بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
الكاساني
خطبة الكتاب للمصنف
[خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ] (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ الرَّحِيمِ الْغَافِرِ الْكَرِيمِ السَّاتِرِ ذِي السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، وَالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ، خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكِ كُلِّ مَيِّتٍ، وَحَيٍّ، خَلَقَ فَأَحْسَنَ، وَصَنَعَ فَأَتْقَنَ، وَقَدَرَ فَغَفَرَ، وَأَبْصَرَ فَسَتَرَ، وَكَرَمَ فَعَفَا، وَحَكَمَ فَأَخْفَى، عَمَّ فَضْلُهُ، وَإِحْسَانُهُ، وَتَمَّ حُجَّتُهُ، وَبُرْهَانُهُ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَسُلْطَانُهُ فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ، وَالصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَأَوْضَحَ الدَّلَالَةَ، وَأَزَاحَ الْجَهَالَةَ، وَفَلَّ السَّفَهَ، وَثَلَّ الشُّبَهَ: مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ. (وَبَعْدُ) فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَصِفَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَعِلْمِ الشَّرَائِعِ، وَالْأَحْكَامِ، لَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَقْلِ الْمَحْضِ دُونَ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] وَقِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الشَّامِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا أَقْدَمَك قَالَ: قَدِمْت لِأَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى ابْتَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَك أَبَدًا. وَالْأَخْبَارُ، وَالْآثَارُ فِي الْحَضِّ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَقَدْ كَثُرَ تَصَانِيفُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا الْفَنِّ قَدِيمًا، وَحَدِيثًا، وَكُلُّهُمْ أَفَادُوا، وَأَجَادُوا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْرِفُوا الْعِنَايَةَ إلَى التَّرْتِيبِ فِي ذَلِكَ سِوَى أُسْتَاذِي وَارِثِ السُّنَّةِ، وَمُوَرِّثِهَا الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدَّيْنِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاقْتَدَيْت بِهِ فَاهْتَدَيْت إذْ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ التَّصْنِيفِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ هُوَ تَيْسِيرُ سَبِيلِ الْوُصُولِ إلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِينَ، وَتَقْرِيبُهُ إلَى أَفْهَامِ الْمُقْتَبِسِينَ، وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا الْمُرَادُ إلَّا بِتَرْتِيبٍ تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ، وَتُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ التَّصَفُّحُ عَنْ أَقْسَامِ الْمَسَائِلِ، وَفُصُولِهَا، وَتَخْرِيجِهَا عَلَى قَوَاعِدِهَا، وَأُصُولِهَا لِيَكُونَ أَسْرَعَ فَهْمًا، وَأَسْهَلَ ضَبْطًا، وَأَيْسَرَ حِفْظًا فَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ، وَتَتَوَفَّرُ الْعَائِدَةُ فَصَرَفْت الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ، وَجَمَعْت فِي كِتَابِي
كتاب الطهارة
هَذَا جُمَلًا مِنْ الْفِقْهِ مُرَتَّبَةً بِالتَّرْتِيبِ الصِّنَاعِيِّ، وَالتَّأْلِيفِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَرْبَابُ الصَّنْعَةِ، وَتَخْضَعُ لَهُ أَهْلَ الْحِكْمَةِ مَعَ إيرَادِ الدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ، وَالنُّكَتِ الْقَوِيَّةِ بِعِبَارَاتٍ مُحْكَمَةِ الْمَبَانِي مُؤَيَّدَةِ الْمَعَانِي، وَسَمَّيْته (الْفِقْهَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ) إذْ هِيَ صَنْعَةٌ بَدِيعَةٌ، وَتَرْتِيبٌ عَجِيبٌ، وَتَرْصِيفٌ غَرِيبٌ لِتَكُونَ التَّسْمِيَةُ مُوَافِقَةً لِلْمُسَمَّى، وَالصُّورَةُ مُطَابِقَةً لِلْمَعْنَى وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ وَافَقَهُ فَاعْتَنَقَهُ فَأَسْتَوْفِقُ اللَّهَ تَعَالَى لِإِتْمَامِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمُرَادِ، وَالزَّادِ لِلْمُرْتَادِ، وَمُنْتَهَى الطَّلَبِ، وَعَيْنُهُ تُشْفِي الْجَرَبَ، وَالْمَأْمُولُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَرَمِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَارِثًا فِي الْغَابِرِينَ، وَلِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ، وَذِكْرًا فِي الدُّنْيَا، وَذُخْرًا فِي الْعُقْبَى، وَهُوَ خَيْرُ مَأْمُولٍ، وَأَكْرَمُ مَسْئُولٍ. [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [تَفْسِيرُ الطَّهَارَةِ] (كِتَابُ الطَّهَارَةِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ، فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا، فِي تَفْسِيرِ الطَّهَارَةِ، وَالثَّانِي، فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا (أَمَّا) تَفْسِيرُهَا: فَالطَّهَارَةُ لُغَةً، وَشَرْعًا هِيَ النَّظَافَةُ، وَالتَّطْهِيرُ، وَالتَّنْظِيفُ، وَهُوَ إثْبَاتُ النَّظَافَةِ فِي الْمَحَلِّ، وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُهَا بِوُجُودِ ضِدِّهَا، وَهُوَ الْقَذَرُ، فَإِذَا زَالَ الْقَذَرُ، وَامْتَنَعَ حُدُوثُهُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ الْقَذِرَةِ، تَحْدُثُ النَّظَافَةُ، فَكَانَ زَوَالُ الْقَذَرِ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ حُدُوثِ الطَّهَارَةِ، لَا أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَهَارَةً تَوَسُّعًا لِحُدُوثِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ زَوَالِهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا: فَالطَّهَارَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: طَهَارَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حُكْمِيَّةً، وَطَهَارَةٌ عَنْ الْخَبَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حَقِيقِيَّةً أَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ، وَالتَّيَمُّمُ. [بَيَانُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ] (أَمَّا) الْوُضُوءُ: فَالْكَلَامُ فِي الْوُضُوءِ فِي مَوَاضِعِ تَفْسِيرِهِ، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَالْغَسْلُ هُوَ إسَالَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ، حَتَّى لَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، وَلَمْ يُسِلْ الْمَاءَ، بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ الدُّهْنِ، لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ، وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَطَرَ قَطْرَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، جَازَ لِوُجُودِ الْإِسَالَةِ، وَسُئِلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِالثَّلْجِ، فَقَالَ: ذَلِكَ مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ، فَإِنْ عَالَجَهُ حَتَّى يَسِيلَ يَجُوزُ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُتَوَضِّئِ فِي الشِّتَاءِ أَنْ يَبُلَّ أَعْضَاءَهُ شِبْهَ الدُّهْنِ، ثُمَّ يُسِيلَ الْمَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي الشِّتَاءِ. مَطْلَبُ غَسْلِ الْوَجْهِ (وَأَمَّا) أَرْكَانُ الْوُضُوءِ فَأَرْبَعَةٌ: (أَحَدُهَا) : غَسْلُ الْوَجْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدَّ الْوَجْهِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ، وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ، أَوْ مَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَقَعُ بِهَذَا الْمَحْدُودِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَإِذَا نَبَتَ الشَّعْرُ يَسْقُطُ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ: إنَّهُ لَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا لَا يَسْقُطُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ الْحَدِّ بَعْدَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَلَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ،، وَالْحَرَجُ فِي الْكَثِيفِ لَا فِي الْخَفِيفِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَمَّا نَبَتَ الشَّعْرُ خَرَجَ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا، لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ، وَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، لِأَنَّ السُّقُوطَ فِي الْكَثِيفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ، بَلْ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْخَفِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ غَسْلُ مَا تَحْتَ الشَّارِبِ وَالْحَاجِبَيْنِ. وَأَمَّا الشَّعْرُ الَّذِي يُلَاقِي الْخَدَّيْنِ، وَظَاهِرَ الذَّقَنِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، أَنَّهُ إذَا مَسَحَ مِنْ لِحْيَتِهِ ثُلُثًا، أَوْ رُبُعًا جَازَ، وَإِنْ مَسَحَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ لَمْ
يَمْسَحْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَجْهًا، لِعَدَمِ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ، فَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ الْمُلَاقِي لَهَا هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ إلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ (لَهُ) أَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ تَابِعٌ لِمَا اتَّصَلَ، وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ. وَ (لَنَا) أَنَّهُ إنَّمَا يُوَاجِهُ إلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً، لَا إلَى الْمُسْتَرْسِلِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَرْسِلُ وَجْهًا، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْعِذَارِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَجْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْبَيَاضِ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيَاضَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْوَجْهِ، وَلَمْ يُسْتَرْ بِالشَّعْرِ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْغَسْلِ كَمَا كَانَ، بِخِلَافِ الْعِذَارِ. وَإِدْخَالُ الْمَاءِ فِي دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا، وَقِيلَ: إنَّ مَنْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ كُفَّ بَصَرُهُ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. مَطْلَبُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ (وَالثَّانِي) غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَالْمِرْفَقَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ الْمِرْفَقِ، يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ، كَمَا لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِغَسْلِ الْيَدِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْإِبِطِ، وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ كُلِّهَا، فَكَانَ ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لِإِسْقَاطِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَهُ، لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ، فَيَكُونُ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْيَدِ، لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْيَدِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ اللَّيْلُ لَمَا اقْتَضَى الْأَمْرُ إلَّا وُجُوبَ صَوْمِ سَاعَةٍ، فَكَانَ ذِكْرُ اللَّيْلِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ؛ عَلَى أَنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ، مِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ، وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْتُ فُلَانًا مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ، وَأَكَلْتُ السَّمَكَةَ مِنْ رَأْسِهَا إلَى ذَنَبِهَا، دَخَلَ الْقَدَمُ، وَالذَّنَبُ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَجِبُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي احْتِيَاطًا، عَلَى أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ فِي الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ، وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا عَنْهُ صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ. وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا» فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ الْبَيَانُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ. مَطْلَبُ مَسْحِ الرَّأْسِ (وَالثَّالِثُ) : مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ،، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدَّرَهُ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبْعِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَمْسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، أَوْ أَكَثْرَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا مَسَحَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّأْسَ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَحَرْفُ الْبَاءِ لَا يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لُغَةً، بَلْ هُوَ حَرْفُ إلْصَاقٍ، فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّهِ، فَيَجِبُ مَسْحُ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِقِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُ فِي الْعُرْفِ، يُقَالُ: (مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ) ، وَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ بِكُلِّهِ، وَيُقَالُ: " كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ "، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ بِكُلِّ الْقَلَمِ، وَلَمْ يَضْرِبْ بِكُلِّ السَّيْفِ، فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً، إذْ الْمَسْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بِآلَةٍ، وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً، وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ وَقَالَ: " وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ أَيْدِيكُمْ ". وَأَمَّا وَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ فَلِأَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ جَائِزٌ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَا عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ مَاسِحَ
شَعْرَةٍ، أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» فَصَارَ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً، وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى، كَفِعْلِهِ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِعْلِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ، وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ، وَكَمَا فِي انْكِشَافِ الرُّبْعِ مِنْ الْعَوْرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهُ لَا يَمْنَعُ، كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا، وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ: وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ. وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ مَدَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ، فَإِذَا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، فَجَازَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سُنَّةَ الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ، لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ، أَوْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَسْلِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى لَهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ مَاءً جَدِيدًا، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِيعَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ كَمَا فِي الْغَسْلِ. وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ جَازَ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ. وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَسْحِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا، وَبِظَهْرِهَا، وَبِجَانِبِهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا فَأُقِيمَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ وَكَانَ شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا تَحْتَ أُذُنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا فَوْقَهَا جَازَ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الشَّعْرِ كَالْمَسْحِ عَلَى مَا تَحْتَهُ، وَمَا تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ، وَمَا فَوْقَهُ رَأْسٌ. وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ، وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا إذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا، فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ. وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمَسْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ (وَالرَّابِعُ) غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هُوَ الْمَسْحُ لَا غَيْرُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ، بِالنَّصْبِ، وَالْخَفْضِ فَمَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ، وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ، فَكَذَا وَظِيفَةُ
الرِّجْلِ، وَمِصْدَاقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ عَامِلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَالثَّانِي: حَرْفُ الْجَرِّ، وَهُوَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَالْبَاءُ أَقْرَبُ فَكَانَ الْخَفْضُ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ يَقُولُ: إنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرْآنًا، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ، إذْ لَا قَائِلَ بِهِ فِي السَّلَفِ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ، إنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ، وَإِنْ شَاءَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ إتْيَانًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْجَمْعِ يَقُولُ: الْقِرَاءَتَانِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا لِعَدَمِ التَّنَافِي، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. (وَلَنَا) قِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ، وَظِيفَةِ الْأَرْجُلِ الْغَسْلَ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَهِيَ الْوَجْهُ، وَالْيَدَانِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَغْسُولِ يَكُونُ مَغْسُولًا تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ:. أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ الْخَفْضُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ النَّصْبُ، إلَّا أَنَّ خَفْضَهَا لِلْمُجَاوَرَةِ، وَإِعْطَاءُ الْإِعْرَابِ بِالْمُجَاوَرَةِ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي اللُّغَةِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَبِحَائِلٍ، أَمَّا بِغَيْرِ الْحَائِلِ فَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ، وَالْخَرِبُ نَعْتُ الْجُحْرِ لَا نَعْتُ الضَّبِّ، وَالْبُرُودَةُ نَعْتُ الْمَاءِ لَا نَعْتُ الشَّنِّ، ثُمَّ خُفِضَ لِمَكَانِ الْمُجَاوَرَةِ. وَأَمَّا مَعَ الْحَائِلِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] إلَى قَوْلِهِ: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] لِأَنَّهُنَّ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ ... إلَى آلِ بِسْطَامٍ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبُ فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ، وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ فِي هَذَا إشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرَّأْسِ. وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ حَقِيقَةً، لَكِنَّهَا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . وَالْإِعْرَابُ قَدْ يَتْبَعُ اللَّفْظَ، وَقَدْ يَتْبَعُ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا نَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، مَعْنَاهُ فَلَسْنَا الْجِبَالَ، وَلَا الْحَدِيدَ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَةً فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ فِي الْأَرْجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ لَا يَمْتَدُّ إلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، إذْ الْغَسْلُ إسَالَةٌ، وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ، وَفِي الْإِسَالَةِ إصَابَةٌ، وَزِيَادَةٌ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رَوَى جَابِرٌ،، وَأَبُو هُرَيْرَةَ،، وَعَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَعِيدٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْمَفْرُوضِ، وَكَذَا نَفْيُ قَبُولِ صَلَاةِ مَنْ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي وُضُوئِهِ، فَدَلَّ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ» ، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ، وَفِعْلُهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْأَرْجُلَ فِي الْآيَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ لَا عَلَى الْمَمْسُوحِ، فَكَانَ وَظِيفَتُهَا الْغَسْلَ لَا الْمَسْحَ، عَلَى أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْحُكْمِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُطْلَقًا يُعْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِلتَّنَافِي يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْمَسْحِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الرِّجْلَانِ بَادِيَتَيْنِ، وَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ عَلَى مَا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفَّيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَعَمَلًا بِهِمَا
فصل المسح على الخفين
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ. وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا، وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَعْبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. ، وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ كَعْبِ الْقَنَاةِ، وَهُوَ أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ. وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا، وَكَذَا فِي الْعُرْفِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّاتِئُ، يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ: «أَلْصِقُوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ» وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا فِي النَّاتِئِ، وَمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الَّذِي عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ أَسْفَلَ الْكَعْبِ، فَقَالَ: إنَّ الْكَعْبَ هَهُنَا الَّذِي فِي مِفْصَلِ الْقَدَمِ فَنَقَلَ هِشَامٌ ذَلِكَ إلَى الطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، أَوْ كَانَ بِهِمَا عُذْرٌ مِنْ كَسْرٍ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ قُرْحٍ، فَوَظِيفَتُهُمَا الْمَسْحُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالثَّانِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ. [فَصْلٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ] (فَصْلٌ) أَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مُدَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَهِيَ مَغْسُولَةٌ، فَكَذَا الْأَرْجُلُ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ لَا عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ: «وَاَللَّهِ مَا مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ» ، وَلَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى ظَهْرِ عِيرٍ فِي الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ رِوَايَةٍ قَالَ: لَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ،، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُمَارَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: خَبَرُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ قَوْلًا، وَفِعْلًا، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِيهَا: أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ، وَتُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ، وَأَنْ تَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنْ لَا تُحَرِّمَ نَبِيذَ التَّمْرِ؛ يَعْنِي: الْمُثَلَّثَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا قُلْتُ: بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ فَكَانَ الْجُحُودُ رَدًّا عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَنِسْبَةَ إيَّاهُمْ إلَى الْخَطَأِ، فَكَانَ بِدْعَةً، فَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا خُلْفَ فِيهِ مَا مَسَحْنَا وَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، أَوْ بَعْدَهَا، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بيان مدة المسح
مَسَحَ بَعْدَ الْمَائِدَةِ» . وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ: لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَسْلَمْتُ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ فَنَعْمَلُ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ، فَنَقُولُ وَظِيفَتُهُمَا الْغَسْلُ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ، وَالْمَسْحُ إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَسَحَ عَلَى خُفِّهِ إنَّهُ مَسَحَ عَلَى رِجْلِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ عَلَى رِجْلِهِ، وَإِنْ ضَرَبَ عَلَى خُفِّهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تَصِحَّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عِكْرِمَةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْ رِوَايَتُهُ عَطَاءً قَالَ كَذَبَ عِكْرِمَةُ وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ النَّاسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى تَابَعَهُمْ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ تَرَفُّهًا، وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ شَرْعِيَّتُهُ بِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ السَّفَرُ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَفُّهِ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، إلَّا إنَّ حَاجَةَ الْمُسَافِرِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ، فَزِيدَتْ مُدَّتُهُ لِزِيَادَةِ التَّرْفِيهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [بَيَان مُدَّة الْمَسْح] مَطْلَبُ بَيَانِ مُدَّةِ الْمَسْحِ (وَأَمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْمَسْحِ) فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ؟ قَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كَمْ شَاءَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ وَقَدْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ: مَتَى عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ؟ قَالَ: سَبْعًا فَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَصَبْتَ السُّنَّةَ (وَبَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا) ، فَهُوَ غَرِيبٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمَشْهُورُ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْمَسْحِ سَبْعًا فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَقَدْ رَوَى جَابِرُ الْجُعْفِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " مَتَى عَهْدُكَ بِلُبْسِ الْخُفِّ؟ " ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ أَيْ مَتَى عَهْدُكَ بِابْتِدَاءِ اللُّبْسِ؟ ، وَإِنْ كَانَ تَخَلَّلَ بَيْنَ ذَلِكَ نَزْعُ الْخُفِّ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ؟ فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ إلَى وَقْتِ اللُّبْسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ إلَى وَقْتِ الْمَسْحِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ مَا انْفَجَرَ الصُّبْحُ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَعَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ اللُّبْسِ، يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ الْمَسْحِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا. وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، وَمَعْنَى الْمَنْعِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَدَثِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ تَوْسِعَةً، وَتَيْسِيرًا لِتَعَذُّرِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّزْعِ عِنْدَهُ، وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، لَا تَتَحَوَّلُ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ مَسْحِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لَمَّا تَمَّتْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ صَارَ الْخُفُّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَا مَانِعًا، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلَ الْخُفِّ فِي الشَّرْعِ. وَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ الْحَدَثِ، أَوْ بَعْدَ
الْحَدَثِ، قَبْلَ الْمَسْحِ، تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ السَّفَرِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ الْمَسْحِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ يَمْسَحُ تَمَامَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَيَنْزِعُ خُفَّيْهِ، وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ مُدَّةَ السَّفَرِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا، وَلَيْلَةً» ، وَلَمْ يُفَصِّلْ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا» ، وَهَذَا مُسَافِرٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُقِيمَ وَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَامَةُ بِالسَّفَرِ، هَذَا إذَا كَانَ مُقِيمًا فَسَافَرَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَأَقَامَ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَقَامَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ السَّفَرِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ تَمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، فَكَذَلِكَ يَنْزِعُ خُفَّيْهِ، وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَسَحَ لَمَسَحَ، وَهُوَ مُقِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَقَامَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ أَتَمَّ يَوْمًا، وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيُتِمُّ مُدَّةَ الْمُقِيمِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَبِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، فِي حَقِّ الْأَصِحَّاءِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ زُفَرَ وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ، إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ إذَا تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، وَاللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ كَانَ سَائِلًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَأَمَّا إنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، سَائِلًا وَقْتَ اللُّبْسِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ سَائِلًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، مُنْقَطِعًا وَقْتَ اللُّبْسِ، فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالَيْنِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَمَنَعَ الْخُفُّ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمَيْنِ مَا دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً. وَأَمَّا فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْتَكْمِلُ مُدَّةَ الْمَسْحِ كَالصَّحِيحِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ طَهَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهَا، فَحَصَلَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَأُلْحِقَتْ بِطَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي الْوَقْتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ طَهَارَتَهُ تُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ مُحْدِثًا مِنْ وَقْتِ السَّيَلَانِ. وَالسَّيَلَانُ كَانَ سَابِقًا عَلَى لُبْسِ الْخُفِّ، وَمُقَارِنًا لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا عَلَى الطَّهَارَةِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ ثَمَّةَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عَنْ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. (وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْمَسْحِ) فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَاسِحِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَاسِحِ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَتَمَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عِنْدَنَا، لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُ شَرْطٌ، فَكَانَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأُخَرِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، فَلَمْ تُوجَدْ الطَّهَارَةُ وَقْتَ اللُّبْسِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ فَرَتَّبَ، لَكِنَّهُ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ الْخُفَّ، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ الْخُفَّ، قِيلَ: " لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَإِنْ وُجِدَ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ " لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ لُبْسِهِمَا، حَتَّى لَوْ نَزَعَ الْخُفَّ الْأَوَّلَ ثُمَّ لَبِسَهُ جَازَ الْمَسْحُ، لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْمَسْحِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْحَدَثِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَلَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْغَسْلُ، وَكَذَا لَا حَاجَةَ بَعْدَ اللُّبْسِ قَبْلَ الْحَدَثِ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ الشَّرْطُ كَمَالَ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَخَاضَ الْمَاءَ حَتَّى أَصَابَ الْمَاءُ رِجْلَيْهِ فِي دَاخِلِ الْخُفِّ، ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ، وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَمَّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ اللُّبْسِ. وَلَوْ أَرَادَ
المسح على الجورب
الطَّاهِرُ أَنْ يَبُولَ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ بَالَ، جَازَ لَهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: " لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَقِيهٌ ". وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ، نَزَعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَى التَّيَمُّمِ، إذْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُعْقَلُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَعِنْدَ وُجُودِهِ ظَهَرَ حُكْمُهُ فِي الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ لَجَعَلْنَا الْخُفَّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً مُطْلَقًا تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا، نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَتَوَضَّأَ، وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَتَيَمَّمَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ. وَلَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، حَتَّى أَحْدَثَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَيَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ، إنْ كَانَ طَهُورًا فَالتَّيَمُّمُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الطَّهُورُ هُوَ التُّرَابُ، فَالْقَدَمُ لَا حَظَّ لَهَا مِنْ التَّيَمُّمِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى جَبَائِرِ قَدَمَيْهِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، أَوْ كَانَتْ إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحِيحَةً، فَغَسَلَهَا، وَمَسَحَ عَلَى جَبَائِرِ الْأُخْرَى، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرَأَ الْجُرْحُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، فَحَصَلَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَهُمَا مَغْسُولَتَيْنِ حَقِيقَةً فِي الْخُفِّ وَإِنْ كَانَ بَرَأَ الْجُرْحُ، نَزَعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ، فَظَهَرَ أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا عَلَى طَهَارَةٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ خَفِيفًا، فَإِنْ كَانَ غَلِيظًا، وَهُوَ الْجَنَابَةُ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْمَسْحُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يَأْمُرُنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا، لَا عَنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ» ،، وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْحَدَثِ الْخَفِيفِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ، وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ، وَالْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِ الْخُفِّ، وَالْجَنَابَةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا، فَلَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي النَّزْعِ. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خُفًّا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَمَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ، وَكَذَا مَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْجِلْدِ مِمَّا سِوَى الْخُفِّ، كَالْمُكَعَّبِ الْكَبِيرِ، وَالْمِيثَمِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخُفِّ. [الْمَسْح عَلَى الْجَوْرَب] مَطْلَبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوَارِبِ وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ، يُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ، وَلَا مُنَعَّلَيْنِ، فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْمَاءَ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَا ثَخِينَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ قَالَ لِعُوَّادِهِ: " فَعَلْتُ مَا كُنْت أَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ " فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوَارِبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَعَّلَةً، إلَّا إذَا كَانَتْ مُجَلَّدَةً إلَى الْكَعْبَيْنِ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ» ؛ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْخُفِّ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِالنَّزْعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَوْرَبِ، بِخِلَافِ اللِّفَافَةِ، وَالْمُكَعَّبِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي نَزْعِهِمَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ نَصًّا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ فِي إدْمَانِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، وَإِمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، يَلْحَقُ بِهِ، وَمَا لَا، فَلَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُجَلَّدِ، وَالْمُنَعَّلِ، مِنْ الْجَوَارِبِ لَا يُشَارِكُ الْخُفَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، عَلَى أَنَّ شَرْعَ الْمَسْحِ إنْ ثَبَتَ لِلتَّرْفِيهِ، لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْفِيهِ، فِيمَا يَغْلِبُ لُبْسُهُ، وَلُبْسُ الْجَوَارِبِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ، فَلَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى التَّرْفِيهِ، فَبَقِيَ أَصْلُ الْوَاجِبِ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ، وَبِهِ نَقُولُ: وَلَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الرَّقِيقَ مِنْ الْجَوَارِبِ؟ وَأَمَّا الْخُفُّ الْمُتَّخَذُ مِنْ اللَّبَدِ، فَلَمْ يَذْكُرُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،، وَقِيلَ: " إنَّهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا "، وَقِيلَ: " إنْ كَانَ يُطِيقُ السَّفَرَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا " وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. (وَأَمَّا) الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ مِنْ الْجِلْدِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْخُفَّيْنِ جَازَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ وَحْدَهُ، قِيلَ: " إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ "، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ؛ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ، لَجَعَلْنَا لِلْبَدَلِ بَدَلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ»
وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ يُشَارِكُ الْخُفَّ فِي إمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، فَيُشَارِكُهُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَارَكَهُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ، بِمَنْزِلَةِ خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ، وَذَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ: " الْمَسْحُ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ " مَمْنُوعٌ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، إلَّا إنَّهُ إذَا نَزَعَ الْجُرْمُوقَ لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، لِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَهُوَ الْخُفُّ. ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ عِنْدَنَا، إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْخُفَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، فَإِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَيْنِ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ لَا أَمَّا إذَا مَسَحَ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْخُفِّ، فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَمْسَحْ فَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمَسْحِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَدْ انْعَقَدَ فِي الْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجُرْمُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَهُنَا لَا حَاجَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ لُبْسُ الْجُرْمُوقِ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْحَدَثِ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا، مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ الْبَادِي، وَأَعَادَ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَزُفَرُ: " يَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ الْبَادِي، وَلَا يُعِيدُ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِعُ الْجُرْمُوقَ الْبَاقِي، وَيَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْجُرْمُوقَ بِالْخُفِّ، وَلَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، يَنْزِعُ الْآخَرَ، وَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ، كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ، وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ابْتِدَاءً، بِأَنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْخُفَّيْنِ جُرْمُوقٌ دُونَ الْآخَرِ، فَكَذَا بَقَاءٌ، وَإِذَا بَقِيَ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ، لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيء، فَإِذَا اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ فِي إحْدَاهُمَا بِنَزْعِ الْجُرْمُوقِ، تُنْتَقَضُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً، كَمَا إذَا نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ،، وَهُمَا لِبَاسَا الْكَفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَلَا حَرَجَ فِي نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ بِالْخُفِّ خَرْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ، فَلَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ،، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، الْخَرْقُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَمَا دَامَ اسْمُ الْخُفِّ لَهُ بَاقِيًا، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ، وَإِنْ قَلَّ وَجَبَ غَسْلُهُ لِحُلُولِ الْحَدَثِ بِهِ، لِعَدَمِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفِّ، وَالرِّجْلُ فِي حَقِّ الْغَسْلِ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ بَعْضِهَا، وَجَبَ غَسْلُ كُلِّهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْمَسْحِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ خِفَافَهُمْ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الْخُرُوقِ، فَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَيَانًا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْخُرُوقِ لَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ تَرَفُّهًا، فَلَوْ مَنَعَ قَلِيلَ الِانْكِشَافِ، لَمْ يَحْصُلْ التَّرْفِيهُ لِوُجُودِهِ فِي أَغْلَبِ الْخِفَافِ، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، هُوَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، مَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَصَابِعُ الْيَدِ، وَأَصَابِعُ الرِّجْلِ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصْغَرِ أَصَابِعِ الرِّجْلِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالثَّلَاثِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إذَا انْكَشَفَ، مَنَعَ مِنْ قَطْعِ الْأَسْفَارِ. وَالثَّانِي أَنَّ الثَّلَاثَ أَصَابِعَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، ثُمَّ الْخَرْقُ الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَتِحًا، بِحَيْثُ يَظْهَرُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْقَدَمِ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَوْ يَكُونَ مُنْضَمًّا لَكِنَّهُ يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْضَمًّا لَا يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْفَتِحًا، أَوْ يَنْفَتِحُ عِنْدَ الْمَشْيِ، لَا يُمْكِنُ قَطْعُ السَّفَرِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ، يَمْنَعُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَرْقُ فِي ظَاهِرِ الْخُفِّ، أَوْ فِي بَاطِنِهِ، أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِبِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ بَدَا ثَلَاثٌ مِنْ أَنَامِلِهِ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْنَعُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْنَعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ انْكَشَفَتْ الظِّهَارَةُ، وَفِي دَاخِلِهِ بِطَانَةٌ مِنْ جِلْدٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ الْقَدَمُ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِنْ بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، يَمْنَعُ، وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كَانَ فِي خُفَّيْنِ لَا يُجْمَعُ وَقَالُوا فِي النَّجَاسَةِ، إنْ كَانَتْ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَتْ جَوَازَ
