مُدْرَكَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مضر وكان فِي جوف الكعبة وكان قدامه سبعة أقدح مكتوب فِي أحدها صريح وفي الآخر ملصق فَإِذَا شكو فِي مولود أهدوا لَهُ هدية ثم ضربوا بالقدح فَإِن خرج صريح ألحقوه وإن خرج ملصقا فدفعوه وكانوا إذا اختصموا فِي أمر أَوْ أرادوا سفرا أَوْ عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده وَهُوَ الذي قَالَ لَهُ أَبُو سفيان يوم أحد أعل هبل أي علا دينك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: "ألا تجيبونه" فقالوا وما نقول قَالَ: "قولوا اللَّه أعلى وأجل" وكان لهم أساف ونائلة قَالَ هِشَامٌ فَحَدَّثَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَسَافَ رَجُلٌ مِنْ جُرْهُمَ يُقَالُ لَهُ أَسَافُ بْنُ يَعْلَى وَنَائِلَةُ بِنْتُ زَيْدٍ مِنْ جُرْهُمَ وَكَانَ يَتَعَشَّقُهَا فِي أَرْضِ الْيَمَنِ فَأَقْبَلا حُجَّاجًا فَدَخَلا الْبَيْتَ فَوَجَدَا غَفْلَةً مِنَ النَّاسِ وَخَلْوَةً مِنَ الْبَيْتِ فَفَجَرَ بِهَا فِي الْبَيْتِ فَمُسِخَا فَأَصْبَحُوا فَوَجَدُوهُمَا مَمْسُوخَيْنِ فَأَخْرَجُوهُمَا فَوَضَعُوهُمَا مَوْضِعِهِمَا فَعَبَدَتْهُ خُزَاعَةُ وَقُرَيْشٌ وَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ بَعْدُ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ هِشَامٌ لَمَّا مُسِخَا حَجَرَيْنِ وُضِعَا عِنْدَ الْبَيْتِ لِيَقِظَ النَّاسَ بِهِمَا فَلَمَّا طَالَ مَكْثَهُمَا وَعُبِدَتِ الأَصْنَامُ عُبِدَا مَعَهَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُلْصَقًا بِالْكَعْبَةِ وَالآخَرُ فِي مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَنَقَلَتْ قُرَيْشٌ الَّذِي كَانَ مُلْصَقًا بِالْكَعْبَةِ إِلَى الآخَرِ فَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهُمَا. وَكَانَ مِنْ تِلْكَ الأَصْنَامِ ذُو الْخَلَصَةِ وَكَانَ مَرْوَةٌ2 بَيْضَاءُ مَنْقُوشَةٌ عَلَيْهَا كَهَيْئَةِ التَّاجِ وَكَانَتْ بِتَبَالَةَ بَيْنَ مَكَّةَ3 وَالْمَدِينَةِ عَلَى مَسِيرَةِ سَبْعَ لَيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتْ تُعَظِّمُهَا وَتَهْدِي لَهَا خثعم وبجيلة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَلا تَكْفِنِي ذَا الْخَلَصَةِ" فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ فَسَارَ بِأَحْمَسَ فَقَابَلَتْهُ خعثم وَبَاهِلَةُ فَظَفَرَ بِهِمْ وَهَدَمَ بُنْيَانَ ذِي الْخَلَصَةِ وَأَضْرَمَ فِيهِ النَّارَ وَذُو الْخَلَصَةِ الْيَوْمَ عَتَبَةُ بَابِ مسجد تبالة.
وَكَانَ لِدَوْسٍ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْكَفَّيْنِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَحَرَقَهُ. وَكَانَ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ يَشْكُرَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الثَّرَى. وَكَانَ لِقُضَاعَةَ وَلَخْمٍ وَجُذَامٍ وَعَامِلَةَ وَغَطَفَانَ صَنَمٌ فِي مَشَارِفِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ الأُقَيْصِرُ. وَكَانَ لِمُزَيْنَةَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ فَهْمٌ وَبِهِ كَانَتْ تُسَمَّى عَبْدَ فَهْمٍ. وَكَانَتْ لِعَنْزَةَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ سَعِيرٌ. وكان لطىء صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ الْفِلْسُ وَكَانَ لأَهْلِ كُلِّ وَادٍ مِنْ مَكَّةَ صَنَمٌ فِي دَارِهِمْ يَعْبُدُونَهُ فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ السَّفَرَ كَانَ آخِرُ مَا يَصْنَعُ فِي مَنْزِلِهِ أَنْ يَتَمَسَّحَ بِهِ وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَصْنَعُ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَتَمَسَّحَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ بَيْتًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَنَمٌ وَلا بَيْتٌ نَصَبَ حَجَرًا مِمَّا اسْتَحْسَنَ بِهِ ثُمَّ طَافَ بِهِ وَسَمَّوْهَا الأَنْصَابَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ فَنَظَرَ إِلَى أَحْسَنِهَا فَاتَّخَذَهُ رَبًّا وَجَعَلَهُ ثَالِثَةَ الأَثَافِيِّ1 لِقَدَرِهِ فَإِذَا ارْتَحَلَ تَرَكَهُ فَإِذَا نَزَلَ مَنْزِلا آخَرَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالأَصْنَامُ مَنْصُوبَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِسَيَّةِ2 قَوْسِهِ فِي عُيُونِهَا وَوُجُوهِهَا وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" ثُمَّ أَمَر بِهَا فَكُفِئَتْ عَلَى وُجُوهِهَا ثُمَّ أُخْرِجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَحُرِقَتْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي زِمَانِ يزد برد عُبِدَتِ الأَصْنَامُ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ نا عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران نا عثمان بْن أَحْمَدَ الدقاق ثنا جميل ثنا حسن بْن الربيع ثنا مهدي بْن ميمون قَالَ سمعت أبا رجاء العطاردي يَقُول لما بعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب ولحقنا بالنار وكنا نعبد الحجر فِي الجاهلية فَإِذَا وجدنا حجرا هو أحسن مِنْهُ نلقي ذاك ونأخذه وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عَلَيْهِ ثم طفنا به أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ الحداد نا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ ثنا أَبُو حامد بْن جبلة ثنا أَبُو عَبَّاس السراج ثنا أَحْمَد بْن الْحَسَنِ بْن خراش ثنا مسلم بْن إِبْرَاهِيم ثنا عمارة المعولي قَالَ سمعت أبا رجاء العطاردي يَقُول كنا نعمد إِلَى الرمل فنجمعه فنحلب عَلَيْهِ فنعبده وكنا نعمد إِلَى الحجر الأبيض فنعبده
زمانا ثم نلقيه أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز نا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثابت نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الوراق نا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم ثنا يوسف بْن يعقوب النيسابوري نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبة ثنا يَزِيد بْن هرون نا الحجاج بْن أبي زينب قَالَ سَمِعْتُ أبا عثمان النهدي قَالَ كنا فِي الجاهلية نعبد حجرا فسمعنا مناديا ينادي يا أهل الرحال إن ربكم قد هلك فالتمسوا لكم ربا غيره قَالَ فخرجنا عَلَى كل صعب وذلول فبينما نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي إنا قد وجدنا ربكم أَوْ شبهه قَالَ فجئنا فَإِذَا حجر فنحرنا عَلَيْهِ الجزر أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ نا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ نا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ نا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفهم ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ثني الْحَجَّاجُ بْنُ صَفْوَانَ عَنِ ابْنِ أبي حسين عن شهر حَوْشَبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ قَالَ كُنْتُ امْرَءًا مِمَّنْ يَعْبُدُ الْحِجَارَةَ فَيَنْزِلُ الْحَيُّ لَيْسَ مَعَهُمْ آلِهَةٌ فَيَخْرُجُ الْحَيُّ مِنْهُمْ فَيَأْتِي بِأَرْبَعَةِ أَحْجَارٍ فَيَنْصُبُ ثَلاثَةً لِقَدْرِهِ وَيَجْعَلُ أَحْسَنَهَا إِلَهًا يُعْبَدُ ثُمَّ لَعَلَّهُ يَجِدُ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ فَيَتْرُكَهُ وَيَأْخُذَ غَيْرَهُ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ نا أَبُو الْحُسَيْنِ بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو الْحَسَنِ الْعَتِيقِيُّ نا عُثْمَانُ بْنُ عمرو بن الميثاب نا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَامِيُّ ثني أَبُو الفضل محمد بن أبي هرون الْوَرَّاقُ ثنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيُّ عَنْ شَيْخٌ مِنْ سَاكِنِي مَكَّةَ قَالَ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كَيْفَ عَبَدَتِ الْعَرَبُ الْحِجَارَةَ وَالأَصْنَامَ فَقَالَ أَصْلُ عِبَادَتِهِمُ الْحِجَارَةِ إِنَّهُمْ قَالُوا الْبَيْتُ حَجَرٌ فَحَيْثُ مَا نَصَبْنَا حَجَرًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ يَعْتَقِدُ الرُّبُوبِيَّةَ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ للَّهِ تَعَالَى مَلائِكَةً إِلا إِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ صُورَةً كَأَحْسَنِ الصُّوَرِ وَأَنَّ الْمَلائِكَةَ أَجْسَامٌ حِسَانٌ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَلائِكَتُهُ مُحْتَجِبُونَ بِالسَّمَاءِ فَاتَّخَذُوا أَصْنَامًا عَلَى صُورَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَهُمْ وَعَلَى صُوَرِ الْمَلائِكَةِ فَعَبَدُوهَا وَقَرَّبُوا لَهَا لِمَوْضِعِ الْمُشَابَهَةِ عَلَى زَعْمِهِمْ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ إِنَّ الْمَلائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ وَالأَفْلاكَ أَقْرَبُ الأَجْسَامِ إِلَى الْخَالِق فَعَظَّمُوهَا وَقَرَّبُوا لَهَا ثُمَّ عَمِلُوا الأَصْنَامَ. وَبَنَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ بُيُوتًا كَانَتْ لِلأَصْنَامِ فَمِنْهَا بَيْتٌ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ بِأَصْبَهَانَ كَانَتْ فِيهِ أَصْنَامٌ أَخْرَجَهَا كوشتاسب لَمَّا تَمَجَّسَ وَجَعَلَهُ بَيْتَ نَارٍ وَالْبَيْتُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي أَرْضِ الْهِنْدِ وَالرَّابِعُ بِمَدِينَةِ بَلْخٍ بَنَاهُ بَنُو شَهْرٍ فَلَمَّا ظَهَرَ الإِسْلامُ خَرَّبَهُ أَهْلُ بَلْخٍ وَالْخَامِسُ بَيْتٌ بِصَنْعَاءَ بَنَاهُ الضَّحَّاكُ عَلَى اسْمِ الزُّهْرَةِ فَخَرَّبَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالسَّادِسُ بَنَاهُ قَابُوسٌ وَالْمَلِكُ عَلَى اسْمِ الشَّمْسِ بِمَدِينَةِ فَرْغَانَةَ فَخَرَّبَهُ الْمُعْتَصِمُ.
وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ بَشِيرِ بْنِ عُمَيْرٍ النُّهَاوَنْدِيُّ أَنَّ شَرِيعَةَ الْهِنْدِ وضعها لهم رجل برهمي وَوَضَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَجَعَلَ لَهُمْ أَعْظَمَ بُيُوتِهِمْ بَيْتًا بالميلتان وَهِيَ مَدِينَةٌ مِنْ مَدَايِنِ السِّنْدِ وَجَعَلَ فِيهِ صَنَمَهُمُ الأَعْظَمُ الَّذِي هُوَ كَصُورَةِ الهيولي الأَكْبَرِ وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ فُتِحَتْ فِي أَيَّامِ الْحُجَّاجِ وَأَرَادُوا قَلْعَ الصَّنَمِ فَقِيلَ لَهُمْ إِنْ تَرَكْتُمُوهُ وَلَمْ تُقْلِعُوهُ جَعَلْنَا لَكُمْ ثُلُثَ مَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ مَالٍ فَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِتَرْكِهِ فَالْهِنْدُ تَحُجُّ إِلَيْهِ من ألفي فرسخ ولا بد لِلْحَاجِّ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ دَرَاهِمَ عَلَى قَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ مَائَةٍ إِلَى عَشَرَةِ آلافٍ لا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ هَذَا وَلا أَكْثَرَ وَمَنْ لَمْ يَحْمِلْ مَعَهُ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ حَجُّهُ فَيُلْقِيهِ فِي صُنْدُوقٍ عَظِيمٍ هُنَاكَ وَيَطُوفُونَ بِالصَّنَمِ فَإِذَا ذَهَبُوا قُسِّمَ ذَلِكَ الْمَالُ فُثُلُثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَثُلُثُهُ لِعِمَارَةِ الْمَدِينَةِ وَحُصُونِهَا وَثُلُثُهُ لِسَدَنَةِ الصَّنَمِ وَمَصَالِحِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَحِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَانْظُرْ كَيْفَ تَلاعَبَ الشَّيْطَانُ بِهَؤُلاءِ وَذَهَبَ بِعُقُولِهِمْ فَنَحَتُوا بِأَيْدِيهِمْ مَا عَبَدُوهُ وَمَا أَحْسَنَ مَا عَابَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْنَامَهُمْ فَقَالَ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وَكَانَتِ الإِشَارَةُ إِلَى الْعِبَادِ أَيْ أَنْتُمْ تَمْشُونَ وَتَبْطِشُونَ وَتُبْصِرُونَ وَتَسْمَعُونَ وَالأَصْنَامُ عَاجِزَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَهِيَ جَمَادٌ وَهُمْ حَيَوَانٌ فَكَيْفَ عَبْدَ التام الناقص ولو تفكروا لَعَلِمُوا أَنَّ الإِلَهَ يَصْنَعُ الأَشْيَاءَ وَلا يُصْنَعُ وَيُجْمَعُ وَلَيْسَ بِمَجْمُوعٍ وَتَقُومُ الأَشْيَاءُ بِهِ وَلا يَقُومُ بِهَا وَإِنَّمَا يَنْبَغِي للإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ مَنْ صَنَعَهُ لا مَا صَنَعَهُ وَمَا خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّ الأَصْنَامَ تَشْفَعُ فَخَيَالٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ يُتَعَلَّقُ بِهَا.
ذكر تلبيسه على عابدي النار والشمس والقمر
ذِكْرُ تَلْبِيسِهِ عَلَى عَابِدِي النَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَالَ الْمُصَنِّفُ قَدْ لَبِسَ إِبْلِيسُ عَلَى جَمَاعَةٍ فَحَسَّنَ لَهُمْ عِبَادَةَ النَّارِ وَقَالُوا هِيَ الْجَوْهَرُ الَّذِي لا يَسْتَغْنِي الْعَالِمُ عَنْهُ وَمِنْ هَهُنَا زَيَّنَ عِبَادَةَ الشَّمْسِ. وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ وَهَرَبَ مِنْ أَبِيهِ آدَمَ إِلَى الْيَمَنِ أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَابِيلَ إِنَّمَا قُبِلَ قَرْبَانُهُ وَأَكَلَتْهُ النَّارُ لأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ النَّارَ وَيَعْبُدُهَا فَانْصُبْ أَنْتَ نَارًا تَكُونَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَصَبَ النَّارَ َوعَبَدَهَا قَالَ الْجَاحِظُ وَجَاءَ زَرَادَشْتُ مِنْ بَلْخٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَجُوسِ فَادَّعَى أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ إِلَيْهِ عَلَى جَبَلٍ سِيلانَ فَدَعَى أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي الْبَارِدَةِ الَّذِينَ لا يَعْرِفُونَ إِلا الْبَرْدَ وَجَعَلَ الْوَعِيدَ بِتَضَاعُفِ الْبَرْدِ وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ إِلا إِلَى الْجِبَالِ فَقَطْ وَشَرَّعَ لأَصْحَابِهِ التوضوء بِالأَبْوَالِ وَغَشَيَانِ الأُمَّهَاتِ وَتَعْظِيمَ النِّيرَانِ مَعَ
أُمُورٍ سَمِجَةٍ قَالَ وَمِنْ قَوْلِ زَرَادَشْتَ كَانَ اللَّهُ وَحْدَهُ فَلَمَّا طَالَتْ وِحْدَتُهُ فَكَّرَ فَتَوَّلَدَ مِنْ فِكْرَتِهِ إِبْلِيسَ فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَرَادَ قَتْلَهُ امْتَنَعَ مِنْهُ فَلَمَّا رَأَى امْتَنَاعَهُ وَدَّعَهُ إِلَى مُدَّةٍ. قَالَ الشُّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ بَنَى عَابِدُوا النَّارِ لَهَا بُيُوتًا كَثِيرَةً فَأَوَّلُ مَنْ رَسَمَ لَهَا بَيْتًا أَفْرِيدُونُ فَاتَّخَذَ لَهَا بَيْتًا بِطَرْطُوسَ وَآخَرَ بِبُخَارَى وَاتَّخَذَ لَهَا بهمن بَيْتًا بِسَجِسْتَانَ وَاتَّخَذَ لَهَا أَبُو قُبَاذٍ بَيْتًا بِنَاحِيَةِ بُخَارَى وَبُنِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ لَهَا وَقَدْ كَانَ زَرَادَشْتُ وَضَعَ نَارًا زَعَمَ أَنَّهَا جَاءَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ بَنَى بَيْتًا وجعل فيوسطه مِرْآةً وَلَفَّ الْقُرْبَانَ فِي حَطَبٍ وَطَرَحَ عَلَيْهِ الْكِبْرِيتَ فَلَمَّا اسْتَوَتِ الشُّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ قَابَلَتْ كُوَّةَ قَدْ جَعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ فَدَخَلَ شُعَاعُ الشَّمْسِ فَوَقَعَ عَلَى الْمِرْآةِ فَانْعَكَسَ عَلَى الْحَطَبِ فَوَقَعَتْ فِيهِ النَّارُ فَقَالَ لا تطفؤا هَذِهِ النَّارَ. فَصْلٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ حَسَّنَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لأقوام عبادة القمر ولآخرين عِبَادَةَ النُّجُومِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَكَانَ قَوْمٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبَدُوا الشعري العبور وَفُتِنُوا بِهَا وَكَانَ أَبُو كَبْشَةَ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَنْسِبُونَ إِلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهَا وَقَالَ قَطَعَتِ السَّمَاءَ عَرْضًا وَلَمْ يَقْطَعِ السَّمَاءَ عَرْضًا غَيْرُهَا وَعَبَدَهَا وَخَالَفَ قُرَيْشًا فَلَمَّا بُعِثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ الأَوْثَانِ قَالُوا هَذَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَيْ شَبْهَهُ وَمِثْلَهُ فِي الْخِلافِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمَرْيَمَ يَا أُخْتَ هَارُونَ أَيْ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الصَّلاحِ وَهُمَا شَعْرَيَانِ إِحْدَاهُمَا هَذِهِ وَالشَّعْرَى الأُخْرَى هِيَ الْغُمَيْصَاءُ وَهِيَ تُقَابِلُهَا وَبَيْنَهَا الْمَجَرَّةُ وَالْغُمَيْصَاءُ فِي الذِّرَاعِ الْمَبْسُوطِ فِي جَبْهَةِ الأَسَدِ وَتِلْكَ فِي الْجَوْزَاءِ. وَزَيَّنَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لآخَرِينَ عِبَادَةَ الْمَلائِكَةِ وَقَالُوا هِيَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَزَيَّنَ لآخَرِينَ عِبَادَةَ الْخَيْلِ وَالْبَقَرِ وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ فَلِهَذَا صَاغَ عِجْلا وَجَاءَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْبُدُ تَيْسًا وَلَيْسَ فِي هَؤُلاءِ مَنْ أَعْمَلَ فِكْرَهُ وَلا اسْتَعْمَلَ عَقْلَهُ فِي تَدْبِيرِ مَا يَفْعَلُ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
ذكر تلبيسه على الجاهلية
ذكر تلبيسه عَلَى الجاهلية قال المصنف ذكرنا كيف لبس عليهم فِي عبادة الأصنام ومن أقبح تلبيسه عليهم فِي ذلك تقليد الآباء من غير نظر فِي دليل كَمَا قَالَ اللَّه عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} المعنى أتتبعونهم أيضا. وَقَدْ لبس إبليس عَلَى طائفة منهم فقالوا بمذاهب الدهرية وأنكروا الخالق وجحدوا البعث الذين قَالَ اللَّه سبحانه فيهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} وعلى آخرين منهم فأقروا بالخالق لكنهم جحدوا الرسل والبعث وعلى آخرين منهم فزعموا أن الملائكة بنات اللَّه وأمال آخرين منهم إِلَى مذهب اليهود وآخرين إِلَى مذهب المجوس وكان فِي بني تميم منهم زرارة بْن جديس التميمي وابنه حاجب. وممن كان يقر بالخالق والابتداء والإعادة والثواب والعقاب عَبْد المطلب ابْن هاشم وزيد بْن عمرو بْن نفيل وقس بْن ساعدة وعامر بْن الظرب وكان عَبْد المطلب إذا رأى ظالما لم تصبه عقوبة قَالَ تالله أن وراء هذه الدار لدارا يجزي فيها المحسن والمسيء ومنهم زهير بْن أبي سلمى وَهُوَ القائل: يؤخر فيوضع فِي كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أَوْ يعجل فينقم ثم أسلم ومنهم زيد الفوارس بْن حصن ومنهم القلمس بْن أمية الكناني كان يخطب بفناء الكعبة وكانت العرب لا تصدر عَنْ مواسمها حتى يعظها ويوصيها فَقَالَ يوما يا معشر العرب أطيعوني ترشدوا قالوا وما ذاك قَالَ إنكم تفردتم بآلهة شتى أني لأعلم مَا اللَّه بكل هَذَا راض وأن اللَّه رب هذه الآلهة وأنه ليحب أن يعبد وحده فتفرقت عنه العرب لذلك ولم يسمعوا مواعظه وكان فيهم قوم يقولون من مات فربطت عَلَى قبره دابته وتركت حتى تموت حشر عليها ومن لم يفعل ذلك حشر ماشيا وممن قاله عمرو بْن زيد الكلبي. قال المصنف وأكثر هؤلاء لم يزل عَن الشرك وإنما تمسك منهم بالتوحيد ورفض الأصنام القليل كقس بْن ساعدة وزيد وما زالت الجاهلية تبتدع البدع الكثيرة فمنها النسىء وَهُوَ تحريم الشهر الحرام وتحليل الشهر الحرام وذلك أن العرب كانت قد تمسكت من ملة إِبْرَاهِيم صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ بتحريم الأشهر الأربعة فَإِذَا احتاجوا إِلَى تحليل المحرم للحرب أخروا تحريمه إِلَى صفر ثم يحتاجون إِلَى صفر ثم كذلك حتى تتدافع السنة وإذا حجوا قالوا لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ومنها توريث الذكر دون
الأنثى ومنها أن أحدهم كان إذا مات ورث نكاح زوجته أقرب الناس إليه ومنها البحيرة وهي الناقة تلد خمسة أبطن فَإِن كان الخامس أنثى شقوا أذنها وحرمت عَلَى النساء والسائبة من الأنعام كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبنا والوصيلة الشاة تلد سبعة أبطن فَإِن كان السابع ذكرا أَوْ أنثى قالوا وصلت أخاها فلا تذبح وتكون منافعها للرجال دون النساء فَإِذَا ماتت أشترك فيها الرجال والنساء والحام الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم ولا يحمل عَلَيْهِ ثم يقولون أن اللَّه عز وجل أمرنا بهذا فذلك معنى قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ثم اللَّه عز وجل رد عليهم فيما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وفيما أحلوه بقولهم: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قال الله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} المعنى إن كان اللَّه تعالى حرم الذكرين فكل الذكور حرام وإن كان حرم الأنثيين فكل الإناث حرام وإن كان حرم مَا اشتملت عَلَيْهِ أرحام الأنثيين فإنها تشتمل عَلَى الذكور والإناث فيكون كل جنين حراما وزين لهم إبليس قتل أولادهم فالإنسان منهم يقتل ابنته ويغذو كلبه ومن جملة مَا لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء اللَّه مَا أشركنا أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ومشيئة اللَّه تعم الكائنات وأمره لا يعم مراداته فليس لأحد أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر ومذاهبهم السخيفة التي ابتعدوها كثيرا لا يصلح تضييع الزمان بذكرها ولا هي مما يحتاج إِلَى تكلف ردها.
ذكر تلبيس إبليس على جاحدي النبوات
ذكر تلبيس إبليس عَلَى جاحدي النبوات قَالَ المصنف: قد لبس إبليس عَلَى البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق مَا يصل من الإله وَقَد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم عَلَى مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط وقد حكى أَبُو مُحَمَّد النوبختي فِي كتاب الآراء والديانات أن قوما من الهند من البراهمة أثبتوا الخالق والرسل والجنة والنار وزعموا أن رسولهم ملك أتاهم فِي صورة البشر من غير كتاب لَهُ أربعة أيد واثنتا عشر رأسا من ذلك رأس إنسان ورأس أسد ورأس فرس ورأس فيل ورأس خنزير وغير ذلك من رؤوس الحيوانات وأنه أمرهم بتعظيم النار ونهاهم عَن القتل والذبائح إلا مَا كان للنار ونهاهم عَن الكذب وشرب الخمر وأباح لهم الزنا وأمرهم أن يعبدو البقر ومن ارتد منهم ثم رجع حلقوا رأسه ولحيته وحاجبيه وأشفار عينيه ثم يذهب فيسجد للبقر فِي هذيانات يضيع الزمان بذكرها.
قَالَ المصنف وَقَدْ ألقى إبليس إِلَى البراهمة ست شبهات. الشبهة الأولى: استبعاد اطلاع بعضهم عَلَى مَا خفي عَنْ بعض فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} والمعنى وَكَيْفَ أطلع عَلَى مَا خفي عنكم وجواب هذه الشبهة أنهم لو ناطقوا العقول لأجازت اختيار شخص بشخص لخصائص يعلو بِهَا جنسه فيصلح بتلك الخصائص لتلقف الوحي إذ ليس كل أحد يصلح لذلك وَقَدْ علم الكل أن اللَّه سبحانه وتعالى ركب الأمزجة متفاوتة وأخرج إِلَى الوجود أدوية تقاوم مَا يعرض من الفساد البدني فَإِذَا أمد النبات والأحجار بخواص لإصلاح أبدان خلقت للفناء ههنا وللبقاء فِي دار الآخرة لم يبعد أن يخص شخصا من خلقه بالحكمة البالغة والدعاية إليه إصلاحا لمن يفسد فِي العالم بسوء الأخلاق والأفعال ومعلوم أن المخالفين لا يستنكرون أن يختص أقوام بالحكمة ليسكنوا فورات الطباع الشريرة بالموعظة فكيف ينكرون أمداد الباري سبحانه بعض الناس برسائل ومصالح ووصايا يصلح بِهَا العالم ويطيب أخلاقهم ويقيم بِهَا سياستهم وَقَدْ أشار عز وجل إِلَى ذلك فِي قوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} . الشبهة الثانية: قالوا هلا أرسل ملكا فَإِن الملائكة إليه أقرب ومن الشك فيهم أبعد والآدميون يحبون الرياسة عَلَى جنسهم فيوقع هَذَا شكا وجواب هَذَا من ثَلاثَة أوجه أحدهما أن فِي قوى الملائكة قلب الجبال والصخور فلا يمكن إظهار معجزة تدل عَلَى صدقهم لأن المعجزة مَا خرقت العادة وهذه العادة الملائكة وإنما المعجزات الظاهرة مَا ظهرت عَلَى يد بِشْر ضعيف ليكون دليلا عَلَى صدقه والثاني أن الجنس إِلَى الجنس أميل فصح أن يرسل إليهم من جنسهم لئلا ينفروا وليعقلوا عنه ثم تخصيص ذلك الجنس بما عجز عنه دليل عَلَى صدقه والثالث أنه ليس فِي قوى البشر رؤية الملك وإنما اللَّه تعالى يقوي الأنبياء بما يرزقهم من إدراك الملائكة ولهذا قَالَ اللَّه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي لينظروا إليه ويأنسوا به ويفهموا عنه ثم قَالَ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي لخلطنا عليهم مَا يخلطون عَلَى أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي. الشبهة الثالثة: قالوا نرى مَا تدعيه الأنبياء من علم الغيب والمعجزات وما يلقى إليهم من الوحي يظهر جنسه عَلَى الكهنة والسحرة فلم يبق لنا دليل نفرق به بين الصحيح والفاسد والجواب أن نقول أن اللَّه تبارك وتعالى بين الحجج ثم بث الشبهة وكلف العقول الفرق فلا
يقدر ساحر أن يحيي ميتا ولا أن يخرج من عصا حيا وأما الكاهن فقد يصيب ويخطىء بخلاف النبوة التي لا خطأ فيها بوجه. الشبهة الرابعة: قالوا لا يخلوا مَا أن تجيء الأنبياء بما يوافق العقل أَوْ بما يخالفه فَإِن جاءوا بما يخالفه لم يقبل وإن جاءوا بما يوافقه فالعقل يغني عنه والجواب أن نقول قد ثبت أن كثيرا من الناس يعجزون عَنْ سياسات الدنيا حتى يحتاجون إِلَى متمم كالحكماء والسلاطين فكيف بأمور الإلهية والأخروية. الشبهة الخامسة: قالوا قد جاءت الشرائع بأشياء ينفر منها العقل فكيف يجوز أن تكون صحيحة من ذلك إيلام الحيوان والجواب أن العقل ينكر إيلام الحيوان بعضه لبعض فأما إذا حكم الخالق بالإيلام لم يبق للعقل اعتراض وبيان ذلك أن العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عَلَيْهِ هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه ومتى اشتبه علينا أمر فِي فرع لم يجز أن نحكم عَلَى الأصل بالبطلان ثم قد ظهرت حكمة ذلك فانا نعلم أن الحيوان يفضل عَلَى الجماد ثم الناطق أفضل مما ليس بناطق بما أوتي من الفهم والفطنة والقوى النظرية والعملية وحاجة هَذَا الناطق إِلَى إبقاء فهمه ولا يقوم فِي إبقاء القوى مقام اللحم شيء ولا يستطرف تناول القوي الضعيف وما فيه فائدة عظيمة لما قلت فائدته وإنما خلق الحيوان البهيم للحيوان الكريم فلو لم يذبح لكثر وضاق به المرعى ومات فيتأذى الحيوان الكريم بجيفته فلم يكن لإيجاده فائدة وأما ألم الذبح فانه يستر وَقَدْ قيل أنه لا يوجد أصلا لأن الحساس للألم أغشية الدماغ لأن فيه الأعضاء الحساسة ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أَوْ سكتة لم يحس الإنسان بألم فَإِذَا قطعت الأوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إِلَى محل الحس ولهذا قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته. الشبهة السادسة: قالوا ربما يكون أهل الشرائع قد ظفروا بخواص من حجارة وخشب والجواب أن هَذَا كلام ينبغي أن يستحي من إيراده فإنه لم يبق شيء من العقاقير والأحجار إلا وَقَدْ وضحت خواصها وبأن سترها فلو ظفر واحد منهم بشيء وأظهر خاصيته لوقع الإنكار من العلماء بتلك الخواص وقالوا ليس هَذَا منك إنما هذه خاصية فِي هَذَا ثم إن المعجزات ليست نوعا واحدا بل هي بين صخرة خرجت منها ناقة وعصا انقلبت حية وحجر تفجر عيونا وهذا القرآن
الذي لَهُ منذ نزل دون الستمائة سنة فالأسماع تدركه والأفكار تتدبره والتحدي به عَلَى الدوام ولم يقدر أحد عَلَى مداناة مِنْهُ فأين هَذَا والخاصة والسحر والشعبذة. قال أَبُو الوفاء عَلِيّ بْن عقيل رَضِيَ اللَّهُ عنه صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء ثم مَعَ ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا بل الجوامع تتدفق زحاما والآذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإقرار بما جاء به وإنفاق الأموال والأنفس فِي الحج مَعَ ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد فجعل بعضهم يندس فِي أهل النقل فيضع المفاسد عَلَى الأسانيد ويضع السير والأخبار وبعضهم يروي مَا يقارب المعجزات من ذكر خواص فِي أحجار وخوارق العادات فِي بعض البلاد وأخبار عَن الغيوب عَنْ كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ فِي تقرير ذلك حتى قالوا أن سطيحا قَالَ فِي الخبيء الذي خبىء لَهُ حبة بر فِي إحليل مهر والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه وههنا الْيَوْم معزمون يكلمون الجني الذي فِي باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات فمن رأى مثل هَذَا قَالَ بقلة عقلة وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل مَا جاءت به النبوات إلا مقارب هَذَا وليس قول الكاهن حبة بر فِي إحليل مهر وَقَدْ أخفيت كل الاخفاء بأكثر من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وهل بقي لهذا وقع فِي القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب الْيَوْم وهل ترك تلمح هَذَا إلا النبي1 وَاللَّه مَا قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا فقالوا تعالوا نكثر الجولان فِي البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مَعَ الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه فيصدق بِهَا الكل ويبطل أن يكون مَا جاء به الأنبياء خرقا للعادات ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بإنائه إِلَى دجلة فامتلأ ذهبا فصار هَذَا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين وبطريق العادات فِي حق المنجمين وبطريق الخواص فِي حق الطبايعين وبطريق الكهانة فِي حق المعزمين والعرافين فأي حكم بقي لقول عِيسَى عَلَيْهِ السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وأي خرق بقي للعادات وهذا العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول فَإِذَا نبههم العاقل المتدين عَلَى مَا فِي هَذَا من الفساد قَالَ الصوفي أتنكر كرامات الأولياء وقال أهل الخواص أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد والنعامة تبلع
النار فتسكت عَنْ جحد مَا لم يكن لأجل مَا كان فويل للمحق معهم هَذَا والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مَعَ أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى أن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من اللَّه عز وجل عَلَى حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال. فصل: الكلام عَنْ جاحدي النبوات ومن الهند البراهمة قوم قد حسن لهم إبليس أن يتقربوا بإحراق نفوسهم فيحفر للإنسان منهم أخدود وتجتمع الناس فيجيء مضمخا بالخلوق والطيب وتضرب المعازف والطبول والصنوج ويقولون طوبي لهذه النفس التي تعلق إِلَى الْجَنَّة ويقول هو ليكن هَذَا القربان مقبولا ويكون ثواب الْجَنَّة ثم يلقي نفسه فِي الأخدود فيحترق فَإِن هرب نابذوه ونفوه وتبرأوا مِنْهُ حتى يعود ومنهم من يحمي لَهُ الصخر فلا يزال يلزم صخرة صخرة حتى يثقب جوفه ويخرج معاه فيموت ومنهم من يقف قريبا من النار إِلَى أن يسيل ودكه فيسقط ومنهم من يقطع من ساقه وفخذه قطعا ويلقيها إِلَى النار والناس يزكونه ويمدحونه ويسألون مثل مرتبته حتى يموت ومنهم من يقف فِي أخثاء البقر إِلَى ساقه ويشعل النار فيحترق ومنهم من يعبد الماء ويقول هو حياة كل شيء فيسجد لَهُ ومنهم من يجهز لَهُ أخدود قريب من الماء فيقع فِي الأخدود حتى إذا التهب قَامَ فانغمس فِي الماء ثم رجع إِلَى الأخدود حتى يموت فَإِن مات وَهُوَ بينهما حزن أهله وقالوا حرم الْجَنَّة وإن مات فِي أحدهما شهدوا لَهُ بالجنة ومنهم من يزهق نفسه بالجوع والعطش فيسقط أولا عَن المشي ثم عَن الجلوس ثم ينقطع كلامه ثم تبطل حواسه ثم تبطل حركته ثم يخمد ومنهم من يهيم فِي الأَرْض حتى يموت ومنهم من يغرق نفسه فِي النهر ومنهم من لا يأتي النساء ولا يواري إِلَى العورة ولهم جبل شاهق تحته شجرة وعندها رجل بيده كتاب يقرأ فيه يَقُول طوبى لمن ارتقى هَذَا الجبل وبعج بطنه وأخرج أمعاءه بيده ومنهم من يأخذ الصخور فيرض بِهَا جسده حتى يموت والناس يقولون طوبى لك وعندهم نهران فيخرج أقوام من عبادهم يوم عيدهم وهناك رجال فيأخذون مَا عَلَى العباد من الثياب ويبطحونهم فيقطعونهم نصفين ثم يلقون أحد النصفين فِي نهر والنصف الآخر فِي نهر ويزعمون أنهما يجريان إِلَى الْجَنَّة ومنهم من يخرج إِلَى براح ومعه جماعة يدعون لَهُ ويهنئونه بنيته فَإِذَا أضجر جلس وجمع لَهُ سباع الطير من كل جهة فيتجرد من ثيابه ثم يمتد والناس ينظرون إليه فتبتدره الطير فتأكله فَإِذَا تفرقت الطير جاءت الْجَمَاعَة فأخذوا عظامه وأحرقوها وتبركوا بِهَا فِي أفعال طويلة قد ذكرها أَبُو مُحَمَّد النوبختي يضيع الزمان فِي كتابتها والعجب أن الهند قوم تؤخذ الحكمة عنهم ويؤخذ عنهم دقائق الحكمة وتلهم دقائق الأعمال
فسبحان من أعمى قلوبهم حتى قادهم إبليس هَذَا المقادم قَالَ وفيهم من زعم أن الْجَنَّة ثِنْتَانِ وثلاثون مرتبة وأن مكث أهل الْجَنَّة فِي أدنى مرتبة منها أربع مائة ألف سنة وثلاثة وثلاثون ألف سنة وستمائة وعشرون سنة وكل مرتبة أضعاف مَا دونها وأن النار اثنتان وثلاثون مرتبة منها ست عشر مرتبة فيها الزمهرير وصنوف عذابه. وست عشرة مرتبة فيها الحريق وصنوف عذابه
ذكر تلبيسه على اليهود
ذكر تلبيسه عَلَى اليهود قال المصنف: قد لبس عليهم فِي أشياء كثيرة نذكر منها نبذة ليستدل بِهَا عَلَى تلك فمن ذلك تشبيههم الخالق بالخلق ولو كان تشبيههم حقا لجاز عَلَيْهِ مَا يجوز عليهم وحكى أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن حامد من أصحابنا أن اليهود تزعم أن الإله المعبود رجل من نور عَلَى كرسي من نور عَلَى رأسه تاج من نور وله أعضاء كَمَا للآدميين ومن ذلك قولهم عزير بن الله ولو فهموا أن حقيقة البنوة لا تكون إلا بالتبعيض والخالق ليس بذي أبعاض لأنه ليس بمؤلف لم يثبتوا بنوة ثم أن الولد فِي معنى الوالد وَقَدْ كان عزير لا يقوم إلا بالطعام والإله من قامت به الأشياء لا من قَامَ بِهَا والذي دعاهم إِلَى هَذَا مَعَ جهلهم بالحقائق أنهم رأوه قد عاد بعد الموت وقرأ التوراة من حفظه فتكلموا بذلك من ظنونهم الفاسدة ويدل عَلَى أن القوم كانوا فِي بعد من الذهن انهم لما رأوا أثر القدرة فِي فرق البحر لهم ثم مروا عَلَى أصنام طلبوا مثلها فقالوا اجْعَلْ لَنَا آلهة كما لهم آلهة فلما زجرهم مُوسَى عَنْ ذلك بقي فِي نفوسهم فظهر المستور بعبادتهم العجل والذي حملهم عَلَى هَذَا شيئان أحدهما جهلهم بالخالق والثاني أنهم أرادوا مَا يَسْكُن إليه الحس لغلبة الحس عليهم وبعد العقل عنهم ولولا جهلهم بالمعبود ما اجترأوا عَلَيْهِ بالكلمات القبيحة كقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} تعالى اللَّه عَنْ ذلك علوا كبيرا. ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا لا يجوز نسخ الشرائع وَقَدْ علموا أن من دين آدم جواز نكاح الأخوات وذوات المحارم والعمل فِي يوم السبت ثم نسخ ذلك بشريعة مُوسَى قالوا إذا أمر اللَّه عز وجل بشيء كان حكمه فلا يجوز تغييره قلت قد يكون التغيير فِي بعض الأوقات حكمة فَإِن تقلب الآدمي من صحة إِلَى مرض ومن مرض إِلَى موت كله حكمة وَقَدْ حظر عليكم العمل يوم السبت وأطلق لكم العمل يوم الأحد وهذا من جنس مَا أنكرتم وَقَدْ أمر اللَّه عز وجل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السلام بذبح ابنه ثم نهاه عَنْ ذلك. ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} وهي الأيام التي عَبْد فيها
العجل وفضائحهم كثيرة ثم حملهم إبليس عَلَى العناد المحض فجحدوا مَا كان فِي كتابهم من صفة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيروا ذلك وَقَدْ أمروا أن يؤمنوا به ورضوا بعذاب الآخرة فعلماؤهم عاندوا وجهالهم قلدوا ثم العجب أنهم غيروا مَا أمروا به وحرفواودانوا بما يريدون فأين العبودية ممن يترك الأمر ويعمل بالهوى ثم أنهم كانوا يخالفون مُوسَى ويعيبونه حتى قالوا أنه آدر1 واتهموه بقتل هارون واتهموا داود بزوجة أوريا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي البزار نا الْحَسَن بْن عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيّ نا أَبُو عُمَر ابن حياة نا ابْنُ معروف نا الحارث بْن أبي أسامة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْد نا عَلِيّ بْن مُحَمَّد عَنْ عَلِيّ بْن مجاهد عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ عَنْ سالم مولى عَبْد اللَّهِ بْن مطيع عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ أتى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت المدارس2 فَقَالَ: "اخْرُجُوا إِلَيَّ أُعَلِّمْكُمْ" فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا فَخَلا بِهِ فَنَاشَدَهُ اللَّهَ بِدِينِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَطْعَمَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَظَلَّلَهُمْ بِهِ مِنَ الْغَمَامِ أَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ وَأَنَّ الْقَوْمَ لَيَعْرِفُونَ مَا أَعْرِفُ وَإِنَّ صِفَتَكَ وَنَعْتَكَ لَمُبَيَّنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُمْ حَسَدُوكَ قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْتَ" قَالَ أَكْرَهُ خِلافَ قَوْمِي وَعَسَى أَنْ يَتْبَعُوكَ وَيُسْلِمُوا فَأُسْلِمُ. أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْوَاحِد قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن حَمْدَان قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ ثنا يعقوب قَالَ ثنا أبي عَنِ ابْن إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي صالح بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن عوف عَنْ محمود بْن لبيد عَنْ سلمة بْن سلامة بْن وقش قَالَ كان لنا جار من اليهود فِي بني عَبْد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وقف عَلَى مجلس بني عَبْد الأشهل قَالَ سلمة وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا علي بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار فَقَالَ ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون بعثا كائنا بعد الموت فَقَالَ لَهُ ويحك يا فلان أترى هَذَا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إِلَى دار فيها جنة ونار يحزون فيها بأعمالهم قَالَ نعم والذي يحلف به يود أحدهم أن لَهُ لحظة من تلك النار بأعظم تنور فِي الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عَلَيْهِ وأن ينجو من تلك النار غدا قَالَ لَهُ ويحك وما آية ذلك قَالَ نبي مبعوث من نحو
هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن قالوا ومتى نراه قَالَ فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا أن يستنفذ هَذَا الغلام عمره يدركه قَالَ سلمة فوالله مَا ذهب الليل والنهار حتى بعث اللَّه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا فقلنا لَهُ ويلك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه مَا قلت قَالَ بلى ولكن ليس به.
ذكر تلبيسه على النصارى
ذكر تلبيسه عَلَى النصارى قال المصنف تلبيسه عليهم كثير فمن ذلك أن إبليس أوهمهم أن الخالق سبحانه جوهر فَقَالَ اليعقوبية أصحاب يعقوب والملكية أهل دين الملك والنسطورية أصحاب نسطورس أن اللَّه جوهر واحد أقانيم ثَلاثَة فهو واحد فِي الجوهرية ثَلاثَة فِي الأقنومية فأحد الأقانيم عندهم الأب والآخر الابن والآخر روح القدس فبعضهم يَقُول الأقاليم خواص وبعضهم يَقُول صفات وبعضهم يَقُول أشخاص وهؤلاء قد نسوا أنه لو كان الإله جوهرا لجاز عَلَيْهِ مَا يجوز عَلَى الجوهر من التحيز بمكان والتحرك والسكون والأوان ثم سول لبعضهم أن المسيح هو اللَّه قَالَ أَبُو مُحَمَّد النوبختي زعمت الملكية واليعقوبية أن الذي ولدته مريم هو الإله وسول الشَّيْطَان لبعضهم أن المسيح هو ابْن اللَّه وقال بعضهم المسيح جوهر ان أحدهما قديم والآخر محدث ومع قولهم هَذَا فِي المسيح يقرون بحاجته إِلَى الطعام ولا يختلفون فِي هَذَا وفي أنه صلب ولم يقدر عَلَى الدفع عَنْ نفسه ويقولون إنما فعل هَذَا بالناسوت فهلا دفع عَن الناسوت مَا فيه من اللاهوت ثم لبس عليهم أمر نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جحدوه بعد ذكره فِي الإنجيل ومن الكتابيين من يَقُول عَنْ نبينا أنه نبي إلا أنه مبعوث إِلَى العرب خاصة وهذا تلبيس من إبليس استغفلهم فيه لأنه متى ثبت أنه نبي فالنبي لا يكذب وَقَدْ قَالَ بعثت إِلَى الناس كافة وَقَدْ كتب إِلَى قيصر وكسرى وسائر ملوك الأعاجم.
ومن تلبيس إبليس على اليهود والنصارى
ومن تلبيس إبليس عَلَى اليهود والنصارى. أنهم قالوا لا يعذبنا اللَّه لأجل أسلافنا فمنا الأولياء والأنبياء فأَخْبَرَنَا اللَّه عز وجل عنهم بذلك نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأحباؤه أي منا ابنه عزيز وعيسى وكشف هَذَا التلبيس إن كان شخص مطالب بحق اللَّه عَلَيْهِ فلا يدفعه عنه ذو قرابته ولو تعدت المحبة شخصا إِلَى غيره لموضع القرابة لتعدي البعض وَقَدْ قَالَ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنته فاطمة لا أغني عنك من اللَّه شيئا وإنما فضل المحبوب
بالتقوى فمن عدمها عدم المحبة ثم أن محبة اللَّه عز وجل للعبد ليست بشغف كمحبة الآدميين بعضهم بعضا إذ لو كانت كذلك لكان الأمر يحتمل.
ذكر تلبيسه على الصابئين
ذكر تلبيسه عَلَى الصابئين قال المصنف أصل هذه الكلمة أعني الصابئين من قولهم صبأت إذا خرجت من شيء إِلَى شيء وصبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ به إذا خرج والصابئون الخارجون من دين إِلَى دين وللعلماء فِي مذاهبهم عشرة أقوال أحدها أنهم قوم بين النصارى والمجوس رواه سالم عَنْ سَعِيد بْن جبير وليث عَنْ مجاهد والثاني أنهم بين اليهود والمجوس رواه ابْن أبي نجيح عَنْ مجاهد والثالث أنهم بين اليهود والنصارى رواه القاسم بْن أبي بزة عَنْ مجاهد والرابع أنهم صنف من النصارى ألين قولا منهم رواه أَبُو صالح عَنِ ابْنِ عَبَّاس والخامس أنهم قوم من المشركين لا كتاب لهم رواه القاسم أيضا عَنْ مجاهد والسادس انهم كالمجوس قاله الْحَسَن والسابع أنهم فرقة من أهل الْكِتَاب يقرؤون الزبور قاله أَبُو العالية والثامن أنهم قوم يصلون إِلَى القبلة ويعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور قاله قتادة ومقاتل والتاسع أنهم طائفة من أهل الْكِتَاب قاله السدى والعاشر أنهم كانوا يقولون لا إله إلا اللَّه وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا اللَّه قاله ابْن زيد قَالَ المصنف هذه أقوال المفسرين مثل ابْن عَبَّاس والقاسم والحسن وغيرهم فأما المتكلمون فقالوا مذهب الصابئين مختلف فيه فمنهم من يَقُول أن هناك هيولي كان لم يزل ولم يزل يصنع العالم من ذلك الهيولي وقال أكثرهم العالم ليس بمحدث وسموا الكواكب ملائكة وسماها قوم منهم آلهة وعبدوها وبنوا لها بيوت عبادات وهم يدعون أن بيت اللَّه الحرام واحد منها وَهُوَ بيت زحل وزعم بعضهم أنه لا يوصف اللَّه عز وجل إلا بالنفي دون الإثبات ويقال ليس بمحدث ولا موات ولا جاهل ولا عاجز قالوا لئلا يقع تشبيه ولهم تعبدات فِي شرائع منها أنهم زعموا أن عليهم ثلاث صلوات فِي كل يوم أولها ثمان ركعات وثلاث سجدات فِي كل ركعة وانقضاء وقتها عند طلوع الشمس والثاني خمس ركعات والثالثة كذلك وعليهم صيام شهر أوله الثمان ليال يمضين من آذار وسبعة أيام أولها النسع يبقين من كانون الأَوَّل وسبعة أيام أولها الثمان ليال يمضين من شباط ويختمون صيامهم بالصدقة والذبائح وحرموا لحم الجزور فِي خرافات يضيع الزمان بذكرها وزعموا أن الأرواح الخيرة تصعد إِلَى الكواكب الثابتة وإلى الضياء وأن الشريرة تنزل إِلَى أسفل الأرضيين وإلى الظلمة وبعضهم يَقُول هَذَا
العالم لا يفنى وأن الثواب والعقاب فِي الناسخ ومثل هذه المذاهب لا يحتاج إِلَى تكلف فِي ردها إذ هي دعاو بلا دليل وَقَدْ حسن إبليس لأقوام من الصابئين أنهم رأوا الكمال فِي تحصيل مناسبة بينهم وبين الروحانيات العلوية باستعمال الطهارات وقوانين ودعوات واشتغلوا بالتنجيم والتسخير وقالوا لا بد من متوسط بين اللَّه وبين خلقه فِي تعريف المعارف والإرشاد للمصالح إلا أن ذلك المتوسط ينبغي أن يكون روحانيا لا جسمانيا قالوا فنحن نحصل لأنفسنا مناسبة قدسية بيننا وبينه فيكون ذلك وسيلة لنا إليه وهؤلاء لا ينكرون بعث الأجساد.
ذكر تلبيس إبليس على المجوس
ذكر تلبيس إبليس عَلَى المجوس قال يَحْيَى بْن بِشْر بْن عمير النهاوندي كان أول ملوك المجوس كومرث فجاءهم بدينهم ثم تتابع مدعو النبوة فيهم حتى اشتهر بِهَا زرادشت وكانوا يقولون أن اللَّه تعالى عَنْ ذلك شخص روحاني ظهر فظهرت معه الأشياء روحانية تامة فَقَالَ لا يتهيأ لغيري أن يبتدع مثل هذه التي ابتدعتها فتولد من فكرته هذه ظلمة إذ كان فيها جحود لقدرة غيره فقامت الظلمة تغالبه وكان مماسنه زرادشت عبادة النار والصلاة إِلَى الشمس يتأولون فيها أنها ملكة العالم وهي التي تأتي بالنهار وتذهب بالليل وتحيي النبات والحيوانات وترد الحرارات إِلَى أجسادها وكانوا لا يدفنون موتاهم فِي الأَرْض تعظيما لَهُ وقالوا لأن به حياة كل شيء إلا أن يستعملوا قبله بول البقر ونحوه ولا يبزقون فيه ولا يرون قتل الحيوانات ولا ذبحها وكانوا يغسلون وجوههم ببول البقر تبركا به وإذا كان عتيقا كان أكثر بركة ويستحلون فروج الأمهات قالوا الابن أحرى بتسكين شهوة أمه وإذا مات الزوج فابنه أولى بالمرأة فَإِن لم يكن لَهُ ابن اكترى رجلا من مال الميت ويجيزون للرجل أن يتزوج بمائة وألف وإذا أرادت الحائض أن تغتسل دفعت دينارا إِلَى الموبذ ويحملها إِلَى بيت النار ويقيمها عَلَى أربع وينظفها بسبابته وأظهر هَذَا الأمر مزدك فِي أيام قباذ وأباح النساء لكل من شاء ونكح نساء قباذ لتقتدي به العامة فيفعلون فِي النساء مثله فلما بلغ إِلَى أم أنو شروان قَالَ لقباذ أخرجها إلي فإنك إن منعتني شهوتي لم يتم إيمانك فهم بإخراجها فجعل أنو شروان يبكي بين يدي مزدك ويقبل رجله بين يدي أبيه قباذ ويسأله أن يهب لَهُ أمه فَقَالَ قباذ لمزدك ألست تزعم أن المؤمن لا ينبغي أن يرد عَنْ شهوته قَالَ بلى قَالَ فلم ترد أنو شروان عَنْ شهوته قَالَ قد وهبتها لَهُ ثم أطلق الناس فِي أكل الميتة فلما ولى أنو شروان أفنى المزدكية هو ومن أقوال المجوس أن الأَرْض لا نهاية لها من
أسفلها وأن السماء جلد من جلود الشياطين والرعد إنما هو حركة خرخرة العفاريت المحبوسة فِي الأفلاك المأسورة فِي حرب والجبال من عظامهم والبحر من أبوالهم ودمائهم ونبغ للمجوس رجل فِي زمان انتقال دولة بني أمية إِلَى بني العباس واستغوى خلقا وجرت لَهُ قصص يطول الأمر بذكرها فهو آخر من ظهر للمجوس وذكر بعض العلماء أنه كان للمجوس كتب يدرسونها وأنهم أحدثوا دينا فرفعت كتبهم. ومن أظرف تلبيس إبليس عليهم أنهم رأوا فِي الأفعال خيرا وشرا فسول لهم أن فاعل الخير لا يفعل الشر فأثبتوا إلهين وقالوا أحدهما نور حكيم لا يفعل إلا الخير والآخر شيطان هو ظلمة لا يفعل إلا الشر عَلَى نحو مَا ذكرنا عَنْ الثنوية. قال المصنف وَقَدْ سبق ذكر شبههم وجوابها وقال بعضهم الباري قديم فلا يكون مِنْهُ إلا الخير وَالشَّيْطَان محدث فلا يكون مِنْهُ إلا الشر فيقال لهم إذا أقررتم أن النور خلق الشَّيْطَان فقد خلق رأس الشر وزعم بعضهم أن الخالق هو النور ففكر فكرة رديئة فَقَالَ أخاف أن يحدث فِي ملكي من يضادني وكانت فكرته رديئة فحدث منها إبليس فرضي إبليس أن ينسب إِلَى الرداءة بعد إثبات أنه شريك وحكى النوبختي أن بعضهم قَالَ أن الخالق شك فِي شيء فكان الشَّيْطَان من ذلك الشك قَالَ وزعم بعضهم أن الإله وَالشَّيْطَان جسمان قديمان كان بينهما فضاء وكانت الدنيا سليمة من آفة وَالشَّيْطَان بمعزل عنها فاحتال إبليس حتى خرق السماء بجنوده فهرب الرب عز وجل من فعلتهم وتقدس عَنْ قولهم فاتبعه إبليس حتى حاصره وحاربه ثلاث آلاف سنة لا هو يصل إليه ولا الرب عز وجل يدفعه ثم يصالحه عَلَى أن يكون إبليس وجنوده فِي الدنيا سبعة آلاف سنة ورأى الرب أن الصلاح فِي احتمال مكروه إبليس إِلَى أن ينقضي الشرط فالناس فِي بلايا إِلَى انقضائه ثم يعودون إِلَى النعيم وشرط إبليس عَلَيْهِ أن يمكنه من أشياء رديئة فوضعها فِي هَذَا العالم وأنهما لما فرغا من شرطهما أشهدا عدلين ودفعا سيفيهما إِلَى العدلين وقالا من نكث فاقتلاه فِي هذيانات كثيرة يضيع الوقت لذكرها فتنكبناها لذلك ونذكر مَا انتهى تلبيس إبليس إليه مَا آثرنا ذكر شيء من هَذَا التخليط والعجب أنهم يجعلون الخالق خيرا ثم يجعلون أنه حدثت مِنْهُ فكرة رديئة فعلى قولهم يجوز أن تحدث من فكرة إبليس ملك ثم يقال لهم أيجوز أن يفي الشَّيْطَان بما ضمن فَإِن قالوا لا قيل لهم فلا يليق بالحكمة استبقاؤه وإن قالوا نعم فقد أقروا بوجود الوفاء المحمود من الشرير وَكَيْفَ أطاع الشَّيْطَان العدلين وَقَدْ عصى ربه وَكَيْفَ يجوز الافتيات عَلَى الإله وهذه الخرافات لولا التفرج فيما صنعه إبليس بالعقول مَا كان لذكرها فائدة ولا معنى.
ذكر تلبيس إبليس على المنجمين وأصحاب الفلك
ذكر تلبيس إبليس عَلَى المنجمين وأصحاب الفلك قال أَبُو مُحَمَّد النوبختي ذهب قوم إِلَى أن الفلك قديم لا صانع لَهُ وحكى جالينوس عَنْ قوم أنهم قالوا زحل وحده قديم وزعم قوم أن الفلك طبيعة خالصة ليست فيها حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة وليس بخفيف ولا ثقيل وكان بعضهم يرى أن الفلك جوهر ناري وأنه أختطف من الأَرْض بقوة دورانه وقال بعضهم الكواكب من جسم تشابه الحجارة وقال بعضهم هي من غيم تطفأ كل يوم وتستنير بالليل مثل الفحم يشتعل وينطفيء وقال بعضهم جسم القمر مركب من نار وهوى وقال آخرون الفلك من الماء والريح والنار وأنه بمنزلة الكرة وأنه يتحرك بحركتين من المشرق إِلَى المغرب ومن المغرب إِلَى المشرق قالوا وزحل يدور الفلك فِي نحو من ثلاثين سنة والمشتري فِي نحو من اثنتي عشرة سنة والمريخ فِي نحو سنتين والشمس والزهرة وعطارد فِي سنة والقمر فِي ثلاثين يوما وقال بعضهم أفلاك الكواكب سبعة فالذي يلينا فلك القمر ثم فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس ثم فلك المريخ ثم فلك المشتري ثم فلك زحل ثم فلك الكواكب الثابتة واختلفوا فِي مقادير أجرام الكواكب فَقَالَ أكثر الفلاسفة أعظمها جرما الشمس وَهُوَ نحو من مائة وست وستين مرة مثل الأَرْض والكواكب الثابتة مقدار كل واحد منها نحو من أربعة وتسعين مرة مثل الأَرْض والمشتري نحو من اثنتين وثمانين مرة مثل الأَرْض والمريخ نحو من مرة ونصف مثل الأَرْض قالوا ومن كل موضع من أعلى الفلك إِلَى أن يعود إليه مائة ألف فرسخ وألف فرسخ وأربعة وستون فرسخا وقال بعضهم الفلك حي والسماء حيوان وفي كل كوكب نفس قَالَ قدماء الفلاسفة النجوم تفعل الخير والشر وتعطي وتمنع عَلَى حسب طبائعها من السعود والنحوس وتؤثر فِي النفوس وأنها حية فعالة.
ذكر تلبيس إبليس على جاحدي البعث
ذكر تلبيس إبليس عَلَى جاحدي البعث قال المصنف قد لبس عَلَى خلق كثير فجحدوا البعث واستهولوا الإعادة بعد البلاء وأقام لهم شبهتين إحداهما أنه أراهم ضعف المادة والثانية اختلاط الأجزاء المتفرقة فِي أعماق الأَرْض قالوا وَقَدْ يأكل الحيوان الحيوان فكيف يتهيأ إعادته وقد حكى القرآن شبهتهم فَقَالَ تعالى فِي الأولى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} .
وقال في الثانية: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا كان مذهب أكثر الجاهلية قَالَ قائلهم: يخبرنا الرسول بأن سنحيى ... وَكَيْفَ حياة أصداء وهام وقال آخر: هو أَبُو العلاء المعري: حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو والجواب عَنْ شبهتهم الأولى أن ضعف المادة فِي الثاني وَهُوَ التراب يدفعه كون البداية من نطفة ومضغة وعلقة ثم أصل الآدميين وَهُوَ آدم من تراب عَلَى أن اللَّه سبحانه تعالى لم يخلق شيئا مستحسنا إلا من مادة سخيفة فإنه أخرج هذا الآدمي من نطفة والطاووس من البيضة المدرة والطرفة الخضراء من الحبة العفنة فالنظر ينبغي أن يكون إِلَى قوة الفاعل وقدرته لا إِلَى ضعف المواد وبالنظر إِلَى قدرته يحصل جواب الشبهة الثانية ثم قد أرانا كالأنموذج فِي جمع التمزق فان سحالة1 الذهب المتفرقة فِي التراب الكثير إذا ألقى عليها قليل من زئبق أجتمع الذهب مَعَ تبدده فكيف بالقدرة الإلهية التي من تأثيرها خلق كل شيء لا من شيء عَلَى أنا لو قدرنا أن نحيل هَذَا التراب مَا استحالت إليه الأبدان لم يصر بنفسه لأن الآدمي بنفسه لا ببدنه فإنه ينحل ويسمن ويهزل ويتغير من صغر إِلَى كبر وَهُوَ هو ومن أعجب الأدلة عَلَى البعث أن اللَّه عز وجل قد أظهر عَلَى يدي أنبيائه مَا هو أعظم من البعث وَهُوَ قلب العصا حية حيوانا وأخرج ناقة من صخرة وأظهر حقيقة البعث عَلَى يدي عِيسَى صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ قَالَ المصنف وَقَدْ زدنا هَذَا شرحا فِي الرد على الفلاسفة. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى أقوام شاهدوا قدرة الخالق سبحانه وتعالى ثم اعترضت لهم الشبهتان اللتان ذكرناهما فترددوا فِي البعث فَقَالَ قائلهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} وقال العاص بْن وائل: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} وإنما قالوا هَذَا لموضع شكهم وَقَدْ لبس إبليس عليهم فِي ذلك فقالوا إن كان بعث فنحن عَلَى خير لأن من أنعم علينا فِي الدنيا بالمال لا يمنعناه في الآخرة.
قال المصنف وهذا غلط منهم لأنه لم لا يجوز أن يكون الإعطاء استدراجا أَوْ عقوبة والإنسان قد يحمي ولده ويطلق فِي الشهوات عبده.
ذكر تلبيسه على القائلين بالتناسخ
ذكر تلبيسه عَلَى القائلين بالتناسخ قال المصنف: وَقَدْ لبس إبليس عَلَى أقوام فقالوا بالتناسخ وأن أرواح أهل الخير إذا خرجت دخلت فِي أبدان خيرة فاستراحت وأرواح أهل الشر إذا خرجت تدخل فِي أبدان شريرة فيتحمل عليها المشاق وهذا المذهب ظهر فِي زمان فرعون مُوسَى وذكر أَبُو القاسم البلخي أن أرباب التناسخ لما رأوا ألم الأطفال والسباع والبهائم استحال عندهم أن يكون ألمها يمتحن به غيرها أَوْ ليتعوض أولا لمعنى أكثر من أنها مملوكة فصح عندهم أن ذلك لذنوب سلفت منها قبل تلك الحال وذكر يَحْيَى بْن بِشْر بْن عمير النهاوندي أن الهند يقولون الطبائع أربع هيولي مركبة ونفس وعقل وهيولي مرسلة فالمركبة هي الرب الأصغر والنفس هي الهيولي الأصغر والعقل الرب الأكبر والهيولي هو أيضا أكبر وأن الأنفس إذا فارقت الدنيا صارت إِلَى الرب الأصغر وَهُوَ الهيولي المركبة فَإِن كانت محسنة صافية قبلها فِي طبعه فصفاها حتى يخرجها إِلَى الهيولي الأصغر وَهُوَ النفس حتى تصير إِلَى الرب الأكبر فيتخلصه إِلَى الهيولي المركب الأكبر فَإِن كان محسنا تام الإحسان أقام عنده فِي العالم البسيط وإن كان محسنا غير تام أعاه إِلَى الرب الأكبر ثم يعيده الرب الأكبر إِلَى الهيولي الأصغر ثم يعيده الهيولي الأصغر إِلَى الرب الأصغر فيخرجه مازحا لشعاع الشمس حتى ينتهي إِلَى بقلة خسيسة يأكلها الإنسان فيتحول إنسانا ويولد ثانية فِي العالم وهكذا تكون حاله فِي كل موتة يموتها وأما المسيئون فإنهم إذا بلغت نفوسهم إِلَى الهيولي الأصغر انعكست فصارت حشائش تأكلها البهائم فتصير الروح فِي بهيمة ثم تنسخ من بهيمة فِي أخرى عند موت تلك البهيمة فلا يزال منسوخا مترددا فِي العلل ويعود كل ألف سنة إِلَى صورة الأنس فَإِن أحسن فِي صورة الأنس لحق بالمحسنين. قال المصنف: قلت فأنظر إِلَى هذه التلبيسات التي رتبها لهم إبليس عَلَى مَا عَنْ لَهُ لا يستند إِلَى شي أنبأنا مُحَمَّد بْن أبي طاهر البزار قَالَ أَنْبَأَنَا عَلِيّ بْن المحسن عَنْ أبيه قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْن نظيف المتكلم قَالَ كان يحضر معنا ببغداد شيخ الإمامية يعرف بأبي بَكْر بْن الفلاس فحَدَّثَنَا أنه دخل عَلَى بعض من كان يعرفه بالتشيع ثم صار يَقُول بمذهب التناسخ قَالَ فوجدته بين يديه سنور أسود وَهُوَ يمسحها ويحك بين عينيها ورأيتها وعينها تدمع كَمَا جرت عادة السنانير
بذلك وَهُوَ يبكي بكاءا شديدا فقلت لَهُ لم تبك فَقَالَ ويحك أما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها هذه أمي لا شك وإنما تبكي من رؤيتها إلي حسرة قَالَ وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم مِنْهُ وجعلت السنور تصيح قليلا قليلا فقلت لَهُ فهي تفهم عنك مَا تخاطبها به فَقَالَ نعم فقلت أتفهم أنت صياحها قَالَ لا قلت فأنت المنسوخ وهي الإنسان.
ذكر تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد والديانات
ذكر تلبيس إبليس عَلَى أمتنا فِي العقائد والديانات قال المصنف: دخل إبليس عَلَى هذه الأمة فِي عقائدها من طريقين أحدهما التقليد للآباء والأسلاف والثاني الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائض عَن الوصول إِلَى عمقه فأوقع أصحاب هَذَا القسم فِي فنون من التخليط فأما الطريق الأَوَّل فَإِن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم وَقَدْ ضل فِي هَذَا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا وكذلك أهل الجاهلية واعلم أن العلة التي بِهَا مدحوا التقليد بِهَا يذم لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع فِي ضلال وقد ذم اللَّه سبحانه وتعالى الواقفين مَعَ تقليد آبائهم وأسلافهم فَقَالَ عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} المعنى أتتبعونهم وَقَدْ قَالَ عز وجل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} . قال المصنف: أعلم أن المقلد عَلَى غير ثقة فيما قلد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بِهَا أن يطفئها ويمشي فِي الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم فِي قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قَالَ وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إِلَى القول لا إِلَى القائل كَمَا قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عنه للحرث بْن حوط وَقَدْ قَالَ لَهُ أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا عَلَى باطل فَقَالَ لَهُ يا حارث إِنَّهُ ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال أعرف الحق تعرف أهله وكان أَحْمَد بْن حنبل يَقُول من ضيق علم الرَّجُل أن يقلد فِي اعتقاده رجلا ولهذا أخذ أَحْمَد بْن حنبل يَقُول زيد فِي الجد وترك قول أبي بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عنه فَإِن قَالَ قائل فالعوام لا يعرفون الدليل فكيف لا يقلدون فالجواب إن دليل الاعتقاد ظاهر عَلَى مَا أشرنا إليه فِي ذكر الدهرية ومثل ذلك لا يخفى عَلَى عاقل وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها واعتاص عَلَى العامي عرفانها وقرب لها أمر الخطأ فيها كان
أصلح مَا يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سبر ونظر إلا أن اجتهاد العامي فِي اختيار من يقلده. قال المصنف: وأما الطريق الثاني فَإِن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم فِي التقليد وساقهم سوق البهائم ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم عَلَى قدر تمكنه منهم فمنهم من قبح عنده الجمود عَلَى التقليد وأمره بالنظر ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مَعَ ظواهر الشرائع عجز فساقهم إِلَى مذهب الفلاسفة ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عَن الإسلام وَقَدْ سبق ذكرهم فِي الرد عَلَى الفلاسفة ومن هؤلاء من حسن لَهُ أن لا يعتقد إلا مَا أدركته حواسه فيقال لهؤلاء بالحواس علمتم صحة قولكم فَإِن قالوا نعم كابروا لأن حواسنا لم تدرك مَا قالوا إذ مَا يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف وإن قالوا بغير الحواس ناقضوا قولهم ومنهم من نفره إبليس عَن التقليد وحسن لَهُ الخوض فِي علم الكلام والنظر فِي أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عَنْ غمار العوام وَقَدْ تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إِلَى الشكوك وببعضهم إِلَى الإلحاد ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عَن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عَن الخوض فيه حتى قَالَ الشافعي رحمه اللَّه لان يبتلى العبد بكل مَا نهى اللَّه عنه مَا عدا الشرك خير لَهُ من أن ينظر فِي الكلام قَالَ وإذا سمعت الرَّجُل يَقُول الاسم هو المسمى أَوْ غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين لَهُ قَالَ وحكمي فِي علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم فِي العشائر والقبائل ويقال هَذَا جزاء من ترك الْكِتَاب والسنة وأخذ فِي الكلام وقال أَحْمَد بْن حنبل لا يفلح صاحب كلام أبدا علماء الكلام زنادقة. قال المصنف: قلت وَكَيْفَ لا يذم الكلام وَقَدْ أفضى بالمعتزلة إِلَى أنهم قالوا إن اللَّه عز وجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها وقال جهم بْن صفوان علم اللَّه وقدرته وحياته محدثة وقال أَبُو مُحَمَّد النوبختي عَنْ جهم أنه قَالَ إن اللَّه عز وجل ليس بشيء وقال أَبُو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين المعدوم شيء وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر عَلَى جعل الذات ذاتا ولا العرض عرضا ولا الجوهر جوهرا وإنما هو قادر عَلَى إخراج الذات من العدم إِلَى الوجود وحكى القاضي أَبُو يَعْلَى فِي كتاب المقتبس قَالَ قَالَ لي العلاف المعتزلي لنعيم أهل الْجَنَّة وعذاب أهل النار أمر لا يوصف اللَّه بالقدرة عَلَى دفعه ولا تصح الرغبة حينئذ إليه ولا الرهبة مِنْهُ لأنه لا يقدر إذ ذاك عَلَى خير ولا شر ولا نفع ولا ضر.