فصل مقدار المسح
الصَّلَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرْقَ إنَّمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحَ لِظُهُورِ مِقْدَارِ فَرْضِ الْمَسْحِ، فَإِذَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، فَلَمْ يَظْهَرْ مِقْدَارُ فَرْضِ الْمَسْحِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي النَّجَاسَةِ هُوَ كَوْنُهُ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَمَعْنَى الْحَمْلِ مُتَحَقِّقٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، أَوْ فِي خُفَّيْنِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَمْسَحَ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ، حَتَّى لَوْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِهِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَاطِنِ لَا يَجُوزُ، وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ فِي الْمَسْحِ، إلَّا إذَا كَانَ عَلَى بَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ. وَحَكَى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ فِي كِتَابِ الِاخْتِلَافِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ مَسَحَ عَلَى الْعَقِبِ، أَوْ عَلَى جَانِبِيِّ الْخُفِّ، أَوْ عَلَى السَّاقِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ» . ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ دُونَ بَاطِنِهِمَا، وَلِأَنَّ بَاطِنَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو عَنْ لَوْثٍ عَادَةً، فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ تَلْوِيثًا لِلْيَدِ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْحَرَجِ، وَمَا شُرِعَ الْمَسْحُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ،، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَمَا لَا تُشْتَرَطُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْغَسْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ. وَكَذَا فِعْلُ الْمَسْحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَيْضًا، بَلْ الشَّرْطُ إصَابَةُ الْمَاءِ، حَتَّى لَوْ خَاضَ الْمَاءَ، أَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ، جَازَ عَنْ الْمَسْحِ، وَلَوْ مَرَّ بِحَشِيشٍ مُبْتَلٍّ، فَأَصَابَ الْبَلَلُ ظَاهِرَ خُفَّيْهِ، إنْ كَانَ بَلَلَ الْمَاءِ أَوْ الْمَطَرِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بَلَلَ الطَّلِّ قِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الطَّلَّ لَيْسَ بِمَاءٍ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْمَسْحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسْحِ، فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ هُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ طُولًا، وَعَرْضًا، مَمْدُودًا، أَوْ مَوْضُوعًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، الْمَفْرُوضُ هُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، كَمَا قَالَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ، وَلَا مَمْدُودَةٍ، لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ إلَى الْمَاءِ يَجُوزُ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، ثُمَّ الْكَرْخِيُّ اعْتَبَرَ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِأَصَابِعِ الرِّجْلِ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ، إذَا مَسَحَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ أَجْزَأَهُ، فَاعْتُبِرَ الْمَمْسُوحُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ وَضْعًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمَسْحِ أَنَّهُ الْخُطُوطُ بِالْأَصَابِعِ، وَالْأَصَابِعُ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ هَذَا تَقْدِيرًا لِلْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَلِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِهِ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ مَحْسُوسٌ، فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَمُسْتَتِرَةٌ بِالْخُفِّ، فَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا إلَّا بِالْحِرْزِ، وَالظَّنِّ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْلَى. [فَصَلِّ بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ] مَطْلَبُ نَوَاقِضِ الْمَسْحِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَالْمَسْحُ يُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ (مِنْهَا) انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَهِيَ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُوَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي إنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا، يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ، وَيُصَلِّي. (وَمِنْهَا) نَزْعُ الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهُ إذَا نَزَعَهُمَا فَقَدْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مُحْدِثًا، يَتَوَضَّأُ بِكَمَالِهِ، وَيُصَلِّي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَفِي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ وَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ قَدْ حَلَّ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَالْحَدَثُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي (وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ هُوَ الَّذِي حَلَّ بِقَدَمَيْهِ وَقَدْ غَسَلَ بَعْدَهُ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ، وَبَقِيَتْ الْقَدَمَانِ فَقَطْ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا غَسْلُهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ يُنْتَقَضُ مَسْحُهُ فِي الْخُفَّيْنِ، وَعَلَيْهِ نَزْعُ الْبَاقِي، وَغَسْلُهُمَا لَا غَيْرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا، وَالْوُضُوءُ بِكَمَالِهِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذْ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا، وَفِي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ فَحُلُولُهُ بِالْبَعْضِ كَحُلُولِهِ
شرط جواز المسح
بِالْكُلِّ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا تَمَّتْ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَنَزْعُ الْخُفِّ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا (وَلَنَا) أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ اسْتِتَارُهَا بِالْخُفِّ وَقَدْ زَالَ بِالنَّزْعِ فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ إحْدَاهُمَا وَجَبَ الْأُخْرَى وَلَوْ أَخْرَجَ الْقَدَمَ إلَى السَّاقِ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ، لِأَنَّ إخْرَاجَ الْقَدَمِ إلَى السَّاقِ إخْرَاجٌ لَهَا مِنْ الْخُفِّ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ قَدَمِهِ، أَوْ خَرَجَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْعَقِبِ مِنْ الْخُفِّ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ مِنْ الْخُفِّ اُنْتُقِضَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ فِي الْخُفِّ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ بَقِيَ الْمَسْحُ، وَإِلَّا اُنْتُقِضَ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَسْتَمْشِي فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ بَقِيَ الْمَسْحُ، وَإِلَّا فَيُنْتَقَضُ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ يَتَعَذَّرُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ هُوَ الْمَشْيُ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمَشْيُ انْعَدَمَ اللُّبْسُ فِيمَا قُصِدَ لَهُ؛؛ وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. مَطْلَبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ (وَأَمَّا) الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ. وَفِي بَيَانِ صِفَةِ هَذَا الْمَسْحِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا اُنْتُقِضَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ جَائِزٌ،، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَالَ: امْسَحْ عَلَيْهَا» شُرِعَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ عِنْدَ كَسْرِ الزَّنْدِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا شُجَّ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ، وَعَصَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ» ، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ؛ لِأَنَّ فِي نَزْعِهَا حَرَجًا وَضَرَرًا. [شَرْط جَوَازِ الْمَسْح] مَطْلَبُ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ (وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَسْلُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ وَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ، أَوْ لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ لَكِنَّهُ يُخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِنَزْعِ الْجَبَائِرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ، وَلَا يُخَافُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ ثُمَّ إذَا مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَالْخِرَقِ الَّتِي فَوْقَ الْجِرَاحَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا فَأَمَّا إذَا مَسَحَ عَلَى الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ عَنْ رَأْسِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَغْسِلْ مَا تَحْتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ؟ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ حَلَّ الْخِرْقَةَ، وَغَسَلَ مَا تَحْتَهَا مِنْ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ، وَيَقُومُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مَقَامَ غَسْلِ مَا تَحْتَهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخِرْقَةِ الَّتِي تُلَاصِقُ الْجِرَاحَةَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ، وَيَغْسِلَ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى نَفْسِ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْجَبِيرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى الْجَبِيرَةِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ. وَلَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَدْرَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ، وَهُوَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الرَّأْسِ صَحِيحٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَعِبَارَةُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا " إنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ فِي الرِّبَاطِ " وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ، وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَذَلِكَ يَضُرُّهُ أَجْزَأَهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ لَمْ يَجُزْ، فَخَرَجَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُورَةٍ، وَخَرَجَ جَوَابُهُمَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْخِلَافُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ يَضُرُّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، فَالْمَسْحُ أَوْلَى وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الِاخْتِلَافَ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ، وَيَعْقُوبَ، وَعِنْدَهُمَا وَاجِبٌ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ بِقَوْلِهِ: امْسَحْ عَلَيْهَا» ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ بِهِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا كَانَ الْمَسْحُ لَا يَضُرُّهُ يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: " إنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " عَنَى بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَيُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ وُجُوبَ الْعَمَلِ لَا الْفَرْضِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِفَرْضِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ بِوُجُوبِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوب فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضِيَّةُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَالْجَوَازُ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوُجُوبِ، وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى بَعْضِ الْجَبَائِرِ، وَمَسَحَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ مَسَحَ عَلَى الْأَكْثَرِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْأَكْثَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّقْدِيرِ، فَلَا تُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ، وَهَهُنَا لَا تَقْدِيرَ مِنْ الشَّرْعِ بَلْ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ حَرَجٍ فَأُقِيمَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبُ نَوَاقِضِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ،، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَسُقُوطُ الْجَبَائِرِ عَنْ بُرْءٍ يَنْقُضُ الْمَسْحَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَبَائِرَ إذَا سَقَطَتْ فَإِمَّا أَنْ تَسْقُطَ لَا عَنْ بُرْءٍ أَوْ عَنْ بُرْءٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ سَقَطَتْ لَا عَنْ بُرْءٍ فِي الصَّلَاةِ مَضَى عَلَيْهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يُعِيدُ الْجَبَائِرَ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَسْحِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَدَّهَا بِجَبَائِرَ أُخْرَى غَيْرَ الْأُولَى، بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا سَقَطَ الْخُفُّ فِي حَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ سَقَطَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغَسْلُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ سُقُوطَ الْغَسْلِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ كَمَا فِي النَّزْعِ، فَإِذَا سَقَطَ فَقَدْ زَالَ الْحَرَجُ، وَهَهُنَا السُّقُوطُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَكَانَ الْغَسْلُ سَاقِطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَسْحُ، وَالْمَسْحُ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا زَالَ الْمَمْسُوحُ، كَمَا إذَا مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْمَسْحِ، وَإِنْ زَالَ الْمَمْسُوحُ كَذَلِكَ هَهُنَا. وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ إنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا غَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ فِيهِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَسْلِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ قَائِمٌ لِانْعِدَامِ مَا يَرْفَعُهَا، وَهُوَ الْحَدَثُ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَصَلَّى أَيَّامًا، ثُمَّ بَرَأَتْ جِرَاحَتُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الْجَبْرُ عَلَى الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ يُعِيدُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْكَسْرِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ زَوَالِهِ كَالْمَحْبُوسِ فِي السِّجْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ مِنْ السِّجْنِ كَذَلِكَ هَهُنَا. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْبَيَانِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُفَارِقُ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ (فَمِنْهَا) : أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ مُؤَقَّتٌ بِالْبُرْءِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُؤَقَّتٌ بِالْأَيَّامِ لِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَقَّتَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا، وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا " وَلَمْ يُؤَقِّتْ هَهُنَا بَلْ أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: " امْسَحْ عَلَيْهَا ". (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِوَضْعِ الْجَبَائِرِ، حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا، وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ، حَتَّى لَوْ لَبِسَهُمَا، وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، فَإِذَا مَسَحَ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ غَسَلَ مَا تَحْتَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ، وَالْخُفُّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْحَدَثِ بِالْقَدَمَيْنِ لَا رَافِعًا لَهُ
فصل شرائط أركان الوضوء
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ لَا عَنْ بُرْءٍ لَا يُنْتَقَضُ الْمَسْحُ، وَسُقُوطُ الْخُفَّيْنِ أَوْ سُقُوطُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْمَسْحِ لِمَا بَيَّنَّا [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِمَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ، وَالْعَصِيرِ، وَاللَّبَنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] نَقَلَ الْحُكْمَ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْهُ هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، وَكَذَا الْغَسْلُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْغَسْلِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي تَتَسَارَعُ أَفْهَامُ النَّاسِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ، كَمَاءِ الْأَنْهَارِ، وَالْعُيُونِ، وَالْآبَارِ، وَمَاءِ السَّمَاءِ، وَمَاءِ الْغُدْرَانِ، وَالْحِيَاضِ، وَالْبِحَارِ، فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَعْدِنِهِ، أَوْ فِي الْأَوَانِي؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَا يَسْلُبُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَذْبًا أَوْ مِلْحًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ يُسَمَّى مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» ، وَالطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْمِيَاهِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَا يَنُوبُهَا مِنْ الدَّوَابِّ، وَالسِّبَاعِ فَقَالَ: لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا أَبْقَتْ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ، وَطَهُورٌ» «، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ» . مَطْلَبُ الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ (وَأَمَّا) الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا لَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِالْعِلَاجِ كَمَاءِ الْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،، وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ إذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ كَاللَّبَنِ، وَالْخَلِّ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ بِأَنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الَّذِي خَالَطَهُ مِمَّا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَاءِ كَاللَّبَنِ، وَمَاءِ الْعُصْفُرِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي اللَّوْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُ الْمَاءَ فِي اللَّوْنِ، وَيُخَالِفُهُ فِي الطَّعْمِ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ الْأَبْيَضِ، وَخَلِّهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي الطَّعْمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُهُ فِيهِمَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي الْأَجْزَاءِ. فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْأَجْزَاءِ؟ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْمَغْلُوبِ احْتِيَاطًا هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الَّذِي خَالَطَهُ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ زِيَادَةُ نَظَافَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيُطْبَخُ بِهِ أَوْ يُخَالِطُ بِهِ كَمَاءِ الصَّابُونِ، وَالْأُشْنَانِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ رِيحُهُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ، وَازْدَادَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ، وَكَذَلِكَ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ بِالسِّدْرِ، وَالْحُرُضِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا. وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بِالطِّينِ أَوْ بِالتُّرَابِ، أَوْ بِالْجِصِّ، أَوْ بِالنُّورَةِ أَوْ بِوُقُوعِ الْأَوْرَاقِ، أَوْ الثِّمَارِ فِيهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ، وَبَقِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ الظَّاهِرَةِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِتَغَيُّرِ طَعْمِ الْمَاءِ، وَصَيْرُورَتِهِ مَغْلُوبًا بِطَعْمِ التَّمْرِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَوَّزَ التَّوَضُّؤَ بِهِ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ تَيَمَّمَ مَعَهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَرَوَى نُوحٌ فِي الْجَامِعِ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، كَذَا قَالَ نُوحٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] نَقَلَ الْحُكْمَ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَى التُّرَابِ فَمَنْ نَقَلَهُ إلَى النَّبِيذِ، ثُمَّ مِنْ
النَّبِيذِ إلَى التُّرَابِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ، وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُمْ قَالُوا: رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو فَزَارَةَ هَذَا كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ، وَأَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: لَيْتَنِي كُنْتُ. وَسُئِلَ تِلْمِيذُهُ عَلْقَمَةُ هَلْ كَانَ صَاحِبُكُمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: وَدِدْنَا أَنَّهُ كَانَ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْكِتَابَ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَثْبُتْ أَوْ ثَبَتَ لَكِنَّهُ نُسِخَ بِهِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَامَ هَهُنَا دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْآخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ، وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا. وَهَهُنَا أَمْكَنَ، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُلُوسًا فِي بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِيَقُمْ مِنْكُمْ مَنْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقُمْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ يَقُمْ مِنَّا أَحَدٌ، فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقِيَامِ فَقُمْتُ، وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَتَزَوَّدْتُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ نَبِيذٍ فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَخَطَّ لِي خَطًّا وَقَالَ: إنْ خَرَجْتَ مِنْ هَذَا لَمْ تَرَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقُمْتُ قَائِمًا، حَتَّى انْفَجَرَ الصُّبْحُ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَرِقَ جَبِينُهُ، كَأَنَّهُ حَارَبَ جِنًّا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ هَلْ مَعَكَ مَاءٌ أَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقُلْتُ لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ فِي إدَاوَةٍ فَقَالَ ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ فَأَخَذَ ذَلِكَ، وَتَوَضَّأ بِهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ» . وَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «نَبِيذُ التَّمْرِ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَوَضَّئُوا بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا بِاللَّبَنِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَفَنِيَ مَاؤُهُمْ، وَمَعَهُمْ نَبِيذُ التَّمْرِ فَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَكَرِهَ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَكَرِهَ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهَذَا حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ وَاجِدًا لِلْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ كَانَ لَا يَرَى مَاءَ الْبَحْرَ طَهُورًا، أَوْ كَانَ يَقُولُ هُوَ مَاءُ سَخْطَةٍ، وَنِقْمَةٍ، كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . فَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ عَادِمًا لِلْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مَوْرِدَ الشُّهْرَةِ، وَالِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُوجِبًا عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا كَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ، وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الرَّاوِي فِي الْأَصْلِ وَاحِدًا، ثُمَّ اشْتَهَرَ، وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَمِثْلُهُ مِمَّا يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ مَعَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَبِيذِ التَّمْرِ فِي الْأَسْفَارِ يَسْبِقُ عَدَمَ الْمَاءِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرُ وُجُودًا، وَأَعَزُّ إصَابَةً مِنْ الْمَاءِ فَكَانَ تَعْلِيقُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ تَعْلِيقًا بِعَدَمِ النَّبِيذِ دَلَالَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَلَا نَبِيذَ تَمْرٍ فَتَيَمَّمُوا " إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ لِثُبُوتِهِ عَادَةً. يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَتَاوَى نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي زَمَانٍ انْسَدَّ فِيهِ بَابُ الْوَحْيِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ النَّاسِ بِالنَّاسِخِ، وَالْمَنْسُوخِ، فَبَطَلَ دَعْوَى النَّسْخِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الطَّعْنِ فِي الرَّاوِي، أَمَّا أَبُو فَزَارَةَ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، فَلَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَقَدْ قَالَ صَاعِدٌ، وَهُوَ مِنْ زُهَّادِ التَّابِعِينَ: وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَهُوَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فَكَانَ مَعْرُوفًا فِي نَفْسِهِ، وَبِمَوْلَاهُ فَالْجَهْلُ بِعَدَالَتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا طَعْنٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي الْخَطِّ، وَكَذَا رُوِيَ كَوْنُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرٍ آخَرَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا
رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَقْوَامًا مِنْ الزُّطِّ بِالْعِرَاقِ قَالَ: مَا أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ الْجِنِّ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُ، وَأَنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَاطَبَ فِيهَا الْجِنَّ أَيْ لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُ وَقْتَ خِطَابِهِ الْجِنَّ، وَوَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَقْتَ مَا خَاطَبَ الْجِنَّ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي جَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَهُوَ أَنْ يُلْقَى شَيْءٌ مِنْ التَّمْرِ فِي الْمَاءِ فَتَخْرُجُ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ،، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَطْرَحُ التَّمْرَ فِي الْمَاءِ الْمِلْحِ لِيَحْلُوَ، فَمَا دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا، أَوْ قَارِصًا يُتَوَضَّأُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ غَلِيظًا كَالرُّبِّ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إنْ كَانَ رَقِيقًا لَكِنَّهُ غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا، وَالْمُسْكِرُ حَرَامٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رَقِيقًا حُلْوًا، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْغَلِيظُ، وَالْمُرُّ، هَذَا إذَا كَانَ نِيئًا، فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ فَمَا دَامَ حُلْوًا أَوْ قَارِصًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْكَرْخِيِّ، وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي طَاهِرٍ لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ اسْمَ النَّبِيذِ كَمَا يَقَعُ عَلَى النِّيءِ مِنْهُ يَقَعُ عَلَى الْمَطْبُوخِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ الْمَائِعَاتُ الطَّاهِرَةُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا إذَا كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا، وَهَهُنَا أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ التَّمْرِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي طَاهِرٍ أَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي النِّيءِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيذِ فَقَالَ: تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا فِي الْمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ الْمَائِعَ الطَّاهِرَ إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ التَّوَضُّؤَ بِهِ " فَنَعَمْ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ أَصْلًا فَأَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا، وَهَهُنَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الطَّعْمِ، وَاللَّوْنِ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي شُرْبِهِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ كَمَا يَجُوزُ شُرْبُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَقَّ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالشُّرْبِ فَقَالَ: يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّوَضُّؤَ بِالنِّيءِ الْحُلْوِ مِنْهُ، فَبِالْمَطْبُوخِ الْمُرِّ أَوْلَى وَأَمَّا نَبِيذُ الزَّبِيبِ، وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا نِيئًا كَانَ النَّبِيذُ أَوْ مَطْبُوخًا، حُلْوًا كَانَ أَوْ مُرًّا قِيَاسًا عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْجَوَازَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ خَاصَّةً فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ طَاهِرًا، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْوُضُوءَ طَهُورًا، وَطَهَارَةً بِقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» ، وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَالْمَاءُ النَّجِسُ مَا خَالَطَهُ النَّجَاسَةُ، وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ الْقَدْرِ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ طَهُورًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ» ، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ فِي ذَاتِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ. فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَيَجُوزُ بِالْمَاءِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ فِي طَهُورِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي طَهَارَتِهِ، وَسَنُفَسِّرُهُ، وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فِيهِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَسْآرِ عِنْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) النِّيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرَائِطِ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ
فصل سنن الوضوء
بِدُونِ النِّيَّةِ وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ الشَّرَائِطِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِمَا، وَكَذَلِكَ إيمَانُ الْمُتَوَضِّئِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وُضُوئِهِ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ، فَلَا يَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ، وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ، وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ عِنْدَنَا لَا مِنْ الْفَرَائِضِ، فَكَانَ إلْحَاقُهَا بِفَصْلِ السُّنَنِ أَوْلَى. [فَصْلٌ سُنَنُ الْوُضُوءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَبَعْضُهَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَبَعْضُهَا فِي أَثْنَائِهِ، (أَمَّا) الَّذِي هُوَ قَبْلَ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) : الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا،، وَسَمَّى الْكَرْخِيُّ الِاسْتِنْجَاءَ اسْتِجْمَارًا إذْ هُوَ طَلَبُ الْجَمْرَةِ، وَهِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ، وَالطَّحَاوِيُّ سَمَّاهُ اسْتِطَابَةً، وَهِيَ طَلَبُ الطِّيبِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَالِاسْتِنْجَاءُ هُوَ طَلَبُ طَهَارَةِ الْقُبُلِ، وَالدُّبُرِ مِنْ النَّجْوِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَطْنِ، أَوْ مَا يَعْلُو، وَيَرْتَفِعُ مِنْ النَّجْوَةِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. (وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ، وَفِي بَيَان مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَفْوٌ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعَفْوٍ، ثُمَّ نَاقَضَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: إذَا اسْتَنْجَى بِالْأَحْجَارِ، وَلَمْ يَغْسِلْ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَيَقُّنًا بِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، إذْ الْحَجَرُ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ، وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ فِي تَرْكِهِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ " وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْمَفْرُوضِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا، وَصَلَّى يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ جُعِلَ عَفْوًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا اسْتَنْجَى زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً، أَوْ مَكَانًا خَالِيًا لِلْغَسْلِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَأُقِيمَ الِاسْتِنْجَاءُ مَقَامَ الْغَسْلِ فَتَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ كَمَا تَزُولُ بِالْغَسْلِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ» ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ فَالسُّنَّةُ هُوَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْأَمْدَارِ، وَالتُّرَابِ، وَالْخِرَقِ الْبَوَالِي. وَيُكْرَهُ بِالرَّوْثِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْجَاسِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَعَلَّلَ بِكَوْنِهَا نَجَسًا، فَقَالَ: إنَّهَا رِجْسٌ» أَوْ رِكْسٌ، أَيْ: نَجَسٌ. وَيُكْرَهُ بِالْعَظْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ، وَالرِّمَّةِ وَقَالَ: مَنْ اسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، أَوْ رِمَّةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَلَا بِالرَّوْثِ فَإِنَّ الْعَظْمَ زَادُ إخْوَانِكُمْ الْجِنِّ، وَالرَّوْثُ عَلَفُ دَوَابِّهِمْ» فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا، فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً، وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَيَكُونُ بِجِهَةِ كَذَا، وَبِجِهَةِ كَذَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، حَتَّى لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَسْتَنْجِ بِالْأَحْجَارِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَحْجَارِ فَيُرَاعَى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛، وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجَسٌ فِي نَفْسِهِ، وَالنَّجَسُ كَيْفَ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ؟ (وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ، إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ بِالرَّوْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ النَّجَسِ، وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ، وَكُرِهَ بِالْعَظْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ زَادِهِمْ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، فَلَا يُمْنَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَقَوْلُهُ: " الرَّوْثُ نَجَسٌ فِي نَفْسِهِ " مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ يَابِسٌ لَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى الْبَدَنِ فَيَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ نَوْعُ طَهَارَةٍ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ. وَيُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ وَمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَكَذَا بِعَلَفِ الْبَهَائِمِ، وَهُوَ الْحَشِيشُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا هُوَ الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ، فَإِنْ حَصَلَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ كَفَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالثَّلَاثِ زَادَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَدَدُ مَعَ الْإِنْقَاءِ شَرْطٌ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِمَا دُونِ الثَّلَاثِ كَمَّلَ الثَّلَاثَ، وَلَوْ تَرَكَ لَمْ يُجْزِهِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» أَمْرٌ بِالْإِيتَارِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى الرَّوْثَةَ» ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ حَجَرًا ثَالِثًا، وَلَوْ كَانَ الْعَدَدُ فِيهِ شَرْطًا لَسَأَلَهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ هُوَ التَّطْهِيرُ وَقَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيتَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَارِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمْرِ، وَكَذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ. وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَجْمِرُ بِيَسَارِهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ» ، وَلِأَنَّ الْيَسَارَ لِلْأَقْذَارِ. وَهَذَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي عَلَى الْمَخْرَجِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَزُولُ بِالْأَحْجَارِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ النَّجَسُ الْمَخْرَجَ فَإِنْ تَعَدَّاهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا وَجَبَ غَسْلُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَصْحَابِنَا لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِعَفْوٍ، وَهَذَا كَثِيرٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْمَخْرَجِ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَثِيرًا بِضَمِّ الْمُتَعَدِّي إلَيْهِ، وَهُمَا نَجَاسَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَلَا يُرَى أَنَّ إحْدَاهُمَا تَزُولُ بِالْأَحْجَارِ، وَالْأُخْرَى لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتَا فِي الْحُكْمِ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ فَكَانَتْ عَفْوًا. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ فَالِاسْتِنْجَاءُ مَسْنُونٌ مِنْ كُلِّ نَجَسٍ يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ لَهُ عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ كَالْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْوَدْيِ، وَالْمَذْيِ، وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لِلتَّطْهِيرِ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَ النَّجِسُ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَيْنًا مَرْئِيَّةً تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّطْهِيرِ بِالتَّقْلِيلِ، وَلَا اسْتِنْجَاءَ فِي الرِّيحِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ مَرْئِيَّةٍ. مَطْلَبٌ فِي السِّوَاكِ (وَمِنْهَا) السِّوَاكُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ؛، وَلِأَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُدْرِدَنِيَ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ بِالسِّوَاكِ» ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِأَيِّ سِوَاكٍ كَانَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ، صَائِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ صَائِمٍ، قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ السِّوَاكِ مُطْلَقَةٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) النِّيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ فَرِيضَةٌ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْعِبَادَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَازِمٌ، وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» ، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ فَكَذَا شَطْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّيَمُّمُ عِبَادَةً، حَتَّى لَا يَصِحَّ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] أَمْرٌ بِالْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] نَهَى الْجُنُبَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْي عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا عِنْدَ
التسمية في الوضوء
اغْتِسَالٍ مَقْرُونٍ بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ، أَوْ لَوْنَهُ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ، فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ خِلْقَةً، وَفِعْلُ اللِّسَانِ فَضْلٌ فِي الْبَابِ، حَتَّى لَوْ سَالَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا النِّيَّةُ، إذْ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ مِنْ الزَّوَائِدِ، فَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعُ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ، وَسِيلَةً إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْإِيمَان؛ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ، وَلَا شَطْرِهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْوُضُوءُ لَيْسَ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَهَكَذَا نَقُولُ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ، لَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، بَلْ لِانْعِدَامِ حُصُولِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ جُعِلَتْ طَهَارَةً عِنْدَ مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ طَهَارَةً، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ. [التَّسْمِيَة فِي الْوُضُوء] مَطْلَبٌ فِي التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ (النِّيَّةِ وَمِنْهَا) : التَّسْمِيَةُ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهَا فَرْضٌ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ بِالْقَلْبِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ دَفْعًا لِلْحَرِجِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» . (وَلَنَا) أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تُقَيَّدُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلتَّقْيِيدِ؛، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا فِي الْأَصْلِ، فَلَا تَقِفُ طَهُورِيَّتُهُ عَلَى صُنْعِ الْعَبْدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَ الْمَاءَ مِنْ بَدَنِهِ» ، وَالْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ الْآحَادِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَهُوَ مَعْنَى السُّنَّةِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَبِهِ نَقُولُ: " إنَّهُ سُنَّةٌ " لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ يُؤْتَى بِهَا قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: قَبْلَهُ لِأَنَّهَا سُنَّةُ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ. مَطْلَبٌ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ (وَمِنْهَا) : غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ فَرْضٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ خَاصَّةً، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْغَمْسِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَسْلِ فَرْضًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْغَسْلَ لَوْ وَجَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ مِنْ الْحَدَثِ، أَوْ مِنْ النَّجَسِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَسْلُ مِنْ الْحَدَثِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ غَسْلَ الْعُضْوِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ مِنْ مَنَامِهِ مَرَّةً، وَمَرَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ، لَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْغَسْلَ عِنْدَ الْحَدَثِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ النَّجَسَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَوْهُومٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ. «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، وَاحْتِمَالِهَا فَيُنَاسِبُهُ النَّدْبُ إلَى الْغُسْلِ، وَاسْتِحْبَابُهُ لَا الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى نَهْيِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْتِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَبْلَهُ، وَبَعْدَهُ تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ. مَطْلَبٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ
الترتيب في الوضوء
(وَمِنْهَا) : الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ دَوَاءً، وَطَهُورًا، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَيَقُولُ: إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يَبْعَرُ بَعْرًا، وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، وَهُوَ كَانَ مِنْ الْآدَابِ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ مَقْعَدَهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا» ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] فِي أَهْلِ قِبَا سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَأْنِهِمْ، فَقَالُوا: إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ. ثُمَّ صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ مِنْ السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَ بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ» ، ثُمَّ الْعَدَدُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِنْقَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُوَسْوَسًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى السَّبْعِ لِأَنَّ قَطْعَ الْوَسْوَسَةِ وَاجِبٌ، وَالسَّبْعُ هُوَ نِهَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْغَسْلِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ وُلُوغِ الْكَلْبِ. مَطْلَبٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ نَفْسَهُ إرْخَاءً تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِأُصْبُعٍ، ثُمَّ بِأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ بِثَلَاثٍ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ لَا بِرُءُوسِهَا كَيْلَا يُشْبِهَ إدْخَالَ الْأُصْبُعِ فِي الْعَوْرَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْعَلُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْجِيَ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَرْجِ الْخَارِجِ فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْجَنَابَةِ وَاجِبٌ، وَفِي بَابِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) : الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ وَقَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَهُمَا فَرْضَانِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلِ جَمِيعًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّتَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا فَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ احْتَجُّوا بِمُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمِ مِنْ الْبَوَاطِنِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمِ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَمَّا مَا سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْوَجْهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ عَادَةً، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، بِخِلَافِ بَابِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْلُ مَا يُمْكِن غَسْلُهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى سُنَنِ الْعِبَادَاتِ. (وَمِنْهَا) : التَّرْتِيبُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى التَّقْدِيمِ (وَمِنْهَا) : إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِكَفِّهِ فَيَتَمَضْمَضُ بِبَعْضِهِ، وَيَسْتَنْشِقُ بِبَعْضِهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ» . (وَلَنَا) أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا؛ وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ يُرَدُّ الْمُحْتَمَلُ إلَى الْمُحْكَمِ - وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا - تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. (وَمِنْهَا) : الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ؛ لِأَنَّ الْفَمَ مَطْهَرَةٌ، وَالْأَنْفَ مَقْذَرَةٌ، وَالْيَمِينُ لِلْإِطْهَارِ، وَالْيَسَارُ لِلْأَقْذَارِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: جَهِلْتَ السُّنَّةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَيْفَ أَجْهَلُ، وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ مِنْ بُيُوتِنَا؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ» . (وَمِنْهَا) : الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، إلَّا فِي حَالِ الصَّوْمِ فَيُرْفَقُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ «بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَارْفُقْ» ، وَلِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ فِي التَّطْهِيرِ، فَكَانَتْ مَسْنُونَةً إلَّا فِي حَالِ الصَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ. [التَّرْتِيب فِي الْوُضُوء] مَطْلَبٌ فِي التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ. (وَمِنْهَا) : التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ؛
الموالاة في الوضوء
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ السُّنَّةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ فَرْضٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَمْرَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّرْتِيبِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَيْثُ غَسَلَ مُرَتِّبًا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ (وَلَنَا) أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَالْجُمَعُ بِصِفَةِ التَّرْتِيبِ جَمْعٌ مُقَيَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَمْعٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُرَتَّبٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ عَمَلًا بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَا لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ مُرَادَةً مِنْ النَّصِّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ رَقَبَةٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُؤْمِنَةٌ، كَذَا هَهُنَا. وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّطْهِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقِفُ عَلَى التَّرْتِيبِ لِمَا مَرَّ. [الموالاة فِي الْوُضُوء] مَطْلَبُ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءُ. (وَمِنْهَا) : الْمُوَالَاةُ، وَهِيَ أَنْ لَا يَشْتَغِلُ الْمُتَوَضِّئُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْهُ؛، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُوَالَاةِ: أَنْ لَا يَمْكُثَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ مِقْدَارَ مَا يَجِفُّ فِيهِ الْعُضْوُ الْمَغْسُولُ، فَإِنْ مَكَثَ تَنْقَطِعُ الْمُوَالَاةُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ هِيَ فَرْضٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّرْتِيبِ، فَافْهَمْ. مَطْلَبُ التَّثْلِيثِ فِي الْغَسْلِ. (وَمِنْهَا) : التَّثْلِيثُ فِي الْغَسْلِ، وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ، وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا، أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَمَنْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: زَادَ عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ، وَنَقَصَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زَادَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَنْوِ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ، وَنَقَصَ عَنْ الْوَاحِدَةِ،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ دُونَ نَفْسِ الْفِعْلِ، مَعْنَاهُ فَمَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، أَوْ نَقَصَ عَنْ الثَّلَاثِ بِأَنْ لَمْ يَرَ الثَّلَاثَ سُنَّةً؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً فَقَدْ ابْتَدَعَ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ، حَتَّى لَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، أَوْ نَقَصَ وَرَأَى الثَّلَاثَ سُنَّةً لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ بَابِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ إذَا نَوَى بِهِ، وَأَنَّهُ نُورٌ عَلَى نُورٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُضُوءَ مَرَّتَيْنِ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِقَادَ لَا نَفْسَ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ. مَطْلَبُ الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ. (وَمِنْهَا) الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى التَّنَعُّلَ، وَالتَّرَجُّلَ. (وَمِنْهَا) : الْبُدَاءَةُ فِيهِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. (وَمِنْهَا) : تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَا بَيْنَهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُخَلِّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا تُخَلِّلُهَا نَارُ جَهَنَّمَ» ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَكَانَ مَسْنُونًا، وَلَوْ كَانَ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيكِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْرِيكِ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ. مَطْلَبُ الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. (وَمِنْهَا) : الِاسْتِيعَابُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ كُلَّهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ» ، وَعِنْدَ مَالِكٍ فَرْضٌ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ. (وَمِنْهَا) : الْبُدَاءَةُ بِالْمَسْحِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السُّنَّةُ الْبُدَاءَةُ مِنْ الْهَامَةِ، فَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهَا فَيَمُدُّهُمَا إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، ثُمَّ يُعِيدُهُمَا إلَى الْقَفَا. وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْتَدِئُ بِالْمَسْحِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَغْسُولَاتِ الْبُدَاءَةُ بِالْغَسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْعُضْوِ فَكَذَا فِي الْمَمْسُوحَاتِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً،، وَالتَّثْلِيثُ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ هِيَ التَّثْلِيثُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَسَلَا ثَلَاثًا، وَمَسَحَا بِالرَّأْسِ ثَلَاثًا، وَلِأَنَّ هَذَا رُكْنٌ أَصْلِيٌّ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ قِيَاسًا عَلَى الرُّكْنِ الْآخَرَ، وَهُوَ الْغَسْلُ، بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
فصل آداب الوضوء
بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَلْ ثَبَتَ رُخْصَةً، وَمَبْنَى الرُّخْصَةِ عَلَى الْخِفَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَا رَأَيْتُهُ مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً (وَأَمَّا) حِكَايَةُ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا مَسَحَا مَرَّةً وَاحِدَةً، كَذَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُد، فِي سُنَنِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا رَوَى عَبْدُ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَنْظُرْ إلَى وُضُوئِي هَذَا. وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّ التَّثْلِيثَ بِالْمِيَاهِ الْجَدِيدَةِ تَقْرِيبٌ إلَى الْغَسْلِ فَكَانَ مُخِلًّا بِاسْمِ الْمَسْحِ، وَاعْتِبَارُهُ بِالْغَسْلِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْحَ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَالتَّكْرَارُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، فَلَا يَلِيقُ بِالْمَسْحِ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ التَّكْرَارَ فِي الْغَسْلِ مُفِيدٌ لِحُصُولِ زِيَادَةِ نَظَافَةٍ، وَوَضَاءَةٍ لَا تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ، فَبَطَلَ الْقِيَاسُ. مَطْلَبُ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَمْسَحَ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرَهُمَا، وَبَاطِنَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ، وَلَيْسَا مِنْ الرَّأْسِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الرَّأْسَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، وَلَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا لَا يَنُوبُ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ كَانَا فِي حُكْمِ الرَّأْسِ لَنَابَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْخِلْقَةِ، بَلْ بَيَانَ الْحُكْمِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنُوبُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ لِأَنَّ وُجُوبَ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَكَوْنُ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ، فَلَوْ نَابَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ لَجَعَلْنَاهُمَا مِنْ الرَّأْسِ قَطْعًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَصَارَ هَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ، حَتَّى يُطَافَ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَكَوْنُ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، أَمَّا إذَا تَضَمَّنَ فَلَا، كَذَلِكَ هَهُنَا. (وَأَمَّا) تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ مِنْ الْآدَابِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ سُنَّةٌ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ لِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمِشْطِ» ، وَلَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا خَلَّلُوا لِحَاهُمْ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فَهُوَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ اتِّفَاقًا لَا بِطَرِيقِ الْمُوَاظَبَةِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى السُّنَّةِ. مَطْلَبُ مَسْحِ الرَّقَبَةِ (وَأَمَّا) مَسْحُ الرَّقَبَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: إنَّهُ سُنَّةٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ إنَّهُ أَدَبٌ. [فَصْلٌ آدَابُ الْوُضُوءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا آدَابُ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) : أَنْ لَا يَسْتَعِينَ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى وُضُوئِهِ بِأَحَدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ أَنَّهُ قَالَ «رَأَيْتُ عَلِيًّا يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي لَهُ، فَقَالَ مَهْ يَا أَبَا الْجَنُوبِ فَإِنِّي رَأَيْتُ عُمَرَ يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي لَهُ، فَقَالَ: مَهْ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي لَهُ، فَقَالَ: مَهْ يَا عُمَرُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينَنِي عَلَى صَلَاتِي أَحَدٌ» . (وَمِنْهَا) : أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي الْوُضُوءِ وَلَا يُقَتِّرَ، وَالْأَدَبُ فِيمَا بَيْنَ الْإِسْرَافِ، وَالتَّقْتِيرِ، إذْ الْحَقُّ بَيْنَ الْغُلُوِّ، وَالتَّقْصِيرِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» . (وَمِنْهَا) : دَلْكُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عَنْ الْأَعْضَاءِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا، إذَا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَمْلَأَ الْآنِيَةَ عِدَّةً لِوُضُوءٍ آخَرَ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فصل بيان ما ينقض الوضوء
وَلَكِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ السُّنَّةِ، وَالْأَدَبِ أَنَّ السُّنَّةَ مَا، وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي،، وَالْأَدَبُ مَا فَعَلَهُ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ الْحَدَثُ. وَالْكَلَامُ فِي الْحَدَثِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِه، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَدَثُ هُوَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: هُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ، وَالْأَنْفِ مِنْ الدَّمِ، وَالْقَيْحِ، وَالرُّعَافِ، وَالْقَيْءِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَدَمِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، أَوْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ،. وَقَالَ زُفَرُ: ظُهُورُ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ: هُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ الْمُعْتَادِ مِنْ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَجْعَلْ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ حَدَثًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَقَوْلُهُ «لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَوَضَّئِي، وَصَلِّي، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا» وَقَوْلُهُ تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي كَوْنَ الْخُرُوجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُعْتَادِ، وَغَيْرِ الْمُعْتَادِ لِمَا يُذْكَرُ، فَالْفَصْلُ يَكُونُ تَحَكُّمًا عَلَى الدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَاءَ فَغَسَلَ فَمَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ طُعِنَ كَانَ يُصَلِّي، وَالدَّمُ يَسِيلُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ مِنْ الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ، وَزَوَالُ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ كَيْفَ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبَدَنِ مَعَ أَنَّهُ لَا نَجَسَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي السَّبِيلَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ عُرِفَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَرَفْتُ لَهُ غَرْفَةً، فَأَكَلَهَا، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَقُلْتُ: الْوُضُوءَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ أَوْ بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ، إلَّا أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجَسِ مُرَادًا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَاءَ، أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي فَصْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ «تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ، وَعَلَّلَ بِانْفِجَارِ دَمِ الْعِرْقِ، لَا بِالْمُرُورِ عَلَى الْمَخْرَجِ، وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَهُمْ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَثَوْبَانُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَقِيلَ فِي التَّاسِعِ، وَالْعَاشِرِ: إنَّهُمَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ مُتَّبِعٌ لَهُمْ فِي فَتْوَاهُمْ، فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ إنَّمَا كَانَ حَدَثًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَنْجِيسَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ لِضَرُورَةِ تَنَجُّسِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ، فَتَزُولُ الطَّهَارَةُ ضَرُورَةً، إذْ النَّجَاسَةُ، وَالطَّهَارَةُ ضِدَّانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَمَتَى زَالَتْ الطَّهَارَةُ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مُنَاجَاةٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لَهَا، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُحْتَمَلٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَاءَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ. وَكَذَا اسْمُ الْوُضُوءِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْفَمِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ مَحْمَلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الطَّعْنِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ الطَّعْنِ مَعَ سَيَلَانِ الدَّمِ، وَصَلَّى. وَبِهِ نَقُولُ، كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَوْلُهُ: " إنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ " فَكَيْفَ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ؟ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ نَجَاسَةِ الْبَاطِنِ، لَكِنْ يَتَنَجَّسُ بِهِ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي زَالَ إلَيْهِ أَوْجَبَ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عَنْهُ، وَالْبَدَنُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، وَالنَّجَاسَةِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَالْعَزِيمَةُ هِيَ غَسْلُ كُلِّ الْبَدَنِ، إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَقَامَ غَسْلِ كُلِّ
الْبَدَنُ رُخْصَةً، وَتَيْسِيرًا، وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مَعْقُولٌ فَيَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ. وَقَوْلُهُ لَا نَجَاسَةَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً مَمْنُوعٌ بَلْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْحِسُّ لَا يُدْرِكُهَا، وَهِيَ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَإِذَا عَرَفْنَا مَاهِيَّةَ الْحَدَثِ نُخَرِّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ (فَنَقُولُ) إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ عَلَى رَأْسِ الْمَخْرَجِ انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّجَسُ، وَهُوَ انْتِقَالُهُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَخْرَجِ عُضْوٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنَّ مَوْضِعَ الْبَوْلِ الْمَثَانَةُ، وَمَوْضِعَ الْغَائِطِ مَوْضِعٌ فِي الْبَطْنِ يُقَالُ لَهُ قُولُونٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا سَالَ عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ، أَوْ لَمْ يَسِلْ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا الْمَنِيُّ، وَالْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَدَمُ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسُ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَنْجَاسٌ لِمَا يُذْكَر فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وَقَدْ انْتَقَلَتْ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ فَوَجَدَ خُرُوجَ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَدَمُ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسُ، وَبَعْضُهَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ الْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِمَا يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْوَلَدِ، وَالدُّودَةِ، وَالْحَصَا، وَاللَّحْمِ، وَعُودِ الْحُقْنَةِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةٌ فِي أَنْفُسِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ نَجَسٍ يَخْرُجُ مَعَهَا، وَالْقَلِيلُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ خَارِجٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْ الدُّبُرِ، لِأَنَّ الرِّيحَ، وَإِنْ كَانَتْ جِسْمًا طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ نَجَسٍ يَقُومُ بِهِ لِانْبِعَاثِهِ مِنْ مَحَلِّ الْأَنْجَاسِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . (وَأَمَّا) الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ، أَوْ ذَكَرِ الرَّجُلِ فَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا الْوُضُوءُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُفْضَاةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلَكُ النَّجَاسَةِ كَالدُّبُرِ فَكَانَتْ الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْهُمَا كَالْخَارِجَةِ مِنْ الدُّبُرِ فَيَكُونُ حَدَثًا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الرِّيحَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَخُرُوجُ الطَّاهِرِ لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ بِمَا يَخْرُجُ بِخُرُوجِهَا مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَسِ، وَمَوْضِعُ الْوَطْءِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِمَسْلَكِ الْبَوْلِ فَالْخَارِجُ مِنْهُ مِنْ الرِّيحِ لَا يُجَاوِرُهُ النَّجَسُ، وَإِذَا كَانَتْ مُفْضَاةً فَقَدْ صَارَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ، وَمَسْلَكُ الْوَطْءِ مَسْلَكًا وَاحِدًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرِّيحَ خَرَجَتْ مِنْ مَسْلَكِ الْبَوْلِ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ، وَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ، وَقِيلَ إنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْ الذَّكَرِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاجٌ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ رِيحًا هَذَا حُكْمُ السَّبِيلَيْنِ. فَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مِنْ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ فَإِنْ سَالَ الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ، وَهُوَ انْتِقَالُ النَّجَسِ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْتَقَضُ لِانْعِدَامِ الْخُرُوجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ سَوَاءٌ سَالَ، أَوْ لَمْ يَسِلْ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ فَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ، وَلَمْ يَسِلْ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا سَالَ أَوْ لَمْ يَسِلْ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هُوَ ظُهُورُ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ ظُهُورَ النَّجَسِ اُعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ سَالَ عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِلْ فَكَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الظُّهُورَ مَا اُعْتُبِرَ حَدَثًا فِي مَوْضِعٍ مَا، وَإِنَّمَا اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ فِي السَّبِيلَيْنِ إذَا ظَهَرَ النَّجَسُ عَلَى رَأْسِ الْمَخْرَجِ لَا بِالظُّهُورِ بَلْ بِالْخُرُوجِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا كَذَا هَهُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّمَ إذَا لَمْ يَسِلْ كَانَ فِي مَحَلِّهِ، لِأَنَّ الْبَدَنَ مَحَلُّ الدَّمِ، وَالرُّطُوبَاتِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجَلْدَةِ. وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَالَ السُّتْرَةِ لَا زَوَالَ الدَّمِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلَا حُكْمَ لِلنَّجَسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَإِذَا سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدْ انْتَقَلَ عَنْ مَحَلِّهِ فَيُعْطِي لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَفِي السَّبِيلَيْنِ وُجِدَ الِانْتِقَالُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَعَلَى هَذَا خُرُوجُ الْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا قَلَّ، أَوْ كَثُرَ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَمَضْمَضَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فَإِذَا، وَصَلَ الْقَيْءُ إلَيْهِ فَقَدْ
ظَهَرَ النَّجَسُ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا، وَإِنَّا نَقُولُ لَهُ مَعَ الظَّاهِرِ حُكْمُ الظَّاهِرِ كَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ وَلَهُ مَعَ الْبَاطِنِ حُكْمُ الْبَاطِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، فَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إلَى الْفَمِ حَدَثًا، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ بَعْضِ الْبَاطِنِ إلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْحَدَثُ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الْفَمِ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، وَالْخُرُوجُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَإِمْسَاكُهُ، فَلَا يَخْرُجُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا يُوجَدُ السَّيَلَانُ، وَيَتَحَقَّقُ فِي الْكَثِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَإِمْسَاكُهُ فَكَانَ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِالْإِخْرَاجِ فَيُوجَدُ السَّيَلَانُ. ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ زُفَرَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْقَلْسُ حَدَثٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّ الْقَلِيلَ خَارِجٌ نَجِسٌ كَالْكَثِيرِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ، وَالْكَثِيرُ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً وَقَالَ فِيهَا أَوَدُّ سَعَةً تَمْلَأُ الْفَمَ» ، وَلَوْ كَانَ الْقَلِيلُ حَدَثًا لِعِدَّةٍ عِنْدَ عَدِّ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَقَوْلُهُ وُجِدَ خُرُوجُ النَّجَسِ فِي الْقَلِيلِ قُلْنَا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَفِي قَلِيلِ الْقَيْءُ ضَرُورَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْهُ خُصُوصًا حَالَ الِامْتِلَاءِ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّعَالِ، وَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَيْءُ مَرَّةً صَفْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَعَامًا أَوْ مَاءً صَافِيًا، لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ، وَالطَّعَامِ، أَوْ الْمَاءِ نَجَسًا لِاخْتِلَاطِهِ بِنَجَاسَاتِ الْمِعْدَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ مِلْءِ الْفَمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ هُوَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ هُوَ أَنْ يَعْجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَا قَدَرَ عَلَى إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ لَا يَكُون بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا يَكُونُ سَائِلًا، وَمَا عَجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا، وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ، وَلَوْ قَاءَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ مِرَارًا هَلْ يُجْمَعُ، وَيُعْتَبَرُ حَدَثًا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ، وَإِلَّا، فَلَا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِسَبَبِ غَثَيَانٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ، وَإِلَّا، فَلَا وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ يُجْمَعُ كَيْفَمَا كَانَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ جَامِعًا لِأَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا فِي بَاب الْبَيْعِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ، وَاعْتِبَارَ الْغَثَيَانِ اعْتِبَارُ السَّبَبِ، وَالْوُجُودُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الْمَكَانِ. وَلَوْ سَالَ الدَّمُ إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ أَوْ إلَى صِمَاخِ الْأُذُنِ يَكُونُ حَدَثًا لِوُجُودِ خُرُوجِ النَّجَسِ، وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّمِ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَقْلَفَ خَرَجَ الْبَوْلُ أَوْ الْمَذْيُ مِنْ ذَكَرِهِ، حَتَّى صَارَ فِي قُلْفَتِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ الْمَذْي، أَوْ الْبَوْلُ مِنْ فَرْجِهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ، وَلَوْ حَشَا الرَّجُلُ إحْلِيلَهُ بِقُطْنَةٍ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْهَا لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبَلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ يُنْظَرَ إنْ كَانَتْ الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أَوْ مُحَاذِيَةً لِرَأْسِ الْإِحْلِيلِ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِتَحَقُّقِ الْخُرُوجِ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لَمْ يُنْتَقَضْ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَلَوْ حَشَتْ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا بِقُطْنَةٍ فَإِنْ وَضَعَتْهَا فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْقُطْنَةِ كَانَ حَدَثًا، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّ الْفَرْجَ الْخَارِجَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَلْيَتَيْنِ مِنْ الدُّبُرِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ، وَإِنْ وَضَعَتْهَا فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْقُطْنَةِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ فَإِنْ كَانَتْ الْقُطْنَةُ عَالِيَةً، أَوْ مُحَاذِيَةً لِجَانِبِ الْفَرْجِ كَانَ حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لَمْ يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تَسْقُطْ الْقُطْنَةُ فَإِنْ سَقَطَتْ الْقُطْنَةُ فَهُوَ حَدَثٌ، وَحَيْضٌ فِي الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ ابْتَلَّ الْجَانِبُ الْخَارِجُ، أَوْ الدَّاخِلُ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ. وَلَوْ كَانَ فِي أَنْفِهِ قُرْحٌ فَسَالَ الدَّمُ عَنْ رَأْسِ الْقُرْحِ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَنْخَرِ لِوُجُودِ السَّيَلَانِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ مَعَهُ الدَّمُ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّ الْغَالِبَ إذَا كَانَ هُوَ الْبُزَاقُ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الدَّمُ كَانَ خُرُوجُهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً
فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ حَدَثًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا احْتَمَلَ أَنَّ الدَّمَ خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ، فَلَا يُجْعَلُ حَدَثًا بِالشَّكِّ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا تَعَارَضَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ خَارِجًا بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. وَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ فَمَسَحَهُ مِرَارًا فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تَرَكَهُ لَسَالَ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِلَّا، فَلَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ، وَلَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الرَّمَادَ، أَوْ التُّرَابَ فَتَشَرَّبَ فِيهِ، أَوْ رَبَطَ عَلَيْهِ رِبَاطًا فَابْتَلَّ الرِّبَاطُ، وَنَفَذَ قَالُوا: يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ سَائِلُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الرِّبَاطُ ذَا طَاقَيْنِ فَنَفَذَ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ سَقَطَتْ الدُّودَةُ أَوْ اللَّحْمُ مِنْ الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا، وَلَوْ سَقَطَتْ مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ السَّبِيلِ نَجِسَةٌ فِي نَفْسِهَا لِتَوَلُّدِهَا مِنْ الْأَنْجَاسِ وَقَدْ خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا، وَخُرُوجُ النَّجِسِ بِنَفْسِهِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْقُرْحِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ نَفْسُهَا لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ اللَّحْمِ، وَاللَّحْمُ طَاهِرٌ، وَإِنَّمَا النَّجَسُ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ، وَتِلْكَ الرُّطُوبَاتُ خَرَجَتْ بِالدَّابَّةِ لَا بِنَفْسِهَا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجُ النَّجَسِ، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا. وَلَوْ خَلَّلَ أَسْنَانَهُ فَظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْخِلَالِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ عَضَّ عَلَى شَيْءٍ فَظَهَرَ الدَّمُ عَلَى أَسْنَانِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ سَعَطَ فِي أَنْفِهِ وَوَصَلَ السَّعُوطُ إلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَنْفِ أَوْ إلَى الْأُذُنِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ مَوْضِعَ الْأَنْجَاسِ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْفَمِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا قُلْنَا وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَيْءِ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْفَمِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ فِي الْجَوْفِ. وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَهُوَ حَدَثٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَوَابُهُمَا فِي الْمُنْحَدِرِ مِنْ الرَّأْسِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَدَثٍ عِنْدَ الْكُلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمُنْحَدَرِ مِنْ الرَّأْسِ اتِّفَاقٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ. وَفِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ اخْتِلَافٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجَسٌ لِاخْتِلَاطَهِ بِالْأَنْجَاسِ، لِأَنَّ الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَيَكُونُ حَدَثًا كَمَا لَوْ قَاءَ طَعَامًا أَوْ مَاءً، وَلَهُمَا أَنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا عَلَى أَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَادُوا أَخْذَ الْبَلْغَمِ بِأَطْرَافِ أَرْدِيَتِهِمْ، وَأَكْمَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَأَنَّهُ حَدَثٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَجَوَابُهُمَا فِي الصَّاعِدِ مِنْ حَوَاشِي الْحَلْقِ، وَأَطْرَافِ الرِّئَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ صَافِيًا غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ، وَغَيْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصْعَدْ مِنْ الْمَعِدَةِ، فَلَا يَكُونُ نَجَسًا، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَعِدَ مِنْهَا فَكَانَ نَجِسًا فَيَكُونُ حَدَثًا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا إذَا قَاءَ دَمًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا، وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا جَامِدًا كَانَ، أَوْ مَائِعًا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مَائِعًا يَنْقُضُ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ كَيْفَمَا كَانَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا صَحَّحُوا رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ، وَالْمُعَلَّى فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمَائِعِ عَلَى الرُّجُوعِ. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا، لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ خُرُوجِ النَّجَسِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لَهُ، وَالْقَلِيلُ لَيْسَ بِخَارِجٍ لِمَا مَرَّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فَإِنَّهُ قَالَ، وَإِذَا قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الدَّمِ، وَغَيْرِهِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا حَقَّقُوا الِاخْتِلَافَ، وَصَحَّحُوا قَوْلَهُمَا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ. وَلَا حَرَجَ فِي اعْتِبَارِ الْقَلِيلِ مِنْ الدَّمِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ. (وَأَمَّا) أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالْمَبْطُونِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ أَوْ رِيحٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ
صَلَاةٍ إلَّا، وَيُوجَدُ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْحَدَثِ فِيهِ فَخُرُوجُ النَّجَسِ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُ حَدَثًا فِي الْحَالِ مَا دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا، حَتَّى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَوْ تَوَضَّأَتْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَا شَاءَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ، وَإِنْ دَامَ السَّيَلَانِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ كَانَ الْعُذْرُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ كَالِاسْتِحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ، وَخُرُوجِ الرِّيحِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ، وَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةَ، وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُنَافِيهَا، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا، وَالشَّيْءُ لَا يُوجَدُ، وَلَا يَبْقَى مَعَ الْمُنَافِي إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ، وَالضَّرُورَةِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَدَاءِ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْمُنَافِي، وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَائِهَا، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ، وَاقِعَةٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ فَرْضٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْعَزِيمَةَ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِحْرَازًا لِلثَّوَابِ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ تَرْكَ شَغْلِ بَعْضِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ رُخْصَةً، وَتَيْسِيرًا فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةً تَمْكِينًا مِنْ اسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ بِالْقَضَاءِ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْقِوَامِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ شَغْلًا لِجَمِيعِ الْوَقْتِ حُكْمًا فَصَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا ثُمَّ قِيَامُ الْأَدَاءِ مُبْقٍ لِلطَّهَارَةِ فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْ لِكُلِّ فَرْضٍ تَقْضِي لَزَادَ عَلَى الْخَمْسِ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ وَقْتِهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمَتْ، وَصَلَّيْت» . وَالْمُدْرَكُ هُوَ الْوَقْتُ دُونَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، أَيْ: لِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، أَيْ لِوَقْتِهَا فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ، وَيُرَادُ بِهَا وَقْتُهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْوَقْتُ، وَيُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَإِنَّمَا تَبْقَى طَهَارَةُ صَاحِبِ الْعُذْرِ فِي الْوَقْتِ إذَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ أَمَّا إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ، فَلَا تَبْقَى، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الدَّمِ السَّائِلِ لَا فِي غَيْرِهِ فَكَانَ هُوَ فِي غَيْرِهِ كَالصَّحِيحِ قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَوَضَّأَ لِلْحَدَثِ أَوْ لَا، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوُضُوءَ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ الْعُذْرِ فَكَانَ عَدَمًا فِي حَقِّهِ. وَكَذَا إذَا سَالَ الدَّمُ مِنْ أَحَدِ مَنْخَرَيْهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَالَ مِنْ الْمَنْخَرِ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ جَدِيدٌ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَقَعُ الطَّهَارَةُ لَهُ فَكَانَ هُوَ، وَالْبَوْلُ، وَالْغَائِطُ سَوَاءً فَأَمَّا إذَا سَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ انْقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ حَصَلَتْ لَهُمَا جَمِيعًا. وَالطَّهَارَةُ مَتَى وَقَعَتْ لِعُذْرٍ لَا يَضُرُّهَا السَّيَلَانُ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ فَبَقِيَ هُوَ صَاحِبَ عُذْرٍ بِالْمَنْخَرِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ صَاحِبُ الْقُرُوحِ إذَا كَانَ الْبَعْضُ سَائِلًا ثُمَّ سَالَ الْآخَرُ، أَوْ كَانَ الْكُلُّ سَائِلًا فَانْقَطَعَ السَّيَلَانُ عَنْ الْبَعْضِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمْ أَيَّهُمَا كَانَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وَقَالَ زُفَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ أَيِّهِمَا كَانَ، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ كَمَا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ، وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ كَمَا إذَا تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ، ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّ
طَهَارَتَهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ، وَبِهِ يَحْتَجُّ أَبُو يُوسُفَ فِي جَانِبِ الدُّخُولِ، وَفِي جَانِبِ الْخُرُوجِ يَقُولُ كَمَا لَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي قَبْلَ الدُّخُولِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْمُنَافِي، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ شَرْعًا أُقِيمَ مَقَامَ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ وَقْتِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً فَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ شَرْعًا، حَتَّى يُمْكِنُهُ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ انْعَدَمَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَمَشَايِخُنَا أَدَارُوا الْخِلَافَ عَلَى الدُّخُولِ، وَالْخُرُوجِ فَقَالُوا: تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، أَوْ بِدُخُولِهِ لِتَيْسِيرِ الْحِفْظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ لَا لِأَنَّ لِلْخُرُوجِ، أَوْ الدُّخُولِ تَأْثِيرًا فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ تَوَضَّأَ صَاحِبُ الْعُذْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ لِصَلَاةِ الضُّحَى وَصَلَّى هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هَذِهِ طَهَارَةً وَقَعَتْ لِصَلَاةٍ مَقْصُودَةٍ فَتُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِلظُّهْرِ لِحَاجَتِهِ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ بِهَا أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَالضُّحَى، وَالنَّفَلُ كَمَا إذَا تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، ثُمَّ دَخَلَ الْوَقْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهَا الظُّهْرَ، وَصَلَاةً أُخْرَى فِي الْوَقْتِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا آخَرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْعَصْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ قَدْ صَحَّتْ لِجَمِيعِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ الْوَقْتُ، فَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ قِيَامِ الْأُولَى بَلْ كَانَتْ تَكْرَارًا لِلْأُولَى فَالْتَحَقَتْ الثَّانِيَةُ بِالْعَدَمِ فَتُنْتَقَضُ الْأَوْلَى بِخُرُوجِ الْوَقْتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، حَتَّى يَشْتَغِلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَدَمٌ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ طَهَارَةُ الظُّهْرِ لَا طَهَارَةُ الْعَصْرِ. وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مُسْتَحَاضَةٌ وَدَمُهَا سَائِلٌ، أَوْ سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ، لِأَنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا فَتُنْتَقَضُ صَلَاتُهَا، وَلَا تَبْنِي لِأَنَّهَا صَارَتْ مُحْدِثَةً عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مِنْ حِينِ دُرُورِ الدَّمِّ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلَوْ تَوَضَّأَتْ، وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ، وَخَرَجَ الْوَقْتُ، وَهِيَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ قَبْلَ سَيَلَانِ الدَّمِ، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ تَوَضَّأَتْ، وَبَنَتْ، لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ لَاحِقٌ، وَلَيْسَ بِسَابِقٍ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ مَا يُنَافِيهَا وَقْتَ حُصُولِهَا وَقَدْ حَصَلَ الْحَدَثُ لِلْحَالِ مُقْتَصِرًا غَيْرَ مُوجِبٍ ارْتِفَاعَ الطَّهَارَةِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَوْ تَوَضَّأَتْ، وَالدَّمُ سَائِلٌ، ثُمَّ انْقَطَعَ، ثُمَّ صَلَّتْ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، وَدَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ أُخْرَى ثُمَّ سَالَ الدَّمُ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى. لِأَنَّ الدَّمَ لَمَّا انْقَطَعَ، وَلَمْ يَسِلْ، حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الطَّهَارَةُ طَهَارَةَ عُذْرٍ فِي حَقِّهَا لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا صَلَّتْ بِلَا طَهَارَةٍ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْعُذْرِ، وَأَمَّا حُكْمُ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَنَقُولُ إذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا كَانَ الْغَسْلُ مُفِيدًا بِأَنْ كَانَ لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى لَوْ لَمْ يَغْسِلْ، وَصَلَّى لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يَقُولُ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا عَفْوٌ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ. (وَأَمَّا) الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي أَنْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ وَهُوَ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ، وَيَنْتَشِرَ لَهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ، وَلَمْ يَرَ بَلَلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَثًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَلْ
تُشْتَرَطُ مُلَاقَاةُ الْفَرْجَيْنِ، وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا، وَشَرَطَهُ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلَاقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْمُسَبَّبِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ، لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ يَقِظَةٍ فَيُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ «أَبَا الْيُسْرِ بَائِعُ الْعَسَلِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي أَصَبْت مِنْ امْرَأَتِي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأْ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إلَّا إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَفَّ لِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، أَوْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْخُرُوجِ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ خُصُوصًا فِي أَمْرٍ يُحْتَاطُ فِيهِ كَمَا يُقَامُ الْمَسُّ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بَلْ يُقَامُ نَفْسُ النِّكَاحِ مَقَامَهُ، وَيُقَامُ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ مَقَامَ الْحَدَثِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا. وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ، أَوْ غَيْرِ شَهْوَةِ فَرْجِهَا أَوْ سَائِرِ أَعْضَائِهَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلَمْ يُنْشَرْ لَهَا لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ كَانَتْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ يَكُونُ حَدَثًا كَيْفَمَا كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَهَلْ تُنْتَقَضُ طَهَارَةُ الْمَلْمُوسَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وَالْمُلَامَسَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ اللَّمْسِ، وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَاحِدٌ لُغَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] . وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ لِلَّمْسِ بِالْيَدِ، وَلِلْجِمَاعِ مَجَازٌ، أَوْ هُوَ حَقِيقَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا لِوُجُودِ الْمَسِّ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ آلَةُ الْمَسِّ فَكَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لَهُمَا لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِمَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّمْسَ حَدَثًا حَيْثُ أَوْجَبَ بِهِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، وَهِيَ التَّيَمُّمُ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَقَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَوَضَّأُ» ، وَلِأَنَّ الْمَسَّ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، وَلِأَنَّ مَسَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّمْسِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اللَّمْسَ إذَا قُرِنَ بِالنِّسَاءِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ تَقُولُ الْعَرَبُ لَمَسْت الْمَرْأَةَ، أَيْ: جَامَعْتهَا عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ إمَّا حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُنْتَقَضُ احْتَجَّ بِمَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مَسَّ الذَّكَرِ حَدَثًا، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أُبَالِي مَسِسْته، أَوْ أَرْنَبَةَ أَنْفِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلرَّاوِي إنْ كَانَ نَجَسًا فَاقْطَعْهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الْأَنْفِ، وَلِأَنَّ مَسَّ الْإِنْسَانِ ذَكَرَهُ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَمَا رَوَاهُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَشَاوَرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ، وَلَوْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ دُونَ الْمَاءِ فَإِذَا مَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ كَانَتْ تَتَلَوَّثُ خُصُوصًا فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ لِهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَقْلَ أَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُ فِي اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَاسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَذَلِكَ حَدَثٌ فَهَذَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْجُنُونُ فَلِأَنَّ الْمُبْتَلَى بِهِ يُحْدِثُ حَدَثًا، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ، وَالسُّكْرُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَقْلَ فِي مَعْنَى الْجُنُونِ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ وَقَدْ انْضَافَ إلَيْهِ اسْتِرْخَاءُ الْمَفَاصِلِ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الِاضْطِّجَاعِ، وَالْقِيَامِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ حَالٍ، وَحَالٍ. (وَمِنْهَا) النَّوْمُ مُضْطَجِعًا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا بِلَا
خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ النَّظَّامُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ، وَخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَامَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى غَطَّ، وَنَفَخَ، ثُمَّ قَالَ: لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا، أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَلَّلَ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَكَذَا النَّوْمُ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ نَامَ عَلَى أَحَدِ وِرْكَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عَنْ الْأَرْضِ فَكَانَ فِي مَعْنَى النَّوْمِ مُضْطَجِعًا فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالُ مَسْكَةُ الْيَقَظَةِ فَأَمَّا النَّوْمُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ حَدَثًا سَوَاءٌ غَلَبَهُ النَّوْمُ، أَوْ تَعَمَّدَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ النَّوْمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا أَدْرِي أَسَأَلْته عَنْ الْعَمْدِ، أَوْ الْغَلَبَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ نَامَ مُتَعَمِّدًا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا إذَا كَانَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا إذَا كُنَّا سَفْرًا إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ نَوْمٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ» فَقَدْ جُعِلَ النَّوْمُ حَدَثًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْعَيْنَانِ وِكَاءُ الِاسْتِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءَ» أَشَارَ إلَى كَوْنِ النَّوْمِ حَدَثًا حَيْثُ جَعَلَهُ عِلَّةَ اسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ نَفَى الْوُضُوءَ فِي النَّوْمِ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِجَاعِ، وَأَثْبَتَهُ فِيهَا بِعِلَّةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالِ مَسْكَةِ الْيَقَظَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهَا بَاقٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي سُجُودِهِ يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ فِي طَاعَتِي» . وَلَوْ كَانَ النَّوْمُ فِي الصَّلَاةِ حَدَثًا لِمَا كَانَ جَسَدُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى النَّوْمِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ، وَكَذَا اسْتِطْلَاقُ الْوِكَاءِ يَتَحَقَّقُ بِهِ لَا بِكُلِّ نَوْمٍ وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي النَّوْمِ حَالَة الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ حَالَةَ الْغَلَبَةِ لِضَرُورَةِ التَّهَجُّدِ نَظَر لِلْمُتَهَجِّدِينَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْغَلَبَةِ دُونَ التَّعَمُّدِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، أَوْ عَلَى هَيْئَةِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالَةِ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فِيهَا بَاقٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فِي النَّوْمِ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَا ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِيهِ إنْ سَجَدَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ بِأَنْ كَانَ رَافِعًا بَطْنَهُ عَنْ فَخْذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ سَجَدَ لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِأَنْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ، وَالِاسْتِطْلَاقَ مُنْعَدِمٌ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ بِالنَّصِّ، وَلَوْ نَامَ مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ، أَوْ سَارِيَةٍ، أَوْ رَجُلٍ، أَوْ مُتَّكِئًا عَلَى يَدَيْهِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أُزِيلَ السَّنَدُ لَسَقَطَ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِلَّا، فَلَا، وَبِهِ أَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا وَرَوَى خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ اسْتَنَدَ إلَى سَارِيَةٍ، أَوْ رَجُلٍ فَنَامَ وَلَوْلَا السَّارِيَةُ وَالرَّجُلُ لَمْ يَسْتَمْسِكْ. قَالَ إذَا كَانَتْ أَلْيَتُهُ مُسْتَوْثِقَةً مِنْ الْأَرْضِ، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ فَسَقَطَ، وَانْتَبَهَ فَإِنْ انْتَبَهَ بَعْدَمَا سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ نَائِمٌ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِانْعِدَامِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالنَّوْمِ حَيْثُ سَقَطَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لَمْ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ، وَإِنْ زَايَلَ مَقْعَدُهُ قَبْلَ
القهقهة في الصلاة
أَنْ يَنْتَبِهَ اُنْتُقِضَ وُضُوءُهُ. [الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ] (وَأَمَّا) الثَّانِي فَهُوَ الْقَهْقَهَةُ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا رُكُوعٌ، وَسُجُودٌ، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ حَدَثًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا خِلَافَ فِي التَّبَسُّمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الضَّحِكُ يَنْقُضُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ» ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ حَقِيقَةً، وَلَا مَا هُوَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَالْوُضُوءُ لَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْتَقَضْ بِالْقَهْقَهَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا يُنْقَضُ بِالتَّبَسُّمِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ فِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فِي عَيْنَيْهِ سَوْءٌ فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ عَلَيْهَا خُصْفَةٌ فَضَحِكَ بَعْضُ مَنْ خَلْفِهِ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ مَنْ قَهْقَهَ مِنْكُمْ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ، وَالصَّلَاةَ، وَمِنْ تَبَسَّمَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» طَعَنَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَدِيث مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِئْرٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الضَّحِكُ خُصُوصًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الطَّعْنُ فَاسِدٌ لِأَنَّا مَا رَوَيْنَا الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ حَفِيرَةٌ يُجْمَعُ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، وَمِثْلُهَا يُسَمَّى بِئْرًا. وَكَذَا مَا رَوَيْنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ، أَوْ الْعَشَرَةَ الْمُبَشِّرِينَ أَوْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ، وَكِبَارَ الْأَنْصَارِ هُمْ الَّذِينَ ضَحِكُوا بَلْ كَانَ الضَّاحِكُ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ، أَوْ الْأَعْرَابِ، أَوْ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُ جَابِرٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونِ الْقَهْقَهَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ مَعَ أَنَّهُ قِيلَ إنَّ الضَّحِكَ مَا يُسْمِعُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَلَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ، وَالْقَهْقَهَةُ مَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَلَا جِيرَانَهُ وَقَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ، وَلَا سَبَبُ وُجُودِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ هَذَا حُكْمُ عُرْفٍ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاةٍ مُسْتَتِمَّةِ الْأَرْكَانِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ قَالَ «مَا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا تَبَسَّمَ، وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَسَّمَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ مَنْ صَلَّى عَلَيْك مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ، وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا فَإِنْ قَهْقَهَ الْأَمَامُ أَوَّلًا انْتَقَضَ وَضْؤُهُ دُونَ الْقَوْمِ، لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ لَمْ تُصَادِفْ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ لِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَجَعَلْت قَهْقَهْتُمْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِمَامُ انْتَقَضَ طَهَارَةُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ حَصَلَتْ فِي الصَّلَاةِ أَمَّا الْقَوْمُ، فَلَا إشْكَالَ. وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْقَوْمِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَهْقَهُوا مَعًا لِأَنَّ قَهْقَهَةَ الْكُلِّ حَصَلَتْ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ وَغَسْلِهِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ وَأَكْلُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْكَلَامُ الْفَاحِشِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَدَثًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ ذَلِكَ حَدَثٌ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ، وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلْمُتَسَابَّيْنِ إنَّ بَعْضَ مَا أَنْتُمَا فِيهِ لَشَرٌّ مِنْ الْحَدَثِ فَجَدِّدَا الْوُضُوءَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصَّةً. وَرُوِيَ «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ، يَعْنِي: الْخَارِجَ النَّجِسَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ حَقِيقَةً، أَوْ مَا هُوَ سَبَبُ الْخُرُوجِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ فَقَالَ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسِ فِي الْحَرَجِ، وَمَا رَوَوْا أَخْبَارَ آحَادٍ وَرَدَتْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لَوْ ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ مَعَ أَنَّهُ مَا وَرَدَ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَوْا فَالْمُرَادُ مِنْ الْوُضُوءِ بِتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ غَسْلُ الْيَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يَخْلُو عَنْ قَذَارَةٍ عَادَةً، وَكَذَا بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَلِهَذَا خَصَّ لَحْمَ الْإِبِلِ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ لَهُ
مِنْ اللُّزُوجَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامًا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَقَالَ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» ، وَالْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ الْغُسْلِ فَلْيَغْتَسِلْ إذَا أَصَابَتْهُ الْغَسَّالَاتُ النَّجِسَةُ وَقَوْلُهُ فَلْيَتَوَضَّأْ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِلْمُحْدِثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا نَدَبَتْ الْمُتَسَابَّيْنِ إلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِذَنْبِ سَبِّهِمَا. وَمَنْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ، أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ، أَوْ قَصَّ شَارِبَهُ، أَوْ نَتَفَ إبِطَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَلْمِ الظُّفْرِ وَجَزِّ الشَّعْرِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَا حَصَلَ فِيهِ التَّطْهِيرُ قَدْ زَالَ، وَمَا ظَهَرَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّطْهِيرُ فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ تَمَّ؛ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَحِلُّ ظَاهِرَ الْبَدَنِ. وَقَدْ زَالَ الْحَدَثُ عَنْ الظَّاهِرِ إمَّا بِالْغَسْلِ، أَوْ بِالْمَسْحِ، وَمَا بَدَا لَمْ يَحِلَّهُ الْحَدَثُ السَّابِقُ، وَبَعْدَ بُدُوِّهِ لَمْ يُوجَدْ حَدَثٌ آخَرُ، فَلَا تُعْقَلُ إزَالَتُهُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّ الْوُضُوءِ هُنَاكَ لَمْ يَتِمَّ، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِغَسْلِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَقَامَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ النَّزْعِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَإِذَا نَزَعَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَوَجَبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ تَتْمِيمًا لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ نَتْفَ الْإِبِطِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَظْهَرُ بِالنَّتْفِ مَحَلًّا لِحُلُولِ الْحَدَثِ فِيهِ بِخِلَافِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ مَسَحَ إبِطَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَتَأْوِيلُهُ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ لِتَلَوُّثِهِمَا بِعَرَقِهِ. وَلَوْ مَسَّ كَلْبًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ وَطِئَ نَجَاسَةً لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا إلَّا أَنَّهُ إذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَمَنْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُتَوَضِّئُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ دَخَلَ الْخَلَاءَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَشَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهَا، أَوْ بَعْدَ مَا قَضَاهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا خَرَجَ إلَّا بَعْدَ قَضَائِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ، وَمَعَهُ الْمَاءُ، وَشَكَّ فِي أَنَّهُ تَوَضَّأَ، أَوْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَا لَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا شَكَّ غَسَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْحَدَثِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي شَكِّ مَنْ غَسَلَهُ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلَ مَا شَكَّ أَنَّ الشَّكَّ فِي مِثْلِهِ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ؛ لَا أَنَّهُ لَمْ يَبْتَلَّ بِهِ قَطُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَسْوَسَةٌ، وَالسَّبِيلُ فِي الْوَسْوَسَةِ قَطْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَتَفَرَّعَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ رَأَى الْبَلَلَ سَائِلًا مِنْ ذَكَرِهِ أَعَادَ الْوُضُوءَ لِوُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُوَ سَيَلَانُ الْبَوْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ رَآهُ سَائِلًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَلَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَوْلٌ ظَهَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُرِيه ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بَوْلٌ، أَوْ مَاءٌ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت، فَلَا يَنْصَرِفْ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ، أَوْ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ قَطْعًا لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ، حَتَّى إذَا أَحَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَحَالَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَنْضَحُ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ «نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَأَمَرَنِي بِذَلِكَ» . مَطْلَبُ مَسِّ الْمُصْحَفِ (وَأَمَّا) الثَّانِي، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ فَلِلْحَدَثِ أَحْكَامٌ، وَهِيَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَقْدِ شَرْطِ جَوَازِهَا، وَهُوَ الْوُضُوءُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءٍ» ، وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ غُلَافٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ غُلَافٍ وَقَاسَ الْمَسَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ لَهُ الْقِرَاءَةُ فَيَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ» ، وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا حَدَثٌ، وَاعْتِبَارُ الْمَسِّ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْفَمِ وَظَهَرَ فِي الْيَدِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ افْتَرَضَ غَسْلَ الْيَدِ، وَلَمْ يَفْتَرِضْ غَسْلَ الْفَمِ فِي الْحَدَثِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ، وَلَا مَسُّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ مِنْهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، وَلَا مَسُّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَسُّ كِتَابِ الْفِقْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ
فصل الغسل
وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. وَإِنْ طَافَ جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقِيَّةٍ فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يَحْكُمُ بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمَ بِالْكَرَاهَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْغِلَافَ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْمُصْحَفِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْكُمُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْغِلَافُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْمُصْحَفِ، وَهُوَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الْمُصْحَفُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْجِلْدِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الثَّوْبِ، وَهُوَ الْخَرِيطَةُ، لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِهِ تَبَعٌ لَهُ فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ، وَلِهَذَا لَوْ لِبَيْعِ الْمُصْحَفُ دَخَلَ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي الْبَيْعِ، وَالْكُمُّ تَبَعٌ لِلْحَامِلِ فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَيْسَ بِتَبَعٍ، حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ مَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ دُونَ الْحَوَاشِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْحَوَاشِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ فَكَانَ مَسُّهَا مَسًّا لِلْمَكْتُوبِ، وَيُبَاحُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا الْجَنَابَةُ» . وَيُبَاحُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ وُفُودَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ حَتَّى يَجِبَ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِهِ، وَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَائِهَا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ. [فَصْلٌ الْغُسْلُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَة الْغُسْلِ الْمَشْرُوعِ. (أَمَّا) تَفْسِيرُهُ فَالْغُسْلُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ لَكِنْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْبَدَنِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْغَسْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْإِسَالَةُ، حَتَّى لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا. (وَأَمَّا) رُكْنُهُ فَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ إسَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ لَمْ يَجُزْ الْغُسْلُ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، أَيْ: طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ، وَاسْمُ الْبَدَنِ يَقَعُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مِنْهُ بِلَا حَرَجٍ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْغُسْلِ، لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ، وَالْأَنْفِ مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ لَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بَلْ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَا تَقَعُ الْمُوَاجِهَةُ إلَى ذَلِكَ رَأْسًا، وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كَمَا يَجِبُ إلَى أُصُولِهَا، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ شَعْرِهَا إذَا كَانَ مَنْقُوضًا كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ شَعْرُهَا ضَفِيرًا فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْت فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفِيضِي الْمَاءَ عَلَى رَأْسِك، وَسَائِرِ جَسَدِك، وَيَكْفِيك إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِك» ، وَلِأَنَّ ضَفِيرَتَهَا إذَا كَانَتْ مَشْدُودَةً فَتَكْلِيفُهَا نَقْضُهَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَلَا حَرَجَ حَالَ كَوْنِهَا مَنْقُوضَةٌ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ السُّرَّةِ لِإِمْكَانِ الْإِيصَالِ إلَيْهَا بِلَا حَرَجٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْلُ الْفَرْجِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا حَرَجٍ. وَكَذَا الْأَقْلَفُ يَجِبُ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْقُلْفَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِإِمْكَانِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. (وَأَمَّا) شُرُوطُهُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ. (وَأَمَّا) سُنَنُهُ فَهِيَ أَنْ يَبْدَأَ فَيَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ، وَيَكْفِيهِ عَلَى يَمِينِهِ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، حَتَّى يُنَقِّيَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، حَتَّى يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا قَالَتْ: «وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ، وَأَكْفَأَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَنْقَى
فَرْجَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ مَالَ بِيَدِهِ إلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ» فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ، وَالْفَرِيضَةِ جَمِيعًا. وَهَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْغُسْلِ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْسَحُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الْمَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ يُبْطِلُ مَعْنَى الْمَسْحِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ مِنْ بَعْدُ لَا يُبْطِلُ التَّسْيِيلَ مِنْ قَبْلُ، وَالصَّحِيحُ. جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِفَاضَةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْمَسْحِ، وَالْغُسْلِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَتَلَوَّثَانِ بِالْغُسَالَاتِ مِنْ بَعْدُ، حَتَّى لَوْ اغْتَسَلَ عَلَى مَوْضِعٍ لَا يَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ كَالْحَجَرِ، وَنَحْوِهِ لَا يُؤَخِّرُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّلَوُّثِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ: إنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ، وَلَا يُؤَخِّرُ غَسْلَهُمَا، لِأَنَّ الْغُسَالَةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى التَّخْتِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اسْتَدَلَّ بِتَأْخِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِفَاضَةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجَسًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ الطَّاهِرِ مَعْنَى فَجَعَلُوهُ حُجَّةَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ حُجَّةٍ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَحَرَّجُ عَنْ النَّجَسِ يَتَحَرَّجُ عَنْ الْقَذَرِ خُصُوصًا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ، وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَدْ أُزِيلَ إلَيْهِ قَذَرُ الْحَدَثِ، حَتَّى تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) آدَابُهُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ. وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَغْتَسِلُ بِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ مِنْ الْمَاءِ صَاعٌ، وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكْفِنَا فَغَضِبَ وَقَالَ: لَقَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَكْثَرُ شَعْرًا» ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الصَّاعَ فِي الْغُسْلِ، وَالْمُدَّ فِي الْوُضُوءِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْغُسْلِ إذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ أَرْطَالٍ رَطْلَانِ لِلْوُضُوءِ، وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِلْغُسْلِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الصَّاعَ كَافٍ لَهُمَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْوُضُوءِ إنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ مُتَخَفِّفًا، وَلَا يَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلٌ وَاحِدٌ لِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَإِنْ كَانَ مُتَخَفِّفًا، وَيَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلَانِ رَطْلٌ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَرَطْلٌ لِلْبَاقِي، ثُمَّ هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الصَّاعِ، وَالْمُدِّ فِي الْغُسْلِ، وَالْوُضُوءِ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ أَوْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ عَادَةً حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَالْغُسْلَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ، وَأَحْوَالَهُمْ تَخْتَلِفُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا لَا إسْرَافَ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَيَصُبُّ صَبًّا فَاحِشًا فَقَالَ: إيَّاكَ، وَالسَّرَفَ فَقَالَ: أَوَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ كُنْت عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «، وَلَوْ كُنْت عَلَى شَطِّ بَحْرٍ» . (وَأَمَّا) صِفَةُ الْغُسْلِ فَالْغُسْلُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةٌ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا أَمَّا الْغُسْلُ الْوَاجِبُ فَهُوَ غُسْلُ الْمَوْتَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهُوَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَالْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمُسْتَحَبَّ، وَالْفَرْضَ. (أَمَّا) الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ» ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَالِاسْتِحْبَابُ هَذَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ جُنُبٌ فَأَسْلَمَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَوْنَهُ جُنُبًا فَأَسْلَمَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ مِنْ الْقُرُبَاتِ، وَالْغُسْلُ يَصِيرُ قُرْبَةً بِالنِّيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْجَنَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَدَثِ، حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوُضُوءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَذَا الْجَنَابَةُ، وَعَلَى هَذَا غُسْلُ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَالْإِفَاقَةِ. (وَأَمَّا) الْغُسْلُ الْمَفْرُوضُ فَثَلَاثَةٌ: الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ أَمَّا الْجَنَابَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، أَيْ: اغْتَسِلُوا وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ،
وَالْكَلَامُ فِي الْجَنَابَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْجَنَابَةُ، وَيَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ جُنُبًا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَنَابَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِأُمُورٍ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ (أَمَّا) الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ دَفْقًا مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ بِأَيِّ سَبَبٍ حَصَلَ الْخُرُوجُ كَاللَّمْسِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاحْتِلَامِ، حَتَّى يَجِبَ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ، أَيْ: الِاغْتِسَالُ مِنْ الْمَنِيِّ، ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَلَمْ يَجِبْ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ لَا غَيْرَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ اسْتِمْتَاعٌ بِنِعْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهُوَ اللَّذَّةُ فَأَمَرَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ فِي الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْجَنَابَةَ تَأْخُذُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ظَاهِرَهُ، وَبَاطِنَهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِعْمَالٍ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الْقُوَّةِ، حَتَّى يَضْعُفُ الْإِنْسَانُ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْوَى بِالِامْتِنَاعِ فَإِذَا أَخَذَتْ الْجَنَابَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَدَثُ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا الظَّاهِرَ مِنْ الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ سَبَبَهُ يَكُونُ بِظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَلَا يَكُونَانِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَ ظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ لَا جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ غَسْلَ الْكُلِّ، أَوْ الْبَعْضِ وَجَبَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى، وَالْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَعْظِيمِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي عَلَى أَطْهُرْ الْأَحْوَالِ، وَأَنْظَفِهَا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ، وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، وَكَمَالُ النَّظَافَةِ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَزِيمَةُ فِي الْحَدَثِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَاكْتَفَى فِيهِ بِأَيْسَرِ النَّظَافَةِ، وَهِيَ تَنْقِيَةُ الْأَطْرَافِ الَّتِي تَنْكَشِفُ كَثِيرًا، وَتَقَعُ عَلَيْهَا الْأَبْصَارُ أَبَدًا، وَأُقِيمَ ذَلِكَ مَقَامَ غَسْلِ كُلِّ الْبَدَنِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَتَيْسِيرًا فَضْلًا مِنْ اللَّهِ، وَنِعْمَةً، وَلَا حَرَجَ فِي الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي الِاحْتِلَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ» . وَرُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُمُّ سُلَيْمٍ عِنْدَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ إذَا رَأَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا فِي الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ تَرِبَتْ يَدَاك يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحِكَتْ النِّسَاءُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ، وَإِنَّا إنْ نَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ نَكُونَ فِيهِ عَلَى عَمًى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ أَنْتِ يَا أُمَّ سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاك يَا أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ» . وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَاءُ مِنْ إحْلِيلِهِ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَالْمَرْأَةُ إذَا احْتَلَمَتْ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَاءُ إلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا اغْتَسَلَتْ، لِأَنَّ لَهَا فَرْجَيْنِ، وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، حَتَّى يُفْتَرَضَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَمْ يَخْرُجْ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَقْلَفَ فَبَلَغَ الْمَاءُ قُلْفَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَالثَّانِي إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُوجِبُونَ الْغُسْلَ، وَالْأَنْصَارُ لَا، بَعَثُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ» فَعَلْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاغْتَسَلْنَا فَقَدْ رَوَتْ قَوْلًا، وَفِعْلًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِكْسَالِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا مِنْ مَاءٍ، وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُعْتَادِ مِنْ الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي السَّبِيلِ الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا مِنْ مَاءٍ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ احْتِيَاطًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّ الْإِيلَاجَ فِيهِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً مِثْلَ الْإِيلَاجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ، وَالسَّبَبُ
يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا غُسْلَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي الْبَهَائِمِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يُنْزِلْ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَفِي الْبَهِيمَةِ لَيْسَ نَظِيرَ الْفِعْلِ فِي فَرْجِ الْإِنْسَانِ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَقِيقَةُ الْإِنْزَالِ. (وَأَمَّا) الْمُخْتَلَفُ فِيهِ (فَمِنْهَا) أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ لَا عَنْ شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عَنْ شَهْوَةٍ بِأَنْ ضَرَبَ عَلَى ظَهْرِهِ ضَرْبًا قَوِيًّا، أَوْ حَمَلَ حَمْلًا ثَقِيلًا، فَلَا غُسْلَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الْغُسْلُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» أَيْ: الِاغْتِسَالُ مِنْ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي الْمَنَامِ يُجَامِعُهَا زَوْجُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَجِدُ لَذَّةً؟ فَقِيلَ: نَعَمْ فَقَالَ: عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ» ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِالشَّهْوَةِ، وَعَدَمِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ عَنْ اللَّذَّةِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ مُعَلَّقٌ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ، وَأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمُنْزَلِ عَنْ شَهْوَةٍ لِمَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْمَنِيِّ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمَاءِ الْمَاءُ الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْمُنْزَلُ عَنْ شَهْوَةٍ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ (وَمِنْهَا) أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ عَنْ شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عَنْ شَهْوَةٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُوجِبُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الِانْفِصَالُ عَنْ شَهْوَةٍ، وَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الِانْفِصَالُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ فَانْتَبَهَ وَقَبَضَ عَلَى عَوْرَتِهِ، حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ، وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ فَاغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَانِبَ الِانْفِصَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَجَانِبَ الْخُرُوجِ يَنْفِيهِ، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْوُجُوبَ، وَالْعَدَمَ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ أَوْ عَلَى فِرَاشِهِ بَلَلًا عَلَى صُورَةِ الْمَذْيِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الِاحْتِلَامَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنِيًّا أَنَّ عَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَنْ احْتِلَامٍ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إنْ كَانَ وَدْيًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَوْلٌ غَلِيظٌ. وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَنِيًّا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَكَانَ يَقِيسُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَذْيَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الِاغْتِسَالِ، وَلَهُمَا مَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا رَأَى الرَّجُلُ بَعْدَ مَا يَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ بَلَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ احْتِلَامًا اغْتَسَلَ، وَإِنْ رَأَى احْتِلَامًا، وَلَمْ يَرَ بَلَّةً، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ قَدْ يَرِقُّ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمَذْيِ وَقَدْ يَخْرُجُ ذَائِبًا لِفَرْطِ حَرَارَةِ الرَّجُلِ، أَوْ ضَعْفِهِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ ثُمَّ الْمَنِيُّ خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ: إنَّ لَهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ، وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ، وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا فَسَرَّتْ هَذِهِ الْمِيَاهَ بِمَا ذَكَرْنَا وَلَا غُسْلَ فِي الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ أَمَّا الْوَدْيُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت فَحْلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي، وَفِيهِ الْوُضُوءُ» نَصَّ عَلَى الْوُضُوءِ، وَأَشَارَ إلَى نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ بِعِلَّةِ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي. (وَأَمَّا) الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَنَابَةِ فَمَا لَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُهُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِدُونِ غِلَافِهِ، وَمَسِّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ عَلَيْهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلصَّحِيفَةِ، وَالْكِتَابَةُ تُوجَدُ حَرْفًا حَرْفًا. وَهَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ، لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْكَافِرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجَسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عَنْ مَسِّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا اغْتَسَلَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ، وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْجَنَابَةَ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْحَدَثِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَذَا
الْجَنَابَةُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَنَابَةُ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ، وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ حَلَّ الْفَمَ، وَلَمْ يَحِلَّ الْآخَرَ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَيَسْتَوِي فِي الْكَرَاهَةِ الْآيَةُ التَّامَّةُ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَمُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَتِهِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ لَكِنْ إذَا قَصَدَ التِّلَاوَةَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِأَنْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ تَبَرُّكًا، أَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلشُّكْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجُنُبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ، وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ. فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الْحَمَّامِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُكْرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ عِنْدَهُمَا فَأَشْبَهَ الْمُخْرَجَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ، فَلَا تُكْرَهُ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ يَتَيَمَّمُ، وَيَدْخُلُ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ لِقَصْدِ الْمُكْثِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ لَهُ الدُّخُولُ بِدُونِ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ مُجْتَازًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ الصَّلَاةِ مَكَانُهَا، وَهُوَ الْمَسْجِدُ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَابِرُ سَبِيلٍ هُوَ الْمَارُّ يُقَالُ: عَبَرَ، أَيْ: مَرَّ نَهْيُ الْجُنُبِ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ. وَاسْتَثْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ، وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيُبَاحُ لَهُ الدُّخُولُ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «سُدُّوا الْأَبْوَابَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِجُنُبٍ، وَلَا لِحَائِضٍ» ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَسَاجِدِ نَفَى الْحِلَّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُجْتَازِ، وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ الْجُنُبُ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَانَ هَذَا إبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُسَافِرِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، وَبِهِ نَقُولُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ اسْمِ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِهَا فَكَانَ أَوْلَى، أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، فَلَا تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً لَهُ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ طَافَ جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُحْدِثِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ مَعَ الْجَنَابَةِ أَفْحَشُ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ، وَيَصِحُّ مِنْ الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ جِوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِلَا شَكٍّ، وَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مَعَ قِيَامِ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ رَفْعَهَا بِالْغُسْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «أَيَنَامُ أَحَدُنَا، وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ: نَعَمْ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» ، وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً» ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي النَّوْمِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَشْرَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ، وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ. ثُمَّ يَأْكُلَ، وَيَشْرَبَ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ حَلَّتْ الْفَمَ فَلَوْ شَرِبَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَيَصِيرُ شَارِبًا بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَدُهُ لَا تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَهَا، ثُمَّ يَأْكُلَ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً يُقَالُ: لِلزَّوْجِ إمَّا أَنْ تَدَعَهَا حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَى الْمَاءِ، أَوْ تَنْقُلَ الْمَاءَ إلَيْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الَّذِي لِلشُّرْبِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ: يَغْتَسِلْنَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» أَيْ: أَيَّامَ حَيْضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي، وَلَا نَصَّ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ النِّفَاسِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى خَبَرٍ مِنْ الْبَابِ. لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا نَقْلَهُ اكْتِفَاءً بِالْإِجْمَاعِ عَنْ نَقْلِهِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَقْوَى، وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى دَمِ الْحَيْضِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ فَبَنَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقِيَاسِ إذْ الْإِجْمَاعُ
فصل الحيض وأحكامه
يَنْعَقِدُ عَنْ الْخَبَرِ، وَعَنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [فَصْلٌ الْحَيْضِ وَأَحْكَامُهُ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الْكَلَامُ يَقَعُ فِي تَفْسِيرِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَأَحْكَامِهَا (أَمَّا) الْحَيْضُ فَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِدَمٍ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ لَا يَعْقُبُ الْوِلَادَةَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ لَوْنِ الدَّمِ، وَحَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ خُرُوجِهِ، وَمِقْدَارِهِ، وَوَقْتِهِ (أَمَّا) لَوْنُهُ فَالسَّوَادُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ الْحُمْرَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَمُ الْحَيْضِ هُوَ الْأَسْوَدُ فَقَطْ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حِينَ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً «إذَا كَانَ الْحَيْضُ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي، وَصَلِّي» . (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى، وَاسْمُ الْأَذَى لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَسْوَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكُرْسُفِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَكَانَتْ تَقُولُ: لَا حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، أَيْ: الْبَيَاضَ الْخَالِصَ كَالْجِصِّ. فَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّ مَا سِوَى الْبَيَاضِ حَيْضٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ لَوْنَ الدَّمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْذِيَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْقَصْرِ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، وَمَا رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمَشْهُورِ مَعَ مَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَيَّامَ حَيْضِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ فَبَنَى الْحُكْمَ فِي حَقِّهَا عَلَى اللَّوْنِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا وَغَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْلَمُ أَيَّامَ الْحَيْضِ بِلَوْنِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَفِي آخِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحَيْضَ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ الرَّحِمِ لَا مِنْ الْعِرْقِ، وَدَمُ الرَّحِمِ يَجْتَمِعُ فِيهِ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ الصَّافِي مِنْهُ، ثُمَّ الْكَدِرُ، وَدَمُ الْعِرْقِ يَخْرُجُ الْكَدِرُ مِنْهُ أَوَّلًا، ثُمَّ الصَّافِي فَيُنْظَرُ إنْ خَرَجَ الصَّافِي، أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَيَكُونُ حَيْضًا، وَإِنْ خَرَجَ الْكَدِرُ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْعِرْقِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَقَوْلُهُ إنَّ كُدْرَةَ دَمِ الرَّحِمِ تَتْبَعُ صَافِيَهُ مَمْنُوعٌ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ قَدْ يَتْبَعُ الصَّافِي الْكَدِرَ خُصُوصًا فِيمَا كَانَ الثُّقْبُ مِنْ الْأَسْفَلِ. وَأَمَّا التُّرْبَةُ فَهِيَ كَالْكُدْرَةِ. وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا فَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ يَقُولُ إذَا رَأَتْ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ ابْتِدَاءً كَانَ حَيْضًا أَمَّا إذَا رَأَتْ فِي آخِرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ، وَاتَّصَلَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ حَيْضًا. وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهَا حَيْضٌ كَيْفَمَا كَانَتْ. وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مِثْلُ الْكُدْرَةِ فَكَانَتْ عَلَى الْخِلَافِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَدِرَةُ، وَالتُّرْبَةُ، وَالصُّفْرَةُ، وَالْخُضْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَيْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ الْعَجَائِزِ فَأَمَّا فِي الْعَجَائِزُ فَيُنْظَرُ إنْ وَجَدْتَهَا عَلَى الْكُرْسُفِ، وَمُدَّةُ الْوَضْعِ قَرِيبَةٌ فَهِيَ حَيْضٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْوَضْعِ طَوِيلَةً لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ لِأَنَّ رَحِمَ الْعَجُوزِ يَكُونُ مُنْتِنًا فَيَتَغَيَّرُ الْمَاءُ لِطُولِ الْمُكْثِ، وَمَا عَرَفْت مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ فِي الْحَيْضِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِيهَا فِي النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْحَيْضِ. (وَأَمَّا) خُرُوجُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ إلَى ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَثْبُتُ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالِاسْتِحَاضَةُ إلَّا بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ فِي الِاسْتِحَاضَةِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ إذَا أَحَسَّتْ بِبُرُوزِ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَبْرُزْ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لَهُمَا أَعْنِي: الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ وَقْتًا مَعْلُومًا فَتَحْصُلُ بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ بِالْإِحْسَاسِ، وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا تُعْلَمُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ لِيُعْلَمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا فَتَنْظُرُ إلَيْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْمَسِّ» وَالْمَسُّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ. (وَأَمَّا) مِقْدَارُهُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ التَّقْدِيرِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، وَلَا لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ، وَالْقَلِيلُ خَارِجٌ مِنْ الرَّحِمِ كَالْكَثِيرِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقَدِّرْ: دَمَ النِّفَاسِ، وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَقَلُّ مَا يَكُونُ الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ الثَّيِّبِ، وَالْبِكْرِ جَمِيعًا
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَيْضِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ» ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَيْضُ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ سِتٌّ ثَمَانٌ تِسْعٌ عَشْرٌ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمَقْدُور بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ، وَالْإِجْمَاعَ خَرَجَا بَيَانًا لِلْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّفَاسِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ هُنَاكَ عُرِفَ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ بِقَرِينَةِ الْوَلَدِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا. (وَأَمَّا) الثَّانِي فَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ يَوْمَانِ، وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيْلَتَيْهِمَا الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ حَيْضًا؛ لِأَنَّ أَقْبَالَ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ لَوَثٍ عَادَةً فَيُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ، أَوْ بِالْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِقْدَارٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ، وَحُجَّتُنَا مَا ذَكَرْنَا مَعَ مَالِكٍ، وَحُجَّةُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ، وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لَجَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي ضَرُورَةُ دُخُولِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَا مَقْصُودًا، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِاللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي تَحْتَ اسْمِ الْأَيَّامِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي لُغَةً فَكَانَ دُخُولًا مَقْصُودًا لَا ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَعَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خَمْسَةَ عَشْرَةَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ، وَلَا تُصَلِّي» ، ثُمَّ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ، وَهُوَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ كَذَا الشَّطْرُ الْآخَرُ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الشَّهْرَ مَقَامَ حَيْضٍ، وَطُهْرٍ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ، وَالصَّغِيرَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ الشَّهْرِ عَلَى الْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ طُهْرًا، وَنِصْفُهُ حَيْضًا، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَاجِمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّطْرِ الْمَذْكُورِ النِّصْفَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهَا لَا تَقْعُدُ نِصْفَ عُمْرِهَا لَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَقْعُدُ حَالَ صِغَرِهَا، وَإِيَاسِهَا، وَكَذَا زَمَانُ الطُّهْرَ يَزِيدُ عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ عَادَةً فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يُقَرِّبُ مِنْ النِّصْفِ، وَهُوَ عَشْرَةٌ، وَكَذَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْقِسَامِ الشَّهْرِ عَلَى الطُّهْرِ، وَالْحَيْضِ أَنْ تَكُونَ مُنَاصَفَةً إذْ قَدْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ مُثَالَثَةً فَيَكُونُ ثُلُثُ الشَّهْرِ لِلْحَيْضِ، وَثُلُثَاهُ لِلطُّهْرِ، وَإِذَا عَرَفَتْ مِقْدَارَ الْحَيْضِ. لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الطُّهْرِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُقَابِلُ الْحَيْضَ، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا عِنْدَنَا إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ تِسْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِنَا وَقَالَ مَالِكٌ: عَشْرَةُ أَيَّامِ وَجْهُ قَوْلٍ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ عَادَةً وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشْرَةً فَيَبْقَى مِنْ الشَّهْرِ عِشْرُونَ إلَّا أَنَّا نَقَصْنَا يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَنْقُصُ بِيَوْمٍ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَنَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِأَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ لِمُدَّةِ الطُّهْرِ شَبَهًا بِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطُّهْرِ تَعُودُ إلَى مَا سَقَطَ عَنْهَا بِالْحَيْضِ كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ بِالْإِقَامَةِ يَعُودُ إلَى مَا سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ، ثُمَّ أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ. وَمَا قَالَاهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِيضُ فِي الشَّهْرِ عَشَرَةً لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ حَاضَتْ عَشَرَةً لَا تَطْهُرُ عِشْرِينَ لَا مَحَالَةَ بَلْ قَدْ تَحِيضُ ثَلَاثَةً، وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ وَقَدْ تَحِيضُ عَشَرَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ، فَلَا غَايَةَ لَهُ، حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَهُرَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ مَا تَعْمَلُ الطَّاهِرَاتُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي بَنَاتِ آدَمَ أَصْلٌ، وَالْحَيْضُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الْعَارِضُ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ طَالَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ كَمْ هُوَ قَالَ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ: وَأَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي إنَّ الطُّهْرَ وَإِنْ طَالَ يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ، حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ خَمْسَةً، وَطَهُرَتْ سِتَّةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَتَقْعُدُ خَمْسَةً، وَتُصَلِّي سِتَّةً، وَكَذَا لَوْ رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى: إنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ
النفاس وأحكامه
الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحُ لَهُ تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ فَتَقْعُدُ مَا كَانَتْ رَأَتْ فِيهِ مِنْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ هَكَذَا دَأْبُهَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ سَبْعَةٌ، وَخَمْسُونَ يَوْمًا، وَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُهُ شَهْرٌ، وَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ تَرُدُّ إلَى الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبْعَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. (وَأَمَّا) وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ حِينَ تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، فَلَا يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا وَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا كَانَ حَيْضًا إلَى أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي حَدِّهِ، وَلَوْ بَلَغَتْ ذَلِكَ وَقَدْ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ حَيْضًا، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ كِتَابِ الْحَيْضِ. (وَأَمَّا) النِّفَاسُ فَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ عَقِيبِ الْوِلَادَةِ، وَسُمِّيَ نِفَاسًا إمَّا لِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ أَوْ بِخُرُوجِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْوَلَدُ أَوْ الدَّمُ، وَالْكَلَامُ فِي لَوْنِهِ، وَخُرُوجِهِ كَالْكَلَامِ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. [النِّفَاس وَأَحْكَامُهُ] (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِهِ فَأَقَلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ، وَنَفِسَتْ وَقْتَ صَلَاةٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ، لِأَنَّ النِّفَاسَ دَمُ الرَّحِمِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْقَلِيلُ مِنْهُ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْوِلَادَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي بَابِ الْحَيْضِ فَلَمْ يُعْرَفْ الْقَلِيلُ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ أَيْضًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّقْدِيرَ، ثَمَّ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ هَهُنَا، فَلَا يَتَقَدَّرُ فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ، وَصَلَّتْ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ، فَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ بِالْمَوْهُومِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ فَذَاكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلُقَتْ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ وَقَالَتْ: نَفِسْت ثُمَّ طَهُرْت، ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ وَثَلَاثَ حِيَضٍ فَبِكَمْ تُصَدَّقُ فِي النِّفَاسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُصَدَّقُ إذَا ادَّعَتْ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ سِتُّونَ يَوْمًا، وَلَا دَلِيلَ لَهُمَا سِوَى مَا حُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سِتُّونَ يَوْمًا، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا» . [الِاسْتِحَاضَة وَأَحْكَامُهَا] وَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَهِيَ مَا انْتَقَصَ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، وَمَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَاضَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ، وَصَاحِبَةُ عَادَةٍ وَالْمُبْتَدَأَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ بِالْحَيْضِ، وَمُبْتَدَأَةٌ بِالْحَبَلِ، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ نَوْعَانِ صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ. (أَمَّا) الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ، وَهِيَ الَّتِي اُبْتُدِئَتْ بِالدَّمِ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ هَذَا دَمٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَلُ حَيْضًا، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً، لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَهْرٍ. (وَأَمَّا) صَاحِبَةُ الْعَادَّةِ فِي الْحَيْض إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرَةً فَزَادَ الدَّمُ عَلَيْهَا فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَيْضٌ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَعَادَتُهَا حَيْضٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» أَيْ: أَيَّامُ حَيْضِهَا، وَلِأَنَّ مَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ اسْتِحَاضَةٌ بِيَقِينٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ حَيْضًا، فَلَا تُصَلِّي، وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَتُصَلِّي، فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِالشَّكِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنْ كَانَتْ تَرَى شَهْرًا سِتًّا، وَشَهْرًا سَبْعًا فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالرَّجْعَةِ بِالْأَقَلِّ، وَفِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْغَشَيَانِ بِالْأَكْثَرِ فَعَلَيْهَا إذَا رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ فِي الِاسْتِمْرَارِ أَنْ تَغْتَسِلَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ السَّادِسِ، وَتُصَلِّيَ فِيهِ، وَتَصُومَ إنْ كَانَ دَخَلَ عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّابِعُ حَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونُ فَدَارَ الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ بَيْنَ الْجَوَازِ مِنْهَا، وَالْوُجُوبِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ فَيَجِبُ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا إنْ فَعَلَتْ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَوْلَى أَنْ تَتْرُكَ، وَعَلَيْهَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ تَرْكَ الرَّجْعَةِ مَعَ
ثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ حَقِّ الرَّجْعَةِ. وَأَمَّا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْغَشَيَانِ فَتَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهَا إنْ تَرَكَتْ التَّزَوُّجَ مَعَ جَوَازِ التَّزَوُّجِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ، وَكَذَا تَرْكُ الْغَشَيَانِ مَعَ الْحِلِّ أَوْلَى مِنْ الْغَشَيَانِ مَعَ الْحُرْمَةِ فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثَانِيًا، وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ الَّذِي صَامَتْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السُّقُوطِ إنْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا فِيهِ صَحَّ صَوْمُهَا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، فَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ فَلَا صَلَاةَ عَلَيْهَا لِلْحَالِّ، وَلَا الْقَضَاءِ فِي الثَّانِي. وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعَادَةَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَيْهَا هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ حَيْضَتَانِ، وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ سُؤَالًا وَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشْرَ، ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قَدْ حَاضَتْ فِي شَهْرَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ طُهْرًا آخَرَ كَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَتْ: إنِّي حِضْت فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِشُرَيْحٍ مَاذَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنْ أَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ بِطَانَتِهَا مِمَّنْ يُرْضَى بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ مِنْهَا فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالون، وَهِيَ بِالرُّومِيَّةِ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِذَلِكَ تَحْقِيقَ النَّفْيِ أَنَّهَا لَا تَجِدُ ذَلِكَ، وَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أَيْ: لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا. وَدَمُ الْحَامِلِ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ لَا فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ أَقْبَلَ قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ، وَحَالٍ، وَلِأَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةٍ، وَلَا آيِسَةٍ فَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. (وَلَنَا) قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ، وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ قُرْءٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْءٍ مَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْحَبْلِ. (وَأَمَّا) الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَبَلِ، وَهِيَ الَّتِي حَبِلَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ. (وَأَمَّا) صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ إذَا رَأَتْ زِيَادَتَهَا عَلَى عَادَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إلَى الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً، ثُمَّ يَسْتَوِي الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ، أَوْ بِالطُّهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالطُّهْرِ، فَلَا، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَطَهُرَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ تَمَامَ عَادَتِهَا فَصَلَّتْ، وَصَامَتْ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا حَتَّى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ ذَكَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِينَ، وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي صَامَتْ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ: هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَقِيمُ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ
يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لَهَا عِنْدَهُ. وَإِنْ كَانَ خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ، وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَا تَرَاهُ النُّفَسَاءُ مِنْ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ فَهُوَ دَمٌ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ فَاسِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ فَالنِّفَاسُ مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ مِنْ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنْ الْحُبْلَى، لِأَنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ كَمَا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّفَاسَ إنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ النَّفْسِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ بَعْدَ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ فَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا بِخِلَافِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالنِّفَاسُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ، أَوْ بِخُرُوجِ النَّفْسِ وَقَدْ وُجِدَ أَوْ يَقُولُ: بَقَاءُ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ لِانْفِتَاحِ فَمِ الرَّحِمِ فَأَمَّا الْحَيْضُ مِنْ الْحُبْلَى فَمُمْتَنِعٌ لِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ اسْمٌ لِدَمٍ يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ فَكَانَ الْخَارِجُ دَمَ عِرْقٍ لَا دَمَ رَحِمٍ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا وُجِدَ تَنَفُّسُ الرَّحِمِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَمَمْنُوعٌ بَلْ وُجِدَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ لِوُجُودِ خُرُوجِ الْوَلَدِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ إنْ كَانَ أَقَلُّهُ لَمْ تَصِرْ نُفَسَاءَ حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ، وَتَحْفِرَ لَهَا حَفِيرَةً، لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَارِجُ أَكْثَرَهُ فَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ، أَوْ هِيَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ وُجِدَتْ الْوِلَادَةُ عَلَى طَرِيقِ الْكَمَالِ فَالدَّمُ الَّذِي يَعْقُبُهُ يَكُونُ نِفَاسًا ضَرُورَةً وَالسِّقْطُ إذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ التَّامِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ مِنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَصَيْرُورَةِ الْمَرْأَةِ نُفَسَاءَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مَخْلُوقًا عَنْ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ لِأَنَّا لَا نَدْرِي ذَاكَ هُوَ الْمَخْلُوقُ مِنْ مَائِهِمَا، أَوْ دَمٍ جَامِدٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ اسْتَحَالَ إلَى صُورَةِ لَحْمٍ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ. (وَأَمَّا) أَحْوَالُ الدَّمِ فَنَقُولُ: الدَّمُ قَدْ يُدَرُّ دُرُورًا مُتَّصِلًا وَقَدْ يُدَرُّ مَرَّةً، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ اسْتِمْرَارًا مُتَّصِلًا، وَالثَّانِي مُنْفَصِلًا (أَمَّا) الِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةٌ فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضٌ، وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ طُهْرُهَا هَكَذَا إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَعَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ حَيْضُهَا، وَعَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ طُهْرُهَا، وَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً فِي أَيَّامِ طُهْرِهَا. (وَأَمَّا) الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْفَصِلُ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ مَرَّةً دَمًا وَمَرَّةً طُهْرًا هَكَذَا فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْن الدَّمَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا، وَكَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، ثُمَّ يُقَدَّرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَيُجْعَلُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّمُ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ كَانَ الطُّهْرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَهُوَ أَوَّلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ أَحَدِهِمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ، وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَتْ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَبْلُغُ
فصل في التيمم
حَيْضًا لَا يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ. وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَ لَا يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا وَلَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا جُعِلَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا لَا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فَقَالَ: الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الطُّهْرُ مِثْلَ الدَّمَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ الدَّمَيْنِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا جُعِلَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَتَفْسِيرُهَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَنْعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافٍ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُنُبِ إلَّا أَنَّ الْجُنُبَ يَجُوزَ لَهُ أَدَاءُ الصَّوْمِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّ الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ، أَوْ بِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ يُضْعِفُهُنَّ مَعَ أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ضَعِيفَاتٍ فِي الْجِبِلَّةِ فَلَوْ كُلِّفْنَ بِالصَّوْمِ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْجَنَابَةِ، وَلِهَذَا الْجُنُبُ يَقْضِي الصَّلَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَهُنَّ لَا يَقْضِينَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَلَا حَرَجَ فِي قَضَاءِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ، وَكَذَا يَحْرُمُ الْقُرْبَانُ فِي حَالَتَيْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ وَلَا يَحْرُمُ قُرْبَانُ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَجْنَبَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الْجَنَابَةِ بَلْ وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] أَيْ: الْوَلَدَ فَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ، وَطَلَبَ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بِالْجِمَاعِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَالْمُسْتَحَاضَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ غَيْرَ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فَصْلٌ فِي التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَالْكَلَامُ فِي التَّيَمُّمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ التَّيَمُّمِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ مِنْ الْحَدَثِ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَقِيلَ: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلتَّعْرِيسِ فَسَقَطَ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَلَمَّا ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبِهَا فَأَقَامَ يَنْتَظِرُهُمَا فَعَدِمَ النَّاسُ الْمَاءَ، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَ لَهَا: حَبَسْت الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ الْآيَةَ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَرْحَمُك اللَّهُ يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ، وَصَلَّيْتُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي جَوَازِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَائِزٌ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا. وَحَاصِلُ
فصل أركان التيمم
اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ إلَى تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] ، أَوْ لَمَسْتُمْ فَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَا ذَلِكَ بِالْجِمَاعِ وَقَالَا: كَنَّى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْوَطْءِ بِالْمَسِيسِ، وَالْغَشَيَانِ، وَالْمُبَاشَرَةِ، وَالْإِفْضَاءِ، وَالرَّفَثِ، وَعُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَوَّلَاهُ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ فَلَمْ يَكُنْ الْجُنُبُ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَقِيَ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ لِمُوَافَقَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ: لِلْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ شَهْرًا، أَوْ شَهْرَيْنِ، وَفِينَا الْجُنُبُ، وَالنُّفَسَاءُ، وَالْحَائِضُ فَكَيْفَ نَصْنَعُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْكُمْ بِالصَّعِيدِ» ، وَكَذَا حَدِيثُ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِمَا رُوِينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجَنَابَةِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ فِي الْجَنَابَةِ وُرُودًا فِيهِمَا دَلَالَةٌ، وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ اخْتَلَفَ فِيهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ الْجِمَاعُ اكْتِسَابًا لِسَبَبِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَأُجَامِعُ امْرَأَتِي، وَأَنَا لَا أَجِدُ الْمَاءَ فَقَالَ جَامِعْ امْرَأَتَك، وَإِنْ كُنْت لَا تَجِدُ الْمَاءَ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ فَإِنَّ التُّرَابَ كَافِيك» . (وَأَمَّا) بَيَانُ مَعْنَاهُ فَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ يُقَالُ: تَيَمَّمَ، وَيَمَّمَ إذَا قَصَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْت أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي قَوْلُهُ: يَمَّمْت أَيْ: قَصَدْت، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ فِي عُضْوَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ عَلَى قَصْدِ التَّطْهِيرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَرْكَان التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْوَجْهَ، وَالذِّرَاعَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ ابْنَ سِيرِينَ: ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ أُخْرَى لَهُمَا جَمِيعًا وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا فِي وَجْهِهِ، وَيَدَيْهِ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] أَمْرٌ بِالتَّيَمُّمِ، وَفَسَّرَهُ بِمَسْحِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الضَّرْبَةِ، وَالضَّرْبَتَيْنِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَبِهِ يَحْتَجُّ الزُّهْرِيُّ فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمَرَافِقِ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغَسْلِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ لَوَجَبَ غَسْلُ هَذَا الْمَحْدُودِ، وَالْغَايَةُ ذُكِرَتْ فِي الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَكْفِيك الْوَجْهُ، وَالْكَفَّانِ» . (وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِالرُّسْغِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْمِرْفَقِ، وَهُوَ أَنَّ الْمِرْفَقَ جُعِلَ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغُسْلِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْمُبْدَلَ فَذِكْرُ الْغَايَةِ هُنَاكَ يَكُونُ ذِكْرًا هَهُنَا دَلَالَةً، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ لِأَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ أَصْلًا نَصًّا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ وَاحِدٍ فِي عُضْوَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ تُرَابٍ وَاحِدٍ فِي عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ، لِأَنَّ الْخَلْفَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، وَكَذَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ سِيرِينَ، لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلِ الْمَسْحِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَفِيمَا قَالَاهُ تَكْرَارٌ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلزِّيَادَةِ (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا
فصل في كيفية التيمم
رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْكُلِّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَفِيهِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، وَالْمُتَعَارِضُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ التَّيَمُّمِ فَقَالَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَ كَفَّيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ ثَانِيًا فَأَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ الذِّرَاعَيْنِ، وَبَاطِنَهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِبَاطِنِ أَرْبَعِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُسْرَى ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِكَفِّهِ الْيُسْرَى دُونَ الْأَصَابِعِ بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ الْمِرْفَقِ إلَى الرُّسْغِ، ثُمَّ يُمِرُّ بِبَاطِنِ إبْهَامِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ إبْهَامِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْسَحُ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى مَعَ الْأَصَابِعِ ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ أَيْضًا بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى أَصْلِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَتَكَلَّفُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ الْمُسْتَعْمَلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ الَّذِي عَلَى الْيَدِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَسْحِ، حَتَّى لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَتَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّفْضِ تَنَاثُرُ التُّرَابِ صِيَانَةً عَنْ التَّلَوُّثِ الَّذِي يُشْبِهُ الْمُثْلَةَ، إذْ التَّعَبُّدُ وَرَدَ بِمَسْحِ كَفٍّ مَسَّهُ التُّرَابُ عَلَى الْعُضْوَيْنِ لَا تَلْوِيثُهُمَا بِهِ، فَلِذَلِكَ يَنْفُضُهُمَا، وَهَذَا الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّفْضِ مَرَّةً وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّفْضِ مَرَّتَيْنِ عَلَى قَدْرٍ مَا يَلْتَصِقُ بِالْيَدَيْنِ مِنْ التُّرَابِ؛ فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِنَفْضَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتَفَى بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ. (وَأَمَّا) اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَهَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ الرُّكْنِ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ نَصًّا، لَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَرَكَ ظَاهِرَ كَفَّيْهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هَذَا مَسْحٌ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ كَمَسْحِ الرَّأْسِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ تَعَلَّقَ بِاسْمِ الْوَجْهِ، وَالْيَدِ، وَأَنَّهُ يَعُمُّ الْكُلَّ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالِاسْتِيعَابُ فِي الْأَصْلِ مِنْ تَمَامِ الرُّكْنِ، فَكَذَا فِي الْبَدَلِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ وَنَزْعُ الْخَاتَمِ، وَلَوْ تُرِكَ لَمْ يَجُزْ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَلْزَمُ، وَيَجُوزُ، وَيَمْسَحُ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الذِّرَاعَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ مِنْ الْمِرْفَقِ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوُضُوءِ وَقَدْ مَرَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ قَدْرَ مَا يَكْفِي الْوُضُوءَ أَوْ الْغُسْلَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَفُوتُ إلَى خَلْفٍ، وَمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، أَوْ يُحْدِثْ» جَعَلَهُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، أَوْ الْحَدَثِ؛، وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْتَهِي وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ، وَوُجُودُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ، ثُمَّ عَدَمُ الْمَاءِ نَوْعَانِ: عَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَالْمَعْنَى، وَعَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. (أَمَّا) الْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بَعِيدًا، عَنْهُ وَلَمْ يُذْكَرْ حَدُّ الْبُعْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالْمِيلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِيلًا فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ، وَالْمِيلُ ثُلُثُ فَرْسَخٍ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ الْمَاءُ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَةً، أَوْ يَسْرَةً يُعْتَبَرُ مِيلًا وَاحِدًا وَبَعْضُهُمْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُقِيمِ، وَالْمُسَافِر، فَقَالُوا: إنْ كَانَ مُقِيمًا يَعْتَبِرُ قَدْرَ مِيلٍ كَيْفَمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَالْمَاءُ عَلَى يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ
أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ جَلَبَةُ الْعِيرِ، وَيُحِسُّ أَصْوَاتَهُمْ، أَوْ أَصْوَاتَ الدَّوَابِّ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ يَغِيبُ عَنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرَ فَرْسَخٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِقْدَارَ مَا لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ مِقْدَارَ مَا لَا يَسْمَعُ لَوْ نُودِيَ مِنْ أَقْصَى الْمِصْرِ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ اعْتِبَارُ الْمِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ. وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَلَى أَثَرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلَا حَرَجَ فِيمَا دُونَ الْمِيلِ فَأَمَّا الْمِيلُ فَصَاعِدًا، فَلَا يَخْلُو عَنْ حَرَجٍ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ لِلسَّفَرِ، أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: " لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ سَفَرًا " وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَا لَهُ ثَبَتَ الْجَوَازُ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَرَجِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ، وَغَيْرِهِ، هَذَا إذَا كَانَ عَلِمَ بِبُعْدِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ، أَوْ بِغَلَبَةِ الرَّأْي أَوْ أَكْبَرِ الظَّنِّ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ عَدْلٌ. وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ إمَّا قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا، أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ عَلَى مِيلٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَبُهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ أَتَيْتَ الْمَاءَ، وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ. هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَبْلُغُ بِالطَّلَبِ مِيلًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ مِيلًا، فَإِنْ طَلَبَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ،، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْلُبُ قَدْرَ مَا لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَرُفْقَتِهِ بِالِانْتِظَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْ الْعُمْرَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ظَهَرَ الْمَاءُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَانَ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا، وَالظَّاهِرُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَلَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ قُرْبِ الْمَاءِ فَلَمْ يَسْأَلْهُ، حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ سَأَلَهُ فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ، وَأَعَادَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ مِنْهُ وَلَوْ سَأَلَهُ لَأَخْبَرَهُ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ، وَإِنْ سَأَلَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، حَتَّى تَيَمَّمَ، وَصَلَّى ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ لَا قَوْلَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَيْضًا قُرْبُ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَيَسَارِهِ قَدْرَ غَلْوَةٍ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ، وَصَلَّى قَبْلَ الطَّلَبِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وَهَذَا يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ، فَكَانَ الطَّلَبُ شَرْطًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْعُمْرَانِ. (وَلَنَا) أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْمَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، إذْ الْمَفَازَةُ مَكَانُ عَدَمِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ. وَقَوْلُهُ: " الْوُجُودُ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ مِنْ الْوَاجِدِ " مَمْنُوعٌ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُعَرِّفْهَا» وَلَا طَلَبَ مِنْ الْمُلْتَقِطِ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ،، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي الْأَمَالِي: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ الْمَاءَ أَيَطْلُبُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَيَسَارِهِ؟ قَالَ: إنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَبْعُدُ فَيَضُرُّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أَوْ بِنَفْسِهِ إنْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْبُعْدِ، وَالْقُرْبِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ زُفَرَ فَلَا عِبْرَةَ لِلْبُعْدِ، وَالْقُرْبِ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ بَقَاءً، وَخُرُوجًا، فَإِنْ كَانَ يَصِلُ إلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَعِيدًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَرِيبًا، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا بَعْدُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ فَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَانِعٍ مَعَ قُرْبِ الْمَاءِ مِنْهُ، نَحْوَ مَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَمْ يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ لُصُوصٌ، أَوْ سَبْعٌ، أَوْ حَيَّةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا أَتَاهُ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى الْعَطَشِ، وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ مَعْنًى. وَسُئِلَ
نَصْرُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مَاءٍ مَوْضُوعٍ فِي الْفَلَاةِ فِي الْجُبِّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيَكُونُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَوْ يَتَوَضَّأَ بِهِ؟ قَالَ: يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلشُّرْبِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِكَثْرَتِهِ عَلَى أَنَّهُ وُضِعَ لِلشُّرْبِ، وَالْوُضُوءِ جَمِيعًا فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ، أَوْ جُدَرِيٌّ أَوْ مَرَضٌ يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ، حَتَّى يَخَافَ التَّلَفَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَرَضٍ، وَمَرَضٍ، إلَّا أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْمَرَضُ الَّذِي يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُرَادًا بِالنَّصِّ. وَرُوِيَ أَنَّ «وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْنَبَ، وَبِهِ جُدَرِيٌّ فَاسْتَفْتَى أَصْحَابَهُ فَأَفْتَوْهُ بِالِاغْتِسَالِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، كَانَ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ» ، وَهَذَا نَصٌّ؛ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَخَوْفُ الْمَوْتِ مُبِيحٌ فَكَذَا خَوْفُ سَبَبِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ خَوْفُ الْمَوْتِ بِوَاسِطَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَثَّرَ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ، فَهَهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ، فَخَوْفُ زِيَادَةِ الْمَرَضِ لَمَّا أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ الرُّكْنِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الشَّرْطِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ وَلَا مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَجِيرًا فَيُعِينُهُ عَلَى الْوُضُوءِ أَجْزَأْهُ التَّيَمُّمُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ؛ أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ، وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الْجَوَازِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ أَحَدًا مِنْ قَرِيبٍ، أَوْ بَعِيدٍ يُعِينُهُ، وَكَذَا الْعَجْزُ لِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ، وَلَوْ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لَوْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ وَلَا عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ فِي الْمِصْرِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمِصْرِ وُجُودُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ، وَالدِّفْءِ فَكَانَ الْعَجْزُ نَادِرًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَلَمَّا رَجَعُوا شَكَوْا مِنْهُ أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: صَلَّى بِنَا، وَهُوَ جُنُبٌ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْنَبْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي الْهَلَاكَ لَوْ اغْتَسَلْتُ فَذَكَرْتُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَتَيَمَّمْتُ، وَصَلَّيْتُ بِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا تَرَوْنَ صَاحِبَكُمْ كَيْفَ نَظَرَ لِنَفْسِهِ وَلَكُمْ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ إنَّهُ كَانَ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ مِصْرٍ، وَلِأَنَّهُ عَلَّلَ فِعْلَهُ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ، وَهِيَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَصْوَبَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَقَوْلُهُمَا: " إنَّ الْعَجْزَ فِي الْمِصْرِ نَادِرٌ " فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ الْغُرَبَاءِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَوْ كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ مَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا ثَمَنَ لَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ السُّؤَالُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ فِي الْعَادَةِ لِقِلَّةِ خَطَرِهِ فَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ، وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفَرِ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبَذْلِ، فَإِنْ سَأَلَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَصْلًا أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَكَذَا إنْ كَانَ يُعْطِيهِ بِالثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ لَهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَمَنٌ وَلَكِنْ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ وَلَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ. (وَلَنَا) أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إلَّا بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لَهُ الْقِتَالُ دُونَ مَالِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُ دُونَ نَفْسِهِ، ثُمَّ خَوْفُ فَوَاتِ بَعْضِ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلتَّيَمُّمِ فَكَذَا فَوَاتُ بَعْضِ الْمَالِ
بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا يُذْكَرُ، ثُمَّ قَدْرُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي هَذَا الْبَابِ مُقَدَّرٌ بِتَضْعِيفِ الثَّمَنِ، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَاءُ يُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِدِرْهَمٍ، وَهُوَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِدِرْهَمٍ، وَنِصْفٍ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ يَبِيعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ اعْتِبَارًا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَيَقَّنٌ بِهَا، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً، وَمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِهِمْ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ، فَلَمْ تَكُنْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً، فَلَا تُعْتَبَرُ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا رَأَى مَعَ رَفِيقِهِ مَاءً كَثِيرًا وَلَا يَدْرِي أَيُعْطِيهِ أَمْ لَا؟ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ قَدْ صَحَّ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَأَلَهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ تَوَضَّأَ، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْبَذْلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ دَلِيلُ الْبَذْلِ قَبْلَهُ، وَإِنْ أَبَى فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ تَقَرَّرَ، فَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُنْتَقَضْ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ اسْتَحْكَمَ بِالْإِبَاءِ، وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِبَاءِ ارْتَفَضَ بِالْبَذْلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رَجُلَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا إنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنْ الْبِئْرِ وَوَعَدَ صَاحِبَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِنَاءَ قَالَ: يَنْتَظِرُ، وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْوَعْدِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ظَاهِرًا، فَيُمْنَعُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ، وَكَذَا إذَا وَعَدَ الْكَاسِي الْعَارِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ، وَفِي رَحْلِهِ مَاءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، حَتَّى صَلَّى، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يُجْزِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ نَاسِيًا، أَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ نَاسِيًا، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً، لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ فَكَانَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَالْتَحَقَ النِّسْيَانُ فِيهِ بِالْعَدَمِ، وَالثَّانِي أَنَّ الرَّحْلَ مَوْضِعُ الْمَاءِ عَادَةً غَالِبًا لِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إلَيْهِ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا فَإِذَا تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَا يُجْزِئُهُ كَمَا فِي الْعُمْرَانِ وَلَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَالنِّسْيَانِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ الدَّلْوِ، وَالرَّشَا وَقَوْلُهُ: " نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً " لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ جِبِلَّةٌ فِي الْبَشَرِ خُصُوصًا إذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَمَّا وَرَاءَهُ، وَالسَّفَرُ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ، وَمَكَانُ الْمَخَاوِفِ، فَنِسْيَانُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ غَيْرُ نَادِرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الرَّحْلُ مَعْدِنُ الْمَاءِ، وَمَكَانُهُ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَاءِ الْمَوْضُوعِ فِي الرَّحْلِ هُوَ النَّفَاذُ لِقِلَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ بَقَاؤُهُ غَالِبًا فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ غَالِبًا وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا، أَوْ مَعَ ثَوْبٍ نَجِسٍ، وَفِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، ثُمَّ عَلِمَ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَهُ رَقَبَةٌ قَدْ نَسِيَهَا، وَصَامَ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثَمَّةَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ رَقَبَةً كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ، وَيُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ الْمِلْكُ، وَهَهُنَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، وَبِالنِّسْيَانِ زَالَتْ الْقُدْرَةُ، أَلَا تَرَى لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلَوْ وَضَعَ غَيْرُهُ فِي رَحْلِهِ مَاءً، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ عَلِمَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي رَحْلِهِ مَاءٌ فَيَنْسَى، وَالنِّسْيَانُ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ جُعِلَ عُذْرًا عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ مَوْضِعٌ لَا عِلْمَ فِيهِ أَصْلًا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا عِنْدَ الْكُلِّ. وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَإِنَّهُ قَالَ: مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ النِّسْيَانِ، وَغَيْرَهَا. وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قَدْ فَنِيَ فَتَيَمَّمَ، وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَبْطُلُ بِالظَّنِّ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا، بِخِلَافِ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ مَاءٌ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا فِي عُنُقِهِ فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ
النِّسْيَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ نَادِرٌ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِكَافِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ سَائِقًا فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ، وَيُبْصِرُهُ فَكَانَ النِّسْيَانُ نَادِرًا، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. الْمَحْبُوسُ فِي الْمِصْرِ فِي مَكَان طَاهِرٍ يَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَقِيقَةً بِسَبَبِ الْحَبْسِ، فَأَشْبَهُ الْعَجْزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِ، فَصَارَ الْمَاءُ عَدَمًا مَعْنًى فِي حَقِّهِ، فَصَارَ مُخَاطَبًا بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، فَالْقُدْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَكَمَا فِي الْمَحْبُوسِ فِي السَّفَرِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَادِمٍ لِلْمَاءِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا أَمَّا، الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ إنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَالظُّلْمُ لَا يَدُومُ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُرْفَعُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا فِي حَقِّهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَجْزَ لِلْحَالِ قَدْ تَحَقَّقَ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَفْعِهِ إذَا كَانَ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُدْفَعُ وَلَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْجَوَازِ ثَابِتٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْعَجْزِ يَكْفِي لِتَوْجِيهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَأُمِرَ بِالْقَضَاءِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْجَوَازِ ثَابِتٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةً الْقُدْرَةُ دُونَ الْعَجْزِ الْحَالِي، فَيُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَأَخْذًا بِالثِّقَةِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَصَارَ كَالْمُقَيَّدِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا أُطْلِقَ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى الْمَنْعِ الْحَقِيقِيِّ السَّفَرُ، وَالْغَالِبُ فِي السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاء. (وَأَمَّا) الْمَحْبُوسُ فِي مَكَان نَجِسٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، وَذُكِرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّشَبُّهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَذْهَبِهِ إذَا كَانَ الْمَكَانُ رَطْبًا، أَمَّا إذَا كَانَ يَابِسًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُومِئُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَصَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ مُنَاجَاتِهِ الطَّاهِرَ لَا الْمُحْدِثَ، وَالتَّشَبُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الْأَهْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَلْزَمُهَا التَّشَبُّهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ أَهْلًا مِنْ وَجْهٍ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ ثُمَّ يَقْضِيهَا احْتِيَاطًا مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ، وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ مَانِعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ عَلَى قَصْدِ الْمُكْثِ أَوْ الِاجْتِيَازِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمَاءِ فَكَانَ هَذَا الْمَاءُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لَلْوُضُوءِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا،، وَلِلِاغْتِسَالِ إنْ كَانَ جُنُبًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَوُجُودُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُمْنَعُ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ؛ حَتَّى إنَّ الْمُحْدِثَ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ مَا يَغْسِلُ بَعْضَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَنَا مَعَ قِيَامِ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ مَعَ قِيَامِهِ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لَا غَيْرُ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ حَتَّى يَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] ذَكَرَ الْمَاءَ نَكِرَةً فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ؛، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ، وَهِيَ الْحَدَثُ تُعْتَبَرُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يُزِيلُ بِهِ بَعْضَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ كَذَا هُنَا. (وَلَنَا) إنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْغُسْلُ الْمُبِيحُ لِلصَّلَاةِ، وَالْغُسْلُ الَّذِي لَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ وُجُودُهُ، وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ إذَا لَمْ يُفِدْ الْجَوَازَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ سَفَهًا مَعَ أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ
الْمَاءِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَصَارَ كَمَنْ وَجَدَ مَا يُطْعِمُ بِهِ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فَنُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَكَذَا هَذَا، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِمَا قُلْنَا فَهَهُنَا أَوْلَى، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُفِيدُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْغُسْلِ بِهِ، كَمَا يُقَيَّدُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ. وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ الْمَاءِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْحَدَثِ كَكَثِيرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَيَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ، وَلَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ، فَهَذَا مُحْدِثٌ وَلَيْسَ بِجُنُبٍ، وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ، فَيَتَوَضَّأُ بِهِ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى الْمَاءِ فَلَمْ يَغْتَسِلْ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ عَلَى الْمَاءِ عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ فَعَادَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، وَلَا يَنْزِعُ الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلتَّيَمُّمِ، فَإِنْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ أَحْدَثَ. وَقَدْ حَضَرَتْهُ صَلَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِمَا مَرَّ، وَنَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ بِالْمَاءِ عَادَ جُنُبًا فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ جِرَاحَةٌ، أَوْ جُدَرِيٌّ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الصَّحِيحُ غَسَلَ الصَّحِيحَ وَرَبَطَ عَلَى السَّقِيمِ الْجَبَائِرَ، وَمَسَحَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ السَّقِيمَ تَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ، وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ؛ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُمْتَنِعٌ إلَّا فِي حَالِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا وَبِبَعْضِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جِرَاحَةٌ، أَوْ جُدَرِيٌّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ اسْتَوَى الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ، وَيَرْبِطُ الْجَبَائِرَ عَلَى السَّقِيمِ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فِيمَا وَرَاءَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، فَأَمَّا فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ فِيهِمَا خَوْفُ الْفَوْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَتْهُ الْجِنَازَةُ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا فَجَأَتْكَ جِنَازَةٌ تَخْشَى فَوْتَهَا وَأَنْت عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؛ فَتَيَمَّمَ لَهَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُهُ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّيَمُّمِ فِي الْأَصْلِ لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَدَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَفُوتُ فَضِيلَةُ الْأَدَاءِ فَقَطْ، فَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ فَمُمْكِنٌ، وَهَهُنَا تَفُوتُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَصْلًا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِعَادَةِ، فَلَا يَخَافُ الْفَوْتَ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُقْضَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ قَائِمٌ، وَهُوَ الظُّهْرُ وَبِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ، وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَالْفَائِتُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ لَا يُخَافُ فَوْتُهَا رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ، وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ. هَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ الْكُلِّ فَإِنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ الْبَعْضَ لَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْبَاقِي وَحْدَهُ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مُتَيَمِّمًا، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ جَازَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ مِنْ الْأَصْلِ لَبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ. وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِيهَا مُتَوَضِّئًا، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ زَالَتْ الشَّمْسُ تَيَمَّمَ وَبَنَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ زَوَالَ الشَّمْسِ فَإِنْ كَانَ يَرْجُو أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ تَوَضَّأَ وَلَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُتِمُّ الْبَاقِي وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُوَ إدْرَاكَ الْإِمَامِ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا
يُبَاحُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْبَقِيَّةِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَخَافُ الْفَوْتَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ؛ لِازْدِحَامِ النَّاسِ، فَقَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ عَارِضٍ يُفْسِدُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَكَانَ فِي الِانْصِرَافِ لِلْوُضُوءِ تَعْرِيضُ صَلَاتِهِ لِلْفَسَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَيَتَيَمَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَنَّهَا شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ - فَالنِّيَّةُ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ، لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ، ثُمَّ الْوُضُوءُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَذَا التَّيَمُّمُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لَيَصِيرَ طَهَارَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلُ كَوْنِهَا شَرْطًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ، وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا، فَأَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ، أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ. وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي التَّيَمُّمِ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْحَدَثَ، أَوْ الْجَنَابَةَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا يَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ؛ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ يَتَأَدَّيَانِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ افْتِقَارَ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ طَهَارَةً إذْ هُوَ لَيْسَ بِتَطْهِيرٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ تَطْهِيرًا شَرْعًا لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ، وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ تَكْفِي دَلَالَةً عَلَى الْحَاجَةِ وَكَذَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْحَاجَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةِ التَّمْيِيزِ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ أَوْ لِلْجَنَابَةِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ وَنَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا دُونَهَا أَوْ مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا أَوْلَى. وَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَنْ كَانَ جُنُبًا جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْسِ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا هُوَ؛ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَيَقَعُ طَهُورًا لِمَا أَوْقَعَهُ لَهُ لَا غَيْرُ. (وَمِنْهَا) الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرَطَ وُقُوعَهُ صَحِيحًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُ الْكَافِرِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَيَمَّمَ يَنْوِي الْإِسْلَامَ جَازَ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَجْهُ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ فَيَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ تَيَمُّمُهُ لِلصَّلَاةِ سَفَهًا فَلَا يُعْتَبَرُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا لِلْحَاجَةِ إلَى فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَالْإِسْلَامُ يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ طَهُورًا فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ حَقِيقَةً فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لِيَصِيرَ طَهُورًا وَلِهَذَا لَوْ تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عِبَادَةً فَكَذَا هَهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّيَمُّمِ لَمْ يَرْتَكِبْ نَهْيًا، وَهَهُنَا ارْتَكَبَ أَعْظَمَ نَهْيٍ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ صَارَ بَاقِيًا عَلَى الْكُفْرِ مُؤَخِّرًا لِلْإِسْلَامِ، وَتَأْخِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا أَوْلَى مُسْلِمٌ تَيَمَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ؛ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ عِنْدَنَا شَرْطُ وُقُوعِ التَّيَمُّمِ صَحِيحًا لَا شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْضًا، فَزُفَرُ يَجْمَعُ بَيْنَ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ طَهُورًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنْ الصَّلَاةِ
فصل بيان ما يتيمم به
وَغَيْرِهَا، وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْكَافِرِ فَلَا يَبْقَى طَهَارَةً فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ تَنْعَقِدْ طَهَارَةٌ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا تَبْقَى طَهَارَةٌ مَعَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ وَقَعَ طَهَارَةً صَحِيحَةً فَلَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّدَّةِ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ، وَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ طَهُورٌ، وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الطَّهُورِيَّةِ كَمَا لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الْوُضُوءِ، وَاحْتِمَالُ الْحَاجَةِ بَاقٍ، لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ طَهَارَةً مَعَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ طَهَارَةً لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ زَائِلَةٌ لِلْحَالِ بِيَقِينٍ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ مَعَ مَا أَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ عَلَى مُوجِبِ دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ مُنْقَطِعٌ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْعَدِمٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ النَّجِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَلَا طِيبَ مَعَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ تَيَمَّمَ بِأَرْضِ قَدْ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ الْكَاسِّ النَّخَعِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ اسْتَحَالَتْ أَرْضًا بِذَهَابِ أَثَرِهَا؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا؛ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا أَيْضًا (وَلَنَا) أَنَّ إحْرَاقَ الشَّمْسِ وَنَسْفَ الْأَرْضِ أَثَرُهَا فِي تَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ دُونَ اسْتِئْصَالِهَا. وَالنَّجَاسَةُ وَإِنْ قَلَّتْ تُنَافِي وَصْفَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ، فَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَلِيلُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ لَوْ وَقَعَتْ فِي الْإِنَاءِ تَمْنَعُ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ، وَلَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ مِنْ مَكَان، ثُمَّ تَيَمَّمَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ الْمُسْتَعْمَلَ مَا الْتَزَقَ بِيَدِ الْمُتَيَمِّمِ الْأَوَّلِ لَا مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَاءٍ فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وُضُوءِ الْأَوَّلِ أَوْ اغْتِسَالِهِ بِهِ، وَذَلِكَ طَهُورٌ فِي حَقِّ الثَّانِي كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ، ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الصَّعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ فَسَّرَ الصَّعِيدَ بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ، وَهُوَ مُقَلِّدٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ، وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ وَذَلِكَ هُوَ التُّرَابُ دُونَ السَّبِخَةِ وَنَحْوِهَا، (وَلَهُمَا) أَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنْ الصُّعُودِ وَهُوَ الْعُلُوُّ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الصَّاعِدُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إنَّهُ اسْمٌ لِمَا تَصَاعَدَ، حَتَّى قِيلَ لِلْقَبْرِ صَعِيدٌ لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّعِيدَ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَالَ «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ» . وَرُبَّمَا تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ فِي الرَّمْلِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِنْبَاتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، (وَأَمَّا) قَوْلُهُ سَمَّاهُ طَيِّبًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّيِّبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجِسِ فَخَرَجَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، الْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ جِنْسِ الْأَرْضِ، فَكُلُّ مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَا يَنْطَبِعُ وَيَلِينُ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ، وَعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ أَوْ لَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ الصَّعِيدِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ، (وَعِنْدَ) أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ: مَسُّ وَجْهِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ وَإِمْرَارُهُمَا عَلَى الْعُضْوَيْنِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ
فصل في بيان ما يتيمم منه
وَالزِّرْنِيخِ وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالْكُحْلِ وَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ وَالْمُجَصَّصِ وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ وَالْمَرْدَاسِنْجِ الْمَعْدِنِيِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ، وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَالطِّينِ الرَّطْبِ،. (وَعِنْدَ) مُحَمَّدٍ إنْ الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا غُبَارٌ أَوْ كَانَ مَدْقُوقًا يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَأَمَّا ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى مَا لَهُ صَلَابَةٌ وَمَلَاسَةٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ: " الِاسْتِعْمَالُ شَرْطٌ " مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّغْيِيرِ الَّذِي هُوَ شَبِيهُ الْمُثْلَةِ، وَعَلَامَةِ أَهْلِ النَّارِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِنَفْضِ الْيَدَيْنِ بَلْ الشَّرْطُ إمْسَاسُ الْيَدِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَشَبِ، وَكَذَا بِاللَّآلِئِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْقُوقَةً أَوْ لَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْحَيَوَانِ. وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ لِبَدٍ أَوْ صُفَّةِ سَرْجٍ فَارْتَفَعَ غُبَارًا، وَكَانَ عَلَى الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ عَلَى الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ نَحْوِهَا غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجْزِيهِ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّعِيدِ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْ الصَّعِيدِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ وَهُوَ اسْمُ لِلتُّرَابِ الْخَالِصِ، وَالْغُبَارُ لَيْسَ بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَلْ هُوَ تُرَابٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ، (وَلَهُمَا) أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَطِيفٌ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ بِهِ وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِيَنْفُضْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ أَوْ صُفَّةَ سَرْجِهِ، وَلْيَتَيَمَّمْ وَلْيُصَلِّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا، وَلَيْسَ فِي ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أَوْ بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ مَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْطِيخَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ. وَإِنْ كَانَ لَوْ تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الطِّينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ. وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكٌ، وَهُوَ يَلْتَزِقُ بِالْيَدِ فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ بِالْإِيمَاءِ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ كَمَا لِمَحْبُوسٍ فِي الْمَخْرَجِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ فَهُوَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدَثِ فِي صَدْرِ فَصْلِ التَّيَمُّمِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَتَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لِمُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ إيَّاهُ، وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مُلْحَقَانِ بِالْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَاهَا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ مِنْهُمَا لِعُمُومِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، (أَمَّا) الْأَوَّلُ - فَالْأَوْقَاتُ كُلُّهَا وَقْتٌ لِلتَّيَمُّمِ حَتَّى يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ دُخُولِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ أَمْ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ؟ فَعِنْدَنَا بَدَلٌ مُطْلَقٌ، وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، وَسَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ وَالضَّرُورِيِّ وَدَلِيلَهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الثَّانِي - وَهُوَ بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلتَّيَمُّمِ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يُؤَخَّرُ. وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدُ الْمَاءَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ لَا يُؤَخِّرُ وَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا
فصل في صفة التيمم
كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ أَوْ لَا يَرْجُو. وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ بَلْ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْمُعَلَّى تَفْسِيرًا لِمَا أَطْلَقَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يُؤَخِّرُ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي مُسَافِرٍ أَجْنَبَ يَتَلَوَّمُ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً؛ فَإِذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ كَانَ فِي التَّأْخِيرِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرْجَ لَا يُسْتَحَبُّ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى فَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ مِنْ مِيلٍ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِيلًا فَصَاعِدًا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِمَا يُذْكَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقُرْبِ الْمَاءِ أَوْ بُعْدِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ أَوْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَوْ قَبْلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا، وَاحْتِمَالُ الْوُجُودِ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ، وَلَوْ أَخْبَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ مِنْ مِيلٍ لَكِنَّهُ يَخَافُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ وَتَوَضَّأَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْقُرْبُ وَالْبَعْدُ لَا الْوَقْتُ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْوَقْتُ لَا قُرْبُ الْمَاءِ وَبُعْدُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ فَيَتَيَمَّمُ كَيْ لَا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عَنْ الْوَقْتِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَفُوتُهُ أَصْلًا بَلْ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَالْفَائِتُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ أَصْلًا لِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ فِيهَا لِخَوْفِ الْفَوَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةُ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ التَّيَمُّمِ فَهِيَ أَنَّهُ بَدَلٌ بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِحَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - الْخِلَافُ فِيهِ مَعَ غَيْرِ أَصْحَابِنَا، وَالثَّانِي مَعَ أَصْحَابِنَا، (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ وَعَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ، إلَّا أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، وَعَنَى بِهِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ: لِتَصْحِيحِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُزِيلُ هَذَا الْحَدَثَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَأَى الْمَاءَ تَعُودُ الْجَنَابَةُ وَالْحَدَثُ، مَعَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ لَكِنْ أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» فَقَدْ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى التَّيَمُّمُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ فَتَتَقَدَّرُ بَدَلِيَّتُهُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَيْضًا أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ فِي الْوَقْتِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ مَا تَيَمَّمَ لِأَجْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْفَرَائِضِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ لَا يَقِفُ عَلَى وُجُودِ عِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ شَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ فِيهِ، بَلْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ يَكْفِي لِثُبُوتِهِ فِي التَّبَعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْنِي أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِلنَّفْلِ
فصل في بيان ما ينقض التيمم