قَالَ ويبقى أهل الْجَنَّة جمودا سكوتا لا يفضون بكلمة ولا يتحركون ولا يقدرون هم ولا ربهم عَلَى فعل شيء من ذلك لأن الحوادث كلها لا بد لها من آخر تنتهي إليه لا يكون بعده شيء تعالى اللَّه عَنْ ذلك علوا كبيرا. قال المصنف: قلت وذكر أَبُو القاسم عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْن مُحَمَّد البلخي فِي كتاب المقالات إن أبا الهذيل اسمه مُحَمَّد بْن الهذيل العلاف وَهُوَ من أهل البصرة من عَبْد القيس مولى لهم وانفرد بأن قَالَ أهل الْجَنَّة تنقضي حركاتهم فيصيرون إِلَى سكون دائم وإن لما يقدر اللَّه عَلَيْهِ نهاية لو خرج إِلَى الفعل ولن يخرج استحال أن يوصف اللَّه عز وجل بالقدرة عَلَى غيره وكان يَقُول إن علم اللَّه هو اللَّه وإن قدرة اللَّه هي اللَّه وقال أَبُو هاشم من تاب عَنْ كل شيء إلا أنه شرب جرعة من خمر فإنه يعذب عذاب أهل الكفر أبدا وقال النظام إن اللَّه عز وجل لا يقدر عَلَى شيء من الشر وإن إبليس يقدر عَلَى الخير والشر وقال هشام القوطي أن اللَّه لا يوصف بأنه عالم لم يزل وقال بعض المعتزلة يجوز عَلَى اللَّه سبحانه وتعالى الكذب إلا أنه لم يقع مِنْهُ وقالت المجيرة لا قدر للآدمي بل هو كالجماد مسلوب الاختيار والفعل وقالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا وخالفوا الأحاديث الصحاح فِي إخراج الموحدين من النار قَالَ ابْن عقيل مَا أشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقا فَإِن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء فالمرجئة لما لم يمكنهم جحد الصانع لما فيه من نفور الناس ومخالفة العقل أسقطوا فائدة الإثبات وهي الخشية والمراقبة وهدموا سياسة الشرع فهم شر طائفة عَلَى الإسلام. قال المصنف: قلت وتبع أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن كرام فاختار من المذاهب أردأها ومن الأحاديث أضعفها ومال إِلَى التشبيه وأجاز حلول الحوادث فِي ذات الباري سبحانه وتعالى وقال إن اللَّه لا يقدر عَلَى إعادة الأجسام والجواهر إنما يقدر عَلَى ابتدائها قالت السالمية إن اللَّه عز وجل يتجلى يوم القيامة لكل شيء فِي معنا فيراه الآدمي آدميا والجني جنيا وقالوا اللَّه سر لو أظهره لبطل التدبير. قال المصنف: قلت أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة وَقَدْ زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة من رتبوه وهؤلاء عَلَى خطأ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين ودرجة الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس عَلَى
ذلك وَقَدْ ورد ذم الكلام عَلَى مَا قد أشرنا إليه وَقَدْ نقل إلينا أقلاع منطقي المتكلمين عما كانوا عَلَيْهِ لما رأوا من قبح غوائله. فأَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا أَبُو منصور مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن الْعَزِيز البزار ثنا صالح الوفاة بْن أَحْمَدَ بْن مُحَمَّد الْحَافِظ ثنا أَحْمَد بْن عُبَيْد بْن إِبْرَاهِيم ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن سُلَيْمَان بْن الأشعت قَالَ سمعت أَحْمَد بْن سنان قَالَ كان الوليد بْن أبان الكرابيسي خالي فلما حضرته الوفاة قَالَ لبنيه تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني قالوا لا قَالَ فتتهمونني قالوا لا قَالَ فإني أوصيكم أتقبلون قالوا نعم قَالَ عليكم بما عَلَيْهِ أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم وكان أَبُو المعالي الجويني يَقُول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت فِي الذي نهوا عنه كل ذلك فِي طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عَن الكل إِلَى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فَإِن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت عَلَى دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني وكان يَقُول لأصحابه يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي مَا بلغ مَا تشاغلت به وقال أَبُو الوفاء بْن عقيل لبعض أصحابه أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض فَإِن رضيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بَكْر وعمر فبئس مَا رأيت قَالَ وَقَدْ أفضى الكلام بأهله إِلَى الشكوك وكثير منهم إِلَى الإلحاد تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين وأصل ذلك أنهم مَا قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس فِي قوة العقل إدراك مَا عند اللَّه من الحكمة التي أنفرد بِهَا ولا أخرج الباري من علمه لخلقه مَا علمه هو من حقائق الأمور قَالَ وَقَدْ بالغت فِي الأَوَّل طول عمري ثم عدت القهقري إِلَى مذهب الكتب وإنما قالوا إن مذهب العجائز أسلم لأنهم لما انتهوا إِلَى غاية التدقيق فِي النظر لم يشهدوا مَا ينفي العقل من التعليلات والتأويلات فوقفوا مَعَ مراسم الشرع وجنحوا عَن القول بالتعليل وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم وبيان هَذَا أن نقول أحب أن يعرف أراد أن يذكر فيقول قائل هل شغف باتصال النفع هل دعاه داع إِلَى إفاضة الإحسان ومعلوم أن للداعي عوارض عَلَى الذات وتطلبات من النفس وما تعقل ذلك إلا الذات يدخل عليها داخل من شوق إِلَى تحصيل مَا لم يكن لها وهي إليه محتاجة فَإِذَا وجد ذلك العرض سكن الشغف وفتر الداعي وذلك الحاصل يسمى غني والقديم لم يزل موصوفا بالغني منعوتا بالاستقلال بذاته الغنية عَن استزادة أَوْ عارض ثم إذا نظرنا فِي إنعامه رأيناه مشحونا بالنقص
والآلام وأذى الحيوانات فَإِذَا رام العقل أن يعلل بالإنعام جاء تحقيق النظر فرأى أن الفاعل قادر عَلَى الصفاء ولا صفاء ورآه منزها بأدلة العقل عَن البخل الموجب لمنع مَا يقدر عَلَى تحصيله وعن العجز عَنْ دفع مَا يعرض لهذه الموجودات من الفساد فَإِذَا عجز عَن التعليل كان التسليم أولى وإنما دخل الفساد من أن الخلق اقتضاؤه الفوائد ودفع المضار عَلَى مقتضى قدرته ولو مزجوا فِي ذلك العلم بأنه الحكيم لاقتضت نفوسهم لَهُ التسليم بحسب حكمته فعاشوا فِي بَحْبُوحَة التفويض بلا اعتراض. فصل: وقد وقف أقوام مَعَ الظواهر فحملوها عَلَى مقتضى الحس فَقَالَ بعضهم إن اللَّه جسم تعالى اللَّه عَنْ ذلك وهذا مذهب هشام بْن الحكم وعلي بْن منصور ومحمد بْن الخليل ويونس بْن عَبْدِ الرَّحْمَن ثم اختلفوا فَقَالَ بعضهم جسم كالأجسام ومنهم من قَالَ لا كالأجسام ثم اختلفوا فمنهم من قَالَ هو نور ومنهم من قَالَ هو عَلَى هيئة السبيكة البيضاء هكذا كان يَقُول هشام بْن الحكم وكان يَقُول إن إله سبعة أشبار بشبر نفسه تعالى اللَّه عَنْ ذلك علوا كبيرا وأنه يرى مَا تحت الثرى بشعاع متصل مِنْهُ بالمرئي قلت مَا أعجب إلا من حدة سبعة أشبار حتى علمت أنه جعله كالأدميين والآدمي طوله سبعة أشبار بشبر نفسه وذكر أَبُو مُحَمَّد النوبختي عَن الجاحظ عَن النظام أن هشام بْن عَبْدِ الحكم قَالَ فِي التشبيه فِي سنة واحدة خمسة أقاويل قطع فِي آخرها أن معبودة أشبر نفسه سبعة أشبار فان قوما قالوا أنه عَلَى هيئة السبيكة وأن قوما قالوا هو عَلَى هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها عَلَى هيئة واحدة وقال هشام هو متناهي الذات حتى قَالَ إن الجبل أكبر مِنْهُ قَالَ وله ماهية يعلمها هو. قَالَ المصنف: وهذا يلزمه أن يكون لَهُ كيفية أيضا وذلك ينقض القول بالتوحيد وَقَد استقرأه الماهية لا تكون إلا لمن كان ذا جنس وله نظائر فيحتاج أن يفرد منها ويبان عنها والحق سبحانه ليس بذي جنس ولا مثل لَهُ ولا يجوز أن يوصف بأن ذاته أرادته ومتناهية لا عَلَى معنى أنه ذاهب فِي الجهات بلا نهاية إنما المراد أنه ليس بجسم ولا جوهر فتلزمه النهاية قَالَ النوبختي وَقَدْ حكى كثير من المتكلمين أن مقاتل بْن سُلَيْمَان ونعيم بْن حماد وداود الحواري يقولون إن لله صورة وأعضاء. قال المصنف: أترى هؤلاء كيف يثبتون لَهُ القدم دون الآدميين ولم لا يجوز عَلَيْهِ عندهم مَا يجوز عَلَى الآدميين من مرض أَوْ تلف ثم يقال لكل من ادعى التجسيم بأي دليل أثبت حدث الأجسام فيدلك بذلك عَلَى أن الاله هو الذي اعتقدته جسما محدثا غير قديم ومن قول المجسمة
أن اللَّه عز وجل يجوز أن يمس ويلمس فيقال لَهُ فيجوز عَلَى قولكم أن يمس ويلمس ويعانق وقال بعضهم أنه جسم هو فضاء والأجسام كلها فيه وكان بيان بْن سمعان يزعم أن معبوده نور كله وأنه عَلَى صورة رجل وأنه يهلك جميع أعضائه إلا وجهه فقتله خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ وكان المغيرة بْن سَعْد العجلي يزعم أن معبوده رجل من نور عَلَى رأسه تاج من نور وله أعضاء وقلب تنبع مِنْهُ الحكمة وأعضاؤه عَلَى صورة حروف الهجاء. وكان هَذَا يَقُول بإمامة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْن الْحَسَن وكان زرارة ابْن أعين يَقُول لم يكن الباري قادرا حيا عالما فِي الأزل حتى خلق لنفسه هذه الصفات تعالى اللَّه عَنْ ذلك وقال داود الحوارى هو جسم لحم ودم وله جوارح وأعضاء وَهُوَ أجوف من فمه إِلَى صدره ومصمت مَا سوى ذلك ومن الواقفين مَعَ الحس أقوام قالوا هو عَلَى العرش بذاته عَلَى وجه المماسة فَإِذَا نزل انتقل وتحرك وجعلوا لذاته نهاية وهؤلاء قد أوجبوا عَلَيْهِ المساحة والمقدار واستدلوا عَلَى أنه عَلَى العرش بذاته بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ينزل اللَّه إِلَى سماء الدنيا" قالوا ولا ينزل إلا من هو فوق وهؤلاء حملوا نزوله عَلَى الأمر الحسي الذي يوصف به الأجسام وهؤلاء المشبهة الذين حملوا الصفات عَلَى مقتضى الحس وَقَدْ ذكرنا جمهور كلامهم فِي كتابنا المسمى بمنهاج الوصول إِلَى علم الأصول وربما تخيل بعض المشبهة فِي رؤية الحق يوم القيامة لما يراه فِي الأشخاص فيمثله شخصا يَزِيد حسنه عَلَى كل حسن فتراه يتنفس من الشقوق إليه ويمثل الزيادة فيزداد توقع ويتصور رفع الحجاب فيقلق ويتذكر الرؤية فيغشى عَلَيْهِ ويسمع فِي الحديث أنه يدني عبده المؤمن إليه فيخايل القرب الذاتي كَمَا يجالس الجنس وهذا كله جهل بالموصوف ومن الناس من يَقُول لله وجه هو صفة زائدة عَلَى صفة ذاته لقوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وله يد وله أصبع لقول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يضع السموات عَلَى أصبع" وله قدم إِلَى غير ذلك مما تضمنته الأخبار وهذا كله إنما استخرجوه من مفهوم الحس وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها وما يؤمن هؤلاء أن يكون المراد بالوجه الذات لا أنه صفة زائدة وعلى هَذَا فسر الآية المحققون فقالوا ويبقى ربك وقالوا فِي قوله يُرِيدُونَ وجهه يريدونه وما يؤمنهم أن يكون أراد بقوله قلوب العباد بين إصبعين أن الأصبع لما كانت هي المقبلة للشيء وأن مَا بين الإصبعين يتصرف فيه صاحبها كيف شاء ذكر ذلك لا أن ثم صفة زائدة. قال المصنف: والذي أراه السكوت عَلَى هَذَا التفسير أيضا إلا أنه يجوز أن يكون مرادا ولا يجوز أن يكون ثم ذات تقبل التجزىء والانقسام ومن أعجب أحوال الظاهرية قول السالمية أن
الميت يأكل فِي القبر ويشرب وينكح لأنهم سمعوا بنعيم ولم يعرفوا من النعيم إلا هَذَا ولو قنعوا بما ورد فِي الآثار من أن أرواح المؤمنين وتجعل فِي حواصل طير تأكل من شجر الْجَنَّة لسلموا لكنهم أضافوا ذلك إِلَى الجسد قال ابْن عقيل ولهذا المذهب مرض يضاهي الاستشعار الواقع للجاهلية وما كانوا يقولونه فِي الهام والصدا والمكالمة لهؤلاء ينبغي أن تكون عَلَى سبيل المداراة لاستشعارهم لا عَلَى وجه المناظرة فَإِن المقاومة تفسدهم وإنما لبس إبليس عَلَى هؤلاء لتركهم البحث عَن التأويل المطابق لأدلة الشرع والعقل فإنه لما ورد النعيم والعذاب للميت علم أن الإضافة حصلت إِلَى الأجساد والقبور تعريفا كأنه يَقُول صاحب هَذَا القبر الروح التي كانت فِي هَذَا الجسد منعمة بنعيم الجنة معذبة بعذاب النار. فصل: قال المصنف: فان قَالَ قائل قد عبت طريق المقلدين فِي الأصول وطريق المتكلمين فما الطريق السليم من تلبيس إبليس فالجواب أنه مَا كان عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته عَلَى مَا وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس فِي قوة البشر إدراكه وأن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق قَالَ علي كرم اللَّه وجهه وَاللَّه مَا حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن وأنه المسموع قوله عز وجل: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وأنه فِي المصاحف لقوله عز وجل: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} ولا نتعدى مضمون الآيات ولا نتكلم فِي ذلك برأينا وَقَدْ كان أَحْمَد بْن حنبل ينهي أن يَقُول الرَّجُل لفظي بالقرآن مخلوق أَوْ غير مخلوق لئلا يخرج عَن الاتباع للسلف إِلَى حدث. والعجب ممن يدعي اتباع هَذَا الإمام ثم يتكلم فِي المسائل المحدثة أَخْبَرَنَا سَعْد اللَّه بْن عَلِيٍّ البزار نا أَبُو بَكْر الطُّرَيْثِيثِيّ نا هِبَة اللَّهِ بْن الْحَسَنِ الطَّبَرِيّ نا أَبُو حامد أَحْمَد بْن أبي طاهر الفقيه نا عُمَر بْن أَحْمَدَ الواعظ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ هرون الحضرمي ثنا القاسم بْن العباس الشَّيْبَانِي ثنا سفيان بْن عيينة عَنْ عمرو بْن دِينَار قَالَ أدركت تسعة من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وقال مالك بْن أنس من قَالَ القرآن مخلوق فيستتاب فَإِن تاب وإلا ضربت عنقه. أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ بْن عَلِيٍّ البزار نا أَحْمَد بْن عَلِيٍّ الطريثي نا هِبَة اللَّهِ الطَّبَرِيّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ القاسم ثنا أَحْمَد بْن عثمان ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ماهان ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مهدي عَنْ سفيان عَنْ جَعْفَر بْن برقان أن عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز قَالَ لرجل وسأله عَن الأهواء فَقَالَ عليك بدين الصبي
فِي الْكِتَاب والإعرابي وإله عما سواهما قَالَ ابْن مهدي وثنا عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك عَنْ الأوزاعي قَالَ قَالَ عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز إذا رأيت قوما يتناجون فِي دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم عَلَى تأسيس ضلالة. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ ثنا بِشْر بْن مُوسَى ثنا خلاد بْن يَحْيَى عَنْ سفيان الثوري قَالَ بلغني عَنْ عُمَر أنه كتب إِلَى بعض عماله أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ مَا أَحْدَثَ الْمُحْدِثُونَ بَعْدَهُ بِمَا قَدْ كُفُوا مُؤْنَتَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ سَنَّ السُّنَنَ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالتَّعَمُّقِ فَإِنَّ السَّابِقِينَ الْمَاضِينَ عَنْ عِلْمٍ تَوَقَّفُوا وَتَبَصَّرَ نَاقِدٌ قَدْ كُفُوا وفي رواية أخرى عَنْ عُمَر وأنهم كانوا عَلَى كشف الأمور أقوى وما أحدث إي من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم لقد قصر دونهم أقوام فخفوه وطمح عنهم آخرون فعلوه. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ ثنا سُلَيْمَان بْن أَحْمَدَ ثنا بِشْر بْن مُوسَى ثنا عَبْدُ الصَّمَد بْن حسان قَالَ سمعت سفيان الثوري يَقُول عليكم بما عَلَيْهِ الحمالون والنساء فِي البيوت والصبيان فِي الْكِتَاب من الإقراء والعمل. قال المصنف: فَإِن قَالَ قائل هَذَا مقام حجر لا مقام الرجال فقد أسلفنا جواب هَذَا وقلنا إن الوقوف عَلَى العمل ضرورة لأن بلوغ مَا يشفي العقل من التعليل لم يدركه من عاص من المتكلمين فِي البحار فلذلك أمروا بالوقوف عَلَى الساحل كَمَا ذكرنا عنهم.
ذكر تلبيس إبليس على الخوارج
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الخوارج قال المصنف: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة أَخْبَرَنَا ابْن الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا مُحَمَّد بْن فضيل ثنا عمارة بْن القعقاع عَن ابْن أبي يعمر عَنْ أبي سَعِيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ بعث علي رَضِيَ اللَّهُ عنه من اليمن إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبه فِي أديم مقروظ1 لم تخلص من ترابها فقسمها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أربعة بين زيد الخيل والأقرع بْن حابس وعيينة بْن حصن وعلقمة بْن علاثة أَوْ عامر بْن الطفيل شك عمارة فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ
مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً" ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ناتىء الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشَمِّرُ الإِزَارِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: "وَيْحَكَ أَلَيْسَ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ أَنَا" ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ خَالِدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَعَلَّهُ يُصَلِّي" فَقَالَ إِنَّهُ رَبٌّ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ أَنْ أَنْقَبِلَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ" ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مُقْفٍ فَقَالَ: "إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضئضيء1 هَذَا قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ". قال المصنف: هَذَا الرَّجُل يقال لَهُ ذو الخويصرة التميمي وفي لفظ أنه قَالَ لَهُ اعدل فَقَالَ ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فهذا أول خارجي خرج فِي الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباع هَذَا الرَّجُل هم الذين قاتلوا عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه وذلك أنه لما طالت الحرب بين مُعَاوِيَة وعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رفع أصحاب مُعَاوِيَة المصاحف ودعوا أصحاب علي إِلَى مَا فيها وقال تبعثون مِنْكُمْ رجلا ونبعث منا رجلا ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما فِي كتاب اللَّه عز وجل فَقَالَ الناس قد رضينا فبعثوا عمرو بْن العاص فَقَالَ أصحاب علي ابعث أبا مُوسَى فَقَالَ علي لا أرى أن أولي أبا مُوسَى هَذَا ابْن عَبَّاس قالوا لا يَزِيد رجلا منك فبعث أبا مُوسَى وأخر القضاء إِلَى رمضان فَقَالَ عروة بْن أذينة تحكمون فِي أمر اللَّه الرجال لا حكم إلا اللَّه ورجع علي من صفين فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج فأتوا حروراء2 فنزل بِهَا منهم اثنا عشر ألفا وقالوا لا حكم إلا لله وكان ذلك أول ظهورهم ونادى مناديهم أن أمير القتال شبيب بْن ربعي التميمي وأمير الصلاة عَبْد اللَّهِ بْن الكوا اليشكري وكانت الخوارج تتعبد إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه وهذا مرض صعب. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ نا مُحَمَّد بْن هِبَة اللَّهِ الطَّبَرِيّ نا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن الفضل نا عَبْدُ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن درستويه نا يعقوب بْن سفيان ثني مُوسَى بْن مسعود ثنا عِكْرِمَة بْن عمار عَنْ سماك بْن رميل قَالَ قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس إِنَّهُ لما اعتزلت الخوارج دخلوا دارا وهم ستة آلاف.
وأجمعوا عَلَى أن يخرجوا عَلَى عَلِيّ بْن أبي طالب فكان لا يزال يجيء إنسان فيقول يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك فيقول دعوهم فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون فلما كان ذات يوم أتيته صلاة الظهر فقلت لَهُ يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي أدخل عَلَى هؤلاء القوم فأكلمهم فَقَالَ إني أخاف عليك فقلت كلا وكنت رجلا حسن الخلق لا أؤذي أحدا فأذن لي فلبست حلة من أحسن مَا يكون من اليمن وترجلت فدخلت عليهم نصف النهار فدخلت عَلَى قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن1 الإبل وعليهم قمص مرحضة مشمرين مسهمة وجوههم من السهر فسلمت عليهم فقالوا مرحبا بابن عَبَّاس مَا جاء بك فقلت أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ومن عند صهر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله مِنْكُمْ فقالت طائفة منهم لا تخاصموا قريشا فَإِن اللَّه عز وجل يَقُول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فَقَالَ اثنان أَوْ ثَلاثَة لنكلمنه فقلت هاتوا مَا نقمتم عَلَى صهر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرين والأنصار وعليهم نزل القرآن وليس فيكم منهم أحد وَهُوَ أعلم بتأويله قالوا ثلاثا قلت هاتوا قالوا أما أحداهن فانه حكم الرجال فِي أمر اللَّه وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فما شأن الرجال والحكم بعد قول اللَّه عز وجل فقلت هذه واحدة وماذا قالوا وأما الثانية فانه قاتل وقتل ولم يسب ولم يغنم فَإِن كانوا مؤمنين فلم حل لنا قتالهم وقتلهم ولم يحل لنا سبيهم قلت وما الثالثة قالوا فإنه محا عَنْ نفسه أمير المؤمنين فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فانه لأمير الكافرين قلت هل عندكم غير هَذَا قالوا كفانا هَذَا قلت لهم أما قولكم حكم لرجال فِي أمر اللَّه أنا أقرأ عليكم فِي كتاب اللَّه مَا ينقض هَذَا فَإِذَا نقض قولكم أترجعون قالوا نعم قلت فَإِن اللَّه قد صير من حكمه إِلَى الرجال فِي ربع درهم ثمن أرنب وتلى هذه الآية: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى آخر الآية وفي المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} إِلَى آخر الآية فنشدتكم بالله هل تعلمون حكم الرجال فِي إصلاح ذات بينهم وفي حقن دمائهم أفضل أم حكمهم فِي أرنب وبضع امرأة فأيهما ترون أفضل قالوا بل هذه قلت خرجت من هذه قالوا نعم قلت وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم فتسبون أمكم عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فوالله لئن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام ووالله لئن قلتم لنسبينها ونستحل منها مَا نستحل من غيرها لقد خرجتم من الإسلام.
فأنتم بين ضلالتين لأن اللَّه عز وجل قَالَ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أخرجت من هذه قالوا نعم قلت وأما قولكم محا عَنْ نفسه أمير المؤمنين فأنا آيتكم بمن ترضون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية صالح المشركين أبا سفيان بْن حرب وسهيل بْن عمرو فَقَالَ لعلي رَضِيَ اللَّهُ عنه: "اكْتُبْ لَهُمْ كِتَابًا" فَكَتَبَ لَهُمْ عَلِيٌّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ" امْحُ يَا عَلِيُّ اكْتُبْ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَوَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ قَالَ فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ فَقُتِلُوا أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا ولاد بْن عَلِيٍّ الكوفي نا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن دحم الشَّيْبَانِي ثنا أَحْمَد بْن حازم ثنا أَحْمَد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن يعني ابْن أبي ليلى ثنا سَعِيد بْن جثيم عَنْ القعقاع بْن عمارة عَنْ أبي الخليل عَنْ أبي الشائعة عَنْ جندب الأزدي قَالَ لما عدلنا إِلَى الخوارج ونحن مَعَ عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه قَالَ فانتهينا إِلَى معسكرهم فَإِذَا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن. قَالَ المصنف: وفي رواية أخرى أن عليا رَضِيَ اللَّهُ عنه لما حكم أتاه من الخوارج زرعة بْن البرج الطائي وحرقوص بْن زهير السعدي فدخلا عَلَيْهِ فقالا لَهُ لا حكم إلا اللَّه فَقَالَ علي لا حكم إلا لله فَقَالَ لَهُ حرقوص تب من خطيئتك وارجع عَنْ قضيتنا وأخرج بنا إِلَى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا ولئن لم تدع تحكيم الرجال فِي كتاب اللَّه عز وجل لأقاتلنك أطلب بذلك وجه اللَّه واجتمعت الخوارج فِي منزل عَبْد اللَّهِ بْن وهب الراسي فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثم قَالَ مَا ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينسبون إِلَى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي إيثارها عناء آثر عنده من الأمر بالمعروف والنهي عَن المنكر والقول بالحق فأخرجوا بنا فكتب إليهم عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه أما بعد فَإِن هذين الرجلين اللذين ارتضيا حكمين فقد خالفا كتاب اللَّه واتبعا أهواءهما ونحن عَلَى الأمر الأَوَّل فكتبوا إليك إنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك فَإِن شهدت عَلَى نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نابذناك عَلَى سواء والسلام ولقي الخوارج فِي طريقهم عَبْد اللَّهِ بْن خباب فقالوا هل سمعت من أبيك حديثا تحدثه عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثناه قَالَ نعم سمعت أبي يحدث عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر "فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فَإِن أدركت ذلك فكن عَبْد اللَّهِ المقتول" قالوا أنت سمعت هَذَا من أبيك تحدثه عَنْ رَسُول اللَّهِ قَالَ نعم فقدموه
إِلَى شفير النهر فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل وبقروا بطن أم ولده عما فِي بطنها وكانت حبلى ونزلوا تحت نخل مواقير بنهروان فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بِهَا فِي فيه فَقَالَ أحدهم أخذتها بغير حدها وبغير ثمنها فلفظها من فيه واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه به يجربه فيه فقالوا هَذَا فساد فِي الأَرْض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه فِي ثمنه قَالَ فبعث إليهم علي رَضِيَ اللَّهُ عنه أخرجوا إلينا قاتل عَبْد اللَّهِ بْن خباب فقالوا كلنا قتلة فناداهم ثلاثا كل ذلك يقولون هَذَا القول فَقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عنه لأصحابه دونكم القوم فما لبثوا أن قتلوهم وكان وقت القتال يَقُول بعضهم لبعض تهيأ للقاء الرب الرواح الرواح إِلَى الْجَنَّة وخرج عَلَى علي رَضِيَ اللَّهُ عنه بعدهم جماعة منهم فبعث إليهم من قاتلهم ثم اجتمع عَبْد الرَّحْمَنِ بْن ملجم بأصحابه وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا وَاللَّه مَا قنعنا بالبقاء فِي الدنيا شيء بعد إخواننا الذين كانوا لا يخافون فِي اللَّه لومة لائم فلوا أنا شرينا أنفسنا لله والتمسنا غير هؤلاء الأئمة الضلال فثأرنا بهم إخواننا وأرحنا منهم العباد. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي طاهر الْبَزَّارُ نا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ نا ابْنُ حياة نا أَبُو الْحَسَنِ بْن معروف نا الْحُسَيْن بْن الفهم نا مُحَمَّد بْن سَعْد عَنْ أشياخ لَهُ فقالوا انتدب ثَلاثَة نفر من الخوارج عَبْد الرَّحْمَنِ بْن ملجم والبرك بْن عَبْدِ اللَّهِ وعمرو ابْن بَكْر التميمي فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا لنقتلن هؤلاء الثلاثة عليا ومعاوية وعمرو بْن العاص ونريح العباد منهم فَقَالَ ابْن ملجم أنا لكم بعلي وقال البرك أنا لكم بمعاوية وقال عُمَر وأنا لكم بعمرو فتواثقوا إلا ينقض رجل منهم رجلا عَنْ صاحبه فقدم ابْن ملجم الكوفة فلما كانت الليلة التي عزم عَلَى قتل علي رَضِيَ اللَّهُ عنه فيها خرج علي رَضِيَ اللَّهُ عنه لصلاة الصبح فضربه فأصاب جبهته إِلَى قرنه ووصل إِلَى دماغه فَقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عنه لا يفوتنكم الرَّجُل فأخذ فقالت أم كلثوم يا عدو اللَّه قتلت أمير المؤمنين بأس قَالَ فلم تبكين إذن ثم قَالَ وَاللَّه لقد سمعته يعني فَإِن أخلفني فأبعده اللَّه وأسحقه فلما مات علي رَضِيَ اللَّهُ عنه أخرج ابْن ملجم ليقتل فقطع عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم فِي عينيه بمسمار محمى فلم يجزع فجعل يقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خلق الإنسان من علق حتى ختمها وإن عينيه لتسيلان فعولج عَلَى قطع لسانه فجزع فَقِيلَ لَهُ لم تجزع فَقَالَ أكره أن أكون فِي الدنيا مواتا لا أذكر اللَّه وكان رجلا أسمر فِي جبهته أثر السجود لعنة اللَّه عَلَيْهِ. قال المصنف قلت ولما أراد الْحَسَن رَضِيَ اللَّهُ عنه أن يصالح مُعَاوِيَة خرج عَلَيْهِ من
الخوارج الجراح بْن سنان وقال أشركت كَمَا أشرك أبوك ثم طعنه فِي أصل فخذه وما زالت الخوارج تخرج عَلَى الأمراء ولهم مذاهب مختلفة وكان أصحاب نافع بْن الأزرق يقولون نحن مشركون مَا دمنا فِي دار الشرك فَإِذَا خرجنا فنحن مسلمون قالوا ومخالفونا فِي المذهب مشركون ومرتكبوا الكبائر مشركون والقاعدون عَنْ موافقتنا فِي القتال كفرة وأباح هؤلاء قتل النساء والصبيان من المسلمين وحكموا عليهم بالشرك وكان تجدة بْن عامر الثقفي من القوم فخالف نافع بْن الأزرق وقال بتحريم دماء المسلمين وأموالهم وزعم أن أصحاب الذنوب من موافقيه يعذبون فِي غير نار جهنم وأن جهنم لا يعذب بِهَا إلا مخالفوه فِي مذهبه وقال إِبْرَاهِيم الخوارج قوم كفار وتحل لنا مناكحتهم وموارثتهم كَمَا كان الناس فِي بدء الإسلام وكان بعضهم يَقُول لو أن رجلا أكل من مال يتيم فليس وجبت لَهُ النار لأن اللَّه عز وجل أوعد عَلَى ذلك النار. قال المصنف: ولهم قصص تطول ومذاهب عجيبة لهم لم أر التطويل بذكرها وإنما المقصود النظر فِي حيل إبليس وتلبيسه عَلَى هؤلاء الحمقى الذين عملوا بواقعاتهم واعتقدوا أن عليا بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه عَلَى الخطأ ومن معه من المهاجرين والأنصار عَلَى الخطأ وأنهم عَلَى الصواب واستحلوا دماء الأطفال ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها وتعبوا فِي العبادات وسهروا وجزع ابْن ملجم عند قطع لسانه من فوات الذكر واستحل قتل علي كرم اللَّه وجهه ثم شهروا السيوف عَلَى المسلمين ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من علي رَضِيَ اللَّهُ عنه فقد قَالَ ذو الخويصرة لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعدل فما عدلت وما كان إبليس ليهتدي إِلَى هذه المخازي نعوذ بالله من الخذلان. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ ملك ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ابن حنبل ثني أبي قَالَ قرأت على عبد الرحمن بن ملك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ محمد بن إبراهيم قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الَّلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "يَخْرُجُ قَوْمٌ فِيكُمْ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَأَعْمَالَكُمْ مع أعمالهم يقرأون الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمْيَةِ" 1 أخرجاه فِي الصحيحين. أَخْبَرَنَا سَعْد اللَّه بْن عَلِيّ نا أَبُو بَكْر الطريثيثي ثنا هِبَة اللَّهِ بْن الْحَسَنِ الطَّبَرِيّ نا أحمد بن
عُبَيْد ثنا عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مبشر ثنا أَحْمَد بْن سنان ثنا إِسْحَاق بْن يوسف الأزرق عَنْ الأعمش عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن أبي أوفى وقال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "الْخَوَارِجُ كلاب أهل النار" فصل قال المصنف ومن رأي الخوارج أنه لا تختص الإمامة بشخص إلا أن يجتمع فيه العلم والزهد فَإِذَا اجتمعا كان إماما نبطيا1 ومن رأى هؤلاء أحدث المعتزلة فِي التحسين والتقبيح إِلَى العقل وأن العدل مَا يقتضيه ثم حدث القدرية فِي زمن الصحابة وصار معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بْن درهم إِلَى القول بالقدر ونسج عَلَى منوال معبد الجهني واصل بْن عطاء وانضم إليه عمرو بْن عُبَيْد وفي ذلك الزمان حدثت سنة المرجئة حين قالوا لا يضر مَعَ الإيمان معصية كَمَا لا ينفع مَعَ الكفر طاعة ثم طالعت المعتزلة مثل أبي الهذيل العلاف والنظام ومعمر والجاحظ كتب الفلاسفة فِي زمان الْمَأْمُون واستخرجوا منها مَا خلطوه بأوضاع الشرع مثل لفظ الجوهر والعرض والزمان والمكان والكون وأول مسألة اظهروها القول بخلق القرآن وحينئذ سمي هَذَا الفصل فصل علم الكلام وتلت هذه المسألة مسائل الصفات مثل العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر فَقَالَ قوم هي معاني زائدة عَلَى الذات ونفتها المعتزلة وقالوا عالم لذاته قادر لذاته وكان أَبُو الْحَسَنِ الأشعري عَلَى مذهب الجبائي ثم انفرد عنه إِلَى مثبتي الصفات ثم أخذ بعض مثبتي الصفات فِي اعتقاد التشبيه وإثبات الانتقال فِي النزول والله الهادي لما يشاء.
ذكر تلبيسه على الرافضة
ذكر تلبيسه عَلَى الرافضة قال المصنف: وكما لبس إبليس عَلَى هؤلاء الخوارج حتى قاتلوا عَلِيّ بْن أبي طالب حمل آخرين عَلَى الغلو فِي حبه فزادوه عَلَى الحد فمنهم من كان يَقُول هو الآله ومنهم من يَقُول هو خير من الأنبياء ومنهم من حمله عَلَى سب أبي بَكْر وعمر حتى إن بعضهم كفر أبا بَكْر وعمر إِلَى غير ذلك من المذاهب السخيفة التي يرغب عَنْ تضييع الزمان بذكرها وإنما نشير إِلَى بعضها. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن بْن مُحَمَّدٍ نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قَالَ حدث أَبُو يعقوب إِسْحَاق بْن مُحَمَّد النخعي عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عائشة وأبي عثمان المازني وغيرهما وسمعت عَبْد الْوَاحِد بْن عَلِيّ بْن برهان الأسدي يَقُول إِسْحَاق بْن مُحَمَّد النخعي الأحمر كان يَقُول إن عليا هو اللَّه تعالى اللَّه عَنْ ذلك علوا كبيرا وبالمدائن جماعة من الغلاة يعرفون بالإسحاقية.
ينسبون إليه قَالَ الخطيب ووقع إلي كتاب لأبي مُحَمَّد الْحَسَن بْن يَحْيَى النوبختي من تصنيفه فِي الرد عَلَى الغلاة وكان النوبختي هَذَا من متكلمي الشيعة الأمامية فذكر أصناف مقالات الغلاة إِلَى أن قَالَ وَقَدْ كان ممن جرد الجنون فِي الغلو فِي عصرنا إِسْحَاق بْن مُحَمَّد المعروف بالأحمر كان يزعم أن عليا هو اللَّه عز وجل وأنه يظهر فِي كل وقت فهو الْحَسَن فِي وقت وكذلك هو الْحُسَيْن وَهُوَ الذي بعث محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال المصنف: قلت وَقَد اعتقد جماعة من الرافضة أن أبا بَكْر وعمر كانا كافرين وقال بعضهم ارتدا بعد موت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهم من يَقُول بالتبريء من غير علي وَقَدْ روينا أن الشيعة طالبت زيد بْن عَلِيّ بالتبريء ممن خالف عليا فِي إمامته فامتنع من ذلك فرفضوه فسموا الرافضة ومنهم طائفة يقال لها الجناحية وهم أصحاب عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَر ذي الجناحين يقولون إن روح الإله دارت فِي أصلاب الأنبياء والأولياء إِلَى أن انتهى إِلَى عَبْد اللَّهِ وأنه لم يمت وَهُوَ المنتظر ومنهم طائفة يقال لها الغرابية يثبتون شركة علي فِي النبوة وطائفة يقال لها المفوضة يقولون إن اللَّه عز وجل خلق محمدا ثم فوض خلق العالم إليه وطائفة يقال لها الذمامية يذمون جبريل ويقولون كان مأمورا بالنزول عَلَى علي فنزل عَلَى مُحَمَّد ومنهم من يَقُول أن أبا بَكْر ظلم فاطمة ميراثها وَقَدْ روينا عَن السفاح أنه خَطَبَ يوما فقام رجل من آل علي رَضِيَ اللَّهُ عنه فَقَالَ يا أمير المؤمنين أعدني عَلَى من ظلمني قَالَ ومن ظلمك قَالَ أنا من أولاد علي رَضِيَ اللَّهُ عنه والذي ظلمني أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عنه حين أخذ فدك من فاطمة قَالَ ودام عَلَى ظلمكم قَالَ نعم قَالَ ومن قَامَ بعده قَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ ودام عَلَى ظلمكم قَالَ نعم ومن قَامَ بعده قَالَ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ ودام عَلَى ظلمكم قَالَ نعم قَالَ ومن قَامَ بعده فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكانا يهرب إليه. قال ابْن عقيل الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن فِي أصل الدين والنبوة وذلك أن الذي جاء به رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر غائب عنا وإنما نثق فِي ذلك بنقل السلف وجودة نظر
الناظرين إِلَى ذلك منهم فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله فَإِذَا قَالَ قائل أنهم أول مَا بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته فِي الخلافة وابنته فِي إرثها وما هَذَا إلا لسوء اعتقاد فِي المتوفى فان الاعتقادات الصحيحة سيما فِي الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما فِي أهليهم وذريتهم فَإِذَا قالت الرافضة أن القوم استحلوا هَذَا بعده خابت آمالنا فِي الشرع لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم فَإِذَا كان هَذَا محصول مَا حصل لهم بعد موته خبنا فِي المنقول وزالت ثقتنا فيما عولنا عَلَيْهِ من اتباع ذو العقول ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا مَا يوجب اتباعه فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عَنْ شريعته بعد الوفاة ولم يبق عَلَى دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الاعتقادات وضعفت النفوس عَنْ قبول الروايات فِي الأصل وَهُوَ المعجزات فهذا من أعظم المحن عَلَى الشريعة. قال المصنف: وغلو الرافضة فِي حب علي رَضِيَ اللَّهُ عنه حملهم عَلَى أن وضعوا أحاديث كثيرة فِي فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه وَقَدْ ذكرت منها جملة فِي كتاب الموضوعات منها أن الشمس غابت ففاتت عليا صلاة العصر فردت لَهُ الشمس وهذا من حيث النقل موضوع لم يروه ثقة ومن حيث المعنى فان الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد فلا يرد الوقت وكذلك وضعوا أن فاطمة اغتسلت ثم ماتت وأوصت أن تكتفي بذلك الغسل وهذا من حيث النقل كذب ومن حيث المعنى قله فهم لأن الغسل عَنْ حدث الموت فكيف يصح قبله ثم لهم خرافات لا يسندونها إِلَى مستند ولهم مذاهب فِي الفقه ابتدعوها وخرافات تخالف الإجماع فنقلت منها مسائل من خط ابْن عقيل قَالَ نقلتها من كتاب المرتضى فيما انفردت به الأمامية منها أنه لا يجوز السجود عَلَى مَا ليس بأرض ولا من نبات الأَرْض فأما الصوف والجلود والوبر فلا وأن الإستجمار لا يجزيء فِي البول بل فِي الغائط خاصة ولا يجزىء مسح الرأس إلا بباقي البلل الذي فِي اليد فَإِن استأنف للرأس بللا مستأنفا لم يجزه حتى لو نشفت يده من البلل احتاج إِلَى استئناف الطهارة وانفردوا بتحريم من زنى بِهَا وهي تحت زوج أبدا فلو طلقها زوجها لم تحل للزاني بِهَا بنكاح أبدا وحرموا الكتابيات وأن الطلاق المعلق عَلَى شرط لا يقع وإن وجد شرطه وأن الطلاق لا يقع إلا بحضور شاهدين عدلين وأن من نام عَنْ صلاة العشاء إِلَى أن مضى نصف الليل وجب عَلَيْهِ إذا أستيقظ القضاء وأن يصبح صائما كفارة لذلك التفريط وأن المرأة إذا جزت شعرها فعليها الكفارة مثل قتل الخطأ وأن من شق ثوبه فِي موت ابْن لَهُ أَوْ زوجة فعليه كفارة يمين وأن من تزوج امرأة ولها زوج وَهُوَ لا يعلم لزمه الصدقة بخمسة دراهم وأن
شارب الخمر إذا حد ثانية قتل فِي الثالثة ويحد شارب الفقاع كشارب الخمر وأن قطع السارق من أصول الأصابع ويبقى لَهُ الكف فَإِن سرق مرة أخرى قطعت الرَّجُل اليسرى فان سرق الثالثة خلد فِي الحبس إِلَى أن يموت وحرموا السمك الجري كذا وذبائح أهل الْكِتَاب واشترطوا فِي الذبح استقبال القبلة فِي مسائل كثيرة يطول ذكرها خرقوا فيها الإجماع وسول لهم إبليس وضعها عَلَى وجه لا يستندون فيه إِلَى أثر ولا قياس بل إِلَى الواقعات ومقابح الرافضة أكثر من أن تحصى وَقَدْ حرموا الصلاة لكونهم لا يغسلون أرجلهم فِي الوضوء والجماعة لطلبهم إماما معصوما وابتلوا بسب الصحابة وفي الصحيحين عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أنه قَالَ لا تسبوا أصحابي فَإِن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا مَا أدرك مد أحدهم ولا نصيفه وقد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الملك وَيَحْيَى بْن عَلِيّ قالا أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ ابْن المسلمة نا أَبُو ظاهر المخلص ثنا البغوي ثنا مُحَمَّد بْن عباد المكي ثنا مُحَمَّد بْن طلحة الْمَدِينِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سالم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عويم بْن ساعدة عَنْ أبيه عَنْ جده قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أله وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا". قال المصنف: والمراد بالعدل الفريضة والصرف النافلة أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ بْن عَلِيٍّ البزار نا أَبُو بَكْر الطُّرَيْثِيثِيّ نا هِبَة اللَّهِ بْن الْحَسَنِ الطَّبَرِيّ نا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْن يَزِيد الرياحي ثنا أبي ثنا الْحَسَن بْن عمارة عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سويد بْن غفلة قَالَ مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وينتقصونهما فدخلت عَلَى عَلِيّ بْن أبي طالب فقلت يا أمير المؤمنين مررت بنفر من أَصْحَابِكَ يَذْكُرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِغَيْرِ الَّذِي هُمَا له أهل ولولا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّكَ تُضْمِرُ لَهُمَا عَلَى مِثْلِ مَا أَعْلَنُوا مَا اجترأوا عَلَى ذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أُضْمِرَ لَهُمَا إِلا الَّذِي ائْتَمَنَنِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَضْمَرَ لَهُمَا إِلا الْحَسَنَ الْجَمِيلَ أَخَوَا رَسُولِ اللَّهِ وَصَاحِبَاهُ وَوَزِيرَاهُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا ثُمَّ نَهَضَ دَامِعَ الْعَيْنَيْنِ يَبْكِي قَابِضًا عَلَى يَدِي حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنًا قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ فِيهَا وَهِيَ بَيْضَاءُ حَتَّى اجْتَمَعَ لَنَا النَّاسُ ثُمَّ قَامَ فَنَشْهَدُ بِخُطْبَةٍ مُوجَزَةٍ بَلِيغَةٍ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَذْكُرُونَ سَيِّدَيْ قُرَيْشٍ وَأَبَوَيِ الْمُسْلِمُونَ بِمَا أَنَا عَنْهُ مُتَنَزَّهٌ وَمِمَّا قَالُوهُ بَرِيء وَعَلَى مَا قَالُوا مُعَاقِبٌ أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسْمَةَ لا يُحِبُّهُمَا إِلا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَلا يُبْغِضُهُمَا إِلا فَاجِرٌ شَقِيٌّ صَحِبَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ يَأْمُرَانِ وَيَنْهَيَانِ وَيَغْضَبَانِ وَيُعَاقِبَانِ فَمَا يَتَجَاوَزَانِ فِيمَا يَصْنَعَانِ رأي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى غَيْرَ رَأْيِهِمَا وَلا يُحِبُّ كحبهما أحد مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمَا وَمَضَيَا وَالْمُؤْمِنُونَ عَنْهُمَا رَاضُونَ أَمَّرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَصَلَّى بِهِمْ تِسْعَةَ أَيَّامٍ فِي حَيَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَلاهُ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَفَوَّضُوا إِلَيْهِ الزَّكَاةَ ثُمَّ أَعْطَوْهُ الْبَيْعَةَ طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ سَنَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ لِذَلِكَ كَارِهٌ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ مِنَّا أَحَدًا كَفَاهُ ذَلِكَ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ مَنْ أَبْقَى أَرْحَمَهُ رَحْمَةً وَأَرْأَفَهُ رَأْفَةً وَأَسَنَّهُ وَرَعًا وَأَقْدَمَهُ سِنًّا وَإِسْلامًا شَبَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِيكَائِيلَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَبِإِبْرَاهِيمَ عَفْوًا وَوَقَارًا فَسَارَ بِسِيرَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَضَى عَلَى ذَلِكَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ثُمَّ وَلَّى الأَمْرَ بَعْدَهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكُنْتُ فِيمَنْ رَضِيَ فَأَقَامَ الأَمْرَ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ يَتْبَعُ أَثَرَهُمَا كَمَا يَتْبَعُ الْفَصِيلُ أَثَرَ أُمِّهِ وَكَانَ وَاللَّهِ رَفِيقًا رَحِيمًا بِالضُّعَفَاءِ نَاصِرًا لِلْمَظْلُومِينَ عَلَى الظَّالِمِينَ لا يَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ وَضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَجَعَلَ الصِّدْقَ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَظُنُّ أَنَّ مَلِكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ أَعَزَّ اللَّهُ بِإِسْلامِهِ الإِسْلامَ وَجَعَلَ هِجْرَتَهُ لِلدِّينِ قِوَامًا وَأَلْقَى لَهُ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ الرَّهْبَةَ وَفِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَحَبَّةَ شَبَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِجِبْرِيلَ فَظًّا غَلِيظًا عَلَى الأَعْدَاءِ فَمَنْ لَكُمْ بِمِثْلِهِمَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَرَزَقَنَا الْمُضِيَّ فِي سَبِيلِهِمَا فَمَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّهُمَا وَمَنْ لَمْ يُحِبَّهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي أَمْرِهِمَا لَعَاقَبْتُ فِي هَذَا أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ أَلا فَمَنْ أُوتِيتُ بِهِ يَقُولُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُفْتَرِي أَلا وَخَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ أَيْنَ هُوَ أَقُولُ قَوْلِي وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. أَخْبَرَنَا سَعْد اللَّه بْن عَلِيّ نا الطُّرَيْثِيثِيُّ نا هِبَة اللَّهِ الطَّبَرِيّ نا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن نا البغوي ثنا سويد بْن سَعِيد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حازم عَنْ أبي خباب الكلبي عَنْ أبي سُلَيْمَان الهمداني عَنْ علي كرم اللَّه وجهه قَالَ يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ لَهُمْ نَبْزٌ يُقَالُ لَهُمُ الرَّافِضَةُ يَنْتَحِلُونَ شِيعَتَنَا وَلَيْسُوا مِنْ شِيعَتِنَا وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَشْتِمُونَ أَبَا بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْنَمَا أَدْرَكْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَشَدَّ الْقَتْلِ فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ.
ذكر تلبيس إبليس على الباطنية
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الباطنية قال المصنف: الباطنية قوم تستروا بالإسلام ومالوا إِلَى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين
الإسلام بالمرة فمحصول قولهم تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث ولكنهم لا يظهرون هَذَا فِي أول أمرهم بل يزعمون أن اللَّه حق وأن محمدا رَسُول اللَّهِ والدين صَحِيح لكنهم يقولون لذلك سر غير ظاهر وَقَدْ تلاعب بهم إبليس فبالغ وحسن لهم مذاهب مختلفة ولهم ثمانية أسماء. الاسم الأَوَّل الباطنية: سموا بذلك لأنهم يدعون أن لظواهر القرآن والأحاديث بواطن تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر وانها بصورتها توهم الجهال صورا حلية وهي عند العقلاء رموز وإشارات إِلَى حقائق خفية وأن من تقاعد عقله من الغوص عَلَى الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها كان تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع ومن ارتقى إِلَى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه قالوا وهم المرادون بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ومرادهم أن ينزعوا من العقائد موجب الظواهر ليقدروا بالتحكم بدعوى الباطل عَلَى أبطال الشرائع. الاسم الثاني الإسماعيلية: نسبوا إِلَى زعيم لهم يقال لَهُ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيلَ بْن جَعْفَر ويزعمون أن دور الإمامة انتهى إليه لأنه سابع واحتجوا بأن السموات سبع والأرضين سبع وأيام الأسبوع سبعة فدل عَلَى أن دور الأئمة يتم بسبعة وعلى هَذَا فيما يتعلق بالمنصور فيقولون العباس ثم ابنه عَبْد اللَّهِ ثم ابنه علي ثم ابنه مُحَمَّد بْن عَلِيّ ثم إِبْرَاهِيم ثم السفاح ثم المنصور وذكر أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ فِي تاريخه قَالَ قَالَ عَلِيّ بْن مُحَمَّد عَنْ أبيه إن رجلا من الراوندية كان يقال لَهُ الأبلق وكان أبرص فبكى بالعلو ودعا الرواندية إليه وزعم أن الروح التي كانت فِي عِيسَى بْن مريم صارت إِلَى عَلِيّ بْن أبي طالب كرم اللَّه وجهه ثم فِي الأئمة واحدا بعد واحد إِلَى أن صارت إِلَى إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدٍ واستحلوا الحرمات فكان الرَّجُل منهم يدعو الْجَمَاعَة إِلَى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم عَلَى امرأته فبلغ ذلك أسد بْن عَبْدِ اللَّهِ فقتلهم وصلبهم فلم يزل ذلك فيهم إِلَى الْيَوْم وعبدوا أبا جَعْفَر وصعدوا الخضراء وألقوا نفوسهم كأنهم يطيرون فلا يبلغون الأَرْض إلا وَقَدْ هلكوا وخرج جماعتهم عَلَى الناس فِي السلاح وأقبلوا يصيحون يا أبا جَعْفَر أنت أنت. الاسم الثالث السبعية: لقبوا بذلك لأمرين أحدهما اعتقادهم أن دور الإمامة سبعة سبعة عَلَى مَا بينا وأن الانتهاء إِلَى السابع هو آخر الأدوار وَهُوَ المراد بالقيامة وأن تعاقب هذه
الأدوار لا آخر لَهُ والثاني لقولهم أن تدبير العالم السفلي منوط بالكواكب السبعة زحل ثم المشتري ثم المريخ ثم الزهرة ثم الشمس ثم عطارد ثم القمر. الاسم الرابع البابكية: قَالَ المصنف وَهُوَ اسم لطائفة منهم تبعوا رجلا يقال لَهُ بابك الخرمي وكان من الباطنية وأصله أنه ولد زنى فظهر فِي بعض الجبال بناحية أذربيجان سنة إحدى ومائتين وتبعه خلق كثير واستفحل أمرهم واستباح المحظورات وكان إذا علم أن عند أحد بنتا جميلة أَوْ أختا جميلة طلبها فَإِن بعثها إليه وإلا قتله وأخذها ومكث عَلَى هَذَا عشرين سنة فقتل ثمانين ألفا وقيل خمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان1 وحاربه السلطان وهزم خلقا من الجيوش حتى بعث المعتصم أفسين فحاربه فجاء ببابك وأخيه فِي سنة ثلاث وعشرين ومائتين فلما دخلا قَالَ لبابك أخوه يا بابك قد عملت مَا لم يعمله أحد فاصبر الآن صبرا لم يصبره أحد فَقَالَ سترى صبري فأمر المعتصم بقطع يديه ورجليه فلما قطعوا مسح بالدم وجهه فَقَالَ المعتصم أنت فِي الشجاعة كذا وكذا مَا بالك قد مسحت وجهك بالدم أجزعا من الموت فَقَالَ لا ولكني لما قطعت أطرافي نزف الدم فخفت أن يقال عني إِنَّهُ اصفر وجهه جزعا من الموت قَالَ فيظن ذلك بي فسترت وجهي بالدم كيلا يرى ذلك مني ثم بعد ذلك ضربت عنقه وأضرمت عَلَيْهِ النار وفعل مثل ذلك بأخيه فما فيهما من صاح ولا تأوه ولا أظهر جزعا لعنهما اللَّه وَقَدْ بقي من البابكية جماعة يقال أن لهم ليلة فِي السنة تجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون السرج ثم يتناهضون للنساء فيثب كل رجل منهم إِلَى امرأة ويزعمون أن من احتوى عَلَى امرأة يستحلها بالاصطياد لأن الصيد مباح. الاسم الخامس المحمرة: قَالَ المصنف سموا بذلك لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة فِي أيام بابك ولبسوها. الاسم السادس القرامطة: قَالَ المصنف وللمؤرخين فِي سبب تسميتهم بهذا قولان أحدهما أن رجلا من ناحية خوزستان قدم سواد الكوفة فأظهر الزهد ودعا إِلَى إمام من أهل بيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل عَلَى رجل يقال لَهُ كرميتة لقب بهذا الحمرة عينية وَهُوَ بالنبطية حاد العين فأخذه أمير تلك الناحية فحبسه وترك مفتاح البيت تحت رأسه ونام فرقت لَهُ جارية فأخذت المفتاح.
ففتحت البيت وأخرجته وردت المفتاح إِلَى مكانه فلما طلب فلم يوجد زاد افتتان الناس به فخرج إِلَى الشام فسمى كرميتة باسم الذي كان نازلا عَلَيْهِ ثم خفف فَقِيلَ قرمط ثم توارث مكانه أهله وأولاده والثاني أن القوم قد لقبوا بهذا نسبة إِلَى رجل يقال لَهُ حَمْدَان قرمط كان أحد دعاتهم فِي الابتداء فاستجاب لَهُ جماعة فسموا قرامطة وقرمطية وكان هَذَا الرَّجُل من أهل الكوفة وكان يميل إِلَى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية فِي فريق وَهُوَ متوجه إِلَى قرية وبين يديه بقر يسوقها فَقَالَ حَمْدَان لذلك الراعي وَهُوَ لا يعرفه أين مقصدك فذكر قرية حَمْدَان فَقَالَ لَهُ أركب بقرة من هذه لئلا تتعب فَقَالَ إني لم أؤمر بذلك فَقَالَ وكأنك لا تعمل إلا بأمر قَالَ نعم قَالَ وبأمر من تعمل قَالَ بأمر مالكي ومالكك ومالك الدنيا والآخرة فَقَالَ ذلك إذن هو اللَّه رب العالمين فَقَالَ صدقت قَالَ لَهُ فما غرضك فِي هذه القرية التي تقصدها قَالَ أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إِلَى العلم ومن الضلالة إِلَى الهدى ومن الشقاء إِلَى السعادة وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم مَا يستغنون به عَن الكد فَقَالَ لَهُ حَمْدَان أنقذني أنقذك اللَّه وأفض علي من العلم مَا تحييني به فما أشد احتياجي إِلَى مثل هَذَا فَقَالَ مَا أمرت أن أخرج السر المخزون إِلَى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فَقَالَ أذكر عهدك فاني ملتزم به فَقَالَ لَهُ أن تجعل لي وللإمام عَلَى نفسك عهد اللَّه وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا نفس سري أيضا فالتزم حَمْدَان عهده ثم اندفع الداعي فِي تعليمه فنون جهله حتى استغواه فاستجاب لَهُ ثم انتدب للدعاء وصار أصلا من أصول هذه الْبِدْعَة فسمي أتباعه القرامطة والقرمطية ثم لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه وكان أشدهم بأسا رجل يقال لَهُ أَبُو سَعِيد ظهر فِي سنة ست وثمانين ومائتين وقوى أمره وقتل مَا لا يحصى من المسلمين وخرب المساجد وأحرق المصاحف وفتك بالحاج وسن لأهله وأصحابه سننا وأخبرهم بمحالات وكان إذا قاتل يَقُول وعدت النصر فِي هذه الساعة فلما مات بنوا عَلَى قبره قبة وجعلوا عَلَى رأسها طائرا من جص وقالوا إذا طار هَذَا الطائر خرج أَبُو سَعِيد من قبره وجعلوا عند القبر فرسا وخلعة ثياب وسلاحا وَقَدْ سول إبليس لهذه الْجَمَاعَة أنه من مات وعلى قبره فرس حشر راكبا وإن لم يكن لَهُ فرس حشر ماشيا وكان أصحاب أبي سَعِيد يصلون عَلَيْهِ إذا ذكروه ولا يصلون عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سمعوا من يصلي عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون أتأكل رزق أبي سَعِيد وتصلي عَلَى أبي القاسم وخلف بعده ابنه أبا طاهر ففعل مثل فعله وهجم عَلَى الكعبة فأخذ مَا فيها من الذخائر وقلع الحجر الأسود فحمله إِلَى بلده وأوهم الناس أنه اللَّه عز وجل.
الاسم السابع الخرمية: وخرم1 لفظ أعجمي ينبي عَن الشيء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان لَهُ ومقصود هذه الاسم تسليط الناس عَلَى اتباع اللذات وطلب الشهوات كيف كانت وطي بساط التكليف وحط أعباء الشرع عَن العباد وَقَدْ كان هَذَا الاسم لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين تبعوا فِي أيام قباذ وأباحوا النساء المحرمات وأحلوا كل محظور فسموا هؤلاء بهذا الاسم لمشابهتهم إياهم فِي نهاية هَذَا المذهب وإن خالفوهم فِي مقدماته. الاسم الثامن التعليمية: لقبوا بذلك لأن مبدأ مذهبهم إبطال الرأي وإفساد تصرف العقول ودعاء الخلق إِلَى التعليم من الإمام المعصوم وأنه لا يدرك العلوم إلا بالتعليم. فصل: في ذكر السبب الباعث لهم عَلَى الدخول فِي هذه الْبِدْعَة قَالَ المصنف اعلم أن القوم أرادوا الانسلال من الدين فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة فِي استنباط تدبير يخفف عنهم مَا نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى اخرسوهنم عَن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون2 ورأوا أمر مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استطار فِي الأقطار وأنهم قد عجزوا عَنْ مقاومته فقالوا سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض فنتحصن بالانتساب إليهم ونتودد إليهم بالحزن عَلَى مَا جرى عَلَى آل مُحَمَّد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة فَإِذَا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إِلَى مَا نقلوا فأمكن استدراجهم إِلَى الانخداع عَن الدين فَإِن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة فِي اعتقاد بواطنها ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم فَإِذَا تكثرنا بهؤلاء سَهْل علينا استدراج باقي الفرق ثم قالوا وطريقنا أن نختار رجلا مما يساعد عَلَى المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب عَلَى كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة اللَّه عز وجل ثم لا تظهر هذه الدعوة عَلَى القرب من جوار هَذَا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة فَإِن قرب الدار يهتك الأستار وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن
حال الإمام أَوْ يطلع عَلَى حقيقة أمره وقصدهم بهذا كله الملك والاستيلاء عَلَى أموال الناس والانتقال منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم. فصل: قَالَ المصنف: وللقوم حيل فِي استذلال الناس فهم يميزون من يجوز أن يطمع فِي استدراجه ممن لا يطمع فيه فَإِذَا طمعوا فِي شخص نظروا فِي طبعه فَإِن كان مائلا إِلَى الزهد دعوه إِلَى الأمانه والصدق وترك الشهوات وإن كان مائلا إِلَى الخلاعة قرروا فِي نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة وإنما الفطنة فِي اتباع اللذات من هذه الدنيا الفانية ويثبتون عند كل ذي مذهب مَا يليق بمذهبه ثم يشككونه فيما يعتقدوه فيستجيب لهم أما رجل أبله أَوْ رجل من أبناء الأكاسرة وأولاد المجوس ممن قد انقطعت دولة أسلافه بدولة الإسلام أَوْ رجل يميل إِلَى الاستيلاء ولا يساعده الزمان فيعدونه بنيل آماله أَوْ شخص يجب الترفع عَنْ مقامات العوام ويروم بزعمه الاطلاع عَلَى الحقائق أَوْ رافضي يتدين بسبب الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم أَوْ ملحد من الفلاسفة والثنوية والمتحيرين فِي الدين أَوْ من قد غلبت عَلَيْهِ حب اللذات وثقل عَلَيْهِ التكليف. فصل: فِي ذكر نبذة من مذاهبهم قَالَ أَبُو حامد الطوسي الباطنية قوم يدعون الإسلام ويميلون إِلَى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام فمن مذهبهم القول بآلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني قالوا والسابق لا يوصف بوجود ولا عدم ولا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف وحدث عَن السابق الثاني وَهُوَ أول مبدع ثم حديث النفس الكلية وعندهم أن النبي عَلَيْهِ السلام عبارة عَنْ شخص1 فاضت عَلَيْهِ من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية وزعموا أن جبريل عَلَيْهِ السلام عبارة عَن العقل الفائض عَلَيْهِ لا أنه شخص واتفقوا عَلَى أنه لا بد لكل عصر مَعَ إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه فِي تأويل الظواهر مساو للنبي عَلَيْهِ السلام فِي العصمة وأنكروا المعاد وقالوا معنى المعاد عود الشيء إِلَى أصله وتعود النفس إِلَى أصلها وأما التكليف فالمنقول عنهم الإباحة المطلقة واستباحة المحظورات وَقَدْ ينكرون هَذَا إذا حكى عنهم وإنما يقرون بأنه لا بد للإنسان من التكليف فَإِذَا اطلع على بواطن الظواهر.
ارتفعت التكاليف ولما عجزوا عَنْ صرف الناس عَن القرآن والسنة صرفوهم عَن المراد بهما إِلَى مخاريق زخرفوها إذ لو صرحوا بالنفي المحض لقتلوا فقالوا معنى الجنابة مبادرة المستجيب بإفشاء المستجيب بإفشاء السر ومعنى الغسل تجديد العهد عَلَى من فعل ذلك ومعنى الزنى إلقاء نطفة العلم الباطن فِي نفس من لم يسبق معه عقد العهد والصيام الإمساك عَنْ كشف السر والكعبة هي النبي والباب علي والطوفان طوفان العلم أعرق به المتمسكون بالشبهة والسفينة الحرز الذي يحصن به من استجاب لدعوته ونار إِبْرَاهِيم عبارة عَنْ غضب نمرود لا عَنْ نار حقيقة وذبح إِسْحَاق معناه أخذ العهد عَلَيْهِ وعصى مُوسَى حجته ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر وذكر غيره أنهم يقولون إن اللَّه عز وجل لما أوجد الأرواح ظهر لهم فيما بينهم كهم فلم يشكوا أنه واحد منهم فعرفوه فأول من عرفه سلمان الْفَارِسِيّ والمقداد وأبو ذر وأول المنكرين الذي يسمى إبليس عُمَر بْن الخطاب فِي خرافات ينبغي أن يصان الوقت الْعَزِيز عَن التضييع بذكرها ومثل هؤلاء لم يتمسكوا بشبهة فتكون معهم مناظرة وإنما اخترعوا بواقعاتهم مَا أرادوا فان اتفقت مناظرة لأحدهم فليقل لَهُ أعرفتم هذه الأشياء التي تذكرونها عَنْ ضرورة أَوْ عَنْ نظر أَوْ عَنْ نقل عَن الإمام المعصوم فَإِن قلتم ضرورة فكيف خالفكم ذوو العقول السليمة ولو ساغ للانسان أن يهدي بدعوى الضرورة فِي كل مَا يهواه جاز لخصمه دعوى الضرورة فِي نقض مَا ادعاه وان قلتم بالنظر فالنظر عندكم باطل لأنه تصرف بالعقل وقضايا العقول عندكم لا يوثق بِهَا وان قلتم عَنْ إمام معصوم قلنا فما الذي دعاكم إِلَى قبول قوله بلا معجزة وترك قول مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ المعجزات ثم مَا يؤمنكم أن يكون مَا سمع من الإمام المعصوم لَهُ باطن غير ظاهر ثم يقال لهم هذه البواطن والتأويلات يجب إخفاؤها أم إظهارها فان قالوا يجب إظهارها قلنا فلما كتمها مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وان قالوا يجب إخفاؤها قلنا مَا وجب عَلَى الرسول إخفاؤه كيف حل لكم إفشاؤه قَالَ ابْن عقيل هلك الإسلام بين طائفتين بين الباطنية والظاهرية فأما أهل البواطن فإنهم عطلوا ظواهر الشرع بما أدعوه من تفاسيرهم التي لا برهان لهم عليها حتى لم يبق فِي الشرع شيء إلا وَقَدْ وضعوا وراءه معنى حتى أسقطوا إيجاب الوجب والنهي عَن المنهي وأما أهل الظاهر فإنهم أخذوا بكل مَا ظهر مما لا بد من تأويله فحملوا الأسماء والصفات عَلَى مَا عقلوه والحق بين المنزلتين وَهُوَ أن تأخذ بالظاهر مَا لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع. قال المصنف: ولو لقيت مقدم هذه الطائفة المعروفة بالباطنية لم أكن سالكا معه طريق
العلم بل التوبيخ والازدراء عَلَى عقله وعقول أتباعه بأن أقول أن للآمال طرقا تسلك ووجوها توصل ووضع الأمل فِي وجه اليأس حمق ومعلوم أن هذه الملل التي قد طبقت الأَرْض أقر بِهَا شريعة الإسلام التي تتظاهرون بِهَا وتطعمون فِي إفسادها قد تمكنت تمكنا يكون الطمع فِي تمحيقها فضلا عَنْ إزالتها حمقا فلها مجمع كل سنة بعرفة ومجمع كل أسبوع فِي الجوامع ومجمع كل يوم فِي المساجد فمتى تحدثكم نفوسكم بتكدير هَذَا البحر الزاخر وتمحيق هَذَا الأمر الظاهر فِي الآفاق يؤذن كل يوم عَلَى مَا بين ألوف منابر بأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رَسُول اللَّهِ وغاية مَا أنتم عَلَيْهِ حديث فِي خلوة أَوْ متقدم فِي قلعة أن نبس بكلمة يرمي رأسه وقتل الكلاب فمتى يحدث العاقل مِنْكُمْ نفسه بظهور مَا أنتم عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الأمر الكلي الذي طبق البلاد فما أعرف أحمق مِنْكُمْ إِلَى أن يجيء إِلَى باب المناظرة بالبراهين العقلية. فصل: قال المصنف والتهبت جمرة الباطنية المتأخرين فِي سنة أربع وتسعين واربعمائة فقتل السلطان جلال الدولة برقيارق خلقا منهم لما تحقق مذهبهم فبلغت عدة القتلى ثلثمائة ونيفا وتتبعت أموالهم فوجد لأحدهم سبعون بيتا من اللآلىء المحفور وكتب بذلك كتاب إِلَى الخليفة فتقدم بالقبض عَلَى قوم يظن فيهم ذلك المذهب ولم يتجاسر أحد أن يشفع فِي أحد لئلا يظن ميله إِلَى ذلك المذهب وزاد تتبع العوام لكل من أرادوا وصار كل من فِي نفسه شيء من إنسان يرميه بهذا المذهب فيقصيه وينتهب ماله وأول مَا عرف من أحوال الباطنية فِي أيام الملك شاه جلال الدولة أنهم اجتمعوا فصلوا صلاة العيد فِي ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم أطلقهم ثم اغتالوا مؤذنا من أهل ساوة فاجتهدوا أن يدخل معهم فلم يفعل فخافوه أن ينم عليهم فاغتالوه فقتلوه فبلغ الخبر إِلَى نظام الملك فتقدم يأخذ من يتهم فيقتله فقتل المتهم وكان نجارا وكانت أول فتكة لهم فتكهم بنظام الملك وكانوا يقولون قتلتم منا نجارا فقتلنا به نظام الملك واستفحل أمرهم بأصبهان فلما مات الملك شاه وآل الأمر إِلَى أنهم كانوا يسرقون الإنسان ويقتلونه ويلقونه فِي البئر وكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إِلَى منزله أيسوا مِنْهُ وفتش الناس المواضع فوجدوا امرأة فِي دار لا تبرح فوق حصير فأزالوها فوجدوا تحت الحصير أربعين قتيلا فقتلوا المرأة وأحرقوا الدار والمحلة وكان يجلس رجل ضرير عَلَى باب الزقاق الذي فيه هذه الدار فَإِذَا مر إنسان سأله أن يقوده خطوات إِلَى الزقاق فَإِذَا حصل هناك جذبه من فِي الدار واستولوا عَلَيْهِ فجد المسلمون فِي طلبهم بأصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأول قلعة تملكها الباطنية قلعة فِي ناحية يقال لها الروزباد من نواحي الديلم وكانت هذه القلعة لقماح صاحب
ملكشاه وكان يستحفظها متهما بمذهب القوم فأخذ ألفا ومائتي دِينَار وَسَلَّمَ إليهم القلعة فِي سنة ثلاث وثمانين فِي أيام ملكشاه وكان مقدمها الْحَسَن بْن الصباح وأصله من مرو وكان كاتبا للرئيس عَبْد الرازق بْن بهرام إذ كان صبيا ثم إِلَى مصر وتلقى من دعاتهم المذاهب وعاد داعية القوم ورأسا فيهم وحصلت لَهُ هذه القلعة وكانت سيرته فِي دعاته ألا يدعوا إلا غبيا لا يفرق بين يمينه وشماله مثلا ومن لا يعرف أمور الدنيا ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتى ينبسط دماغه ثم يذكر لَهُ حينئذ مَا تم عَلَى أهل بيت المصطفى صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ وعليهم من الظلم والعدوان حتى يستقر ذلك فِي نفسه ثم يَقُول إذا كانت الأزارقة والخوارج سمحوا بنفوسهم فِي قتال بني أمية فما سبب بخلك بنفسك فِي نصرة إمامك فيتركه بهذه المقالة طعمة للسيف وكان ملكشاه قد أرسل إِلَى ابْن الصباح يدعوه إِلَى الطاعة ويتهدده أن خالفه ويأمره بالكف عَنْ بث أصحابه لقتل العلماء والأمراء فَقَالَ فِي جواب الرسالة والرسول حاضر الجواب مَا تراه ثم قَالَ لجماعة وقوف بين يديه أريد أن أنقذكم إِلَى مولاكم فِي حاجة فمن ينهض لها باشرأب كل منهم لذلك فظن رَسُول السلطان أنها رسالة يحملها إياهم فأومأ إِلَى شاب منهم فَقَالَ لَهُ أقتل نفسك فجذب سكينة وضرب بِهَا غلصمته1 فخر ميتا وقال لآخر إرم نفسك من القلعة فألقى نفسه فتمزق ثم التفت إِلَى رَسُول السلطان فَقَالَ أخبره أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هَذَا حد طاعتهم لي وهذا هو الجواب فعاد الرسول إِلَى السلطان ملكشاه فأخبره بما رأى فعجب من ذلك وترك كلامهم وصارت بأيديهم قلاع كثيرة ثم قتلوا جماعة من الأمراء والوزراء قَالَ المصنف وَقَدْ ذكرنا من صفة القوم فِي التاريخ أحوالا عجيبة فلم نر التطويل بها هنا. فصل: وكم من زنديق فِي قلبه حقد عَلَى الإسلام خرج فبالغ واجتهد فزخرف دعاوي يلقي بِهَا من يصحبه وكان غور مقصده فِي الاعتقاد الانسلال من ربقة الدين وفي العمل نيل الملذات واستباحة المحظورات فمنهم بابك الخرمي حصل لَهُ مقصوده من اللذات ولكن بعد أن قتل الناس وبالغ فِي الأذى ثم القرامطة وصاحب الزنج الذي خرج فاستغوى المماليك السودان ووعدهم الملك فنهب وفتك وقتل وبالغ وكانت عواقبهم فِي الدنيا أقبح العواقب فما وفي مَا نالوا بما نيل منهم ومنهم من لم يبرح عَلَى تعثيره ففاتته الدنيا والآخرة مثل ابْن الراوندي والمعري أنبأنا مُحَمَّد بْن أبي طاهر عَنْ أبي القاسم عَلِيّ بْن المحسن التنوخي عَنْ أبيه قَالَ كان ابن
الراوندي ملازم الرافضة وأهل الإلحاد فَإِذَا عوتب قَالَ إنما أريد أن أعرف مذاهبهم ثم كاشف وناظر. قال المصنف من تأمل حال1 ابْن الراوندي وجده من كبار الملحدة وصنف كتابا سماه الدامغ زعم أنه يدمغ به هذه الشريعة فسبحان من دمغه فأخذه وَهُوَ فِي شرخ الشباب وكان يعترض عَلَى القرآن ويدعي عَلَيْهِ التناقض وعدم الفصاحة وَهُوَ يعلم أن فصحاء العرب تحيرت عند سماعه فكيف بالألكن وأما أَبُو العلاء المعري فأشعاره ظاهرة الإلحاد وكان يبالغ فِي عداوة الأنبياء ولم يزل متخبطا فِي تعثيره خائفا من القتل إِلَى أن مات بخسرانه وما خلا زمان من خلف للفريقين إلا أن جمرة المنبسطين قد خبت بحمد اللَّه فليس إلا باطني مستتر ومتفلسف متكاتم هو أعثر الناس وأخسأهم قدرا وأردأهم عيشا وَقَدْ شرحنا أحوال جماعة من الفريقين فِي التاريخ فلم نر التطويل بذلك والله الموفق.
الباب السادس: في ذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم
الباب السادس: فِي ذكر تلبيس إبليس عَلَى العلماء فِي فنون العلم قَالَ المصنف: اعلم أن إبليس يدخل عَلَى الناس فِي التلبيس من طرق منها ظاهر الأمر ولكن يغلب الإنسان فِي إيثار هواه فيغمض عَلَى علم يذلله ومنها غامض وَهُوَ الذي يخفى عَلَى كثير من العلماء ونحن نشير إِلَى فنون من تلبيسه يستدل بمذكورها عَلَى مغفلها إذ حصر الطرق يطول وَاللَّه العاصم. ذكر تلبيسه عَلَى القراء فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراآت الشاذة وتحصيلها فيفني أكثر عمره فِي جمعها وتصنيفها والأقراء بِهَا ويشغله ذلك عَنْ معرفة الفرائض والواجبات فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للأقراء ولا يعرف مَا يفسد الصلاة وربما حمله حب التصدر حتى لا يرى بعين الجهل عَلَى أن يجلس بين يدي العلماء ويأخذ عنهم العلم1 ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به ثم الإقبال عَلَى مَا يصلح النفس ويطهر أخلاقها ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم قَالَ الْحَسَن البصري أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا يعني أنهم اقتصروا عَلَى التلاوة وتركوا العمل به ومن ذلك أن أحدهم يقرأ فِي محرابه بالشاذ ويترك المتواتر المشهور والصحيح عند العلماء أن الصلاة لا تصح بهذا الشاذ وإنما مقصود هَذَا إظهار الغريب لاستجلاب مدح الناس وإقبالهم عَلَيْهِ وعنده أنه متشاغل بالقرآن ومنهم من يجمع القراآت فيقول ملك مالك ملاك وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقرآن عَنْ نظمه ومنهم من يجمع السجدات والتهليلات والتكبيرات وذلك
مكروه وَقَدْ صاروا يوقدون النيران الكثيرة للختمة فيجمعون بين تضييع المال والتشبه بالمجوس والتسبب إِلَى اجتماع النساء والرجال بالليل للفساد ويريهم إبليس أن فِي هَذَا إعزازا للإسلام وهذا تلبيس عظيم لأن إعزاز الشرع باستعمال المشروع ومن ذلك أن منهم من يتسامح بادعاء القراءة عَلَى من لم يقرأ عَلَيْهِ وربما كانت لَهُ إجازة مِنْهُ فَقَالَ أَخْبَرَنَا تدليسا وَهُوَ يرى أن الأمر فِي ذلك قريب لكونه يروي القراآت ويراها فعل خير وينسى أن هَذَا كذب يلزمه إثم الكذابين ومن ذلك أن المقرىء المجيد يأخذ عَلَى اثنين وثلاثة ويتحدث مَعَ من يدخل عَلَيْهِ والقلب لا يطيق جمع هذه الأشياء ثم يكتب خطه بأنه قد قرأ عَلَى فلان بقراءة فلان وَقَدْ كان بعض المحققين يَقُول ينبغي أن يجتمع اثنان أَوْ ثَلاثَة ويأخذوا عَلَى واحد ومن ذلك أن أقواما من القراء يتبارون بكثرة القراءة وَقَدْ رأيت من مشايخهم من يجمع الناس ويقيم شخصا ويقرأ فِي النهار الطويل ثلاث ختمات فَإِن قصر عيب وإن أتم مدح وتجتمع العوام لذلك ويحسنونه كَمَا يفعلون فِي حق السعاة ويريهم إبليس أن فِي كثرة التلاوة ثوابا وهذا من تلبيسه لأن القراءة ينبغي أن تكون لله تعالى لا للتحسين بِهَا وينبغي أن تكون عَلَى تمهل وقال عز وجل: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وقال عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ومن ذلك أن جماعة من القراء أحدثوا قراءة الألحان وَقَدْ كانت إِلَى حد قريب وعلى ذلك فقد كرهها أَحْمَد بْن حنبل وغيره ولم يكرهها الشافعي أنبأنا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَبُو علي الْحُسَيْن بْن سَعْد الهمذاني نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن لال ثنا الفضل بْن الفضل ثنا السياحي ثنا الربيع بْن سُلَيْمَان قَالَ قَالَ الشافعي أما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به ولا بأس بقراءة الألحان وتحسين الصوت. قَالَ المصنف: وقلت إنما أشار الشافعي إِلَى مَا كان فِي زمانه وكانوا يلحنون بيسرا فأما الْيَوْم فقد صيروا ذلك عَلَى قانون الأغاني وكلما قرب ذلك من مشابهة الغناء زادت كراهته فان أخرج القرآن عَنْ حد وضعه حرم ذلك ومن ذلك أن قوما من القراء يتسامحون بشيء من الخطايا كالغيبة للنظراء وربما أتوا أكبر من ذلك الذنب واعتقدوا أن حفظ القرآن يرفع عنهم العذاب واحتجوا بقوله عَلَيْهِ الصلاة والسلام: "لو جعل القرآن فِي إهاب مَا احترق" وذلك من تلبيس إبليس عليهم لأن عذاب من يعلم أكثر من عذاب من لم يعلم إذ زيادة العلم تقوى الحجة وكون القارىء لم يحترم مَا يحفظ ذنب آخر قَالَ اللَّه عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} وقال فِي أزواج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} .
وقد أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن أحمد المتوكلي نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا أَبُو الْحَسَنِ ابْن زرقويه نا إسماعيل الصفار ثنا زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى ثنا معروف الكرخي قَالَ قَالَ بَكْر بْن حبيش إن فِي جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن فِي الوادي لجبا يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات وإن فِي الجب لحية يتعوذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون أي رب يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان فَقِيلَ لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم قَالَ المصنف فلنقتصر عَلَى هَذَا الأنموذج فيما يتعلق بالقراء.
ذكر تلبيس إبليس على أصحاب الحديث
ذكر تلبيس إبليس عَلَى أصحاب الحديث من ذلك أن قوما استغرقوا أعمارهم فِي سماع الحديث والرحلة فيه وجمع الطرق الكثيرة وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة وهؤلاء عَلَى قسمين قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صَحِيح الحديث من سقيمه وهم مشكورون عَلَى هَذَا القصد إلا أن إبليس يلبس عليهم بأن يشغلهم بهذا عما هو فرض عين من معرفة مَا يجب عليهم والاجتهاد فِي أداء اللازم والتفقه فِي الحديث فَإِن قَالَ قائل فقد فعل هَذَا خلق كثير من السلف كيحيى بْن معين وابن الْمَدِينِيّ والبخاري ومسلم فالجواب أن أولئك جمعوا بين معرفة المهم من أمور الدين والفقه فيه وبين مَا طلبوا من الحديث وأعانهم عَلَى ذلك قصر الإسناد وقلة الحديث فاتسع زمانهم للأمرين فأما فِي هَذَا الزمان فَإِن طرق الحديث طالت والتصانيف فيه اتسعت وما فِي هَذَا الْكِتَاب فِي تلك الكتب وإنما الطرق تختلف فقل أن يمكن أحدا أن يجمع بين الأمرين فترى المحدث يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ولا يدري مَا فيها ولو وقعت لَهُ حادثة فِي صلاته لافتقر إِلَى بعض أحداث المتفقهة الذين يترددون إليه لسماع الحديث مِنْهُ وبهؤلاء تمكن الطاعنون عَلَى المحدثين فقالوا زوامل أسفار لا يدرون مَا معهم فان أفلح أحدهم ونظر فِي حديثه فربما عمل بحديث منسوخ وربما فهم من الحديث مَا يفهم العامي الجاهل وعمل بذلك وليس بالمراد من الحديث كَمَا روينا أن بعض المحدثين روي عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى أن يسقى الرَّجُل ماءه زرع غيره فَقَالَ جماعة ممن حضر قد كنا إذا فضل عنا ماء فِي بساتيننا سرحناه إِلَى جيراننا ونحن نستغفر اللَّه فما فهم القارىء ولا السامع ولا شعروا أن المراد وطء الحبالى من السبايا قال الخطابي وكان بعض مشايخنا يروي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة بإسكان اللام قَالَ
وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة قَالَ فقلت لَهُ إنما هو الحلق جمع حلقة وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة فَقَالَ قد فرجت علي وكان من الصالحين وَقَدْ كان ابْن صَاعِد كبير القدر فِي المحدثين لكنه لما قلت مخالطته للفقهاء كان لا يفهم جواب فتوى حتى أنه قد أَخْبَرَنَا أبو منصور البوار نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قَالَ سَمِعْتُ اليرقاني يَقُول قَالَ أَبُو بَكْر الأبهري الفقيه قَالَ كنت عند يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن صَاعِد فجاءته امرأة فقالت أيها الشيخ مَا تقول فِي بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أَوْ نجس فَقَالَ يَحْيَى ويحك كيف سقطت الدجاجة إِلَى البئر قالت لم تكن البئر مغطاة فَقَالَ يَحْيَى ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء قَالَ الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر. قَالَ المصنف: وكان ابْن شاهين قد صنف فِي الحديث مصنفات كثيرة أقلها جزء وأكثرها التفسير وَهُوَ ألف جزء وما كان يعرف من الفقه شيئا وَقَدْ كان فيهم من يقدم عَلَى الفتوى بالخطأ لئلا يرى بعين الجهل فكان فيهم من يصير بما يفتي به ضحكة فسئل بعضهم عَنْ مسألة من الفرائض فكتب فِي الفتوى تقسم عَلَى فرائض اللَّه سبحانه وتعالى. وأنبأنا مُحَمَّد بْن أبي منصور نا أَحْمَد بْن الْحُسَيْن بْن حبرون نا أَحْمَد بْن مُحَمَّد العتيقي نا أَبُو عُمَر بْن حياة نا سُلَيْمَان بْن إِسْحَاقَ الحلاب ثنا إِبْرَاهِيم الحربي قَالَ بلغني أن امرأة جاءت إِلَى عَلِيّ بْن داود وَهُوَ يحدث وبين يديه مقدار ألف نفس فقالت لَهُ حلفت بصدقة إزاري فَقَالَ لها بكم اشتريتيه قالت باثنين وعشرين درهما قَالَ اذهبي فصومي اثنين وعشرين يوما فلما مرت جعل يَقُول آه آه غلطنا وَاللَّه أمرناها بكفارة الظهار. قَالَ المصنف: قلت فانظروا إِلَى هاتين الفضيحتين فضيحة الجهل وفضيحة الإقدام عَلَى الفتوى بمثل هَذَا التخليط واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر مَا تعلق من صفات الباري سبحانه عَلَى مقتضى الحس فشبهوا لأنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه عَلَى مقتضى الحكم وَقَدْ رأينا فِي زماننا من يجمع الكتب منهم ويكثر السماع ولا يفهم مَا حصل ومنهم من لا يحفظ القرآن ولا يعرف أركان الصلاة فتشاغل هؤلاء عَلَى زعمهم بفروض الكفاية عَنْ فروض الأعيان وإيثار مَا ليس بمهم عَلَى المهم من تلبيس إبليس. القسم الثاني: قوم أكثروا سماع الحديث ولم يكن مقصودهم صحيحا ولا أرادوا معرفة
الصحيح من غيره بجمع الطرق وإنما كان مرادهم العوالي والغرائب فطافوا البلدان ليقول أحدهم لقيت فلانا ولي من الأسانيد مَا ليس لغيري وعندي أحاديث ليست عند غيري وَقَدْ كان دخل إلينا إِلَى بغداد بعض طلبة الحديث وكان يأخذ الشيخ فيقعده فِي الرقة وهي البستان الذي على شاطيء دجلة فيقرأ عَلَيْهِ ويقول فِي مجموعاته حَدَّثَنِي فلان وفلان بالزقة ويوهم الناس أنها البلدة التي بناحية الشام ليظنوا أنه قد تعب فِي الأسفار لطلب الحديث وكان يقعد الشيخ بين نهر عِيسَى والفرات ويقول حَدَّثَنِي فلان من وراء النهر يوهم أنه قد عبر خراسان فِي طلب الحديث وكان يَقُول حَدَّثَنِي فلان فِي رحلتي الثانية والثالثة ليعلم الناس قدر تعبه فِي طلب الحديث فما بورك لَهُ ومات فِي زمان الطلب. قَالَ المصنف: وهذا كله من الإخلاص بمعزل وإنما مقصودهم الرساة والمباهاة ولذلك يتبعون شاذ الحديث وغريبه وربما ظفر أحدهم بجزء فيه سماع أخيه المسلم فأخفاه ليتفرد هو بالرواية وَقَدْ يموت هو ولا يرويه فيفوت الشخصين وربما رحل أحدهم إِلَى شيخ أول اسمه قاف أَوْ كاف ليكتب ذلك فِي مشيخته فحسب. ومن تلبيس إبليس عَلَى أصحاب الحديث قدح بعضهم فِي بعض طلبا للتشفي ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عَن الشرع وَاللَّه أعلم بالمقاصد ودليل مقصد خبث هؤلاء سكوتهم عمن أخذوا عنه وما كان القدماء هكذا فقد كان عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ يحدث عَنْ أبيه وكان ضعيفا ثم يَقُول وفي حديث الشيخ مَا فيه أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب العامري نا أَبُو سَعِيد بْن أبي صَادِق نا أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن باكويه ثنا بَكْر أن ابْن أَحْمَد الجيلي قَالَ سمعت يوسف بْن الْحُسَيْن يَقُول سألت حارثا المحاسبي عَن الغيبة فَقَالَ احذرها فإنها شر مكتسب وما ظنك بشيء يسلبك حسناتك فيرضى به خصماءك ومن تبغضه فِي الدنيا كيف ترضى به خصمك يوم القيامة يأخذ من حسناتك أَوْ تأخذ من سيئاته إذ ليس هناك درهم ولا دِينَار فاحذرها وتعرف منبعها فان منبع غيبة الهمج والجهال من إشفاء الغيظ والحمية والحسد وسوء الظن وتلك مكشوفة غير خفية وأما غيبة العلماء فمنبعها من خدعة النفس عَلَى إبداء النصيحة وتأويل مالا يصح من الخبر ولو صح مَا كان عونا عَلَى الغيبة وَهُوَ قوله أترغبون عَنْ ذكره اذكروه بما فيه ليحذره الناس ولو كان الخبر محفوظا صحيحا لم يكن فيه إبداء شناعة عَلَى أخيك المسلم من غير أن تسأل عنه وإنما إذا جاءك مسترشد فَقَالَ أريد أن أزوج كريمتي من فلان فعرفت مِنْهُ
بدعة أَوْ أنه غير مأمون عَلَى حرم المسلمين صرفته عنه بأحسن صرف أَوْ يجيئك رجل آخر فيقول لك أريد أن أودع مالي فلانا وليس ذلك الرَّجُل موضعا للأمانة فتصرفه عنه بأحسن الوجوه أَوْ يَقُول لك رجل أريد أن أصلي خلف فلان أَوْ أجعله إمامي فِي علم فتصرفه عنه بأحسن الوجوه ولا تشف غيظك من غيبته. وأما منبع الغيبة من القراء والنساك فمن طريق التعجب يبدي عوار الأخ ثم يتصنع بالدعاء فِي ظهر الغيب فيتمكن من لحم أخيه المسلم ثم يتزين بالدعاء لَهُ وأما منبع الغيبة من الرؤساء والأساتذة فمن طريق إبداء الرحمة والشفقة حتى يَقُول مسكين فلان ابتلى بكذا وامتحن بكذا نعوذ بالله من الخذلان فيتصنع بإبداء الرحمة والشفقة عَلَى أخيه ثم يتصنع بالدعاء لَهُ عند إخوانه ويقول إنما أبديت لكم ذاك لتكثروا دعاءكم لَهُ ونعوذ بالله من الغيبة تعريضا أَوْ تصريحا فاتق الغيبة فقد نطق القرآن بكراهتها فَقَالَ عز وجل: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} وَقَدْ روي عَن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذلك أخبار كثيرة. ومن تلبيس إبليس عَلَى علماء المحدثين رواية الحديث الموضوع من غير أن يبينوا أنه موضوع وهذه جناية منهم عَلَى الشرع ومقصودهم ترويج أحاديثهم وكثرة رواياتهم وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ومن هَذَا الفن تدليسهم فِي الرواية فتارة يَقُول أحدهم فلان عَنْ فلان أَوْ قَالَ فلان عَنْ فلان يوهم أنه سمع مِنْهُ المنقطع ولم يسمع وهذا قبيح لأنه يجعل المنقطع فِي مرتبة المتصل ومنهم من يروي عَن الضعيف والكذاب فينفي اسمه فربما سماه بغير اسمه وربما كناه وربما نسبه إِلَى جده لئلا يعرف وهذه جناية عَلَى الشرع لأنه يثبت حكما بما لا يثبت به فأما إذا كان المروي عنه ثقة فنسبه إِلَى جده أَوْ أقتصر عَلَى كنيته لئلا يرى أنه قد ردد الرواية عنه أَوْ يكون المروي عنه فِي مرتبة الراوي فيستحي الراوي من ذكره فهذا عَلَى الكراهة والبعد من الصواب قريب بشرط أن يكون المروي عنه ثقة وَاللَّه الموفق.
ذكر تلبيس إبليس على الفقهاء
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء قال المصنف: كان الفقهاء فِي قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص حتى قَالَ المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد عَلَى الكتب المشهورة فِي الحديث كسنن أبي داود ونحوها ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا وربما اعتمد عَلَى قياس يعارضه حديث صَحِيح ولا يعلم لقلة التفاته إِلَى معرفة النقل وإنما الفقه استخراج من الْكِتَاب والسنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه ومن القبيح تعليق حكم عَلَى حديث لا يدري أصحيح هو أم لا ولقد كانت معرفة هَذَا تصعب ويحتاج الإنسان إِلَى السفر الطويل والتعب الكثير حتى تعرف ذلك فصنفت الكتب وتقررت السنن وعرف الصحيح من السقيم ولكن غلب عَلَى المتأخرين الكسل بالمرة عَنْ أن يطالعوا علم الحديث حتى إني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يَقُول فِي تصنيفه عَنْ ألفاظ فِي الصحاح لا يجوز أن يكون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا ورأيته يحتج فِي مسألة فيقول دليلنا مَا روى بعضهم أن رَسُول اللَّهِ قَالَ كذا ويجعل الجواب عَنْ حديث صَحِيح قد احتج به خصمه أن يَقُول هَذَا الحديث لا يعرف وهذا كله جناية عَلَى الإسلام. ومن تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء. أن جل اعتمادهم عَلَى تحصيل علم الجدل يطلبون بزعمهم تصحيح الدليل عَلَى الحكم والاستنباط لدقائق الشرع وعلل المذاهب ولو صحت هذه الدعوى منهم لتشاغلوا بجميع المسائل وإنما يتشاغلون بالمسائل الكبار ليتسع فيها الكلام فيتقدم المناظر بذلك عند الناس فِي خصام النظر فهم أحدهم بترتيب المجادلة والتفتيش عَلَى المناقضات طلبا للمفاخرات والمباهاة وربما لم يعرف الحكم فِي مسألة صغيرة تعم بِهَا البلوى.
ذكر تلبيسه عليهم بادخالهم في الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم على تلك الأوضاع
ذكر تلبيسه عليهم بإدخالهم فِي الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم عَلَى تلك الأوضاع. ومن ذلك إيثارهم للقياس عَلَى الحديث المستدل به فِي المسألة ليتسع لهم المجال فِي النظر وان استدل أحد منهم بالحديث هجن ومن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماعالحديث وسيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير وهي محتاجة إِلَى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب ومن لم يطلع عَلَى أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب لَهُ لم يمكنهم سلوك طريقهم وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فَإِذَا ترك مَعَ أهل هَذَا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم فَإِذَا نظر فِي سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم وَقَدْ كان بعض السلف يَقُول حديث يرق لَهُ قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شُرَيْح وأنما قَالَ هَذَا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب ومن ذلك أنهم اقتصروا عَلَى المناظرة وأعرضوا عَنْ حفظ المذهب
وباقي علوم الشرع فترى الفقيه المفتي يسأل عَنْ آية أَوْ حديث فلا يدري وهذا عين فأين الأنفة من التقصير ومن ذلك أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وَقَدْ كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق وَقَدْ كانوا ينتقلون من دليل إِلَى دليل وإذا خفي عَلَى أحدهم شيء نبهه الآخر لأن المقصود كان إظهار الحق فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه عَلَى أصل بعلة يظنها فَقِيلَ لَهُ مَا الدليل عَلَى أن الحكم فِي الأصل معلل بهذه العلة فَقَالَ هَذَا الذي يظهر لي فان ظهر لكم مَا هو أولى من ذلك فاذكروه فان المعترض لا يلزمني ذكر ذلك وَقَدْ صدق فِي أنه لا يلزمه ولكن فيما ابتدع من الجدل بل فِي باب النصح وإظهار الحق يلزمه ومن ذلك أن أحدهم يتبين لَهُ الصواب مَعَ خصمه ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحق مَعَ خصمه وربما اجتهد فِي رده مَعَ علمه أنه الحق وهذا من أقبح القبيح لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق وَقَدْ قَالَ الشافعي رحمه اللَّه مَا ناظرت أحدا فأنكر الحجة إلا سقط من عيني ولا قبلها إلا هبته وما ناظرت أحدا فباليت مَعَ من كانت الحجة إن كانت معه صرت إليه ومن ذلك أن طلبهم للرياسة بالمناظرة تثير الكامن فِي النفس من حب الرياسة فَإِذَا رأى أحدهم فِي كلامه ضعفا يوجب قهر خصمه لَهُ خرج إِلَى المكابرة فَإِن رأى خصمه استطال عَلَيْهِ بلفظ أخذته حمية الكبر فقابل ذلك بالسب فصارت المجادلة مخاذلة ومن ذلك ترخصهم فِي الغيبة بحجة الحكاية عَن المناظرة فيقول أحدهم تكلمت مَعَ فلان فما قَالَ شيئا ويتكلم بما يوجب التشفي من غرض خصمه بتلك الحجة ومن ذلك أن إبليس لبس عليهم بأن الفقه وحده علم الشرع ليس ثم غيره فان ذكر لهم محدث قالوا ذاك لا يفهم شيئا وينسون أن الحديث هو الأصل فان ذكر لهم كلام يلين به القلب قالوا هَذَا كلام الوعاظ ومن ذلك إقدامهم عَلَى الفتوى وما بلغوا مرتبتها وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص ولو توقفوا فِي المشكلات كان أولى. فقد أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ السمرقندي نا مُحَمَّد بْن هِبَة اللَّهِ الطَّبَرِيّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن بْن الفضل نا عَبْدُ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن درستويه ثنا يعقوب بْن سفيان ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عطاء بْن السائب عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى قَالَ أدركت مائة وعشرين من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أحدهم عَن المسألة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وهذا إِلَى هَذَا حتى ترجع إِلَى الأَوَّل قَالَ يعقوب وثنا أَبُو نعيم ثنا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى أيضا يَقُول أدركت فِي هَذَا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا منهم من يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عَنْ فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
قَالَ المصنف: وَقَدْ روينا عَنْ إِبْرَاهِيم النخعي أن رجلا سأله عَنْ مسألة فَقَالَ مَا وجدت من تسأله غيري وعن مالك بْن أنس رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ مَا أفتيت حتى سألت سبعين شيخا هل ترون لي أن أفتي فقالوا نعم فَقِيلَ لَهُ فلو نهوك قَالَ لو نهوني انتهيت وقال رجل لأحمد بْن حنبل إني حلفت ولا أدري كيف حلفت قَالَ ليتك إذ دريت كيف حلفت دريت أنا كيف أفتيك. قَالَ المصنف: وإنما كانت هذه سجية السلف لخشيتهم اللَّه عز وجل وخوفهم مِنْهُ ومن نظر فِي سيرتهم تأدب. ومن تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مَعَ القدرة عَلَى ذلك وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه الأَوَّل الأمير يَقُول لولا أني عَلَى صواب لأنكر عَلَى الفقيه وَكَيْفَ لا أكون مصيبا وَهُوَ يأكل من مالي والثاني العامي أنه يَقُول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فان فلانا الفقيه لا يبرح عنده والثالث الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك. وَقَدْ لبس إبليس عليهم فِي الدخول عَلَى السلطان فيقول إنما ندخل لنشفع فِي مسلم وينكشف هَذَا التلبيس بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح فِي ذلك الشخص لتفرده بالسلطان ومن تلبيس إبليس عَلَيْهِ فِي أخذ أموالهم فيقول لك فيها حق ومعلوم أنها إن كانت من حرام لم يحل لَهُ منها شيء وان كانت من شبهة فتركها أولى وان كانت من مباح جاز لَهُ الأخد بمقدار مكانه من الدين لا عَلَى وجه اتفاقه فِي إقامة الرعونة وربما اقتدى العوام بظاهر فعله واستباحوا مالا يستباح. وقد لبس إبليس عَلَى قوم من العلماء ينقطعون عَلَى السلطان إقبالا عَلَى التعبد والدين فيزين لهم غيبة من يدخل عَلَى السلطان من العلماء فيجمع لهم آفتين غيبة الناس ومدح النفس وفي الجملة فالدخول عَلَى السلاطين خطر عظيم لأن النية قد تحسن فِي أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عَنْ مداهنتهم وترك الإنكار عليهم وقد كان سفيان الثوري رَضِيَ اللَّهُ عنه يَقُول مَا أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم وَقَدْ كان علماء السلف يبعدون عَن الأمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الأمراء لحاجتهم اليهم فِي الفتاوي والولايات فنشأ أقوام قويت رغبتهم فِي الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح
للأمراء وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم ويدلك عَلَى أنهم قصدوا بالعلوم أن الأمراء كانوا قديما يميلون إِلَى سماع الحجج فِي الأصول فأظهر الناس علم الكلام ثم مال بعض الأمراء إِلَى المناظرة في الفقه فمالالناس إِلَى الجدل ثم بعض الأمراء إِلَى المواعظ فمال خلق كثير من المتعلمين إليها ولما كان جمهور العوام يميلون إِلَى القصص كثر القصاص وقل الفقهاء. ومن تلبيس إبليس عَلَى الفقهاء أن أحدهم يأكل من وقف المدرسة المبنية عَلَى المتشاغلين بالعلم فيمكث فيها سنين ولا يتشاغل ويقنع بما عرف أوْ ينتهي فِي العلم فلا يبقى لَهُ فِي الوقف حظ لأنه إنما جعل لمن يتعلم ألا أن يكون ذلك الشخص معيدا أو مدرسا فان شغله دائم ومن ذلك مَا يحكى عَنْ بعض الأحداث المتفقهة من الانبساط فِي المنهيات فبعضهم يلبس الحرير ويتحلى بالذهب ويحال عَلَى المكث فيأخذه إِلَى غير ذلك من المعاصي وسبب انبساط هؤلاء مختلف فمنهم من يكون فاسد العقيدة فِي أصل الدين وَهُوَ يتفقه ليستر نفسه أَوْ ليأخذ من الوقف أَوْ ليرأس أَوْ ليناظر ومنهم من عقيدته صحيحة لكن يغلبه الهوى وحب الشهوات وليس عنده صارف عَنْ ذلك لأن نفس الجدل والمناظرة تحرك الكبر والعجب وإنما يتقوم الانسان بالرياضة ومطالعة سير السلف وأكثر القوم فِي بعد عَنْ هَذَا وليس عندهم إلا مَا يعين الطبع عَلَى شموخه فحينئذ يسرح الهوى بلا زاد ومنهم من يلبس عَلَيْهِ إبليس بأنه عالم وفقيه ومفت والعلم يدفع عَنْ أربابه وهيهات فان العلم أولى أن يحاجه ويضاعف عذابه كَمَا ذكرنا فِي حق القراء وَقَدْ قَالَ الْحَسَن البصري إنما الفقيه من يخشى اللَّه عز وجل قَالَ ابْن عقيل رأيت فقيها خراسانيا عَلَيْهِ حرير وخواتم ذهب فقلت لَهُ مَا هَذَا فَقَالَ خلع السلطان وكمد الأعداء فقلت لَهُ بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلما إن إبليس عدوك وإذا بلغ منك مبلغك البسك مَا يسخط الشرع فقد أشمته بنفسك وهل خلع السلطان سائغة لنهي الرَّحْمَن يا مسكين خلع عليك السلطان فانخلعت به من الإيمان وَقَدْ كان ينبغي أن يخلع بك السلطان لباس الفسق ويلبسك لباس التقوى رماكم اللَّه بخزيه حيث هونتم أمره هكذا ليتك قلت هذه رعونات الطبع الآن تمت محنتك لأن عدوانك دليل عَلَى فساد باطنك. ومن تلبيسه عليهم أن يحسن لهم ازدراء الوعاظ ويمنعهم من الحضور عندهم فيقولون من هؤلاء قصاص ومراد الشَّيْطَان أن لا يحضروا فِي موضع يلين فيه القلب ويخشع والقصاص لا يذمون من حيث هَذَا الاسم لأن اللَّه عز وجل قَالَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ} وقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد ثم غالبهم يخلط فيما يورده وربما اعتمد عَلَى مَا أكثره محال فأما إذا كان القصص صدقا ويوجب وعظا فهو ممدوح وَقَدْ كان أحمد بْن حنبل يَقُول مَا أحوج الناس إِلَى قاص صدوق.
ذكر تلبيسه على الوعاظ والقصاص
ذكر تلبيسه عَلَى الوعاظ والقصاص قال المصنف: كان الوعاظ فِي قديم الزمان علماء فقهاء وَقَدْ حضر مجلس عُبَيْد بْن عمير عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه وكان عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز يحضر مجلس القاص ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبعد عَن الحضور وعندهم المميزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا عَلَى القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع فِي هَذَا الفن. وقد ذكرنا آفاتهم فِي كتاب القصاص المذكرين إلا أنا نذكر هنا جملة فمن ذلك أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس عَلَى الخير وكفهم عَن الشر وهذا افتيات منهم عَلَى الشريعة لأنها عندهم عَلَى هَذَا الفعل ناقصة تحتاج إِلَى تتمة ثم نسوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ومن ذلك أنهم تلمحوا مَا يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية فِي العشق ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد الإثارة إِلَى محبة اللَّه عز وجل ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى فيضل القاص ويضل ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة عَلَى مَا فِي قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بِهَا عَلَى قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها الْيَوْم مشابهة للغناء فهي إِلَى التحريم أقرب منها إِلَى الكراهة والقارىء يطرب والقاص ينشد الغزل مَعَ تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء وتمزيق الثياب لما فِي النفوس من دفائن الهوى ثم يخرجون فيقولون كان المجلس طيبا ويشيرون بالطيبة إِلَى مَا لا يجوز ومنهم من يجري فِي مثل تلك الحالة التي شرحناها لكنه ينشد أشعار النوح عَلَى الموتى ويصف مَا يجري لهم من البلاء ويذكر الغربة.
ومن مات غريبا فيبكي بِهَا النساء ويصير المكان كالمأتم وإنما ينبغي أن يذكر الصبر عَلَى فقد الأحباب لا مَا يوجب الجزع ومنهم من يتكلم فِي دقائق الزهد ومحبة الحق سبحانه فليس عَلَيْهِ إبليس إنك من جملة الموصوفين بذلك لأنك لم تقدر عَلَى الوصف حتى عرفت مَا تصف وسلكت الطريق وكشف هَذَا التلبيس أن الوصف علم والسلوك غير العلم ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عَن الشرع ويستشهد بأشعار العشق وغرضه أن يكثر فِي مجلسه الصياح ولو عَلَى كلام فاسد وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم الْيَوْم فِي مُوسَى والجبل وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عَنْ ذنب فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف ومنهم من يحث عَلَى الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة المقصود فربما تاب الرَّجُل منهم وانقطع إِلَى زاوية أَوْ خرج إِلَى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم ومنهم من يتكلم فِي الرجاء والطمع من غير أن يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة عَلَى المعاصي ثم يقوي مَا ذكر بميله إِلَى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة فيفسد القلوب بقوله وفعله. فصل: وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة فِي قلبه مَعَ الزمان فيجب أن يعظم وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أَوْ يعينه عَلَى الخلق كره ذلك ولو صح قصده لم يكره أن يعينه عَلَى خلائق الخلق. فصل: ومن القصاص من يخلط فِي مجلسه الرجال والنساء وترى النساء يكثرن الصياح وجدا عَلَى زعمهن فلا ينكر ذلك عليهن جمعا للقلوب عَلَيْهِ ولقد ظهر فِي زماننا هَذَا من القصاص مَا لا يدخل فِي التلبيس لأنه أمر صريح من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمحنون به الأمراء والظلمة والآخذ من أصحاب المكوس والتكسب به فِي البلدان وفيهم من يحضر المقابر فيذكر البلى وفراق الأحبة فيبكي النسوة ولا يحث على الصبر. فصل: وقد يلبس إبليس عَلَى الواعظ المحقق فيقول لَهُ مثلك لا يعظ وإنما يعظ متيقظ فيحمله عَلَى السكوت والانقطاع وذلك من دسائس إبليس لأنه يمنع فعل الخير ويقول إنك تلتذ بما تورده وتجد بذلك سد باب الخير وعن ثابت قَالَ كان الْحَسَن فِي مجلس فَقِيلَ للعلاء تكلم فَقَالَ أَوْ هناك أنا ثم ذكر
الكلام ومؤنته وتبعته قَالَ ثابت فأعجبني قَالَ ثم تكلم الْحَسَن واننا هناك يود الشَّيْطَان أنكم أخذتموها عنه فلم يأمر أحدا بخبر ولم ينهه عَنْ شر.
ذكر تلبيسه على أهل اللغة والأدب
ذكر تلبيسه عَلَى أهل اللغة والأدب قال المصنف: قد لبس عَلَى جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين عَنْ معرفة مَا يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب وبما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه فأذهبوا الزمان كله فِي علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها فَإِن الانسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إِلَى العمل بِهَا إذ هي مرادة لغيرها فترى الانسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل ولا من الفقه ولا يلتفت إِلَى تزكيه نفسه وصلاح قلبه ومع هَذَا ففيهم كبر عظيم وَقَدْ خيل لهم إبليس أنكم علماء الإسلام لأن النحو واللغة من علوم الإسلام وبها يعرف معنى القرآن الْعَزِيز ولعمري أن هَذَا لا ينكر ولكن معرفة مَا يلزم من النحو لإصلاح اللسان وما يحتاج إليه من اللغة فِي تفسير القرآن والحديث أمر قريب وَهُوَ أمر لازم وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه وإنفاق الزمان فِي تحصيل هَذَا الفاضل وليس بمهم مَعَ ترك المهم غلط وإيثاره عَلَى مَا هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل. فصل: ومما ظنوه صوابا وَهُوَ خطأ مَا أَخْبَرَنَا به أَبُو الْحُسَيْن بْن فارس قَالَ قيل لفقيه العرب هل يجب عَلَى الرَّجُل إذا أشهد الوضوء قَالَ نعم قَالَ والإشهاد أن يمذي الرَّجُل قَالَ المصنف وذكر من هَذَا الجنس مسائل كثيرة وهذا غاية فِي الخطأ لأنه متى كان الاسم مشتركا بين مسميين كان إطلاق الفتوى عَلَى أحدهما دون الآخر خطأ مثاله أن يَقُول المستفتي مَا تقول فِي وطء الرَّجُل زوجته فِي قرئها فإن القرء يقع عند اللغويين عَلَى الاطهار وعلى الحيض فيقول الفقيه يجوز إشارة إِلَى الطهر أَوْ لا يجوز إشارة إِلَى الحيض خطأ وكذلك لو قَالَ السائل هل يجوز للصائم أن يأكل بعد طلوع الفجر لم يجز إطلاق الجواب فما ذكره فقيه العرب هو خطأ من وجهين أحدهما أنه لم يستفصل فِي المحتملات والثاني أنه صرف الفتوى إِلَى أبعد المحتملات وترك الأظهر وَقَد استحسنوا هَذَا وقلة الفقه أوجبت هَذَا الزلل. فصل ولما كان عموم اشتغالهم بأشعار الجاهلية ولم يجد الطبع صادا عما وضع عَلَيْهِ من مطالعة الأحاديث ومعرفة سير السلف الصالح سالت بهم الطباع إِلَى هوة الهوى فانبث شرع
البطالة يعبث فقل أن ترى منهم متشاغلا بالتقوى أَوْ ناظرا فِي مطعم فان النحو يغلب طلبه عَلَى السلاطين فيأكل النحاة من أموالهم الحرام كَمَا كان أَبُو علي الْفَارِسِيّ فِي ظل عضد الدولة وغيره وَقَدْ يظنون جواز الشيء وَهُوَ غير جائز لقلة فقههم كَمَا جرى للزجاج أبي إِسْحَاق إبراهيم بْن السري قَالَ كنت أؤدب القاسم بْن عَبْدِ اللَّهِ فأقول لَهُ إن بلغت إِلَى مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي فيقول مَا أحببت فأقول لَهُ أن تعطيني عشرين ألف دِينَار وكانت غاية أمنيتي فما مضت إلا سنون حتى ولى القاسم الوزارة وأنا عَلَى ملازمتي لَهُ وَقَدْ صرت نديمه فدعتني نفسي إِلَى إذكاره بالوعد ثم هبته فلما كان فِي الْيَوْم الثالث من وزارته قَالَ لي يا أبا إسحاق لم أرك أذكرتني بالنذر فقلت عولت عَلَى رعاية الوزير أيده اللَّه وأنه لا يحتاج إِلَى إذكار لنذر عَلَيْهِ فِي أمر خادم واجب الحق فَقَالَ لي إِنَّهُ المعتضد ولولاه مَا تعاظمني دفع ذلك إليك فِي مكان واحد ولكن أخاف أن يصير لي معه حديث فاسمع بأخذه متفرقا فقلت افعل فَقَالَ اجلس للناس وخذ رقاعهم فِي الحوائج الكبار واستعجل عليها ولا تمتنع من مسائلتي شيئا تخاطب فيه صحيحا كان أَوْ محالا إِلَى أن يحصل لك مال النذر ففعلت ذلك وكنت أعرض عَلَيْهِ كل يوم رقاعا فيوقع فيها وربما قَالَ لي كم ضمن لك عَلَى هَذَا فأقول كذا وكذا فيقول غبنت هَذَا يساوي كذا وكذا فاستزد فأراجع القوم ولا أزال أماكسهم ويزيدونني حتى أبلغ الحد الذي رسمه قَالَ فعرضت عَلَيْهِ شيئا عظيما فحصل عندي عشرون ألف دِينَار وأكثر منها فِي مدة مديدة فَقَالَ لي بعد شهور يا أبا إِسْحَاق حصل مال النذر فقلت لا فسكت وكنت أعرض ثم يسألني فِي كل شهر أَوْ نحوه هل حصل المال فأقول لا خوفا من انقطاع الكسب إِلَى أن حصل عندي ضعف المال وسألني يوما فاستحييت من الكذب المتصل فقلت قد حصل ذلك بسعادة الوزير فَقَالَ فرجت وَاللَّه عني فقد كنت مشغول القلب إِلَى أن يحصل لك قَالَ ثم أخذ الدواة ووقع لي إِلَى خازنه بثلاثة آلاف دِينَار صله فأخذتها وامتنعت أن أعرض عَلَيْهِ شيئا ولم أدر كيف أقع مِنْهُ فلما كان من الغد جئته وجلست عَلَى رسمي فأوما إلي هات مَا معك ليستدعي مني الرقاع عَلَى الرسم فقلت مَا أخذت من أحد رقعة لأن النذر قد وقع الوفاء به ولم ادر كيف أقع من الوزير فَقَالَ يا سبحان اللَّه أتراني كنت أقطع عنك شيئا قد صار لك عادة وعلم به الناس وصارت لك به منزلة عندهم وجاه وغدو ورواح إِلَى بابك ولا يعلم سبب انقطاعه فيظن ذلك لضعف جاهك عندي أَوْ تغير رتبتك أعرض علي رسمك وخذ بلا حساب فقبلت يده وباكرته من غد بالرقاع وكنت أعرض عَلَيْهِ كل يوم شيئا إِلَى أن مات وَقَدْ تأثلت مالي هَذَا.
قَالَ المصنف أنظروا مَا يصنع قلة الفقه فان هَذَا الرَّجُل الكبير القدر فِي معرفته النحو واللغة لو علم أن هَذَا الذي جرى لَهُ لم يجز شرعا مَا حكاه وتبجح به فان إيصال الظلامات واجب ولا يجوز أخذ البرطيل عليها ولا عَلَى شيء مما نصب الوزير لَهُ من أمور الدولة وبهذا تبين مرتبة الفقه عَلَى غيره.
ذكر تلبيس إبليس على الشعراء
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الشعراء قال المصنف وَقَدْ لبس عليهم فأراهم أنهم من أهل الأدب وأنهم قد خصوا بفطنة تميزوا بِهَا عَنْ غيرهم ومن خصكم بهذه الفطنة ربما عفا عَنْ زللكم فتراهم يهيمون فِي كل واد من الكذب والقذف والهجاء وهتك الأعراض والإقرار بالفواحش وأقل أحوالهم أن الشاعر يمدح الإنسان فيخاف أن يهجوه فيعطيه اتقاء شره أَوْ يمدحه بين جماعة فيعطيه حياء من الحاضرين وجميع ذلك من جنس المصادرة وترى خلقا من الشعراء وأهل الأدب لا يتحاشون من لبس الحرير والكذب فِي المدح خارجا عَنْ الحد ويحكون اجتماعهم عَلَى الفسق وشرب الخمر وغير ذلك ويقول أحدهم اجتمعت أنا وجماعة من الأدباء ففعلنا كذا وكذا هيهات هيهات ليس الأدب إلا مَا اللَّه عز وجل باستعمال التقوى لَهُ ولا قدر للفطن فِي أمور الدنيا ولا تحسن العبارة عند اللَّه إذا لم يتقه وجمهور الأدباء والشعراء إذا ضاق بهم رزق تسخطوا فكفروا وأخذوا فِي لوم الأقدار كقول بعضهم: لئن سمت همتي فِي الفضل عالية ... فَإِن حظي ببطن الأَرْض ملتصق كم يفعل الدهر بي مَا لا أسر به ... وكم يسيء زمان جائر حنق وقد نسي هؤلاء أن معاصيهم تضيق أرزاقهم فقد رأوا أنفسهم مستحقين للنعم مستوجبين للسلامة من البلاء ولم يتلمحوا مَا يجب عليهم من امتثال أوامر الشرع فقد ضلت فطنتهم فِي هذه الغفلة.
ذكر تلبيس إبليس على الكاملين من العلماء
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الكاملين من العلماء قال المصنف: إن أقواما علت هممهم فحصلوا علوم الشرع من القرآن والحديث والفقه والأدب وغير ذلك فأتاهم إبليس يخفي التلبيس فأراهم أنفسهم بعين عظيمة لما نالوا وأفادوا غيرهم فمنهم من يستفزه لطول عنائه فِي الطلب فحسن لَهُ اللذات وقال لَهُ إِلَى متى هَذَا التعب
فأرح جوارحك من كلف التكاليف وافسح لنفسك من مشتهاها فان وقعت فِي زلة فالعلم يدفع عنك العقوبة وأورد عَلَيْهِ فضل العلماء فان خذل هَذَا العبد وقبل هَذَا التلبيس يهلك وان وفق فينبغي لَهُ أن يَقُول جوابك من ثَلاثَة أوجه أحدها أنه إنما فضل العلماء بالعمل ولولا العمل به مَا كان لَهُ معنى وإذا لم أعمل به كنت كمن لم يفهم المقصود به ويصير مثلي كمثل رجل جمع الطعام وأطعم الجياع ولم يأكل فلم ينفعه ذلك من جوعه والثاني أن يعارضه بما ورد فِي ذم من لم يعمل بالعلم لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللَّه بعلمه" وحكايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رجل يلقي فِي النار فتندلق أقتابه فيقول كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عَن المنكر وآتيه وقول أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عنه ويل لمن يعلم مرة وويل لم علم ولم يعمل سبع مرات والثالث أن يذكر لَهُ عقاب من هلك من العلماء التاركين لِلْعَمَل بالعلم كإبليس وبلعام ويكفي فِي ذم العالم إذا لم يعمل قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . فصل وقد لبس إبليس عَلَى أقوام من المحكمين فِي العلم والعمل من جهة أخرى فحسن لهم الكبر بالعلم والحسد للنظير والرياء لطلب الرياسة فتارة يريهم أن هَذَا كالحق الواجب لهم وتارة يقوي حب ذلك عندهم فلا يتركونه مَعَ علمهم بأنه خطأ وعلاج هَذَا لمن وفق إدمان النظر فِي إثم الكبر والحسد والرياء وإعلام النفس أن العلم لا يدفع شر هذه المكتسبات بل يضاعف عذابها لتضاعف الحجة بِهَا ومن نظر فِي سير السلف من العلماء العاملين استقر نفسه فلم يتكبر ومن عرف اللَّه لم يراء ومن لاحظ جريان أقداره عَلَى مقتضى إرادته لم يحسد. وَقَدْ يدخل إبليس عَلَى هؤلاء بشبهة ظريفة فيقول طلبكم للرفعة ليس بتكبر لانكم نواب الشرع فانكم تطلبون إعزاز الدين ودحض أهل البدع وإطلاقكم اللسان فِي الحساد غضب للشرع إذ الحساد قد ذموا من قَامَ به وما تظنونه رياء فليس برياء لأن من تخاشع مِنْكُمْ وتباكى اقتدى به الناس كَمَا يقتدون بالطبيب إذا احتمى أكثر من اقتدائهم بقوله إذا وصف. وكشف هَذَا التلبيس أنه لو تكبر متكبر عَلَى غيرهم من جنسهم وصعد فِي المجلس فوقه أَوْ قل حاسد عنه شيئا لم يغضب هَذَا العالم لذلك كغضبه لنفسه وإن كان المذكور من نواب الشرع فعلم أنه إنما لم يغضب لنفسه بل للعلم وأما الرياء فلا عذر فيه لأحد ولا يصلح أن يجعل طريقا لدعاية الناس وَقَدْ كان أيوب السختياني إذا حدث بحديث فرق ومسح وجهه وقال مَا أشد
الزكام وبعد هَذَا فالأعمال بالنيات والناقد بصير وكم من ساكت عَنْ غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وَهُوَ آثم بذلك من ثَلاثَة أوجه أحدها الفرح فانه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب والثاني لسروره بثلب المسلمين والثالث أنه لا ينكر. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى الكاملين فِي العلوم فيسهرون ليلهم ويدأبون نهارهم فِي تصانيف العلوم ويريهم إبليس أن المقصود نشر الدين ويكون مقصودهم الباطن انتشار الذكر وعلو الصيت والرياسة وطلب الرحلة من الآفاق إِلَى المصنف. وينكشف هَذَا التلبيس بأنه لو انتفع بمصنفاته الناس من غير تردد إِلَى أَوْ قرئت عَلَى نظيره فِي العلم فرح بذلك إن كان مراده نشر العلم وَقَدْ قَالَ بعض السلف مَا من علم علمته إلا أحببت أن يستفيده الناس من غير أن ينسب إلي ومنهم من يفرح بكثرة الاتباع ويلبس عَلَيْهِ إبليس بأن هَذَا الفرح لكثرة طلاب العلم وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر ومن ذلك العجب بكلماتهم وعلمهم وينكشف هَذَا التلبيس بأنه لو انقطع بعضهم إِلَى غيره ممن هو أعلم مِنْهُ ثقل ذلك عَلَيْهِ وما هذه صفة المخلص فِي التعليم لأن مثل المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى فَإِذَا شفي بعض المرضى عَلَى يد طبيب منهم فرح الآخر وَقَدْ ذكرنا آنفا حديث ابْن أبي ليلى ونعيده بإسناد1 آخر عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى قَالَ أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأنصار مَا منهم رجل يسأل عَنْ شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه. فصل: قَالَ المصنف وَقَدْ يتخلص العلماء الكاملون من تلبيسات إبليس الظاهرة فيأتيهم بخفي من تلبيسه بأن يَقُول لَهُ مَا لقيت مثلك مَا أعرفك بمداخلي ومخارجي فان سكن إِلَى هَذَا هلك بالعجب وان سلم من المسألة لَهُ سلم وَقَدْ قَالَ السري السقطي لو أن رجلا دخل بستانا فيه من جميع مَا خلق اللَّه عز وجل من الأشجار عليها من جميع مَا خلق اللَّه تعالى من الأطيار فخاطبه كل طائر بلغته وقال السلام عليك يا ولي اللَّه فسكنت نفسه إِلَى ذلك كأن فِي أيديها أسيرا وَاللَّه الهادي لا إله إلا هو.
الباب السابع: في تلبيس إبليس على الولاة والسلاطين
الباب السابع: فِي تلبيس إبليس عَلَى الولاة والسلاطين قال المصنف: قد لبس عليهم إبليس من وجوه كثيرة نذكر أمهاتها فالوجه الأَوَّل أنه يريهم أنه اللَّه عز وجل يحبهم ولولا ذلك مَا ولاهم سلطانه ولا جعلهم نوابا عنه فِي عباده وينكشف هَذَا التلبيس بأنهم إن كانوا نوابا عنه فِي الحقيقة فليحكموا بشرعه وليتبعوا مراضيه فحينئذ يحبهم لطاعته فأما صورة الملك والسلطنة فانه قد أعطاها خلقا ممن يبغضه وَقَدْ بسط الدنيا لكثير ممن لا ينظر إليه وسلط جماعة من أولئك عَلَى الأولياء والصالحين فقتلوهم وقهروهم فكان مَا أعطاهم عليهم لا لهم ودخل ذلك فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} والثاني أنه يَقُول لهم الولاية تفتقر إِلَى هيبة فيتكبرون عَنْ طلب العلم ومجالسة العلماء بآرائهم فيتلفون الدين والمعلوم أن الطبع يسرق من خصال المخالطين فَإِذَا خالطوا مؤثري الدنيا الجهال بالشرع سرق الطبع من خصالهم مَعَ مَا عنده منها ولا يرى مَا يقاومها ولا مَا يزجره عنها وذلك سبب الهلاك والثالث أنه يخوفهم الأعداء ويأمرهم بتشديد الحجاب فلا يصل إليهم أهل المظالم ويتوانى من جعل بصدد رفع المظالم وقد روى أَبُو مريم الأسدي عَن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ ولاه اللَّه شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب اللَّه عز وجل دون حاجته وخلته وفقره" والرابع أنهم يستعملون من لا يصلح ممن لا علم عنده ولا تقوى فيجتلب الدعاء عليهم بظلمة الناس ويطعمهم الحرام بالبيوع الفاسدة ويحد من لا يجب عَلَيْهِ الحد ويظنون أنهم يتخلصون من اللَّه عز وجل مما جعلوه فِي عنق الوافي هيهات إن العامل عَلَى الزكاة إذا وكل الفساق بتفرقتها فخانوا ضمن والخامس أنه يحسن لهم العمل برأيهم فيقطعون من لا يجوز قطعه ويقتلون من لا يحل قتله ويوهمهم أن هذه سياسة وتحت هَذَا من المعنى أن الشريعة ناقصة تحتاج إِلَى إتمام ونحن نتمها بآرائنا.
وهذا من أقبح التلبيس لأن الشريعة سياسة إلهية ومحال أن يقع فِي سياسة الإله خلل يحتاج معه إِلَى سياسة الخلق قَالَ اللَّه عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} فمدعي السياسة مدعي الخلل فِي الشريعة وهذا يزاحم الكفر وَقَدْ روينا عَنْ عضد الدولة أنه كان يميل إِلَى جارية فكانت تشغل قلبه فأمر بتغريقها لئلا يشتغل قلبه عَنْ تدبير الملك وهذا هو الجنون المطبق لأن قتل مسلم بلا جرم لا يحل واعتقاده أن هَذَا جائز كفر وأن أعتقده غير جائز لكنه رآه مصلحة فلا مصلحة فيما يخالف الشرع والسادس أنه يحسن لهم الانبساط فِي الأموال ظانين أنها بحكمهم. وهذا تلبيس يكشفه وجوب الحجر عَلَى المفرط فِي مال نفسه فكيف بالمستأجر فِي حفظ مال غيره وإنما لَهُ من المال بقدر عمله فلا وجه للانبساط قَالَ ابْن عقيل وَقَدْ روي عَنْ حماد الرواية أنه أنشد الوليد بْن يَزِيد أبياتا فأعطاه خمسين ألفا وجاريتين قَالَ وهذا مما يروى عَلَى وجه المدح لهم وَهُوَ غاية القدح فيهم لأنه تبذير فِي بيت مال المسلمين وقد يزين لبعضهم منع المستحقين وَهُوَ نظير التبذير والسابع أنه يحسن لهم الانبساط فِي المعاصي ويلبس عليهم أن حفظكم للسبيل وأمن البلاد بكم يمنع عنكم العقاب وجواب هَذَا أن يقال إنما وليتم لتحفظوا البلاد وتؤمنوا السبل وهذا وجب عليهم وما انبسطوا فيه من المعاصي منهي عنه فلا يرفع هَذَا ذلك والثامن أنه يلبس عَلَى أكثرهم بأنه قد قَامَ بما يجب من جهة أن ظواهر الأحوال مستقيمة ولو حقق النظر لرأى اختلالا كثيرا وَقَدْ روينا عَن القاسم بْن طلحة بْن مُحَمَّد الشاهد قَالَ رأيت عَلِيّ بْن عِيسَى الوزير وَقَدْ وكل بدور البطيخ رجلا برزق يطوف يطوف عَلَى باعة العنب فَإِذَا اشترى أحد سلة عنب خمري لم يعرض لَهُ وإن اشترى سلتين فصاعدا طرح عليها الملح لئلا يتمكن من عملها خمرا قَالَ وأدركت السلاطين يمنعون المنجمين من القعود فِي الطرق حتى لا يفشو العمل بالنجوم وأدركنا الجند ليس فيهم أحد معه غلام أمرد لَهُ طرة ولا شعر إلى أن بدىء بحكم العجم والتاسع أنه يحسن لهم استجلاب الأموال واستخراجها بالضرب العنيف وأخذ كل مَا يملكه الخائن واستخلافه وإنما الطريق إقامة البينة عَلَى الخائن وقد روينا عَنْ عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز أن غلاما كتب لَهُ أن قوما خانوا فِي مال اللَّه ولا أقدر عَلَى استخلاص مَا في أيديهم إلا أن أنالهم بعذاب فكتب إليه لأن يلقوا اللَّه بخيانتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم والعاشر أنه يحسن لهم التصدق بعد الغضب يريهم أن هَذَا يمحو ذلك ويقول إن درهما من الصدقة يمحو إثم عشرة من الغضب وهذا محال لأن إثم الغضب باق ودرهم الصدقة إن كان من الغضب لم
يقبل وإن كانت الصدقة من الحلال لم يدفع أيضا إثم الغصب لأن إعطاء الفقير لا يمنع تعلق الذمة بحق آخر والحادي عشر أنه يحسن لهم مَعَ الإصرار عَلَى المعاصي زيارة الصالحين وسؤالهم الدعاء ويريهم أن هَذَا يخفف ذلك الإثم وهذا الخير لا يدفع ذلك الشر وفي الحديث عَن الْحُسَيْن بْن زِيَاد قَالَ سَمِعْتُ منيعا يَقُول مر تاجر بعشار فحبسوا عَلَيْهِ سفينته فجاء إِلَى مالك بْن دِينَار فذكر لَهُ ذلك فقام مالك فمشى معه إلى السشار فلما رأوه قالوا يا أبا يَحْيَى ألا بعثت إلينا فِي حاجتك قَالَ حاجتي أن تخلو عَنْ سفينة هَذَا الرَّجُل قالوا قد فعلنا قَالَ وكان عندهم كوز يجعلون مَا يأخذون من الناس من الدراهم فيه فقالوا ادع لنا يا أبا يَحْيَى قَالَ قولوا للكوز يدعو لكم كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف والثاني عشر أن من الولاة من يعمل لمن فوقه فيأمره بالظلم فيظلم ويلبس عليهم إبليس بأن الإثم عَلَى الأمير لا عليك وهذا باطل لأنه معين عَلَى الظلم وكل معين عَلَى المعاصي عاص فإن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن فِي الخمر عشرة ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ومن هَذَا الفن أن يجبي المال لمن هو فوقه وقد علم أنه يبذلأ فيه ويخون فهذا معين عَلَى الظلم أيضا وفي الحديث بإسناد مرفوع إِلَى جَعْفَر بْن سُلَيْمَان قَالَ سمعت مالك بْن دِينَار يَقُول كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة وَاللَّه الهادي إِلَى الصواب.
الباب الثامن: ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات
الباب الثامن: ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات ذكر تلبيسه عليهم في الاستباطة والحدث قال المصنف: اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل مِنْهُ إبليس عَلَى الناس هو الجهل فهو يدخل مِنْهُ عَلَى الجهال بأمان وأما العالم فلا يدخل عَلَيْهِ إلا مسارقة وَقَدْ لبس إبليس عَلَى كثير من المتعبدين بقلة علمهم لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم وَقَدْ قَالَ الربيع بْن حيثم تفقه ثم اعتزل. فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد عَلَى العلم والعلم أفضل من النوافل فأراهم أن المقصود من العلم العمل وما فهموا من العمل إلا عمل الجوارح وما علموا أن العمل عمل القلب وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح قَالَ مطرف بْن عَبْدِ اللَّهِ فضل العلم خير من فضل العبادة وقال يوسف بْن أسباط باب من العلم تتعلمه أفضل من سبعين غزاة وقال المعافى بْن عمران كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة. قَالَ المصنف: فلما مر عليهم هَذَا التلبيس وآثروا التعبد بالجوارح عَلَى العلم تمكن إبليس من التلبيس عليهم فِي فنون التعبد. ذكر تلبيسه عليهم فِي الاستطابة والحدث من ذلك أنه يأمرهم بطول المكث فِي الخلاء وذلك يؤذي الكبد وإنما ينبغي أن يكون بمقدار ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدما ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي بهذا وكلما زاد فِي هَذَا نزل البول وبيان هَذَا أن الماء يرشح إِلَى المثانة ويجمع فيها فَإِذَا تهيأ الانسان للبول خرج مَا اجتمع فَإِذَا مشى وتنحنح وتوقف رشح شيء آخر فالرشح لا ينقطع وإنما يكفيه أن يحتلب مَا فِي الذكر بين أصبعيه ثم يتبعه الماء ومنهم من يحسن لَهُ استعمال الماء الكثير وإنما يجزيه بعد زوال
العين سبع مرات عَلَى أشد المذاهب فَإِن استعمل الأحجار فيما لم يتعد المخرج أجزأه ثَلاثَة أحجار إذا أنقى بهن ومن لم يقنع بما قنع الشرع به فهو مبتدع شرعا لا متبع وَاللَّه الموفق.
ذكر تلبيسه عليهم في الوضوء
ذكر تلبيسه عليهم فِي الوضوء منهم من يلبس عَلَيْهِ فِي النية فتراه يَقُول أرفع الحدث ثم يَقُول أستبيح الصلاة ثم يعيد فيقول أرفع الحدث وسبب هَذَا التلبيس الجهل بالشرع لأن النية بالقلب لا باللفظ فتكلف اللفظ أمر أملا يحتاج إليه ثم لا معنى لتكرار اللفظ ومنهم من يلبس عَلَيْهِ بالنظر فِي الماء المتوضأ به فيقول من أين لك أنه طاهر ويقدر لَهُ فيه كل احتمال بعيد وفتوى الشرع يكفيه بأن أصل الماء الطهارة فلا يترك الأصل بالاحتمال ومنهم من يلبس عَلَيْهِ بكثرة استعمال الماء وذلك يجمع أربعة أشياء مكروهة الإسراف فِي الماء وتضييع العمر القيم فيما ليس بواجب ولا مندوب والتعاطي عَلَى الشريعة إذا لم يقنع بما قنعت به من استعمال الماء القليل والدخول فيما نهت عنه من الزيادة عَلَى الثلاث وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة أَوْ فات أوله وَهُوَ الفضيلة أَوْ فاتته الْجَمَاعَة. وتلبيس إبليس عَلَى هَذَا بأنك فِي عبادة مَا لم تصح لا تصح الصلاة ولو تدبر أمره لعلم أنه فِي مخالفة وتفريط وَقَدْ رأينا من ينظر فِي هذه الوساوس ولا يبالي بمطعمه ومشربه ولا يحفظ لسانه من غيبة فليته قلب الأمر وفي الحديث عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عمرو بْن العاص أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بسعد وَهُوَ يتوضأ فَقَالَ: "مَا هَذَا السرف يا سَعْد" قَالَ أفي الوضوء سرف قَالَ: "نعم وإن كنت عَلَى نهر جار" وفي الحديث عَنْ أبي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "للوضوء شيطان يقال لَهُ الولهان فاتقوه" أَوْ قَالَ "فاحذروه" وعن الْحَسَن رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ شيطان الوضوء يدعى الولهان يضحك بالناس فِي الوضوء وبإسناد مرفوع إِلَى أبي نعامة إن عَبْد اللَّهِ بْن مغفل سمع ابنه يَقُول اللهم إني أسألك الفردوس وأسألك فَقَالَ عَبْد اللَّهِ سل اللَّه الْجَنَّة وتعوذ به من النار فإني سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّهُورِ" وعن ابْن شوذب قَالَ كان الْحَسَن يعرض بابن سيرين يَقُول يتوضأ أحدهم بقربة ويغتسل بمزادة صبا صبا ودلكا دلكا تعذيبا لأنفسهم وخلافا لسنة نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أَبُو الوفاء بْن عقيل يَقُول أجل محصول عند العقلاء الوقت وأقل متعبد به الماء وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صبوا عَلَى بول الأعرابي ذنوبا من ماء" وقال فِي المني: "أمطه عنك بأذخرة" قَالَ وفي الحذاء طهوره بأن يدلك بالأرض
وفي ذيل المرأة يطهره مَا بعده وقال: "يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام" وكان يحمل ابنه أبي العاص بْن الربيع فِي الصلاة ونهى الراعي عَنْ إعلام السائل لَهُ عَن الماء وما يرده وقال: "مَا أبقيت لنا طهور" وقال: "يا صاحب الماء لا تخبره" وَقَدْ صالح رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعراب وركب الحمار معروريا وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء وتوضأ من سقاية المسجد ومعلوم حال الأعراب الذين يأتي أحدهم من البادية كأنه بهيمة أَوْ مَا سمعت أن أحدهم أقدم عَلَى البول فِي المسجد كل ذلك لتعليمنا وإعلامنا أن الماء عَلَى أصل الطهارة وتوضأ من غدير كأن ماءه نقاعة الحناء فأما قوله: "استنزهوا البول" فان للتنزه حدا معلوما وهو أن لا يغفل عَنْ محل قد أصابه حتى يتبعه الماء فأما الاستنثار فانه إذا علق نما وانقطع الوقت بما لا يقضي بمثله الشرع. قَالَ المصنف: وكان أسود بْن سالم وَهُوَ من كبار الصالحين يستعمل ماءا كثيرا فِي وضوئه ثم ترك ذلك فسأله رجل عَنْ سبب تركه فَقَالَ نمت ليلة فَإِذَا بهاتف يهتف بي يا أسود مَا هَذَا يَحْيَى بْن سَعِيد الأنصاري حَدَّثَنِي عَنْ سَعِيد بْن المسيب قَالَ إذا جاوز الوضوء ثلاثا لم يرفع إِلَى السماء قَالَ قلت لا أعود لا أعود فأنا الْيَوْم يكفيني كف من ماء.
ذكر تلبيسه عليهم في الأذان
ذكر تلبيسه عليهم فِي الأذان ومن ذلك التلحين فِي الأذان وَقَدْ كرهه مالك بْن أنس وغيره من العلماء كراهية شديدة لأنه يخرجه عَنْ موضع التعظيم إِلَى مشابهة الغناء ومنه أنهم يخلطون أذان الفجر بالتذكير والتسبيح والمواعظ ويجعلون الأذان وسطا فيختلط وَقَدْ كره العلماء كل مَا يضاف إِلَى الأذان وَقَدْ رأينا من يقوم بالليل كثيرا عَلَى المنارة فيعظ ويذكر ومنهم من يقرأ سورا من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويخلط عَلَى المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات.
ذكر تلبيسه عليهم في الصلاة
ذكر تلبيسه عليهم فِي الصلاة من ذلك تلبيسه عليهم فِي الثياب التي يستتر بِهَا فترى أحدهم يغسل الثوب الطاهر مرارا وربما لمسه مسلم فيغسله ومنهم من يغسل ثيابه فِي دجلة لا يرى غسلها فِي البيت يجزىء ومنهم من يدليها فِي البئر كفعل اليهود وما كانت الصحابة تعمل هَذَا بل قد صلوا فِي ثياب فارس لما فتحوها واستعملوا أوطئتهم وأكسيتهم ومن الموسوسين من يقطر عَلَيْهِ قطرة ماء فيغسل الثوب كله وربما تأخر لذلك عَنْ صلاة الْجَمَاعَة ومنهم من ترك الصلاة جماعة لأجل مطر يسير يخاف أن
ينتضح عَلَيْهِ ولا يظن ظان أنني أمتنع من النظافة والورع ولكن المبالغة الخارجة عَنْ حد الشرع المضيعة للزمان هي التي ننهي عنها ومن ذلك تلبيسه عليهم فِي نية الصلاة فمنهم من يَقُول أصلى صلاة كذا ثم يعيد هَذَا ظنا مِنْهُ أنه قد نقض النية والنية لا تنقض وأن لم يرض اللفظ ومنهم من يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض فَإِذَا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معه فليت شعري مَا الذي أحضر النية حينئذ وما ذاك إلا لأن إبليس أراد أن يفوته الفضيلة وفي الموسوسين من يحلف بالله لا كبرت غير هذه المرة وفيهم من يحلف بالله بالخروج من ماله أَوْ بالطلاق وهذه كلها تلبيسات إبليس والشريعة سمحة سهلة سليمة من هذه الآفات وما جرى لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لأصحابة شيء من هَذَا وَقَدْ بلغنا عَنْ أبي حازم أنه دخل المسجد فوسوس إليه إبليس أنك تصلي بغير وضوء فَقَالَ مَا بلغ نصحك إِلَى هَذَا. وكشف هَذَا التلبيس أن يقال للموسوس إن كنت تريد إحضار النية فالنية حاضرة لأنك قمت لتؤدي الفريضة وهذه هي النية ومحلها القلب لا اللفظ إن كنت تريد تصحيح اللفظ فاللفظ لا يجب ثم قد قلته صحيحا فما وجه الإعادة أفتراك تظن وَقَدْ قلت إنك مَا قلت هَذَا مرض. قال المصنف وَقَدْ حكى لي بعض الأشياخ عَن ابْن عقيل حكاية عجيبة أن رجلا لقيه فَقَالَ إني أغسل العضو وأقول مَا غسلته وأكبر وأقول مَا كبرت فَقَالَ لَهُ ابْن عقيل دع الصلاة فانها مَا تجب عليك فَقَالَ قوم لابن عقيل كيف تقول هَذَا فَقَالَ لهم قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع القلم عَن المجنون حتى يفيق ومن يكبر ويقول مَا كبرت فليس بعاقل والمجنون لا تجب عَلَيْهِ الصلاة. قال المصنف واعلم أن الوسوسة فِي نية الصلاة سببها خبل فِي العقل وجهل بالتسرع ومعلوم أن من دخل عَلَيْهِ عالم فقام لَهُ وقال نويت أن أنتصب قائما لدخول هَذَا العالم لأجل علمه مقبلا عَلَيْهِ بوجهي صفة فِي عقله فان هَذَا قد تصور فِي ذهنه منذ رأى العالم فقيام الانسان إِلَى الصلاة ليؤدي الفرض أمر يتصور فِي النفس فِي حالة واحدة لا يطول زمانه وإنما يطول زمان نظم هذه الألفاظ والألفاظ لا تلزم والوسواس جهل محض وإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر فِي قلبه الظهرية والأذائية والفرضية فِي حالة واحدة مفصلة بألفاظها وَهُوَ يطالعها وذلك محال ولو كلف نفسه ذلك فِي القيام للعالم لتعذر عَلَيْهِ فمن عرف هَذَا عرف النية ثم إِنَّهُ يجوز تقديمها عَلَى التكبير بزمان يسير مَا لم يفسخها فما وجه هَذَا التعب فِي الصاقها بالتكبير عَلَى
أنه إذا حصلها ولم يفسخها فقد التصقت بالتكبير وعن مسور قَالَ أخرج إلي معن بْن عَبْدِ الرَّحْمَن كتابا وحلف بالله أنه خط أبيه وإذا فيه قَالَ عَبْد اللَّهِ والذي لا إله غيره مَا رأيت أحدا كان أشد عَلَى المتنطعين من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا رأيت بعده أشد خوفا عليهم من أبي بَكْر وإني لأظن عُمَر كان أشد أهل الأَرْض خوفا عليهم. فصل ومن الموسوسين من إذا صحت لَهُ النية وكبر ذهل عَنْ باقي صلاته كأن المقصود من الصلاة التكبير فقط وهذا تلبيس يكشفه أن التكبير يراد للدخول فِي العبادة فكيف تهمل العبادة وهي كالدار ويقتصر عَلَى التشاغل بحفظ الباب. فصل ومن الموسوسين من تصح لَهُ التكبيرة خلف الإمام وَقَدْ بقي من الركعة يسير فيستفتح ويستعيذ فيركع الإمام وهذا تلبيس أيضا لأن الذي شرع فيه من التعوذ والاستفتاح مسنون والذي تركه من قراءة الفاتحة وَهُوَ لازم للمأموم عند جماعة من العلماء فلا ينبغي أن يقدم عَلَيْهِ سنة. قَالَ المصنف وَقَدْ كنت أصلي وراء شيخنا أبي بَكْر الدينوري الفقيه فِي زمان الصبا فرآني مرة أفعل هَذَا فَقَالَ يا بني إن الفقهاء قد اختلفوا فِي وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يختلفوا في أن الاستفتاح سنة فاشتغل بالواجب ودع السنن. فصل وقد لبس إبليس عَلَى قوم فتركوا كثيرا من السنن لواقعات وقعت لهم فمنهم من كان يتخلف عَنْ الصف الأَوَّل ويقول إنما أراد قرب القلوب ومنهم من لم ينزل يدا عَلَى يد فِي الصلاة وقال أكره أن أظهر من الخشوع مَا ليس فِي قلبي وَقَدْ روينا هذين الفعلين عَنْ بعض أكابر الصالحين وهذا أمر أوجبه قلة العلم ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: "لو يعلم الناس مَا لهم فِي النداء والصف الأَوَّل ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا" وفي أفراد مسلم من حديثه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها" وأما وضع اليد عَلَى اليد فسنة روى أَبُو داود فِي سننه أن ابْن الزبير قَالَ وضع اليد عَلَى اليد من السنة وإن ابْن مسعود كان يصلي فوضع يده اليسرى عَلَى اليمنى فرآه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضع يده اليمنى عَلَى اليسرى. قَالَ المصنف ولا يكبرن عليك إنكارنا عَلَى من قَالَ أراد قرب القلوب ولا أضع يدا عَلَى
يد وان كان من الأكابر فان الشرع هو المنكر لا نحن وَقَدْ قيل لأحمد بْن حنبل رحمة اللَّه عَلَيْهِ أن ابْن الْمُبَارَك يَقُول كذا وكذا فَقَالَ إن ابْن الْمُبَارَك لم ينزل من السماء وقيل لَهُ قَالَ إبراهيم بْن أدهم فَقَالَ: جئتموني ببنيات الطريق عليكم بالأصل فلا ينبغي أن يترك الشرع لقول معظم فِي النفس فان الشرع أعظم والخطأ فِي التأويل عَلَى الناس يجري ومن الجائز أن تكون الأحاديث لم تبلغه. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى بعض المصلين فِي مخارج الحروف فتراه يَقُول الحمد الحمد فيخرج بإعادة الكلمة عَنْ قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عَلَيْهِ فِي تحقيق التشديد وتارة فِي إخراج ضاد المغضوب ولقد رأيت من يَقُول المغضوب فيخرج بصاقة مَعَ إخراج الضاد لقوة تشديده وإنما المراد تحقيق الحرف فحسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عَنْ فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس وعن سَعِيد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن أبي العمياء أن سَهْل بْن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه عَلَى أنس بْن مالك رَضِيَ اللَّهُ عنه وَهُوَ يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر فلما سلم قَالَ يرحمك اللَّه أرأيت هذه الصلاة المكتوبة كصلاة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم شيء تنفلته قَالَ إنها لصلاة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أخطأت إلا شيئا سهوت عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَقُول: "لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدُّيُورَاتِ {ًَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} " وفي أفراد مسلم من حديث عثمان بْن أبي العاص قَالَ قلت لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذاك الشَّيْطَان يقال لَهُ خنزب فَإِذَا أحسسته فتعوذ بالله مِنْهُ ثلاثا واتفل عَنْ يسارك" ففعلت ذلك فأذهبه اللَّه عني. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى خلق كثير من الجهالة المتعبدين فرأوا أن العبادة هي القيام والقعود فحسب وهم يدأبون فِي ذلك ويخلون فِي بعض واجباتهم ولا يعلمون وَقَدْ تأملت جماعة يسلمون إذا سلم الإمام وَقَدْ بقي عليهم من التشهد الواجب شيء وذلك لا يحمله الإمام عنهم ولبس عَلَى آخرين منهم فهم يطيلون الصلاة ويكثرون القراءة ويتركون المسنون فِي الصلاة ويرتكبون المكروه فيها وَقَدْ دخلت عَلَى بعض المتعبدين وَهُوَ يتنفل بالنهار ويجهر بالقراءة فقلت لَهُ إن الجهر بالقراءة بالنهار مكروه فَقَالَ لي أنا أطرد النوم عني بالجهر فقلت لَهُ إن السنن لا تترك
لأجل سهرك ومتى غلبك النوم فنم فإن للنفس عليك حقا وعن بريدة قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من جهر بالقراءة فِي النهار فارجموه بالبعر". فصل: وقد لبس إبليس عَلَى جماعة من المتعبدين فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة أَوْ يقم فيتهيأ لها فتفوفته الْجَمَاعَة أَوْ يصبح كسلان فلا يقدر عَلَى الكسب لعائلته ولقد رأيت شيخا من المتعبدين يقال لَهُ حسين القزويني يمشي كثيرا من النهار فِي جامع المنصور فسألت عَنْ سبب مشيه فَقِيلَ لي لئلا ينام فقلت هَذَا جهل بمقتضى الشرع والعقل أما الشرع فان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إن لنفسك عليك حقا فقم ونم" وكان يَقُول: "عليكم هديا قصدا فانه من يشاد هَذَا الدين يغلبه" وعن أنس بْن مالك قَالَ دخل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فَقَالَ: "مَا هَذَا" قالوا لزينب تصلي فَإِذَا كسلت أَوْ فترت أمسكت به فَقَالَ: "حلوه" ثم قَالَ: "ليصلي أحدكم نشاطه فَإِذَا كسل أَوْ فتر فليقعد" وعن عائشة قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا نعس أحدكم فليرقد حتى يذهب عنه النوم فَإِذَا صَلَّى وَهُوَ ينعس لعله يذهب ليستغفر فيذهب فيسب نفسه". قَالَ المصنف: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيح أخرجه البخاري ومسلم وانفرد بالذي قبله البخاري وأما العقل فان النوم يجدد القوى التي قد كلت بالسهر فمتى دفعه الانسان وقت الحاجة إليه أقر فِي بدنه وعقله فنعوذ بالله من الجهل فَإِن قَالَ قائل فقد رويت لنا أن جماعة من السلف كانوا يحيون الليل فالجواب أولئك تدرجوا حتى قدروا عَلَى ذلك وكانوا عَلَى ثقة من حفظ صلاة الفجر فِي الْجَمَاعَة وكانوا يستعينون بالقائلة من قلة المطعم وصح لهم ذلك ثم لم يبلغنا أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهر ليلة لم ينم فيها فسنته هي المتبوعة. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى جماعة من قوام الليل فتحدثوا بذلك بالنهار فربما قَالَ أحدهم فلان المؤذن أذن بوقت ليعلم الناس أنه كان منتبها فأقل مَا فِي هَذَا إن سلم من الرياء أن ينقل من ديوان السر إِلَى ديوان العلانية فيقل الثواب. فصل: وقد لبس عَلَى آخرين انفردوا فِي المساجد للصلاة والتعبد فعرفوا بذلك واجتمع اليهم ناس فصلوا بصلاتهم وشاع بين الناس حالهم وذلك من دسائس إبليس وبه تقوى النفس عَلَى التعبد لعلمها أن ذلك يشيع ويوجب المدح وعن زيد بْن ثابت أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إن أفضل
صلاة المرء فِي بيته إلا الصلاة المكتوبة". قَالَ المصنف أخرجاه في الصحيحين وكان عامر بْن عَبْدِ قيس يكره أن يروه يصلي وكان لا يتنفل فِي المسجد وكان يصلي كل يوم ألف ركعة وكان ابْن أبي ليلى إذا صَلَّى ودخل عَلَيْهِ داخل أضطجع. فصل: وقد لبس عَلَى قوم من المتعبدين وكانوا يبكون والناس حولهم وهذا قد يقع عَلَيْهِ فلا يمكن دفعه فمن قدر عَلَى ستره فأظهره فقد تعرض للرياء وعن عَاصِم قَالَ كان أَبُو وائل إذا صَلَّى فِي بيته نشج نشيجا ولو جعلت لَهُ الدنيا عَلَى أن يفعله واحد يراه مَا فعله وَقَدْ كان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء قَامَ. فصل: وقد لبس عَلَى جماعة من المتعبدين فتراهم يصلون الليل والنهار ولا ينظرون فِي إصلاح عيب باطن ولا فِي مطعم والنظر فِي ذلك أولى بهم من كثرة التنفل.
ذكر تلبيسه عليهم في قراءة القرآن
ذكر تلبيسه عليهم فِي قراءة القرآن وقد لبس عَلَى قوم بكثرة التلاوة فهم يهزون هزا من غير ترتيل ولا تثبت وهذه حالة ليست بمحمودة وَقَدْ روى عَنْ جماعة من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن فِي كل يوم أَوْ فِي كل ركعة وهذا يكون نادرا منهم ومن داوم عَلَيْهِ فإنه وان كان جائزا إلا أن الترتيل والتثبت أحب إِلَى العلماء وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يفقه من قرأ القرآن فِي أقل من ثلاث". قَالَ المصنف وَقَدْ لبس إبليس عَلَى قوم من القراء فهم يقرأون القرآن فِي منارة المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزء والجزأين فيجتمعون بين أذى الناس فِي منعهم من النوم وبين التعرض للرياء ومنهم من يقرأ فِي مسجده وقت الأذان لأنه حين اجتماع الناس فِي المسجد. قال المصنف ومن أعجب مَا رأيت فيهم أن رجلا كان يصلي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين ويدعو دعاء الختمة ليعلم الناس أني قد ختمت الختمة وما هذه طريقة السلف فَإِن السلف كانوا يسترون عبادتهم وكان عمل الربيع بْن خثيم كله سرا فربما دخل عَلَيْهِ الداخل وَقَدْ نشر المصحف فيغطيه بثوبه وكان أَحْمَد بْن حنبل يقرأ القرآن كثيرا ولا يدري متى يختم.
قَالَ المصنف: قد سبق ذكر جملة من تلبيس إبليس عَلَى القراء وَاللَّه أعلم بالصواب وَهُوَ الموفق.
ذكر تلبيسه عليهم في الصوم
ذكر تلبيسه عليهم فِي الصوم قال المصنف: وَقَدْ لبس عَلَى أقوام فحسن لهم الصوم الدائم وذلك جائز إذا أفطر الإنسان الأيام المحرم صومها إلا أن الآفة فيه من وجهين أحدهما أنه ربما عاد بضعف القوى فأعجز الإنسان عَن الكسب لعائلته ومنعه من إعفاف زوجته وفي الصحيحين عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إن لزوجك عليك حقا" فكم من فرض يضيع بهذا النفل والثاني أنه يفوت الفضيلة فإنه قد صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أفضل الصلاة صلاة داود عَلَيْهِ الصلاة والسلام" كان يصوم يوما وبالإسناد عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عمرو قَالَ لقيني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَلَمْ أُحَدَّثْ عَنْكَ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَأَنْتَ الَّذِي تَقُولُ لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ" قَالَ أَحْسَبُهُ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قُلْتُ ذَلِكَ فَقَالَ: "فَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ" قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ" قُلْتُ إِنِّي أَطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَهُوَ أَعْدَلُ الصَّوْمِ وَهُوَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ" قُلْتُ إِنِّي أَطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ" أخرجاه فِي الصحيحين فان قَالَ قائل فقد بلغنا عَنْ جماعة من السلف أنهم كانوا يسردون الصوم فالجواب أنهم كانوا يقدرون عَلَى الجمع بين ذلك وبين القيام بحقوق العائلة ولعل أكثرهم لم تكن لَهُ عائلة ولا حاجة إِلَى الكسب ثم أن فيهم من فعل هَذَا فِي آخر عمره عَلَى أن قول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أفضل من ذلك قطع هَذَا الحديث وقد داوم جماعة من القدماء عَلَى الصوم مَعَ خشونة المطعم وقلته ومنهم من ذهبت عينه ومنهم من نشف دماغه وهذا تفريط فِي حق النفس الواجب وحمل عليها مَا لا تطيق فلا يجوز. فصل: وقد يشيع عَلَى المتعبد أنه يصوم الدهر فيعلم بشياع ذلك فلا يفطر أصلا وإن أفطر أخفى إفطاره لئلا ينكسر جاهه وهذا من خفي الرياء ولو أراد الإخلاص وستر الحال لأفطر بين يدي من قد علم أنه يصوم ثم عاد إِلَى الصوم ولم يعلم به ومنهم من يخبر بما قد صام فيقول الْيَوْم منذ عشرين سنة مَا أفطرت ويلبس عَلَيْهِ بأنك إنما تخبر ليقتدي بك وَاللَّه أعلم بالمقاصد قال سفيان الثوري رَضِيَ اللَّهُ عنه إن العبد ليعمل العمل فِي السر فلا يزال به الشَّيْطَان حتى يتحدث
به فينتقل من ديوان السر إِلَى ديوان العلانية وفيهم من عادته صوم الإثنين والخميس فَإِذَا دعي إِلَى طعام قَالَ الْيَوْم الخميس ولو قَالَ أنا صائم كانت محنة وإنما قوله الْيَوْم الخميس معناه إني أصوم كل خميس وفي هؤلاء من يرى الناس بعين الاحتقار لكونه صائما وهم مفطرون ومنهم من يلازم الصوم ولا يبالي عَلَى ماذا أفطر ولا يتحاشى فِي صومه عَنْ غيبة ولا عَنْ نظرة ولا عَنْ فضول كلمة وَقَدْ خيل لَهُ إبليس أن صومك يدفع إثمك وكل هَذَا من التلبيس.
ذكر تلبيسه عليهم في الحج
ذكر تلبيسه عليهم فِي الحج قال المصنف: قد يسقط الإنسان الفرض بالحج مرة ثم يعود لا عَنْ رضاء الوالدين وهذا خطأ وربما خرج وعليه ديون أَوْ مظالم وربما خرج للنزهة وربما حج بمال فيه شبهة ومنهم من يجب أن يتلقى ويقال الحاج وجمهورهم يضيع فِي الطريق فرائض من الطهارة والصلاة ويجتمعون حول الكعبة بقلوب دنسة وبواطن غير نقية وإبليس يريهم صورة الحج فيغرهم وإنما المراد من الحج القرب بالقلوب لا بالأبدان وإنما يكون ذلك مَعَ القيام بالتقوى وكم من قاصد إِلَى مكة همته عدد حجاته فيقول لي عشرون وقفة وكم من مجاور قد طال مكثه ولم يشرع فِي تنقية باطنه وربما كانت همته متعلقة بفتوح يصل إليه ممن كان وربما قَالَ أن لي الْيَوْم عشرين سنة مجاورا وكم قد رأيت فِي طريق مكة من قاصد إِلَى الحج يضرب رفقاءه عَلَى الماء ويضايقهم فِي الطريق. وقد لبس إبليس عَلَى جماعة من القاصدين إِلَى مكة فهم يضيعون الصلوات ويطففون إذا باعوا ويظنون أن الحج يدفع عنهم وَقَدْ لبس إبليس عَلَى قوم منهم فابتدعوا فِي المناسك مَا ليس منها فرأيت جماعة يتصنعون فِي إحرامهم فيكشفون عَنْ كتف واحدة ويبقون فِي الشمس أياما فتكشط جلودهم وتنتفخ رؤوسهم ويتزينون بين الناس بذلك وفي أفراد البخاري من حديث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام فقطعه وفي لفظ آخر رأى رجلا يقود إنسانا بخزامة فِي أنفه فقطعها بيده ثم أمره فِي أن يقوده بيده. قَالَ المصنف وهذا الحديث يتضمن النهي عَن الابتداع فِي الدين وإن قصدت بذلك الطاعة. فصل: وقد لبس عَلَى قوم يدعون التوكل فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم عَلَى غاية الخطأ قَالَ رجل للإمام أَحْمَد بْن حنبل رَضِيَ اللَّهُ عنه أريد أن أخرج إِلَى مكة عَلَى
التوكل من غير زاد فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: فاخرج فِي غير القافلة قَالَ: لا إلا معهم قَالَ: فعلى جراب الناس توكلت. فنسأل اللَّه أن يوفقنا.
ذكر تلبيس إبليس على الغزاة
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الغزاة قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَدْ لَبِسَ إِبْلِيسُ عَلَى خلق كثير فخرجوا إِلَى الجهاد ونيتهم المباهاة والرياء ليقال فلان غاز وربما كان المقصود أن يقال شجاع أَوْ كان طلب الغنيمة وإنما الأعمال بالنيات وعن أبي مُوسَى قَالَ جاء رجل إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ أرأيت الرَّجُل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك فِي سبيل اللَّه فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو فِي سبيل اللَّه" أخرجاه فِي الصحيحين وعن ابْن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ إياكم أن تقولوا مات فلان شهيدا أَوْ قتل فلان شهيدا فإنالرجل ليقاتل ليغنم ويقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه وبالإسناد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: " أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاثَةٌ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرِفَهَا فَقَالَ مَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى قُتِلْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَرِيء فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرِفَهَا فَقَالَ مَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَقَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ هُوَ عَالِمٌ فَقَدْ قِيلَ وقرأت القرآن ليقال هو قارىء فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرِفَهَا فَقَالَ مَا عَمِلْتَ فِيهَا فَقَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ أَنْتَ تُحِبُّهُ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ" انفرد بإخراجه مسلم وبإسناد مرفوع عَنْ أبي حاتم الرازي قَالَ سمعت عبدة بْن سُلَيْمَان يَقُول كنا فِي سرية مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك فِي بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إِلَى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إِلَى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه الرَّجُل فقتله فازدحم الناس عَلَيْهِ فكنت فيمن ازدحم عَلَيْهِ فَإِذَا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فَإِذَا هو عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك فَقَالَ وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا قلت فانظروا رحمكم اللَّه إِلَى هَذَا السيد المخلص كيف خاف عَلَى إخلاصه برؤية الناس لَهُ ومدحهم إياه فستر نفسه وَقَدْ كان إبراهيم بْن أدهم يقاتل فَإِذَا غنموا لم يأخذ شيئا من الغنيمة ليوفر لَهُ الأجر.
فصل وقد لبس إبليس عَلَى المجاهد إذا غنم فربما أخذ من الغنيمة مَا ليس لَهُ أخذه فأما أن يكون قليل العلم فيرى أن أموال الكفار مباحة لمن أخذها ولا يدري أن الغلول من الغنائم معصية وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قَالَ خرجنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خيبر ففتح اللَّه علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إِلَى الوادي ومع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد لَهُ فلما نزلنا قَامَ عَبْد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فلما قلنا لَهُ هنيئا لَهُ الشهادة يا رَسُول اللَّهِ فَقَالَ: "كلا والذي نفس مُحَمَّد بيده أن الشملة لتلتهب عَلَيْهِ نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم" قَالَ ففزع الناس فجاء رجل بشراك أَوْ شراكين فَقَالَ أصبته يوم خيبر فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شراك من نار أَوْ شرا كان من نار". فصل: وقد يكون الغازي عالما بالتحريم إلا أنه يرى الشيء الكثير فلا يصبر عنه وربما ظن أن جهاده يدفع عنه مَا فعل وها هنا يتبين أثر الإيمان والعلم روينا بإسناد عَنْ هبيرة بْن الأشعث عَنْ أبي عبيدة العنبري قَالَ لما هبط المسلمون المداين وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إِلَى صاحب الأقباض فَقَالَ الذين معه مَا رأينا مثل هَذَا قط مَا يعدله مَا عندنا ولا مَا يقاربه فَقَالَ لَهُ هل أخذت مِنْهُ شيئا فَقَالَ أما وَاللَّه لولا اللَّه مَا أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنا فقالوا من أنت فَقَالَ وَاللَّه لا أخبركم لتحمدوني ولا أغريكم لتقرظوني ولكني أَحْمَد اللَّه وأرضى بثوابه فاتبعوه رجلا حتى انتهى إِلَى أصحابه فسأل عنه فَإِذَا هو عامر بْن عَبْدِ قيس.
ذكر تلبيسه على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
ذكر تلبيسه عَلَى الآمرين بالمعروف والناهين عَن المنكر وهم قسمان عالم وجاهل فدخول إبليس عَلَى العالم من طريقين: الطريق الأَوَّل: التزين بذلك وطلب الذكر والعجب بذلك الفعل روينا بإسناد عَنْ أَحْمَد بْن أبي الحواري قَالَ سمعت أبا سلمان يَقُول سمعت أبا جَعْفَر المنصور يبكي فِي خطبته يوم الجمعة فاستقبلني الغضب وحضرتني نية أن أقوم فأعظه بما أعرف من فعله إذا نزل قَالَ فكرهت أن أقوم إِلَى خليفة فأعظه والناس جلوس يرمقونني بأبصارهم فيعرض لي تزين فيأمر بي فأقتل عَلَى غير صَحِيح فجلست وسكت. والطريق الثاني: الغضب للنفس وربما كان ابتداء وربما عرض فِي حالة الآمر بالمعروف لأجل مَا يلقى به المنكر من الإهانة فتصير خصومه لنفسه كَمَا قَالَ عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز
لرجل لولا أني غضبان لعاقبتك وإنما أراد أنك أغضبتني فخفت أن تمتزج العقوبة من غضب اللَّه ولي فصل فأما إذا كان الآمر بالمعروف جاهلا فان الشَّيْطَان يتلاعب به وإنما كان إفساده فِي أمره أكثر من إصلاحه لأنه ربما نهى عَنْ شيء جائز بالإجماع وربما أنكر مَا تأول فيه صاحبه وتبع فيه بعض المذاهب وربما كسر الباب وتسور الحيطان وضرب أهل المنكر وقذفهم فان أجابوه بكلمة تصعب عَلَيْهِ صار غضبه لنفسه وربما كشف مَا قد أمر الشرع بستره وَقَدْ سئل أَحْمَد بْن حنبل عَنْ القوم يكون معهم المنكر مغطى مثل طنبور ومسكر قَالَ إذا كان مغطى فلا تكسره وقال فِي رواية أخرى اكسره وهذا محمول عَلَى أنه يكون مغطى بشيء خفيف يصفه فيتبين والأولى عَلَى أنه لا يتبين وسئل عَن الرَّجُل يسمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فَقَالَ ولا عليك مَا غاب عنك فلا تفتش وربما رفع هَذَا المنكر أهل المنكر إِلَى من يظلمهم وَقَدْ قَالَ أَحْمَد بْن حنبل إن علمت أن السلطان يقيم الحدود فارفع إليه. فصل: ومن تلبيس إبليس عَلَى المنكر أنه إذا أنكر جلس فِي مجمع يصف مَا فعل ويتباهى به ويسب أصحاب المنكر سب الحنق عليهم ويلعنهم ولعل القوم قد تابوا وربما كانوا 2خيرا مِنْهُ لندمهم وكبره ويندرج فِي ضمن حديثه كشف عورات المسلمين لأنه يعلم من لا يعلم والستر عَلَى المسلم واجب مهما أمكن وسمعت عَنْ بعض الجهلة بالإنكار أنه يهجم عَلَى قوم مَا يتيقن مَا عندهم ويضربهم الضرب المبرح ويكسر الأواني وكل هَذَا يوجبه الجهل فأما العالم إذا أنكر فأنت مِنْهُ عَلَى أمان وَقَدْ كان السلف يتلطفون فِي الإنكار ورأى صلة بْن أشيم رجلا يكلم امرأة فَقَالَ إن اللَّه يراكما سترنا اللَّه وإياكما وكان يمر بقوم يلعبون فيقول يا إخواني ما تقولون ف2يمن أراد سفرا فنام طول الليل ولعب طول النهار متى يقطع سفره فانتبه رجل منهم فَقَالَ يا قوم إنما يعلمنا هَذَا فتاب وصحبه. فصل: وأولى الناس بالتلطف فِي الإنكار عَلَى الأمراء فيصلح أن يقال لهم إن اللَّه قد رفعكم فاعرفوا قدر نعمته فَإِن النعم تدوم بالشكر فلا يحسن أن تقابل بالمعاصي. فصل: وقد لبس إبليس عَلَى بعض المتعبدين فيرى منكرا فلا ينكره ويقول إنما يأمر وينهي من قد صلح وأنا ليس بصالح فكيف آمر غيري وهذا غلط لأنه يجب عَلَيْهِ أن يأمر وينهي ولو كانت تلك المعصية فيه إلا أنه متى أنكر متنزها عَن المنكر أثر إنكاره وإذا لم يكن متنزها لم
يكد يعمل إنكاره فينبغي للمنكر أن ينزه نفسه ليؤثر إنكاره قَالَ ابْن عقيل رأينا فِي زماننا أبا بَكْر الأقفالي فِي أيام القائم إذا نهض لإنكار منكر استتبع معه مشايخ لا يأكلون إلا من صنعة أيديهم كأبي بَكْر الخباز شيخ صالح أضر من إطلاعه فِي التنور وتبعه وجماعة مَا فيهم من يأخذ صدقة ولا يدنس بقبول عطاء صوام النهار قوام الليل أرباب بكاء فَإِذَا تبعه مخلط رده وقال متى لقينا الجيش بمخلط انهزم الجيش.
الباب التاسع: في ذكر تلبيس إبليس على الزهاد والعباد
الباب التاسع: فِي ذكر تلبيس إبليس عَلَى الزهاد والعباد قد يسمع العامي ذم الدنيا فِي القرآن المجيد والأحاديث فيرى أن النجاة تركها ولا يدري مَا الدنيا المذمومة فيلبس عَلَيْهِ إبليس بأنك لا تنجو فِي الآخرة إلا بترك الدنيا فيخرج عَلَى وجهه إِلَى الجبال فيبعد عَن الجمعة والجماعة والعلم ويصير كالوحش ويخيل إليه أن هَذَا هو الزهد الحقيقي كيف لا وَقَدْ سمع عَنْ فلان أنه هام عَلَى وجهه وعن فلان أنه تعبد فِي جبل وربما كانت لَهُ عائلة فضاعت أَوْ والدة فبكت لفراقه وربما لم يعرف أركان الصلاة كَمَا ينبغي وربما كانت عَلَيْهِ مظالم لم يخرج منها وإنما يتمكن إبليس من التلبيس عَلَى هَذَا لقلة علمه ومن جهله رضاه عَنْ نفسه بما يعلم ولو أنه وفق لصحبة فقيه يفهم الحقائق لعرفه أن الدنيا لا تذم لذاتها وَكَيْفَ يذم مَا من اللَّه تعالى به وما هو ضرورة فِي بقاء الآدمي وسبب فِي إعانته عَلَى تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يصلي فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أَوْ تناوله عَلَى وجه السرف لا عَلَى مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع وأن الخروج إِلَى الجبال المنفردة منهي عنه فان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يبيت الرَّجُل وحده وأن التعرض لتركه الْجَمَاعَة والجمعة خسران لا ربح والبعد عَن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل وفراق الوالد والوالدة فِي مثل هَذَا عقوق والعقوق من الكبائر وأما من سمع عنه أنه خرج إِلَى جبل فأحوالهم تحتمل أنهم لم يكن لهم عيال ولا والد ولا والدة فخرجوا إِلَى مكان يتعبدون فيه مجتمعين ومن لم يحتمل حالهم وجها صحيحا فهم عَلَى الخطأ من كانوا وَقَدْ قَالَ بعض السلف خرجنا إِلَى جبل نتعبد فجاءنا سفيان الثوري فردنا. فصل: ومن تلبيسه عَلَى الزهاد إعراضهم عَن العلم شغلا بالزهد فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وبيان ذلك أن الزاهد لا يتعدى نفعه عتبة بابه والعالم نفعه متعد وكم قد رد إِلَى الصواب من متعبد.
فصل: ومن تلبيسه عليهم أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات فمنهم من لا يَزِيد عَلَى خبز الشعير ومنهم من لا يذوق الفاكهة ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه ويعذب نفسه بلبس الصوف ويمنعها الماء البارد وما هذه طريقة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا طريق أصحابه وأتباعهم وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا شيئا فَإِذَا وجدوا أكلوا وَقَدْ كان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل اللحم ويحبه ويأكل الدجاج ويحب الحلوى ويستعذب لَهُ الماء البارد ويختار الماء البائت فإن الماء الجاري يؤذي المعدة ولا يروي وَقَدْ كان رجل يَقُول أنا لا آكل الخبيص لأني لا أقوم بشكره فَقَالَ الْحَسَن البصري هَذَا رجل أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد وقد كان سفيان الثوري إذا سافر حمل فِي سفرته اللحم المشوي والفالوذج وينبغي للإنسان أن يعلم أن نفسه مطيته ولا بد من الرفق بِهَا ليصل بِهَا إِلَى المقصود فليأخذ مَا يصلحها وليترك مَا يؤذيها من الشبع والإفراط فِي تناول الشهوات فان ذلك يؤذي البدن والدين. ثم إن الناس يختلفون فِي طباعهم فان الأعراب إذا لبسوا الصوف واقتصروا عَلَى شرب اللبن لم نلمهم لأن مطايا أبدانهم تحمل ذلك وأهل السواد إذا لبسوا الصوف وأكلوا الكوامخ لم نلمهم أيضا ولا نقول فِي هؤلاء من قد حمل عَلَى نفسه لأن هذه عادة القوم فأما إذا كان البدن مترفا قد نشأ عَلَى التنعم فإنا ننهي صاحبه أن يحمل عَلَيْهِ مَا يؤذيه فان تزهد وآثر ترك الشهوات إما لأن الحلال لا يحتمل السرف أَوْ لأن الطعام اللذيذ يوجب كثرة التناول فيكثر النوم والكسل فهذا يحتاج أن يعلم مَا يضر تركه وما لا يضر فيأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس وَقَدْ ظن قوم أن الخبز القفاز يكفي فِي قوام البدن ولو كفى إلا أن الاقتصار يؤدي من جهة أن أخلاط البدن تفتقر إِلَى الحامض والحلو والحار والبارد والممسك والمسهل وَقَدْ جعل أسباب مثل أن يقل عندها البلغم الذي لا بد فِي قوامها مِنْهُ فتشتاق إِلَى اللبن ويكثر عندها الصفراء فتميل إِلَى الحموضة فمن كفها عَن التصرف عَلَى مقتضى مَا قد وضع فِي طبعها مما يصلحها فقد آذاها إلا أن يكفها عَن الشبع والشره وما يخاف عاقبته فان ذلك يفسدها فأما الكف المطلق فخطأ فافهم هَذَا ولا يلتفت إِلَى قول الحارث المحاسبي وأبي طالب المكي فيما ذكرا من تقليل المطعم ومجاهدة النفس بترك مباحاتها فان اتباع الشارع وصحابته أولى وكان ابْن عقيل يَقُول مَا أعجب أموركم فِي المتدين إما أهواء متبعة أَوْ رهبانية مبتدعة بين تجرير أذيال المرح فِي الصبا واللعب وبين إهمال الحقوق وإطراح العيال واللحوق بزوايا المساجد فهلا عبدوا عَلَى عقل وشرع.
فصل: ومن تلبيسه عليهم أنه يوهمهم أن الزهد هو القناعة بالدون من المطعم والملبس فحسب فهم يقنعون بذلك وقلوبهم راغبة فِي الرياسة وطلب الجاه فتراهم يترصدون لزيارة الأمراء إياهم ويكرمون الأغنياء دون الفقراء ويتخاشعون عند لقاء الناس كأنهم قد خرجوا من مشاهدة وربما رد أحدهم المال لئلا يقال قد بدا لَهُ من الزهد وهم من ترغد الناس إليهم وتقبيل أيديهم فِي أوسع باب من ولايات الدنيا لأن غاية الدنيا الرياسة. فصل: وأكثر مَا يلبس به إبليس عَلَى العباد والزهاد خفي الرياء فأما الظاهر من الرياء فلا يدخل فِي التلبيس مثل إظهار النحول وصفار الوجه وشعث الشعر ليستدل به على الزهد وك4ذلك خفض الصوت لإظهار الخشوع وكذلك الرياء بالصلاة والصدقة ومثل هذه الظواهر لا تخفى وإنما نشير إِلَى خفي الرياء وَقَدْ قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" ومتى لم يرد بالعمل وجه اللَّه عز وجل لم يقبل قَالَ مالك بْن دِينَار قولوا لمن لم يكن صادقا لا تتعب. وأعلم أن المؤمن لا يريد بعمله إلا اللَّه سبحانه وتعالى وإنما يدخل عَلَيْهِ خفي الرياء فيلبس الأمر فنجانه مِنْهُ صعبة وفي الحديث مرفوعا عَنْ يسار قَالَ لي يوسف بْن أسباط تعلموا صحة العمل من سقمه فاني تعلمته فِي اثنتين وعشرين سنة وفي الحديث مرفوعا عَنْ إبراهيم الحنظلي قَالَ سمعت بقية بْن الوليد يَقُول سمعت إبراهيم بْن أدهم يَقُول تعلمت المعرفة من راهب يقال لَهُ سمعان دخلت عَلَيْهِ فِي صومعته فقلت لَهُ يا سمعان منذ كم أنت فِي صومعتك هذه قَالَ منذ سبعين سنة قلت مَا طعمك قَالَ يا حنيفي وما دعاك إِلَى هَذَا قلت أحببت أن أعلم قَالَ فِي كل ليلة حمصة قلت فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قَالَ ترى الذين بحذائك قلت نعم قَالَ إنهم يأتونني فِي كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظمونني بذلك وكلما تثاقلت نفسي عَن العبادة ذكرتها تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر فِي قلبي المعرفة فَقَالَ أزيدك قلت نعم قَالَ انزل عَن الصومعة فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرون حمصة فَقَالَ لي أدخل الدير فقد رأوا مَا أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى فقالوا يا حنيفي مَا الذي أدلى إليك الشيخ قلت من قوته قالوا وما تصنع به نحن أحق ساوم قلت عشرين دينارا فأعطوني عشرين دينارا فرجعت إِلَى الشيخ فَقَالَ أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك هَذَا عز من لا يعبده فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي أقبل عَلَى ربك.
قلت ولخوف الرياء ستر الصالحون أعمالهم حدرا عليها وبهرجوها بضدها فكان ابْن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل وكان فِي ذيل أيوب السختياني بعض الطول وكان ابْن أدهم إذا مرض يرى عنده مَا يأكله الأصحاء وبالإسناد عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك عَنْ بكار بْن عَبْدِ اللَّهِ أنه سمع وهب ابْن منبه يَقُول كان رجل من أفضل أهل زمانه وكان يزار فيعظمهم فاجتمعوا إليه ذات يوم فَقَالَ إنا قد خرجنا من الدنيا وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان وَقَدْ خفت أن يكون قد دخل علينا فِي هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل عَلَى أهل الأموال فِي أموالهم أرانا يحب أحدنا أن تقضي لَهُ حاجته وأن اشتري بيعا أن يقارب لمكان دينه وإن لقي حيي ووقر لمكان دينه فشاع ذلك الكلام حتى بلغ الملك فعجب به فركب إليه ليسلم عَلَيْهِ وينظر إليه فلما رآه الرَّجُل قيل لَهُ هَذَا الملك قد أتاك ليسلم عليك فَقَالَ وما يصنع قَالَ للكلام الذي وعظت به فسأل غلامه هل عندك طعام فَقَالَ شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به فأمر به فأتى عَلَى مسح فوضع بين يديه فأخذ يأكل مِنْهُ وكان يصوم النهار ولا يفطر فوقف عَلَيْهِ الملك فسلم عَلَيْهِ فأجابه بإجابة خفية وأقبل عَلَى طعامه يأكله فَقَالَ الملك أين الرَّجُل فَقِيلَ لَهُ هو هَذَا قَالَ هَذَا الذي يأكل قالوا نعم قَالَ فما عند هَذَا من خير فأدبر فَقَالَ الرَّجُل الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به وفي رواية أخرى عَنْ وهب أنه لما أقبل الملك قدم الرَّجُل طعامه فجعل يجمع البقول فِي اللقمة الكبيرة ويغمسها فِي الزيت فيأكل أكلا عنيفا فَقَالَ لَهُ الملك كيف أنت يا فلان فَقَالَ كالناس فرد الملك عنان دابته وقال مَا فِي هَذَا من خير فَقَالَ الحمد لله الذي أذهبه عني وَهُوَ لائم لي وبإسناد عَنْ عطاء قَالَ أراد أَبُو الوليد بْن عَبْدِ الملك أن يولي يَزِيد بْن مرثد فبلغ ذلك يَزِيد فلبس فروة فجعل الجلد عَلَى ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيفا وعرقا وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف فجعل يمشي فِي الأسواق ويأكل فَقِيلَ للوليد إن يَزِيد قد اختلط وأخبر بما فعل فتركه ومثل هَذَا كثير. فصل: ومن الزهاد من يستعمل الزهد ظاهرا وباطنا لكنه قد علم أنه لا بد أن يتحدث بتركه للدنيا أصحابه أَوْ زوجته فيهون عَلَيْهِ الصبر كَمَا هان عَلَى الراهب الذي ذكرنا قصته مَعَ إبراهيم بْن أدهم ولو أنه أراد الإخلاص فِي زهده لأكل مَعَ أهله قدر مَا ينمحي به جاه النفس ويقطع الحديث عنه فقد كان داود بْن أبي هند صام عشرين سنة ولم يعلم به أهله كان يأخذ غذائه ويخرج إِلَى السوق فيتصدق به فِي الطريق فأهل السوق يظنون أنه قد أكل فِي البيت وأهل البيت يظنون أنه قد أكل فِي السوق هكذا كان الناس.
فصل: ومن المتزهدين من قوته الانقطاع فِي مسجد أَوْ رباط أَوْ جبل فلذته علم الناس بانفراده وربما احتج لانقطاعه باني أخاف أن أرى فِي خروجي المنكرات وله فِي ذلك مقاصد منها الكبر واحتقار الناس ومنها أنه يخاف أن يقصروا فِي خدمته ومنها حفظ ناموسه ورياسته فان مخالطة الناس تذهب ذلك وَهُوَ يريد أن يبقى إطراؤه وذكره وربما كان مقصوده ستر عيوبه ومقابحه وجهله بالعلم فيرى هَذَا ويحب أن يزار ولا يزور ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع العوام عَلَى بابه وتقبيلهم يده فهو يترك عيادة المرضى وشهود الجنائز وبقول أصحابه أعذروا الشيخ فهذه عادته لا كانت عادة تخالف الشريعة ولو احتاج هَذَا الشخص إِلَى القوت ولم يكن عنده من يشتريه لَهُ صبر عَلَى الجوع لئلا يخرج لشراء ذلك بنفسه فيضيع جاهه لمشيه بين العوام ولو أنه خرج فاشترى حاجته لانقطعت عنه الشهرة ولكن فِي باطنه حفظ الناموس وَقَدْ كان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج إِلَى السوق ويشتري حاجته ويحملها بنفسه وكان أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عنه يحمل الثياب عَلَى كتفه فيبيع ويشتري والحديث بإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن القاسم قَالَ روي عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن حنظلة قَالَ مر عَبْد اللَّهِ بْن سلام وعلى رأسه حزمة حطب فَقَالَ لَهُ ناس مَا يحملك عَلَى هَذَا وَقَدْ أغناك اللَّه قَالَ أردت أن أدفع به الكبر وذلك إني سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْكِبْرِ". فصل: قَالَ المصنف: وهذا الذي ذكرته من الخروج لشراء الحاجة ونحوها من التبذل كان عادة السلف القدماء وَقَدْ تغيرت تلك العادة كَمَا تغيرت الأحوال والملابس فلا أرى للعالم أن يخرج الْيَوْم لشراء حاجته لأن ذلك يكشف نور العلم عند الجهلة وتعظيمه عندهم مشروع ومراعاة قلوبهم فِي مثل هَذَا يخرج إِلَى الرياء واستعمال مَا يوجب الهيبة فِي القلوب لا يمنع مِنْهُ وليس كل مَا كان فِي السلف مما لا يتغير به قلوب الناس يومئذ ينبغي أن يفعل الْيَوْم قال الأوزاعي كنا نضحك ونمزح فَإِذَا صرنا يقتدى بنا فلا أرى ذلك يسعنا وَقَدْ روينا عَنْ إبراهيم بْن أدهم أن أصحابه كانوا يوما يتمازحون فدق رجل الباب فأمرهم بالسكوت والسكون فقالوا لَهُ تعلمنا الرياء فَقَالَ إني أكره أن يعصى اللَّه فيكم. قال المصنف: وإنما خاف قول الجهلة انظروا إِلَى هؤلاء الزهاد كيف يفعلون وذلك أن العوام لا يحتملون مثل هَذَا للمتعبدين. فصل: ومن هؤلاء قوم لو سئل أحدهم أن يلبس اللين من ثوبه مَا فعل لئلا يتوكس جاهه
فِي الزهد ولو خرج روحه لا يأكل والناس يرونه ويحفظ نفسه فِي التبسم فضلا عَنْ الضحك ويوهمه إبليس أن هَذَا لإصلاح الخلق وإنما هو رياء يحفظ به قانون الناموس فتراه مطاطىء الرأس عَلَيْهِ آثار الحزن فَإِذَا خلا رأيته ليث شرى. فصل: وقد كان السلف يدفعون عنهم كل مَا يوجب الإشارة إليهم ويهربون من المكان الذي يشار إليهم فيه والحديث بإسناد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خفيف قَالَ قَالَ يوسف بْن أسباط خرجت من سبج راجلا حتى أتيت المصيصة وجرابي عَلَى عنقي فقام ذا من حانوته يسلم علي وذا يسلم فطرحت جرابي ودخلت المسجد أصلي ركعتين أحد قوابي واضطلع رجل فِي وجهي فقلت فِي نفسي كم بقاء قلبي عَلَى هَذَا فأخذت جرابي ورجعت بعرفي وعنائي إِلَى سبج فما رجعت إِلَى قلبي سنتين. فصل: ومن الزهاد من يلبس الثوب المخرق ولا يخيطه ويترك إصلاح عمامته وتسريح لحيته ليرى أنه مَا عنده من الدنيا خير وهذا من أبواب الرياء فان كان صادقا فِي إعراضه عَنْ أغراضه كَمَا قيل لداود الطائي ألا تسرح لحيتك فَقَالَ إني عنها لمشغول فليعلم أنه سلك غير الجادة إذ ليست هذه طريقة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه فانه كان يسرح شعره وينظر فِي المرآة ويدهن ويتطيب وَهُوَ أشغل الخلق بالآخرة وكان أَبُو بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يخضبان بالحناء والكتم وهما أخوف الصحابة وأزهدهم فمن أدعى رتبة تزيد عَلَى السنة وأفعال الأكابر لم يلتفت إليه. فصل ومن الزهاد من يلزم الصمت الدائم وينفرد عَنْ مخالطة أهله فيؤذيهم بقبح أخلاقه وزيادة انقباضه وينسى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لأهلك عليك حقا" وَقَدْ كان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمزح فيلاعب الأطفال ويحدث أزواجه وسابق عائشة إِلَى غير ذلك من الأخلاق اللطيفة فهذا المتزهد الجاعل زوجته كالآيم وولده كاليتيم لانفراده عنهم وقبح أخلاقه لأنه يرى أن ذلك يشغله عَنِ الآخرة ولا يدري لقلة علمه أن الانبساط إِلَى الأهل من العون عَلَى الآخرة وفي الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لجابر هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك وربما غلب عَلَى هَذَا المتزهد التجفف فترك مباضعة الزوجة فيضيع فرضا بنافلة غير ممدوحة. فصل: ومن الزهاد من يرى عمله فيعجبه فلو قيل لَهُ أنت من أوتاد الأَرْض رأى ذلك حقا ومنهم من يترصد لظهور كرامته ويخيل إليه أنه لو قرب من الماء قدر أن يمشي عَلَيْهِ فَإِذَا
عرض لَهُ أمر فدعا فلم يجب تذمر فِي باطنه فكأنه أجير يطلب أجر عمله ولو رزق الفهم لعلم أنه عَبْد مملوك والمملوك لا يمن بعمله ولو نظر إِلَى توفيقه لِلْعَمَل لرأى وجوب الشكر فخاف من التقصير فيه وَقَدْ كان ينبغي أن يشغله خوفه عَلَى العمل من التقصير فيه عَن النظر إليه كَمَا كانت رابعة تقول أستغفر اللَّه من قلة صدقي فِي قولي وقيل لها هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك فقالت إذا كان فمخافتي أن يرد علي. فصل: ومن تلبيس إبليس عَلَى قوم من الزهاد الذي دخل عليهم فيه من قلة العلم أنهم يعملون بواقعاتهم ولا يلتفتون إِلَى قول الفقيه قَالَ ابْن عقيل كان أَبُو اسحق الخراز صالحا وَهُوَ أول من لقنني كتاب اللَّه وكان من عادته الإمساك عَنْ الكلام فِي شهر رمضان فكان يخاطب بآي القرآن فيما يعرض إليه من الحوائج فيقول فِي أذنه: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} ويقول لابنه فِي عشية الصوم {مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا} آمرا لَهُ أن يشتري البقل فقلت لَهُ هَذَا الذي تعتقده عبادة هو معصية فصعب عَلَيْهِ فقلت أن هَذَا القرآن الْعَزِيز أنزل فِي بيان أحكام شرعية فلا يستعمل فِي أغراض دنيوية وما هَذَا إلا بمثابة صرك السدر والأشنان فِي ورق المصحف أَوْ توسدك لَهُ فهجرني ولم يصغ إِلَى الحجة. قَالَ المصنف: قلت وَقَدْ يسمع الزاهد القليل العلم أشياء من العوام فيفتي به حَدَّثَنِي أَبُو حكيم إبراهيم بْن دِينَار الفقيه أن رجلا استفتاه فَقَالَ مَا تقول فِي امرأة طلقت ثلاثا فولدت ذكرا هل تحل لزوجها قَالَ فقلت لا وكان عندي الشريف الدحالي1 وكان مشهورا بالزهد عظيم القدر بين العوام فَقَالَ لي بل تحل فقلت مَا قَالَ بهذا أحد فَقَالَ وَاللَّه لقد أفتيت بهذا من ههنا إِلَى البصرة. قَالَ المصنف فانظر مَا يصنع الجهل بأهله ويضاف إليه حفظ الجاه خوفا أن يرى الزاهد بعين الجهل وَقَدْ كان السلف ينكرون عَلَى الزاهد مَعَ معرفته بكثير من العلم أن يفتي لأنه لم يجمع شروط الفتوى فكيف لو رأوا تخبيط المتزهدين الْيَوْم فِي الفتوى بالواقعات وبالإسناد عَنْ إسماعيل بْن شبة قَالَ دخلت عَلَى أَحْمَد بْن حنبل وَقَدْ قدم أَحْمَد بْن حرب من مكة فَقَالَ لي أحمد
ابن حنبل من هَذَا الخراساني الذي قد قدم قلت من زهده كذا وكذا ومن ورعه كذا وكذا فَقَالَ لا ينبغي لمن يدعي مَا يدعيه أن يدخل نفسه في الفتيا. فصل: ومن تلبيسه عَلَى الزهاد احتقارهم العلماء وذمهم إياهم فهم يقولون المقصود العمل ولا يفهمون أن العلم نور القلب ولو عرفوا مرتبة العلماء فِي حفظ الشريعة وأنها مرتبة الأنبياء لعدوا أنفسهم كالبكم عند الفصحاء والعمي عند البصراء والعلماء أدلة الطريق والخلق وراءهم وسليم هؤلاء يمشي وحده وفي الصحيحين من حديث سَهْل بْن سَعْد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلي بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عنه "وَاللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلا واحدا خيرا لك من حمر النعم". فصل: ومما يعيبون به العلماء تفسح العلماء فِي بعض المباحات التي يتقوون بِهَا عَلَى دراسة العلم وكذلك يعيبون جامع الأموال ولو فهموا معنى المباح لعلموا أنه لا يذم فاعله وغاية الأمر أن غيره أولى مِنْهُ أفيحسن لمن صَلَّى الليل أن يعيب عَلَى من أدى الفرض ونام ولقد روينا بإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر الخولاني قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّهِ الخواص وكان من أصحاب حاتم الأصم قَالَ دخلنا مَعَ حاتم البلخي إِلَى الري ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلا من أصحابه يريد الحج وعليهم الصوف والزرمانقات ليس فيهم من معه جراب ولا طعام فنزلنا عَلَى رجل من التجار متنسك فضافنا تلك الليلة فلما كان من الغد قَالَ لحاتم يا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ لك حاجة فاني أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل فَقَالَ حاتم إن كان لكم فقيه عليل فعيادة الفقيه لها فضل كبير والنظر إِلَى الفقيه عبادة وأنا أجيء معك وكان العليل مُحَمَّد بْن مقاتل قاضي الري فَقَالَ لَهُ مر بنا يا أبا عبد الرحمن فجاؤا إِلَى باب داره فَإِذَا البواب فبقي حاتم متفكرا يَقُول يا رب دار عالم عَلَى هذه الحال ثم أذن لهم فدخلوا فَإِذَا بدار قوراء وآلة حسنة وبزة وفرش وستور فبقي حاتم متفكرا ينظر حتى دخلوا إِلَى المجلس الذي فيه مُحَمَّد بْن مقاتل واذا بفراش حسن وطىء وَهُوَ عَلَيْهِ راقد وعند رأسه مذبة وناس وقوف فقعد الرازي وبقي حاتم قائما فأومىء إليه مُحَمَّد بْن مقاتل بيده أن أجلس فَقَالَ حاتم لا أجلس فَقَالَ لَهُ ابْن مقاتل فلك حاجة قَالَ نعم قَالَ وما هي قَالَ مسألة أسألك عنها قَالَ فاسألني قَالَ حاتم قم فاستو جالسا حتى أسألك عنها فأمر غلمانه فأسندوه فَقَالَ حاتم علمك هَذَا من أين جئت به فَقَالَ حَدَّثَنِي الثقات عَن الثقات من الأئمة قَالَ عمن أخذوه قَالَ عَن التابعين قَالَ والتابعون ممن أخذوه قَالَ عَنْ أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وأصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن أخذوه قَالَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ورسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من أين جاء به قَالَ عَنْ جبريل عَن اللَّه عز وجل فَقَالَ حاتم ففيم أداه جبريل عَن اللَّه عز وجل إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأداة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصحابة وأداة الصحابة إِلَى تابعيهم وأداة التابعون إِلَى الأئمة وأداة الأئمة إِلَى الثقات وأداة الثقات إليكم هل سمعت فِي هَذَا العلم من كانت داره فِي الدنيا أحسن وفراشه ألين وزينته أكثر كان لَهُ المنزلة عند اللَّه عز وجل أكبر قَالَ لا قَالَ فكيف سمعت قَالَ سَمِعْتُ من زهد فِي الدنيا ورغب فِي الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كان عند اللَّه عز وجل لَهُ منزلة أكثر وإليه أقرب قَالَ حاتم وأنت بمن أقتديت أبا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأصحابه والتابعين من بعدهم والصالحين عَلَى أثرهم أَوْ فرعون ونمروذ فانهما أول من بنى بالجص والآجر يا علماء السوء إن الجاهل المتكالب عَلَى الدنيا الراغب فيها يَقُول هَذَا العالم عَلَى هذه الحالة إلا أكون أنا قَالَ فخرج من عنده وازداد مُحَمَّد بْن مقاتل مرضا وبلغ أهل الري مَا جرى بين حاتم وبين ابْن مقاتل فقالوا لحاتم أن مُحَمَّد بْن عُبَيْد الطنافسي بقزوين أكثر شيئا من هَذَا فصار إليه فدخل عَلَيْهِ وعنده الخلق يحدثهم فَقَالَ لَهُ رحمك اللَّه أنا رجل أعجمي جئتك لتعلمني مبدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة فَقَالَ نعم وكرامة يا غلام إناء فيه ماء فجاءه بإناء فيه ماء فقعد مُحَمَّد بْن عُبَيْد فتوضأ ثلاثا ثم قَالَ لَهُ هكذا فتوضأ قَالَ حاتم مكانك رحمك اللَّه حتى أتوضأ بين يديك ليكون أوكد لما أريد فقام الطنافسي وقعد حاتم مكانه فتوضأ وغسل وجهه ثَلاثَة حتى إذا بلغ الذراع غسل أربعا فَقَالَ الطنافسي أسرفت قَالَ حاتم فبماذا أسرفت قَالَ غسلت ذراعك أربعا قَالَ يا سبحان اللَّه أنا فِي كف ماء أسرفت وأنت فِي جميع هَذَا الذي أراه كله لم تسرف فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك فدخل البيت ولم يخرج إِلَى الناس أربعين يوما وخرج حاتم إِلَى الحجاز فلما صار إِلَى المدينة أحب أن يخصم علماء المدينة فلما دخل المدينة قَالَ يا قوم أي مدينة هذه قالوا مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فأين قصر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أذهب إليه فأصلي فيه ركعتين قالوا مَا كان لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصر إنما كان لَهُ بيت لاط قَالَ فأين قصور أهله وأصحابه وأزواجه قالوا مَا كان لهم قصور إنما كان لهم بيوت لاطئة فَقَالَ حاتم فهذه مدينة فرعون قَالَ فسبوه وذهبوا به إِلَى الوالي وقالوا هَذَا العجمي يَقُول هذه مدينة فرعون فَقَالَ الوالي لم قلت ذلك قَالَ حاتم لا تعجل علي أيها الأمير أنا رجل غريب دخلت هذه المدينة فسألت أي مدينة هذه قالوا مدينة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسألت عَنْ قصر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقصور أصحابه قالوا إنما كانت لهم بيوت لاطئة وسمعت اللَّه عز وجل يَقُول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فأنتم بمن تأسيتم برسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بفرعون.
قَالَ المصنف قلت الويل للعلماء من الزاهد الجاهل الذي يقتنع بعلمه فيرى الفضل فرضا فان الذي أنكره مباح والمباح مأذون فيه والشرع لا يأذن فِي شيء ثم يعاتب عَلَيْهِ فما أقبح الجهل ولو أنه قَالَ لهم لو قصر تم فيما أنتم فيه لتقتدي الناس بكم كان أقرب حالة ولو سمع هَذَا بأن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف والزبير بْن العوام وعبد اللَّه بْن مسعود رضوان اللَّه عليهم وفلانا وفلانا من الصحابة خلفوا مالا عظيما أتراه ماذا كان يَقُول وَقَد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم وكان يقوم فيها بالليل ففرض عَلَى الزاهد التعلم من العلماء فَإِذَا لم يتعلم فليسكت والحديث بإسناد عَنْ مالك بْن دِينَار رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ إن الشَّيْطَان ليلعب بالقراء كَمَا يلعب الصبيان بالجوز وبإسناد عَنْ حبيب الْفَارِسِيّ يَقُول وَاللَّه أن الشَّيْطَان ليلعب بالقراء كَمَا يلعب الصبيان بالجوز. قَالَ المصنف قلت المراد بالقراء الزهاد وهذا اسم قديم لهم معروف وَاللَّه الموفق للصواب واليه المرجع والمآب
الباب العاشر: في ذكر تلبيسه على الصوفية من جملة الزهاد
الباب العاشر: فِي ذكر تلبيسه عَلَى الصوفية من جملة الزهاد ظهور الصوفية ... الباب العاشر: فِي ذكر تلبيسه عَلَى الصوفية من جملة الزهاد قال المصنف الصوفية: من جملة الزهاد وَقَدْ ذكرنا تلبيس إبليس عَلَى الزهاد إلا أن الصوفية أنفردوا عَن الزهاد بصفات وأحوال وتوسموا بسمات فاحتجنا إِلَى إفرادهم بالذكر والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص فمال اليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد ومال اليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب فلا بد من كشف تلبيس إبليس عليهم فِي طريقة القوم ولا ينكشف ذلك إلا بكشف أصل هذه الطريقة وفروعها وشرح أمورها وَاللَّه الموفق للصواب. فصل: قال المصنف: كانت النسبة فِي زمن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإيمان والإسلام فيقال مسلم ومؤمن ثم حدث اسم زاهد وعابد ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عَن الدنيا وانقطعوا إِلَى العبادة واتخذوا فِي ذلك طريقة تفردوا بِهَا وأخلاقا تخلقوا بِهَا ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة اللَّه سبحانه وتعالى عند بيته الحرام رجل يقال لَهُ صوفة واسمه الغوث بْن مر فانتسبوا إليه لمشابهتهم إياه فِي الانقطاع إِلَى اللَّه سبحانه وتعالى فسموا بالصوفية أنبأنا مُحَمَّد بْن ناصر عَنْ أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن سَعِيد الحبال قَالَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الغني بْن سَعِيد الْحَافِظ قَالَ سألت وليد بْن القاسم إِلَى أي شيء ينسب الصوفي فَقَالَ كان قوم فِي الجاهلية يقال لهم صوفة انقطعوا إِلَى اللَّه عز وجل وقطنوا الكعبة فمن تشبه بهم فهم الصوفية قَالَ عَبْد الغني فهؤلاء المعروفون بصوفة ولد الغوث بْن مر بْن أخي تميم بْن مر وبالإسناد إِلَى الزبير بْن بكار قَالَ كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إِلَى الغوث بْن مر بْن أد بْن طابخة ثم كانت فِي ولده وكان يقال لهم صوفة وكان إذا حانت الإجازة قالت العرب أجز صوفة قَالَ الزبير قَالَ أَبُو عبيدة وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئا من غير أهله أَوْ قَامَ بشيء من أمر المناسك يقال لهم صوفة وصوفان قَالَ الزبير حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأثرم عَنْ هشام بْن مُحَمَّد بْن السائب
الكلبي قَالَ إنما سمي الغوث بْن مرصوفة لأنه مَا كان يَعِيش لأمه ولد فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيط الكعبة ففعلت فَقِيلَ لَهُ صوفة ولولده من بعده قَالَ الزبير وحدثني إبراهيم بْن المنذري عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن عمران قَالَ أخبرني عقال بْن شبة قَالَ قالت أم تميم بْن مر وَقَدْ ولدت نسوة فقالت لله علي أن ولدت غلاما لأعبدنه للبيت فولدت الغوث بْن مر فلما ربطته عند البيت أصابه الحر فمرت به وَقَدْ سقط واسترخى فقالت مَا صار ابني إلا صوفة فسمي صوفة وكان الحج وإجازة الناس من عرفة إِلَى منى ومن منى إِلَى مكة لصوفة. فلم تزل الإجازة فِي عقب صوفة حتى أخذتها عدوان فلم تزل فِي عدوان حتى اخذتها قريش. فصل: قَالَ المصنف: وَقَدْ ذهب قوم إِلَى أن التصوف منسوب إِلَى أهل الصفة وإنما ذهبوا إِلَى هَذَا لأنهم رأوا أهل الصفة عَلَى مَا ذكرنا من صفة صوفة فِي الانقطاع إِلَى اللَّه عز وجل وملازمة الفقر فَإِن أهل الصفة كانوا فقراء يقدمون عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة فِي مسجد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل أهل الصفة والحديث بإسناد عَن الْحَسَن قَالَ بنيت صفة لضعفاء المسلمين فجعل المسلمون يوصلون إليها مَا استطاعوا من خير وكان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيهم فيقول السلام عليكم يا أهل الصفة فيقولون وعليك السلام يا رَسُول اللَّهِ فيقول كيف أصبحتم فيقولون بخير يا رَسُول اللَّهِ وبإسناد عَنْ نعيم بْن المجمر عَنْ أبيه عَنْ أبي ذر قَالَ كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأمر كل رجل فينصرف برجل فيبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أَوْ أقل فيؤثرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشائه فنتعش فَإِذَا فرغنا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ناموا فِي المسجد". قَالَ المصنف: وهؤلاء القوم إنما قعدوا فِي المسجد ضرورة وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة فلما فتح اللَّه عَلَى المسلمين استغنوا عَنْ تلك الحال وخرجوا ونسبة الصوفي إِلَى أهل الصفة غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفي وَقَدْ ذهب إِلَى أنه من الصوفانة وهي بقلة رعناء قصيرة فنسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء وهذا أيضا غلط لأنه لو نسبوا إليها لقيل صوفاني وقال آخرون هو منسوب إِلَى صوفة القفا وهي الشعرات النابتة فِي مؤخره كأن الصوفي عطف به إِلَى الحق وصرفه عَن الخلق وقال آخرون بل هو منسوب إِلَى الصوف وهذا يحتمل والصحيح الأَوَّل.
وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عَنْ صفته بعبارات كثيرة وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عَن الأخلاق الرذيلة وحمله عَلَى الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إِلَى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح فِي الدنيا والثواب فِي الأخرى والحديث بإسناد عَن الطوسي يَقُول سَمِعْتُ أبا بَكْر بْن المثاقف يَقُول سألت الجنيد بْن مُحَمَّد عَن التصوف فَقَالَ الخروج عَنْ كل خلق رديء والدخول فِي كل خلق سني وبإسناد عَنْ عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن خفيف يَقُول قَالَ رويم كل الخلق قعدوا عَلَى الرسوم وقعدت هذه الطائفة عَلَى الحقائق وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق. قَالَ المصنف: وعلى هَذَا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم فِي أشياء ثم لبس عَلَى من بعدهم من تابعيهم فكلما مضى قرن زاد طعمه فِي القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إِلَى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن. وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عَن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا فِي الظلمات فمنهم من أراده أن المقصود من ذلك ترك الدنيا فِي الجملة فرفضوا مَا يصلح أبدانهم وشبهوا المال بالعقارب ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا فِي الحمل عَلَى النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم عَلَى غير الجادة وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وَهُوَ لا يدري. ثم جاء أقوام فتكلموا لهم فِي الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا فِي ذلك مثل الحارث المحاسبي وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بِهَا من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة ثم مَا زال الأمر ينمي والأشياخ يضعون لهم أوضاعا ويتكلمون بواقعاتهم ويتفق بعدهم عَن العلماء لا بل رؤيتهم مَا هم فيه أَوْ فِي العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر ومنهم من خرج به الجوع إِلَى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة فهاموا به وهؤلاء بين الكفر والبدعة ثم تشعبت بأقوام منهم
الطرق ففسدت عقائدهم فمن هؤلاء من قَالَ بالحلول ومنهم من قَالَ بالاتحاد وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا وجاء أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير فذكر عنهم فيه العجب فِي تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إِلَى أصل من أصول العلم وإنما حملوه عَلَى مذاهبهم والعجب من ورعهم فِي الطعام وانبساطهم فِي القرآن وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو منصور عَبْد الرَّحْمَنِ القزاز قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر الخطيب قَالَ قَالَ لي مُحَمَّد بْن يوسف القطان النيسابوري قَالَ كان أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي غير ثقة ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئا يسيرا فلما مات الحاكم أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن البيع حدث عَن الأصم بتاريخ يَحْيَى بْن معين وبأشياء كثيرة سواه وكان يضع للصوفية الأحاديث. قَالَ المصنف: وصنف لهن أَبُو نصر السراج كتابا سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول مَا سنذكر مِنْهُ جملة إن شاء اللَّه تعالى وصنف لهم أَبُو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة وما لا يستند فيه إِلَى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد وردد فيه قول قَالَ بعض المكاشفين وهذا كلام فارغ وذكر فيه عَنْ بعض الصوفية إن اللَّه عز وجل يتجلى فِي الدنيا لأوليائه أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر الخطيب قَالَ قَالَ أَبُو طاهر مُحَمَّد بْن العلاف قَالَ دخل أَبُو طالب المكي إِلَى البصرة بعد وفاة أبي الْحُسَيْن1 بْن سالم فانتمى إِلَى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عَلَيْهِ فِي مجلس الوعظ فخلط فِي كلامه فحفظ عنه أنه قَالَ ليس عَلَى المخلوق أضر من الخالق فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام عَلَى الناس بعد ذلك قَالَ الخطيب وصنف أَبُو طالب المكي كتابا سماه قوت القلوب عَلَى لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة فِي الصفات. قَالَ المصنف: وجاء أَبُو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية وذكر فِي حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر فِي الصوفية أبا بَكْر وعمر وعثمان وعليا وسادات الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحا القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بْن حنبل وكذلك ذكر السلمي فِي طبقات الصوفية الفضيل وإبراهيم بْن أدهم ومعروفا الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إِلَى أنهم من الزهاد.
فالتصوف مذهب معروف يَزِيد عَلَى الزهد ويدل عَلَى الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وَقَدْ ذموا التصوف عَلَى مَا سيأتي ذكره وصنف لهم عَبْد الكريم بْن هوزان القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام فِي الفناء والبقاء والقبض والبسط والوقت والحال والوجد والوجود والجمع والتفرقة والصحو والسكر والذوق والشرب والمحو والإثبات والتجلي والمحاضرة والمكاشفة واللوائح والطوالع واللوامع والتكوين والتمكين والشريعة والحقيقة إِلَى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره أعجب مِنْهُ وجاء مُحَمَّد بْن ظاهر المقدسي فصنف لهم صفوة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها مَا يصلح ذكره فِي مواضعه إن شاء اللَّه تعالى. وكان شيخنا أَبُو الفضل بْن ناصر الْحَافِظ يَقُول كان ابْن طاهر يذهب مذهب الإباحة قَالَ وصنف كتابا فِي جواز النظر إِلَى المراد أورد فيه حكاية عَنْ يَحْيَى بْن معين قَالَ رأيت جارية بمصر مليحة صَلَّى اللَّهُ عليها فَقِيلَ لَهُ تصلي عليها فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عليها وعلى كل مليح قَالَ شيخنا ابْن ناصر وليس ابْن طاهر بمن يحتج به وجاء أَبُو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الأحياء عَلَى طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطله وَهُوَ لا يعلم بطلانها وتكلم فِي علم المكاشفة وخرج عَنْ قانون الفقه وقال أن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إِبْرَاهِيم صلوات اللَّه عَلَيْهِ أنوار هي حجب اللَّه عز وجل ولم يرد هذه المعروفات وهذا من جنس كلام الباطنية وقال فِي كتابه المفصح بالأحوال إن الصوفية فِي يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إِلَى درجات يضيق عنها نطاق النطق. قَالَ المصنف: وكان السبب فِي تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنني والإسلام والآثار وإقبالهم عَلَى مَا استحسنوه من طريقة القوم وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت فِي النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم فِي الصورة ولا كلاما أرق من كلامهم وفي سير السلف نوع خشونة ثم أن ميل الناس إِلَى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها وَقَدْ كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء. فصل: وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إِلَى أصل وإنما هي واقعات
تلقفها بعضهم عَنْ بعض ودونوها وَقَدْ سموها بالعلم الباطن والحديث بإسناد إِلَى أبي يعقوب اسحق بْن حية قَالَ سمعت أَحْمَد بْن حنبل وَقَدْ سئل عَن الوساوس والخطرات فَقَالَ مَا تكلم فيها الصحابة ولا التابعون. قَالَ المصنف وَقَدْ روينا فِي أول كتابنا هَذَا عَنْ ذي النون نحو هَذَا وروينا عَن أحمد بْن حنبل أنه سمع كلام الحارث المحاسبي فَقَالَ لصاحب لَهُ لا أرى لك أن تجالسهم وعن سَعِيد بْن عمرو البردعي قَالَ شهدت أبا زرعة وسئل عَن الحارث المحاسبي وكتبه فَقَالَ للسائل إياك وهذه الكتب هذه الكتب كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه مَا يغنيك عَنْ هذه الكتب قيل لَهُ فِي هذه الكتب عبرة قَالَ من لم يكن لَهُ فِي كتاب اللَّه عز وجل عبرة فليس لَهُ فِي هذه الكتب عبرة بلغكم أن مالك بْن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمة صنفوا هذه الكتب فِي الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبد الرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق ثم قَالَ مَا أسرع الناس إِلَى البدع. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا أَبُو مُحَمَّد رزق اللَّه بْن عَبْدِ الْوَهَّاب التميمي عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ أول من تكلم فِي بلدته فِي ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري فأنكر عَلَيْهِ ذلك عَبْد اللَّهِ بْن عَبْدِ الحكم وكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة قَالَ السلمي وأخرج أَبُو سُلَيْمَان الداراني من دمشق وقالوا أنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه وشهد قوم عَلَى أَحْمَد بْن أبي الحواري أنه يفضل الأولياء عَلَى الأنبياء فهرب من دمشق إِلَى مكة وأنكر أهل بسطام عَلَى أبي يَزِيد البسطامي مَا كان يَقُول حتى أنه ذكر للحسين بْن عِيسَى أنه يَقُول لي معراج كَمَا كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معراج فأخرجوه من بسطام وأقام بمكة سنتين ثم رجع إِلَى جرجان فأقام بِهَا إِلَى أن مات الْحُسَيْن بْن عِيسَى ثم رجع إِلَى بسطام قَالَ السلمي وحكى رجل عَنْ سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ التستري أنه يَقُول إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عَلَيْهِ العوام حتى نسبوه إِلَى القبائح فخرج إِلَى البصرة فمات بِهَا قال السلمي وتكلم الحارث المحاسبي فِي شيء من الكلام والصفات فهجروه أَحْمَد بْن حنبل فاختفى إِلَى أن مات.
قَالَ المصنف وَقَدْ ذكر أَبُو بَكْر الخلال فِي كتاب السنة عَن أحمد بْن حنبل أنه قَالَ حذروا من الحارث أشد التحذير الحارث أصل البلية يعني فِي حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إِلَى رأى جهم مَا زال مأوى أصحاب الكلام حارث بمنزلة الأسد المرابط أنظر أي يوم يثب على الناس. فصل قال المصنف: وَقَدْ كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل عَلَى الْكِتَاب والسنة قَالَ المصنف وَقَدْ كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل عَلَى الْكِتَاب والسنة وإنما لبس الشَّيْطَان عليهم لقلة علمهم وبإسناد عَنْ جَعْفَر الخلدي يَقُول سَمِعْتُ الجنيد يَقُول قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني قَالَ ربما تقع فِي نفسي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل مِنْهُ إلا بشاهدين عدلين الْكِتَاب والسنة وبإسناد عَنْ طيفور البسطامي يَقُول سَمِعْتُ مُوسَى بْن عِيسَى يَقُول قَالَ لي أبي قَالَ أَبُو يَزِيد لو نظرتم إِلَى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع فِي الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود. وبإسناد عَنْ أبي مُوسَى يَقُول سمعت أبا يَزِيد البسطامي قَالَ من ترك قراءة القرآن والتقشف ولزوم الْجَمَاعَة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مبتدع وبإسناد عَنْ عَبْد الحميد الحبلى يَقُول سمعت سريا يَقُول من ادعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط وعن الجنيد أنه قَالَ مذهبنا هَذَا مقيد بالأصول الْكِتَاب والسنة وقال أيضا علمنا منوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الْكِتَاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به وقال أيضا مَا أخذنا التصوف عَن القيل والقال لكن عَن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات لأن التصوف من صفاء المعاملة مَعَ اللَّه سبحانه وتعالى وأصله التفرق عَن الدنيا كَمَا قَالَ حارثة عرفت نفسي فِي الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وعن أبي بَكْر الشفاف من ضيع حدود الأمر والنهي فِي الظاهر حرم مشاهدة القلب فِي الباطن وقال الْحُسَيْن النوري لبعض أصحابه من رأيته يدعي مَعَ اللَّه عز وجل حالة تخرجه عَنْ حد علم الشرع فلا تقربنه ومن رأيته يدعي حالة لا يدل عليها دليل ولا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه عَلَى دينه وعن الجريري قَالَ أمرنا هَذَا كله مجموع عَلَى فضل واحد هو أن تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم عَلَى ظاهرك قائما وعن أبي جَعْفَر قَالَ من لم يزن أقواله وأفعاله وأحواله بالكتاب والسنة ولم يتهم خاطره فلا تعده فِي ديوان الرجال. فصل قَالَ المصنف وإذ قد ثبت هَذَا من أقوال شيوخهم وقعت من بعض أشياخهم
غلطات لبعدهم عَنْ العلم فان كان ذلك صحيحا عنهم توجه الرد عليهم إذ لا محاباة فِي الحق وإن لم يصح عنهم حذرنا من مثل هَذَا القول وذلك المذهب من أي شخص صدر فأما المشبهون بالقوم وليسوا منهم فأغلاطهم كثيرة ونحن نذكر بعض مَا بلغنا من أغلاط القوم وَاللَّه يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط إلا تنزيه الشريعة والغيرة عليها من الدخل وما علينا من القائل والفاعل وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم وما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه قصدا لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط ولا اعتبار بقول جاهل يَقُول كيف يرد عَلَى فلان الزاهد المتبرك به لأن الانقياد إنما يكون إِلَى مَا جاءت به الشريعة لا إِلَى الأشخاص وَقَدْ يكون الرَّجُل من الأولياء وأهل الْجَنَّة وله غلطات فلا تمنع منزلته بيان زلله. واعلم أن من نظر إِلَى تعظيم شخص ولم ينظر بالدليل إِلَى مَا صدر عنه كان كمن ينظر إِلَى مَا جرى عَلَى يد المسيح صلوات اللَّه عَلَيْهِ من الأمور الخارقة ولم ينظر إليه فادعى فيه الالهية ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام لم يعطه إلا مَا يستحقه وَقَدْ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ السمرقندي بإسناد إِلَى يَحْيَى بْن سَعِيد قَالَ سألت شعبة وسفيان بْن سَعِيد وسفيان بْن عيينة ومالك بْن أنس عَنْ الرَّجُل لا يحفظ أَوْ يتهم فِي الحديث فقالوا جميعا يبين أمره وَقَدْ كان الإمام أَحْمَد بْن حنبل يمدح الرَّجُل ويبالغ ثم يذكر غلطه فِي الشيء بعد الشيء وقال نعم الرَّجُل فلان لولا أن خلة فيه وقال عَنْ سري السقطي الشيخ المعروف بطيب المطعم ثم حكى لَهُ عنه أنه قَالَ إن اللَّه عز وجل لما خلق الحروف سجدت الباء فَقَالَ نفروا الناس عنه. سياق مَا يروى عَن الْجَمَاعَة منهم من سوء الاعتقاد
ذكر تلبيس إبليس في السماع وغيره
ذكر تلبيس إبليس فِي السماع وغيره عن أبي عَبْد اللَّهِ الرملي قَالَ تكلم أَبُو حمزة فِي جامع طرسوس فقبلوه فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب عَلَى سطح الجامع فزعق أَبُو حمزة وقال لبيك لبيك فنسبوه إِلَى الزندقة وقالوا حلولي زنديق وبيع فرسه بالمناداة عَلَى باب الجامع هَذَا فرس الزنديق وبإسناد إِلَى أبي بَكْر الفرغاني أنه قَالَ كان أَبُو حمزة إذا سمع شيئا يَقُول لبيك لبيك فأطلقوا عَلَيْهِ أنه حلولي ثم قَالَ أَبُو علي وإنما جعله داعيا من الحق أيقظه للذكر وعن أبي علي الروزباري قَالَ أطلق عَلَى أبي حمزة أنه حلولي وذلك أنه كان إذا سمع صوتا مثل هبوب الرياح وخرير الماء وصياح الطيور كان يصيح ويقول لبيك لبيك فرموه بالحلول قال السراج وبلغني عَنْ أبي حمزة أنه دخل دار الحارث
المحاسبي فصاحت الشاه ماع فشهق أَبُو حمزة شهقة وقال لبيك يا سيدي فغضب الحارث المحاسبي وعمد إِلَى سكين وقال إن لم تتب من هَذَا الذي أنت فيه أذبحك قَالَ أَبُو حمزة إذا أنت لم تحسن تسمع هَذَا الذي أنا فيه فلم تأكل النخالة بالرماد. وقال السراج وأنكر جماعة من العلماء عَلَى أبي سَعِيد أَحْمَد بْن عِيسَى الخراط ونسبوه إِلَى الكفر بألفاظ وجدوها فِي كتاب صنفه وَهُوَ كتاب السر ومنه قوله عَبْد طائع مَا أذن لَهُ فلزم التعظيم لله فقدس اللَّه نفسه قَالَ وأبو العباس أَحْمَد بْن عطاء نسب إِلَى الكفر والزندقة قَالَ وكم من مرة قد أخذ الجنيد مَعَ علمه وشهد عَلَيْهِ بالكفر والزندقة وكذلك أكثرهم وقال السراج ذكر عَنْ أبي بكرة مُحَمَّد بْن مُوسَى الفرغاني الواسطي أنه قَالَ من ذكر افترى ومن صبر اجتري وإياك أن تلاحظ حبيبا أَوْ كليما أَوْ خليلا وأنت تجد إِلَى ملاحظة الحق سبيلا فَقِيلَ لَهُ أولا أصلي عليهم قَالَ صَلَّى عليهم بلا وقار ولا تجعل لها فِي قلبك مقدار قال السراج وبلغني أن جماعة من الحلوليين زعموا أن الحق عز وجل اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية وأزال عنها معاني البشربة ومنهم من قَالَ بالنظر إِلَى الشواهد المستحسنات ومنهم من قَالَ حال فِي المستحسنات قَالَ وبلغني عَنْ جماعة من أهل الشام أنهم يدعون الرؤية بالقلوب فِي الدنيا كالرؤية بالعيان فِي الآخرة قَالَ السراج وبلغني أن أبا الْحُسَيْن النوري شهد عَلَيْهِ غلام الخليل أنه سمعه يَقُول أنا أعشق اللَّه عز وجل وَهُوَ يعشقني فَقَالَ النوري سَمِعْتُ اللَّه يقول: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وليس العشق بأكثر من المحبة قَالَ القاضي أَبُو يَعْلَى وَقَدْ ذهبت الحلولية إلا أن اللَّه عز وجل يعشق. قَالَ المصنف: وهذا جهل من ثَلاثَة أوجه أحدهما من حيث الاسم فَإِن العشق عند أهل اللغة لا يكون إلا لما ينكح والثاني أن صفات اللَّه عز وجل منقولة فهو يحب ولا يقال يعشق ويحب ولا يقال يعشق كَمَا يقال يعلم ولا يقال يعرف والثالث من أين لَهُ أن اللَّه تعالى يحبه فهذه دعوى بلا دليل وَقَدْ قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قَالَ إني فِي الْجَنَّة فهو فِي النار" وعن أبي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي حكى عَنْ عمرو المكي أنه قَالَ كنت أماشي الْحُسَيْن بْن منصور فِي بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فَقَالَ يمكنني أن أقول مثل هَذَا ففارقته وعن مُحَمَّد بْن يَحْيَى الرازي قَالَ سَمِعْتُ عمرو بْن عثمان يلعن الحلاج ويقول لو قدرت عَلَيْهِ لقتلته بيدي فقلت بأي شيء وجد عَلَيْهِ الشيخ فَقَالَ قرأت آية من كتاب اللَّه عز وجل فَقَالَ يمكنني أن أقول أَوْ أؤلف مثله وأتكلم به وبإسناد عَنْ أبي القاسم الرازي يَقُول قَالَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ ممشاد قَالَ حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها لا بالليل ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه من الرَّحْمَن الرحيم إِلَى فلان بْن فلان فوجه إِلَى بغداد فأحضر وعرض عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا خطي وأنا كتبته فقالوا كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية فَقَالَ مَا ادعي الربوبية ولكن هَذَا عين الجمع عندنا هل الكاتب إِلَى اللَّه تعالى واليد فيه آلة فَقِيلَ لَهُ هل معك أحد فَقَالَ نعم ابْن عطاء وأبو مُحَمَّد الجريري وأبو بَكْر الشبلي وأبو مُحَمَّد الجريري يتستر والشبلي يتستر فإن كان فابن عطاء فأحضر الجريري وسئل فقال قائل هذا كافر يقتل من يَقُول هَذَا وسئل الشبلي فَقَالَ من يَقُول هَذَا يمنع وسئل ابْن عطاء عَنْ مقالة الحلاج فَقَالَ بمقالته وكان سبب قتله وبإسناد عَنِ ابْن باكويه قَالَ اسمعت عيسى بن بردل القزويني وَقَدْ سئل أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف عَنْ معنى هذه الأبيات: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا فِي خلقه ظاهرا ... فِي صورة الآكل والشارب حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب فقال الشيخ عَلَى قائله لعنة اللَّه قَالَ عِيسَى بْن فورك هَذَا شعر الْحُسَيْن ابْن منصور قَالَ إن كان هَذَا اعتقاده فهو كافر إلا أنه ربما يكون متقولا عَلَيْهِ وبإسناد عَنْ عَلِيّ بْن المحسن القاضي عَنْ أبي القاسم إسماعيل بْن مُحَمَّد بْن زنجي عَنْ أبيه أن ابنة السمري أدخلت عَلَى حامد الوزير فسألها عَنِ الحلاج فقالت حملني أبي إليه فَقَالَ قد زوجتك من ابني سُلَيْمَان وَهُوَ مقيم بنيسابور فمتى جرى شيء تنكرينه من جهته فصومي يومك واصعدي فِي آخر النهار إِلَى السطح وقومي عَلَى الرماد واجعلي فطرك عَلَيْهِ وعلى ملح جريش واستقبليني بوجهك واذكري لي مَا أنكرتيه مِنْهُ فاني أسمع وأرى قالت وكنت ليلة نائمة فِي السطح فأحسست به قد غشيني فانتبهت مذعورة لما كان مِنْهُ فَقَالَ إنما جئتك لأوقظك للصلاة فلما نزلنا قالت ابنته اسجدي لَهُ فقلت أَوْ يسجد أحد لغير اللَّه فسمع كلامي فَقَالَ نعم إله فِي السماء وإله فِي الأَرْض. قَالَ المصنف: اتفق علماء العصر عَلَى إباحة دم الحلاج فأول من قَالَ إِنَّهُ حلال الدم أَبُو عمرو القاضي ووافقه العلماء وإنما سكت عنه أَبُو العباس سريج قَالَ وقال لا أدري مَا يَقُول والإجماع دليل معصوم من الخطأ وبإسناد عَنْ أبي هريرة قَالَ قَالَ رَسُولُ اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اللَّه أجاركم أن تجتمعوا عَلَى ضلالة كلكم" وبإسناد عَنْ أبي القاسم يوسف بْن يعقوب النعماني قَالَ
سمعت والدي يَقُول سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن داود الفقيه الأصبهاني يَقُول إن كان مَا أنزل اللَّه عز وجل عَلَى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقا فما يَقُول الحلاج باطل وكان شديدا عَلَيْهِ. قَالَ المصنف: وَقَدْ تعصب للحلاج جماعة من الصوفية جهلا منهم وقلة مبالاة بإجماع الفقهاء وبإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن النيسابوري قَالَ سَمِعْتُ ابراهيم بن محمد النصر ابادي كان يَقُول إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج قلت وعلى هَذَا أكثر قصاص زماننا وصوفية وقتنا جهلا من الكل بالشرع وبعدا عَنْ معرفة النقل وَقَدْ جمعت فِي أخبار الحلاج كتابا بينت فيه حيله ومخاريقه وما قَالَ العلماء فيه وَاللَّه المعين عَلَى قمع الجهال. وبإسناد عَنْ أبي نعيم الْحَافِظ قَالَ سمعت عُمَر البنا البغدادي بمكة يحكي أنه لما كانت محنة غلام الخليل ونسبة الصوفية إِلَى الزندقة أمر الخليفة بالقبض عليهم فأخذ النوري فِي جماعة فأدخلوا عَلَى الخليفة فأمر بضرب أعناقهم فتقدم النوري مبتدرا إِلَى السياف ليضرب عنقه فَقَالَ لَهُ السياف مَا دعاك إِلَى البدار قَالَ آثرت حياة أصحابي عَلَى حياتي هذه اللحظة فتوقف السياف فرفع الأمر إِلَى الخليفة فرد أمرهم إِلَى قاضي القضاة إسماعيل بْن إسحاق فأمر بتخليتهم وبإسناد إِلَى أبي العباس أَحْمَد بْن عطاء قَالَ كان يسعى بالصوفيه ببغداد غلام الخليل إِلَى الخليفة فَقَالَ ههنا قوم زنادقة فأخذ أَبُو الْحُسَيْن النوري وأبو حمزة الصوفية وأبو بَكْر الدقاق وجماعة من أقران هؤلاء واستتر الجنيد بْن مُحَمَّد بالفقه عَلَى مذهب أبي ثور فأدخلوا إِلَى الخليفة فأمر بضرب أعناقهم فأول من بدر أَبُو الْحُسَيْن النوري فَقَالَ لَهُ السياف لم بادرت أنت من بين أصحابك ولم ترع قَالَ أحببت أن أوثر أصحابي بالحياة مقدار هذه الساعة فرد الخليفة أمرهم إِلَى القاضي فأطلقوا. قَالَ المصنف: ومن أسباب هذه القصة قول النوري أنا أعشق اللَّه وَاللَّه يعشقني فشهد عَلَيْهِ بهذا ثم تقدم النوري إِلَى السياف ليقتل إعانة عَلَى نفسه فهو خطأ أيضا وبإسناد عَنْ ابنباكويه قَالَ سمعت أبا عمرو تلميذ الرقي قَالَ سمعت الرقي يَقُول كان لنا بيت ضيافة فجاءنا فقير عَلَيْهِ خرقتان يكنى بأبي سُلَيْمَان فَقَالَ الضيافة فقلت لابني امض به إِلَى البيت فأقام عندنا تسعة أيام فأكل فِي كل ثَلاثَة أيام أكلة فسمته المقام فَقَالَ الضيافة ثَلاثَة أيام فقلت لَهُ لا تقطع عنا أخبارك فغاب عنا اثنتي عشرة سنة ثم قدم فقلت من أين فَقَالَ رأيت شيخا يقال لَهُ أَبُو شعيب المقفع مبتلي فأقمت عنده أخدمه سنة فوقع فِي نفسي أن أسأله أي شيء كان أصل بلائه
فلما دنوت مِنْهُ ابتدأني قبل أن أسأله فَقَالَ وما سؤالك عما لا يعنيك فصبرت حتى تم لي ثلاث سنين فَقَالَ فِي الثالثة لا بد لك فقلت لَهُ إن رأيت فَقَالَ بينما أنا أصلي بالليل إذ لاح لي من المحراب نور فقلت أخسأ يا ملعون فَإِن ربي عز وجل غني عَنْ أن يبرز للخلق ثلاث مرات قَالَ ثم سمعت نداء من المحراب يا أبا شعيب فقلت لبيك فَقَالَ تحب أن أقبضك فِي وقتك أَوْ نجازيك عَلَى مَا مضى لك أَوْ نبتليك ببلاء نرفعك به فِي عليين فاخترت البلاء فسقطت عيناي ويداي ورجلاي قَالَ فمكثت أخدمه تمام اثنتي عشرة سنة فَقَالَ يوما من الأيام ادن مني فدنوت مِنْهُ فسمعت أعضاءه يخاطب بعضها بعضا أبرز حتى برزت أعضاؤه كلها بين يديه وَهُوَ يسبح ويقدس ثم مات. قَالَ المصنف وهذه الحكاية توهم أن الرَّجُل رأى اللَّه عز وجل فلما أنكر عوقب وَقَدْ ذكرنا أن قوما يقولون أن اللَّه عز وجل يرى فِي الدنيا وَقَدْ حكى أَبُو القاسم عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ البلخي فِي كتاب المقالات قَالَ قد حكى قوم من المشبهة أنهم يجيزون رؤية اللَّه تعالى بالأبصار فِي الدنيا وأنهم لا ينكرون أن يكون بعض من تلقاهم فِي السكك وإن قوما يجيزون مَعَ ذلك مصافحته وملازمته وملامسته ويدعون أنهم يزورونه ويزورهم وهم يسمون بالعراق أصحاب الباطن وأصحاب الوساوس وأصحاب الخطرات قال المصنف وهذا فوق القبيح نعوذ بالله من الخذلان.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الطهارة
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي الطهارة قال المصنف: قد ذكرنا تلبيسه عَلَى العباد فِي الطهارة إلا أنه قد زاد فِي حق الصوفية عَلَى الحد فقوي وساوسهم فِي استعمال الماء الكثير حتى بلغني أن ابْن عقيل دخل رباطا فتوضأ فضحكوا لقلة استعماله الماء وما علموا أن من أشبع الوضوء برطل من الماء كفاه وبلغنا عَنْ أبي حامد الشيرازي أنه قَالَ لفقير من أين تتوضأ فَقَالَ من النهر بي وسوسة فِي الطهارة قَالَ كان عهدي بالصوفية يسخرون من الشَّيْطَان والآن يسخر بهم الشَّيْطَان ومنهم من يمشي بالمداس عَلَى البواري وهذا لا بأس به إلا أنه ربما نظر المبتدىء إِلَى من يقتدي به فيظن ذلك شريعة وما كان خيار السلف عَلَى هَذَا والعجب ممن يبالغ فِي الاحتراز إِلَى هَذَا الحد متصفا بتنظيف ظاهره وباطنه محشو بالوسخ والكدر وَاللَّه الموفق.
ذكر تلبيس إبليس عليهم في الصلاة
ذكر تلبيس إبليس عليهم فِي الصلاة قال المصنف: وَقَدْ ذكرنا تلبيسه عَلَى العباد فِي الصلاة وَهُوَ بذلك يلبس عَلَى الصوفية ويزيد وَقَدْ ذكر مُحَمَّد بْن طاهر المقدسي أن من سنتهم التي ينفردون بِهَا وينتسبون إليها صلاة ركعتين بعد لبس المرقعة والتوبة واحتج عَلَيْهِ بحديث تمامة بْن أثال أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره حين أسلم أن يغتسل. قَالَ المصنف: وما أقبح بالجاهل إذا تعاطى مَا ليس من شغله فَإِن ثمامة كان كافرا فاسلم وإذا أسلم الكافر وجب عَلَيْهِ الغسل فِي مذهب جماعة من الفقهاء منهم أَحْمَد بْن حنبل وأما صلاة ركعتين فما أمر بِهَا أحد من العلماء لمن أسلم وليس فِي حديث ثمامة ذكر صلاة فيقاس عليه وهل هذ إلا ابتداع فِي الواقع سموه سنة ثم من أقبح الأشياء قوله أن الصوفية ينفردون بسنن لأنها إن كانت منسوبة إِلَى الشرع فالمسلمون كلهم فيها سواء والفقهاء أعرف بِهَا فما وجه انفراد الصوفية بِهَا وإن كانت بآرائهم فإنما انفردوا بِهَا لأنهم اخترعوها.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في المساكن
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي المساكن قال المصنف: أما بناء الأربطة فان قوما من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم عَلَى الخطأ من ستة أوجه أحدها أنهم ابتدعوا هَذَا البناء وإنما بنيان أهل الإسلام المساجد والثاني أنهم جعلوا للمساجد نظيرا يقلل جمعها والثالث أنهم أفاتوا أنفسهم نقل الخطأ إِلَى المساجد والرابع أنهم تشبهوا بالنصارى بانفرادهم بالأديرة والخامس أنهم تعذبوا وهم شباب وأكثرهم محتاج إِلَى النكاح والسادس أنهم جعلوا لأنفسهم علما ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتبرك بهم وإن كان قصدهم غير صَحِيح فإنهم قد بنوا دكاكين للكوبة1 ومناخا للبطالة وأعلاما لإظهار الزهد وَقَدْ رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين فِي الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم ولا يتورعون من عطاء ماكس وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة ووقفوا عليها الأموال الخبيثة وَقَدْ لبس عليهم إبليس أن مَا يصل إليكم رزقكم فأسقطوا عَنْ أنفسكم كلفة
الورع فمهمتهم دوران المطبخ والطعام والماء البارد فأين جوع بِشْر وأين ورع سرى وأين جد الجنيد وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي فِي التفكة بالحديث أَوْ زيارة أبناء الدنيا فَإِذَا أفلح أحدهم أدخل رأسه فِي زرمانقته فغلبت عَلَيْهِ السوداء فيقول حَدَّثَنِي قلبي عَنْ ربي ولقد بلغني أن رجلا قرأ القرآن فِي رباط فمنعوه وأن قوما قرأوا الحديث فِي رباط فقالوا لهم ليس هَذَا موضعه وَاللَّه الموفق.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الخروج عن الأموال والتجرد عنها
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي الخروج عَن الأموال والتجرد عنها كان إبليس يلبس عَلَى أوائل الصوفية لصدقهم فِي الزهد فيريهم عيب المال ويخوفهم من شره فيتجردون من الأموال ويجلسون عَلَى بساط الفقر وكانت مقاصدهم صالحة وأفعالهم فِي ذلك خطأ لقلة العلم فأما الآن فقد كفى إبليس هذه المؤنة فان أحدهم إذا كان لَهُ مال أنفقه تبذيرا وضياعا والحديث بإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السليمي قَالَ سَمِعْتُ أبا نصر الطوسي قَالَ سَمِعْتُ جماعة من مشايخ الري يقولون ورث أَبُو عَبْد اللَّهِ المقري من أبيه خمسين ألف دِينَار سوى الضياع والعقار فخرج عَنْ ذلك كله وأنفقه عَلَى الفقراء. وقد روى مثل هَذَا عَنْ جماعة كثيرة وهذا الفعل لا ألوم صاحبه إذا كان يرجع إِلَى كفاية قد أدخرها لنفسه أَوْ إن كانت لَهُ صناعة يستغني بِهَا عَن الناس أَوْ كان المال عَنْ شبهة فتصدق به أما إذا أخرج المال الحلال كله ثم احتاج إِلَى مَا فِي أيدي الناس وأفقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الأخوان أَوْ لصدقاتهمن أَوْ أن يأخذ من أرباب الظلم والشبهات فهذا هو الفعل المذموم المنهي عنه ولست أتعجب من المتزهدين الذين فعلوا هَذَا مَعَ قلة علمهم وإنما العجب من أقوام لهم عقل وعلم وَكَيْفَ حثوا عَلَى هَذَا وأمروا به مَعَ مصادمته للعقل والشرع وَقَدْ ذكر الحارث المحاسبي فِي هَذَا كلاما طويلا وشيده أَبُو حامد الغزالي ونصره والحارث عندي أعذر من أبي حامد لأن أبا حامد كان أفقه غير أن دخوله فِي التصوف أوجب عَلَيْهِ نصرة مَا دخل فيه. فمن كلام الحارث المحاسبي فِي هَذَا أنه قَالَ أيها المفتون متى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد أزريت بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمرسلين وزعمت أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينصح الأمة إذ نهاهم عَنْ جمع المال وَقَدْ علم أن جمعة خير لهم وزعمت أن اللَّه لم ينظر لعباده حين نهاهم عَنْ جمع المال وَقَدْ علم أن جمعة خير لهم وما ينفعك الاحتجاج بمال الصحابة وابن عوف فِي القيامة أن لو لم يؤت من الدنيا إلا قوتا قال ولقد بلغني أنه لما توفي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف قَالَ ناس من
أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنا نخاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ فيما ترك قَالَ كعب سبحان اللَّه وما تخافون عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ كسب طيبا وأنفق طيبا فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا فمر بلحى بعير فأخذه بيده ثم انطلق يطلب كعبا فَقِيلَ لكعب إن أبا ذر طلبك فخرج هاربا حتى دخل عَلَى عثمان يستغيث به وأخبره الخبر فأقبل أَبُو ذر يقتص الأثر فِي طلب كعب حتى انتهى إِلَى دار عثمان فلما دخل قَامَ كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر فَقَالَ لَهُ أَبُو ذر هيه يا ابْن اليهودية تزعم أنه لا بأس بما ترك عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف لقد خرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فَقَالَ: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قَالَ هكذا وهكذا" ثم قَالَ يا أبا ذر وأنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد هَذَا وأنت تقول يا ابْن اليهودية لا بأس بما ترك عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف كذبت وكذب من قَالَ بقولك فلم يرد عَلَيْهِ حرفا حتى خرج. قال الحارث: فهذا عَبْد الرَّحْمَنِ مَعَ فضله يوقف فِي عرصة القيامة بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف فيمنع من السعي إِلَى الْجَنَّة مَعَ فقراء المهاجرين وصار يحبو فِي آثارهم حبوا وَقَدْ كان الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم إذا لم يكن عندهم شيء فرحوا وأنت تدخر المال وتجمعه خوفا من الفقر وذلك من سوء الظن بالله وقلة اليقين بضمانه وكفى به دائما وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها ولذاتها وقد بلغنا إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من أسف عَلَى دنيا فاتته قرب من النار مسيرة سنة وأنت تأسف عَلَى مَا فاتك غير مكترث بقربك من عذاب اللَّه عز وجل ويحك هل تجد فِي دهرك من الحلال كَمَا وجدت الصحابة وأين الحلال فتجمعه ويحك إني لك ناصح أرى لك أنك تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر فقد سئل بعض أهل العلم عَن الرَّجُل يجمع المال لأعمال البر فَقَالَ تركه أبر مِنْهُ وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عَنْ رجلين أحدهما طلب الدنيا حلالا فأصابها فوصل بِهَا رحمه وقدم منها لنفسه والآخر جانبها ولم يطلبها ولم يبذلها فأيهما أفضل فَقَالَ بعيد وَاللَّه مَا بينهما الذي جانبها أفضل كَمَا بين مشارق الأَرْض ومغاربها. قَالَ المصنف: فهذا كله كلام الحارث المحاسبي ذكره أَبُو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة فانه أعطى المال فمنع الزكاة قَالَ أَبُو حامد فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك فِي أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إِلَى الخيرات إذ أقل مَا فيه اشتغالهم بإصلاحه عَنْ ذكر اللَّه عز وجل فينبغي للمريد أن يخرج من ماله حتى لا يبقى لَهُ إلا قدر ضرورته فما بقي لَهُ
درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عَن اللَّه عز وجل قَالَ المصنف وهذا كله بخلاف الشرع والعقل وسوء فهم للمراد بالمال. فصل: في رد هَذَا الكلام أما شرف المال فان اللَّه عز وجل عظم قدره وأمر بحفظه إذ جعله قواما للآدمي الشريف فهو شريف فَقَالَ تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} ونهى عز وجل أن يسلم المال إِلَى غير رشيد فَقَالَ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وقد صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نهى عَنْ إضاعة المال وقال لسعد لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس وقال مَا نفعني مال كمال أبي بَكْر والحديث بإسناد مرفوع عَنْ عمرو بْن العاص قَالَ بعث إلي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلاحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي" فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغْنِمُكَ وَأَرْغَبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ فَقَالَ: "يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" والحديث بإسناد عَنْ أنس بْن مالك أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا لَهُ بكل خير وكان فِي آخر دعائه أن قَالَ: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك لَهُ" وبإسناد عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن كعب بْن مالك أن عُبَيْد اللَّه بْن كعب بْن مالك قَالَ سمعت كعب بْن مالك يحدث حديث توبته قَالَ فقلت يا رَسُول اللَّهِ أن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إِلَى اللَّه عز وجل وإلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قال المصنف: فهذه الأحاديث مخرجة فِي الصحاح وهي عَلَى خلاف مَا تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة وأن حبسه ينافي التوكل ولا ينكر أنه يخاف من فتنة وأن خلقا كثيرا اجتنبوبه لخوف ذلك وأن جمعه من وجهة يعز وسلامة القلب من الافتنان به يبعد واشتغال القلب مَعَ وجوده بذكر الآخرة يندر ولهذا خيف فتنة فأما كسب المال فان من اقتصر عَلَى كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد مِنْهُ وأما من قصد جمعه والاستكثار مِنْهُ من الحلال نظرنا فِي مقصوده فان قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته وادخر لحوادث زمانه وزمانهم وقصد التوسعة عَلَى الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب عَلَى قصده وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات وَقَدْ كان نيات خلق كثير من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم أجمعين فِي جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم لجمعه فحرصوا عَلَيْهِ وسألوا زيادته وبإسناد
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع الزبير حضر1 فرسه بأرض يقال لها ثرثر فأجرى فرسه حتى قَامَ ثم رمى سوطه فَقَالَ أعطوه حيث بلغ السوط وكان سَعْد بْن عبادة يدعو فيقول اللهم وسع علي. قَالَ المصنف وأبلغ من هَذَا أن يعقوب عَلَيْهِ الصلاة والسلام لما قَالَ لَهُ بنوه {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} مال إِلَى هَذَا وأرسل ابنه بنيامين معهم وأن شعيبا طمع فِي زيادة مَا يناله فَقَالَ: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} وأن أيوب عَلَيْهِ السلام لما عوفي نثر عَلَيْهِ رجل2 جراد من ذهب فأخذ يحثو فِي ثوبه يستكثر مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أما شبعت قَالَ يا رب من يشبع من فضلك وهذا أمر مركوز فِي الطباع فَإِذَا قصد به الخير كان خيرا محضا. وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل عَلَى الجهل بالعلم وقوله إن اللَّه عز وجل نهى عباده عَنْ جمع المال وأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أمته عَنْ جمع المال فهذا محال إنما النهي عَنْ سوء القصد بالجمع أَوْ عَنْ جمعه من غير حله وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال من وضع الجهال وخفاء صحته عنه ألحقه بالقوم وَقَدْ روي بعض هَذَا وإن كان طريقه لا يثبت وبإسناد عَنْ مالك بْن عَبْدِ اللَّهِ الزيادي عَنْ أبي ذر أنه جاء يستأذن عَلَى عثمان فأذن لَهُ وبيده عصاه فَقَالَ عثمان يا كعب إن عَبْد الرَّحْمَنِ توفي وترك مالا فما ترى فيه فَقَالَ إن كان يصل فيه حق اللَّه تعالى فلا بأس فرفع أبوذر عصاه فضرب كعبا وقال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: " مَا أُحِبُّ لَوْ أَنَّ لِي هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ وَيُتَقَبَّلُ مِنِّي أَذَرُ خَلْفِي سِتَّ أَوَاقِيَ" أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا عُثْمَانُ أَسَمِعْتَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَ نَعَمْ". قَالَ المصنف وهذا الحديث لا يثبت وابن لهيعة مطعون فيه قَالَ يَحْيَى لا يحتج بحديثه والصحيح فِي التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين وعبد الرَّحْمَن توفي سنة اثنتي وثلاثين فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين ثم لفظ مَا ذكروه من حديثهم يدل عَلَى أن حديثهم موضوع ثم كيف تقول الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم إنا نخاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ أَوْ ليس الإجماع منعقدا عَلَى إباحة جمع المال من حله فما وجه الخوف مَعَ الإباحة أَوْ يأذن الشرع فِي شيء ثم يعاقب عليه
هَذَا قلة فهم وفقه ثم تعلقه بعبد الرَّحْمَن وحده دليل عَلَى أنه لم يسير سير الصحابة فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار فِي كل بهار ثَلاثَة قناطير والبهار الحمل وكان مال الزبير خمسين ألف ألف ومائتي ألف وخلف ابْن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عنه تسعين ألفا وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم عَلَى أحد. وأما قوله: أن عَبْد الرَّحْمَنِ يحبوا حبوا يوم القيامة فهذا دليل عَلَى أنه لا يعرف الحديث أَوْ كان هَذَا مناما وليس هو فِي اليقظة أعوذ بالله من أن يحبو عَبْد الرَّحْمَنِ فِي القيامة أفترى من يسبق إذا حبا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف وَهُوَ من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر المغفور لهم ومن أصحاب الشورى ثم الحديث يرويه عمارة بْن ذاذان وقال البخاري ربما اضطرب حديثه وقال أَحْمَد يروى عَنْ أنس أحاديث مناكير وقال أَبُو حاتم الرازي لا يحتج به وقال الدَّارَقُطْنِيّ ضعيف أَخْبَرَنَا ابْن الحصين مرفوعا إِلَى عمارة عَنْ ثابت عَنْ أنس رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ بينما عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها فِي بيتها سمعت صوت فِي المدينة فقالت مَا هَذَا فقالوا عير لعبد الرَّحْمَن بْن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شيء قال وكانت سبعمائه بعير فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها سَمِعْتُ رَسُولَ الَّلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا" فبلغ ذلك عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف فَقَالَ إن استطعت لأدخلنها قائما فجعلها بأقتابها وأحمالها فِي سبيل اللَّه عز وجل. وقوله: ترك المال الحلال أفضل من جمعه ليس كذلك بل متى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء والحديث الذي ذكره عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أسف عَلَى دنيا فاتته الخ محال مَا قاله رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله هل تجد فِي دهرك حلالا فيقال لَهُ وما الذي أصاب الحلال والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "الحلال بين والحرام بين" أترى يريد بالحلال وجود حبة مذ خرجت من المعدن مَا تقلبت فِي شبهة هَذَا يبعد وما طولبنا به بل لو باع المسلم يهوديا كان الثمن حلالا بلا شك هَذَا مذهب الفقهاء وأعجب لسكوت أبي حامد بل لنصرته مَا حكى وَكَيْفَ يَقُول أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إِلَى الخيرات ولو أدعى الإجماع عَلَى خلاف هَذَا لصح ولكن تصوفه غير فتواه وعن المرزوي قَالَ سَمِعْتُ رجلا يَقُول لأبي عُبَيْد اللَّه إني فِي كفاية فَقَالَ الزم السوق تصل به الرحم وتعود المرضى. وقوله: ينبغي للمريد أن يخرج من ماله قد بينا أنه إن كان حراما أَوْ فيه شبهة أَوْ إن يقنع هو
باليسير أَوْ بالكسب جاز لَهُ أن يخرج مِنْهُ وإلا فلا وجه لذلك وأما ثعلبة فما ضره المال إنما ضره البخل بالواجب. وأما الأنبياء فقد كان لإبراهيم عَلَيْهِ الصلاة والسلام زرع ومال ولشعيب ولغيره وكان سَعِيد بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه ويصل به رحمه فان مات تركه ميراثا لمن بعده وخلف ابْن المسيب أربعمائة دِينَار وَقَدْ ذكرنا مَا خلفت الصحابة وَقَدْ خلف سفيان الثوري رَضِيَ اللَّهُ عنه مائتين وكان يَقُول المال فِي هَذَا الزمان سلاح وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء وإنما تجافاه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات وجمع الهمم فقنعوا باليسير ولو قَالَ هَذَا القائل أن التقلل مِنْهُ أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الاثم. فصل: واعلم أن الفقر مرض فمن ابتلى به وصبر أثيب عَلَى صبره ولهذا يدخل الفقراء الْجَنَّة قبل الاغنياء بخمسمائة عام لمكان صبرهم عَلَى البلاء والمال نعمة والنعمة تحتاج إِلَى شكر والغني وإن تعب وخاطر كالمفتي والمجاهد والفقير كالمعتزل فِي زاوية وَقَدْ ذكر أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي فِي كتاب سنن الصوفية باب كراهية أن يخلف الفقير شيئا فذكر حديث الذي مات من أهل الصفة وخلف دينارين فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كيتان". قال المصنف: وهذا احتجاج من لا يفهم الحال فان ذلك الفقير كان يزاحم الفقراء فِي أخذ الصدقة وحبس مَا معه فلذلك قَالَ كيتان ولو كان المكروه نفس ترك المال لما قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" ولما كان أحد من الصحابة يخلف شيئا وَقَدْ قَالَ عُمَر بْن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عنه حث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصدقة فجئت بنصف مالي فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وما أبقيت لأهلك" فقلت مثله فلم ينكر عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى بطلان مَا يقوله جهلة المتصوفة أن ليس للإنسان ادخار شيء فِي يومه لغده وإن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عَلَيْهِ حق توكله قَالَ ابْن جرير وكذلك قوله عَلَيْهِ الصلاة السلام: "اتخذوا الغنم فإنها بركة" فيه دلالة عَلَى فساد قول من زعم من المتصوفة أنه لا يصح لعبد التوكل عَلَى ربه إلا بأن يصبح ولا شيء عنده من عين ولا عرض ويمسي كذلك ألا ترى كيف ادخر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأزواجه قوت سنة؟.
فصل: وقد خرج أقوام من أموالهم الطيبة ثم عادوا يتعرضون للأوساخ ويطلبون وهذا لأن حاجة الإنسان لا تنقطع والعاقل يعد للمستقبل وهؤلاء مثلهم فِي إخراج المال عند بداية تزهدهم مثل من روي فِي طريق مكة فبدد المال الذي معه والحديث بإسناد عَنْ جابر بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قدم أَبُو حصين السلمي بذهب من معدنهم فقضى دينا كان عَلَيْهِ وفضل معه مثل بيضة الحمامة فأتى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ ضع هذه حيث أراك اللَّه أَوْ حيث رأيت قَالَ فجاءه عَنْ يمينه فأعرض عنه ثم جاءه عَنْ يساره فأعرض عنه ثم جاءه من بين يديه فنكس رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه فلما أكثر عَلَيْهِ أخذها من يديه فحذفه بِهَا لو أصابته لعقرته ثم أقبل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى مَالِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَإِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" وَقَدْ رواه أَبُو داود فِي سننه من حديث محمود بْن لبيد عَنْ جابر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال كنا عند رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة مَا أملك غيرها فأعرض عنه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فَقَالَ مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أتاه من خلفه فآخذها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحذفه بِهَا فلو أصابته لأقصعته أَوْ لعقرته فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة مَا كان عَنْ ظهر غنى" وفي رواية أخرى خذ عنا مالك لا حاجة لنا به وروى أَبُو داود من حديث أبي سَعِيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ دخل رجل المسجد فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر لَهُ منها بثوبين ثم حث عَلَى الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به: "خذ ثوبك". قَالَ المصنف: ونقلت من خط أبي الوفاء بْن عقيل قَالَ قَالَ ابْن شاذان دخل جماعة من الصوفية عَلَى الشبلي فأنفذ إِلَى بعض المياسير يسأله مَا لا ينفقه عليهم فرد الرسول وقال يا أبا بَكْر أنت تعرف الحق فهلا طلبت مِنْهُ فَقَالَ للرسول ارجع إليه وقل لَهُ الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك وأطلب الحق من الحق فبعث إليه بمائة دِينَار قَالَ ابْن عقيل إن كان أنفذ إليه المائة دِينَار للافتداء من هَذَا الكلام القبيح وأمثاله فقد أكف الشبلي الخبيث من الرزق وأطعم أضيافه مِنْهُ. فصل: وقد كان لبعضهم بضاعة فأنفقها وقال مَا أريد أن تكون ثقتي إلا بالله وهذا قلة فهم لأنهم يظنون أن التوكل قطع الأسباب وإخراج الأموال.
أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ أَخْبَرَنَا الخطيب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الْحَافِظ قَالَ أَنْبَأَنَا جَعْفَر الخلدي فِي كتابه قَالَ سمعت الجنيد يَقُول دققت عَلَى أبي يعقوب الزيات بابه فِي جماعة من أصحابنا فَقَالَ مَا كان لكم شغل فِي اللَّه عز وجل يشغلكم عَن المجيء إلي فقلت لَهُ إذا كان مجيئا إليك من شغلنا به فلم ننقطع عنه فسألته عَنْ مسألة فِي التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطى التوكل حقه ثم قَالَ استحييت من اللَّه أن أجيبك وعندي شيء. قَالَ المصنف: لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله عز وجل لا إخراج صور المال مَا قَالَ هؤلاء هَذَا الكلام ولكن قل فهمهم وَقَدْ كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قَالَ مثل هَذَا أحد منهم وَقَدْ روينا عَنْ أبي بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة فمن أين أطعم عيالي وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائله من التوكل وكذلك ينكرون عَلَى من قَالَ هَذَا الطعام يضرني وَقَدْ رووا فِي ذلك حكاية عَنْ أبي طالب الرازي قَالَ حضرت مَعَ أصحابنا فِي موضع فقدموا اللبن وقال لي كل فقلت لا آكله فانه يضرني فلما كان بعد أربعين سنة صليت يوما خلف المقام ودعوت اللَّه عز وجل وقلت اللهم إنك تعلم أني مَا أشركت بك طرفة عين فسمعت هاتفا يهتف بي ويقول ولا يوم اللبن. قَالَ المصنف: وهذه الحكاية اللَّه أعلم بصحتها واعلم أن من يَقُول هَذَا يضرني لا يريد أن يفعل ذلك الضرر بنفسه وإنما يريد أنه سبب الضرر كَمَا قَالَ الخليل صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} وقد صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا نفعني مال كمال أبي بَكْر" وقوله مَا نفعي مقابل لقول القائل مَا ضرني ويصح عنه أنه قَالَ: "مَا زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أَوْ أن قطعت أبهري1" وقد ثبت أنه لا رتبة أولى من رتبة النبوة وَقَدْ نسب النفع إِلَى المال والضرر إِلَى الطعام فالتحاشي عَنْ سلوك طريقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعاط عَلَى الشريعة فلا يلتفت إِلَى هذيان من هذى فِي مثل هذا. فصل: قَالَ المصنف: وَقَدْ بينا أنه كان أوائل الصوفية يخرجون من أموالهم زهدا فيها وذكرنا أنهم قصدوا بذلك الخير إلا أنهم غلطوا فِي هَذَا الفعل كَمَا ذكرناه من مخالفتهم بذلك
الشرع والعقل فأما متأخروهم فقد مالوا إِلَى الدنيا وجمع المال من أي وجه كان إيثارا للراحة وحبا للشهوات فمنهم من يقدر عَلَى الكسب ولا يعمل ويجلس فِي الرباط أَوِ المسجد ويعتمد عَلَى صدقات الناس وقلبه معلق بطرق الباب ومعلوم أن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة1 سوى ولا يبالون من بعث إليهم فربما بعث الظالم والماكس فلم يردوه وَقَدْ وضعوا فِي ذلك بينهم كلمات منها تسمية ذلك بالفتوح ومنها أن رزقنا لا بد أن يصل إلينا ومنها أنه من اللَّه فلا يرد عَلَيْهِ ولا نشكر سواه وهذا كله خلاف الشريعة وجهل بِهَا وعكس مَا كان السلف الصالح عَلَيْهِ فإن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عنه من أكل الشبهة وكان الصالحون لا يقبلون عطاء ظالم ولا ممن فِي ماله شبهة وكثير من السلف لم يقبل صلة الإخوان عفافا وتنزها وعن أبي بَكْر المرزوي قَالَ ذكرت لأبي عَبْد اللَّهِ رجلا من المحدثين فَقَالَ رحمه اللَّه أي رجل كان لولا خلة واحدة ثم سكت ثم قَالَ ليس كل الخلال يكملها الرَّجُل فقلت لَهُ أليس كان صاحب سنة فَقَالَ لعمري لقد كتبت عنه وله خلة واحدة كان لا يبالي ممن أخذ. قَالَ المصنف: ولقد بلغنا أن بعض الصوفية دخل عَلَى بعض الأمراء الظلمة فوعظه فأعطاه شيئا فقبله فَقَالَ الأمير كلنا صيادون وإنما الشباك تختلف ثم أين هؤلاء من الأنفة من الميل للدنيا فان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اليد العليا خير من اليد السفلى" واليد العليا هي المعطية هكذا فسره العلماء وَهُوَ الحقيقة وَقَدْ تأوله بعض القوم فَقَالَ العليا هي الآخذة قَالَ ابْن قتيبة ولا أرى هَذَا إلا تأويل قوم استطابوا السؤال. فصل: قال المصنف: ولقد كان أوائل الصوفية ينظرون فِي حصول الأموال من أي وجه ويفتشون عَنْ مطاعمهم وسئل أحمد بْن حنبل عَنْ السرى السقطى فَقَالَ الشيخ المعروف بطيب المطعم وقال السري صحبت جماعة إِلَى الغزو فاكترينا دارا فنصبت فيها تنورا فتورعوا أن يأكلوا من خبز ذلك التنور فأما من يرى مَا قد تجدد من صوفية زماننا من كونهم لا يبالون من أين أخذوا فإنه يعجب ولقد دخلت بعض الأربطة فسألت عَنْ شيخه فَقِيلَ لي قد مضى إِلَى الأمير فلان
يهنئه بخلعه قد خلعت عَلَيْهِ وكان ذلك الأمير من كبار الظلمة فقلت ويحكم مَا كفاكم أن فتحتم الدكن حتى تطوفون عَلَى رءوسكم بالسلع يقعد أحدكم عَنْ الكسب مَعَ قدرته عَلَيْهِ معولا عَلَى الصدقات والصلات ثم لا يكفيه حتى يأخذ فمن كان ثم لا يكفيه حتى يدور عَلَى الظلمة فيستعطي منهم ويهنئهم بملبوس لا يحل وولاية لا عدل فيها وَاللَّه إنكم أضر عَلَى الإسلام من كل مضر. فصل: قال المصنف وَقَدْ صار جماعة من أشياخهم يجمعون المال من الشبهات ثم ينقسمون فمنهم من يدعي الزهد مَعَ كثرة المال وحرصه عَلَى الجمع وهذه الدعوى مضادة للحال ومنهم من يظهر الفقر مَعَ جمعه المال وأكثر هؤلاء يضيقون عَلَى الفقراء بأخذهم الزكاة ولا يجوز لهم ذلك وَقَدْ كان أَبُو الْحَسَنِ البسطامي شيخ رباط بْن المجيان1 يلبس الصوف صيفا وشتاء وتقصده الناس يتبركون به فمات فخلف أربعة آلاف دِينَار. قَالَ المصنف: وهذا فوق القبيح وَقَدْ صح عَنْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رجلا من أهل الصفة مات فخلف دينارين فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كيتان".
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في لباسهم
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي لباسهم. قال المصنف: لما سمع أوائل القوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرقع ثوبه وأنه قَالَ لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها لا تخلعي ثوبا حتى ترقعيه وأن عُمَر بْن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عنه كان فِي ثوبه رقاع وأن أويسا القرني كان يلتقط الرقاع من المزابل فيغسلها فِي الفرات ثم يخيطها فيلبسها اختاروا المرقعات وَقَدْ أبعدوا فِي القياس فإن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يؤثرون البذاذة ويعرضون عَن الدنيا زاهدا وكان أكثرهم يفعل هَذَا لأجل الفقر كَمَا روينا عَنْ مسلمة بْن عَبْدِ الملك إنه دخل عَلَى عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز وعليه قميص وسخ فَقَالَ لامرأته فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين فقالت وَاللَّه ماله قميص غيره فأما إذا لم يكن هَذَا لفقر وقصد البذاذة فلما لَهُ من معنى. فصل: قَالَ المصنف: فأما صوفية زماننا فإنهم يعمدون إِلَى ثوبين أَوْ ثَلاثَة كل واحد منها عَلَى لون فيجعلوها خرقا ويلفقونها فيجمع ذلك الثوب وصفين الشهرة والشهوة فإن لبس مثل
هذه المرقعات أشهى عند خلق كثير من الديباج وبها يشتهر صاحبها أنه من الزهاد افتراهم يصيرون بصورة الرقاع كالسلف كذا قد ظنوا وإن إبليس قد لبس عليهم وقال أنتم صوفية لأن الصوفية كانوا يلبسون المرقعات وأنتم كذلك أتراهم مَا علموا أن التصوف معنى لا صورة وهؤلاء قد فاتهم التشبيه فِي الصورة والمعنى أما الصورة فإن القدماء كانوا يرقعون ضرورة ولا يقصدون التحسن بالمرقع ولا يأخذون أثوابا جددا مختلفة الألوان فيقطعون من كل ثوب قطعة ويلفقونها عَلَى أحسن التوقيع ويخيطونها ويسمونها مرقعة وأما عُمَر رَضِيَ اللَّهُ لما قدم بيت المقدس حين سأل القسيسون والرهبان عَنْ أمير المسلمين فعرضوا عليهم أمراء العساكر مثل أبي عبيدة وخالد بْن الوليد وغيرهما فقالوا ليس هَذَا المصور عندنا ألكم أمير أولا فقالوا لنا أمير غير هؤلاء فقالوا هو أمير هؤلاء قالوا نعم هو عُمَر بْن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عنه فقالوا أرسلوا إليه ننظره فإن كان هو سلمنا إليكم من غير قتال وإن لم يكن هو فلا فلو حاصرتمونا مَا تقدرون علينا فأرسل المسلمين إِلَى عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه وأعلموه بذلك فقدم عليهم وعليه ثوب مرقع سبع عشرة رقعة بينها رقعة من أديم فلما رأوه الروحانية والقسوس عَلَى هذه الصفة سلموا بيت المقدس إليه من غير قتال فأين هَذَا مما يفعله جهال الصوفية فِي زماننا فنسأل اللَّه العفو والعافية وأما المعنى فإن أولئك كانوا أصحاب رياضة وزهد. فصل: قال المصنف: ومن هؤلاء المذمومين من يلبس الصوف تحت الثياب ويلوح بكمه حتى يرى لباسه وهذا لص ليلي ومنهم من يلبس الثياب اللينة عَلَى جسده ثم يلبس الصوف فوقها وهذا لص نهاري مكشوف وجاء آخرون فأرادوا التشبه بالصوفية وصعب عليهم البذاذة وأحبوا التنعم ولم يروا الخروج من صورة التصوف لئلا يتعطل المعاش فلبسوا الفوط الرفيعة واعتموا بالرومي الرفيع إلا أنه بغير طراز فالقميص والعمامة عَلَى أحدهم بثمن خمسة أثواب من الحرير. وقد لبس إبليس عليهم أنكم صوفية بنفيس النفس وإنما أرادوا أن يجمعوا بين رسوم التصوف وتنعم أهل الدنيا ومن علاماتهم مصادفة الأمراء ومفارقة الفقراء كبرا وتعظيما وَقَدْ كان عِيسَى بْن مريم صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ يَقُول يا بني إسرائيل مَا لكم تأتونني وعليكم ثياب الرهبان ولوبكم قلوب الذئاب الضواري البسوا لباس الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية. وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم قَالَ أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَدَ الحداد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم
الْحَافِظ ثنا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن معبد ثنا يَحْيَى بْن مطرف ثنا أَبُو ظفر ثنا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ مالك دِينَار قَالَ إن من الناس ناسا إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم فكونوا من قراء الرَّحْمَن بارك اللَّه فيكم. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد نا حمد نا أَبُو نعيم ثنا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن العباس الفقيه ثنا أحمد بْن مُحَمَّد اللالي ثنا أَبُو حاتم ثنا هدبة ثنا حزم قَالَ سمعت مالك بْن دِينَار يَقُول إنكم فِي زمان أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير إنكم فِي زمان كثير تفاحشهم قد انتفخت ألسنتهم فِي أفواههم فطلبوا الدنيا بعمل الآخرة فاحذروهم عَلَى أنفسكم لا يوقعكم فِي شباكهم. أَخْبَرَنَا المحمدان بْن ناصر وابن عَبْد الباقي قالا أَخْبَرَنَا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ ثنا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن حَمْدَان ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثنى مهنى الشامي ثنا ضمرة عَنْ سَعِيد بْن شبل قَالَ نظر مالك بْن دِينَار إِلَى شاب ملازم للمسجد فجلس إليه فَقَالَ لَهُ هل لك أن أكلم بعض العشارين يجرون عليك شيئا وتكون معهم قَالَ مَا شئت يا أبا يَحْيَى قَالَ فأخذ كفا من تراب فجعله عَلَى رأسه. أَخْبَرَنَا المحمدان قالا نا حمد نا أَحْمَد ثنا قارون بْن عَبْدِ الكبير الخطابي ثنا هشام بْن عَلِيٍّ السيرافي ثنا قطن بْن حماد بْن واقد ثنا أبي ثنا مالك بْن دِينَار قال كان فتى يتفرى فكان يأتيني فابتلي فولى الجسر فبينما هو يصلي إذ مرت سفينة فيها بط فنادى بعض أعوانه قرب لنأخذ لعامل بطة فأشار بيده سبحان اللَّه أي بطتين قَالَ فكان أبي إذا حدث بهذا الحديث بكى وأضحك الجلساء. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب نا أَبُو سَعِيد بْن أبي صَادِق أنا ابْنُ باكويه قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن خفيف يَقُول قلت لرويم أوصني فَقَالَ هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية أخبرنا بْن ناصر نا أَبُو عَبْد اللَّهِ الحميدي نا أَبُو بَكْر أحمد بْن مُحَمَّد الأردستاني ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت أبي يَقُول بلغني أن رجلا قَالَ للشبلي قد ورد جماعة من أصحابك وهم فِي الجامع فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط فأنشأ يَقُول: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت واعلم أن هذه البهرجة فِي تشبيه هؤلاء بأولئك لا تخفي إلا عَلَى
كل غبي فِي الغاية فأما أهل الفطنة فيعلمون أنه تنميس بارد والأمر فِي ذلك عَلَى نحو قول الشاعر: تشبهت حور الظباء بهم ... إن سكنت فيك ولا مثل سكن أصامت بناطق ونافر ... بآنس وذو خلا بذي شجن مشتبه أعرفه وإنما ... مغالطا قلت لصحبي دار من فصل: قال المصنف: لبس الفوط المرقعات قَالَ المصنف وإنما أكراه لبس الفوط المرقعات لأربعة أوجه أحدها انه ليس من لباس السلف وإنما كان السلف يرقعون ضرورة والثاني أنه يتضمن ادعاء الفقر وَقَدْ أمر الإنسان أن يظهر نعمة اللَّه عَلَيْهِ والثالث انه إظهار للزهد وَقَدْ أمرنا بستره والرابع انه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عَن الشريعة ومن تشبه بقوم فهو منهم. وقد أَخْبَرَنَا ابْن الْحُسَيْن نا بن الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثنى أبي ثنا أبو النصر ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن ثابت بْن ثوبان ثنا حسان بْن عطية عن أبي منيب الحرسي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ منهم" وقد أنبأ نا أَبُو زرعة طاهر بْن مُحَمَّد بْن طاهر قَالَ أخبرني أبي قَالَ لما دخلت بغداد فِي رحلتي الثانية قصدت الشيخ أبا مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ السكري لأقرأ عَلَيْهِ أحاديث وكان من المنكرين عَلَى هذه الطائفة فأخذت فِي القراءة فَقَالَ أيها الشيخ أنك لو كنت من هؤلاء الجهال الصوفية لعذرتك أنت رجل من أهل العلم تشتغل بحديث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتسعى فِي طلبه فقلت أيها الشيخ وأي شيخ أنكرت علي حتى أنظر فان كان لَهُ أصل فِي الشريعة لزمته وان لم يكن لَهُ أصل فِي الشريعة تركته فَقَالَ مَا هذه الشوازك1 التي فِي مرقعتك فقلت أيها الشيخ هذه أسماء بنت أبي بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تخبر أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لَهُ جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج وإنما وقع الإنكار لأن هذه الشوازك ليست من جنس الثوب والديباج ليس من الجبة فاستدللنا بذلك عَلَى أن لهذا أصلا فِي الشرع يجوز مثله. قَالَ المصنف: قلت لقد أصاب السكري فِي إنكاره وقل فقه ابْن طاهر فِي الرد عَلَيْهِ فَإِن الجبة المكفوفة الجيب والكمين قد جرت العادة بلبسها كذلك فلا شهرة فِي لبسها فأما الشوازك
فتجمع شهرة الصورة وشهرة دعوى الزهد وَقَدْ أخبرتك أنهم يقطعون الثياب الصحاح ليجعلوها اشوازك لا عَنْ ضرورة يقصدون الشهرة لحسن ذلك والشهرة بالزهد ولهذا وقعت الكراهية وَقَدْ كرهها جماعة من مشايخهم كَمَا بينا. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب العامري نا أَبُو سَعْد بْن أبي صَادِق ثنا أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن باكويه قَالَ سمعت الْحُسَيْن بْن أحمد الْفَارِسِيّ يَقُول سمعت الْحُسَيْن ابْن هند يَقُول سمعت جَعْفَر الحذاء يَقُول لما فقد القوم الفوائد من القلوب اشتغلوا بالظواهر وتزيينها يعني بذلك أصحاب المصبغات والفوط أَخْبَرَنَا ابْن حبيب نا ابن صادق ثنا بن باكويه أَخْبَرَنَا أَبُو يعقوب الخراط قَالَ سمعت الثوري يَقُول كانت المرقعات غطاء عَلَى الدر فصارت جيفا عَلَى مزابل قَالَ ابْن باكويه وأخبرني أَبُو الْحَسَنِ الحنظلي قَالَ نظر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد ابْن علي الكتاني إِلَى أصحاب المرقعات فَقَالَ إخواني إن كان لباسكم موافقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وان كانت مخالفة لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خلف ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن السلمي قَالَ سمعت نصر بْن أبي نصر يَقُول قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ الخالق الدينوري لبعض أصحابه لا يعجبنك مَا ترى من هذه اللبسة الظاهرة عليهم فما زينوا الظواهر إلا بعد أن خربوا البواطن وقال ابْن عقيل دخلت يوما الحمام فرأيت عَلَى بعض أوتاد السلخ جبة مشوزكة مرقعة بفوط فقلت للحمامي أرى سلخ الحية فمن داخل فذكر لي بعض من يتصفف للبلاء حوشا للأموال. فصل: قال المصنف: وفي الصوفية من يرقع المرقعة حتى تصير كثيفة خارجة عَن الحد أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا القاضي أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن رامين الأسد آبادى نا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد الشيرازي نا جَعْفَر الخالدي ثنا بن خباب أَبُو الْحُسَيْن صاحب ابْن الكريني قَالَ أوصى لي ابْن الكريني بمرقعته فوزنت فردة كم من أكمامها فَإِذَا فيه أحد عشر رطلا قَالَ جَعْفَر وكانت المرقعات تسمى فِي ذلك الوقت الكيل1. فصل: وقد قرروا أن هذه المرقعة لا تلبس إلا من يد شيخ وجعلوا لها إسنادا متصلا كله كذب ومحال وَقَدْ ذكر مُحَمَّد بْن طاهر فِي كتابه فَقَالَ باب السنة فِي لبس الخرقة من يد الشيخ فجعل
هَذَا من السنة واحتج بحديث أم خالد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بثياب فيها خميصة1 سوداء فَقَالَ من ترون أكسو هذه فسكت القوم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائتوني بأم خالد: قالت فأتى بي فألبسنيها بيده وقال: "أبلى وأخلقي". قَالَ المصنف: وإنما ألبسها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونها صبية وكان أبوها خالد بْن سَعِيد بْن العاص وأمها همينة بنت خلف قد هاجروا إِلَى أرض الحبشة فولدت لهما هناك أم خالد وأسمها أمة ثم قدموا فأكرمها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصغر سنها وكما اتفق فلا يصير هَذَا سنة وما كان من عادة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلباس الناس ولا فعل هَذَا أحد من أصحابه ولا تابعيهم. ثم ليس من السنة عند الصوفية أن يلبس الصغير دون الكبير ولا أن تكون الخرقة سوداء بل مرقعة أَوْ فوطة فهلا جعلوا السنة لبس الخرق السود كَمَا جاء فِي حديث أم خالد وذكر مُحَمَّد بْن طاهر فِي كتابه فَقَالَ باب السنة فيما شرط الشيخ عَلَى المريد فِي لبس المرقعة واحتج بحديث عبادة بايعنا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السمع والطاعة فِي العسر واليسر قَالَ المصنف فانظر إِلَى هَذَا الفقه الدقيق وأين اشتراط الشيخ عَلَى المريد من اشتراط رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواجب الطاعة عَلَى البيعة الإسلامية اللازمة. فصل: وأما لبسهم المصبغات فإنها إن كانت زرقاء فقد فاتهم فضيلة البياض وإن كانت فوطا فهو ثوب شهرة وشهرته أكثر من شهرة الأزرق وإن كانت مرقعة فهي أكثر شهرة وَقَدْ أمر الشرع بالثياب البيض ونهى عَنْ لباس الشهرة فأما أمره بالثياب البيض فأَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَنُ بْن عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثني أبي ثنا عَلِيّ بْن عَاصِم نا عَبْدُ اللَّهِ بْن عثمان بن حثيم عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبِيضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" قال عَبْد اللَّهِ وحدثني أبي ثنا يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سفيان ثني حبيب بْن أبي ثابت عَنْ ميمون بْن أبي شبيب عَنْ سمرة بْن جندب عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْبَسُوا الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا أَظْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" قَالَ التِّرْمِذِيّ هذان حديثان صحيحان وفي الباب عَن ابْن عُمَر قَالَ وهذا الذي يستحبه أهل العلم وقال أَحْمَد بْن حنبل واسحاق أحب الثياب الينا
أن نكفن فيها البياض وَقَدْ ذكر مُحَمَّد بْن طاهر فِي كتابه فَقَالَ باب السنة فِي لبسهم المصبغات واحتج بأن النبي صلوات اللَّه عَلَيْهِ وسلامه لبس حلة حمراء وإنه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. قال: المصنف قلت ولا ينكر أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس هَذَا ولا أن لبسه غير جائز وَقَدْ روى إنه كان يعجبه الحبرة وإنما المسنون الذي يأمر به ويداوم عَلَيْهِ وَقَدْ كانوا يلبسون الأسود والأحمر فأما الفوط والمرقع فإنه لبس شهرة. فصل: وأما النهي عَنْ لباس الشهرة وكراهته فأخبر أَبُو منصور بْن خيرون أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْر الخطيب نا ابْنُ زرقويه ثنا جَعْفَر بْن مُحَمَّد الخلدي ثنا مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ أَبُو جَعْفَر الحضرمي ثنا روح بْن عَبْدِ المؤمن ثنا وكيع بْن محرز الشامي ثنا عثمان بْن جهم عَنْ زِرّ بْن حبيش عَنْ أبي ذر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَضَعَهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الحق بْن عَبْدِ الخالق قَالَ أَنْبَأَنَا الْمُبَارَك بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو الفرج الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ الطناجيري وأنبأنا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ التميمي قالا أَخْبَرَنَا أَبُو حفص بْن شاهين ثنا خثيمة بْن سُلَيْمَان بْن حيدرة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الهيثم ثنا أَحْمَد بْن أبي شعيب الحراني ثنا مجلد بْن يَزِيد عَنْ أبي نعيم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن حرملة عَنْ سَعِيد بْن المسيب عَنْ أبي هريرة وزيد بْن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشُّهْرَتَانِ؟ قَالَ: "رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا وَلَكِنْ سَدَادٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادٌ" أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن ميمون نا عَبْد الْوَهَّاب بْن مُحَمَّد الغندجاني نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدَان مُحَمَّد بْن سَهْل ثنا مُحَمَّد بْن إسماعيل البخاري قَالَ قَالَ مُوسَى بْن حماد بْن سلمة عَنْ ليث عَنْ مهاجر عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَشْهُورًا أَذَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ المصنف وَقَدْ روى لنا مرفوعا قَالَ أَخْبَرَنَا ابْن الحصين نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثنى أبي ثنا حجاج ثنا شريك عَنْ عثمان بْن أبي راشد عَنْ مهاجر الشامي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الْمَذَلَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا الْمُبَارَك بْن عَبْدِ الجبار وعبد القادر بْن مُحَمَّد بْن يوسف قالا أَخْبَرَنَا أَبُو إسحاق البرمكي نا أَبُو بَكْرِ بْنُ نجيب ثنا أَبُو جَعْفَر بْن ذريح ثنا هناد ثنا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ ليث عَنْ مهاجر بْن أبي الْحَسَن عَنِ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ مَنْ لَبِسَ شُهْرَةً مِنَ الثِّيَابِ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ ذِلَّةٍ وعن ليث
عَنْ شهر بْن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ مَنْ ركب مشهورا من الدواب أعرض اللَّه عنه مَا دام عَلَيْهِ وإن كان كريما. قَالَ المصنف وَقَدْ روينا أن ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رأى عَلَى ولده ثوبا قبيحا دونا فَقَالَ لا تلبس هَذَا فَإِن هَذَا ثوب شهرة أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أَحْمَدَ نا إسماعيل بْن مسعدة نا حمزة بْن يوسف نا أَبُو أَحْمَد بْن عدي ثنا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الهيثم الدوري ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ بْن الْحَسَنِ بْن شقيق قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مزاحم ثنا بكير بْن معروف عَنْ مقاتل بْن بريدة عَنْ أبيه بريدة قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ خَيْبَرَ وَكُنْتُ فِيمَنْ صَعَدَ الثُّلْمَةَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى رَأَى مَكَانِي وَأَتَيْتُ وَعَلَيَّ ثَوْبٌ أَحْمَرُ فَمَا عَلِمْتُ أَنِّي رَكِبْتُ فِي الإِسْلامِ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْهُ لِلشُّهْرَةِ وقال سفيان الثوري كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجياد التي يشتهر بِهَا ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستبذل وقال معمر عاتبت أيوب عَلَى طول قميصه فَقَالَ إن الشهرة فيما مضى كانت فِي طوله وهي اليوم في تشميره. فصل: قال المصنف: ومن الصوفية من يلبس الصوف ويحتج بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس الصوف وبما روى فِي فضيلة لبس الصوف فأما لبس رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصوف فقد كان يلبسه فِي بعض الأوقات لم يكن لبسه شهرة عند العرب وأما مَا يروى فِي فضل لبسه فمن الموضوعات التي لا يثبت منها شيء ولا يخلو لابس الصوف من أحد أمرين إما أن يكون متعودا لبس الصوف وما يجانسه من غليظ الثياب فلا يكره ذلك لَهُ لأنه لا يشهر به وأما أن يكون مترفا لم يتعوده فلا ينبغي لَهُ لبسه من وجهين أحدهما أنه يحمل بذلك عَلَى نفسه مَا لا تطيق ولا يجوز لَهُ ذلك والثاني أنه يجمع بلبسه بين الشهرة وإظهار الزهد وقد أَخْبَرَنَا حمد بْن منصور الهمداني نا أَبُو علي أَحْمَد بْن سَعْد بْن عَلِيٍّ العجلي نا أَبُو ثابت هجير بْن منصور بْن عَلِيٍّ الصوفي إجازة ثنا أَبُو مُحَمَّد جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن الْحَسَنِ بْن إسماعيل الأبهري ثنا روز به ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل بْن مُحَمَّد الطائي ثنا بَكْر بْن سَهْل الدمياطي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ بْن سُلَيْمَان ثنا داود ثنا عباد بْن العوام عَنْ عباد بْن كثير عَنْ أنس قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَبِسَ الصُّوفَ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكْسُوَهُ ثَوْبًا مِنْ جَرَبٍ حَتَّى تَتَسَاقَطَ عُرُوقُهُ" أنبأنا زاهر بْن طاهر قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو عثمان الصابوني وأبو بَكْر البيهقي قالا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الحاكم ثنا أَبُو إسحاق إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن يَحْيَى ثنا العباس بْن منصور ثنا سَهْل بْن عمار ثنا نوح بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الصيرفي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْد الهمداني ثنى عباد بْن منصور عَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الأَرْضَ لَتَعِجُّ إِلَى رَبِّهَا مِنَ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ رِيَاءً". أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا الْحَسَن بْن عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ ثنا أحمد أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا عَبْدُ الصَّمَد ثنا خالد بْن شوذب قَالَ شهدت الْحَسَن وأتاه فرقد فأخف الْحَسَن بكسائه فمده إليه وقال يا فريقديا ابْن أم فريقد إن البر ليس فِي هَذَا الكساء وإنما البر مَا وقر فِي الصدر وصدقه العمل أنبأنا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ نا أَبُو عُمَر بْن حياة نا أَحْمَد بْن معروف ثنا الْحُسَيْن بْن الفهم ثنا مُحَمَّد بْن سَعْد قَالَ حَدَّثَنَا عمرو بْن عَاصِم ثنا يَزِيد بْن عوانه ثنى أَبُو شداد المجاشعي قَالَ سمعت الْحَسَن وذكر عنده الذين يلبسون الصوف فَقَالَ مَا لهم تعاقدوا ثلاثا أكنوا الكبر فِي قلوبهم وأظهروا التواضع فِي لباسهم وَاللَّه لأحدهم أشد عجبا بكسائه من صاحب المطرف بمطرفة أنبأنا ابْن الْحُسَيْن أَنْبَأَنَا أَبُو علي التميمي نا أَبُو حفص بْن شاهين ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيد بْن يَحْيَى البزوري ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أيوب المخرمي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ المجيد يعني ابْن أبي رواد عَنِ ابْن طهمان يعني إِبْرَاهِيم عَنْ أبي مالك الكوفي عَنْ الْحَسَن أنه جاءه رجل ممن يلبس الصوف وعليه جبة صوف وعمامة صوف ورداء صوف فجلس فوضع بصره فِي الأَرْض فجعل لا يرفع رأسه وكأن الْحَسَن خال فيه العجب فَقَالَ الْحَسَن ها إن قوما جعلوا كبرهم فِي صدورهم شنعوا وَاللَّه دينهم بهذا الصوف ثم قَالَ إن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ زِيِّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا يَا أَبَا سَعِيدٍ وَمَا زِيُّ الْمُنَافِقِينَ قَالَ خُشُوعُ اللِّبَاسِ بِغَيْرِ خُشُوعِ الْقَلْبِ قال ابْن عقيل هَذَا كلام رجل قد عرف الناس ولم يعره اللباس ولقد رأيت الْوَاحِد من هؤلاء يلبس الجبة الصوف فَإِذَا قَالَ لَهُ القائل يا أبا فلان ظهر مِنْهُ ومن أوباشه الإنكار فعلم أن الصوف قد عمل عند هؤلاء مَا لا يعمله الديباح عند الأوباش أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أَحْمَدَ نا حمد بْن أَحْمَدَ الحداد نا أَبُو نعيم الْحَافِظ ثنا أَبُو حامد بْن جبلة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ثنا إِسْمَاعِيل بْن أبي الحارث ثنا هارون بْن معروف عَنْ ضمرة قَالَ سمعت رجلا يَقُول قدم حماد بْن أبي سُلَيْمَان البصرة فجاءه فرقد السنجي وعليه ثوب صوف فَقَالَ لَهُ حماد ضع عنك نصرانيتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم يعني النخعي فيخرج علينا وعليه معصفرة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الْحَافِظ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد ثنا إبراهيم بْن شريك الأسدي ثنا شهاب بْن عباد ثنا حماد عَنْ خالد الحذاء أن أبا قلابة قَالَ إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الأَكْسِيَةِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد ابْن ناصر وعمر بْن طفر قالا نا مُحَمَّد بْن الْحَسَنِ الباقلاوي نا
القاضي أَبُو العلاء الواسطي ثنا أَبُو نصر أَحْمَد بْن مُحَمَّد السازكي نا أَبُو الخير أَحْمَد بْن حمد البزار ثنا مُحَمَّد بْن إسماعيل البخاري ثنا عَلِيّ بْن حجر ثنا صالح بْن عُمَر الواسطي عَنْ أبي خالد قَالَ جاء عَبْد الكريم أَبُو أمية إِلَى أبي العالية وعليه ثياب صوف فَقَالَ لَهُ أَبُو العالية إنما هذه ثياب الرهابن إن كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا حمد بْن نا أحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ الأصبهاني ثنا أَبُو مُحَمَّد بْن حبان ثنا أحمد بْن الْحُسَيْن الحذاء ثنا أحمد بْن إبراهيم الدورقي ثنا العيص بْن إسحاق قَالَ سمعت الفضيل يَقُول تزينت لهم بالصوف فلم ترهم يرفعوك بك رأسا تزينت لهم بالقرآن فلم ترهم يرفعون بك رأسا تزينت لهم بشيء يعد شيء كل ذلك إنما هو لحب الدنيا أنبأ نا ابْن الحصين قَالَ نا أَبُو عَلِيّ بْن المذهب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حفص بْن شاهين قَالَ ثنا إسماعيل بْن عَلِيّ قَالَ ثنا الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن شبيب قَالَ ثنا أحمد بْن أبي الحواري قَالَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَان يلبس أحدهم عباءة بثلاثة دراهم ونصف وشهوته فِي قلبه بخمسة دراهم أما يستحي أن يجاوز شهوته لباسه ولو ستر زهده بثوبين أبيضين من أبصار الناس كان أسلم لَهُ قال أَحْمَد بْن أبي الحواري قَالَ لي سُلَيْمَان بْن أبي سُلَيْمَان وكان يعدل بأبيه أي شيء أرادوا بلباس الصوف قلت التواضع قَالَ لا يتكبر أحدهم إلا إذا لبس الصوف أَخْبَرَنَا الْمُبَارَك بْن أَحْمَدَ الأنصاري نا عَبْد اللَّهِ بْن أحمد السمرقندي ثنا أَبُو بَكْر الخطيب نا الْحَسَن بْن الْحُسَيْن العالي1 نا أَبُو سَعِيد أحمد بْن مُحَمَّد بْن رميح ثنا روح بْن عَبْدِ المجيب ثنا أحمد بْن عُمَر بْن يُونُس قَالَ أبصر الثوري رجلا صوفيا فَقَالَ لَهُ الثوري هذابدعة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الْحَافِظ ثنا عَبْدُ المنعم بْن عُمَر ثنا أحمد بْن مُحَمَّد بْن زِيَاد قَالَ سمعت أبا داود يَقُول قَالَ سفيان الثوري لرجل عَلَيْهِ صوف لباسك هَذَا بدعة أنبأنا زاهر بْن طاهر أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْر أحمد بْن الْحُسَيْن البيهقي نا أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الحاكم قَالَ أخبرني مُحَمَّد بْن عُمَر ثنا مُحَمَّدُ بْنُ المنذر قَالَ سمعت أحمد بْن شداد يَقُول سمعت الْحَسَن بْن الربيع يَقُول سمعت عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك يَقُول لرجل رأى عَلَيْهِ صوفا مشهورا أكره هَذَا أكره هَذَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب نا أَبُو سَعْد بْن أبي صَادِق نا ابْنُ باكويه نا عَبْدُ الْوَاحِد بْن بَكْر ثنا عَلِيّ بْن أبي عثمان بْن زهير ثنا عثمان بْن أَحْمَدَ ثنا الْحَسَن بْن عمرو قَالَ سمعت بِشْر بْن الحارس يَقُول دخل علي الموصلي عَلَى المعافي وعليه جبة صوف فَقَالَ لَهُ مَا هذه الشهرة يا أبا الْحَسَن فَقَالَ يا أبا مسعود أخرج أنا وأنت فانظر أينا أشهر فَقَالَ له
المعافي ليس شهرة البدن كشهرة اللباس أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أبي بَكْر المقري نا ظاهر بْن أَحْمَدَ نا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن بشران عثمان بْن أحمد الدقاق ثنا الْحَسَن بْن عمرو قَالَ سَمِعْتُ بِشْر بْن الحارث يَقُول دخل بديل عَلَى أيوب السختياني وَقَدْ مد عَلَى فراشه سبنية1 حمراء تدفع التراب فَقَالَ بدليل مَا هَذَا فَقَالَ أيوب هَذَا خير من الصوف الذي عليك أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب نا أَبُو سَعْد بْن أبي صَادِق قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن باكويه ثنا علان بْن أحمد ثنا حبيب بْن الْحَسَنِ ثنا الفضل بْن أحمد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يسار قَالَ سَمِعْتُ بِشْر بْن الحارث وسئل عَنْ لبس الصوف فشق عَلَيْهِ وتبين الكراهة فِي وجهه ثم قَالَ لبس الخز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف فِي الأمصار أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْن ثابت بْن بندار قَالَ أَخْبَرَنَا أبي نا الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ الطناجيري نا أَحْمَد بْن منصور البرسري ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مخلد ثنا أحمد بْن منصور ثني يَزِيد السقا رفيق مُحَمَّد بْن إدريس الأنباري قَالَ رأيت فتى عَلَيْهِ مسوح قَالَ فقلت لَهُ من لبس هَذَا من العلماء من فعل هَذَا من العلماء قَالَ قد رآني بِشْر بْن الحارث فلم ينكر علي قَالَ يَزِيد فذهبت إِلَى بِشْر فقلت لَهُ يا أبا نصر رأيت فلانا عَلَيْهِ جبة مسوح فأنكرت عَلَيْهِ فَقَالَ قد رآني أَبُو نصر فلم ينكر علي قَالَ فَقَالَ لي بِشْر لم تستشرني يا أبا خالد لو قلت لَهُ لقال لي لبس فلان ولبس فلان أَخْبَرَنَا أحمد بْن منصور الهمداني نا أَبُو علي أَحْمَد بْن سَعْد بْن عَلِيٍّ العجلي نا أَبُو ثابت هجير بْن منصور بْن عَلِيٍّ الصوفي إجازة نا أَبُو مُحَمَّد جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن إسماعيل الصوفي ثنا ابْنُ روزبه ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْن نصر القنطري ثنا إبراهيم بْن مُحَمَّد الإمام ثنا هشام بْن خالد قَالَ سمعت أبا سُلَيْمَان الداراني يَقُول لرجل لبس الصوف إنك قد أظهرت آلة الزاهدين فماذا أورثك هَذَا الصوف فسكت الرَّجُل فَقَالَ لَهُ يكون ظاهرك قطنيا وباطنك صوفيا أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْن عَلِيٍّ المدبر نا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ الخياط نا الْحَسَن بْن الْحُسَيْن بْن حمكان سمعت أبا مُحَمَّد الْحَسَن بْن عثمان بْن عَبْدِ ربه البزار يَقُول سمعت أبا بَكْر بْن الزيات البغدادي يَقُول سمعت ابْن سيرويه يَقُول دخل أَبُو مُحَمَّد بْن أخي معروف الكرخي علي أبي الْحَسَن ابْن بشار وعليه جبة صوف فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ يا أبا مُحَمَّد صوفت قلبك أَوْ جسمك صوف قلبك والبس القوهي عَلَى القوهي2 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب ابْن الْمُبَارَك الْحَافِظ نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ بْن السواح نا عَبْدُ الْعَزِيز بْن حسن الضراب قَالَ حَدَّثَنَا أبي ثنا أَحْمَد بْن مروان ثنا أبو
بَكْرِ بْنُ أبي الدنيا ثنا أَحْمَد بْن سَعِيد قَالَ سمعت النَّضْر بْن شميل يَقُول قلت لبعض الصوفية تبيع جبتك الصوف فَقَالَ إذا باع الصياد شبكته بأي شيء يصطاد. قال أَبُو جَعْفَر بْن جرير الطَّبَرِيّ ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف عَلَى لباس القطن والكتان مَعَ وجود السبيل إليه من حله ومن أكل البقول والعدس واختاره عَلَى خبز البر ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. فصل: قال المصنف: وَقَدْ كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة لا المرتفعة ولا الدون ويتخيرون أجودها للجمعة والعيدين ولقاء الإخوان ولم يكن غير الأجود عندهم قبيحا وَقَدْ أخرج مسلم فِي صحيحه من حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد فَقَالَ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما يلبس هذه من لا خلاق لَهُ فِي الآخرة" فما أنكر عَلَيْهِ ذكر التجمل بِهَا وإنما أنكر عَلَيْهِ لكونها حريرا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ ذكرنا عَنْ أبي العالية أنه قَالَ كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بن عبد الباقي أنبأ نا الْحَسَن بْن عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيّ نا أَبُو عُمَر بْن حياة نا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفهم ثنا مُحَمَّدُ بْن سَعْد نا إسماعيل بْن إِبْرَاهِيم الأسدي عَنِ ابْن عون عَنْ مُحَمَّد قَالَ كان المهاجرون والأنصار يلبسون لباسا مرتفعا وَقَد اشترى تميم الداري حلة بألف ولكنه كان يصلي بِهَا قال ابْن سَعْد وأَخْبَرَنَا عفان ثنا حماد بْن زيد ثنا أيوب عَنْ مُحَمَّد ابْن سيرين أن تميما الداري اشترى حلة بألف درهم وكان يقوم فيها بالليل إِلَى صلاته قَالَ وَحَدَّثَنَا عفان قَالَ حَدَّثَنَا حماد بْن سلمة عَنْ ثابت أن تميما الداري كانت لَهُ حلة قد ابتاعها بألف كان يلبسها الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر وأَخْبَرَنَا الفضل بْن دكين ثنا همام عَنْ قتادة أن ابْن سيرين أخبره أن تميما الداري اشترى رداء بألف فكان يصلي بأصحابه فيه. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: وَقَدْ كان ابْن مسعود من أجود الناس ثوبا وأطيبهم ريحا وكان الْحَسَن البصري يلبس الثياب الجياد قَالَ كلثوم بْن جوشن خرج الْحَسَن وعليه جبة يمنية ورداء يمني فنظر إليه فرقد فَقَالَ يا أستاذ لا ينبغي لمثلك أن يكون هكذا فَقَالَ الْحَسَن يا ابْن أم فرقد أما علمت أن أكثر أصحاب النار أصحاب الأكسية وكان مالك بْن أنس يلبس الثياب العدنية الجياد وكان ثوب أَحْمَد بْن حنبل يشتري بنحو الدينار وَقَدْ كانوا يؤثرون البذاذة إِلَى حد
وربما لبسوا خلقان الثياب فِي بيوتهم1 فَإِذَا خرجوا تجملوا ولبسوا ما لا يشتهرون به من الدون ولا من الأعلى أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن منصور الهمداني نا أَبُو علي أَحْمَد بْن سَعْد علي العجلي ثنا أَبُو ثابت هجير بْن منصور بْن عَلِيٍّ الصوفي إجازة نا أَبُو مُحَمَّد جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الصوفي ثنا ابْنُ روزبه ثنا أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن إبراهيم الحراني ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن قتيبة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ خلف ثنا عِيسَى بْن حازم قَالَ كان لباس إِبْرَاهِيم بْن أدهم كتانا قطنا فروة لم أر عَلَيْهِ ثياب صوف ولا ثياب شهرة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم يَقُول سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن رَيَّان يَقُول رأى علي ذو النون خُفًّا أَحْمَرَ فَقَالَ انْزَعْ هَذَا يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ شُهْرَةٌ مَا لَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن ميمون نا عَبْدُ الكريم بْن مُحَمَّد المحاملي نا عَلِيّ بْن عُمَر الدَّارَقُطْنِيّ نا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سالم نا أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّهِ بْن شبيب المدني ثني الزبير عَنْ أبي عرنة الأنصاري عَنْ فليح بْن سُلَيْمَان عَنْ الربيع بْن يُونُس قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَر المنصور العري الفادح خير من الزي الفاضح. فصل قَالَ المصنف: واعلم أن اللباس الذي يزري بصاحبه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر وكأنه لسان شكوى من اللَّه عز وجل ويوجب احتقار اللابس وكل ذلك مكروه ومنهي عنه أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا عَلِيّ بْن الحصين بْن أيوب نا أَبُو عَلِيّ بْن شاذان ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَان النجاد ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّد القرشي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَر القواريري ثنا هشام بْن عَبْدِ الملك ثنا شعبة عن ابن اسحاق عن الأحوص عَنْ أبيه قَالَ أتيت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا قشف الهيئة فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مَالٌ" قُلْتُ نَعَمْ قَالَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ" قُلْتُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ وَالْغَنَمِ قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالا فَلْيُرَ عَلَيْكَ" أَخْبَرَنَا ابْن الحصين نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا مسكين بْن بكير ثني الأوزاعي عَنْ حسان بْن عطية عَنْ مُحَمَّد بْن المنكدر عَنْ جابر قَالَ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرًا فِي مَنْزِلِي فَرَأَى رَجُلا شَعِثًا فَقَالَ: "أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ" وَرَأَى رَجُلا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: "أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثِيَابَهُ" أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك ومحمد بْن ناصر قالا نا أبو
الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو مُحَمَّد الْحَسَن بْن عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيّ وأبو القاسم عَلِيّ بْن المحسن التنوخي قالا نا أَبُو عُمَر مُحَمَّد بْن العباس بْن حياة ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ الأنباري ثني أبي ثنا أَبُو عِكْرِمَة الضبي ثنا مسعود بْن بِشْر عَنْ أبي عبيدة معمر بْن المثنى قَالَ مضى عَلِيّ بْن أبي طالب إِلَى الربيع بْن زِيَاد يعوده فَقَالَ لَهُ يا أمير المؤمنين أشكو إليك عاصما أخي قَالَ مَا شأنه قَالَ ترك الملاذ ولبس العباءة فغم أهله وأحزن ولده فَقَالَ علي عاصما فلما حضر بش فِي وجهه وقال أترى اللَّه أحل لك الدنيا وَهُوَ يكره أخذك منها أنت وَاللَّه أهون عَلَى اللَّه من ذلك فوالله لابتذالك نعم اللَّه بالفعال أحب إليه من ابتذالك بالمقال فَقَالَ يا أمير المؤمنين إني أراك تؤثر لبس الخشن وأكل الشعير فتنفس الصعداءثم قَالَ ويحك يا عَاصِم إن اللَّه افترض عَلَى أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتبع بالفقير فقره قَالَ أَبُو بَكْر الأنباري المعنى لئلا يَزِيد ويغلو يقال تبيع به الدم إذا زاد وجاوز الحد. فصل: قال المصنف: فان قَالَ قائل تجويد اللباس هوى للنفس وَقَدْ أمرنا بمعاهدتها وتزين للخلق وَقَدْ أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق فالجواب انه ليس كل مَا تهواه النفس يذم ولا كل التزين للناس يكره وإنما ينهي عَنْ ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أَوْ كان عَلَى وجه الرياء فِي باب الدين فَإِن الإنسان يجب أن يرى جميلا وذلك حظ النفس ولا يلام فيه ولهذا يسرح شعره وينظر فِي المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشن إِلَى داخل وظهارته الحسنة إِلَى خارج وليس فِي شيء من هَذَا مَا يكره ولا يذم أَخْبَرَنَا الْمُبَارَك بْن عَلِيٍّ الصيرفي نا عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن العلاف نا عَبْدُ الملك بْن مُحَمَّد بْن بشران نا أَحْمَد بْن إبراهيم الكندي نا مُحَمَّد بْن جَعْفَر الخرائطي ثنا بنان بْن سُلَيْمَان ثنا عبد الرحمن بن هانيء عَنْ العلاء بْن كثير عَنْ مكحول عَنْ عائشة قالت كان نفر من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرونه عَلَى الباب فخرج يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء فجعل ينظر فِي الماء ويسوي شعره ولحيته فقلت يا رَسُول اللَّهِ وأنت تفعل هَذَا قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فليهيء مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر أَنْبَأَنَا عَبْد المحسن بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ ثنا مسعود بْن ناصر بْن أبي زيد نا أَبُو إِسْحَاق بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو القاسم عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ الفقيه نا الْحَسَن بْن سفيان ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ العرزمي عَنْ أبيه عَنْ أم كلثوم عَنْ عائشة قالت خرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر بركوة لنا فيها ماء فنظر إِلَى ظله فيها ثم سوى لحيته ورأسه ثم مضى فلما رجع قلت يا رَسُول اللَّهِ تفعل هَذَا قَالَ: "وَأَيَّ شَيْءٍ فَعَلْتُ؟ نَظَرْتُ فِي ظِلِّ الْمَاءِ فَهَيَّأْتُ
مِنْ لِحْيَتِي وَرَأْسِي إِنَّهُ لا بَأْسَ أَنْ يَفْعَلَهُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ إِذَا خَرَجَ إِلَى إِخْوَانِهِ أَنْ يهيىء مِنْ نَفْسِهِ". قال المصنف رحمه اللَّه: فَإِن قيل فما وجه مَا رويتم عَنْ سري السقطي أنه قَالَ لو أحسست بإنسان يدخل علي فقلت كذا بلحيتي وأمر يده عَلَى لحيته كأنه يريد أن يسويها من أجل دخول الداخل عَلَيْهِ لخشيت أن يعذبني اللَّه عَلَى ذلك بالنار فالجواب إن هَذَا محمول مِنْهُ عَلَى انه كان يقصد بذلك الرياء فِي باب الدين من إظهار التخشع وغيره فأما إذا قصد تحسين صورته لئلا يرى مِنْهُ مَا لا يستحسن فَإِن ذلك غير مذموم فمن اعتقده مذموما فما عرف الرياء ولا فهم المذموم أَخْبَرَنَا سَعْد الخير بْن مُحَمَّد الأنصاري نا عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّد النيسابوري نا أَبُو الْحُسَيْن عَبْد الغافر بْن مُحَمَّد الْفَارِسِيّ نا مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن عمرويه ثنا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن سفيان ثنا مسلم بْن الحجاج ثنا مُحَمَّدُ بْنُ المثنى ثني يَحْيَى بْن حماد قَالَ أَخْبَرَنَا شعبة عَنْ أبان بْن تغلب عَنْ فضيل الفقيمي عَنْ إِبْرَاهِيم النخعي عَنْ علقمة عَنِ ابْنِ مسعود عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ" انفرد به مسلم ومعناه الكبر كبر من بطر الحق وغمط بمعنى ازدرى واحتقر. فصل: وقال المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ كان فِي الصوفية من يلبس الثياب المرتفعة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَبُو طاهر مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن أبي الصقر نا عَلِيّ بْن الْحَسَنِ بْن جحاف قَالَ أبو عَبْد اللَّهِ أحمد بْن عطاء كان أَبُو العباس بْن عطاء يلبس المرتفع من البز كالديبقي ويسبح بسبح الؤلؤ ويؤثر مَا طال من الثياب. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وهذا فِي الشهرة كالمرقعات وإنما ينبغي أن تكون ثياب أهل الخير وسطا فانظر إِلَى الشَّيْطَان كيف يتلاعب بهؤلاء بين طرفي نقيض. فصل: قال المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ كان فِي الصوفية من إذا لبس ثوبا خرق بعضه وربما أفسد الثوب الرفيع القدر أَخْبَرَنَا أَبُو منصور عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد القزاز نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا الْحَسَن بْن غالب المقري قَالَ سمعت عِيسَى بْن عَلِيٍّ الوزير يَقُول كان ابْن مجاهد يوما عند أبي فَقِيلَ لَهُ الشبلي فَقَالَ يدخل فَقَالَ ابْن مجاهد سأسكته الساعة بين يديك وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا فلما جلس قَالَ لَهُ ابْن مجاهد يا أبا بكر أين فِي العلم فساد مَا ينتفع به فقال له الشبلي اين فِي العلم {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ
وَالْأَعْنَاقِ} قَالَ فسكت ابْن مجاهد فَقَالَ لَهُ أبي أردت أن تسكته فأسكتك ثم قَالَ لَهُ قد أجمع الناس إنك مقرىء الوقت فأين فِي القرآن إن الحبيب لا يعذب حبيبه قَالَ فسكت ابْن مجاهد فَقَالَ لَهُ أبي قل يا أبا بَكْر فَقَالَ قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فَقَالَ ابْن مجاهد كأنني مَا سمعتها قط. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت هذه الحكاية أنا مرتاب بصحتها لأن الْحَسَن بْن غالب كان لا يوثق به أَخْبَرَنَا القزاز نا أَبُو بَكْر الخطيب قَالَ ادعى الْحَسَن بْن غالب أشياء تبين لنا فيها كذبه واختلاقه فَإِن كانت صحيحة فقد أبانت عَنْ قلة فهم الشبلي حين احتج بهذه الآية وقلة فهم ابْن مجاهد حين سكت عَنْ جوابه وذلك أن قوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} لأنه لا يجوز أن ينسب إِلَى نبي معصوم أنه فعل فساد والمفسرون قد اختلفوا فِي معنى الآية فمنهم من قَالَ مسح عَلَى أعناقها وسوقها وقال أنت فِي سبيل اللَّه فهذا إصلاح ومنهم من قَالَ عقرها وذبح الخيل وأكل لحمها جائز فما فعل شيئا فيه جناح فأما إفساد ثوب صَحِيح لا لغرض صَحِيح فإنه لا يجوز ومن الجائز أن يكون فِي شريعة سُلَيْمَان جواز مَا فعل ولا يكون فِي شرعنا أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن أبي الصقر ثنا عَلِيّ بْن الْحَسَنِ بْن جحاف الدمشقي قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أحمد بْن عطاء كان مذهب أبي علي الروزباري تخريق أكمامه وتفتيق قميصه قَالَ فكان يخرق الثوب المثمن فيرتدي بنصفه ويأتزر بنصفه حتى أنه دخل الحمام يوما وعليه ثوب ولم يكن مَعَ أصحابه مَا يتأزرون به فقطعه عَلَى عددهم فاتزروا به وتقدم إليهم أن يدفعوا الخرق إذا خرجوا للحمامي قال ابْن عطاء قَالَ لي أَبُو سَعِيد الكازروني كنت معه فِي هَذَا الْيَوْم وكان الرداء الذي قطعه يقوم بنحو ثلاثين دينارا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: ونظير هَذَا التفريط ما أَنْبَأَنَا به زاهر بْن طاهر قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْر البيهقي نا أَبُو عَبْد اللَّهِ الحاكم قَالَ سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يوسف يَقُول سمعت أبا الْحَسَن البوشنجي يَقُول كانت لي قبجة1 طلبت بمائة درهم فحظرني ليلة غريبان فقلت للوالدة عندك شيء لضيفي قالت لا إلا الخبز فذبحت القبجة وقدمتها إليهما. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قد كان يمكنه أن يستقرض ثم يبيعها ويعطي فلقد فرط أخبرنا
مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أَحْمَدَ قَالَ أَنْبَأَنَا رزق اللَّه بْن عَبْدِ الْوَهَّاب قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت جدي يَقُول دخل أَبُو الْحَسَنِ الدراج البغدادي الري وكان يحتاج إِلَى لفاف لرجله فدفع إليه رجل منديلا ديبقيا فشقه نصفين وتلفف به فَقِيلَ لَهُ لو بعته واشتريت مِنْهُ لفافا وأنفقت الباقي فَقَالَ رحمه اللَّه أنا لا أخون المذهب. قَالَ المصنف: وَقَدْ كان أحمد الغزالي ببغداد فخرج إِلَى المحول فوقف عَلَى ناعورة تأن فرمي طيلسانه عليها فدارت فتقطع الطيلسان قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت فانظر إِلَى هَذَا الجهل والتفريط والبعد من العلم فإنه قد صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عَنْ إضاعة المال ولو أن رجلا قطع دينارا صحيحا وأنفقه كان عند الفقهاء مفرطا فكيف بهذا التبذير المحرم ونظير هَذَا تمزيقهم الثياب المطروحة عند الوجد عَلَى مَا سيأتي ذكره إن شاء اللَّه ثم يدعون أن هذه الحالة لا خير فِي حالة تنافي الشرع أفتراهم عُبَيْد نفوسهم أم أمروا أن يعملوا بآرائهم فَإِن كانوا عرفوا أنهم يخالفون الشرع بفعلهم هَذَا ثم فعلوه أنه لعناد وإن كانوا لا يعرفوا فلعمري إِنَّهُ لجهل شديد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَبْدِ ربه الْحَافِظ قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول لما تغير الحال عَلَى أبي عثمان وقت وفاته مزق ابنه أَبُو بَكْر قميصا كان عَلَيْهِ ففتح أَبُو عثمان عينه وقال يا بني خلاف السنة فِي الظاهر ورياء باطن في القلب. فصل: قال المصنف: وفي الصوفية من يبالغ فِي تقصير ثوبه وذلك شهرة أيضا أَخْبَرَنَا ابْن الحصين نا ابْن المذهب ثنا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أَبِي ثنا مُحَمَّد بْن أبي عدي عَنِ العلاء عَنْ أبيه أنه سمع أبا سعيد سئلى عَنِ الإزار فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "إِزَارُ الْمُسْلِمِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ لا جُنَاحَ أَوْ لا حَرَجَ عَلَيْهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ النَّارُ" أَخْبَرَنَا المحمدان بْن ناصر وابن عَبْد الباقي قالا نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ ثنا أَبُو حامد بْن جبلة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق ثنا إبراهيم بن بْن سَعِيد الْجَوْهَرِيّ قَالَ كتب إلي عَبْد الرزاق عَنْ معمر قَالَ كان فِي قميص أيوب بعض التذبيل فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ الشهرة اليوم في التشمير وقد روى إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بن هانيء قَالَ دخلت يوما عَلَى أبي عَبْد اللَّهِ أحمد بْن حنبل وعلي قميص أسفل من الركبة وفوق الساق فَقَالَ أي شيء هَذَا وأنكره وقال هَذَا بالمرة لا ينبغي. فصل: قال المصنف: وَقَدْ كان فِي الصوفية من يجعل عَلَى رأسه خرقة مكان العمامة وهذا
أيضا شهرة لأنه عَلَى خلاف لباس أهل البلد وكل مَا فيه شهرة فهو مكروه أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْن ثابت بْن بندار نا أبي الْحُسَيْن بْن عَلِيّ نا أَحْمَد بْن منصور البوسري ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مخلد ثني مُحَمَّد بْن يوسف قَالَ قَالَ عَبَّاس بْن عَبْدِ العظيم العنبري قَالَ بِشْر بْن الحارث إن ابْن الْمُبَارَك دخل المسجد يوم جمعة وعليه قلنسوة فنظر الناس ليس عليهم قلانس فأخذها فوضعها في كمه. فصل قال المصنف: وَقَدْ كان فِي الصوفية من استكثر من الثياب وسوسة فيجعل للخلاء ثوبا وللصلاة ثوبا وَقَدْ روى هَذَا عَنْ جماعة منهم أَبُو يَزِيد وهذا لا بأس به إلا أنه ينبغي خشية أَوْ يتخذ سنة أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ ثنا أَبُو حامد أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْوَهَّاب ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ النيسابوري ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصباح ثنا حاتم يعني ابْن إسماعيل ثني جَعْفَر عَنْ أبيه أن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن قَالَ: يا بني لو اتخذت ثوبا للغائط رأيت الذباب يقع عَلَى الشيء ثم يقع عَلَى الثوب ثم أتيته فَقَالَ: مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لأصحابه الا ثوب فرفض. فصل قال المصنف: وَقَدْ كان فيهم من لا يكون لَهُ سوى ثوب واحد زاهدا فِي الدنيا وهذا أحسن إلا أنه إذا أمكن اتخاذ ثوب للجمعة والعيد كان أصلح وأحسن أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّل بْن عِيسَى نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن المظفر نا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْن حياة نا إبراهيم بْن حريم بْن حميد ثني ابْن أبي شيبة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَر عَنْ عَبْدِ الحميد بْن جَعْفَر عَنْ مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن حبان عَنْ يوسف بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام عَنْ أبيه قَالَ خطبنا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يوم جمعة فَقَالَ: "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمُعَةٍ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ" أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ نا أَبُو عُمَر بْن حياة نا أَحْمَد بْن معروف الحساب نا الحارث بْن أبي أسامة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن بْن أبي الزناد عَنْ عَبْد المجيد بْن سهيل عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هريرة قَالَ مُحَمَّد بْن عُمَر وحدثني غير مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن أيضا ببعض ذلك قالوا كان لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برد يمينه وَإِزَارٌ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ فَكَانَ يُلْبِسُهُمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ الْعِيدِ ثُمَّ يَطْوِيَانِ.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في مطاعمهم ومشاربهم
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي مطاعمهم ومشاربهم1 قال المصنف رحمه اللَّه: قد بالغ إبليس فِي تلبيسه عَلَى قدماء الصوفية فأمرهم بتقليل المطعم
وخشونته ومنعهم شرب الماء البارد فلما بلغ إِلَى المتأخرين استراح من التعب واشتغل بالتعجب من كثرة أكلهم ورفاهية عيشهم. ذكر طرف مما فعله قدماؤهم قال المصنف رحمه اللَّه: كان فِي القوم من يبقى الأيام لا يأكل إلا أن تضعف قوته وفيهم من يتناول كل يوم الشيء اليسير الذي لا يقيم البدن فروي لنا عَنْ سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ أنه كان فِي بدايته يشتري بدرهم دبسا وبدرهمين سمنا وبدرهم دقيق الأرز فيخلطه ويجعله ثلاثمائة وستين كرة فيفطر كل ليلة عَلَى واحدة وحكى عنه أَبُو حامد الطوسي قَالَ كان سَهْل يقتات ورق النبق مدة وأكل دقاق التبين مدة ثلاث سنين واقتات بثلاث دراهم فِي ثلاث سنين أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب العامري نا أَبُو سَعْد بْن أبي صَادِق نا أَبُو باكويه ثني أَبُو الفرج بْن حمزة التكريتي ثني أَبُو عَبْد اللَّهِ الحصري قَالَ سمعت أبا جعفر الحداد يَقُول أشرف علي أَبُو تراب يوما وأنا عَلَى بكرة ماء ولي ستة عشر يوما ولم آكل شيئا ولم أشرب فيها ماء فَقَالَ مَا جلوسك ههنا فقلت أنا بين العلم واليقين وأنا أنظر من يغلب فأكون معه فَقَالَ سيكون لك شأن أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر ابْن حبيب نا ابْن أبي صَادِق ثنا ابْنُ باكويه نا عَبْدُ الْعَزِيز بْن الفضل ثنا عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ العمري ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فليح ثني إِبْرَاهِيم بْن البنا البغدادي قَالَ صحبت ذا النون من أخميم إِلَى الإسكندرية فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي وقلت هلم فَقَالَ لي ملحك مدقوق قلت نعم قَالَ لست تفلح فنظرت إِلَى مزوده فَإِذَا فيه قليل سويق شعير يستف مِنْهُ أَخْبَرَنَا ابْن ظفر نا ابْن السراج نا عَبْدُ العزيز ابن علي الأزجي نا ابْنُ جهضم ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْن هارون الدقاق ثنا أَحْمَد بْن أنس بْن أبي الحواري سمعت أبا سُلَيْمَان يَقُول الزبد بالعسل إسراف قال ابْن جهضم وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يوسف البصري قَالَ سمعت أبا سَعِيد صاحب سَهْل يَقُول بلغ أبا عَبْد اللَّهِ الزبيري وزكريا الساجي وابن أبي أوفى أن سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُول أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرِيُّ فَقَالَ لَهُ بَلَغَنَا أَنَّكَ قُلْتَ أَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ فَبِمَاذَا أَنَبِيٌّ أَنْتَ أَصِدِّيقٌ أَنْتَ قَالَ سَهْلٌ لَمْ أَذْهَبْ حَيْثُ تَظُنُّ وَلَكِنْ إِنَّمَا قلت هذا هذا لأخدي الْحَلالَ فَتَعَالَوْا كُلُّكُمْ حَتَّى نُصَحِّحَ الْحَلالَ قَالُوا فَأَنْتَ قَدْ صَحَحَّتَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَكَيْفَ قَالَ سَهْلٌ قَسَمْتُ عَقْلِي وَمَعْرِفَتِي وَقُوتِي عَلَى سَبْعَةِ أَجْزَاءَ فَأَتْرُكْهُ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهَا سِتَّةُ أَجْزَاءٍ وَيَبْقَى جُزْءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا خِفْتَ أَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ الْجُزْءُ وَيَتْلَفَ مَعَهُ نَفْسِي خِفْت أَنْ أَكُونَ قَدْ أَعَنْتُ عَلَيْهَا وَقَتَلْتُهَا دَفَعْتُ إِلَيْهَا مِنَ الْبُلْغَةِ مَا يَرُدُّ السِّتَّةَ الأَجْزَاءَ.
أَخْبَرَنَا ابْن حبيب نا ابْن أبي صَادِق نا ابْنُ باكويه قَالَ أخبرني أَبُو عَبْد اللَّهِ ابن مفلح قال خبرني أبي أخبرني أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن زيد1 قَالَ لي منذ أربعين سنة مَا أطعمت نفسي طعاما إلا فِي وقت مَا أحل اللَّه لها الميتة أَخْبَرَنَا ابْن ناصر نا أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن أحمد السهلكي ثنى أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْن مُحَمَّد القوهي ثنا عِيسَى بْن آدم ابْن أخي أبي يَزِيد قَالَ جاء رجل إِلَى أبي يَزِيد قَالَ أريد أن أجلس فِي مسجدك الذي أنت فيه قَالَ لا تطيق ذلك فَقَالَ إن رأيت أن توسع لي فِي ذلك فأذن لَهُ فجلس يوما لا يطعم فصبر فلما كان فِي الْيَوْم الثاني قَالَ لَهُ يا أستاذ لا بد مما لا بد مِنْهُ فَقَالَ يا غلام لا بد من اللَّه قَالَ يا أستاذ نريد القوت قَالَ يا غلام القوت عندنا إطاعة اللَّه فَقَالَ يا أستاذ أريد شيئا يقيم جسدي فِي طاعته عز وجل فَقَالَ يا غلام إن الأجسام لا تقوم إلا بالله عز وجل. أَخْبَرَنَا المحمدان بْن ناصر وابن عَبْد الباقي قالا نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الْحَافِظ قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شاذان يَقُول سمعت أبا عثمان الآدمي يَقُول سمعت إبراهيم الخواص يَقُول حَدَّثَنِي أخ لي كان يصحب أبا تراب نظر إِلَى صوفي مد يده إِلَى قشر البطيخ وكان قد طوى ثَلاثَة أيام فَقَالَ لَهُ تمد يدك إِلَى قشر البطيخ أنت لا يصلح لك التصوف الزم السوق أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم أَنْبَأَنَا رزق اللَّه بْن عَبْدِ الْوَهَّاب نا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت أبا القاسم القيرواني يَقُول سمعت بعض أصحابنا يَقُول أقام أَبُو الْحَسَنِ النصيبي بالحرم أياما مَعَ أصحاب لهم سبعة لم يأكلوا فخرج بعض أصحابه ليتطهر فرأى قشر بطيخ فأخذه فأكله فرآه انسان فاتبعه بشيء وجاء برفق فوضعه بين يدي القوم فَقَالَ الشيخ من جنى مِنْكُمْ هذه الجناية فَقَالَ الرَّجُل أنا وجدت قشر بطيخ فأكلته فَقَالَ كن مَعَ جنايتك ومع هَذَا الرفق وخرج من الحرم ومعه أصحابه وتبعه الرَّجُل فَقَالَ ألم أقل لك كن مَعَ جنايتك فَقَالَ الرَّجُل أنا تائب إِلَى اللَّه تعالى مما جرى مني فَقَالَ الشيخ لا كلام بعد التوبة. أَخْبَرَنَا عُمَر بْن ظفر نا ابْن السراج نا أَبُو القاسم الأزجي نا أَبُو الْحَسَنِ بْن جهضم ثنا إبراهيم بْن مُحَمَّد الشنوزي قَالَ سمعت بنان بْن مُحَمَّدٍ يَقُول كنت بمكة مجاورا فرأيت بِهَا إبراهيم الخواص وأتى علي أيام لم يفتح علي بشيء وكان بمكة مزين يحب الفقراء وكان من أخلاقه إذا
جاءه الفقير يحتجم اشترى لَهُ لحما فطبخه فأطعمه فقصدته وقلت أريد أن أحتجم فأرسل من يشتري لحما وأمر بأصلاحه وجلست بين يديه فجعلت نفسي تقول ترى يكون فراغ القدر مَعَ فراغ الحجامة؟ ثم استيقظت وقلت يا نفس إنما جئت تحتجمين لتطمعي عاهدت اللَّه تعالى ألا ذقت من طعامه شيئا فلما فرغ انصرفت فَقَالَ سبحان اللَّه أنت تعرف الشرط فقلت ثم عقد فسكت وجئت إِلَى المسجد الحرام ولم يقدر لي شيء آكله فلما كان من الغد بقيت إِلَى آخر النهار ولم يتفق أيضا فلما قمت لصلاة العصر سقطت وغشي علي واجتمع حولي ناس وحسبوا أني مجنون فقام إبراهيم وفرق الناس وجلس عندي يحدثني ثم قَالَ تأكل شيئا قلت قرب الليل فَقَالَ أحسنتم يا مبتدئون اثبتوا عَلَى هَذَا تفلحوا ثم قَامَ فلما صلينا العشاء الآخرة إذا هو قد جاءني ومعه قصعة فيها عدس ورغيفان ودورق ماء فوضعه بين يدي وقال كل ذلك فأكلت الرغيفين والعدس فَقَالَ فيك فضل تأكل شيئا آخر قلت نعم فمضى وجاء بقصعة عدس ورغيفين فأكلتهما وقلت قد اكتفيت فاضطجعت فما قمت ليلتي ونمت إِلَى الصباح مَا صليت ولا طفت. أنبأنا أَبُو المظفر عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم ثنا أبي قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الصوفي يَقُول سمعت منصور بْن عَبْدِ اللَّهِ الأصفهاني يَقُول سمعت أبا علي الروزباري يَقُول إذا قَالَ الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق وأمروه بالكسب أنبأنا عَبْد المنعم ثنا أبي قَالَ سمعت ابْن باكويه يَقُول سمعت أبا أحمد الصغير يَقُول أمرني أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف أن أقدم إليه كل ليلة عشر حبات زبيب لإفطاره فأشفقت عَلَيْهِ ليلة فحملت إليه خمسة عشر حبة فنظر إلي وقال من أمرك بهذا وأكل عشر حبات وترك الباقي؟ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب نا عَلِيّ بْن أبي صَادِق نا ابْنُ باكويه قَالَ سمعت عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول كنت فِي ابتدائي بقيت أربعين شهرا أفطر كل ليلة بكف باقلاء فمضيت يوما فاقتصدت فخرج من عرقي شبه ماء اللحم وغشي علي فتحير الفصاد وقال مَا رأيت جسدا لأدم فيه إلا هذا. فصل: قال المصنف: وَقَدْ كان فيهم قوم لا يأكلون اللحم حتى قَالَ بعضهم أكل درهم من اللحم يقسي القلب أربعين صباحا وكان فيهم من يمتنع من الطيبات كلها ويحتج بما أَخْبَرَنَا به عَلِيّ بْن عَبْدِ الْوَاحِد الدينوري نا أَبُو الْحَسَنِ القزويني نا أَبُو حفص بْن الزيات ثنا ابْنُ ماجه ثنا أزهر بْن جميل ثنا بزيغ عَنْ هشام عَنْ أبيه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْرِمُوا
أَنْفُسَكُمْ طَيِّبَ الطَّعَامِ فَإِنَّمَا قَوِيَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْعُرُوقِ بِهَا" وفيهم من كان يمتنع من شرب الماء الصافي وفيهم من يمتنع من شرب الماء البارد فيشرب الحار ومنهم من كان يجعل ماءه فِي دن مدفون فِي الأَرْض فيصير حارا ومنهم من يعاقب نفسه بترك الماء مدة وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر أَنْبَأَنَا أَبُو الفضل مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ السهلكي قَالَ سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر الورياني ثني مُحَمَّد بْن سعدان ثني عِيسَى بْن مُوسَى البسطامي قَالَ سمعت أبي يَقُول قَالَ سمعت عمي خادم أبي يَزِيد يَقُول مَا أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة قَالَ وأسهل مَا لاقت نفسي مني أني سألتها أمرا من الأمور فأبت فعزمت أن لا أشرب الماء سنة فما شربت الماء سنة وحكى أَبُو حامد الغزالي عَنْ أبي يَزِيد أنه قَالَ دعوت نفسي إِلَى اللَّه عز وجل فجمحت فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك. فصل: قال المصنف: وَقَدْ رتب أَبُو طالب المكي للقوم ترتيبات فِي المطاعم فَقَالَ استحب للمريد ألا يَزِيد عَلَى رغيفين فِي يوم وليلة قَالَ ومن الناس من كان يعمل فِي الأقوات فيقلها وكان بعضهم يزن قوته بكربة من كرب النخل وهي تجف كل يوم قليلا فينقص من قوته بمقدار ذلك قَالَ ومنهم من كان يعمل فِي الأوقات فيأكل كل يوم ثم يتدرج إِلَى يومين وثلاثة قَالَ والجوع ينقص دم الفؤاد فيبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته وفي رقته مفتاح المكاشفة. قَالَ المصنف رحمه اللَّه تعالى: وَقَدْ صنف لهم أَبُو عَبْد اللَّهِ محمد بن علي الترمذي كتاباسماه رياضة النفوس قَالَ فيه فينبغي للمبتدىء فِي هَذَا الأمر أن يصوم شهرين متتابعين توبة من اللَّه ثم يفطر فيطعم اليسير ويأكل كسرة كسرة ويقطع الأدام والفواكه واللذة ومجالسة الإخوان والنظر فِي الكتب وهذه كلها أفراح للنفس فيمنع النفس لذتها حتى تملىء غما. قَالَ المصنف وَقَدْ أخرج لهم بعض المتأخرين الأربعينية يبقى أحدهم أربعين يوما لا يأكل الخبز ولكنه يشرب الزيوتات ويأكل الفواكه الكثيرة اللذيذة فهذه نبذة من ذكر أفعالهم فِي مطاعمهم يدل مذكورها عَلَى مغفلها. فصل: في بيان تلبيس إبليس عليهم فِي هذه الأفعال وإيضاح الخطأ فيها. قال المصنف رحمه اللَّه أما مَا نقل عَنْ سَهْل ففعل لا يجوز لأنه حمل عَلَى النفس مَا لا تطيق ثم إن اللَّه عز وجل أكرم الآدميين بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم فلا تصلح مزاحمة البهائم فِي
أكل التبن وأي غذاء فِي التبن ومثل هذه الأشياء أشهر من أن تحتاج إِلَى رد وَقَدْ حكى أَبُو حامد عَنْ سَهْل أنه كان يرى أن صلاة الجائع الذي قد أضعفه الجوع قاعدا أفضل من صلاته قائما إذا قواه الأكل. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وهذا خطأ بل إذا تقوى عَلَى القيام كان أكله عبادة لأنه يعين عَلَى العبادة وإذا تجوع إِلَى أن يصلي قاعدا فقد تسبب إِلَى ترك الفرائض فلم يجز لَهُ ولو كان التناول ميتة مَا جاز هَذَا فكيف وَهُوَ حلال ثم أي قربة فِي هَذَا الجوع المعطل أدوات العبادة وأما قول الحداد وأنا أنظر أن يغلب العلم أم اليقين فإنه جهل محض لأنه ليس بين العلم واليقين تضاد إنما اليقين أعلى مراتب العلم وأين من العلم واليقين ترك مَا تحتاج إليه النفس من المطعم والمشرب وإنما أشار بالعلم إِلَى مَا أمره الشرع وأشار باليقين إِلَى قوة الصبر وهذا تخليط قبيح وهؤلاء قوم شددوا فيما ابتدعوا وكانوا كقريش فِي تشددهم حتى سموا بالحمس فجحدوا الأصل وشددوا فِي الفرع وقول الآخر ملحك مدقوق لست تفلح من أقبح الأشياء وَكَيْفَ يقال عمن استعمل مَا أبيح لَهُ لست تفلح وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج وقول الآخر الزبد بالعسل إسراف قول مرذول لأن الإسراف ممنوع مِنْهُ شرعا وهذا مأذون فيه وَقَدْ صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يأكل القثاء بالرطب وكان يحب الحلوى والعسل وأما مَا روينا عَنْ سَهْل أنه قَالَ قسمت قوتي وعقلي سبعة أجزاء ففعل يذم به ولا يمدح عَلَيْهِ إذ لم يأمر الشرع بمثله وَهُوَ إِلَى التحريم أقرب لأنه ظلم للنفس وترك لحقها وكذلك قول الذي قَالَ مَا أكلت إِلَى وقت أن يباح لي أكل الميتة فإنه فعل برأيه المرذول وحمل عَلَى النفس مَعَ وجود الحلال وقول أبي يَزِيد القوت عندنا اللَّه كلام ركيك فَإِن البدن قد بني عَلَى الحاجة إِلَى الطعام حتى إن أهل النار فِي النار يحتاجون إِلَى الطعام وأما التقبيح عَلَى من أخذ قشر البطيخ بعد الجوع الطويل فلا وجه لَهُ والذي طوى ثلاثا لم يسلم من لوم الشرع وكذلك الذي عاهد أن لا يأكل حين احتجم حتى وقع فِي الضعف فإنه فعل مَا لا يحل لَهُ وقول إِبْرَاهِيم لَهُ أحسنتم يا مبتدئون خطأ أيضا فإنه كان ينبغي أن يلزمه بالفطر ولو كان فِي رمضان إذ من لَهُ أيام لم يأكل وَقَد احتجم وغشي عَلَيْهِ لا يجوز لَهُ أن يصوم. أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز نا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثابت ثني الأزهري ثنا عَلِيّ بْن عُمَر ثنا أَبُو حامد الحضرمي ثنا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُونُس السواح ثنا بقية بْن الوليد عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَر قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصَابَهُ جُهْدٌ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يُفْطِرْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ.
قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت كل رجاله ثقات وَقَدْ أَخْبَرَنَا به عاليا محمد ابن عَبْد الباقي نا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن نا عَلِيّ بْن عُمَر السكري ثنا أحمد بْن مُحَمَّد الأسدي ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن يُونُس فذكره وقال مَنْ أَصَابَهُ جُهْدٌ فِي رَمَضَانَ فلم يفطر دخل النار. قال المصنف رحمه اللَّه: وأما تقليل ابْن خفيف ففعل قبيح لا يستحسن وما يورد هَذَا الأخبار عنهم إيرادا مستحسنا لها إلا جاهل بأصول الشرع فأما العالم المتمكن فإنه لا يهوله قول معظم كيف بفعل جاهل مبرسم وأما كونهم لا يأكلون اللحم فهذا مذهب البراهمة الذين لا يرون ذبح الحيوان وَاللَّه عز وجل أعلم بمصالح الأبدان فأباح اللحم لتقويتها فأكل اللحم يقوي القوة وتركه يضعفها ويسيء الخلق وَقَدْ كان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل اللحم ويحب الذارع من الشاة ودخليوما فقدم إليه طعام من طعام البيت فَقَالَ لم أر لكم برمة تفور وكان الْحَسَن البصري يشتري كل يوم لحما وعلى هَذَا كان السلف إلا أن يكون فيهم فقير فيبعد عهده باللحم لأجل الفقر وأما من منع نفسه الشهوات فَإِن هَذَا عَلَى الإطلاق لا يصلح لأن اللَّه عز وجل لما خلق بني آدم عَلَى الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة وجعل صحته موقوفة عَلَى تعادل الأخلاط الدم والبلغم والمرة الصفراء والمرة السوداء فتارة يَزِيد بعض الأخلاط فتميل الطبيعة إِلَى مَا ينقصه مثل أن تزيد الصفراء فيميل الطبع إِلَى الحموضة أَوْ ينقص البلغم فتميل النفس إِلَى المرطبات فقد ركب فِي الطبع الميل إِلَى مَا تميل إليه النفس وتوافقه فَإِذَا مالت النفس إِلَى مَا يصلحها فمنعت فقد قوبلت حكمة الباري سبحانه وتعالى يردها ثم يؤثر ذلك فِي البدن فكان هَذَا الفعل مخالفا للشرع والعقل ومعلوم أن البدن مطية الآدمي ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ وإنما قلت علوم هؤلاء فتكلموا بآرائهم الفاسدة فَإِن أسندوا فإلى حديث ضعيف أَوْ موضوع أَوْ يكون فهمهم مِنْهُ رديئا ولقد عجبت لأبي حامد الغزالي الفقيه كيف نزل مَعَ القوم من رتبة الفقه إِلَى مذاهبهم حتى إِنَّهُ قَالَ لا ينبغي للمريد إذا تاقت نفسه إِلَى الجماع أن يأكل ويجامع فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عَلَيْهِ. قَالَ المصنف رحمه اللَّه وهذا قبيح فِي الغاية فَإِن الإدام شهوة فوق الطعام فينبغي أن لا يأكل إداما والماء شهوة أخرى أَوْ ليس فِي الصحيح أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف عَلَى نسائه بغسل واحد فهلا اقتصر عَلَى شهوة واحدة أَوْ ليس فِي الصحيحين أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل القثاء بالرطب وهاتان شهوتان أَوْ مَا أكل عند أبي الهيتم بْن التيهان خبزا وشواء وبسرا وشرب ماء باردا أَوْ مَا كان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم فيصلي أَوْ مَا تعلف الفرس.
الشعير والتبن والقت وتطعم الناقة الخبط والحمض وهل البدن الاناقة وإنما نهى بعض القدماء عَنِ الجمع بين إدامين عَلَى الدوام لئلا يتخذ ذلك عادة فيحوج إِلَى كلفة وإنما تجتنب فضول الشهوات لئلا يكون سببا لكثرة الأكل وجلب النوم ولئلا تتعود فيقل الصبر عنها فيحتاج الانسان إِلَى تضييع العمر فِي كسبها وربما تناولها من غير وجهها وهذا طريق السلف فِي ترك فضول الشهوات والحديث الذي احتجوا به احرموا أنفسكم طيب الطعام حديث موضوع عملته يدا بزيغ الراوي وأما إذا أقتصر الإنسان عَلَى خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه لأن خبز الشعير يابس مجفف والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر وتقليل المطعم يوجب تنشيف المعدة وضيقها وَقَدْ حكى يوسف الهمداني عَنْ شيخه عَبْد اللَّهِ الحوفي أنه كان يأكل خبز البلوط بغير إدام وكان أصحابه يسألونه أن يأكل شيئا من الدهن والدسومات فلا يفعل. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وهذا يورث القولنج الشديد واعلم أن المذموم من الأكل إنما هو فرط الشبع وأحسن الآداب فِي المطعم أدب الشارع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ حمكان ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أبي ثنا أَبُو المغيرة ثنا سُلَيْمَان بْن سليم الكناني ثنا يَحْيَى بْن جابر الطائي قَالَ سمعت المقدام بْن معدي كرب يَقُول سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنُ آدَمَ أُكُلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِن كان لا بد فَثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". قال المصنف رحمه اللَّه: قلت فقد أمر الشرع بما يقيم النفس حفظا لها وسعيا فِي مصلحتها ولو سمع أبقراط هذه القسمة فِي قوله ثلث وثلث وثث لدهش من هذه الحكمة لأن الطعام والشراب يربوان فِي المعدة فيتقارب ملئها فيبقى للنفس من الثلث قريب فهذا أعدل الأمور فَإِن نقص مِنْهُ قليلا لم يضر وإن زاد النقصان أضعف القوة وضيق المجاري عَلَى الطعام. فصل قال المصنف رحمه اللَّه واعلم أن الصوفية إنما يأمرون بالتقلل شبانهم ومبتدئيهم ومن أضر الأشياء عَلَى الشاب الجوع فَإِن المشايخ يصبرون عَلَيْهِ والكهول أيضا فأما الشبان فلا صبر لهم عَلَى الجوع وسبب ذلك أن حرارة الشباب شديدة فلذلك يجود هضمه ويكثر تحلل بدنه فيحتاج إِلَى كثرة الطعام كَمَا يحتاج السراج الجديد إِلَى كثرة الزيت فَإِذَا صابر الشاب الجوع وتئبته فِي أول النشوء قمع نشوء نفسه فكان كمن يعرقب أصول الحيطان ثم تمتد يد المعدة لعدم الغذاء إِلَى أخذ
الفضول المجتمعة فِي البدن فتغذيه بالأخلاط فيفسد الدهن والجسم وهذا أصل عظيم يحتاج إِلَى تأمل. فصل: قال المصنف رحمه اللَّه: وذكر العلماء التقلل الذي يضعف البدن أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا عَبْدُ الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي نا إبراهيم بْن جَعْفَر الساجي نا أَبُو بَكْر عَبْد الْعَزِيز بْن جَعْفَر نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن هارون الخلال نا عَبْدُ اللَّهِ بْن إبراهيم بْن يعقوب الجيلي قَالَ سمعت أبا عَبْد اللَّهِ أحمد بْن حنبل قَالَ لَهُ عقبة بْن مكرم هؤلاء الذين يأكلون قليلا ويقللون من مطعمهم فَقَالَ مَا يعجبني سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهدي يَقُول فعل قوم هَذَا فقطعهم عَنِ الفرض قَالَ الخلال وأخبرني أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صدقة ثنا اسحق بْن داود بْن صبيح قَالَ قلت لعبد الرَّحْمَن بْن مهدي يا أبا سَعِيد إن ببلدنا قوما من هؤلاء الصوفية فَقَالَ لا تقرب هؤلاء فإنا قد رأينا من هؤلاء قوما أخرجهم الأمر إِلَى الجنون وبعضهم أخرجهم إِلَى الزندقة ثم قَالَ خرج سفيان الثوري فِي سفر فشيعته وكان معه سفرة فيها فالوذج وكان فيها حمل قَالَ الخلال وأخبرني المروزي قَالَ سمعت أبا عَبْد اللَّهِ أحمد بْن حنبل وقال لَهُ رجل إني منذ خمس عشرة سنة قد ولع بي إبليس وربما وجدت وسوسة أتفكر فِي اللَّه عز وجل فَقَالَ لعلك كنت تذمن الصوم أفطر وكل دسما وجالس القصاص. قال المصنف رحمه اللَّه: وفي هؤلاء القوم من يتناول المطاعم الرديئة ويهجر الدسم فيجتمع فِي معدته أخلاط فجة فتغذي المعدة منها مدة لأن المعدة لا بد لها من شيء تهضمه فَإِذَا هضمت مَا عندها من الطعام ولم تجد شيئا تناولت الأخلاط فهضمتها وجعلتها غذاء وذلك الغذاء الرديء يخرج إِلَى الوساوس والجنون وسوء الأخلاق وهؤلاء المتقللون يتناولون مَعَ التقلل أردأ المأكولات فتكثر أخلاطهم فتشتغل المعدة بهضم الأخلاط ويتفق لهم تعود التقلل بالتدريج فتضيق المعدة فيمكنهم الصبر عَلَى الطعام أياما ويعينهم عَلَى هَذَا قوة الشباب فيعتقدون الصبر عَنِ الطعام كرامة وإنما السبب مَعَ عرفتك وقد أَنْبَأَنَا عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ كانت امرأة قد طعنت فِي السن فسئلت عَنْ حالها فقالت كنت فِي حال الشباب أجد من نفسي أحوالا أظنها قوة الحال فلما كبرت زالت عني فعلمت أن ذلك كان قوة الشباب فتوهمتها أحوالا قَالَ سَمِعْتُ أبا علي الدقاق يَقُول مَا سمع أحد هذه الحكاية من الشيوخ إلا رق لهذه العجوز وقال أنها كانت منصفة.
وقال المصنف: فَإِن قيل كيف تمنعون من التقلل وَقَدْ رويتم أن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه كان يأكل كل يوم إحدى عشر لقمة وإن ابْن الزبير كان يبقى أسبوعا لا يأكل وإن إِبْرَاهِيم التميمي بقي شهرين قلنا قد يجري للانسان من هَذَا الفن فِي بعض الأوقات غير أنه لا يدوم عَلَيْهِ ولا يقصد الترقي إليه وَقَدْ كان فِي السلف من يجوع عوزا وفيهم من كان الصبر لَهُ عادة لا يضر بدنه وفي العرب من يبقى أياما لا يَزِيد عَلَى شرب اللبن ونحن لا نأمر بالشبع إنما ننهي عَنْ جوع يضعف القوة ويؤذي البدن وإذا ضعف البدن قلت العبادة فَإِن حملت البدن قوة الشباب جاء الشيب فأقذع بالراكب وقد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ نا عَبْدُ القادر بن يوسف نا أبو إسحق البرمكي ثنا أَبُو يعقوب بْن سَعْد النسائي ثنا جدي الْحَسَن بْن سفيان ثنا حرملة بْن يَحْيَى ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن وهب ثنا سفيان بْن عيينة عَنْ مالك بْن أنس عَنْ إسحق بْن عُبَيْد اللَّه بْن أبي طلحة عَنْ أنس رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ كان يَطْرَحُ لِعُمَرَ بْن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عنه الصَّاعَ مِنَ التَّمْرِ فَيَأْكُلُهُ حَتَّى حَشْفِهِ وَقَدْ روينا عَنْ إبراهيم بْن أدهم انه اشترى زبدا وعسلا وخبزا حوارى فَقِيلَ لَهُ هَذَا كله تأكله فَقَالَ إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال واذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. فصل قال المصنف رحمه اللَّه: وأما الشرب من الماء الصافي فقد تخيره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا ابْن الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أحمد بْن جَعْفَر ثنا فليح بْن سُلَيْمَان عَنْ سَعِيد بْن الحارث عَنْ جابر بْن عَبْدِ اللَّهِ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى قوما من الأنصار يعود مريضا فاستسقى وجدول قريب مِنْهُ فَقَالَ إِنَّ عِنْدَكُمْ مَاءً بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلا كَرَعْنَا أخرجه البخاري وأَخْبَرَنَا منصور القزاز نا أَبُو بَكْرِ الخطيب نا أَبُو عُمَر بْن مَهْدِيٍّ ثنا الْحُسَيْن بْن إِسْمَاعِيلَ المحاملي ثنا مُحَمَّد بْن عمرو بْن أبي مدعور ثنا عَبْدُ الْعَزِيز بْن مُحَمَّد نا هشام بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَسْتَقِي لَهُ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ بِئْرِ السُّقْيَا. قال المصنف: وينبغي أن يعلم أن الماء الكدر يولد الحصا فِي الكلى والسدد فِي الكبد وأما الماء البارد فإنه إذا كانت برودته معتدلة فإنه يشد المعدة ويقوي الشهوة ويحسن اللون ويمنع عفن الدم وصعود البخارات إِلَى الدماغ ويحفظ الصحة واذا كان الماء حارا أفسد الهضم وأحدث الترهل وأذبل البدن وأدى إِلَى الاستسقاء والدق فَإِن سخن بالشمس خيف مِنْهُ البرص وَقَدْ كان بعض الزهاد يَقُول إذا أكلت الطيب وشربت الماء البارد متى تحب الموت وكذلك قَالَ أَبُو
حامد الغزالي إذا أكل الانسان مَا يستلذه قسا قلبه وكره الموت واذا منع نفسه شهواتها وحرمها لذاتها اشتهت نفسه الإفلات من الدنيا بالموت. قَالَ المصنف رحمه اللَّه واعجبا كيف يصدر هَذَا الكلام من فقيه أترى لو تقلبت النفس فِي أي فن كان من التعذيب مَا أحبت الموت ثم كيف يجوز لنا تعذيبها وَقَدْ قَالَ عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ورضي منا بالإفطار فِي السفر رفقا بِهَا وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أَوْ ليست مطيتنا التي عليها وصولنا: وكيف لا نأوي لها وهي التي ... بِهَا قطعنا السهل والحزونا وأما معاقبة أبي يَزِيد نفسه بترك الماء سنة فإنها حالة مذمومة لا يراها مستحسنة إلا الجهال ووجه ذمها أن للنفس حقا ومنع الحق مستحقه ظلم ولا يحل للإنسان أن يؤذي نفسه ولا أن يقعد فِي الشمس فِي الصيف بقدر مَا يتأذى ولا فِي الثلج فِي الشتاء والماء يحفظ الرطوبات الأصلية فِي البدن وينفذ الأغذية وقوام النفس بالأغذية فَإِذَا منعها أغذية الآدميين ومنعها الماء فقد أعان عليها وهذا من أفحش الخطأ وكذلك منعه إياها النوم قَالَ ابْن عقيل وليس للناس إقامة العقوبات ولا استيفاؤها من أنفسهم يدل عَلَيْهِ أن إقامة الإنسان الحد عَلَى نفسه لا يجزي فَإِن فعله أعاده الإمام وهذه النفوس ودائع اللَّه عز وجل حتى أن التصرف فِي الأموال لم يطلق لأربابها إلا عَلَى وجوه مخصوصة. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وَقَدْ روينا فِي حديث الهجرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزود طعاما وشرابا وأن أبا بَكْر فرش لَهُ فِي ظل صخرة وحلب لَهُ لبنا فِي قدح ثم صب ماء عَلَى القدح حتى برد أسفله وكل ذلك من الرفق بالنفس وأما مَا رتبه أَبُو طالب المكي فحمل عَلَى النفس بما يضعفها وإنما يمدح الجوع إذا كان بمقدار وذكر المكاشفة من الحديث الفارغ وأما مَا صنفه التِّرْمِذِيّ فكأن ابتداء شرع برأيه الفاسد وما وجه صيام شهرين متتابعين عند التوبة وما فائدة قطع الفواكه المباحة وإذا لم ينظر فِي الكتب فبأي سيرة يقتدي وأما الأربعينية فحديث فارغ رتبوه عَلَى حديث لا أصل لَهُ من أخلص لله أربعين صباحا لم يجب الإخلاص1 أبدا فما وجه تقديره بأربعين صباحا ثم لو قدرنا ذلك فالإخلاص عمل القلب فما بال المطعم ثم مَا الذي حسن
منع الفاكهة ومنع الخبز وهل هَذَا كله إلا جهل وقد أَنْبَأَنَا عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم القشيري قَالَ حَدَّثَنَا أبي قال حجج السوفية أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب لأن الناس إما أصحاب نقل وأثر وأما أرباب عقل وفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عَنْ هذه الجملة والذي للناس غيب فلهم ظهور فهم أهل الوصال والناس أهل الاستدلال فينبغي لمريدهم أن يقطع العلائق وأولها الخروج من المال ثم الخروج من الجاه وأن لا ينام إلا غلبة وأن يقلل غذاءه بالتدريج. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت من لَهُ أدنى فهم يعرف أن هَذَا الكلام تخليط فَإِن من خرج عَنِ النقل والعقل فليس بمعدود فِي الناس وليس أحد من الخلق إلا وَهُوَ مستدل وذكر الوصال حديث فارغ فنسأل اللَّه عز وجل العصمة من تخليط المريدين والأشياخ وَاللَّه الموفق.
فصل في ذكر أحاديث تبين خطأهم في أفعالهم
فصل في ذكر أحاديث تبين خطأهم فِي أفعالهم أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْن عَلِيٍّ المدبر نا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ الخياط ثنا الْحَسَن بْن الْحُسَيْن بْن حمكان ثنا عَبْدَان بْن يَزِيد العطار وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي منصور أَنْبَأَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَدَ الفقيه ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظ ثنا أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عيسى البرورجردي ثنا عمير بْن مرداس قالا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بكير الحضرمي ثنا القاسم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْن حفص بْن عَاصِم العمري عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ عَلِيّ بْن زيد بْن جدعان عَنْ سَعِيد بْن المسيب قَالَ جاء عثمان بْن مظعون إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ غلبني حديث النفس فلم أحب أن أحدث شيئا حتى أذكر لك ذلك فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا تُحَدِّثُكَ نَفْسُكَ يَا عُثْمَانُ" قَالَ تُحَدِّثُنِي نَفْسِي بِأَنْ أَخْتَصِي فَقَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ خَصْيَ أُمَّتِي الصِّيَامُ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ أَتَرَهَّبَ فِي الْجِبَالِ قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِن تَرَهُّبَ أُمَّتِي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِأَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِن سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْغَزْوُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِأَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِن صَدَقَتَكَ يَوْمًا بِيَوْمٍ وَتَكُفُّ نَفْسَكَ وَعِيَالَكَ وَتَرْحَمُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَتُطْعِمُهُ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِأَنْ أُطَلِّقَ خَوْلَةَ امْرَأَتِي قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ هَجَرَةَ أُمَّتِي مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ هَاجَرَ إِلَيَّ فِي حَيَاتِي أَوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي أَوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأَةٌ أَوِ امْرَأَتَانِ أَوْ ثَلاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لا
أَغْشَاهَا قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا غَشِيَ أَهْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ كَانَ لَهُ وَصِيفٌ فِي الْجَنَّةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ كَانَ لَهُ فَرَطًا وَشَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لا آكُلَ اللَّحْمَ قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّحْمَ وَآكُلُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ وَلَوْ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُطْعِمَنِي إِيَّاهُ كُلَّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِي" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لا أَمَسَّ طِيبًا قَالَ: "مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بِالطِّيبِ غِبًّا وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ لا مَتْرَكَ لَهُ يَا عُثْمَانُ لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ صَرَفَتِ الْمَلائِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي" قال المصنف رحمه اللَّه هَذَا حَدِيثٌ عمير بْن مرداس. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي طاهر الْجَوْهَرِيّ نا أَبُو عُمَر بْن حياة نا أَحْمَد بْن معروف نا الْحَسَن بْن الفهم ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْد نا الفضل بْن دكين ثنا إسرائيل ثنا أَبُو إِسْحَاق عَنْ أبي بردة قَالَ دخلت امرأة عثمان بْن مظعون عَلَى نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأينها سيئة الهيئة فقلن لها مالك فما فِي قريش رجل أغنى من بعلك قالت مَا لنا مِنْهُ شيء أما ليلة فقائم وأما نهاره فصائم فدخلن إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرن ذلك لَهُ فلقيه فَقَالَ: "يا عثمان أمالك بِي أُسْوَةٌ" فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ وَمَا ذَاكَ قَالَ: "تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ" قَالَ إِنِّي لأَفْعَلُ قَالَ: " لا تَفْعَلْ إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلْيَك حَقًّا فَصَلِّ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ" قال ابْن سَعْد وأَخْبَرَنَا عارم بْن الفضل ثنا حماد بْن زيد ثنا مُعَاوِيَة بْن عَبَّاس الحرمي عَنْ أبي قلابة أن عثمان بْن مظعون اتخذ بيتا فقعد يتعبد فيه فبلغ ذلك النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاه فأخذ بعضادتي باب البيت الذي هو فيه وقال: "يا عثمان إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْنِي بِالرَّهْبَانِيَّةِ -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا- وَإِنَّ خَيْرَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن ميمون نا عَبْد الْوَهَّاب بْن مُحَمَّد الغندجاني نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدَان نا مُحَمَّد بْن سَهْل ثنا البخاري قال قال موسى ابن اسماعيل بن حماد بْن زيد مسلم ثنا أَبُو مُعَاوِيَة بْن قرة عَنْ كهمس الهلالي قَالَ أسلمت وأتيت النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته بإسلامي فمكثت حولا ثم أتيته وَقَدْ ضمرت ونحل جسمي فخفض فِي البصر ثم صعده قلت أما تعرفني قَالَ: "وَمَنْ" أَنْتَ قُلْتُ أَنَا كَهْمَسٌ الْهِلالِيُّ قَالَ: "فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى" قُلْتُ مَا أَفْطَرْتُ بَعْدَكَ نَهَارًا وَلا نِمْتُ لَيْلا قَالَ: "وَمَنْ أَمَرَكَ أَنْ تُعَذِّبَ نَفْسَكَ صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ
وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَوْمًا" قُلْتُ زِدْنِي قَالَ: " صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَوْمَيْنِ" قُلْتُ زِدْنِي قَالَ: "صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ" أنبأنا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الملك بْن خيرون أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت ثنا أَبُو حازم عُمَر بْن أَحْمَدَ العبدوري نا أَبُو أَحْمَد مُحَمَّد بْن الغطريف ثنا أَبُو بَكْر الذهبي ثنا حميد بْن الربيع ثنا عبده بْن حميد عَنْ الأعمش عَنْ جرير بْن حازم عَنْ أيوب عَنْ أبي قلابة بلغ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ناسا من أصحابه أحتموا النساء واللحم اجتمعوا فذكرنا ترك النساء واللحم فأوعدوا فيه وعيدا شديدا وقال: "لو كنت تقدمت فيه لفعلت" ثم قَالَ: "إِنِّي لَمْ أُرْسَلْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ إِنَّ خَيْرَ الدِّينِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". قَالَ المصنف رحمه اللَّه وَقَدْ روينا فِي حديث آخر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إن اللَّه عز وجل يحب أن يرى آثار نعمته عَلَى عبده فِي مأكله ومشربه" وقال بَكْر بْن عَبْدِ اللَّهِ من أعطى خيرا فرؤي عَلَيْهِ سمي حبيب اللَّه محدثا بنعمة اللَّه عز وجل ومن أعطى خيرا فلم ير عَلَيْهِ سمي بغيض اللَّه عز وجل معاديا لنعمة اللَّه عز وجل. فصل قال المصنف رحمه اللَّه وهذا الذي نهينا عنه من التقلل الزائد فِي الحد قد انعكس فِي صوفية زماننا فصارت همتهم فِي المأكل كَمَا كانت همة متقدميهم فِي الجوع لهم الغداء والعشاء والحلوى وكل ذلك أَوْ أكثره حاصل من أموال وسخة وَقَدْ تركوا كسب الدنيا وأعرضوا عَنِ التعبد وافترشوا فراش البطالة فلا همة لأكثرهم إلا الأكل واللعب فَإِن أحسن محسن منهم قالوا طرح شكرا وإن أساء مسيء قالوا استغفر ويسمون مَا يلزمه إياه واجبا وتسمية مَا لم يسمه الشرع واجبا جناية عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد القزاز نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّد الْحَافِظ النيسابوري ثنا أَبُو زكريا يَحْيَى بْن مُحَمَّد العنبري ثنا أَحْمَد بْن سلمة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عبدوس السراج البغدادي قَالَ قَامَ أَبُو مرحوم القاضي بالبصرة يقص عَلَى الناس فأبكى فلما فرغ من قصصه قَالَ من يطعمنا أرزة فِي اللَّه فقام شاب من المجلس فَقَالَ أنا فَقَالَ اجلس يرحمك اللَّه فقد عرفنا موضعك ثم قَامَ الثانية ذلك الشاب فَقَالَ اجلس فقد عرفنا موضعك فقام الثالثة فَقَالَ أَبُو مرحوم لأصحابه قوموا بنا إليه فقاموا معه فأتوا منزله قَالَ فأتينا بقدر من باقلاء فأكلنا بلا ملح ثم قَالَ أَبُو مرحوم علي بخوان خماسي وخمس مكاكيك أرز وخمسة أمنان سمن وعشرة أمنان سكر وخمسة أمنان صنوبر وخمسة أمنان فستق فجيء بِهَا كلها فَقَالَ أَبُو مرحوم لأصحابه يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مَشْرِق لونها مبيضة شمسها أخرقوا فيها أنهارها قَالَ فأتى بذلك السمن فأجرى فيها ثم
أقبل أَبُو مرحوم عَلَى أصحابه فَقَالَ يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مَشْرِق لونها مبيضة شمسه مجراة فيها أنهارها فَقَالَ يا إخواني اغرسوا فيها أشجارها قَالَ فأتى بذلك الفستق والصنوبر فألقى فيها ثم أقبل أَبُو مرحوم عَلَى أصحابه فَقَالَ يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مَشْرِق لونها مبيض شمسها مجرى فيها أنهارها وَقَدْ غرست فيها أشجارها وَقَدْ تدلت لنا ثمارها قَالَ يا إخواني ارموا الدنيا بحجارتها قَالَ فأتى بذلك السكر فألقى فيها ثم أقبل أَبُو مرحوم عَلَى أصحابه فَقَالَ يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مَشْرِق لونها مبيضة شمسها وَقَدْ أجريت فيها أنهارها وَقَدْ غرست فيها أشجارها وَقَدْ تدلت لنا ثمارها فَقَالَ يا إخواني مَا لنا وللدنيا اضربوا فيها براحتها قَالَ فجعل الرَّجُل يضرب فيها براحته ويدفعه بالخمس قَالَ أَبُو الفضل أَحْمَد بْن سلمة ذكرته لأبي حاتم الرازي فَقَالَ أمله علي فأمليته عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا شأن الصوفية. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وَقَدْ رأيت منهم من إذا حضر دعوة بالغ فِي الأكل ثم اختار من الطعام فربما ملأ كمية من غير إذن صاحب الدار وذلك حرام بالإجماع ولقد رأيت شيخا منهم قد أخذ شيئا من الطعام ليحمله معه فوثب صاحب الدار فأخذه مِنْهُ.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في السماع والرقص والوجد
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي السماع والرقص والوجد قال المصنف رحمه اللَّه: اعلم أن سماع الغناء يجمع شيئين أحدهما أنه يلهي القلب عَنِ التفكر فِي عظمة اللَّه سبحانه والقيام بخدمته والثاني أنه يميله إِلَى اللذات العاجلة التي تدعو إِلَى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح وليس تمام لذته إلا فِي المتجددات ولا سبيل إِلَى كثرة المتجددات من الحل فلذلك يحث عَلَى الزنا فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح والزنا أكبر لذات النفس ولهذا جاء فِي الحديث الغناء رقية الزنا وَقَدْ ذكر أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ أن الذي أتخذ الملاهي رجل من ولد قابيل يقال لَهُ ثوبال اتخذ فِي زمان مهلائيل بْن قينان آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان فانهمك ولد قابيل فِي اللهو وتناهى خبرهم إِلَى من بالجبل من نسل شيث فنزل منهم قوم وفشت الفاحشة وشرب الخمور. قَالَ المصنف رحمه اللَّه وهذا لأن الالتذاذ بشيء يدعو إِلَى التذاذه بغيره خصوصا مَا يناسبه ولما يئس إبليس أن يسمع من المتعبدين شيئا من الأصوات المحرمة كالعود نظر إِلَى المغنى الحاصل بالعود فدرجه فِي ضمن الغناء بغير العود وحسنه لهم وإنما مراده التدريج من شيء إِلَى شيء والفقيه
من نظر فِي الأسباب والنتائج وتأمل المقاصد فَإِن النظر إِلَى الأمرد مباح إن أمن ثوران الشهوة فَإِن لم يؤمن لم يجز وتقبيل الصبية التي لها من العمر ثلاث سنين جائزا إذ لا شهوة تقع هناك فِي الأغلب فَإِن وجد شهوة حرم ذلك وكذلك الخلوة بذوات المحارم فَإِن خيف من ذلك حرم فتأمل هذه القاعدة. فصل: قال المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ تكلم الناس فِي الغناء فأطالوا فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه من غير كراهة ومنهم من كرهه مَعَ الإباحة وفصل الخطاب أن نقول ينبغي أن ينظر فِي ماهية الشيء ثم يطلق عَلَيْهِ التحريم أَوِ الكراهة أَوْ غير ذلك والغناء اسم يطلق عَلَى أشياء منها غناء الحجيج فِي الطرقات فَإِن أقواما من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون فِي الطرقات أشعارا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام وربما ضربوا مَعَ إنشادهم بطبل فسماع تلك الأشعار مباح وليس إنشادهم إياها مما يطرب ويخرج عَنِ الاعتدال وفي معنى هؤلاء الغزاة فإنهم ينشدون أشعارا يحرضون بِهَا عَلَى الغزو وفي معنى هَذَا إنشاد المبارزين للقتال للأشعار تفاخرا عند النزال وفي معنى هَذَا أشعار الحداة فِي طريق مكة كقول قائلهم: بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والجبالا وهذا يحرك الإبل والآدمي إلا أن ذلك التحريك لا يوجب الطرب المخرج عَنْ حد الاعتدال وأصل الحداء ما أَنْبَأَنَا به يَحْيَى بْن الْحَسَنِ بْن البنا نا أَبُو جَعْفَر بْن المسلمة نا المخلص نا أَحْمَد بْن سُلَيْمَان الطوسي ثنا الزبير بْن بكار ثني إِبْرَاهِيم بْن المنذر ثنا أَبُو البحتري وهب عَنْ طلحة المكي عَنْ بعض علمائهم أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مال ذات ليلة بطريق مكة إِلَى حاد مَعَ قوم فسلم عليهم فَقَالَ إِنَّ حَادِيَنَا نَامَ1 فَسَمِعْنَا حَادِيَكُمْ فَمِلْتُ إِلَيْكُمْ فَهَلْ تَدْرُونَ أَنَّى كَانَ الْحَدَّاءُ قَالُوا لا وَاللَّهِ قَالَ إِنَّ أَبَاهُمْ مُضَرَ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ رُعَاتِهِ فَوَجَدَ إِبِلَهُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فَأَخَذَ عَصَا فَضَرَبَ بِهَا كَفَّ غُلامِهِ فَعَدَا الْغُلامُ فِي الْوَادِي وَهُوَ يَصِيحُ يَا يَدَاهُ يَا يَدَاهُ2 فَسَمِعَتِ الإِبِلُ ذَلِكَ فَعَطَفَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ مضر لو اشتق مثل هَذَا لانتفعت به الإبل واجتمعت فاشتقت الحداء. قال المصنف رحمه اللَّه وَقَدْ كان لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاد يقال لَهُ أنجشة يحدو فتعنق3 الابل.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير" وفي حديث سلمة بْن الأكوع قَالَ خرجنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خيبر فسرنا ليلا فَقَالَ رجل من القوم لعامر بْن الأكوع ألا تسمعنا من هنياتك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدوا بالقول يَقُول: لاهم لولا أنت مَا اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فالقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إذ لاقينا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من هَذَا السائق"؟ قالوا عامر بْن الأكوع فَقَالَ: "يرحمه اللَّه". قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ روينا عَنِ الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به قَالَ المصنف رحمه اللَّه ومن إنشاد العرب قول أهل المدينة عند قدوم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى ومن هَذَا الجنس كانوا ينشدون أشعارهم بالمدينة وربما ضربوا عَلَيْهِ بالدف عند إنشاده ومنه مَا أَخْبَرَنَا بِهِ ابْنُ الْحُصَيْنِ نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أحمد ثنا أَبُو المغيرة ثنا الأوزاعي ثني الزهري عَنْ عروة عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن أبا بَكْر دخل عليها وعندها جاريتان فِي أيام منى تضربان بدفين ورسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجي عَلَيْهِ بثوبه فانتهرهما أَبُو بَكْر فكشف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وجهه وقال: "دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ" أخرجاه فِي الصحيحين. قال المصنف رحمه اللَّه: والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن لأن عائشة كانت صغيرة وكان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسرب1 إليها الجواري فيلعبن معها وقد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو إِسْحَاق البرمكي أَنْبَأَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن جَعْفَر ثنا أَبُو بَكْر الخلال أَخْبَرَنَا منصور بْن الوليد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد حدثهم قَالَ قلت لأبي عَبْد اللَّهِ أحمد بْن حنبل
حديث الزهري عَنْ عروة عَنْ عائشة عَنْ جَوَارٍ يُغَنِّينَ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْغِنَاءِ قَالَ غِنَاءُ الرَّكْبِ أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ قَالَ الخلال وحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن فرج الحمصي ثنا يَحْيَى بْن سَعِيد ثنا أَبُو عقيل عَنْ نهبة عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت كانت عندنا جارية يتيمة من الأنصار فزوجناها رجلا من الأنصار فكنت فيمن أهداها إِلَى زوجها فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ: "إِنَّ الأَنْصَارَ أُنَاسٌ فِيهِمْ غَزَلٌ" فَمَا قُلْتِ قَالَتْ دَعَوْنَا بِالْبَرَكَةِ قَالَ أَفَلا قُلْتُمْ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ ... فحيونا نحييكم ولولا الذهب الأحم ... ر مَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ وَلْوَلا الْحَبَّةُ السَّمْرَاءُ ... لَمْ تَسْمَنْ عَذَارِيكُمْ" أَخْبَرَنَا أَبُو الحصين نا ابْن المذهب نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أبي ثنا أسود بْن عامر نا أَبُو بَكْر عَنْ أجلح عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها أَهَدَيْتُمُ الْجَارِيَةَ إِلَى بَيْتِهَا قَالَتْ نَعَمْ قَالَ: "فَهَلا بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يُغَنِّيهِمْ يَقُولُ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ ... فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ فَإِنَّ الأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ". قال المصنف رحمه اللَّه: فقد بان بما ذكرنا مَا كانوا يغنون به وليس مما يطرب ولا كانت دفوفهن عَلَى مَا يعرف الْيَوْم ومن ذلك أشعار ينشدها المتزهدون بتطريب وتلحين تزعج القلوب إِلَى ذكر الآخرة ويسمونها الزهديات كقول بعضهم: يا غاديا فِي غفلة ورائحا ... إِلَى متى تستحسن القبائحا وكم إِلَى كم لا تخاف موقفا ... يستنطق اللَّه به الجوارحا يا عجبا منك وأنت مبصر ... كيف تجنبت الطريق الواضحا فهذا مباح أيضا وإلى مثله أشار أَحْمَد بْن حنبل فِي الإباحة فيما أَنْبَأَنَا به أَبُو عَبْد الْعَزِيز كاوس نا المظفر بْن الْحَسَنِ الهمداني نا أَبُو بَكْرِ بْنُ لالي ثنا الفضل الكندي قَالَ سمعت عبدوس يَقُول سمعت أبا حامد الخلفاني يَقُول لأحمد بْن حنبل يا أبا عَبْد اللَّهِ هذه القصائد الرقاق التي فِي ذكر الْجَنَّة والنار أي شيء تقول فيها فَقَالَ مثل أي شيء؟ قلت يقولون:
إذا مَا قَالَ لي ربي ... أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي ... وبالعصيان تأتيني فقال أعد علي فأعدت عَلَيْهِ فقام ودخل بيته ورد الباب فسمعت نحيبه من داخل البيت وَهُوَ يَقُول: إذا مَا قَالَ لي ربي ... أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي ... وبالعصيان تأتيني ومن الأشعار أشعار تنشدها النواح يثيرون بِهَا الأحزان والبكاء فينهي عنها لما فِي ضمنها1. فأما الأشعار التي ينشدها المغنون المتهيئون للغناء ويصفون فيها المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عَنِ الاعتدال ويثير كامنها من حب اللهو وَهُوَ الغناء المعروف فِي هَذَا الزمان مثل قول الشاعر: ذهبي اللون تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح خوفوني من فضيحته ... ليته وافى وأفتضح وقد أخرجوا لهذه الأغاني ألحانا مختلفة كلها تخرج سامعها عَنْ حيز الاعتدال وتثير حب الهوى ولهم شيء يسمونه البسيط يزعج القلوب عَنْ مهل ثم يأتون بالنشيد بعده فيعجعج القلوب وَقَدْ أضافوا إِلَى ذلك ضرب القضيب والإيقاع به عَلَى وفق الإنشاد والدف بالجلاجل والشبابة النائبة عَنِ الزمر فهذا الغناء المعروف الْيَوْم. فصل: قال المصنف رحمه اللَّه: وقبل أن نتكلم فِي إباحته أَوْ تحريمه أَوْ كراهته نقول ينبغي للعاقل أن ينصح نفسه وإخوانه ويحذر تلبيس إبليس فِي إجراء هَذَا الغناء مجرى الأقسام المتقدمة التي يطلق عليها اسم الغناء فلا يحمل الكل محملا واحدا فيقول قد أباحه فلان وكرهه فلان فنبدأ بالكلام فِي النصيحة للنفس والاخوان فنقول. معلوم أن طباع الآدميين تتقارب ولا تكاد تتفاوت فَإِذَا ادعى الشاب السليم البدن
الصحيح المزاج أن رؤية المستحسنات لا تزعجه ولا تؤثر عنده ولا تضره فِي دينه كذبناه لما نعلم من استواء الطباع فَإِن ثبت صدقه عرفنا أن به مرضا خرج به عَنْ حيز الاعتدال فَإِن تعلل فَقَالَ إنما أنظر إِلَى هذه المستحسنات معتبرا فأتعجب من حسن الصنعة فِي دعج العينين ورقة الأنف ونقاء البياض قلنا لَهُ فِي أنواع المباحات مَا يكفي فِي العبرة وههنا ميل طبعك يشغلك عَنْ الفكرة ولا يدع لبلوغ شهوتك وجود فكرة فَإِن ميل الطبع شاغل عَنْ ذلك وكذا من قَالَ إن هَذَا الغناء المطرب المزعج للطباع المحرك لها إِلَى العشق وحب الدنيا لا يؤثر عندي ولا يلفت قلبي إِلَى حب الدنيا الموصوفة فيه فإنا نكذبه لموضع اشتراك الطباع ثم إن كان قلبه بالخوف من اللَّه عز وجل غائبا عَنْ الهوى لأحضر هَذَا المسموع الطبع وإن كانت قد طالت غيبته فِي سفر الخوف وأقبح القبيح البهرجة ثم كيف تمر البهرجة عَلَى من يعلم السر وأخفى ثم إن كان الأمر كَمَا زعم هَذَا المتصوف فينبغي أن لا نبيحه إلا لمن هذه صفته والقوم قد أباحوه على الأطلاق للشاب المبتدىء والصبي الجاهل حتى قَالَ أَبُو حامد الغزالي إن التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء الصحيح أنه لا يحرم. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: فأما من قَالَ إني لا أسمع الغناء للدنيا وإنما آخذ منه إشارات فهو يخطىء من وجهين أحدهما أن الطبع يسبق إِلَى مقصوده قبل أخذ الإشارات فيكون كمن قَالَ إني أنظر إِلَى هذه المرأة المستحسنة لا تفكر فِي الصنعة والثاني إنه يقل فيه وجود شيء يشار به إِلَى الخالق وَقَدْ جل الخالق تبارك وتعالى أن يقال فِي حقه أنه يعشق ويقع الهيمان به وإنما نصيبنا من معرفته الهيبة والتعظيم فقط وإذ قد انْتَهَتِ النصيحة فنذكر ما قيل في الغناء. فصل: أما مذهب أَحْمَد رحمه اللَّه فإنه كان الغناء فِي زمانه إنشاد قصائد الزهد إلا أنهم لما كانوا يلحنونها اختلفت الرواية عنه فروى عنه ابنه عَبْد اللَّهِ أنه قَالَ الغناء ينبت النفاق فِي القلب لا يعجبني وروى عنه إسماعيل بْن إسحاق الثقفي أنه سئل عَنِ استماع القصائد فَقَالَ أكرهه هو بدعة ولا يجالسون وروى عنه أَبُو الحارث أنه قَالَ التغيير1 بدعة فَقِيلَ لَهُ أنه يرقق القلب فَقَالَ هو بدعة وروى عنه يعقوب الهاشمي التغيير بدعة محدث وروى عنه يعقوب بْن غياث2 أكره التغيير وأنه نهى عَنِ استماعه.
قَالَ المصنف: فهذه الروايات كلها دليل عَلَى كراهية الغناء قَالَ أَبُو بَكْر الخلال كره أَحْمَد القصائد لما قيل لَهُ إنهم يتماجنون ثم روى عنه مَا يدل عَلَى أنه لا بأس بِهَا قَالَ المرزوي سألت أبا عُبَيْد اللَّه عَنِ القصائد فَقَالَ بدعة فقلت لَهُ إنهم يهجرون فَقَالَ لا يبلغ بهم هَذَا كله. قال المصنف: وَقَدْ روينا أن أَحْمَد سمع قوالا عند ابنه صالح فم ينكر عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ صالح يا أبت أليس كنت تنكر هَذَا فَقَالَ إنما قيل لي انهم يستعملون المنكر فكرهته فأما هَذَا فأني لا أكرهه قال المصنف رحمه اللَّه قلت وَقَدْ ذكر أصحابنا عَنْ أبي بَكْر الخلال وصاحبه عَبْد الْعَزِيز إباحة الغناء وإنما أشار إِلَى مَا كان فِي زمانهما من القصائد الزهديات وعلى هَذَا يحمل مَا لم يكرهه أَحْمَد ويدل عَلَى مَا قلت أن أَحْمَد بْن حنبل سئل عَنْ رجل مات وترك ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إِلَى بيعها فَقَالَ لا تباع عَلَى أنها مغنية فَقِيلَ لَهُ أنها تساوي ثلاثين ألف درهم ولعلها إذا بيعت ساذجة تساوي عشرين دينارا فَقَالَ لا تباع إلا عَلَى أنها ساذجة. قَالَ المصنف: وإنما قَالَ هَذَا لأن الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهديات بل بالأشعار المطربة المثيرة للطبع إِلَى العشق وهذا دليل عَلَى أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا مَا أجاز تفويت المال عَلَى اليتيم وصار هَذَا كقول أبي طلحة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندي خمر لأيتام فَقَالَ أرقها فلو جاز استصلاحها لما أمره بتضييع أموال اليتامى وروى المرزوي عَنْ أَحْمَد بْن حنبل أنه قَالَ كسب المخنث خبيث يكسبه بالغناء وهذا لأن المخنث لا يغني بالقصائد الزهدية إنما يغنى بالغزل والنوح فبان من هذه الجملة أن الروايتين عَنْ أَحْمَد فِي الكراهة وعدمها تتعلق بالزهديات الملحنة فأما الغناء المعروف الْيَوْم فمحظور عنده كيف ولو علم مَا أحدث الناس من الزيادات. فصل: قال المصنف: وأما مذهب مالك بْن أنس رحمه اللَّه فأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو إسحاق البرمكي نا عَبْدُ الْعَزِيز بْن جَعْفَر ثنا أَبُو بَكْر الخلال وأَخْبَرَنَا عاليا سَعِيد بْن الْحَسَنِ بْن البنا نا أَبُو نصر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد الدبيثي نا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عُمَر الوراق نا مُحَمَّد بْن السري بْن عثمان التمار قالا أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ عَنْ أبيه عَنْ إسحاق بْن عِيسَى الطباع1 قَالَ سألت مالك بْن مالك بْن أنس عَنْ مَا يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فَقَالَ إنما يفعله الفساق أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن أَحْمَدَ الحريري قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو الطيب الطَّبَرِيّ قَالَ أما مالك بن
أنس فإنه نهى عَنِ الغناء وعن استماعه وقال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان لَهُ ردها بالعيب وَهُوَ مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بْن سَعْد وحده فإنه قد حكى زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا. فصل: وأما مذهب أبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عنه أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن أَحْمَدَ الحريري عَنْ أبي الطيب الطَّبَرِيّ قَالَ كان أَبُو حنيفة يكره الغناء مَعَ إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب قَالَ وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة إِبْرَاهِيم والشعبي وحماد وسفيان الثوري وغيرهم لا اختلاف بينهم فِي ذلك قَالَ ولا يعرف بين أهل البصرة خلاف فِي كراهة ذلك والمنع مِنْهُ إلا مَا روى عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَنِ العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. فصل وأما مذهب الشافعي رحمة اللَّه عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا إسماعيل بْن أَحْمَدَ نا أَحْمَد بْن أَحْمَدَ الحداد نا أَبُو نعيم الأصفهاني ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن ثنا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الحارث ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيم بْن جياد ثنا الْحَسَن بْن عَبْدِ الْعَزِيز الحروي قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن إدريس الشافعي يَقُول خلفت بالعراق شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغيير يشغلون به الناس عَنِ القرآن. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ ذكر أَبُو منصور الأزهري المغيرة قوم يغيرون بذكر اللَّه بدعاء وتضرع وَقَدْ سموا مَا يطربون فيه من الشعر فِي ذكر اللَّه عز وجل تغييرا كأنهم إذا شاهدوها بالألحان طربوا ورقصوا فسموا مغيرة لهذا المعنى وقال الزجاج سموا مغيرين لتزهيدهم الناس فِي الفاني من الدنيا وترغيبهم فِي الآخرة وحَدَّثَنَا هِبَة اللَّهِ بْن أَحْمَدَ الحريري عَنْ أبي الطيب طاهر بْن عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيّ قَالَ قَالَ الشافعي الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر مِنْهُ فهو سفيه شهادته قَالَ وكان الشافعي يكره التعبير قَالَ الطَّبَرِيّ فقد أجمع علماء الأمصار عَلَى كراهية الغناء والمنع مِنْهُ وإنما فارق الْجَمَاعَة إِبْرَاهِيم بْن سَعْد1 وعبيد اللَّه العنبري وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ" وَقَالَ: " مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". قال المصنف: قلت وَقَدْ كان رؤساء أصحاب الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عنهم ينكرون السماع وأما قدماؤهم فلا يعرف بينهم خلال وأما أكابر المتأخرين فعلى الإنكار منهم أَبُو الطيب الطَّبَرِيّ وله فِي ذم الغناء والمنع كتاب مصنف حَدَّثَنَا به عنه أَبُو القاسم الحريري ومنهم القاضي أبو
بَكْر مُحَمَّد بْن مظفر الشامي أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الانماطي عنه قَالَ لا يجوز الغناء ولا سماعه ولا الضرب بالقضيب قَالَ ومن أضاف إِلَى الشافعي هَذَا فقد كذب عَلَيْهِ وَقَدْ نص الشافعي فِي كتاب أدب القضاء عَلَى أن الرَّجُل إذا دام عَلَى سماع الغناء ردت شهادته وبطلت عدالته. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم وإنما رخص فِي ذلك من متأخريهم من قل علمه وغلبه هواه وقال الفقهاء من أصحابنا لا تقبل شهادة المغني والرقاص وَاللَّه الموفق.
فصل في ذكر الأدلة على كراهية الغناء والنوح والمنع منهما
فصل في ذكر الأدلة عَلَى كراهية الغناء والنوح والمنع منهما. قال المصنف: وَقَد استدل أصحابنا بالقرآن والسنة والمعنى فأما الاستدلال من القرآن فثلاث آيات الآية الأولى قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك وَيَحْيَى بْن عَلِيّ قالا نا أَبُو مُحَمَّد الصَّرِيفِينِيّ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدَان ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن منيع ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَر ثنا صفوان بْن عِيسَى قَالَ قَالَ حميد الخياط أَخْبَرَنَا عَنْ عمار بْن أبي مُعَاوِيَة عَنْ سَعِيد بْن جبير عَنْ أبي الصهباء قَالَ سألت ابْن مسعود عَنْ قول اللَّه عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ هُوَ وَاللَّهِ الْغِنَاءُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري ومحمد بْن ناصر الْحَافِظ قالا نا طراد بْن مُحَمَّد نا أبي بشران نا ابْنُ صفوان ثنا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيُّ ثنا زهير بْن حرب ثنا جرير عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ هُوَ الْغِنَاءُ وَأَشْبَاهُهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد الحاكم وَيَحْيَى بْن عَلِيٍّ المدبر قالا نا أَبُو الْحُسَيْن بْن النقور نا ابْنُ حياة ثنا البغوي ثنا هدبة ثنا حماد بْن سلمة عَنْ حميد عَنْ الْحَسَن بْن مسلم عَنْ مجاهد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ الغناء أَخْبَرَنَا ابْن ناصر نا الْمُبَارَك بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ نا أحمد بْن جَعْفَر بْن مسلم نا أحمد بْن مُحَمَّد الخالق ثنا أَبُو بَكْر المرزوي ثنا أحمد بْن حنبل ثنا عبده ثنا إِسْمَاعِيل عَنْ سَعِيد بْن يسار قَالَ سألت عِكْرِمَة عَنْ لهو الحديث قَالَ الغناء وكذلك قَالَ الْحَسَن وسعيد بْن جبير وقتادة وإبراهيم النخعي. الآية الثانية قوله عز وجل: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ نا طراد بْن مُحَمَّد نا ابْنُ بِشْرَانَ نا ابْنُ صَفْوَانَ ثنا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيُّ ثنا عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر ثنا يَحْيَى بْن سَعْد عَنْ سفيان
عَنْ أبيه عَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابن عباس: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قَالَ هُوَ الْغِنَاءُ بِالْحِمْيَرِيَّةِ سَمَدَ لَنَا غَنَّى لَنَا وقال مجاهد هو الغناء يَقُول أهل اليمن سمد فلان إذا غنى. الآية الثالثة قوله عز وجل: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْن أَحْمَدَ نا ثابت بْن بندار نا عُمَر بْن إِبْرَاهِيم الزهري نا عَبْدُ اللَّهِ بْن إِبْرَاهِيم بْن ماسي ثنا الْحُسَيْن بْن الكميت ثنا مُحَمَّدُ بْنُ نعيم بْن القاسم الجرمي عَنْ سفيان الثوري عَنْ ليث عَنْ مجاهد: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قَالَ هو الغناء والمزامير. أما السنة: أَخْبَرَنَا ابْن الحصين نا ابْنُ الْمُذْهِبِ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر نا عَبْد اللَّهِ ابْن أحمد ثنى أبي ثنا الوليد بْن مسلم ثنا سَعِيد بْن عَبْدِ الْعَزِيز عَنْ سُلَيْمَان بْن مُوسَى عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ يَقُولُ يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ فَأَقُولُ نَعَمْ فَيَمْضِي حَتَّى قُلْتُ لا فَوَضَعَ يَدَيْهِ وَأَعَادَ رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا. قال المصنف رحمه اللَّه: إذا كان هَذَا فعلهم فِي حق صوت لا يخرج عَنِ الاعتدال فكيف بغناء أهل الزمان وزمورهم أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا الْمُبَارَك ابْن عَبْد الجبار نا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد النصيبي ثنا إِسْمَاعِيل بْن سَعِيد بْن سويد ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ الأنباري ثنا عُبَيْد بْن عَبْدِ الْوَاحِد بْن شريك البزار ثنا ابْن أبي مريم ثنا يَحْيَى بْن أيوب عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ عَلِيّ بْن زيد عَنْ القاسم عَنْ أبي أمامة قَالَ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شِرَاءِ الْمُغَنِّيَاتِ وَبَيْعِهِنَّ وَتَعْلِيمِهِنَّ وَقَالَ ثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ وَقَرَأَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري نا أَبُو منصور مُحَمَّد بْن مُحَمَّد المقرى نا أَبُو القاسم عَبْدُ الملك بْن مُحَمَّد بْن بشران نا عُمَر بْن أحمد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الجمحي ثنا منصور بْن أبي الأسود عَنْ أبي الملهب عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ عَلِيّ بْن زيد عَنْ القاسم عَنْ أبي أمامة قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ بَيْعِ الْمُغَنِيَّاتِ وَعَنِ التِّجَارَةِ فِيهِنَّ وَعَنْ تَعْلِيمِهِنَّ الْغِنَاءَ وَقَالَ: "ثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ" وَقَالَ فِي هَذَا أَوْ نَحْوِهِ أَوْ وَقَالَ شِبْهُهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ مَا مِنْ رَجُلٍ يَرْفَعُ عَقِيرَةَ صَوْتِهِ لِلْغِنَاءِ إِلا بَعَثَ اللَّهُ لَهُ شَيْطَانَيْنِ يَرْتَدُّ فَإِنَّهُ أَعْنَى هَذَا مِنْ ذَا الْجَانِبِ وَهَذَا مِنْ ذَا الْجَانِبِ وَلا يَزَالانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا فِي صَدْرِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ
الَّذِي يَسْكُتُ وروت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إن اللَّه عز وجل حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها" ثم قرأ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} وروى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إنما نهيت عَنْ صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة وصوت عند مصيبة". أَخْبَرَنَا ظفر بْن عَلِيّ نا أَبُو علي الْحَسَن بْن أحمد المقتدي نا أَبُو نعيم الْحَافِظ نا حبيب بن الْحَسَنِ بْن عَلِيّ بْن الوليد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كليب ثنا خلف بْن خليفة عَنْ إبان المكتب عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن عَنْ عطاء بْن أبي رباح عن بن عُمَر قَالَ دخلت مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا ابنه إِبْرَاهِيم يجود نفسه فأخذه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعه فِي حجره ففاضت عيناه فقلت يا رَسُول اللَّهِ أتبكي وتنهانا عَنِ البكاء فَقَالَ: "لَسْتُ أَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ إنما نهيت عَنْ صوتين أحمقين فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمَةِ لَعِبٍ وَلَهْوٍ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ ضَرْبُ وَجْهٍ وَشَقُّ جُيُوبٍ وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري نا جدي أَبُو منصور مُحَمَّد بْن أحمد الخياط نا عَبْدُ الملك بْن مُحَمَّد بْن بشران ثنا أَبُو علي أحمد بْن الفضل بْن خزيمة ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سويد الطحان ثنا عَاصِم بْن عَلِيّ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن ثابت عَنْ أبيه عَنْ مكحول عَنْ جبير بْن نفير عَنْ مالك بْن نحام الثقة عَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بُعِثْتُ بِهَدْمِ الْمِزْمَارِ وَالطَّبْلِ". أَخْبَرَنَا ابْن الحصين نا أَبُو طالب بْن عيلان نا أَبُو بَكْر الشافعي ثنا عبد الله ابن مُحَمَّد بْن ناجية ثنا عباد بْن يعوق ثنا مُوسَى بْن عمير عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أبيه عَنْ جده عَنْ علي قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت بِكَسْرِ الْمَزَامِيرِ" أَخْبَرَنَا أَبُو الفتح الكروجي نا أَبُو عامر الأزدي وأبو بَكْر العورجي قالا نا الجراحي ثنا المحبوبي ثنا التِّرْمِذِيّ ثنا صالح بْن عَبْدِ اللَّهِ ثنا الفرج بْن فضالة عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَلِيّ بْن أبي طالب عَنْ عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خِصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلاءُ" فَذَكَرَ مِنْهَا " إِذَا اتُّخِذَتِ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ" قال التِّرْمِذِيّ وَحَدَّثَنَا عَلِيّ بْن حجر نا مُحَمَّد بْن يَزِيد عَنْ المستلم بْن سَعِيد عَنْ رميح الجذامي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا اتخذ اتُّخِذَ الْفَيءُ دُوَلا وَالأَمَانَةُ مَغْنَمًا وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا وَتُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ وَأَطَاعُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ وَأَدْنَى صَدِيقَهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ وَظَهَرَتِ الأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ وَلَعَنَ آخَرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا
عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَمَسْخًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ" وقد روي عَنْ سَهْل بْن سَعْد عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قَالَ: "إِذَا ظَهَرِت الْمَعَازِفُ وَالْقَيْنَاتُ وَاسْتُحِلَّتِ الْخَمْرُ" أنبأنا أَبُو الْحَسَنِ سَعْد الخير بْن مُحَمَّد الأنصاري فِي كتاب السنن لابن ماجه قَالَ نا أَبُو العباس أَحْمَد بن محمد الأسدابادي نا أَبُو منصور المقومي نا أَبُو طلحة القاسم بْن المنذر نا أَبُو الْحَسَنِ بْن إبراهيم القطان ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيد بْن ماجه ثنا الْحُسَيْن بْن أبي الربيع الجرجاني ثنا عَبْدُ الرزاق أخبرني يَحْيَى بْن العلاء أنه سمع مكحولا يَقُول أنه سمع يَزِيد بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُول أنه سمع صفوان بْن أمية قَالَ كنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء عمرو بْن قرة فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ إن اللَّه عز وجل قد كتب عَلَى الشفوة فما أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي فِي الغناء فِي غير فاحشة فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا آذَنُ لَكَ وَلا كَرَامَةَ وَلا نِعْمَةَ عَيْنٍ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ لَقَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا فَاخْتَرْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِنْ حَلالِهِ وَلَوْ كُنْتَ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ لَفَعَلْتُ بِكَ وَفَعَلْتُ قُمْ عَنِّي وَتُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ بَعْدَ التَّقْدِمَةِ إِلَيْكَ ضَرَبْتُكَ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَلَقْتُ رَأْسَكَ مِثْلَهُ وَنَفَيْتُكَ مِنْ أَهْلِكَ وَأَحْلَلْتُ سَلَبَكَ نَهْبَةً لِفِتْيَانِ الْمَدِينَةِ" فَقَامَ عَمْرٌو وَبِهِ مِنَ الشَّرِّ وَالْخِزْيِ مَالا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَؤُلاءِ الْعُصَاةُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ حَشَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُرْيَانًا لا يَسْتَتِرُ بِهُدْبَةٍ كُلَّمَا قَامَ صُرِعَ". وأما الآثار فَقَالَ ابْن مسعود الغناء ينبت النفاق فِي القلب كَمَا ينبت الماء البقل وقال إذا ركب الرَّجُل الدابة ولم يسم ردفه الشَّيْطَان وقال تغنه فَإِن لم يحسن قَالَ لَهُ تمنه ومر ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه بقوم محرمين وفيهم رجل يتغنى قَالَ ألا لا سمع اللَّه لكم ومر بجارية صغيرة تغني فَقَالَ لو ترك الشَّيْطَان أحد لترك هذه وسأل رجل القاسم بْن مُحَمَّد عَنِ الغناء فَقَالَ أنهاك عنه وأكرهه لك قَالَ أحرام هو قَالَ أنظر يا ابْن أخي إذا ميز اللَّه الحق من الباطل ففي أيهما يجعل الغناء وعن الشعبي قَالَ لعن المغني والمغنى لَهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري ومحمد بْن ناصر قالا نا طراد بْن مُحَمَّد نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران نا أَبُو عَلِيّ بْن صفوان ثنا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيُّ ثني الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن ثني عَبْد اللَّهِ بْن الْوَهَّاب قَالَ أخبرني أَبُو حفص عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه الأرموي قَالَ كتب عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز إِلَى مؤدب ولده ليكن أول مَا يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشَّيْطَان وعاقبتها سخط الرحمان جل وعز فإنه بلغني عَنِ الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بِهَا ينبت النفاق فِي القلب كَمَا ينبت
الماء العشب ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر عَلَى ذي الذهن من الثبوت عَلَى النفاق فِي قلبه وقال فضيل بْن عياض الغناء رقية الزنا وقال الضحاك الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب وقال يَزِيد بْن الوليد يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يَزِيد الشهوة ويهدم المروءة وأنه لينوب عَنِ الخمر ويفعل مَا يفعل السكر فَإِن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فَإِن الغناء داعية الزنا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وكم قد فتنت الأصوات بالغناء من عابد وزاهد وَقَدْ ذكرنا جملة من أخبارهم فِي كتابنا المسمى بذم الهوى أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا ثابت بْن بندار نا أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْوَاحِد بْن رزمة أَبُو سَعِيد الْحَسَن بْن عَبْدِ اللَّهِ السيرافي ثني مُحَمَّد بْن يَحْيَى عَنْ معن بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن أبي الزناد عَنْ أبيه قَالَ كان سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الملك فِي بادية لَهُ فسمر ليلة عَلَى ظهر سطح ثم تفرق عنه جلساؤه فدعا بوضوء فجاءت به جارية لَهُ فبينما هي تصب عَلَيْهِ إذا استمدها بيده وأشار إليها فَإِذَا هي ساهية مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله إِلَى صوت غناء تسمعه فِي ناحية العسكر فأمرها فتنحت واستمع هو الصوت فَإِذَا صوت رجل يغني فأنصت لَهُ حتى فهم مَا يغني به من الشعر ثم دعا جارية من جواريه غيرها فتوضأ فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء ومن كان يسمعه ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه فأفاضوا فِي التليين والتحليل والتسهيل فَقَالَ هل بقي أحد يسمع مِنْهُ فقام رجل من القوم فَقَالَ يا أمير المؤمنين عندي رجلان من أهل أيلة حاذقان قَالَ وأين منزلك من العسكر فأومى إِلَى الناحية التي كان الغناء منها فَقَالَ سُلَيْمَان يبعث إليهما فوجد الرسول أحدهما فأقبل به حتى أدخله عَلَى سُلَيْمَان فَقَالَ لَهُ مَا اسمك قَالَ سمير فسأله عَنِ الغناء كيف هو فيه فَقَالَ حاذق محكم قَالَ ومتى عهدك به قَالَ فِي ليلتي هذه الماضية قَالَ وفي أي نواحي العسكر كنت فذكر لَهُ الناحية التي سمع منها الصوت قَالَ فما غنيت فذكر الشعر الذي سمعه سُلَيْمَان فأقبل سُلَيْمَان فَقَالَ هدر الجمل فضبعت الناقة وهب التيس فشكرت الشاة وهدل الحمام فزافت الحمامة وغنى الرَّجُل فطربت المرأة ثم أمر به فخصي وسأل عَنِ الغناء أين أصله وأكثر مَا يكون قالوا بالمدينة وَهُوَ فِي المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه فكتب إِلَى عامله عَلَى المدينة وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّد بْن عمرو بْن حزم أن أخصي من قبلك من المخنثين المغنين. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وأما المعنى فقد بينا أن الغناء يخرج الإنسان عَنِ الاعتدال ويغير
العقل وبيان هَذَا أن الإنسان إذا طرب فعل مَا يستقبحه فِي حال صمته من غيره من تحريك رأسه وتصفيق يديه ودق الأَرْض برجليه إِلَى غير ذلك مما يفعله أصحاب العقول السخيفة والغناء يوجب ذلك بل يقارب فعله فعل الخمر فِي تغطية العقل فينبغي أن يقع المنع مِنْهُ أَخْبَرَنَا عُمَر بْن ظفر نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي نا ابْنُ جهضم نا يَحْيَى بْن المؤمل ثنا أَبُو بَكْر السفاف ثنا أَبُو سَعِيد الخراز قَالَ ذكر عند مُحَمَّد بْن منصور أصحاب القصائد فَقَالَ هؤلاء الفرارون من اللَّه عز وجل لو ناصحوا اللَّه ورسوله وصدقوه لأفادهم فِي سرائرهم مَا يشغلهم عَنْ كثرة التلاقي أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي الْحُسَيْن بْن يوسف نا مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ العبادي قَالَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن بطة العكبري سألني سائل عَنِ استماع الغناء فنهيته عَنْ ذلك وأعلمته أنه مما أنكرته العلماء واستحسنه السفهاء وإنما تفعله طائفة سموا بالصوفية وسماهم المحققون الجبرية أهل همم دنيئة وشرائع بدعية يظهرون الزهد وكل أسبابهم ظلمة يدعون الشوق والمحبة بإسقاط الخوف والرجاء يسمعونه من الأحداث والنساء ويطربون ويصعقون ويتغاشون ويتماوتون ويزعمون أن ذلك من شدة حبهم لربهم وشوقهم إليه تعالى اللَّه عما يقوله الجاهلون علو كبيرا.
فصل في ذكر الشبه التي تعلق بها من اجاز سماع الغناء
فصل في ذكر الشبه التي تعلق بِهَا من أجاز سماع الغناء. فمنها حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها أن الجاريتين كانتا تضربان عندها بدفين وفي بعض ألفاظه دخل علي أَبُو بَكْر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فَقَالَ أَبُو بَكْر أمزمور الشَّيْطَان فِي بيت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "دعهما يا أبا بَكْر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا" وقد سبق ذكر الحديث ومنها حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها أنها زفت امرأة إِلَى رجل من الأنصار فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عائشة مَا كان معهم من اللهو فَإِن الأنصار يعجبهم اللهو" وَقَدْ سبق ومنها حديث فضالة بْن عُبَيْد عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اللَّه أشد أذنا إِلَى الرَّجُل الْحَسَن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إِلَى قينته" قَالَ ابْن طاهر وجه الحجة أنه أثبت تحليل استماع الغناء إذ لا يجوز أن يقاس عَلَى محرم ومنها حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أذن اللَّه عز وجل لشيء مَا أذن لنبي يتغنى بالقرآن" ومنها حديث حاطب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ فصل مَا بين الحلال والحرام الضرب بالدف. والجواب: أما حديثا عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها فقد سبق الكلام عليهما وبينا أنهم كانوا
ينشدون الشعر وسمي بذلك غناء لنوع يثبت فِي الإنشاد وترجيع ومثل ذلك لا يخرج الطباع عَنِ الاعتدال وَكَيْفَ يحتج بذلك الواقع فِي الزمان السليم عند قلوب صافية عَلَى هذه الأصوات المطربة الواقعة فِي زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى مَا هَذَا إلا مغالطة للفهم أَوْ ليس قد صح فِي الحديث عَنْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها أنها قالت لو رأى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أحدث النساء لمنعهن المساجد وإنما ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كَمَا ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسن والبلد ثم يصف عَلَى مقدار ذلك وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيه الغزال والغزالة والخال والخد والقد والاعتدال فهل يثبت هناك طبع هيهات بل ينزعج شوقا إِلَى المستلذ ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أَوْ خارج عَنْ حد الآدمية ومن أدعى أخذ الإشارة من ذلك إِلَى الخالق فقد استعمل فِي حقه مَا لا يليق به عَلَى أن الطبع يسبقه إِلَى مَا يجد من الهوى وَقَدْ أجاب أَبُو الطيب الطَّبَرِيّ عَنْ هَذَا الحديث بجواب آخر فأَخْبَرَنَا أَبُو القاسم الحريري عنه أنه قال هذ الحديث حجتنا لأن أبا بَكْر سمي ذلك مزمور الشَّيْطَان ولم ينكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي بَكْر قوله وإنما منعه من التغليظ فِي الإنكار لحسن رفعته ولا سيما فِي يوم العيد وَقَدْ كانت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها صغيرة فِي ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وَقَدْ كان ابْن أخيها القاسم بْن مُحَمَّد يذم الغناء ويمنع من سماعه وَقَدْ أخذ العلم عنها. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وأما اللهو المذكور فِي الحديث الآخر فليس بصريح فِي الغناء فيجوز أن يكون إنشاد الشعر أَوْ غيره وأما التشبيه بالاستماع إِلَى القينة فلا يمتنع أن يكون المشبه حراما فَإِن الإنسان لو قَالَ وجدت للعسل لذة أكثر من لذة الخمر كان كلاما صحيحا وإنما وقع التشبيه بالاصغاء فِي الحالتين فيكون أحدهما حلالا أَوْ حراما لا يمنع من التشبيه وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: "أنكم لترون ربكم كَمَا ترون القمر" فشبه أيضا الرؤية بإيضاح الرؤية وإن كان وقع الفرق بأن القمر فِي جهة يحيط به نظر الناظر والحق منزه عَنْ ذلك والفقهاء يقولون فِي ماء الوضوء لا ننشف الأعضاء مِنْهُ لأنه أثر عبادة فلا يسن مسحه كدم الشهيد فقد جمعوا بينهما من جهة اتفاقهما فِي كونهما عبادة وإن افترقا فِي الطهارة والنجاسة واستدلال ابْن طاهر بأن القياس لا يكون إلا عَلَى مباح فقيه الصوفية لا علم الفقهاء وأما قوله يتغنى بالقرآن فقد فسره سفيان بْن عيينة فَقَالَ معناه يستغني به وفسره الشافعي فَقَالَ معناه يتحزن به ويترنم وقال غيرهما يجعله مكان غناء الركبان إذا ساروا وأما الضرب بالدف فقد كان جماعة من التابعين يكسرون الدفوف وما
كانت هكذا فكيف لو رأوا هذه وكان الْحَسَن البصري يَقُول ليس الدف من سنة المرسلين في شيء وقال أَبُو عُبَيْد القاسم بْن سلام من ذهب به إِلَى الصوفية فهو خطأ فِي التأويل عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما معناه عندنا إعلان النكاح واضطراب الصوت والذكر فِي الناس. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت ولو حمل عَلَى الدف حقيقة عَلَى أنه قد قَالَ أحمد بن جنبل أرجوا أن لا يكون بالدف بأس فِي العرس ونحوه وأكره الطبل أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري نا نصر بْن أحمد بْن النظر نا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه المؤدب ثنا الْحُسَيْن بْن إِسْمَاعِيلَ المحاملي ثنا عُبَيْد اللَّه بْن جرير بْن جبلة ثنا عُمَر بْن مرزوق ثنا زهير عن أبي اسحق عَنْ عامر بْن سَعْد الجبلي قَالَ طلبت ثابت بْن سَعْد وكان بدريا فوجدته فِي عرس لَهُ قَالَ وإذا جوار يغنين ويضربن بالدفوف فقلت ألا تنهي عَنْ هَذَا قَالَ لا إن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لَنَا فِي هَذَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ نا جدي أَبُو منصور مُحَمَّد بْن أحمد الخياط نا عَبْدُ الملك بْن بشران ثنا أَبُو علي أحمد بْن الفضل بْن خزيمة ثنا أَحْمَد بْن القاسم الطائي ثنا ابْنُ سهم ثنا عِيسَى بْن يُونُس عَنْ خالد بْن إلياس عَنْ ربيعة بْن أبي عَبْد الرَّحْمَنِ عَنْ القاسم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهِرُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغرْبَالِ يَعْنِي الدُّفَّ. قال المصنف رحمه اللَّه: وكل مَا احتجوا به لا يجوز أن يستدل به عَلَى جواز هَذَا الغناء المعروف المؤثر فِي الطباع وَقَد احتج لهن أقوام مفتونون بحب التصوف بما لا حجة فيه فمنهم أَبُو نعيم الأصفهاني فانه قَالَ كان البراء بْن مالك يميل إِلَى السماع ويستلذ بالترنم. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وإنما ذكر أَبُو نعيم هَذَا عَنِ البراء لأنه روى عنه أنه استلقى يوما فترنم فانظر إِلَى هَذَا الاحتجاج البارد فَإِن الإنسان لا يخلو من أن يترنم فأين الترنم من السماع للغناء المطرب وقد استدل لهم مُحَمَّد بْن طاهر بأشياء لولا أن يعثر عَلَى مثلها جاهل فيغتر لم يصلح ذكرها لأنها ليست بشيء فمنها أنه قَالَ فِي كتابه باب الاقتراح عَلَى القوال والسنة فيه فجعل الاقتراح عَلَى القوال سنة واستدل بما روى عمرو بْن الشريد عَنْ أبيه قَالَ استنشدني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شعر أمية فأخذ يقول هي هي حتى أنشدته مائة قافية وقال ابْن طاهر باب الدليل عَلَى استماع الغزل قَالَ العجاج سألت أبا هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه طاف الخيالات فهاجا سقما فَقَالَ أَبُو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عنه كان ينشد مثل هَذَا بين يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال المصنف رحمه اللَّه: فانظر إِلَى احتجاج ابْن طاهر مَا أعجبه كيف يحتج عَلَى جواز الغناء
بإنشاد الشعر وما مثله إلا كمثل من قَالَ يجوز أن يضرب بالكف عَلَى ظهر العود فجاز أن يضرب بأوتاره أَوْ قَالَ يجوز أن يعصر العنب ويشرب مِنْهُ فِي يومه فجاز أن يشرب مِنْهُ بعد أيام وَقَدْ نسي أن إنشاد الشعر لا يطرب كَمَا يطرب الغناء وقد أَنْبَأَنَا أَبُو زرعة بْن مُحَمَّد بْن طاهر عَنْ أبيه قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد التميمي قَالَ سألت الشريف أبا عَلِيّ بْن أبي مُوسَى الهاشمي عَنْ السماع فَقَالَ مَا أدري مَا أقول فيه غير أني حضرت ذات يوم شيخنا أبا الْحَسَن عَبْد الْعَزِيز بْن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة فِي دعوة عملها لأصحابه حضرها أَبُو بَكْر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الْحَسَن طاهر بْن الْحُسَيْن شيخ أصحاب الحديث وأبو الْحُسَيْن ابْن شمعون شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عَبْد اللَّهِ بْن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أَبُو بَكْرِ بْنُ الباقلاني فِي دار شيخنا أبي الْحَسَن التميمي شيخ الحنابلة فَقَالَ أَبُو علي لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي فِي حادثة بسنة ومعهم أَبُو عَبْد اللَّهِ غلام وكان يقرأ القرآن بصوت حسن فَقِيلَ لَهُ قل شيئا فَقَالَ وهم يسمعون: خطت أناملها فِي بطن قرطاس ... رسالة بعبير لا بأنفاس أن زِرّ فديتك قف لي غير محتشم ... فَإِن حبك لي قد شاع فِي الناس فكان قولي لمن أدى رسالتها ... قف لي لأمشي عَلَى العينين والرأس قال أَبُو علي فبعدما رأيت هَذَا لا يمكنني أن أفتي فِي هذه المسألة بحظر ولا إباحة. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وهذه الحكاية إن صدق فيها مُحَمَّد بْن طاهر فَإِن شيخنا ابْن ناصر الْحَافِظ كان يَقُول ليس مُحَمَّد بْن طاهر بثقة حملت هذه الأبيات عَلَى أنه أنشدها لا أنه غنى بِهَا بقضيب ومخدة إذ لو كان كذلك لذكره ثم فيها كلام مجمل قوله لا يمكنني أن أقول فيها بحظر ولا أباحة لأنه ان كان إن كان مقلدا لهم فينبغي أن يفتي بالإباحة وإن كان ينظر فِي الدليل فيلزمه مَعَ حضورهم أن يفتي بالحظر ثم بتقدير صحتها أفلا يكون إتباع المذهب أولى من إتباع أرباب المذاهب وقد ذكرنا عَنْ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضوان اللَّه عليهم أجمعين مَا يكفي فِي هَذَا وشيدنا ذلك بالأدلة وقال ابْن طاهر فِي كتابه باب إكرامهم للقوال وإفرادهم الموضع لَهُ واحتج بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى بردة كانت عَلَيْهِ إِلَى كعب بْن زهير لما أنشده بانت سعاد وإنما ذكرت هَذَا ليعرف قد رفقه هذ الرجل واستباطه وإلا فالزمان أشرف من أن يضيع بمثل هَذَا التخليط وأنبأنا أَبُو زرعة عَنْ أبيه مُحَمَّد بْن طاهر نا أَبُو سَعِيد إسماعيل بْن مُحَمَّد الحجاجي ثنا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ المقري ثنا أبي ثنا عَلِيّ بْن أَحْمَدَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ العباس بْن بلال قَالَ سمعت سَعِيد بْن مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي إبراهيم بْن عَبْدِ اللَّهِ وكان الناس يتبركون به قَالَ حَدَّثَنَا المزني قَالَ مررنا مَعَ الشافعي وإبراهيم بْن إسماعيلي عَلَى دار قوم وجارية تغنيهم: خليلي مَا بال المطايا كأننا ... نراها عَلَى الأعقاب بالقوم تنكص فقال الشافعي: ميلوا بنا نسمع فلما فرغت قَالَ الشافعي لإبراهيم أيطربك هَذَا قَالَ لا قَالَ فما لك حس. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: وهذا محال عَلَى الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عنه وفي الرواية مجهولون وابن طاهر لا يوثق به وَقَدْ كان الشافعي أجل من هَذَا كله ويدل عَلَى صحة مَا ذكرناه ما أَخْبَرَنَا به أَبُو القاسم الحريري عَنْ أبي الطيب الطَّبَرِيّ قَالَ أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فَإِن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز سواء كانت حرة أَوْ مملوكة قَالَ وقال الشافعي وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ثم غلظ القول فيه فَقَالَ وَهُوَ دياثة. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وإنما جعل صاحبها سفيها فاسقا لأنه دعا الناس إِلَى الباطل ومن دعا إِلَى الباطل كان سفيها فاسقا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وَقَدْ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القاسم البغدادي عَنْ أبي مُحَمَّد التميمي عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ اشترى سَعْد بْن عَبْدِ اللَّهِ الدمشقي جارية قوالة للفقراء وكانت تقول لهم القصائد. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وَقَدْ ذكر أَبُو طالب المكي فِي كتابه قَالَ أدركنا مروان القاضي وله جوار يسمعن التلحين قد أعدهن للصوفية قَالَ وكانت لعطاء جاريتان تلحنان وكان إخوانه يسمعون التلحين منهما. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت أما سَعْد الدمشقي فرجل جاهل والحكاية عَنْ عطاء محال وكذب وإن صحت الحكاية عَنْ مروان1 فهو فاسق والدليل عَلَى مَا قلنا مَا ذكرنا عن الشافعي
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهؤلاء القوم جهلوا العلم فمالوا إِلَى الهوى وقد أَنْبَأَنَا زاهر بْن طاهر قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو عثمان الصابوني وأبو بَكْر البيهقي قالا أَنْبَأَنَا الحاكم أَبُو عَبْد اللَّهِ النيسابوري قَالَ أكثر مَا التقيت أنا وفارس بْن عِيسَى الصوفي فِي دار أبي بَكْر الأبريسمي للسماع من هزارة رحمها اللَّه فإنها كانت من مستورات القوالات. قَالَ المصنف: قلت وهذا أقبح شيء من مثل الحاكم كيف خفي عَلَيْهِ أنه لا يحل لَهُ أن يسمع من امرأة ليست بمحرم ثم يذكر هَذَا فِي كتاب تاريخ نيسابور وَهُوَ كتاب علم من غير تحاش عَنْ ذكر مثله لقد كفاه هذا قد حافى عدالته. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: فَإِن قيل مَا تقول فيما أخبركم به إسماعيل بْن أحمد السمرقندي نا عُمَر بْن عَبْدِ اللَّه نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران نا عثمان بْن أَحْمَدَ نا حنبل بْن إسحاق ثنا هرون بْن معروف ثنا جرير عَنْ مغيرة قَالَ كان عون بْن عَبْدِ اللَّهِ يقص فَإِذَا فرغ أمر جارية لَهُ تقص وتطرب قَالَ المغيرة فأرسلت إليه أَوْ أردت أن أرسل إليه إنك من أهل بيت صدق وأن اللَّه عز وجل لم يبعث نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحمق وإن صنيعك هَذَا صنيع أحمق فالجواب أنا لا نظن بعون أنه أمر الجارية أن تقص عَلَى الرجال بل أحب أن يسمعها منفردا وهي ملكه فَقَالَ لَهُ مغيرة الفقيه هَذَا القول وكره أن تطرب الجارية لَهُ فما ظنك بمن يسمعن الرجال ويرقصهن ويطربهن وَقَدْ ذكر أَبُو طالب المكي أن عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر كان يسمع الغناء. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وإنما كان يسمع إنشاد جواريه وَقَدْ أردف ابْن طاهر الحكاية التي ذكرها عَنِ الشافعي وَقَدْ ذكرناها آنفا بحكاية عَنْ أَحْمَد بْن جنبل رواها من طريق عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن أحمد قَالَ سمعت أبا العباس الفرغاني يَقُول سمعت صالح بْن أحمد بْن حنبل يَقُول كنت أحب السماع وكان أبي أَحْمَد يكره ذلك فوعدت ليلة ابْن الخبازة فمكث عندي إِلَى أن علمت أن أبي قد نام وأخذ يغني فسمعت حس أبي فوق السطح فصعدت فرأيت أبي فوق السطح يسمع وذيله تحت إبطه يتبخطر عَلَى السطح كأنه يرقص. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: هذه الحكاية قد بلفتنا من طرق ففي بعض الطرق عَنْ صالح قَالَ كنت أدعو ابْن الخبازة القصائدي وكان يَقُول ويلحن وكان أبي فِي الزقاق يذهب ويجيء ويسمع إليه وكان بيننا وبينه باب وكان يقف من وراء الباب يستمع وقد أَخْبَرَنَا بِهَا أَبُو منصور القزاز نا أَبُو بَكْرِ أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن النوري ثنا يوسف بْن عُمَر القواس قَالَ
سمعت أبا بَكْر بْن مالك القطيعي يحكي أظنه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحمد قَالَ كنت أدعو ابْن الخبازة القصائدي وكان يَقُول ويلحن وكان أبي ينهاني عَنِ التغني فكنت إذا كان ابْن الخبازة عندي أكتمه عَنْ أبي لئلا يسمع فكان ذات ليلة عندي وكان يغني1 فعرضت لأبي عندنا حاجة وكنا فِي زقاق فجاء فسمعه يغني فتسمع فوقع فِي سمعه شيء من قوله فخرجت لأنظر فَإِذَا بأبي ذاهبا وجائيا فرددت الباب فدخلت فلما كان من الغد قَالَ لي يا بني إذا كان هَذَا نعم الكلام أَوْ معناه. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وهذا ابْن الخبازة كان ينشد القصائد الزهديات التي فيها ذكر الآخرة ولذلك استمع إليه أحمد وقول من قَالَ ينزعج فَإِن الإنسان قد يزعجه الطرب فيميل يمينا وشمالا وأما رواية ابْن طاهر التي فيها فرأيته وذيله تحت إبطه يتبختر عَلَى السطح كأنه يرقص فإنما هو من تغيير الرواة وتغييرهم لا يظنونه المعنى2 تصحيحا لمذهبهم فِي الرقص وقد ذكرنا القدح فِي السلمي وفي ابْن طاهر الراويين لهذه اللفظات وَقَدِ احتج لهم أَبُو طالب المكي عَلَى جواز السماع بمنامات وقسم السماع إِلَى أنواع وَهُوَ تقسيم صوفي لا أصل لَهُ وَقَدْ ذكرنا أن من ادعى أنه يسمع الغناء ولا يؤثر عنده تحريك النفس إِلَى لهوى فهو كاذب وقد أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم الحريري عَنْ أبي طالب الطَّبَرِيّ قَالَ قَالَ بعضهم إنا لا نسمع الغناء بالطبع الذي يشترك فيه الخاص والعام قَالَ وهذا تجاهل مِنْهُ عظيم لأمرين أحدهما أنه يلزمه عَلَى هَذَا أن يستبيح العود والطنبور وسائر الملاهي لأنه يسمعه بالطبع الذي لا يشاركه فيه أحد من الناس فَإِن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله وإن استباح فقد فسق والثاني أن هَذَا المدعي لا يخلو من أن يدعي أنه فارق طبع البشر وصار بمنزلة الملائكة فَإِن قَالَ هَذَا فقد تخرص عَلَى طبعه وعلم كل عاقل كذبه إذا رجع إِلَى نفسه ووجب أن لا يكون مجاهدا لنفسه ولا مخالفا لهواه ولا يكون لَهُ ثواب عَلَى ترك اللذات والشهوات وهذا لا يقوله عاقل وإن قَالَ أنا عَلَى طبع البشر المجبول عَلَى الهوى والشهوة قلنا لَهُ فكيف تسمع الغناء المطرب بغير طبعك أَوْ تطرب لسماعه لغير مَا غرس فِي نفسك؟ أَخْبَرَنَا ابْن ناصر نا أحمد بْن عَلِيّ بْن خلف ثنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت أبا
القاسم الدمشقي يَقُول سئل أَبُو علي الرودباري عمن سمع الملاهي ويقول هي لي حلال لأني قدوصلت إِلَى درجة لا تؤثر فِي اختلاف الأحوال فَقَالَ نعم قد وصل لعمري ولكن إِلَى سقر. قال المصنف رحمه اللَّه: فَإِن قيل قد بلغنا عَنْ جماعة أنهم سمعوا عَنِ المنشد شيئا فأخذوه عَلَى مقصودهم فانتفعوا به قلنا لا ينكر أن يسمع الإنسان بيتا من الشعر أَوْ حكمة فيأخذها إشارة فتزعجه بمعناها لا لأن الصوت مطرب كَمَا سمع بعض المريدين صوت مغنية تقول: كل يوم تتلون ... غير هَذَا بك أجمل فصاح ومات فهذا لم يقصد سماع المرأة ولم يلتفت إِلَى التلحين وإنما قتله المعنى ثم ليس سماع كلمة أَوْ بيت لم يقصد سماعة كالاستعداد لسماع الأبيات المذكورة الكثيرة المطربة مَعَ انضمام الضرب بالقضيب والتصفيق إِلَى غير ذلك ثم إن ذلك السامع لم يقصد السماع ولو سألنا هل يجوز لي أن أقصد سماع ذلك منعناه. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدِ احتج لهم أَبُو حامد الطوسي بأشياء نزل فيها عَنْ رتبته عَنِ الفهم مجموعها أنه قَالَ مَا يدل عَلَى تحريم السماع نص ولا قياس وجواب هَذَا مَا قد أسلفناه وقال لا وجه لتحريم سماع صوت طيب فَإِذَا كان موزونا فلا يحرم أيضا وإذا لم يحرم الآحاد فلا يحرم المجموع فَإِن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان المجموع مباحا قَالَ ولكن ينظر فيما يفهم من ذلك فَإِن كان فيه شيء محظور حرم نثره ونظمه وحرم التصويت به. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وإني لأتعجب من مثل هَذَا الكلام فَإِن الوتر بمفردة أَوِ العود وحده من غير وتر لو ضرب لم يحرم ولم يطرب فَإِذَا اجتمعا وضرب بهما عَلَى وجه مخصوص حرم وأزعج وكذلك ماء العنب جائز شربه وإذا حدثت فيه شدة مطربة حرم. وكذلك هَذَا المجموع يوجب طربا يخرج عَنِ الاعتدال فيمنع مِنْهُ ذلك وقال ابْن عقيل الأصوات عَلَى ثَلاثَة أضرب محرم ومكروه ومباح فالمحرم الزمر والناي والسرنا والطنبور والمعزفة والرباب وما ماثلها نص الإمام أَحْمَد بْن حنبل عَلَى تحريم ذلك ويلحق به الجرافة1 والجنك لأن هذه تطرب فتخرج عَنْ حد الاعتدال وتفعل فِي طباع الغالب من الناس مَا يفعله المسكر وسواء استعمل عَلَى حزن يهيجه أَوْ سرور لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَن صوتين أحمقين صوت
عند نغمة وصوت عند مصيبة والمكروه القضيب لكنه ليس بمطرب فِي نفسه وإنما يطرب بما يتبعه وَهُوَ تابع للقول والقول مكروه ومن أصحابنا من يحرم القضيب كَمَا يحرم آلات اللهو فيكون فيه وجهان كالقول1 نفسه والمباح الدف وَقَدْ ذكرنا عَنْ أَحْمَد أنه قَالَ أرجوا أن لا يكون بالدف بأس فِي العرس ونحوه وأكره الطبل وَقَدْ قَالَ أَبُو حامد من أحب اللَّه وعشقه واشتاق إِلَى لقائه فالسماع فِي حقه مؤكد لعشقه. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وهذا قبيح أن يقال عَنِ اللَّه عز وجل يعشق وَقَدْ بينا فيما تقدم خطأ هَذَا القول ثم أي توكيد لعشقه فِي قول المغنى: ذهبي اللون تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: وسمع ابْن عقيل بعض الصوفية يَقُول أن مشايخ هذه الطائفة كلما وقفت طباعهم حداها الحادي إِلَى اللَّه بالأناشيد فَقَالَ ابْن عقيل لا كرامة لهذا القائل إنما تحدى القلوب بوعد اللَّه فِي القرآن ووعيده وسنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن اللَّه سبحانه وتعالى قَالَ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وما قَالَ وإذا أنشدت عَلَيْهِ القصائد طربت فأما تحريك الطباع بالألحان فقاطع عَنِ اللَّه والشعر يتضمن صفة المخلوق والمعشوق مما يتعدد عنه فتنه ومن سولت لَهُ نفسه التقاط العبر من محاسن البشر وحسن الصوت فمفتون بل ينبغي النظر إِلَى المحال التي أحالنا عليها الإبل والخيل والرياح ونحو ذلك فإنها منظورات لا تهيج طبعا بل تورث استعظاما للفاعل وإنما خدعكم الشَّيْطَان فصرتم عُبَيْد شهواتكم ولم تقفوا حتى قلتم هذه الحقيقة وأنتم زنادقة فِي زي عباد شرهين فِي زي زهاد مشبهة تعتقدون أن اللَّه عز وجل يعشق ويهام فيه ويؤلف ويؤنس به وبئس التوهم لأن اللَّه عز وجل خلق الذوات مشاكلة لأن أصولها مشاكلة فهي تتوانس وتتألم بأصولها العنصرية وتراكيبها المثلية فِي الأشكال الحديثة فمن ههنا جاء التلاوم والميل وعشق بعضهم بعضا وعلى قدر التقارب فِي الصورة يتأكد الأنس والواحد منا يأنس بالماء لأن فيه ماء وَهُوَ بالنبات آنس لقربه من الحيوانية بالقوة النمائية وَهُوَ بالحيوان آنس لمشاركته فِي أخص النوع به أَوْ أقربه إليه فأين المشاركة للخالق والمخلوق حتى يحصل الميل إليه
والعشق والشوق وما الذي بين الطين والماء وبين خالق السماء من المناسبة وإنما هؤلاء يصورون الباري سبحانه وتعالى صورة تثبت فِي القلوب وما ذاك اللَّه عز وجل ذاك صنم شكله الطبع وَالشَّيْطَان وليس لله وصف تميل إليه الطباع ولا تشتاق إليه الأنفس وإنما مباينة الإلهية للمحدث أوجبت فِي الأنفس هيبة وحشمة فما يدعيه عشاق الصوفية لله فِي محبة اللَّه إنما هو وهم اعترض وصورة شكلت فِي نفوس فحجبت عَنْ عبادة القديم فتجدد بتلك الصورة أنس فَإِذَا غابت بحكم مَا يقتضيه العقل أقلقهم الشوق إليها فنالهم من الوجد وتحرك الطبع والهيمان مَا ينال الهائم فِي العشق فنعوذ بالله من الهواجس الرديئة والعوارض الطبيعية التي يجب بحكم الشرع محوها عَنِ القلوب كَمَا يجب كسر الأصنام. فصل: قال المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ كان جماعة من قدماء الصوفية ينكرون على المبتدىء السماع لعلمهم بما يثير من قلبه أَخْبَرَنَا عُمَر بْن ظفر المقري نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي ثنا بن جهضم ثني أَبُو عَبْد اللَّهِ المقري ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن صالح قَالَ قَالَ لي جنيد إذا رأيت المريد يسمع السماع فاعلم أن فيه بقايا من اللعب أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب نا أَبُو سَعِيد بْن أبي صَادِق نا أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن باكويه قَالَ سمعت أحمد بْن مُحَمَّد البردعي يَقُول سمعت أبا الْحُسَيْن النوري يَقُول لبعض أصحابه إذا رأيت المريد يسمع القصائد ويميل إِلَى الرفاهية فلا ترج خيره. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: هَذَا قول مشايخ القوم وإنما ترخص المتأخرون حب اللهو فتعدى شرهم من وجهين أحدهما سوء ظن العوام بقدمائهم لأنهم يظنون أن الكل كانوا هكذا والثاني أنهم جرأوا العوام عَلَى اللعب فليس للعامي حجة فِي لعبه إلا أن يَقُول فلان يفعل كذا ويفعل كذا. فصل: قال المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ نشب السماع بقلوب خلق منهم فآثروه عَلَى قراءة القرآن ورقت قلوبهم عنده بما لا ترق عند القرآن وما ذاك إلا لتمكن هوى باطن تمكن مِنْهُ وغلبه طبع وهم يظنون غير هَذَا أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز نا أَبُو بَكْر الخطيب نا عَبْدُ الكريم بْن هوزان وأنبأنا عَبْدُ المنعم بْن عَبْدِ الكريم ثنا أبي وقال سمعت أبا حاتم مُحَمَّد بْن أحمد بْن يَحْيَى السجستاني قَالَ سمعت أبا نصر السراج يَقُول حكى لي بعض إخواني عَنْ أبي الْحُسَيْن الدراج قَالَ قصدت يوسف بْن الْحُسَيْن الرازي من بغداد فلما دخلت الري سألت عَنْ منزله وكل من
أساله عنه يَقُول إيش تفعل بذلك الزنديق فضيقوا صدري حتى عزمت عَلَى الانصراف فبت تلك الليلة فِي مسجد ثم قلت جئت إِلَى هذه البلدة فلا أقل من زيارته فلم أزل أسأل عنه حتى دفعت إِلَى مسجده وَهُوَ قاعد فِي المحراب بين يديه رجل عَلَى يديه مصحف وَهُوَ يقرأ فدنوت فسلمت فرد السلام وقال من أين قلت من بغداد قصدت زيارة الشيخ فَقَالَ تحسن أن تقول شيئا فقلت نعم وقلت: رأيتك تبني دائما فِي قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت مَا تبني فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وثوبه حتى رحمته من كثرة بكائه ثم قَالَ لي يا بني تلوم أهل الري عَلَى قولهم يوسف بْن الْحُسَيْن زنديق ومن وقت الصلاة هوذا أقرأ القرآن لم تقطر من عيني قطرة وَقَدْ قامت علي القيامة بهذا البيت وأنبأنا عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم بْن هوازن نا أبي قَالَ سمعت أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول فأخرجت إِلَى مرو فِي حياة الأستاذ أبي سهيل الصعلوكي وكان لَهُ قبل خروجي أيام الجمع بالغدوات مجلس درس القرآن والختمات فوجدته عند خروجي قد رفع ذلك المجلس وعقد لابن الفرعاني فِي ذلك الوقت مجلس القوال يعني المغني فتداخلني من ذلك شيء فكنت أقول قد استبدل مجلس الختمات بمجلس القوال فَقَالَ لي يوما أي شيء تقول الناس فقلت يقولون رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القوال فَقَالَ من قَالَ لأستاذه لم لم يفلح. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: هذه دعاة الصوفية يقولون الشيخ يسلم لَهُ حاله وما لنا أحد يسلم إليه حاله فَإِن الآدمي يرد عَنْ مراداته بالشرع والعقل والبهائم بالسوط. فصل: وقد اعتقد قوم من الصوفية أن هَذَا الغناء الذي ذكرنا عَنْ قوم تحريمه وعن آخر كراهته مستحب فِي حق قوم وأنبأنا عَبْدُ المنعم بْن عَبْدِ الكريم بْن هوازن القشيري قَالَ حَدَّثَنَا أبي قَالَ سمعت أبا علي الدقاق يَقُول السماع حرام عَلَى العوام لبقاء نفوسهم مباح الزهاد لحصول مجاهداتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: وهذا غلط من خمسة أوجه أحدها أنا قد ذكرنا عَنْ أبي حامد الغزالي أنه يباح سماعه لكل أحد وأبو حامد كان أعرف من هَذَا القائل والثاني أن طباع النفوس لا تتغير وإنما المجاهدة تكف عملها فمن ادعى تغير الطباع ادعى المحال فَإِذَا جاء مَا
يحرك الطباع واندفع الذي كان يكفها عنه عادت العادة والثالث أن العلماء اختلفوا فِي تحريمه وإباحته وليس فيهم من نظر فِي السامع لعلمهم أن الطباع تتساوى فمن ادعى خروج طبعه عَنْ طباع الآدميين ادعى المحال والرابع أن الإجماع انعقد عَلَى انه ليس بمستحب وإنما غايته الإباحة فادعاء الاستحباب خروج عَنِ الإجماع والخامس انه يلزم من هَذَا أن يكون سماع العود مباحا أَوْ مستحبا عند من لا يغير طبعه لأنه إنما حرم لأنه يؤثر فِي الطباع ويدعوها إِلَى الهوى فَإِذَا أمن ذلك فينبغي أن يباح وَقَدْ ذكرنا هَذَا عَنْ أبي الطيب الطَّبَرِيّ. فصل: قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدِ ادعى قوم منهم أن هَذَا السماع قربة إِلَى اللَّه عز وجل قال أَبُو طالب المكي حَدَّثَنِي بعض أشياخنا عَنْ الجنيد أنه قَالَ تنزل الرحمة عَلَى هذه الطائفة فِي ثَلاثَة مواطن عند الأكل لأنهم لا يأكلون إلا عَنْ فاقة وعند المذاكرة لأنهم يتجاوزون فِي مقامات الصديقين وأحوال النبيين وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: وهذا إن صح عَنِ الجنيد وأحسنا به الظن كان محمولا عَلَى مَا يسمعونه من القصائد الزهدية فإنها توجب الرقة والبكاء فأما أن تنزل الرحمة عند وصف سعدى وليلى ويحمل ذلك عَلَى صفات الباري سبحانه وتعالى فلا يجوز اعتقاد هَذَا ولو صح أخذ الإشارة من ذلك كانت الإشارة مستغرقة فِي جنب غلبة الطباع ويدل عَلَى مَا حملنا الأمر عَلَيْهِ أنه لم يكن ينشد فِي زمان الجنيد مثل مَا ينشد الْيَوْم إلا أن بعض المتأخرين قد حمل كلام الجنيد عَلَى كل مَا يقال فحدثني أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن أزهر بْن عَبْدِ الْوَهَّاب السباك عَنْ شيخنا عَبْد الْوَهَّاب بْن الْمُبَارَك الْحَافِظ قَالَ كان أَبُو الوفا الفيروزبادي شيخ رباط الزوزني صديقا لي فكان يَقُول لي وَاللَّه إني لأدعو لك وأذكرك وقت وضع المخدة والقول قَالَ فكان الشيخ عَبْد الْوَهَّاب يتعجب ويقول أترون هَذَا يعتقد أن ذلك وقت إجاية إن هَذَا لعظيم وقال ابْن عقيل قد سمعنا منهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخدة مجاب وذلك أنهم يعتقدون أنه قربة يتقرب بِهَا إِلَى اللَّه تعالى قَالَ وهذا كفر لأن من اعتقد الحرام أَوِ المكروه قربة كان بهذا الاعتقاد كافرا قَالَ والناس بين تحريمه وكراهيته أَخْبَرَنَا أَبُو منصور عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد القزاز نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قَالَ أخبرني عَلِيّ بْن أيوب قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عمران بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أحمد الكاتب قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن فهم قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو همام قَالَ حَدَّثَنِي إبراهيم بْن أعين قَالَ قَالَ صالح المري أبطأ الصرعي نهضة صريع هوى يدعيه إِلَى اللَّه قربة وأثبت الناس
قدما يوم القيامة آخذهم بكتاب اللَّه وسنة نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنبأنا أَبُو المظفر عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم القشيري قَالَ حَدَّثَنَا أبي قَالَ سمعت أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شاذان يَقُول سمعت أبا بَكْر النهاوندي يَقُول سمعت عليا السائح يَقُول سمعت أبا الحارث الأولاسي يَقُول رأيت إبليس فِي المنام عَلَى بعض سطوح أولاس وأنا عَلَى سطح وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة وعليهم ثياب لطاف فَقَالَ لطائفة منهم قولوا وغنوا فاستغرقني طيبة حتى هممت أن أطرح نفسي من السطح ثم قَالَ أرقصوا فرقصوا أطيب مَا يكون ثم قَالَ لي يا أبا الحارث مَا أصبت مِنْكُمْ شيئا أدخل به عليكم إلا هَذَا.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الوجد
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي الوجد. قال المصنف رحمه اللَّه: هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب وَقَدْ لبس عليهم إبليس فِي ذلك وبالغ وقد احتجوا بما أَخْبَرَنَا به أَبُو الفتح مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو علي الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن الفضل الكرماني قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ سَهْل بْن عَلِيٍّ الخشاب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو نصر عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيٍّ السراج الطوسي قَالَ وَقَدْ قيل لَهُ أنه لما نزلت: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} صاح سلمان الْفَارِسِيّ صيحة ووقع عَلَى رأسه ثم خرج هاربا ثَلاثَة أيام واحتجوا بما أَخْبَرَنَا به عَبْد الْوَهَّاب بْن الْمُبَارَك الْحَافِظ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ الخياط قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يوسف بْن دوست قَالَ أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بْن صفوان قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد القرشي قَالَ وأَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الجعد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاش عَنْ عِيسَى بْن سليم عَنْ أبي وائل قَالَ خرجنا مَعَ عَبْد اللَّهِ ينظر إِلَى حديدة فِي النار فنظر الربيع إليها فمال ليسقط ثم أن عَبْد اللَّهِ مضى حتى أتينا عَلَى أنون على شاطىء الفرات فلما رآه عَبْد اللَّهِ والنار تلتهب فِي جوفه قرأ هذه الآية: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} إِلَى قوله {ثُبُوراً كَثِيراً} فصعق الربيع واحتملناه إِلَى أهله ورابطه عَبْد اللَّهِ حتى يصلي الظهر فلم يفق ثم رابطه إِلَى العصر فلم يفق ثم رابطه إِلَى المغرب فأفاق فرجع عَبْد اللَّهِ إِلَى أهله قالوا وَقَدِ اشتهر عَنْ خلق كثير من العباد أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن فمنهم من يموت ومنهم من يصعق ويغشى عَلَيْهِ ومنهم من يصيح وهذا كثير فِي كتب الزهد والجواب أما مَا ذكره عَنْ سلمان فمحال وكذب ثم ليس لَهُ إسناد والآية نزلت بمكة وسلمان إنما أسلم بالمدينة ولم ينقل
عَنْ أحد من الصحابة مثل هَذَا أصلا وأما حكاية الربيع بْن خثيم فَإِن راويها عِيسَى بْن سليم وفيه معمر أنبأنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك الْحَافِظ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد المظفر الشامي قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أحمد بْن مُحَمَّد العتيقي قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو يعقوب يوسف بْن أحمد الصيدلاني قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عمرو بْن مُوسَى العقيلي قَالَ قَالَ أحمد بْن حنبل عِيسَى بْن سليم عَنْ أبي وائل لا أعرفه قَالَ العقيلي وَحَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قال حدثني بن آدم قَالَ سمعت حمزة الزيات قَالَ لسفيان إنهم يروون عَنِ الربيع بْن خثيم أنه صعق قَالَ ومن يروي هَذَا إنما كان يرويه ذاك القاص يعني عِيسَى بْن سليم فلقيته فقلت عمن تروي أنت ذا منكرا عَلَيْهِ. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت فهذا سفيان الثوري ينكر أن يكون الربيع ابْن خثيم جرى لَهُ هَذَا لأن الرَّجُل كان عَلَى السمت الأَوَّل وما كان فِي الصحابة من يجري لَهُ مثل هَذَا ولا التابعين ثم نقول عَلَى تقدير الصحة أن الإنسان قد يخشى عَلَيْهِ من الخوف فيسكنه الخوف ويسكته فيبقى كالميت وعلامة الصادق أنه لو كان عَلَى حائط لوقع لأنه غائب فأما من يدعي الوجد ويتحفظ من أن تزل قدمه ثم يتعدى إِلَى تخريق الثياب وفعل المنكرات فِي الشرع فإنا نعلم قطعا أن الشَّيْطَان يلعب به. وأَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الفتح قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن النيسابوري قَالَ سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن زكريا يَقُول سمعت أَحْمَد بْن عطاء يَقُول كان للشبلي يوم الجمعة نظرة ومن بعدها صيحة فصاح يوما صيحة تشوش من حوله من الخلق وكان بجنب حلقته حلقة أبي عمران الأشيب فحرد أَبُو عمران وأهل حلقته. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: واعلم وفقك اللَّه أن قلوب الصحابة كانت أصفى القلوب وما كانوا يزيدون عند الوجد عَلَى البكاء والخشوع فجرى من بعض غرائبهم نحو مَا أنكرناه فبالغ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الإنكار عَلَيْهِ فأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ قَالَ أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن خلف قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ وأنبأنا ابْنُ الحصين قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيّ بْن المذهب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حفص بْن شاهين قَالَ حَدَّثَنَا عثمان بْن أَحْمَدَ بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الحميد الجعفي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ المتعال بْن طالب قَالَ
حَدَّثَنَا يوسف بْن عطية عَنْ ثابت عَنْ أنس قَالَ وعظ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فَإِذَا رجل قد صعق فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ ذَا الْمُلْبِسُ عَلَيْنَا دِينَنَا إِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ شَهَرَ نَفْسَهَ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَمَحَقَهُ اللَّهُ" قَالَ ابْن شاهين وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن سليمان بن الأشعت قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن يوسف الجبيري قَالَ حَدَّثَنَا روح بْن عطاء بْن أبي ميمون عَنْ أبيه عَنْ أنس بْن مالك قَالَ ذكر عنده هؤلاء الذين يصعقون عند القراءة فَقَالَ أنس لقد رأيتنا ووعظنا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم حتى سمعنا للقوم حنينا حين أخذتم الموعظة وما سقط منهم أحد. قال المصنف رحمه الله: وهذا حديث العرياض بْن سارية وعظنا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القلوب قَالَ أَبُو بَكْر الآجري ولم يقل صرخنا ولا ضربنا صدورنا كَمَا يفعل كثير من الجهال الذين يتلاعب بهم الشَّيْطَان أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو ياسر أَحْمَد بْن بندار بْن إِبْرَاهِيم قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر بْن بكير النجار قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن حَمْدَان قَالَ أَخْبَرَنَا إبراهيم بْن عَبْدِ اللَّهِ البصري قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر حفص بْن عَبْدِ اللَّهِ الضرير قَالَ أَخْبَرَنَا خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ الواسطي قَالَ حَدَّثَنَا حصين بْن عَبْدِ الرَّحْمَن قَالَ قلت لأسماء بنت أبي بَكْر كيف كان أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله عند قراءة القرآن قالت كَانُوا كَمَا ذَكَرَهُمُ اللَّهُ أَوْ كَمَا وَصَفَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ تَدْمَعُ عُيُونُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ ههنا رجالا إذا قرىء عَلَى أَحْدِهِمُ الْقُرْآنُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاللِّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا جَعْفَر بْن مُحَمَّد السراج نا الْحَسَن بْن عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ بْن حنبل ثنا الوليد بْن شجاع ثنا إسحاق الحلبي ثنا فرات عَنْ عَبْدِ الكريم عَنْ عِكْرِمَة قَالَ سَأَلْتُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ هَلْ كَانَ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ قَالَتْ لا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يبكون. أَخْبَرَنَا بْن ناصر نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا الْحَسَن بْن عَلِيٍّ التميمي وأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أَحْمَدَ نا حمد بْن أَحْمَدَ الحداد نا أَبُو نعيم الْحَافِظ قالا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثنا سريح بْن يُونُس ثنا سَعِيد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الجمحي عَنْ أبي حازم قَالَ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجُلٍ سَاقِطٍ مِنَ الْعِرِاقِ فَقَالَ مَا شأنه فقالوا إذا قرىء عَلَيْهِ الْقُرْآنَ يُصِيبُهُ هَذَا قَالَ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا نَسْقُطُ.
أَخْبَرَنَا سَعِيد بْن أَحْمَدَ بْن البنا نا أَبُو سَعْد مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ الرستمي نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران ثنا إسماعيل بْن مُحَمَّد الصفار ثنا سعدان بْن نصر ثنا سفيان ابْن عيينه عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن أبي بردة عَنِ ابْنِ عَبَّاس أنه ذكر الخوارج وما يلقون عند تلاوة القرآن فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمْ مُضِلُّونَ. أنبأنا ابْن الحصين نا أَبُو عَلِيّ بْن المذهب نا أَبُو حفص بْن شاهين ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر بْن عَبْدِ الرزاق نا إبراهيم بْن فهد عَنْ إبراهيم بْن الحجاج الشامي ثنا شبيب بْن مهران عَنْ قتادة قَالَ قيل لأنس بْن مالك إِنَّ نَاسًا إذا قرىء عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ يُصْعَقُونَ فَقَالَ ذَاكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي الْحُسَيْن بْن يوسف نا عُمَر بْن عَلِيّ بْن الفتح نا أَحْمَد بْن مُحَمَّد الكاتب ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن المغيرة ثنا أَحْمَد بْن سَعِيد الدمشقي قَالَ بلغ عَبْد اللَّهِ بْن الزبير أن ابنه عامرا صَحِبَ قَوْمًا يَتَصَعَّقُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُ يَا عَامِرُ لأَعْرِفَنَّ مَا صَحِبْتَ الَّذيْنِ يَصَّعَّقُونَ عِنْدَ الْقُرْآنِ لأُوسِعَكَ جَلْدًا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أَحْمَدَ نا حمد بْن أَحْمَدَ الحداد نا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ ثنا سُلَيْمَان بْن أَحْمَدَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ العباس ثنا الزبير بْن بكارثني عَبْد اللَّهِ بْن مصعب بْن ثابت عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير قَالَ ثني أبي عَنْ عامر بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير قَالَ جئت إِلَى أبي فَقَالَ لي أين كنت فقلت وجدت أقواما مَا رأيت خيرا منهم يذكرون اللَّه عز وجل فيرعد أحدهم حتى يخشى عَلَيْهِ من خشية اللَّه عز وجل فقعدت معهم قَالَ لا تقعد معهم بعدها فرآني كأني لم يأخذ ذلك فِي فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ وَلا يُصِيبُهُمْ هَذَا أفتراهم أخشع الله مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرَكْتُهُمْ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الْحَافِظ نا مُحَمَّد بْن أحمد فِي كتابه ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أيوب ثنا حفص بْن عُمَر النميري ثنا حماد بْن زيد ثنا عمرو بْن مالك قَالَ بينا نحن عند أبي الجوزاء يحَدَّثَنَا إذا خر رجل فاضطرب فوثب أَبُو الجوزاء يسعى قبله فَقِيلَ لَهُ يا أبا الجوزاء انه رجل به الموتة فَقَالَ إنما كنت أراه من هؤلاء القفازين ولو كان منهم لأمرت به فأخرج من المسجد إنما ذكرهم اللَّه تعالى فَقَالَ: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} أَوْ قَالَ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ} . أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ المقري نا أحمد بْن بندار بْن إبراهيم نا مُحَمَّد بْن عُمَر بْن بكير
النجار نا أحمد بْن جَعْفَر بْن حَمْدَان ثنا إبراهيم بْن عَبْدِ اللَّهِ البصري ثنا أَبُو عُمَر حفص بْن عُمَر الضرير نا حماد بْن زيدني عُمَر بْن مالك البكري قَالَ قرأ قارىء عند أبي الجوزاء قَالَ فصاح رجل من أخريات القوم أَوْ قَالَ من القوم فقام إليه أَبُو الجوزاء فَقِيلَ لَهُ يا أبا الجوزاء انه رجل به شيء فَقَالَ طبيب انه من هؤلاء النفارين فلو كان منهم لوضعت رجلي عَلَى عنقه وقال أَبُو عُمَر أَخْبَرَنَا جرير بْن حازم انه شهد مُحَمَّد بْن سيرين وقيل لَهُ أن ههنا رجالا إذا قرىء عَلَى أَحْدِهِمُ الْقُرْآنُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَقَالَ مُحَمَّد بْن سيرين يقعد أحدهم عَلَى جدار ثم يقرأ عَلَيْهِ القرآن1 من أوله إِلَى آخره فَإِن وقع فهو صَادِق قَالَ أَبُو عمرو وكان مُحَمَّد بْن سيرين يذهب إِلَى أن تصنع وليس بحق من قلوبهم. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي ثنا حمد بْن أحمد نا أَبُو نعيم الْحَافِظ ثنا أَبُو مُحَمَّد بْن حبان ثنا مُحَمَّدُ بْنُ العباس ثنا زِيَاد عَنْ يَحْيَى عَنْ عمران بْن عَبْدِ الْعَزِيز قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن سيرين وسئل عَنْ من يستمع القرآن فيصعق فَقَالَ ميعاد مَا بيننا وبينهم أن يجلسوا عَلَى حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إِلَى آخره فَإِن سقطوا فهم كَمَا يقولون. أَخْبَرَنَا ابْن ناصر نا أَبُو طاهر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي الْحُسَيْن بْن يوسف نا مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ العشاري نا مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الدقاق نا الْحُسَيْن بْن صَفْوَانَ ثنا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ عَنْ ابراهيم بن الأشعت قَالَ سمعت أبا عصام الرمل عَنْ رجل عَنْ الْحَسَن أنه وعظ يوما فتنفس رجل فِي مجلسه فَقَالَ الْحَسَن إن كان لله تعالى شهرت نفسك وإن كان لغير اللَّه فقد هلكت. أَخْبَرَنَا بْن ناصر نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا الْحَسَن بْن عَلِيّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ ثني أبي ثنا روح ثنا السري بْن يَحْيَى ثنا عَبْدُ الكريم بْن رشيد قَالَ كنت فِي حلقة الْحَسَن فجعل رجل يبكي وارتفع صوته فَقَالَ الْحَسَن إن الشَّيْطَان ليبكي هَذَا الآن. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَبُو غالب عُمَر بْن الْحُسَيْن الباقلاني نا أَبُو العلاء الواسطي نا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الأزدي ثنا إبراهيم بْن رحمون ثنا اسحق بْن إبراهيم البغدادي قَالَ سمعت أبا
صفوان يَقُول قَالَ الفضيل بْن عياض لأبنه وَقَدْ سقط يا بني إن كنت صادقا لقد فضحت نفسك وإن كنت كاذبا فقد أهلكت نفسك. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حبيب نا أَبُو سَعْد بْن أبي صَادِق نا ابْنُ باكويه ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أحمد النجار ثنا المرتعش قَالَ رأيت أبا عثمان سَعِيد بْن عثمان الواعظ وَقَدْ تواجد إنسان بين يديه فَقَالَ لَهُ يا بني إن كنت صادقا فقد أظهرت كل مالك وإن كنت كاذبا فقد أشركت بالله. فصل قال المصنف رحمه اللَّه: فَإِن قَالَ قائل إنما يفرض الكلام فِي الصادقين لا فِي أهل الرياء فما تقول فمن أدركه الوجد ولم يقدر عَلَى دفعه فالجواب إن أول الوجد انزعاج فِي الباطن فَإِن كف الإنسان نفسه كيلا يطلع عَلَى حاله يئس الشَّيْطَان مِنْهُ فبعد عنه كَمَا كان أيوب السختياني إذا تحدث فرق قلبه مسح أنفه وقال مَا أشد الزكام وان أهمل الإنسان ولم يبال بظهور وجده أَوْ أحب إطلاع الناس عَلَى نفسه نفخ فيه الشَّيْطَان فانزعج عَلَى قدر نفخه كما أَخْبَرَنَا هِبَة اللَّهِ بْن مُحَمَّدٍ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ نا أَحْمَد بْن جَعْفَر ثنا عَبْد اللَّهِ ثني أبي ثنا أَبُو مُعَاوِيَة ثنا الأَعْمَشُ عَنْ عمرو بْن مرة عَنْ يَحْيَى بْن الخراز عَنِ ابْن أخي زينب عَنْ امرأة عَبْد اللَّهِ قالت جاء عَبْد اللَّهِ ذات يوم وعندي عجوز ترقيني من الحموة فأدخلتها تحت السرير قالت فدخل فجلس إِلَى جنبي فرأى فِي عنقي خيطا فَقَالَ مَا هَذَا الخيط قلت خيط رقي لي فيه رقية فأخذه وقطعه ثم قَالَ إن آل عَبْد اللَّهِ لأغنياء عَنِ الشرك سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِنَّ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ وَالتَّوَلَّةِ شِرْكًا قَالَتْ فَقُلْتُ لَهُ لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلانٍ الْيَهُودِيُّ يَرْقِيهَا فَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ قَالَ إِنَّمَا ذَاكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَيْتُهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تولي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا. قال المصنف رحمه اللَّه: التولة ضرب من السحر يحبب المرأة إِلَى زوجها أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أَحْمَدَ نا الْحَسَن بْن عَبْدِ الملك بْن يوسف نا أَبُو مُحَمَّد الخلال ثنا أَبُو عُمَر بْن حياة ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي داود ثنا هارون بْن زيد عَنْ أبي الزرقاء ثنا أبي قَالَ ثنا سفيان عَنْ عِكْرِمَة بْن عمار عَنْ شعيب بْن أبي السني عَنْ أبي عِيسَى أَوْ عِيسَى قَالَ ذهبت إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر فَقَالَ أَبُو السوار يا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ إن قوما عندنا إذا قرىء عليهم القرآن يركض أحدهم من خشية
اللَّه قَالَ كذبت قَالَ بلى ورب هذه البنية قَالَ ويحك إن كنت صادقا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ليدخل جوف أحدهم وَاللَّه مَا هكذا كان أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصل: فإن قَالَ قائل فنفرض أن الكلام فيمن اجتهد فِي دفع الوجد فلم يقدر عَلَيْهِ وغلبه الأمر فمن أين يدخل الشَّيْطَان فالجواب إنا لا ننكر ضعف بعض الطباع عَنِ الدفع إلا أن علامة الصادق أنه لا يقدر عَلَى أن يدفع ولا يدري مَا يجري عَلَيْهِ فهو من جنس قوله عز وجل: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} . وقد أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا حمد بْن أحمد نا أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ ثنا إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ ثنا محمد بن إسحق الثقفي ثني حاتم بْن الليث الْجَوْهَرِيّ ثنا خالد بْن خداش قال قرىء عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن وهب كتاب أهوال القيامة فخر مغشيا عَلَيْهِ فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد ذلك بأيام. قال المصنف رحمه اللَّه: قلت وَقَدْ مات خلق كثير من سماع الموعظة وغشي عليهم قلنا هَذَا التواجد الذي يتضمن حركات المتواجدين وقوة صياحهم وتخبطهم فظاهره أنه متعمل وَالشَّيْطَان معين عَلَيْهِ. قَالَ المصنف رحمه اللَّه فَإِن قيل فهل فِي حق المخلص نقص بهذه الحالة الطارئة عَلَيْهِ قيل نعم من جهتين أحدهما أنه لو قوى العلم أمسك والثاني أنه قد خولف به طريق الصحابة والتابعين ويكفي هَذَا نقصا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيٍّ المقري نا هِبَة اللَّهِ بْن عَبْدِ الرزاق السني وأَخْبَرَنَا سَعِيد بْن أَحْمَدَ بْن البنا نا أَبُو سَعْد مُحَمَّد بْن عَلِيٍّ ارستمي قالا نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران نا أَبُو علي إسماعيل بْن مُحَمَّد الصفار ثنا سعدان بْن نصر ثنا سفيان بْن عيينة قَالَ سمعت خلف بْن حوشب يَقُول كان خوات يرعد عند الذكر فَقَالَ لَهُ إبراهيم إن كنت تملكه فلا أبالي أن لا أعتد بك وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك وفي رواية فقد خالفت من هو خير منك. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: إِبْرَاهِيم هو النخعي الفقيه وكان متمسكا بالسنة شديد الاتباع للأثر وَقَدْ كان خوات من الصالحين البعداء عَنِ التصنع وهذا خطاب إبراهيم لَهُ فكيف بمن لا يخفي حاله فِي التصنع.
فصل: فإذا طرب أهل التصوف صفقوا فَإِذَا طرب أهل التصوف لسماع الغناء صفقوا أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي نا رزق اللَّه بْن عَبْدِ الْوَهَّاب التميمي نا أَبُو عَبْدُ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت أبا سُلَيْمَان المغربي يَقُول سمعت أبا عَلِيّ بْن الكاتب يَقُول كان ابْن بنان يتواجد وكان أَبُو سَعِيد الخراز يصفق لَهُ. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عَنِ الاعتدال وتتنزه عَنْ مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية وهي التي ذمهم اللَّه عز وجل بِهَا فَقَالَ: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب الْحَافِظ نا أَبُو الفضل بْن حيرون نا أَبُو عَلِيّ بْن شاذان نا أحمد بْن كامل ثنى مُحَمَّد بْن سَعْد ثنى أبي ثني عمى عَنْ أبيه عَنْ جده عَنْ ابْنِ عَبَّاس الإِمْكَاءُ يَعْنِي التَّصْفِيرَ وَتَصْدِيَةً يَقُولُ التَّصْفِيقَ. قال المصنف رحمه اللَّه قلت وفيه أيضا تشبه بالنساء والعاقل يأنف من أن يخرج عَنِ الوقار إِلَى أفعال الكفار والنسوة. فصل فإذا قوي طربهم رقصوا فَإِذَا قوي طربهم رقصوا وَقَدِ احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} . قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وهذا الاحتجاج بارد لأنه لو كان أمر بضرب الرَّجُل فرحا كان لهم فيه شبهة وإنما أمر بضرب الرَّجُل لينبع الماء قَالَ ابْن عقيل أين الدلالة فِي مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأَرْض لينبع الماء إعجازا من الرقص ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة عَلَى جواز الرقص فِي الإسلام جاز أن يجعل قوله تعالى لموسى اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ دلالة عَلَى ضرب الجماد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع واحتج بعض ناصريهم بأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلي أنت مني وأنا منك فحجل وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي فحجل وقال لزيد أنت أخونا ومولانا فحجل ومنهم من احتج بأن الحبشة زفنت والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر اليهم فالجواب أما الحجل فهو نوع من المشي يفعل عند الفرح فأين هو من الرقص وكذلك زفن الحبشة نوع من المشي بتشبيب يفعل عند اللقاء بالحرب. واحتج لهم أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي عَلَى جواز الرقص بما أَخْبَرَنَا به أَبُو نصر مُحَمَّد بْن منصور الهمداني نا إسماعيل بْن أحمد بْن عَبْدِ الملك المؤذن نا أَبُو صالح أحمد بْن عَبْدِ الملك وأبو
سَعِيد مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْعَزِيز وأبو محمد عبد الحميد بن عبد الرحمن قالوا ثنا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي ثنا أَبُو العباس أحمد بْن سَعِيد المعداني ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيد المروزي ثنا عَبَّاس الرقيقي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن عُمَر الوراق ثنا الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن منصور ثنا أَبُو عتاب المصري عَنْ إبراهيم بْن مُحَمَّد الشافعي أن سَعِيد بْن المسيب مر فِي بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى فِي دار العاص بْن وائل بهذا: تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب فِي نسوة عطرات فلما رأت ركب النميري أعرضت ... وهن من أن يلقينه حذرات قَالَ فضرب برجله الأَرْض زمانا وقال هَذَا مما يلذ سماعه وكانوا يروون الشعر لسعيد بْن المسيب. قال المصنف قلت: هَذَا إسناده مقطوع مظلم لا يصح عَنِ ابْن المسيب ولا هَذَا شعره كان ابْن المسيب أوقر من هَذَا وهذه الأبيات مشهورة لمحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نمير النميري الشاعر ولم يكن نمريا وإنما نسب إِلَى اسم جده وَهُوَ ثقفي وزينب التي يشبب بِهَا هي ابنة يوسف أخت الحجاج وسأله عَبْد الملك بْن مروان عَنِ الركب مَا كان فَقَالَ كانت أحمرة عجافا حملت عليها قطرانا من الطائف فضحك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: ثم لو قدرنا أن ابْن المسيب ضرب برجله الأَرْض فليس فِي ذلك حجة عَلَى جواز الرقص فَإِن الإنسان قد يضرب الأَرْض برجله أَوْ يدقها بيده لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصا فما أقبح هَذَا التعلق وأين ضرب الأَرْض بالقدم مرة أَوْ مرتين من رقصهم الذي يخرجون به عَنْ سمت العقلاء ثم دعونا من الاحتجاج تعالوا نتقاضى إِلَى العقول أي معنى فِي الرقص إلا اللعب الذي يليق بالأطفال وما الذي فيه من تحريك القلوب إِلَى الآخرة هذه وَاللَّه مكبر باردة ولقد حَدَّثَنِي بعض المشايخ عَنِ الغزالي أنه قَالَ الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالتعب وقال أَبُو الوفاء بْن عقيل قد نص القرآن علىالنهي عَنِ الرقص فَقَالَ عز وجل {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} وذم المختال فَقَالَ اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} والرقص أشد المرح والبطر أَوْ لسنا الذين قسنا النبيذ عَلَى الخمر لاتفاقهما فِي الإطراب والسكر فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه عَلَى الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما فِي الإطراب وهل شيء يزري بالعقل والوقار ويخرج عَنْ سمت الحلم والأدب أقبح من ذي لحية يرقص فكيف إذا كانت شيبة ترقص وتصفق عَلَى وقاع الألحان والقضبان خصوصا إذا كانت
أصوات نسوان ومردان وهل يحسن بمن بين يديه الموت السؤال والحشر والصراط ثم هو إِلَى إحدى الدارين صائران يشمس بالرقص شمس البهائم ويصفق تصفيق النسوة وَاللَّه لقد رأيت مشايخ فِي عصري مَا بان لهم سن فِي تبسم فضلا عَنْ ضحك مَعَ إدمان مخالطتي لهم كالشيخ أبي القاسم بْن زيدان وعبد الملك بْن بشران وأبي طاهر بن العلاف والجنيد والدينوري. فصل: فَإِذَا تمكن الطرب من الصوفية فِي رحال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه ولا يجوز عَلَى مذهبهم للمجذوب أن يقعد فَإِذَا قَامَ قام الباقون تبعا لَهُ فَإِذَا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة لَهُ ولا يخفى عَلَى عاقل أن كشف الرأس مستقبح وفيه إسقاط مروءة وترك أدب وإنما يقع فِي المناسك تعبدا لله وذلا لَهُ. فصل: فإذا اشتد طربهم رموا ثيابهم عَلَى المغني فمنهم من يرمي بِهَا صحاحا ومنهم من يخرقها ثم يرمي بِهَا وَقَدِ احتج لهم بعض الجهال فَقَالَ هؤلاء فِي غيبة فلان يلامون فَإِن مُوسَى عَلَيْهِ السلام لما غلب عَلَيْهِ الغم بعبادة قومه العجل رمى الألواح فكسرها ولم يدر مَا صنع والجواب أن نقول من يصحح عَنْ مُوسَى بأنه رماها رمي الكاسر والذي ذكر فِي القرآن إلقاءها فحسب فمن أين لنا أنها تكسرت ثم لو قيل تكسرت فمن أين لنا انه قصد كسرها ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان فِي غيبة حتى لو كان بين يديه حينئذ بحر من نار لخاضه ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغني من غيره ويحذرون من بئر إن كانت عندهم ثم كيف يقاس أحوال الأنبياء عَلَى أحوال هؤلاء السفهاء ولقد رأيت شابا من الصوفية يمشي فِي الأسواق ويصيح والغلمان يمشون خلفه وَهُوَ يبربر ويخرج إِلَى الجمعة فيصيح صيحات وَهُوَ يصلي الجمعة فسئلت عَنْ صلاته فقلت إن كان وقت صياحه غائبا فقد بطل وضوءه وإن كان حاضرا فهو متصنع وكان هَذَا الرَّجُل جلدا لا يعمل شيئا بل يدار لَهُ بزنبيل فِي كل يوم فيجمع لَهُ مَا يأكل هو وأصحابه فهذه حالة المتأكلين لا المتوكلين ثم لو قدرنا أن القوم يصيحون عَنْ غيبة فَإِن تعرضهم لما يغطي عَلَى العقول من سماع مَا يطرب منهي عنه كالتعرض لكل مَا غلبه الأذى وَقَدْ سئل ابْن عقيل عَنْ تواجدهم وتخريق ثيابهم فَقَالَ خطأ وحرام وقد نهى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضاعة المال وعن شق الجيوب فَقَالَ لَهُ قائل فإنهم لا يعقلون مَا يفعلون قَالَ إن حضروا هذه الأمكنة مَعَ علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما يدخل عليهم من التخريق وغيره مما يفسد ولا يسقط عنهم خطاب الشرع لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذه المواضع التي تفضي إِلَى ذلك كَمَا هم منهيون عَنْ شرب المسكر فَإِذَا سكروا وجرى منهم إفساد الأموال لم يسقط الخطاب
لسكرهم كذلك هَذَا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا فيه فسكر طبع وإن كذبوا فنبيذ ومع الصحو فلا سلامة فيه مَعَ الحالين وتجنب مواضع الريب واجب واحتج لهم ابْن طاهر فِي تريفهم الثياب بحديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت نصبت حجلة لي فيها رقم فمدها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشقها. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: فانظر إِلَى فقه هَذَا الرَّجُل المسكين كيف يقيس حال من يمزق ثيابه فيفسدها وقد نهى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضاعة المال عَلَى مد ستر ليحط فانشق لا عَنْ قصد أَوْ كان عَنْ قصد لأجل الصور التي كانت فيه وهذا من التشديد فِي حق الشارع عَنِ المنهيات كَمَا أمر بكسر الدنان فِي الخمور فَإِن ادعى مخرق ثيابه أنه غائب قلنا الشَّيْطَان غيبك لأنك لو كنت مَعَ الحق لحفظك فَإِن الحق لا يفسد. وَقَدْ أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا حمد بْن أحمد نا أَبُو نعيم الحاف ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ بْن حشيش ثنا عَبْد اللَّهِ بْن الصقر ثنا الصلت بْن مسعود ثنا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان قَالَ سمعت أبا عمران الجوني يَقُول وعظ مُوسَى بْن عمران عَلَيْهِ السلام يوما فشق رجل منهم قميصه فأوحى اللَّه عز وجل لموسى قل لصاحب القميص لا يشق قميصه أيشرح لي عَنْ قلبه. فصل وقد تكلم مشايخ الصوفية فِي الخرق المرمية فَقَالَ مُحَمَّد بْن طاهر الدليل عَلَى أن الخرقة إذا طرحت صارت ملكا لمن طرحت بسببه حديث جرير جاء قوم مجتابي النمار فحض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصدقة فجاء رجل من الأنصار بصرة فتتابع الناس حتى رأيت كومتين من ثياب وطعام قَالَ والدليل عَلَى أن الْجَمَاعَة إذا قدموا عند تفريق الخرقة أسهم لهم حديث أبي مُوسَى قدم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغنيمة وسلب فأسهم لنا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: لقد تلاعب هَذَا الرَّجُل بالشريعة واستخرج بسوء فهمه مَا يظنه يوافق مذهب المتأخرين من الصوفية فَإِذَا مَا عرفنا هَذَا فِي أوائلهم وبيان فساد استخراجه أن هَذَا الذي خرق الثوب ورمى به إن كان حاضرا فما جاز لَهُ تخريقه وإن كان غائبا فليس لَهُ تصرف جائز شرعا لا هِبَة ولا تمليكا وكذلك يزعمون بأن ثوبه كان كالشيء الذي يقع من الإنسان ولا يدري به فلا يجوز لأحد أن يتملكه وإن كان رماه فِي حال حضوره لا عَلَى أحد فلا وجه لتملكه ولو رماه عَلَى المغني لم يتملكه لأن التملك يكون إلا بعقد شرعي والرمي ليس بعقد ثم نقدر أنه ملك للمغني فما وجه تصرف الباقين فيه ثم إذا انصرفوا فيه خرقوه خرقا وذلك لا يجوز لوجهين:
أحدهما انه تصرف فيما لا يملكونه والثاني أنه إضاعة للمال ثم مَا وجه أسهام من لم يحضر فأما حديث أبي مُوسَى فَقَالَ العلماء منهم الخطابي يحتمل أن يكون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجازه عن رضى ممن شهد الواقعة أَوْ من الخمس الذي هو حقه وعلى مذهب الصوفية تعطى هذه الخرقة لمن جاء وهذا مذهب خارج عَنْ إجماع المسلمين وما أشبه مَا وضع هؤلاء بآرائهم الفاسدة إلا بما وضعت الجاهلية من أحكام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قَالَ ابْن طاهر أجمع مشايخنا عَلَى أن الخرقة المخرقة وما انبعث من الخرق الصحاح الموافقة لها إن ذلك كله يكون بحكم الجمع يفعلون فيه مَا يراه المشايخ واحتجوا بقول عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه الغنيمة لمن شهد الواقعة وخالفهم شيخنا أَبُو إِسْمَاعِيل الأنصاري فجعل الخرقة عَلَى ضربين مَا كان مجروحا قسم عَلَى الجميع وما كان سليما دفع إِلَى القوال واحتج بحديث سلمة من قتل الرَّجُل قالوا سلمة بْن الأكوع قَالَ لَهُ سلبه أجمع فاقتل إنما وجد من جهة القوال فالسلب لَهُ. قَالَ المصنف رحمه: اللَّه أنظروا إخواني عصمنا اللَّه وإياكم من تلبيس إبليس إِلَى تلاعب هؤلاء الجهلة بالشريعة وإجماع مشايخهم الذي لا يساوي إجماعهم بعرة فَإِن مشايخ الفقهاء أجمعوا عَلَى أن الموهوب لمن وهب لَهُ سواء كان مخرقا أَوْ سليما ولا يجوز لغيره التصرف فيه ثم إن سلب القتيل كل مَا عَلَيْهِ فما بالهم جعلوه مَا رمي به ثم ينبغي أن يكون الأمر عَلَى عكس مَا قاله الأنصاري لأن المجروح من الثياب مَا كان بسبب الوجد فينبغي أن يكون المجروح المغني دون الصحيح وكل أقوالهم فِي هَذَا محال وهذيان وقد حكى لي أَبُو عَبْد اللَّهِ التكريتي الصوفي عَنْ أبي الفتوح الاسفرايني وكنت أنا قد رأيته وأنا صغير السن وَقَدْ حضر فِي جمع كثير فِي رباط وهناك المخاد والقضبان ودف بجلاجل فقام يرقص حتى وقعت عمامته فبقي مكشوف الرأس قَالَ التكريتي إِنَّهُ رقص يوما فِي خف لَهُ ثم ذكر أن الرقص فِي الخف خطأ عند القوم فانفرد وخلعه ثم نزع مطرفا كان عَلَيْهِ فوضعه بين أيديهم كفارة لتلك الجناية فاقتسموه خرقا قال ابْن طاهر والدليل عَلَى أن الذي يطرح الخرقة لا يجوز أن يشتريها من الجمع حديث عمر "لا تعودن فِي صدقتك" قَالَ المصنف أنظر إلي بعد هَذَا الرَّجُل عَنْ فهم معاني الأحاديث فَإِن الخرقة المطروحة باقية عَلَى ملك صاحبها فلا يحتاج إِلَى أن يشتريها. فصل: وأما تقطيعهم الثياب المطروحة خرقا وتفريقها فقد بينا أنه إن كان صاحب الثوب رماه إِلَى المغني لم يملكه بنفس الرمي حتى يملكه إياه فَإِذَا ملكه إياه فما وجه تصرف الغير فيه ولقد شهدت بعض فقهائهم يخرق الثياب ويقسمها ويقول هذه الخرق ينتفع بِهَا وليس هَذَا
بتفريط فقلت وهل التفريط إلا هَذَا ورأيت شيخا آخر منهم يَقُول خرقت خرقا فِي بلدنا فأصاب رجل منها خريقة فعملها كفنا فباعه بخمسة دنانير فقلت لَهُ إن الشرع لا يحيز هذه الرعونات لمثل هذه النوادر وأعجب من هذين الرجلين أَبُو حامد الطوسي فإنه قَالَ يباح لهم تمزيق الثياب إذا خرقت قطعا مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات فَإِن الثوب يمزق حتى يخاط مِنْهُ قميص ولا يكون ذلك تضييعا ولقد عجبت من هَذَا الرَّجُل كيف سلبه حب مذهب التصوف عَنْ أصول الفقه ومذهب الشافعي فنظر إِلَى انتفاع خاص ثم مَا معنى قوله مربعة فَإِن المطاولة ينتفع بِهَا أيضا ثم لو مزق الثوب قرامل1 لانتفع بِهَا ولو كسر السيف نصفين لانتفع بالنصف غير أنالشرع يتلمح الفوائد العامة ويسمي مَا نقص منه للانتفاع إتلافا ولهذ ينهي عَنْ كسر الدرهم الصحيح لأنه يذهب مِنْهُ قيمه بالإضافة إِلَى المكسور وليس العجب من تلبيس إبليس عَلَى الجهال منهم بل عَلَى الفقهاء الذين اختاروا بدع الصوفية عَلَى حكم أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضوان اللَّه عليهم أجمعين. فصل: ولقد أغربوا فيما ابتدعوا وأقام لهم الأعذار من إِلَى هواهم مال ولقد ذكر مُحَمَّد بْن طاهر فِي كتابه باب السنة فِي أخذ شيء من المستغفر واحتج بحديث كعب بْن مالك فِي توبته يجزئك الثلث ثم قَالَ باب الدليل عَلَى أن من وجبت عَلَيْهِ غرامة فلم يؤدها ألزموه أكثر منها واستدل بحديث مُعَاوِيَة بْن جعدة عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الزكاة: "من منعها فأنا آخذها وشطر ماله". قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت: فانظر إِلَى تلاعب هؤلاء وجهل هَذَا المحتج لهم وتسمية مَا يلزم بعضهم بما لا يلزمه غرامة وتسمية ذلك واجبا وليس لنا غرامة ولا وجوب إلا بالشرع ومتى اعتقد الإنسان مَا ليس بواجب واجبا كفر ومن مذهبهم الرؤوس عند الاستغفار وهذه بدعة تسقط المروءة وتنافي الوقار ولولا ورود الشرع بكشفه فِي الإحرام مَا كان لَهُ وجه وأما حديث كعب بْن مالك فإنه قَالَ إن من توبتي أن انخلع من مالي فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يجزئك الثلث" لا عَلَى سبيل الإلزام لَهُ وإنما تبرع بذلك فأخذه مِنْهُ وأين إلزام الشرع تارك الزكاة فما يَزِيد عليها عقوبة من إلزامهم المريد غرامة لا تجب عَلَيْهِ فَإِذَا امتنع ضاعفوها وليس إليهم
الإلزام إنما ينفرد بالإلزام الشرع وحده وهذا كله جهل وتلاعب بالشريعة فهؤلاء الخوارج عليها حقا.
ذكر تلبيس إبليس على كثير من الصوفية في صحبة الأحداث
ذكر تلبيس إبليس عَلَى كثير من الصوفية فِي صحبة الأحداث. قال المصنف: اعلم أن أكثر الصوفية المتصوفة قد سدوا عَلَى أنفسهم باب النظر إِلَى النساء الأجانب لبعدهم عَنْ مصاحبتهن وامتناعهم عَنْ مخالطتهن واشتغلوا بالتعبد عَنِ النكاح واتفقت صحبة الأحداث لهم عَلَى وجه الإرادة وقصد الزهادة فأمالهم إبليس إليهم واعلم أن الصوفية فِي صحبة الأحداث عَلَى سبعة أقسام القسم الأَوَّل أخبث القوم وهم ناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الباقي بْن أحمد بْن سُلَيْمَان نا أَبُو علي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن الفضل الكرماني نا سَهْل بْن عَلِيٍّ الخشاب نا أَبُو نصر عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيٍّ السراج قَالَ بلغني أن جماعة من الحلولية زعموا أن الحق تعالى اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية ومنهم من قَالَ هو حال فِي المستحسنات وذكر أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن حامد من أصحابنا أن طائفة من الصوفية قالوا أنهم يرون اللَّه عز وجل فِي الدنيا وأجازوا أن يكون فِي صفة الآدمي ولم يأبوا كونه حالا فِي الصورة الحسنة حتى استشهدوه فِي رؤيتهم الغلام الأسود القسم الثاني قوم يتشبهون بالصوفية فِي ملبسهم ويقصدون الفسق القسم الثالث قوم يستبيحون النظر إِلَى المستحسن وَقَدْ صنف أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي كتابا سماه سنن الصوفية فَقَالَ فِي أواخر الْكِتَاب باب فِي جوامع رخصهم فذكر فيه الرقص والغناء والنظر إِلَى الوجه الْحَسَن وذكر فيه مَا روى عَنِ النبي عَلَيْهِ السلام أنه قَالَ اطْلُبُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ قَالَ ثَلاثَةٌ تَجْلُو الْبَصَرَ النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَاءِ وَالنَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ. قال المصنف رحمه اللَّه: وهذان الحديثان لا أصل لهما عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما الحديث الأَوَّل فأَخْبَرَنَا به عَبْد الأَوَّل بْن عِيسَى نا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن المظفر نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حمويه نا إبراهيم بْن خزيم ثنا عَبْد بْن حميد ثنا يَزِيد بْن هرون ثنا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن المخير عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اطْلُبُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ" قَالَ يَحْيَى بْن معين مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن ليس بشيء قَالَ المصنف قلت وَقَدْ روى هَذَا الحديث من طرق قَالَ العقيلي لا يثبت عَنِ النبي عَلَيْهِ السلام فِي هَذَا شيء وأما الحديث الآخر فأنبأنا أَبُو منصور بْن خيرون نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت بن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يعقوب نا مُحَمَّد بْن نعيم الضبي نا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن
أحمد بْن هرون نا أحمد بْن عُمَر بْن عُبَيْد الريحاني قَالَ سَمِعْتُ أبا البختري وهب بْن وهب يَقُول كنت أدخل عَلَى الرشيد وابنه القاسم بين يديه فكنت أدمن النظر إليه فَقَالَ أراك تدمن النظر إِلَى القاسم تريد أن تجعل انقطاعه إليك قلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترميني بما ليس فِي وأما إدمان النظر إليه فَإِن جعفرا الصادق ثنا عَنْ أبيه عَنْ جده عَلِيّ بْن الْحُسَيْن عَنْ أبيه عَنْ جده قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثٌ يَزِدْنَ فِي قُوَّةِ النَّظَرِ النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ. قال المصنف رحمه اللَّه: هَذَا حَدِيثٌ موضوع ولا يختلف العلماء فِي أبي البختري أنه كذاب وضاع واحمد بْن عُمَر بْن عُبَيْد أحد المجهولين ثم قد كان ينبغي لأبي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي إذ ذكر النظر إِلَى المستحسن أن يقيده بالنظر إِلَى وجه الزوجة أَوِ المملوكة فأما إطلاقه ففيه سوء ظن وقال شيخنا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ كان ابْن طاهر المقدسي قد صنف كتابا فِي جواز النظر إِلَى المراد. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت: والفقهاء يقولون من ثارت شهوته عند النظر إِلَى الأمرد حرم عَلَيْهِ أن ينظر إليه ومتى ادعى الإنسان أنه لا تثور شهوته عند النظر إِلَى الأمرد المستحسن فهو كاذب وإنما أبيح على الأطرق لئلا يقع الحرج فِي كثرة المخالطة بالمنع فَإِذَا وقع الإلحاح فِي النظر دل عَلَى العمل بمقتضى ثوران الهوى قَالَ سَعِيد بْن المسيب إذا رأيتم الرَّجُل يلح النظر إِلَى غلام أمرد فاتهموه القسم الرابع قوم يقولون نحن لا ننظر نظر شهوة وإنما ننظر نظر اعتبار فلا يضرنا النظر وهذا محال منهم فَإِن الطباع تتساوى فمن ادعى تنزه نفسه عَنْ أبناء جنسه فِي الطبع ادعى المحال وَقَدْ كشفنا هَذَا فِي أول كلامنا فِي السماع أخبرتنا شهدة بْن أَحْمَدَ الأبري قالت بإسناد مرفوع إِلَى مُحَمَّد بْن جَعْفَر الصوفي قَالَ قَالَ أَبُو حمزة الصوفي حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن الزبير الخفي قَالَ كنت جالسا مَعَ أبي النَّضْر الغنوي وكان من المبرزين العابدين فنظر إِلَى غلام جميل فلم تزل عيناه واقعتين عَلَيْهِ حتى دنا مِنْهُ فَقَالَ سألتك بالله السميع وعزة الرفيع وسلطانه المنيع ألا وقفت عَلَى أروي من النظر إليك فوقف قليلا ثم ذهب ليمضي فَقَالَ لَهُ سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد ألا وقفت فوقف ساعة فأقبل يصعد النظر إليه ويصوبه ثم ذهب ليمضي فَقَالَ سألتك بالواحد الأحد الجبار الصَّمَد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت فوقف ساعة فنظر إليه طويلا ثم ذهب ليمضي فَقَالَ سألتك باللطيف الخبير السميع البصير وبمن ليس لَهُ نظير إلا وقفت
فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق رأسه إِلَى الأَرْض ومضى الغلام فرفع رأسه بعد طويل وَهُوَ يبكي فَقَالَ قد ذكرني هَذَا بنظري إليه وجها جل عَنِ التشبيه وتقدس عَنِ التمثيل وتعاظم عَنِ التحديد وَاللَّه لأجهدن نفسي فِي بلوغ رضاه بمجاهدتي أعدائه وموالاتي لأوليائه حتى أصير إِلَى مَا أردته من نظري إِلَى وجهه الكريم وبهائه العظيم ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني فِي النار مَا دامت السموات والأرض ثم غشي عَلَيْهِ وحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الفزاري قَالَ سمعت خيرا النساج يَقُول كنت مَعَ محارب بْن حسان الصوفي فِي مسجد الخيف ونحن محرمون فجلس إلينا غلام جميل من أهل المغرب فرأيت محاربا ينظر إليه نظرا أنكرته فقلت لَهُ بعد أن قَامَ إنك محرم فِي شهر حرام فِي بلد حرام فِي مشعر حرام وَقَدْ رأيتك تنظر إِلَى هَذَا الغلام نظرا لا ينظره إلا المفتونون فَقَالَ لي تقول هَذَا يا شهواني القلب والطرف ألم تعلم أنه قد منعني من الوقوع فِي شرك إبليس ثلاث فقلت وما هي قَالَ سر الإيمان وعفة الإسلام وأعظمها الحياء من اللَّه تعالى أن يطلع علي وأنا جاثم عَلَى منكر نهاني عنه ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت أنظروا إِلَى جهل الأحمق الأَوَّل ورمزه إِلَى التشبيه وإن تلفظ بالتنزيه وإلى حماقة هَذَا الثاني الذي ظن أن المعصية هي الفاحشة فقط وما علم أن نفس النظر بشهوة يحرم ومحا عَنْ نفسه أثر الطبع بدعواه التي تكذبها شهوة النظر وقد حَدَّثَنِي بعض العلماء أن صبيا أمرد حكى لَهُ قَالَ قَالَ لي فلان الصوفي وَهُوَ يحبني يا بني لله فيك إقبال والتفات حيث جعل حاجتي إليك وحكى أن جماعة من الصوفية دخلوا عَلَى أحمد الغزالي وعنده أمرد وَهُوَ خال به وبينهما ورد وَهُوَ ينظر إِلَى الورد تارة وإلى الأمرد تارة فلما جلسوا قَالَ بعضهم لعلنا كدرنا فَقَالَ أي وَاللَّه فتصايح الْجَمَاعَة عَلَى سبيل التواجد. وحكى أَبُو الْحُسَيْن بْن يوسف أنه كتب إليه فِي رقعة إنك تحب غلامك التركي فقرأ الرقعة ثم استدعى الغلام فصعد إليه النظر فقبله بين عينيه وقال هَذَا جواب الرقعة. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت: إني لا أعجب من فعل هَذَا الرَّجُل وإلقائه جلباب الحياء عَنْ وجهه وإنما أعجب من البهائم الحاضرين كيف سكتوا عَنِ الإنكار عَلَيْهِ ولكن الشريعة بردت فِي قلوب كثير من الناس وأَخْبَرَنَا أَبُو القاسم الحريري أَنْبَأَنَا أَبُو الطيب الطَّبَرِيّ قَالَ بلغني عَنْ هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إِلَى وجه الأمرد وربما زينته بالحلى والمصبغات من الثياب والحواشي وتزعم أنها تقصد به الازدياد فِي الإيمان بالنظر والاعتبار
والاستدلال بالصنعة عَلَى الصانع وهذه النهاية فِي متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم قَالَ اللَّه تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} وقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فعدلوا عما أمرهم اللَّه به من الاعتبار إِلَى مَا نهاهم عنه وإنما تفعل هذه الطائفة مَا ذكرناه بعد تناول الألوان الطيبة والمآكل الشهية فَإِذَا استوفت منها نفوسهم طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص والاستمتاع بالنظر إِلَى وجوه المرد ولو أنهم تقللوا من الطعام لم يحنوا إِلَى سماع ونظر قَالَ أَبُو الطيب وَقَدْ أخبر بعضهم فِي شعره عَنْ أحوال المستمعين للغناء وما يجدونه حال السماع فَقَالَ: أتذكر وقتنا وَقَدِ اجتمعنا ... عَلَى طيب السماع إِلَى الصباح ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح فلم نر فيهم إلا نشاوى ... سرورا والسرور هناك صاحي إذا لبى أخو اللذات فيه ... منادى اللهو حي عَلَى الفلاح ولم نملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ ملاح قال فَإِذَا كان السماع تأثيره فِي قلوبهم مَا ذكره هَذَا القائل فكيف يجدي السماع نفعا أَوْ يفيد فائدة قَالَ ابْن عقيل قول من قَالَ لا أخاف من رؤية الصور المستحسنة ليس بشيء فَإِن الشريعة جاءت عامة الخطاب لا تميز الأشخاص وآيات القرآن تنكر هذه الدعاوى قَالَ اللَّه تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} فلم يحل النظر إلا عَلَى صور لا ميل للنفس إليها ولاحظ فيها بل عبرة لا يمازجها شهوة ولا تعتريها لذة فأما صور الشهوات فإنها تعبر عَنْ العبرة بالشهوة وكل صورة ليست بعبرة لا ينبغي أن ينظر إليها لأنها قد تكون سببا للفتنة ولذلك مَا بعث اللَّه تعالى امرأة بالرسالة ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا كل ذلك لأنها محل فتنة وشهوة وربما قطعت عما قصدته الشريعة بالنظر وكل من قَالَ أنا أجد من الصور المستحسنة عبرا كذبناه وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عَنْ طباعنا بالدعوى كذبناه وإنما هذه خدع الشَّيْطَان للمدعين القسم الخاص قوم صحبوا المردان ومنعوا أنفسهم من الفواحش يعتقدون ذلك مجاهدة وما يعلمون أن نفس صحبتهم والنظر إليهم بشهوة معصية وهذه من خلال الصوفية المذمومات وَقَدْ كان قدماؤهم عَلَى غير هَذَا وقيل كانوا عَلَى هَذَا بدليل وَهُوَ ما أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت قَالَ أنشدنا أَبُو علي الروزباري.
أنزه فِي روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى مالو أنه ... عَلَى الجبل الصلد الأصم تهدما قال المصنف رحمه اللَّه وسيأتي حديث يوسف بْن الْحُسَيْن وقوله عاهدت ربي أن لا أصحب حدثا مائة مرة ففسحنا عَلَى قوام القدود وغنج العيون أخبرتنا شهدة الكاتبة بإسناد عَنْ أبي المختار الضبي قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ قلت لأبي الكميت الأندلسي وكان جوالا فِي أرض اللَّه حَدَّثَنِي بأعجب مَا رأيت من الصوفية قَالَ صحبت رجلا منهم يقال لَهُ مهرجان وكان مجوسيا فأسلم وتصوف فرأيت معه غلاما جميلا لا يفارقه وكان إذا جاء الليل قَامَ فصلى ثم ينام إِلَى جانبة ثم يقوم فزعا فيصلي مَا قدر لَهُ ثم يعود فينام إِلَى جانبه حتى فعل ذلك مرارا فَإِذَا أسفر الصبح أَوْ كان يسفر أوتر ثم رفع يديه وقال اللهم إنك تعلم أن الليل قد مضى علي سليما لم أقترف فيه فاحشة ولا كتبت عَلَى الحفظة فيه معصية وأن الذي أضمره بقلبي لو حملته لتصدعت أَوْ كان بالأرض لتدكدكت ثم يَقُول يا ليل اشهد بما كان مني فيك فقد منعني خوف اللَّه عَنْ طلب الحرام والتعرص للآثام ثم يَقُول سيدي أنت تجمع بيننا عَلَى تقى فلا تفرق بيننا يوم تجمع فيه الأحباب فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك كل ليلة وأسمع هَذَا القول مِنْهُ فلما هممت بالانصراف من عنده قلت إذا انقضى الليل كذا وكذا فَقَالَ وسمعتني قلت نعم قَالَ فوالله يا أخي إني لأداري من قلبي مَا لو داراه سلطان من رعيته لكان اللَّه حقيقا بالمغفرة لَهُ فقلت وما الذي يدعوك إِلَى صحبة من تخاف عَلَى نفسك العنت من قبله1 وقال أَبُو مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن عَبْدِ اللَّهِ الصوفي قَالَ أَبُو حمزة الصوفي رأيت ببيت المقدس فتى من الصوفية يصحب غلاما مدة طويلة فمات الفتى وطال حزن الغلام عَلَيْهِ حتى صار جلدا وعظما من الضنا والكمد فقلت لَهُ يوما لقد طال حزنك عَلَى صديقك حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدا فَقَالَ كيف أسلو عَنْ رجل أجل اللَّه عز وجل أن يصيبه معي طرفة عين أبدا وصانني عَنْ نجاسة الفسوق فِي خلول صحبتي لَهُ وخلواتي معه فِي الليل والنهار. قال المصنف رحمه اللَّه: هؤلاء قوم رآهم إبليس لا ينجذبون معه إِلَى الفواحش فحسن لهم بداياتها فتعجلوا لذة النظر والصحبة والمحادثة وعزموا عَلَى مقاومة النفس فِي ضدها عَنْ الفاحشة فَإِن صدقوا وتم لهم ذلك فقد اشتغل القلب الذي ينبغي أن يكون شغله بالله تعالى لا يغيره.
وصرف الزمان الذي ينبغي أن يخلو فيه القلب بما ينفع به فِي الآخرة بمجاهدة الطبع فِي كفه عَنْ الفاحشة وهذا كله جهل وخروج عَنْ آداب الشرع فَإِن اللَّه عز وجل أمر بغض البصر لأنه طريق إِلَى القلب ليسلم القلب لله تعالى من شائب تخاف مِنْهُ وما مثل هؤلاء إلا كمثل من أقبل إِلَى سباع فِي غيضة متشاغلة عنه لا تراه فأثارها وحاربها وقاومها فيا بعد سلامته من جراحه إن لم يهلك. فصل: وفي هؤلاء من قويت مجاهدته مدة ثم ضعفت فدعته نفسه إِلَى الفاحشة فامتنع حينئذ من صحبة المرد أخبرتنا شهدة الكاتبة عَنْ عُمَر بْن يوسف الباقلاني قَالَ قَالَ أَبُو حمزة قلت لمحمد بْن العلاء الدمشقي وكان سيد الصوفية وَقَدْ رأيته يماشي غلاما وضيئا مدة ثم فارقه فقلت لَهُ لم هجرت ذلك الفتى الذي كنت أراه معك بعد أن كنت لَهُ مواصلا وإليه مائلا فَقَالَ وَاللَّه لقد فارقته عَنْ غير قلا ولا ملل قلت ولم فعلت ذلك قَالَ رأيت قلبي يدعوني إِلَى أمر إذا خلوت به وقرب مني لو أتيته سقطت من عين اللَّه عز وجل فهجرته لذلك تنزيها لله تعالى ولنفسي من مصارع الفتن. فصل ومنهم من تاب وأطال البكاء عَنْ إطلاق نظره أَخْبَرَنَا المحمدان بْن ناصر وابن عَبْد الباقي بإسناد عَنْ عُبَيْد اللَّه قَالَ سمعت أخي أبا عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن مُحَمَّدٍ يَقُول سمعت خيرا النساج يَقُول كنت مَعَ أمية بْن الصامت الصوفي إذ نظر إِلَى غلام فقرأ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ثم قَالَ وأين الفرار من سجن اللَّه وَقَدْ حصنه بملائكة غلاظ شداد تبارك اللَّه فما أعظم مَا امتحنني به من نظري إِلَى هَذَا الغلام مَا شبهت نظري إليه إلا بنار وقعت عَلَى قصب فِي يوم ريح فما أبقت ولا تركت ثم قَالَ استغفر اللَّه من بلاء جنته عيناي عَلَى قلبي لقد خفت ألا أنجوا من معرته ولا أتخلص من أثمه ولو وافيت القيامة بعمل سبعين صديقا ثم بكى حتى كاد يقضي نحبه فسمعته يَقُول فِي بكائه يا طرف لأشغلنك بالبكاء عن النظر إلى البلاء. فصل: ومنهم من تلاعب به المرض من شدة الحبة أخبرتنا شهدة الكاتبة بإسناد عَنْ أبي حمزة الصوفي قَالَ كان عَبْد اللَّهِ بْن مُوسَى من رؤساء الصوفية ووجوههم فنظر إِلَى غلام حسن فِي بعض الأسواق فبلى به وكاد يذهب عقله عَلَيْهِ صبابة وحبا وكان يقف كل يوم فِي طريقه حتى يراه إذا أقبل وإذا أنصرف فطال به البلاء وأقعده عَنِ الحركة الضنا وكان لا يقدر أن يمشي خطوة فأتيته يوما لأعوده فقلت يا أبا مُحَمَّد مَا قصتك وما هَذَا الأمر الذي بلغ بك مَا أرى؟
فَقَالَ: أمور أمتحنني اللَّه بِهَا فلم أصبر عَلَى البلاء فيها ولم يكن لي بِهَا طاقة ورب ذنب يستصغره الانسان هو عند اللَّه أعظم من كبير وحقيق بمن تعرض للنظر الحرام أن تطول به الأسقام ثم بكى قلت مَا يبكيك قَالَ أخاف أن يطول فِي النار شقائي فانصرفت عنه وأنا راحم لَهُ لما رأيت به من سوء الحال قال أَبُو حمزة ونظر مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن الأشعت الدمشقي وكان من خيار عباد اللَّه إِلَى غلام جميل فغشي عَلَيْهِ فحمل إِلَى منزله واعتاده السقم حتى أقعد من رجليه وكان لا يقوم عليهما زمانا طويلا فكنا نأتيه نعوده ونسأله عَنْ حاله وأمره وكان لا يخبرنا بقصته ولا سبب مرضه وكان الناس يتحدثون بحديث نظره فبلغ ذلك الغلام فأتاه عائدا فهش إليه وتحرك وضحك فِي وجهه واستبشر برؤيته فما زال يعوده حتى قَامَ عَلَى رجليه وعاد إِلَى حالته فسأله الغلام يوما أن يسير معه إِلَى منزله فأبى أن يفعل ذلك فسألني أن أسأله أن يتحول إليه فسألته فأبى أن يفعل فقلت للشيخ وما الذي تكره من ذلك فَقَالَ لست بمعصوم من البلاء ولا آمن من الفتنة وأخاف أن يقع علي الشَّيْطَان محنة فتجري بيني وبينه معصية فأكون من الخاسرين. فصل وفيهم من همت نفسه إِلَى الفاحشة فقتل نفسه حدثني أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد الدامغاني قَالَ كان ببلاد فارس صوفي كبير فابتلى بحدث فلم يملك نفسه أن دعته إِلَى فاحشة فراقب اللَّه عز وجل ثم ندم عَلَى هذه الهمة وكان منزله عَلَى مكان عال ووراء منزله بحر من الماء فلما أخذته الندامة صعد السطح ورمى نفسه إِلَى الماء وتلى قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فغرق فِي البحر. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: أنظر إِلَى إبليس كيف درج هَذَا المسكين من رؤية هَذَا الأمرد وإلى إدمان النظر إليه إِلَى أن مكن المحبة من قلبه إِلَى أن حرضه عَلَى الفاحشة فلما رأى استعصامه حسن لَهُ بالجهل قتل نفسه فقتل نفسه ولعله هم بالفاحشة ولم يعزم والهمةمعفو عنها لقوله عَلَيْهِ السلام: "عفي لأمتي عما حدثت به نفوسها" ثم إِنَّهُ ندم عَلَى همته والندم توبة فأراه إبليس أن من تمام الندم قتل نفسه كَمَا فعل بنو إسرائيل فأولئك أمروا بذلك بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ونحن نهينا عنه بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فلقد أتى بكبيرة عظيمة وفي الصحيحين عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى فِي نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. فصل: وفيهم من فرق بينه وبين حبيبه فقتل حبيبه بلغني عَنْ بعض الصوفية أنه كان فِي
رباط عندنا ببغداد ومعه صبي فِي البيت الذي هو فيه فشنعوا عَلَيْهِ وفرقوا بينهما فدخل الصوفي إِلَى الصبي ومعه سكين فقتله وجلس عنده يبكي فجاء أهل الرباط فرأوه فسألوه عَنِ الحال فأقر بقتل الصبي فرفعوه إِلَى صاحب الشرطة فأقر فجاء والد الصبي يبكي فجلس الصوفي يبكي ويقول لَهُ بالله عليك إلا مَا أقدتني به فَقَالَ الآن قد عفوت عنك فقام الصوفي إِلَى قبر الصبي فجعل يبكي عَلَيْهِ ثم لم يزل يحج عَنِ الصبي ويهدي لَهُ الثواب. فصل ومن هؤلاء من قارب الفتنة فوقع فيها ولم تنفعه دعوى الصبر والمجاهدة والحديث بإسناد عَنْ إدريس بْن إدريس قَالَ حضرت بمصر قوما من الصوفية ولهم غلام أمرد يغنيهم قَالَ فغلب عَلَى رجل منهم أمره فلم يدر مَا يصنع فَقَالَ يا هَذَا قل لا إله إلا اللَّه فَقَالَ الغلام لا إله إلا اللَّه فَقَالَ أقبل الفم الذي قَالَ لا إله إلا اللَّه القسم السادس قوم لم يقصدوا صحبة المردان وإنما يتوب الصبي ويتزهد ويصحبهم عَلَى طريق الإرادة فلبس إبليس عليهم ويقول لا تمنعوه من الخير ثم يتكرر نظرهم إليه لا عَنْ قصد فيثير فِي القلب الفتنة إِلَى أن ينال الشَّيْطَان منهم قدر مَا يمكنه وربما وثقوا بدينهم فاستفزهم الشَّيْطَان فرماهم إِلَى أقصى المعاصي كَمَا فعل ببرصيصا. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: وَقَدْ ذكرنا قصته فِي أول الْكِتَاب وغلطهم من جهة تعرضهم بالفتن وصحبة من لا يؤمن الفتنة فِي صحبته. القسم السابع قوم علموا أن صحبة المردان والنظر إليهم لا يجوز غير أنهم لم يصبروا عَنْ ذلك والحديث بإسناد عَنِ الرازي يَقُول قَالَ يوسف بْن الْحُسَيْن كل مَا رأيتموني أفعله فأفعلوه إلا صحبة الأحداث فإنها أفتن الفتن ولقد عاهدت ربي أكثر من مائة مرة أن لا أصحب حدثا ففسخها علي حسن الحدود وقوام القدود وغنج العيون وما سألني اللَّه معهم عَنْ معصية وأنشد صريع الغواني فِي معنى ذلك شعرا: إن ورد الخدود والحدق النجل ... وما فِي الثغور من أقحوان واعوجاج الأصداع فِي ظاهر الخد ... وما فِي الصدور من رمان تركتني بين الغواني صريعا ... فلهذا أدعى صريع الغواني قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت هَذَا الرَّجُل قد فضح نفسه فِي شيء ستره اللَّه عَلَيْهِ وأخبر أنه كلما رأى فتنة نقض التوبة فأين عزائم التصوف فِي حمل النفس عَلَى المشاق ثم ظن بجهله أن
المعصية هي الفاحشة فقط ولو كان لَهُ علم لعلم أن صحبتهم والنظر إليهم معصية فانظر إِلَى الجهل كيف يصنع بأربابه والحديث بإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن عُمَر أنه قَالَ حكي لي عن أبي مسلم الخمشوعي أنه نظر إِلَى غلام جميل فأطال ثم قَالَ سبحان اللَّه مَا أهجم طرفي عَنْ مكروه نفسه وأدمنه عَلَى سخط سيده وأغراه بما قد نهى عنه وأبهجه بالأمر الذي قد حزر مِنْهُ لقد نظرت إِلَى هَذَا نظرا لا أحسب إلا أنه سيفضحني عند جميع من عرفني فِي عرصات القيامة ولقد تركني نظري هَذَا وأنا أستحي من اللَّه تعالى وإن غفر لي ثم صعق وبإسناد عَنْ أبي بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْدِ يَقُول سمعت أبا الْحُسَيْن النوري يَقُول رأيت غلاما جميلا ببغداد فنظرت إليه ثم أردت أن أردد النظر فقلت لَهُ تلبسون النعال الصرارة وتمشون فِي الطرقات فَقَالَ أحسنت الحشر بالعلم. فصل: وكل من فاته العلم تخبط فَإِن حصل لَهُ وفاته العلم به كان أشد تخبيطا ومن استعمل أدب الشرع فِي قوله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} سلم فِي البداية بما صعب أمره فِي النهاية وَقَدْ ورد الشرع بالنهي عَنْ مجالسة المردان وأوصى العلماء بذلك والحديث بإسناده عَنْ أنس رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْمُلُوكِ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَشْتَاقُ إِلَيْهِمْ مَا لا تَشْتَاقُ إِلَى الْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ" والحديث بإسناده عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تملأوا أَعْيُنَكُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ لَهُمْ فِتْنَةٌ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْعَذَارَى". والحديث بإسناد عَنِ الشعبي قَالَ قدم وفد عَبْد القيس عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضأة فأجلسه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وراء ظهره وقال: "كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السلام النطر" وعن أبي هرير قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحد الرَّجُل النظر إِلَى الغلام الأمرد وقال عُمَر بْن الخطاب مَا أتى عَلَى عالم من سبع ضار أخوف عَلَيْهِ من غلام أمرد وبإسناد عَنِ الْحَسَن بْن ذكوان أنه قَالَ لا تجالسوا أولاد الأغنياء فَإِن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى. وبإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن حمير عَنِ النجيب السري قَالَ كان يقال لا يبيت الرَّجُل فِي بيت مَعَ المرد وبإسناد عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن أبي السائب عَنْ أبيه قَالَ لأنا أخوف عَلَى عابد من غلام من سبعين عذراء وعن أبي علي الروزباري قَالَ سَمِعْتُ جنيدا يَقُول جاء رجل إِلَى أَحْمَد بْن حنبل ومعه غلام حسن الوجه فَقَالَ لَهُ من هَذَا قَالَ ابني فَقَالَ أَحْمَد لا تجىء به معك مرة أخرى فلما قَامَ قَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الْحَافِظ وفي رواية الخطيب فَقِيلَ لَهُ أيد اللَّه الشيخ أنه رجل
مستور وأبنه أفضل مِنْهُ فَقَالَ أَحْمَد الذي قصدنا إليه من هَذَا الباب ليس يمنع مِنْهُ سترهما عَلَى هَذَا رأينا أشياخنا وبه أخبرونا عَنْ أسلافهم وبإسناد عَنْ أبي بَكْر المرزوي قَالَ جاء حسن الْبَزَّاز إِلَى أَحْمَد بْن حنبل ومعه غلام حسن الوجه فتحدث معه فلما أراد أن ينصرف قَالَ لَهُ أَبُو عَبْد اللَّهِ يا أبا علي لا تمش مَعَ هَذَا الغلام فِي طريق فَقَالَ لَهُ إِنَّهُ ابْن أختي قَالَ وإن كان لا يهلك الناس فيك وبإسناد من شجاع بْن مخلد أنه سمع بِشْر بْن الحارث يَقُول أخذروا هؤلاء الأحداث وبإسناد عَنْ فتح الموصلي أنه قَالَ صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الأبدال كلهم أوصوني عند فراقي لهم اتقي معاشرة الأحداث وبإسناد عَنِ الحلبي أنه يَقُول نظر سلام الأسود إِلَى رجل ينظر إِلَى حدث فَقَالَ لَهُ يا هَذَا ابق عَلَى جاهك عند اللَّه فإنك لا تزال ذا جاه مَا دمت لَهُ معظما وبإسناد عَنْ أبي منصور بْن عَبْدِ القادر بْن طاهر يَقُول من صحب الأحداث وقع فِي الأحداث وعن أبي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ قَالَ مظفر القرميسيني من صحب الأحداث عَلَى شرط السلامة والنصيحة أداه ذلك إِلَى البلاء فكيف بمن يصحبهم عَلَى غير وجه السلامة؟ فصل: وقد كان السلف يبالغون فِي الأعراض عَنِ المرد وَقَدْ روينا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أجلس الشاب الْحَسَن الوجه وراء ظهره والحديث بإسناد عَنْ عطاء بْن مسلم قَالَ كان سفيان لا يدع أمردا يجالسه وروى إِبْرَاهِيم بْن هانيء عَنْ يَحْيَى بْن معين قَالَ مَا طمع أمرد بصحبتي ولأحمد بْن حنبل قَالَ فِي طريق وبإسناد عَنْ أبي يعقوب قَالَ كنا مَعَ أبي نصر بْن الحرث فوقفت عَلَيْهِ جارية مَا رأينا أحسن منها فقالت يا شيخ أين مكان باب حرب فَقَالَ لها هَذَا الباب الذي يقال لَهُ باب حرب ثم جاء بعدها غلام مَا رأينا أحسن مِنْهُ فسأله فَقَالَ يا شيخ أين مكان باب حرب فأطرق الشيخ رأسه فرد عَلَيْهِ الغلام السؤال وغمض عينيه فقلنا للغلام تعال أيش تريد فَقَالَ باب حرب فقلنا لَهُ ها هو بين يديك فلما غاب قلن للشيخ يا أبا نصر جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها وجاءك غلام فلم تكلمه فَقَالَ نعم يروى عَنْ سفيان الثوري أنه قَالَ مَعَ الجارية شيطان ومع الغلام شيطانان فخشيت عَلَى نفسي من شيطانيه وبإسناد عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَك يَقُول دخل سفيان الثوري الحمام فدخل عَلَيْهِ غلام صبيح فَقَالَ أخرجوه أخرجوه فإني أرى مَعَ كل امرأة شيطانا ومع كل غلام عشرة شياطين وبإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن أحمد بْن أبي القسم قَالَ دخلنا عَلَى مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن صاحب يَحْيَى بْن معين وكان يقال أنه مَا رفع رأسه إِلَى السماء من منذ أربعين سنة وكان معنا غلام حدث فِي المجلس بين يديه فَقَالَ لَهُ قم من
حذائي فأجلسه من خلفه وبإسناد عَنْ أبي إمامة قَالَ وكنا عند شيخ يقرىء فبقي عنده غلام يقرأ عَلَيْهِ فردت الانصراف فأخذ بثوبي وقال أصبر حتى يفرغ هَذَا الغلام وكره أن يخلو مَعَ هَذَا الغلام وبإسناد عَنْ أبي الروزباري قَالَ قَالَ لي أَبُو العباس أَحْمَد المؤدب يا أبا علي من أين أخذ صوفية عصرنا هَذَا الأنس بالأحداث فقلت لَهُ يا سيدي أنت بهم أعرف وَقَدْ تصحبهم السلامة لي كثير من الأمور فَقَالَ هيهات قد رأينا من كان أقوى إيمانا منهم إذا رأى الحدث قد أقبل فر كفرارة من الزحف وإنما ذلك حسب الأوقات التي تغلب الأحوال عَلَى أهلها فتأخذها عَنْ تصرف الطباع مَا أكثر الخطر ما أكثر الغلط. فصل: وصحبة الأحداث وصحبة الأحداث أقوى حبائل إبليس التي يصيد بِهَا الصوفية أَخْبَرَنَا ابْن ناصر عَنْ أبي عَبْدُ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول قَالَ يوسف بْن الْحُسَيْن نظرت فِي آفات الخلق فعرفت من أين أتوا ورأيت آفة الصوفية فِي صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد والرفاق والنسوان وبإسناد عَنْ ابْن الفرج الرستمي الصوفي يَقُول رأيت إبليس فِي النوم فقلت لَهُ كيف رأيتنا أعرضنا عَنْ الدنيا ولذاتها وأموالها فليس لك إلينا طريق فَقَالَ كيف رأيت مَا اشتملت به قلوبكم باستماع الغناء ومعاشرة الأحداث وبإسناد عَنِ ابْن سَعِيد الخراز يَقُول رأيت إبليس فِي النوم يمرغني ناحية فقلت تعال فَقَالَ أيش أعمل بكم أنتم طرحتم عَنْ نفوسكم مَا أخادع به الناس قلت مَا هو قَالَ الدنيا فلما ولى التفت إلي فَقَالَ غير أن فيكم لطيفة قلت وما هي قَالَ صحبة الأحداث قَالَ أَبُو سَعِيد وقل من يتخلص منها من الصوفية. فصل: في عقوبة النظر إِلَى المردان عَنْ أبي عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء قَالَ كنت أنظر إِلَى غلام نصراني حسن الوجه فمر بي أَبُو عَبْد اللَّهِ البلخي فَقَالَ أيش وقوفك فقلت يا عم أما ترى هذه الصورة كيف تعذب بالنار فضرب بيده بين كتفي وقال لتجدن غبها ولو بعد حين قَالَ فوجدت غبها بعد أربعين سنة أن أنسيت القرآن وبإسناد عَنْ أبي الأديان وقال كنت مَعَ أستاذي وأبي بَكْر الدقاق فمر حدث فنظرت إليه فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه فَقَالَ يا بني لتجدن غبة ولو بعد حين فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي فما أجد ذلك الغب فنمت ذات ليلة وأنا مفكر فيه فأصبحت وَقَدْ أنسيت القرآن كله وعن أبي بَكْر الكتاني قَالَ رأيت بعض أصحابنا فِي المنام فقلت مَا فعل اللَّه بك قَالَ عرض علي سيئاتي وقال فعلت كذا وكذا فقلت نعم ثم قَالَ وفعلت كذا وكذا فاستحييت أن أقره فقلت إني أستحي أن أقر فَقَالَ إني غفرت لك بما أقررت فكيف بما
استحييت فقلت لَهُ مَا كان ذلك الذنب فَقَالَ مر بي غلام حسن الوجه فنظرت إليه وقد روى نحو هذه الحكاية عَنْ أبي عَبْد اللَّهِ الزراد أنه رؤي فِي المنام فَقِيلَ لَهُ مَا فعل اللَّه بك قَالَ غفر لي كل ذنب أقررت به فِي الدنيا إلا واحدا فاستحييت أن أقر به فوقفني فِي العرق حتى سقط لحم وجهي فَقِيلَ لَهُ مَا الذنب فَقَالَ نظرت إِلَى شخص جميل وقد بلغنا عَنْ أبي يعقوب الطَّبَرِيّ أنه قَالَ كان معي شاب حسن الوجه يخدمني فجاءني إنسان من بغداد صوفي فكان كثير الالتفات إِلَى ذلك الشاب فكنت أجد عَلَيْهِ لذلك فنمت ليلة من الليالي فرأيت رب العزة فِي المنام فَقَالَ يا أبا يعقوب لم لم تنهه وأشار إِلَى البغدادي عَنِ النظر إِلَى الأحداث فوعزتي أني لا أشغل بالأحداث إلا من باعدته عَنْ قربي قَالَ أَبُو يعقوب فانتبهت وأنا أضطرب فحكيت الرؤيا للبغدادي فصاح صيحة ومات فغسلناه ودفناه واشتغل عَلَيْهِ قلبي فرأيته بعد شهر فِي النوم فقلت لَهُ مَا فعل اللَّه بك قَالَ وبخني حتى خفت أن لا أنجوا ثم عفا عني قلت إنما مددت النفس يسيرا فِي هَذَا الباب لأنه مَا تعم به البلوى عند الأكثرين فمن أراد الزيادة فيه وفيما يتعلق بإطلاق البصر وجميع أسباب الهوى فلينظر فِي كتابنا المسمى بذم الهوى ففيه غاية المراد من جميع ذلك.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز فِي الأموال. أَخْبَرَنَا المحمدان بْن ناصر وابن عَبْد الباقي بإسناد عَنْ أحمد بْن أبي الحواري قَالَ سمعت أبا سُلَيْمَان الداراني يَقُول لو توكلنا عَلَى اللَّه تعالى مَا بنينا الحيطان ولا جعلنا لباب الدار غلقا مخافة اللصوص وبإسناد عَنْ ذي النون المصري أنه قَالَ سافرت سنين وما صح لي التوكل إلا وقتا واحدا ركبت البحر فكسر المركب فتعلقت بخشبة من خشب المركب فقالت لي نفسي إن حكم اللَّه عليك بالغرق فما تنفعك هذه الخشبة فخليت الخشبة فطفت عَلَى الماء فوقعت عَلَى الساحل. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد قَالَ سألت أبا يعقوب الزيات عَنْ مسألة فِي التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطى التوكل حقه ثم قَالَ استحييت أن أجيبك وعندي شيء وذكر أَبُو نصر السراج فِي كتاب اللمع قَالَ جاء رجل إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء فسأله عَنْ مسألة فِي التوكل وعنده جماعته فلم يجبه ودخل البيت فأخرج اليهم صرة فيها أربعة دوانق فَقَالَ اشتروا بهذه شيئا ثم أجاب الرَّجُل عَنْ سؤاله فَقِيلَ لَهُ فِي ذلك فَقَالَ استحييت من اللَّه تعالى أن أتكلم فِي التوكل وعندي أربعة
دوانق وقال سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ من طعن فِي الاكتساب فقد طعن عَلَى السنة ومن طعن عَلَى التوكل فقد طعن عَلَى الإيمان. قَالَ المصنف قلت: قلة العلم أوجبت هَذَا التخطيط ولو عرفوا ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد وذلك أن التوكل اعتماد القلب عَلَى الوكيل وحده وذلك لا يناقض حركة البدن فِي التعلق بالأسباب ولا أدخار المال فقد قَالَ تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي قواما لأبدانكم وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم المال الصالح مَعَ الرَّجُل الصالح" وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" واعلم أن الذي أمر بالوكل أمر بأخذ الحذر فَقَالَ: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وقال: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} وقد ظاهر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين درعين وشاور طبيبين واختفى فِي الغار وقال من يحرسني الليلة وأمر بغلق الباب وفي الصحيحين من حديث جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اغلق بابك" وَقَدْ أَخْبَرَنَا أن التوكل لا ينافي الاحتراز. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أحمد السمرقندي نا عَبْد اللَّهِ بْن يَحْيَى الموصلي ونصر بْن أَحْمَدَ قالا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران ثنا الْحُسَيْن بْن صفوان ثنا أَبُو بَكْر القرشي ثنى أَبُو جَعْفَر الصيرفي ثنا يَحْيَى بْن سَعِيد ثنا المغيرة بْن أبي قرة السدوسي قَالَ سمعت أنس بْن مالك رَضِيَ اللَّهُ عنه يَقُول جاء رجل إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك ناقته بباب المسجد فسأله رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها فَقَالَ أطلقتها وتوكلت عَلَى اللَّه قَالَ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ. أَخْبَرَنَا أبن ناصر نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا عَبْدُ الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي نا إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر نا أَبُو بَكْر عَبْد الْعَزِيز بْن جَعْفَر ثنا أَبُو بَكْر الخلال أخبرني حرب بْن إِسْمَاعِيلَ الكرماني ثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن سلام ثنا الْحُسَيْن بْن زِيَاد المروزي قَالَ سمعت سفيان بْن عيينة يَقُول تفسير التوكل أن يرضى بما يفعل به وقال ابْن عقيل يظن أقوام أن الاحتياط والاحتراز ينافي التوكل وإن التوكل هو إهمال العواقب وإطراح التحفظ وذلك عند العلماء هو العجز والتفريط الذي يقتضي من العقلاء التوبيخ والتهجين ولم يأمر اللَّه بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع فِي التحفظ فَقَالَ تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فلو كان التعلق بالاحتياط قادحا فِي التوكل لما خص اللَّه به نبيه حين قَالَ لَهُ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وهل المشاورة الا استفادة الرأي الذي مِنْهُ يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو ولم يقنع فِي الاحتياط
بأن يكله إِلَى رأيهم واجتهادهم حتى نص عَلَيْهِ وجعله عملا فِي نفس الصلاة وهي أخص العبادات فَقَالَ: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} وبين علة ذلك بقوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} ومن علم أن الاحتياط هكذا لا يقال أن التوكل عَلَيْهِ ترك مَا علم لكن التوكل التفويض فيما لا وسع فيه ولا طاقة قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ" ولو كان التوكل ترك التحرز لخص به خير الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خير الأحوال وهي حالة الصلاة وَقَدْ ذهب الشافعي رحمه اللَّه إِلَى وجوب حمل السلاح حينئذ بقوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} فالتوكل لا يمنع من الاحتياط والاحتراز فَإِن مُوسَى عَلَيْهِ السلام لما قيل لَهُ: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} خرج ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ من مكة لخوفه من المتآمرين عَلَيْهِ ووقاه أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عنه بسد أثقاب الغار وأعطى القوم التحرز حقه ثم توكلوا وقال عز وجل فِي باب الاحتياط: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} وقال: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} وهذا لأن الحركة للذب عَنِ النفس استعمال لنعمة اللَّه تعالى وكما أن اللَّه تعالى يريد إظهار نعمة المبدأة يريد إظهار وداعه فلا وجه لتعطيل مَا أودع اعتمادا عَلَى مَا جاد به لكن يجب استعمال مَا عندك ثم أطلب مَا عنده وَقَدْ جعل اللَّه تعالى للطير والبهائم عدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب وخلق للآدمي عقلا يقوده إِلَى حمل والأسلحة ويهديه إِلَى التحصين بالأبنية والدروع ومن عطل نعمة اللَّه بترك الاحتراز فقد عطل حكمته كمن يترك الأغذية والأدوية ثم يموت جوعا أَوْ مرضا ولا أبله ممن يدعي العقل والعلم ويستسلم للبلاء إنما ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل فِي الكسب وقلبه ساكن مفوض إِلَى الحق منع أَوْ أعطى لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة فمنعه عطاء فِي المعنى وكم زين للعجزة عجوزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل فصاروا فِي غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة والخور حزما ومتى وضعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلا بحكمة الواضع مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض فَإِذَا ترك الإنسان ذلك إهوانا بالسبب ثم دعا وسأل فربما قيل لَهُ قد جعلنا لعافيتك سببا فَإِذَا لم تتناوله كان إهوانا لعطائنا فربما لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب وما هَذَا إِلَى بمثابة من بين قراحة وماء الساقية رفسه بمسحاة فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر فإنه لا يستحسن مِنْهُ ذلك شرعا ولا عقلا. قال المصنف رحمه اللَّه: فَإِن قَالَ قائل كيف أحترز مَعَ القدر قيل لَهُ وَكَيْفَ لا تحترز مَعَ
الأوامر من المقدر فالذي قدر هو الذي أمر وَقَدْ قَالَ تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ نا عَاصِم بْن الْحُسَيْن نا ابْنُ بشران ثنا أَبُو صفوان نا أَبُو بَكْر القرشي ثني شُرَيْح بْن يُونُس نا عَلِيّ بْن ثابت عَنْ خطاب بْن القاسم عَنْ أبي عثمان قَالَ كان عِيسَى عَلَيْهِ السلام يصلي عَلَى رأس جبل فأتاه إبليس فَقَالَ أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر قَالَ نعم قَالَ فألق نفسك من الجبل وقل قدر علي فَقَالَ يا لعين اللَّه يختبر العباد وليس للعباد أن يختبروا اللَّه تعالى. فصل: وفي معنى مَا ذكرنا من تلبيسه عليهم فِي ترك الأسباب أنه قد لبس عَلَى خلق كثير منهم بأن التوكل ينافي الكسب أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم أَحْمَد بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سمعت أبا الْحَسَن بْن مقسم يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن المنذر يَقُول سمعت سَهْل بْن عَبْدِ اللَّهِ التستري يَقُول من طعن فِي التوكل فقد طعن فِي الإيمان ومن طعن عَلَى الكسب فقد طعن عَلَى السنة. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن خلف نا أَبُو عَبْدُ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ الرازي يَقُول سأل رجل أبا عَبْد اللَّهِ بْن سالم وأنا أسمع أنحن مستعبدون بالكسب أم بالتوكل فَقَالَ التَّوَكُّلُ حَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَسْبُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا سُنَّ الْكَسْبُ لِمَنْ ضَعُفَ عَنِ التَّوَكُّلِ وَسَقَطَ عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالِ الَّتِي هِيَ حَالُهُ فَمَنْ أَطَاقَ التَّوَكُّلَ فَالْكَسْبُ غَيْرُ مُبَاحٍ لَهُ بِحَالٍ إِلا كَسْبَ مُعَاوَنَةٍ لا كَسْبَ اعْتِمَادٍ عَلَيْهِ وَمَنْ ضَعُفَ عَنْ حَالِ التَّوَكُّلِ الَّتِي هِيَ حَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبِيحَ لَهُ طَلَبُ الْمَعَاشِ فِي الْكَسْبِ لِئَلا يَسْقُطُ عَنْ دَرَجَةِ سُنَّتِهِ حِينَ سَقَطَ عَنْ دَرَجَةِ حَالِهِ. أنبأنا عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم نا أبي قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ سمعت أبا القاسم الرازي يَقُول سمعت يوسف بْن الْحُسَيْن قَالَ إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص والكسب فليس يجيء مِنْهُ شيء. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت هَذَا كلام قوم مَا فهموا معنى التوكل وظنوا أنه ترك الكسب وتعطيل الجوارح عَنِ العمل وَقَدْ بينا أن التوكل فعل القلب فلا ينافي حركة الجوارح ولو كان كل كاسب ليس بمتوكل لكان الأنبياء غير متوكلين فقد كان آدم عَلَيْهِ السلام حراثا ونوح وزكريا نجارين وإدريس خياطا وإبراهيم ولوط زراعين وصالح تاجرا وكان سُلَيْمَان يعمل الخوص وداود يصنع الدرع ويأكل من ثمنه وكان مُوسَى وشعيب ومحمد رعاة صلوات اللَّه عليهم أجمعين.
وقال نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط" فلما أغناه اللَّه عز وجل بما فرض لَهُ من الفيء لم يحتج إِلَى الكسب وَقَدْ كان أَبُو بَكْر وعثمان وعبد الرَّحْمَن بْن عوف وطلحة رضوان اللَّه تعالى عليهم بزازين وكذلك مُحَمَّد بْن سيرين وميمون بْن مهران بزازين وكان الزبير بْن العوام وعمرو بْن العاص وعامر بْن كريز خزازين1 وكذلك أَبُو حنيفة وكان سَعْد بْن أبي وقاص يبري النبل وكان عثمان بْن طلحة خياطا وما زال التابعون ومن بعدهم يكتسبون ويأمرون بالكسب. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ أَبِي طَاهِرٍ نا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ نا ابْنُ حياة نا أَبُو الْحَسَنِ ابْن معروف نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفهم ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْد نا مسلم بْن إِبْرَاهِيم نا هشام الدستوائي قَالَ حَدَّثَنَا عطاء بْن السائب قَالَ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا فَلَقِيَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ فَقَالا أَيْنَ تُرِيدُ فَقَالَ السُّوقَ قَالا تَصْنَعُ مَاذَا وَقَدْ وُلِّيتَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي قال ابْن سَعْد وأَخْبَرَنَا أحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُس ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاش عَنْ عمرو بْن ميمون عَنْ أبيه قَالَ لما استخلف أَبُو بَكْر جعلوا لَهُ ألفين فَقَالَ زيدوني فَإِن لي عيالا وَقَدْ شغلتموني عَنِ التجارة فزادوه خمسمائة. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت لو قَالَ رجل للصوفية من أين أطعم عيالي لقالوا قد أشركت ولو سئلوا عمن يخرج إِلَى التجارة لقالوا ليس بمتوكل ولا موقن وكل هَذَا لجهلهم بمعنى التوكل واليقين ولو كان أحد يغلق عَلَيْهِ الباب ويتوكل لقرب أمر دعواهم لكنهم بين أمرين أما الغالب من الناس فمنهم من يسعى إِلَى الدنيا مستجديا ومنهم من يبعث غلامه فيدور بالزنبيل فيجمع لَهُ وإما الجلوس فِي الرباط فِي هيئة المساكين وَقَدْ علم أن الرباط لا يخلو من فتوح كَمَا لا تخلو الدكان من أن يقصد للبيع والشراء. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب الْحَافِظ نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو طالب العشاري نا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن المخلص نا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ الرَّحْمَن السكري ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْد قَالَ حدثت عَنْ الهيثم بْن خارجة ثنا سَهْل بْن هشام عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أدهم قَالَ كان سَعِيد بْن المسيب يَقُول من لزم المسجد وترك الحرفة وقبل مَا يأتيه فقد ألحف في السؤال. أَخْبَرَنَا المحمدان بْن ناصر وابن عَبْد الباقي قالا نا حمد بْن أَحْمَدَ نا أَبُو نعيم الحافظ قال
سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت جدي إِسْمَاعِيل بْن نجيدي يَقُول كان أَبُو تراب يَقُول لأصحابه من لبس مِنْكُمْ مرقعة فقد سأل ومن قعد فِي خانقاه أَوْ مسجد فقد سأل. قَالَ المصنف رحمه اللَّه قلت وَقَدْ كان السلف ينهون عَنْ التعرض لهذه الأشياء ويأمرون بالكسب أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الفتح نا مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن المخلص نا عُبَيْد الله ابن عَبْد الرَّحْمَنِ السكري نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْد القرشي نا عُبَيْد بْن الجعد نا المسعودي عَنْ خوات التيمي قَالَ قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه يا معشر الفقراء ارْفَعُوا رؤسكم فَقَدْ وَضُحَ الطَّرِيقُ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ وَلا تَكُونُوا عِيَالا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. أَخْبَرَنَا ابْن ناصر نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا أَبُو القاسم التنوخي وأبو مُحَمَّد الجوهري وأبو الخير القزويني قالوا نا أَبُو عُمَر بْن حياة نا مُحَمَّد بْن خلف ثنا أَبُو جَعْفَر اليماني نا أَبُو الْحَسَنِ المدايني عَنْ مُحَمَّد بْن عَاصِم قَالَ بلغني أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه كان إذا رأى غلاما فأعجبه سأل عنه هل لَهُ حرفة فَإِن قيل لا قَالَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِي. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ نا عُمَر بْن عَبْدِ اللَّهِ النقال نا أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران نا عثمان بْن أَحْمَدَ الدقاق نا حنبل ثنى أَبُو عَبْد اللَّهِ نا معاذ بْن هشام ثني أبي عَنْ قتادة عَنْ سَعِيد بْن المسيب قَالَ كان أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتجرون فِي تجر الشام منهم طلحة بْن عُبَيْد اللَّه وسعيد بْن زيد. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَك نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ السراج نا عَبْدُ الْعَزِيز بْن الْحَسَنِ بْن إِسْمَاعِيلَ الضراب نا أبي نا أَحْمَد بْن مروان المالكي نا أَبُو القاسم بْن الختلي سألت أَحْمَد بْن حنبل وقلت مَا تقول فِي رجل جلس فِي بيته أَوْ فِي مسجده وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فَقَالَ أَحْمَد هَذَا رجل جهل العلم أما سمعت قول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ اللَّهُ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وحديث الآخر فِي ذكر الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصا فذكر أنها تغدو فِي طلب الرزق قَالَ تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} وكان أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتجرون فِي البر والبحر ويعملون فِي نخيلهم ولنا القدوة بهم وَقَدْ ذكرنا فيما مضى عَنِ أحمد أن رجلا قَالَ لَهُ أريد الحج عَلَى التوكل فَقَالَ لَهُ فأخرج فِي غير القافلة قَالَ لا قَالَ فعلى جراب الناس توكلت. أَخْبَرَنَا ابْن ناصر نا أَبُو الْحُسَيْن بْن عَبْدِ الجبار نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي نا إِبْرَاهِيم بْن
مُحَمَّد بْن جَعْفَر الناجي نا أَبُو بَكْر عَبْد الْعَزِيز بْن جَعْفَر نا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد الخلال نا أَبُو بَكْر المروزي قَالَ قلت لأبي عَبْد اللَّهِ هؤلاء المتوكلة يقولون نقعد وأرزاقنا عَلَى اللَّه عز وجل فَقَالَ هَذَا قول رديء أليس قد قَالَ اللَّه تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ثم قَالَ إذا قَالَ لا أعمل وجيء إليه بشيء قد عمل وأكتسب لأي شيء يقبله من غيره قَالَ الخلال وأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ سألت أبي عَنْ قوم يقولون نتوكل عَلَى اللَّه ولا نكتسب فَقَالَ ينبغي للناس كلهم يتوكلون عَلَى اللَّه ولكن يعودون عَلَى أنفسهم بالكسب هَذَا قول انسان أحمق. قَالَ الخلال وأخبرني مُحَمَّد بْن عَلِيّ قَالَ ثنا صالح أنه سأل أباه يعني أَحْمَد ابْن حنبل عَنِ التوكل فَقَالَ التوكل حسن ولكن ينبغي أن يكتسب ويعمل حتى يغني نفسه وعياله ولا يترك العمل قَالَ وسئل أبي وأنا شاهد عَنْ قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فَقَالَ هؤلاء مبتدعون قال الخلال وأَخْبَرَنَا المروزي أنه قَالَ لأبي عَبْد اللَّهِ أن ابْن عيينة كان يَقُول هم مبتدعة فَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا وقال الخلال وأَخْبَرَنَا المروزي قَالَ سألت أبا عَبْد اللَّهِ عَنْ رجل جلس فِي بيته وقال اجلس واصبر واقعد فِي البيت ولا أطلع عَلَى ذلك أحدا فَقَالَ لو خرج فاحترف كان أحب إلي فَإِذَا جلس خفت أن يخرجه جلوسه إِلَى غير هَذَا قلت إِلَى أي شيء يخرجه قَالَ يخرجه إِلَى أن يكون يتوقع أن يرسل إليه قَالَ الخلال وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر المروزي قَالَ سَمِعْتُ رجلا يَقُول لأبي عَبْد اللَّهِ أحمد بْن حنبل إني فِي كفاية قَالَ الزم السوق تصل به الرحم وتعود به عَلَى عيالك وقال لرجل آخر اعمل وتصدق بالفضل عَلَى قرابتك وقال أحمد بْن حنبل قد أمرتهم يعني أولاده أن يختلفوا إِلَى السوق وأن يتعرضوا للتجارة. قال الخلال وأخبرني مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن أن الفضل بْن مُحَمَّد بْن زِيَاد حدثهم قَالَ سمعت أبا عَبْد اللَّهِ يأمر بالسوق ويقول مَا أحسن الاستغناء عَنِ الناس وقال الخلال وأخبرني يعقوب بْن يوسف المطوعي قَالَ سمعت أبا بَكْر بْن جناد يَقُول الجصاصي قَالَ سَمِعْتُ أحمد بْن حنبل يَقُول أحب الدراهم إلي درهم من تجارة وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان. قال المصنف رحمه اللَّه: قلت وكان إبراهيم بْن أدهم يحصد وسلمان الخواص يلقط وحذيفة المرعشي يضرب اللبن وقال ابْن عقيل التسبب لا يقدح فِي التوكل لأن تعاطى رتبة ترقى عَلَى رتبة الأنبياء نقص فِي الدين ولما قيل لموسى عَلَيْهِ السلام: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} خرج ولما
جاع واحتاج إِلَى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين وقال اللَّه تعالى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} وهذا لأن الحركة استعمال بنعمة اللَّه وهي القوى فاستعمل مَا عندك ثم أطلب مَا عنده وَقَدْ يطلب الإنسان من ربه وينسى مَا لَهُ عنده من الذخائر فَإِذَا تأخر عنه مَا يطلبه يسخط فترى بعضهم يملك عقارا وأثاثا فَإِذَا ضاق به القوت واجتمع عَلَيْهِ دين فَقِيلَ لَهُ لو بعت عقارك قَالَ كيف أفرط فِي عقاري وأسقط جاهي عند الناس وإنما يفعل هذه الحماقات العادات وإنما قعد أقوام عَنْ الكسب استثقالا لَهُ فكانوا بين أمرين قبيحين إما تضييع العيال فتركوا الفرائض أَوِ التزين باسم أنه متوكل فيحن عليهم المكتسبون فضيقوا عَلَى عيالهم لأجلهم وأعطوهم وهذه الرذيلة لم تدخل قط إلا عَلَى دنيء النفس الرذيلة وإلا فالرجل كل الرَّجُل من لم يضيع جوهرة الذي أودعه اللَّه إيثارا للكسل أَوْ لاسم يتزين به بين الجهال فَإِن اللَّه تعالى قد يحرم الإنسان المال ويرزقه جوهرًا يتسبب به إِلَى تحصيل الدنيا بقبول الناس عَلَيْهِ. فصل: وقد تشبث القاعدون عَنْ التكسب بتعللات قبيحة منا أنهم قالوا لا بد من أن يصل إلينا رزقنا وهذا فِي غاية القبح فَإِن الإنسان لو ترك الطاعة وقال لا أقدر بطاعتي أن أغير مَا قضى اللَّه علي فَإِن كنت من أهل الْجَنَّة فأنا إِلَى الْجَنَّة أَوْ من أهل النار فأنا من أهل النار قلنا لَهُ هَذَا يرد الأوامر كلها ولو صح لأحد ذلك لم يخرج آدم من الْجَنَّة لأنه كان يَقُول مَا فعلت إلا مَا قضى علي ومعلوم أننا مطالبون بالأمر لا بالقدر ومنها أنهم يقولون أين الحلال حتى نطلب وهذا قول جاهل لأن الحلال لا ينقطع أبدا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحلال بين والحرام بين" ومعلوم أن الحلال مَا أذن الشرع فِي تناوله وإنما قولهم هَذَا احتجاج للكسل ومنها أنهم قالوا إذا كسبنا أعنا الظلمة والعصاة مثل مَا أَخْبَرَنَا به عُمَر بْن ظفر نا جَعْفَر بْن أَحْمَدَ نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيّ نا ابْن جهضم نا عَلِيّ بْن مُحَمَّد السيرواني قَالَ سَمِعْتُ إبراهيم الخواص يَقُول طلبت الحلال فِي كل شيء حتى طلبته فِي صيد السمك فأخذت قصبة وجعلت فيها شعرا وجلست عَلَى الماء فألقيت الشص فخرجت سمكة فطرحتها عَلَى الأَرْض وألقيت الثانية فخرجت لي سمكة فأنا اطرحها ثالثة إذا من ورائي لطمة لا أدري من يد من هي ولا رأيت أحدا وسمعت قائلا يَقُول أنت لم تصب رزقا فِي شيء إلا أن تعمد إِلَى من يذكرنا فتقتله قَالَ فقطعت الشعر وكسرت القصبة وانصرفت أنبأنا أَبُو المظفر عَبْد المنعم بْن عَبْدِ الكريم القشيري ثنا أبي قَالَ سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول سمعت أبا عثمان بْن الآدمي قَالَ سمعت إبراهيم الخواص يَقُول طلبت فقصدت الخ مَا تقدم.
قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت وهذه القصة إن صحت فَإِن فِي الروايتين بعض من يتهم فَإِن اللاطم إبليس وَهُوَ الذي هتف به لأن اللَّه تعال أباح الصيد فلا يعاقب عَلَى مَا أباحه وَكَيْفَ يقال لَهُ تعمد إِلَى من يذكرنا فتقتله وَهُوَ الذي أباح لَهُ قتله وكسب الحلال ممدوح ولو تركنا الصيد وذبح الأنعام لأنها تذكر اللَّه تعالى لم يكن لنا مَا يقيم قوى الأبدان لأنه لا يقيمها إلا اللحم فالتحري من أخذ السمك وذبح الحيوان مذهب البراهمة فانظر إِلَى الجهل مَا يصنع وإلى إبليس كيف يفعل أَخْبَرَنَا أَبُو منصور القزاز نا أَحْمَد بْن عَلِيّ بْن ثابت نا عَبْد الْعَزِيز بْن عَلِيٍّ الأزجي ثنا عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ الهمداني ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر ثنا أحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الملك قَالَ سمعت شيخا يكنى أبا تراب يَقُول قيل لفتح الموصلي أنت صياد بالشبكة ولم تصد شيئا إلا وتطعمه لعيالك فلم تصد وتبيع ذلك الناس فَقَالَ أخاف أن أصطاد مطيعا لله تعالى فِي جوف الماء فأطعمه عاصيا لله عَلَى وجه الأَرْض. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت أن صحت هذه الحكاية عَنْ فتح الموصلي فهو من التعلل البارد المخالف للشرع والعقل لأن اللَّه تعال أباح الكسب وندب إليه فَإِذَا قَالَ قائل ربما خبزت خبزا فأكله عاص كان حديثا فارغا لأنه لا يجوز لنا إذا أن نبيع الخبز لليهود والنصارى.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك التداوي
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي ترك التداوي. قال المصنف رحمه اللَّه: لا يختلف العلماء أن التداوي مباح وإنما رأى بعضهم أن العزيمة تركه وَقَدْ ذكرنا كلام الناس فِي هَذَا وبينا بما اخترناه فِي كتابنا لقط المنافع فِي الطب والمقصود ههنا إنا نقول إذا ثبت أن التداوي مباح بالإجماع مندوب إليه عند بعض العلماء فلا يلتفت إِلَى قول قوم قد رأوا أن التداوي خارج من التوكل لأن الإجماع عَلَى أنه لا يخرج من التوكل وَقَدْ صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تداوى وأمر بالتداوي ولم يخرج بذلك من التوكل ولا أخرج من أمره أن يتداوى من التوكل وفي الصحيح من حديث عثمان بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص إذا اشتكى المحرم عينه أن يضمدها بالصبر قَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى فساد مَا يقوله ذوو الغباوة من أهل التصوف والعباد من أن التوكل لا يصح لأحد عالج علة به فِي جسده بدواء إذ ذاك عندهم طلب العافية من غير من بيده العافية والضر والنفع وفي إطلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمحرم علاج عينه بالصبر لدفع المكروه أدل دليل عَلَى أن معنى التوكل غير مَا قاله الذين ذكرنا قولهم وأن ذلك غير مخرج فاعله من الرضا بقضاء اللَّه كَمَا أن من عرض لَهُ كلب
الجوع لا يخرجه فزعه إِلَى الغذاء من التوكل والرضا بالقضاء لأن اللَّه تعالى لم ينزل داء إلا أنزل لَهُ دواء إلا الموت وجعل أسبابا لدفع الأدواء كَمَا جعل الأكل سببا لدفع الجوع وَقَدْ كان قادرا أن يَحْيَى خلقه بغير هَذَا ولكنه خلقهم ذوي حاجة فلا يندفع عنهم أذى الجوع إلا بما جعل سببا لدفعه عنهم فكذا الداء العارض وَاللَّه الهادي.
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك الجمعة والجماعة بالوحدة والعزلة
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي ترك الجمعة والجماعة بالوحدة والعزلة. قَالَ المصنف: كان خيار السلف يؤثرون الوحدة والعزلة عَنِ الناس اشتغالا بالعلم والتعبد إلا أن عزلة القوم لم تقطعهم عَنْ جمعة ولا جماعة ولا عيادة مريض ولا شهود جنازة ولا قيام بحق وإنما هي عزلة عَنِ الشر وأهله مخالطة البطالين وَقَدْ لبس إبليس عَلَى جماعة من المتصوفة فمنهم من أعتزل فِي جبل كالرهبان يبيت وحده ويصبح وحده ففاتته الجمعة وصلاة الْجَمَاعَة ومخالطة أهل العلم وعمومهم اعتزل فِي الأربطة ففاتهم السعي إِلَى المساجد وتوطنوا عَلَى فراش الراحة وتركوا الكسب وَقَدْ قَالَ أَبُو حامد الغزالي فِي كتاب الأحياء مقصودة الرياضة تفريغ القلب وليس ذلك إلا بخلوة فِي مكان مظلم وقال فَإِن لم يكن مكان مظلم فيلف رأسه فِي جبته أَوْ يتدثر بكساء أَوْ أزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال حضرة الربوبية. قَالَ المصنف رحمه اللَّه: قلت أنظر إِلَى هذه الترتيبات والعجب كيف تصدر من فقيه عالم ومن أين لَهُ أن الذي يسمعه نداء الحق وأن الذي يشاهده جلال الربوبية وما يؤمنه أن يكون مَا يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة وهذا الظاهر ممن يستعمل التقلل فِي المطعم فإنه يغلب عَلَيْهِ الماليخوليا وقد يسلم الإنسان فِي مثل هذه الحالة من الوساوس إلا أنه إذا تغشى بثوبه وغمض عينيه تخايل هذه الأشياء لأن فِي الدماغ ثلاث قوى قوة يكون بِهَا التخيل وقوة يكون بِهَا الفكرة وقوة يكون بِهَا الذكر وموضع التخيل البطنان المقدمان من بطون الدماغ وموضع التفكر البطن الأوسط من بطون الدماغ وموضع الحفظ الموضع المؤخر فَإِن أطرق الإنسان وغمض عينيه جال الفكر والتخيل فيرى خيالات فيظنها مَا ذكر من حضرة جلال الربوبية إِلَى غير ذلك نعوذ بالله من هذه الوساوس والخيالات الفاسدة. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أبي القاسم نا رزق اللَّه بْن عَبْدِ الْوَهَّاب نا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ
سمعت أبا بَكْر البجلي يَقُول سمع