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ لَا يَسْتَتْبِعُ الْأَصْلَ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالضَّرُورَةُ فِي الْفَرَائِضِ لَا فِي النَّوَافِلِ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ، وَالْحَاجَةُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الطَّهَارَةُ لِأَجْلِهِ؛ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي حَقِّ النَّوَافِلِ بِلَا خِلَافٍ كَذَا هَهُنَا، (وَأَمَّا) الْخِلَافُ الَّذِي مَعَ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَوْ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِتَصْحِيحِ أَصْلِهِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ» الْحَدِيثُ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا دُونَ التُّرَابِ، وَهُمَا احْتَجَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] أَقَامَ الصَّعِيدَ مَقَامَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» وَقَالَ «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ جَازَتْ إمَامَتُهُ إيَّاهُمْ، وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ فِي قَوْلِ، أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا كَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَالْمُقْتَدِي إذَا كَانَ عَلَى وُضُوءٍ لَمْ يَكُنْ تَيَمُّمُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِ، لِوُجُودِ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ لَهُ فِي حَقِّهِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، كَالصَّحِيحِ إذَا اقْتَدَى بِصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ، لِأَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، فَلَمْ تُعْتَبَرْ طَهَارَتُهُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ لَهُ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَجُزْ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هَذَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ عِنْدَهُمَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُقْتَدِينَ مَاءٌ كَانَ التُّرَابُ طَهَارَةً مُطْلَقَةً فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ، فَيَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُقَارِنُهَا أَوْ يَطْرَأُ عَلَيْهَا فَلَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ فَلَا يَبْقَى التُّرَابُ طَهُورًا فِي حَقِّهِمْ، فَلَمْ تَبْقَ طَهَارَةُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَيَمِّمُ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، ثُمَّ رَأَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْمَاءَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْإِمَامُ وَالْآخَرُونَ، حَتَّى فَرَغُوا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَفْسُدُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ فِي نَفْسِهِ، فَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تَكُونُ مُفْسِدَةً فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ،. (وَلَنَا) أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ جُعِلَتْ عَدَمًا فِي حَقِّهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ، إذْ لَا يَبْقَى الْخَلْفُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَصَارَ مُعْتَقِدًا فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَالْمُقْتَدِي إذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى الْإِمَامُ إلَى جِهَةٍ وَالْمُقْتَدِي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إمَامَهُ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هَذَا، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً: فَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ، وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَرِيَّةٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَسْأَلَةُ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَمَّ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ» ثُمَّ لَوْ أَمَّ جَازَ كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ أَمَّا الْعَامُّ فَكُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الْخَاصُّ: وَهُوَ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْخُصُوصِ
فَوُجُودُ الْمَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا إنْ وَجَدَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَصْلًا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ بَعْدَ صِحَّتِهَا لَا تُنْقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَوُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» جَعَلَ التَّيَمُّمَ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلْفِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا. وَقَوْلُهُ: " وُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ، " مُسَلَّمٌ وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِوُجُودِ الْمَاءِ، بَلْ الْحَدَثُ السَّابِقُ يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ. ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ نَوْعَانِ: وُجُودُهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ، وَأَنَّهُ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ وَوُجُودُهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ دُونَ الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَهَذَا لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ، حَتَّى لَوْ مَرَّ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، أَوْ كَانَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا لَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَكَذَا لَوْ مَرَّ عَلَى مَاءٍ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ إلَيْهِ؛ لِخَوْفِ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وَقَالَ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. وَكَذَا إذَا أَتَى بِئْرًا وَلَيْسَ مَعَهُ دَلْوٌ أَوْ رِشَاءٌ أَوْ وَجَدَ مَاءً وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ؛ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَاءً مَوْضُوعًا فِي الْفَلَاةِ فِي جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ، عَلَى قِيَاسِ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلسُّقْيَا دُونَ الْوُضُوءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِالْكَثْرَةِ عَلَى أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ جَمِيعًا؛ فَيُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ نَقَضَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ وَمَا لَا فَلَا. ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لِلْوُضُوءِ أَوْ الِاغْتِسَالِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي لَا يُنْقَضُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَنْقُضُ وَالْخِلَافُ فِي الْبَقَاءِ كَالْخِلَافِ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَنَّ خَمْسَةً مِنْ الْمُتَيَمِّمِينَ وَجَدُوا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدُهُمْ اُنْتُقِضَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِيَقِينٍ وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ احْتِيَاطًا وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مَاءٌ فَقَالَ: أَبَحْتُ لَكُمْ هَذَا الْمَاءَ يَتَوَضَّأُ بِهِ أَيُّكُمْ شَاءَ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمْ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْمَاءُ لَكُمْ لَا يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ رَأْسًا. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْهِبَةُ وَإِنْ صَحَّتْ وَأَفَادَتْ الْمِلْكَ لَكِنْ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَكْفِي لِوُضُوئِهِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ أَذِنُوا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَا يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَعِنْدَهُ الْهِبَةُ فَاسِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ: مُسَافِرٌ مُحْدِثٌ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَمَعَهُ مَا يَكْفِي لِأَحَدِهِمَا غَسَلَ بِهِ الثَّوْبَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ أَغْلَظُ النَّجَاسَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا جَوَازَ لَهَا مَعَ الْحَدَثِ بِحَالٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّرْفَ إلَى النَّجَاسَةِ يَجْعَلُهُ مُصَلِّيًا بِطَهَارَتَيْنِ حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّيَمُّمِ لَا يَجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ تَجُوزُ بِهِ صَلَاتُهُ. وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ، وَتَوَضَّأَ بِهِ وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ يَقْرُبُ الْمَاءُ مِنْهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ وَفِي قَوْلٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، كَمَا إذَا رَأَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الرُّؤْيَةُ فَلَا تَبْطُلُ
الصَّلَاةُ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ مَعْنًى، كَمَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَمْ يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ انْعَقَدَتْ مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَتَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَلَوْ أَتَمَّهَا لَأَتَمَّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فَلَا تُبْطِلُ الطَّهَارَةَ قُلْنَا: بَلَى، وَعِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ بَلْ تَنْتَهِي لِكَوْنِهَا مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ الرُّؤْيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ عِنْدَنَا، بَلْ بِالْحَدَثِ السَّابِقُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَة فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ فَظَهَرَ أَثَرُ الْحَدَثِ السَّابِقِ وَصَارَ كَخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ. وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِالِاثْنَا عَشْرِيَّةَ وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُصَلِّي مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لَوْ وُجِدَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يُفْسِدُهَا إنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، مِثْلُ الْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ فَرْضٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُصَلِّي بَلْ هُوَ مَعْنًى سَمَاوِيٌّ لَكِنَّهُ لَوْ اعْتَرَضَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هَلْ يُفْسِدُهَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُفْسِدُهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُفْسِدُهَا، وَذَلِكَ كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ مَاءً، وَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا انْقَضَى وَقْتُ مَسْحِهِ، وَالْعَارِي يَجِدُ ثَوْبًا، وَالْأُمِّيِّ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ السَّيَلَانُ، وَصَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً، وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَسُقُوطِ الْخُفِّ عَنْ الْمَاسِحِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ وَاسِعًا بِدُونِ فِعْلِهِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُصَلِّي الْفَجْرِ وَالْمُومِئِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْقَارِئِ إذَا اسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا، وَالْمُصَلِّي بِثَوْبٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَالْمُصَلِّي إذَا سَقَطَ الْجَبَائِرُ عَنْهُ عَنْ بُرْءٍ. وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ ذِكْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوْضِعِهَا وَإِنَّمَا جَمَعْنَاهَا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَتَيْسِيرًا لِلْحِفْظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُصَلِّي مِنْ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لِانْتِهَاءِ أَرْكَانِهَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ: إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» وَالصَّلَاةُ بَعْدَ تَمَامِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسَادَ، وَلِهَذَا لَا تَفْسُدُ بِالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِفِعْلِهِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الصَّلَاةَ بِالتَّمَامِ، وَلَا تَمَامَ يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَكَذَا إصَابَةُ لَفْظِ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ وَانْتِهَاءَهُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ مُحَالٌ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَهَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ التَّحْرِيمَةِ، وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ، فَأَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَيَسْتَدْعِي بَقَاءَ التَّحْرِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الرُّكْنِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ ضِدُّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا، وَضِدُّ الشَّيْءِ كَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لَهُ؟ وَلِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْصُلُ الْخُرُوجُ بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا؟ . وَالْوَجْهُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عِدَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، بَلْ بِوُجُودِهَا يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ فَاسِدَةً، (وَبَيَانُ) ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الْحَدَثُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُزِيلُهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلْحَرَجِ كَيْ لَا تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ فَيُخْرَجَ فِي قَضَائِهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَدَثِ السَّابِقِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلَا حَرَجَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فَإِنَّ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا الرُّكْنُ الْأَخِيرُ بَاقٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرُّكْنِ كَالْقِرَاءَةِ إذَا طَالَتْ فَظَهَرَ
فِيهَا حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اعْتَرَضَ هَذَا الْمَعْنَى فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَضَى وَقْتُ الْمَسْحِ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ وُجِدَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ عَنْ الْقِدَمِ حَقِيقَةً، لَكِنْ الشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ فِيمَا أَدَّى مِنْ الصَّلَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالْتَحَقَ الْمَانِعُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ. وَلَا حَرَجَ فِيمَا لَمْ يُؤَدَّ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا سَقَطَ خُفُّهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَكَذَا صَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ إنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا لِمَا قُلْنَا مِنْ الْجُرْحِ، وَلَا حَرَجَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْمُومِئُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْأُمِّيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ وَالْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ فَرْضٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَالسُّقُوطُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْكُلِّ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ الصَّوْمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ سَقَطَ؛ لِأَجْلِ الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ نَظِيرَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ ثَمَّةَ أَصْلًا وَهَهُنَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ قَبْلَ وَقْتِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَلَا حَرَجَ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَعَلَى هَذَا الْمُصَلِّي إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ عَنْ يَدِهِ عَنْ بُرْءٍ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَادِرِ، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى بَعْدَ الْبُرْءِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ، وَفِيهِ هَذِهِ الصَّلَاة لَا حَرَجَ. وَأَمَّا قَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ وَالْمُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ نَاقِصٌ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ فَلَا يَقَعُ قَضَاءً وَلَكِنَّهُ يَقَعُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِيهِ جَائِزٌ فَيَنْقَلِبُ تَطَوُّعًا وَعَلَى هَذَا مُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَامِلًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ النَّاقِصَ قَلِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَجِبُ نَاقِصًا بَلْ كَامِلًا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فِيهِ صَارَ نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْوَقْتَ النَّاقِصَ مِمَّا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَجِبُ نَاقِصًا وَقَدْ أَدَّاهُ نَاقِصًا فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا دُخُولُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ الظُّهْرَ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ عَرَفْنَاهَا بِالنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، وَالْوَقْتُ مِنْ شَرَائِطِهِ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرَ الْمَخْصُوصِ عَنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يَجُزْ. فَظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الظُّهْرُ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْفَسَادَ لِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ؛ لِأَنَّهَا نَوَاقِضُ الصَّلَاةِ وَقَدْ صَادَفَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَأَوْجَبَ فَسَادَ ذَلِكَ الْجُزْءِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ تَسْتَغْنِي الصَّلَاةُ عَنْهَا، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ، فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَرَضَتْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ فَسَادَ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْأَصْلِيِّ، وَلَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ وَبِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ صَلَاةً إذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَمَعَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ مَخْصُوصَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النُّقْصَانِ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَخْصُوصَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مَا مَرَّ، هَذَا إذَا وَجَدَ فِي الصَّلَاةِ مَاءً مُطْلَقًا. ، فَإِنْ وَجَدَ سُؤْرَ حِمَارٍ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَشُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَقْطَعُ بِالشَّكِّ، بَلْ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا تَوَضَّأَ بِهِ وَأَعَادَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُطَهَّرًا فِي نَفْسِهِ مَا جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مُطَهَّرٍ فِي نَفْسِهِ جَازَتْ بِهِ صَلَاتُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ احْتِيَاطًا. وَإِنْ وَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْتَقِضُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ طَهُورًا أَصْلًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ هَذَا كُلُّهُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ،. فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي
فصل في الطهارة الحقيقية
الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ عِنْد عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُعِيدُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَقْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ شَرْعًا كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَكَانَ الْوُجُودُ فِي الْوَقْتِ كَالْوُجُودِ فِي أَثْنَاءِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَطَلَ الْبَدَلُ كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى أَوْ أَحَجَّ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ بِنَفْسِهِ،. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ، فَإِذَا صَلَّى حَالَةَ الْعَدَمِ فَقَدْ أَدَّى الصَّلَاةَ بِطَهَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا فَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَيَمَّمَا مِنْ جَنَابَةٍ وَصَلَّيَا وَأَدْرَكَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَعَادَ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أُوتِيتَ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ عَنْكَ» . أَيْ كَفَتْكَ جَزَى وَأَجْزَأَ مَهْمُوزًا بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، وَهَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْإِعَادَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْوُجُودِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَنَعَمْ، لَكِنْ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ، كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ وَفَدَى عَنْ صَوْمِهِ، ثُمَّ قَدَرَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِحْجَاجِ وَالْفِدْيَةِ مُعَلَّقٌ بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَالصَّوْمِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا قَدَرَ بِنَفْسِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَأْسَ، فَأَمَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ فَمُعَلَّقٌ بِالْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالْعَجْزُ كَانَ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَبِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا عَجْزَ فَهُوَ الْفَرْقُ. [فَصْلٌ فِي الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ - وَهِيَ الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجِسِ - فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِهِ نَجِسًا شَرْعًا وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ النَّجِسِ. (وَأَمَّا) أَنْوَاعُ الْأَنْجَاسِ فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنْ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ أَوْ الْغُسْلُ فَهُوَ نَجِسٌ، مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ، وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالدَّمِ السَّائِلِ مِنْ الْجُرْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِ ذَلِكَ مُسَمًّى بِالتَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَالتَّحْرِيمُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذْ النَّجِسُ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي الْمَنِيِّ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ زَعَمَ أَنَّهُ طَاهِرٌ (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْكًا وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَيْ فِي حَالِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا الْإِعَادَةُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَنِيُّ كَالْمُخَاطِ فَأَمِطْهُ عَنْكَ وَلَوْ بِالْإِذْخِرِ شَبَّهَهُ بِالْمُخَاطِ، وَالْمُخَاطُ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَذَا الْمَنِيُّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِإِمَاطَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِقَذَارَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ مِنْ النُّخَامَةِ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ يَا عَمَّارُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رِكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءٌ، إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: بَوْلٍ، وَغَائِطٍ، وَقَيْءٍ، وَمَنِيٍّ، وَدَمٍ» أَخْبَرَ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا مَحَالَةَ، وَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ يَكُونُ نَجِسًا فَدَلَّ أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: «إذَا رَأَيْتِ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبِك فَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَحُتِّيهِ» وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ نَجِسًا؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِهِ أَغْلَظُ الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ الِاغْتِسَالُ، وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ، وَغِلَظُ الطَّهَارَةِ يَدُلَّ عَلَى غِلَظِ النَّجَاسَةِ كَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلِأَنَّهُ يَمُرُّ بِمِيزَابِ النَّجَسِ فَيَنْجَسُ
بِمُجَاوَرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا بِنَفْسِهِ وَكَوْنُهُ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلًا وَلَا عُمُومَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَتَشْبِيهُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إيَّاهُ بِالْمُخَاطِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحُكْمِ لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْمُخَاطِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِمَاطَةِ بِالْإِذْخِرِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْإِمَاطَةِ كَيْ لَا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ فَيَتَعَسَّرُ غَسْلُهُ. (وَأَمَّا) الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقَيْءُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ، هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ نَجِسٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ بِنَفْسِهِ، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَالرِّجْسُ: هُوَ النَّجِسُ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَاهَا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا نَجِسَ سِوَاهَا إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُحَرَّمًا، إذْ النَّجَسُ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ نَفَى حُرْمَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَأَثْبَتَ حُرْمَةَ الْمَذْكُورِ، وَعَلَّلَ لِتَحْرِيمِهِ بِأَنَّهُ رِجْسٌ - أَيْ نَجِسٌ - وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ نَجِسًا لَكَانَ مُحَرَّمًا؛ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَدَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل لَا يُنَجِّسُهُ، وَلَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ نَجِسٌ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ لِلضَّرُورَةِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ، وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ فَلَوْ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَبِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَدَمُ الْأَوْزَاغِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ سَائِلٌ، وَكَذَا الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا قُلْنَا، بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَمِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) دَمُ السَّمَكِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدِّمَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى إبَاحَةِ تَنَاوُلِهِ مَعَ دَمِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَاءٌ تَلَوَّنَ بِلَوْنِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الدَّمَوِيَّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَالدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مَعَ اللَّحْمِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ غَيْرُ مَعْفُوٍّ فِي الثِّيَابِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ وَإِمْكَانِهِ فِي الثَّوْبِ. (وَمِنْهَا) مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِنْ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، (أَمَّا) الْأَبْوَالُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَوْلَ كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ، وَاخْتُلِفَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ نَجِسٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ طَاهِرٌ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا» مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِي الرِّجْسِ شِفَاءٌ» فَثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ (وَلَهُمَا) حَدِيثُ عَمَّارٍ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبَوْلَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وقَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهُ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ - لَا لِاحْتِرَامِهِ وَكَرَامَتِهِ - تَنْجِيسٌ لَهُ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ الطَّبِيعِيُّ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى فَسَادٍ وَهِيَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ، فَصَارَ كَرَوْثَةِ وَكَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِشُرْبِ أَلْبَانِهَا دُونَ أَبْوَالِهَا» فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ شِفَاءَهُمْ فِيهِ، وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ عِنْدَ التَّيَقُّنِ لِحُصُولِ الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْد الْعَطَشِ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ وَإِنَّمَا لَا يُبَاحُ بِمَا لَا يُسْتَيْقَنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي لِحَدِيثِ
الْعُرَنِيِّينَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ حَرَامٌ، وَكَذَا بِمَا لَا يُعْقَلُ فِيهِ الشِّفَاءُ وَلَا شِفَاءَ فِيهِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ شِفَاءَ أُولَئِكَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْأَرْوَاثُ فَكُلُّهَا نَجِسَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ زُفَرُ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ أَنَّ الشُّبَّانَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي السَّفَرِ كَانُوا يَتَرَامَوْنَ بِالْجِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ، وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا مَسُّوهَا، وَعَلَّلَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ وَقُودُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْتَعْمِلُونَهُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ، فَأُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ؛ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى نَتِنٍ وَخُبْثِ رَائِحَةٍ مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، فَكَانَتْ نَجِسَةً. (وَمِنْهَا) خُرْءُ بَعْضِ الطُّيُورِ مِنْ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطُّيُورَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَنَوْعٌ يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ. (أَمَّا) مَا لَا يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ فَخُرْؤُهُمَا نَجِسٌ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَقْذَرًا لِتَغَيُّرِهِ إلَى نَتْنٍ وَفَسَادِ رَائِحَةٍ فَأَشْبَهَ الْعَذِرَةَ، وَفِي الْإِوَزِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، (وَمَا) يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ نَوْعَانِ أَيْضًا: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، كَالْحَمَامِ، وَالْعُصْفُورِ، وَالْعَقْعَقِ، وَنَحْوِهَا، وَخُرْؤُهَا طَاهِرٌ، عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّبْعَ قَدْ أَحَالَهُ إلَى فَسَاد فَوُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ وَالْعَذِرَةَ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ اعْتَادُوا اقْتِنَاءَ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا تَذْرِقُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حَمَامَةً ذَرَقَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَهُ وَصَلَّى، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعُصْفُورِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ إحَالَةِ الطَّبْعِ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاسَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَحِيلِ نَتْنٌ وَخُبْثُ رَائِحَةٍ تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هَهُنَا عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكَانَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ كَدَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَحَكَى مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَئِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا. وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، خَرْؤُهَا طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِإِحَالَةِ الطَّبْعِ إيَّاهُ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْكُنُ الْمُرُوجَ وَالْمَفَاوِزَ بِخِلَافِ الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ، (وَلَهُمَا) أَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ فَيَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهَا، وَكَذَا الْمُخَالَطَةُ ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَذْرِقَانِ فِي الْهَوَاءِ فَكَانَتْ الصِّيَانَةُ مُمْكِنَةً، وَخُرْءُ الْفَأْرَةِ نَجِسٌ؛ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ بَوْلُهَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ بَلْخٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ اُبْتُلِيتُ بِهِ لَغَسَلْتُهُ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ لَمْ يَغْسِلْهُ وَصَلَّى فِيهِ؟ فَقَالَ: لَا آمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ. وَبَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخُرْؤُهَا لَيْسَ بِنَجِسٍ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ فِي الْهَوَاءِ وَهِيَ فَأْرَةٌ طَيَّارَةُ فَلِهَذَا تَبُولُ. (وَمِنْهَا) الْمَيْتَةُ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَيْتَاتِ أَنَّهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ وَالثَّانِي مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ. (أَمَّا) الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ: فَالذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَالسَّرَطَانُ وَنَحْوُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ، إلَّا الذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ فَلَهُ فِيهِمَا قَوْلَانِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَوْتُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، ثُمَّ اُنْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ دَوَاءٌ» وَهُوَ يُقَدِّمُ الدَّاءَ عَلَى الدَّوَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ
الذُّبَابَ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ إذَا مَقَلَ فِي الطَّعَامِ الْحَارِّ يَمُوتُ، فَلَوْ أَوْجَبَ التَّنْجِيسُ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْمَقْلِ أَمْرًا بِإِفْسَادِ الْمَالِ وَإِضَاعَتِهِ، مَعَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، وَحَاشَا أَنْ يَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ، وَلِأَنَّا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا فَأَشْبَهَ مَوْتَ الدُّودَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ الْخَلِّ فِيهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ، مَعَ مَا أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مَخْصُوصَانِ عَنْ النَّصِّ إذْ هُمَا مَيْتَتَانِ بِنَصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُخَصِّصُ انْعِدَامُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ هَهُنَا مُنْعَدِمٌ. (وَأَمَّا) الَّذِي لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَلَا خِلَافَ فِي الْأَجْزَاءِ الَّتِي فِيهَا دَمٌ مِنْ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِاحْتِبَاسِ الدَّمِ النَّجِسِ فِيهَا، وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ. (وَأَمَّا) الْأَجْزَاءُ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ، وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ، وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ، فَلَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَيْتَاتُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ، وَلِأَصْحَابِنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ، أَوْ بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلَا حَيَاةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ مَيْتَةً، وَالثَّانِي - أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى هَذَا مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَانُ جُزْءًا فِيهِ دَمٌ كَالْيَدِ وَالْأُذُنِ وَالْأَنْفِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ نَجِسٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَمٌ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَأَمَّا الْإِنْفَحَةُ الْمَائِعَةُ وَاللَّبَنُ فَطَاهِرَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجِسَانِ، (لَهُمَا) أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَارَ نَجِسًا لِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وَصَفَ اللَّبَنَ مُطْلَقًا بِالْخُلُوصِ وَالسُّيُوغِ مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَذَا آيَةُ الطَّهَارَةِ وَكَذَا الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْمِنَّةِ فِي مَوْضِعِ النِّعْمَةِ تَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ النَّجِسُ، إذْ لَا خُلُوصَ مَعَ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ مَا ذَكَرنَا مِنْ الْحُكْمِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ، فَأَمَّا حُكْمُهَا فِيهِمَا: فَأَمَّا الْآدَمِيُّ: فَعَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ نَجِسَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَالصَّلَاةُ مَعَهَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَزْنًا أَوْ عَرَضًا عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ يُفْسِدُهُ وَفِي رِوَايَةٍ طَاهِرٌ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً مِنْ الْكَلْبِ نَجِسَةً مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا احْتِرَامًا لِلْآدَمِيِّ، كَمَا إذَا طُحِنَ سِنُّ الْآدَمِيِّ مَعَ الْحِنْطَةِ أَوْ عَظْمُهُ لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْخُبْزِ الْمُتَّخَذِ مِنْ دَقِيقِهَا لَا لِكَوْنِهِ نَجِسًا بَلْ تَعْظِيمًا لَهُ كَيْ لَا يَصِيرَ مُتَنَاوَلًا مِنْ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْخِنْزِيرُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ رِجْسًا فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ شَعْرِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا نَصًّا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَلَوْ وَقَعَ شَعْرُهُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ كَشَعْرِ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْهُ طَاهِرَةٌ؛ لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخِنْزِيرِ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ لَعَيْنِهِ. (وَأَمَّا) الْكَلْبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ أَمْ لَا وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَقَدْ أَلْحَقَهُ بِالْخَنَازِيرِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَقَدْ جَعَلَهُ مِثْلَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْخِنْزِيرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ. (وَمِنْهَا) سُؤْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْأَسْآرِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ طَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَنَوْعٌ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَنَوْعٌ مَكْرُوهٌ، وَنَوْعٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ. (أَمَّا) السُّؤْرُ الطَّاهِرُ الْمُتَّفَقُ عَلَى طَهَارَتِهِ فَسُؤْرُ الْآدَمِيِّ بِكُلِّ حَالٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا حَائِضًا أَوْ جُنُبًا، إلَّا فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ وَنَاوَلَ الْبَاقِيَ أَعْرَابِيًّا كَانَ عَلَى
يَمِينِهِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ فَشَرِبَ» . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «شَرِبَتْ مِنْ إنَاءٍ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فَمِهَا حُبًّا لَهَا فَشَرِبَ» ؛ وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ - وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ - فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا إلَّا فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ، وَقِيلَ: هَذَا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَأَمَّا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ابْتَلَعَ بُزَاقَهُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَكُونُ طَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - خِلَافًا لَهُمَا - بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا - إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِمَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالثَّانِيَةُ - إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْغَسْلِ فِي الْأَوَانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، لَكِنْ اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الصَّبَّ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُوجَدْ. وَالثَّانِي - أَنَّ مَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ كَرِهُوا سُؤْرَ الْمُشْرِكِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وَعِنْدَنَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَجَاسَةِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ؛ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ» ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُهُمْ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ مَعَ أَمْرِهِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ انْزِوَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ النُّخَامَةِ مَعَ طَهَارَتِهَا وَكَذَا سُؤْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ إلَّا الْإِبِلَ الْجَلَّالَةَ وَالْبَقَرَةَ الْجَلَّالَةَ وَالدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ. وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أَوْ شَاةٍ» ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْبَقَرَةِ الْجَلَّالَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ؛ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا يُكْرَهُ، (وَصِفَةُ) الدَّجَاجَةِ الْمَحْبُوسَةِ أَنْ لَا يَصِلَ مِنْقَارُهَا إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهَا فَإِنْ كَانَ يَصِلُ فَهِيَ مُخَلَّاةٌ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ بَحْثِ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ. وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ؛ لِطَهَارَةِ لَحْمِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: - كَمَا فِي لَحْمِهِ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ طَاهِرٌ كَلَحْمِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِتَقْلِيلِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَآلَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي السُّؤْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمُخْتَلَفُ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: طَاهِرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ سُؤْرُ السِّبَاعِ كُلِّهَا طَاهِرٌ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. (أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ يَحُجُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ، إلَّا أَنَّهُ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ كَالْآدَمِيِّ، وَكَذَا الذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ وَلَا يُبَاحُ أَكْلُهَا، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ طَهَارَتِهِ تَعَبُّدًا، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسًا، وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعًا» وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ لَمْ يَكُنْ تَعَبُّدًا، إذْ لَا قُرْبَةَ تَحْصُلُ بِغَسْلِ الْأَوَانِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ صَبَّ الْمَاءِ فِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ الْغَسْلُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لِنَجَاسَتِهِ؛ وَلِأَنَّ سُؤْرَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لُحُومِهَا، وَلُحُومُهَا نَجِسَةٌ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ سُؤْرِهَا وَصِيَانَةِ الْأَوَانِي عَنْهَا؛ فَيَكُونُ نَجِسًا ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ فَقِيلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا يَرِدُهَا مِنْ السِّبَاعِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ وَطَهُورٌ» وَهَذَا نَصٌّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا وَرَدَا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ: أَتَرِدُ السِّبَاعُ حَوْضَكُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرُنَا وَلَوْ لَمْ يَتَنَجَّسْ الْمَاءُ الْقَلِيلُ بِشُرْبِهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ وَلَا لِلنَّهْيِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَيُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا، وَيَخْتَلِطُ بِشُرْبِهَا لُعَابُهَا بِالْمَاءِ، وَلُعَابُهَا نَجِسٌ؛ لِتَحَلُّبِهِ مِنْ لَحْمِهَا وَهُوَ نَجِسٌ، فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا كَسُؤْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْهِرَّةِ، لِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ لَحْمِ السِّبَاعِ، أَوْ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ مِثْلَهَا لَا يَنْجَسُ. (وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا
اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا اعْتِبَارًا بِلَحْمِهَا كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا - وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا بِخِلَافِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ؛ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ فَتَشْرَبُ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَكَانَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، (وَكَذَا) سُؤْرُ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا، (وَكَذَا) سُؤْرُ الْهِرَّةِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبَ مِنْهُ، ثُمَّ يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ بِهِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْهِرَّةُ سَبُعٌ» وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا، وَمِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً» وَالْمَعْنَى فِي كَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، لَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا؛ لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ فَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ: «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» وَلَكِنَّ الْكَرَاهَةَ لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ، ثُمَّ نُسِخَ عَلَى مَذْهَبِ الطَّحَاوِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ تِلْكَ الْهِرَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى فَمِهَا نَجَاسَةٌ - عَلَى مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ - أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَعَلَى هَذَا تَنَاوُلُ بَقِيَّةِ طَعَامٍ أَكَلَتْهُ وَتَرَكَهَا لِتَلْحَسَ الْقِدْرَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَلَوْ أَكَلَتْ الْفَأْرَةَ، ثُمَّ شَرِبَتْ الْمَاءَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَرِبَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَإِنْ مَكَثَتْ، ثُمَّ شَرِبَتْ لَا يَتَنَجَّسُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَنَجَّسُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلَيْنِ فِي سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ سُؤْرَهُمَا نَجِسٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ظَاهِرُ وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ الثَّوْبُ مِنْ عَرَقِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ» فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ أَوْلَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي سُؤْرِهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ لَا يَخْلُو عَنْ لُعَابِهِ، وَلُعَابُهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ نَجِسٌ، فَلَوْ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ إنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَالضَّرُورَةُ مُتَعَارِضَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالِطَةِ كَالْهِرَّةِ وَلَا فِي الْمُجَانِبَةِ كَالْكَلْبِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَنَجَاسَتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحِمَارُ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ رِجْسٌ وَكَذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا النَّهْيُ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ، وَكَذَا اعْتِبَارُ عَرَقِهِ يُوجِبُ طَهَارَةَ سُؤْرِهِ، وَاعْتِبَارُ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَكَذَا تَحَقَّقَ أَصْلُ الضَّرُورَةِ لِدَوَرَانِهِ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَشُرْبُهُ فِي الْإِنَاءِ يُوجِبُ طَهَارَتَهُ، وَتَقَاعُدُهَا عَنْ ضَرُورَةِ الْهِرَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُلُ - الْمَضَايِقَ - يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ التَّوَضُّؤِ بِهِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ لَوْ جَازَ لَا يَضُرُّهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّوَضُّؤُ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَازُ بِيَقِينٍ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، حَتَّى يُقَدَّمَ الْوُضُوءُ عَلَى التَّيَمُّمِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَثِيَابُهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِالشَّكِّ، وَالْعُضْوُ وَالثَّوْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ، ثُمَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَوَابَ فِي سُؤْرِ الْأَتَانِ، وَقَالَ فِي سُؤْرِ الْفَحْلِ: إنَّهُ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ يَشُمُّ الْبَوْلَ فَتَتَنَجَّسُ شَفَتَاهُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ
أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الثَّابِتِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ الْأَسْآرَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا وَجُعِلَ الْخَامِسُ مِنْهَا السُّؤْرَ النَّجِسَ الْمُتَّفَقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْخِنْزِيرِ خِلَافَ مَالِكٍ كَمَا فِي الْكَلْبِ فَانْحَصَرَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ. (وَمِنْهَا) الْخَمْرُ وَالسَّكْرُ أَمَّا الْخَمْرُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا فِي آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَقَالَ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَالرِّجْسُ: هُوَ النَّجِسُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ. (وَمِنْهَا) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ نَوْعَانِ: غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْحَدَثُ أَمَّا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا غُسِلَتْ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَالْمِيَاهُ الثَّلَاثُ نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا إذْ لَا يَخْلُو كُلُّ مَاءٍ عَنْ نَجَاسَةٍ فَأَوْجَبَ تَنْجِيسَهَا وَحُكْمُ الْمِيَاهِ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهَا، وَالْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَتْهُ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا، حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ الْمَاءَ الْأَوَّلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْعَصْرِ، وَالْغَسْلِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَاءُ الثَّانِي يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَطْهُرُ بِالْعَصْرِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ مَاءٍ حِينَ كَانَ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ كَانَ هَكَذَا، فَكَذَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِالدَّلْوِ الْمَنْزُوحِ مِنْ الْبِئْرِ النَّجِسَةِ إذَا صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى كَذَا هَذَا، وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْغُسَالَةِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ وَالتَّطْهِيرِ مِنْ بَلِّ الطِّينِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ طَعْمُهَا أَوْ لَوْنُهَا أَوْ رِيحُهَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ غَالِبٌ فَالْتَحَقَ بِالْبَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَمَاتَتْ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامِدًا تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَا يُؤْكَلُ وَلَكِنْ يُسْتَصْبَحُ بِهِ وَيُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يُبَيِّنَ عَيْبَهُ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَبَاعَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ. (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا الْبَاقِيَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ» وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَا بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ،. (وَلَنَا) مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ السَّمْنُ ذَائِبًا؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ انْتَفِعُوا بِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهَا فِي الْجَامِدِ لَا تُجَاوِرُ إلَّا مَا حَوْلَهَا وَفِي الذَّائِبِ تُجَاوِرُ الْكُلَّ، فَصَارَ الْكُلُّ نَجِسًا، وَأَكْلُ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَمُبَاحٌ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِلْقَاءِ مَا حَوْلَهَا فِي الْجَامِدِ، وَإِرَاقَةُ الذَّائِبِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ هُوَ الْأَكْلُ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لِوُقُورِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ، فَهُوَ جَامِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ ذَائِبٌ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ الْجِلْدُ يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ، ثُمَّ إنْ كَانَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ يُغْسَلُ وَيُعْصَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَصِرُ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَالْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَالثَّانِي - فِي أَنَّهُ فِي أَيِّ حَالٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ وَالثَّالِثُ - فِي أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِر الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، غَيْرَ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالدِّرْهَمِ وَبِهِ أَخَذَ وَأَبُو يُوسُفَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَبِهِ أَخَذَ وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي
قَوْلٍ لَهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، ثُمَّ مَشَايِخُ بَلْخٍ حَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَمْ يُحَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا: إنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ الْعِرَاقِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا نَرْجُو أَنْ لَا تَثْبُتَ رِوَايَةُ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ طَهُورٌ؛ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَلَمْ يُوجَدْ التَّغَيُّرُ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى عُضْوًا طَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ نَجِسًا كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ إذَا غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ؛ فَلِانْعِدَامِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً. وَأَمَّا الْحُكْمُ؛ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَمُرُّ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَارَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ، فَقَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ؛» وَلِهَذَا جَازَ صَلَاةُ حَامِلِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، وَحَامِلُ النَّجَاسَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ طَاهِرٌ وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَإِذَا كَانَتْ أَعْضَاءُ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةً كَانَ الْمَاءُ الَّذِي لَاقَاهَا طَاهِرًا ضَرُورَةً لِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إلَّا بِانْتِقَالِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ، وَلَا نَجَاسَةَ فِي الْمَحَلِّ عَلَى مَا مَرَّ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِقَالُ فَبَقِيَ طَاهِرًا، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ لِإِثْبَاتِ الطَّهَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّا تَعَبَّدْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الطَّاهِرِ مُحَالٌ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ خَبَثٌ، وَلَا مَعْنَى يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَامَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّهُ أُقِيمَ بِهِ قُرْبَةٌ إذَا تَوَضَّأَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ عِنْدَهُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ أَنَّ الْوُضُوءَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ الْآثَامِ عَنْ الْمُتَوَضِّئِ لِلصَّلَاةِ، فَيَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى الْمَاءِ، فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ كَالْمَالِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الصَّدَقَةُ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ؛ فَلِأَنَّهُ قَامَ بِهِ مَعْنًى مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْحَدَثُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عِنْدَهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَقَدْ انْتَقَلَ الْحَدَثُ مِنْ الْبَدَنِ إلَى الْمَاءِ، ثُمَّ الْخُبْثُ وَالْحَدَثُ وَإِنْ كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْمَحَلِّ، وَالصِّفَاتُ لَا تَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ لَكِنْ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ النَّجِسَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَحَلِّ حُكْمًا وَالْأَعْيَانُ الْحَقِيقِيَّةُ قَابِلَةٌ لِلِانْتِقَالِ فَكَذَا مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا شَرْعًا، وَإِذَا قَامَ بِهَذَا الْمَاءِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِنْ الْأَحْكَامِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يُوجَدْ أَوْجُهٌ رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» حَرُمَ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْمَاءِ الْكَثِير لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَلَوْلَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ يَنْجَسُ بِالِاغْتِسَالِ بِنَجَاسَةِ الْغُسَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ مَعْنًى، لِأَنَّ إلْقَاءَ الطَّاهِرِ فِي الطَّاهِرِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَمَّا تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ فَحَرَامٌ فَكَانَ هَذَا نَهْيًا عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَذَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ بِهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بِاخْتِلَاطِ غَيْرِ الْمُطَهَّرِ بِهِ إذَا كَانَ الْغَيْرُ غَالِبًا عَلَيْهِ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَلَا. وَهَهُنَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا يُلَاقِي الْبَدَنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا؟ فَأَمَّا مُلَاقَاةُ النَّجَسِ الطَّاهِرِ فَتُوجِبُ تَنْجِيسَ الطَّاهِرِ؛ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ لِاخْتِلَاطِهِ بِالطَّاهِرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا قُلْنَا وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَهْيٌ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَ الْجُنُبِ لَا تَخْلُوَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَذَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ يَنْصَرِفُ إلَى الِاغْتِسَالِ الْمَسْنُونِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسْنُونُ مِنْهُ هُوَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الْبَدَنِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي عَلَى الْبَدَنِ اُسْتُفِيدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ
فَوَجَبَ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا - صِيَانَةً لِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَنْ الْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَة؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ وَهُوَ بِحَالٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَلَوْ بَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَمَا أُبِيحَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَأْخُذَ الْغُسَالَةَ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ وَيُمْسِكُهَا لِلشُّرْبِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُحْدِثِ خَاصَّةً وَالثَّانِي: يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ نَجِسٍ مِنْ الْبَدَنِ وَبِهِ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْبَدَنِ حَقِيقَةً فَيَتَنَجَّسُ الْبَاقِي تَقْدِيرًا؛ وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ؛ وَسُمِّيَ تَطْهِيرًا، وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ، فَدَلَّ تَسْمِيَتُهَا تَطْهِيرًا عَلَى النَّجَاسَةِ تَقْدِيرًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ، وَلَوْلَا النَّجَاسَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَجَازَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ نَجَاسَةً تَقْدِيرِيَّةً، فَإِذَا تَوَضَّأَ انْتَقَلَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ إلَى الْمَاءِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ نَجِسًا تَقْدِيرًا وَحُكْمًا، وَالنَّجَسُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا كَالْخَمْرِ وَالثَّانِي - مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُزِيلُ نَجَاسَةَ الْآثَامِ وَخُبْثِهَا فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ خُبْثِ الْخَمْرِ إذَا أَصَابَ الْمَاءَ يُنَجِّسُهُ كَذَا هَذَا، ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ خَفِيفَةً؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِيهِ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ عَنْهُ وَلِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي حُكْمِهِ وَالْحَسَنُ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ غَلِيظَةً؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ؛ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عُفِيَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ الْحُكْمِيَّةِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لَمْعَةٌ يَسِيرَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّ التَّوَضُّؤَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَذَرٌ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ لَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الطَّهَارَةِ؛ فَلِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمُخَاطِ وَالْبَلْغَمِ، وَلَوْ اخْتَلَطَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَإِنْ قَلَّ وَهَذَا فَاسِدٌ، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ كَاللَّبَنِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهُ: لَا بَأْسَ بِهِ وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْقَلِيلِ فَقَالَ: وَمَنْ يَمْلِكُ نَشْرَ الْمَاءِ؟ وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَانْتَشَرَ أَشَارَ إلَى تَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْقَلِيلِ، فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا، وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا، ثُمَّ الْكَثِيرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَتَبَيَّنَ مَوَاقِعَ الْقَطْرَةِ فِي الْإِنَاءِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَفْسِيرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ: مَا زَايَلَ الْبَدَنَ وَاسْتَقَرَّ فِي مَكَان وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى: أَنَّ الْمَاءَ إذَا زَالَ عَنْ الْبَدَنِ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَمَا دَامَ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا، وَإِذَا زَايَلَهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ أَخَذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَذَكَرَ فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ لَا يُجْزِيهِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ قَدْ مَسَحَ بِهِ مَرَّةً أَشَارَ إلَى صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَبَقِيَ عَلَى رِجْلِهِ لَمْعَةٌ فَغَسَلَهَا بِبَلَلٍ أَخَذَهُ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ: لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمَكَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قُلْنَا. (أَمَّا) سُفْيَانُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَسَائِلَ زَعَمَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ (مِنْهَا) : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ عَلَى يَدِهِ لَمْعَةٌ فَأَخَذَ الْبَلَلَ مِنْهَا فِي الْوُضُوءِ أَوْ مِنْ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فِي الْغُسْلِ وَغَسَلَ اللَّمْعَةَ يَجُوزُ. (وَمِنْهَا) : إذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ زَايَلَ الْعُضْوَ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ فِي مَكَان. (وَمِنْهَا) : إذَا مَسَحَ أَعْضَاءَهُ بِالْمِنْدِيلِ وَابْتَلَّ، حَتَّى صَارَ كَثِيرًا فَاحِشًا أَوْ تَقَاطَرَ الْمَاءُ عَلَى ثَوْبٍ مِقْدَارَ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ وَلَوْ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْمُزَايَلَةِ لَمَا جَازَتْ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِنَفْسِ الْمُلَاقَاةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ، إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا، فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ
اعْتِبَارَ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً أَوْ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ حُكْمًا، كَمَا فِي الْجَنَابَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ، فَإِذَا زَايَلَ الْعُضْوَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ بِقَضِيَّةِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى (وَأَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ: إنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَجُوزُ، أَمَّا إذَا كَانَ اسْتَعْمَلَهُ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَغْسُولَاتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْغُسْلِ إنَّمَا تَأَدَّى بِمَاءٍ جَرَى عَلَى عُضْوِهِ لَا بِالْبِلَّةِ الْبَاقِيَةِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِلَّةُ مُسْتَعْمَلَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِالْبِلَّةِ وَتَفْصِيلُ الْحَاكِم مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، وَمَا مُسِحَ بِالْمِنْدِيلِ أَوْ تَقَاطَرَ عَلَى الثَّوْبِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَكِنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ سَبَبِ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْمَاءُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ نَصًّا لَكِنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْمَاءِ وَاسْتِخْبَاثِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: إذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوُ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَاقَامَةُ الْقُرْبَةِ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمْ يُوجَدْ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ، وَكَذَا إذَا غَسَلَ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنْ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهَا، أَوْ غَسَلَ يَدَهُ مِنْ الطِّينِ وَالْوَسَخِ، وَغَسَلَتْ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنْ الْعَجِينِ أَوْ الْحِنَّاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَسَلَ يَدَهُ لِلطَّعَامِ أَوْ مِنْ الطَّعَامِ لِقَصْدِ إقَامَةِ السُّنَّةِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ السُّنَّةِ قُرْبَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ بَرَكَةٌ، وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ» وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ بِالزِّيَادَةِ ابْتِدَاءً الْوُضُوءَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ بَابِ التَّعَدِّي بِالنَّصِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَعْنَى الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ فَكَانَتْ قُرْبَةٌ. وَلَوْ أَدْخَلَ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ أَوْ مُحْدِثٌ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَذَرٌ، أَوْ شَرِبَ الْمَاءَ مِنْهُ، فَقِيَاسُ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَفْسُدَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْحَدَثَ زَالَ عَنْ يَدِهِ بِإِدْخَالِهَا فِي الْمَاءِ وَكَذَا عَنْ شَفَتِهِ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَغْتَسِلُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ» وَرُبَّمَا كَانَتْ تَتَنَازَعُ فِيهِ الْأَيْدِي وَرَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْ إنَاءٍ وَهِيَ حَائِضٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، وَكَانَ يَتَتَبَّعُ مَوَاضِعَ فَمِهَا حُبًّا لَهَا» ؛ وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إصَابَةِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَالشُّرْبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ الْإِنَاءَ لِيَغْتَرِفَ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الْعَظِيمِ، وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَّخِذَ آنِيَةً عَلَى حِدَةٍ لِلشُّرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِرَافِ بِالْيَدِ وَالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ آنِيَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْيَدِ وَالشَّفَةِ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، حَتَّى لَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِيهِ يَفْسُدُ الْمَاءُ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي الْإِنَاءِ؛ وَلَوْ أَدْخَلَهَا فِي الْبِئْرِ لَمْ يُفْسِدْهُ؛ كَذَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَجُعِلَ عَفْوًا، وَلَوْ أَدْخَلَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ الْبِئْرِ بَعْضَ جَسَدِهِ سِوَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ أَفْسَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِيهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ لَا بِنِيَّةِ الِاغْتِسَالِ، وَلَيْسَ عَلَى
بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُنْغَمِسَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ حُكْمِيَّةٌ كَالْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَنْغَمِسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ، أَوْ لِلتَّبَرُّدِ، أَوْ لِلِاغْتِسَالِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمَانِ: حُكْمُ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ، وَحُكْمُ الدَّاخِلِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا - وَانْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ لِلتَّبَرُّدِ - لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ انْغَمَسَ فِيهَا لِلِاغْتِسَالِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالرَّجُلُ طَاهِرٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ لَا فَانْغَمَسَ فِي ثَلَاثَةِ آبَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَاهِرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْمِيَاهُ الثَّلَاثَةُ نَجِسَةٌ لَكِنَّ نَجَاسَتَهَا عَلَى التَّفَاوُتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمِيَاهُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ أَوْ الِاغْتِسَالِ، وَعِنْدَهُمَا إنْ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ فَالْمِيَاهُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا، وَإِنْ كَانَ الِانْغِمَاسُ لِلِاغْتِسَالِ فَالْمَاءُ الرَّابِعُ فَصَاعِدًا مُسْتَعْمَلٌ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَقَطْ فَإِنْ أَدْخَلَهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى طَاهِرًا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِزَوَالِ الْجَنَابَةِ بِالِانْغِمَاسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ نَجِسٌ وَلَا يَخْرُجُ طَاهِرًا أَبَدًا. وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيَاهِ: فَالْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالْبَوَاقِي عَلَى حَالِهَا؛ لِانْعِدَامِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِعْمَالَ أَصْلًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمِيَاهُ كُلُّهَا عَلَى حَالِهَا، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ تَرَكَ أَصْلَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْهُ أَنَّ الْمِيَاهَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَطْهُرُ النَّجَسُ بِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ، كَمَا يَطْهُرُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِالصَّبِّ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا عَلَى الْبَدَنِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمُلَاقَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْحُكْمِيَّةُ تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَطْهُرُ النَّجَسُ عَنْ الْبَدَنِ بِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ الرَّاكِدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الثَّوْبِ قَوْلَانِ، أَمَّا الْكَلَامُ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ مُلَاقَاةَ أَوَّلِ عُضْوِ الْمُحْدِثِ الْمَاءَ يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَعْمَلًا، فَكَذَا مُلَاقَاةُ أَوَّلِ عُضْوِ الطَّاهِرِ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِذَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَا تَتَحَقَّقُ طَهَارَةُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْأَصْلِ، إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لِاغْتِرَافِ الْمَاءِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَا يَزُولُ الْحَدَثُ إلَى الْمَاءِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَهَهُنَا ضَرُورَةٌ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى إخْرَاجِ الدِّلَاءِ مِنْ الْآبَارِ فَتُرِكَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَوْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ، وَلَوْ أَزَالَ الْحَدَثَ لَتَنَجَّسَ، وَلَوْ تَنَجَّسَ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ، وَإِذَا لَمْ يَزُلْ الْحَدَثُ بَقِيَ طَاهِرًا، وَإِذَا بَقِيَ طَاهِرًا يُزِيلُ الْحَدَثَ فَيَقَعُ الدَّوْرُ فَقَطَعْنَا الدَّوْرَ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَقُلْنَا: إنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ عَنْهُ، فَبَقِيَ هُوَ بِحَالِهِ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَكَذَا بِوُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ النَّجَاسَةِ بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَالِ وَالْمُلَاقَاةِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِهَذَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، إلَّا أَنَّ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ التَّطْهِيرِ، وَالضَّرُورَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الصَّبِّ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَامْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَظْهَرُ حُكْمُهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ خُفَّهُ أَوْ جَبِيرَتَهُ فِي الْإِنَاءِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، قَالَ أَبُو يُوسُفُ: يُجْزِئُهُ فِي الْمَسْحِ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِإِصَابَةِ الْبَلَّةِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْإِصَابَةِ دُونَ الْإِسَالَةِ، فَلَمْ يَزُلْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ إلَى الْمَاءِ الْبَاقِي فِي الْإِنَاءِ، وَإِنَّمَا زَالَ إلَى الْبَلَّةِ، وَكَذَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ تَحْصُلُ بِهَا فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يَنْوِ الْمَسْحَ يُجْزِئُهُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فَاجْزَأْهُ، وَإِنْ نَوَى الْمَسْحَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ:
فصل في بيان المقدار الذي يصير به المحل نجسا
لَا يُجْزِئُهُ وَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَاقَى رَأْسُهُ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ صَيَّرَهُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمُلَاقَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَهُ فَيُجْزِئُهُ الْمَسْحُ بِهِ جُنُبٌ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ فَأَخَذَ الْمَاءَ بِفَمِهِ وَصَبَّهُ عَلَيْهِ، رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الْفَمِ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ قُرْبَةٌ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا شَرْعًا: فَالنَّجَسُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَمَكَانَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا، فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَنْجَسُ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَبَّ خَابِيَةً مِنْ الْخَمْرِ فِي الْفُرَاتِ، وَرَجُلٌ آخَرَ - أَسْفَلَ مِنْهُ - يَتَوَضَّأُ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِلِ بَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ، وَالنَّجَسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ أَوْ دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ النَّجَسُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْجَاسُ مُتَفَرِّقَةً عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْمِيزَابِ، ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَانِبٍ مِنْ السَّطْحِ أَوْ جَانِبَيْنِ مِنْهُ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ جَوَانِبَ يَنْجَسُ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَاءِ الْمَطَرِ إذَا مَرَّ بِعَذِرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَخَاضَ فِيهِ إنْسَانٌ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا مَرَّ أَكْثَرُهُ عَلَى الطَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اغْتَرَفَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لَا فَلَا؛ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا يَنْجَسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجَسُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَالْقُلَّتَانِ عِنْدَهُ خَمْسُ قِرَبٍ، كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَنًّا وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ. فَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَهُوَ تَمَامُ الْحَدِيثِ، أَوْ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ (وَاحْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا» أَيْ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ بِالْقُلَّتَيْنِ قِلَالَ هَجَرَ، كُلُّ قُلَّةٍ يَسَعُ فِيهَا قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَقَدَّرْتُهُ بِالنِّصْفِ احْتِيَاطًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ
يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ بِالْغَمْسِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى، وَكَذَا الْأَخْبَارُ مُسْتَفِيضَةٌ بِالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ دَائِمٍ وَدَائِمٍ وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ وَالِاغْتِسَالَ فِيمَا لَا يَتَنَجَّسُ لِكَثْرَتِهِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا مُحْتَمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، إذْ النَّهْيُ عَنْ تَنْجِيسِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ ضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ، وَكَذَا الْمَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَالْبَوْلُ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا أَمَرَا فِي زِنْجِيٍّ وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ بِنَزْحِ مَاءِ الْبِئْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَعُرِفَ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْجَارِي، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ يُرَدُّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ وَقَالَ: لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِوَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْدِيرِ الْمَاءِ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابُنَا فِي التَّقْدِيرِ إلَى الدَّلَائِلِ الْحِسِّيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخُلُوصِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْخُلُوصُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرْفُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ - مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْبُخَارِيُّ اعْتَبَرَ الْخُلُوصَ بِالصَّبْغِ، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ اعْتَبَرَهُ بِالتَّكْدِيرِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ اعْتَبَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ اعْتَبَرَهُ بِالْعَشَرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ فَقَالَ: إنْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَرْجُو أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ فِي عِشْرِينَ لَا أَجِدُ فِي قَلْبِي شَيْئًا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَسْجِدِهِ فَكَانَ مَسْجِدُهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقِيلَ: كَانَ مَسْجِدُهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، وَقِيلَ: مَسَحَ مَسْجِدَهُ فَوَجَدَ دَاخِلَهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَخَارِجَهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: لَا عِبْرَةَ لِلتَّقْدِيرِ فِي الْبَابِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ التَّحَرِّي، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأَكْبَرُ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ، أَلَا يُرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ بِرَدِّ الْيَقِينِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ: إنَّهُ إنْ كَانَ فِي غَالِبِ الرَّأْيِ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمِيزَابِ إذَا سَالَ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَغْسِلَ وَأَمَّا حَوْضُ الْحَمَّامِ الَّذِي يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ أَوْ تَوَضَّأَ إنْسَانٌ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ الْمِيزَابِ وَالنَّاسُ يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَلَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، ثُمَّ بُسِطَ مَاؤُهُ حَتَّى صَارَ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ هُوَ الْمَاءُ النَّجَسُ وَقِيلَ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ قَلَّ مَاؤُهُ، حَتَّى صَارَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ: إنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ هُوَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَاعْتَبَرَ حَالَةَ الْوُقُوعِ. وَلَوْ وَقَعَ فِي هَذَا الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ عَاوَدَهُ الْمَاءُ، حَتَّى امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَاءُ فِيهِ صَارَ نَجِسًا. وَلَوْ أَنَّ حَوْضَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَيَدْخُلُ فِي الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ إنْسَانٌ فِي خِلَالِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ حَوْضٌ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ، ثُمَّ نَضَبَ مَاؤُهُ وَجَفَّ أَسْفَلُهُ، حَتَّى حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَانِيًا هَلْ يَعُودُ نَجِسًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ، وَكَذَا الْمَنِيُّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَجَفَّ وَفُرِكَ، ثُمَّ أَصَابَهُ بَلَلٌ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ دِبَاغَةً حُكْمِيَّةً بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّرْتِيبِ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْبِئْرُ إذَا تَنَجَّسَتْ فَغَارَ مَاؤُهَا وَجَفَّ أَسْفَلُهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ فَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: هُوَ طَاهِرٌ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ هُوَ نَجِسٌ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَجْهُ قَوْلِ نُصَيْرٍ أَنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ مَاءٌ جَارٍ فَيَخْتَلِطُ الْغَائِرُ بِهِ، فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِ الْعَائِدِ نَجِسًا بِالشَّكِّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ مَا نَبَعَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاءٌ جَدِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمَاءُ النَّجَسُ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بِالشَّكِّ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْوَطُ، وَالْأَوَّلُ أَوْسَع، هَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ كَالْأَنْهَارِ الَّتِي فِيهَا مِيَاهٌ رَاكِدَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ طُولُ الْمَاءِ مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ فِي نَهْرِ بَلْخٍ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِي إيَّاهُ، وَبَيْنَ جَرَيَانِهِ بِنَفْسِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَوْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ تَوَضَّأَ، إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَنْجَسُ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ يَنْجَسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ أَقْرَبُ إلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَرْضِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ وَاعْتِبَارُ الطُّولِ لَا يُوجِبُ، فَلَا يَنْجَسُ بِالشَّكِّ، وَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الطُّولِ إنْ كَانَ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ فَاعْتِبَارُ الْعَرْضِ يُوجِبُ، فَيُحْكَمُ بِالنَّجَاسَةِ احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْعُمْقُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ؟ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَبَرُوا الْبَسْطَ دُونَ الْعُمْقِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ رَفَعَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ انْحَسَرَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ اتَّصَلَ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ أَسْفَلُهُ لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى عَرْضِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ، وَقِيلَ: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ شِبْرٍ، وَقِيلَ: قَدْرُ ذِرَاعٍ، ثُمَّ النَّجَاسَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ كَيْف يُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ فَنَقُولُ: النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَدْرَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالنَّجَاسَةِ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَشَكَكْنَا فِيمَا وَرَاءَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ اسْتَنْجَى فِي مَوْضِعٍ مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ: لَا يُجْزِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي. وَلَوْ وَقَعَتْ الْجِيفَةُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ - عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إنْ كَانَ بَيْنَ الْجِيفَةِ وَبَيْنَ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْحَوْضِ مِقْدَارَ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ بِأَنْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ اغْتَسَلَ جُنُبٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْئِيَّةِ، حَتَّى لَا يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْئِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ النَّجَاسَةَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، فَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الْوُضُوءِ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَصَلُوا بَيْنَهُمَا، فَفِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ، كَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَرْئِيَّةِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ لِكَوْنِهِ مَائِعًا سَيَّالًا بِطَبْعِهِ، فَلَمْ نَسْتَيْقِنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ - بِخِلَافِ الْمَرْئِيَّةِ - وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ غَيْرَ جَامِدٍ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا وَثُقِبَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْجَمْدِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ فَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ وَاسِعًا، بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ
لَا: خَيْرَ فِيهِ وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ: أَلَيْسَ الْمَاءُ يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ؛ وَهَذَا أَوْسَعُ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَقَالُوا: إذَا حُرِّكَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ تَحْرِيكًا بَلِيغًا يُعْلَمُ عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ رَاكِدًا ذَهَبَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا مَاءٌ جَدِيدٌ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَالْمَاءُ الْقَلِيلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَانِي أَوْ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْحَوْضِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَانِي فَهُوَ نَجِسٌ كَيْفَمَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً أَوْ مَائِعَةً؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْأَوَانِي لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا عَنْ النَّجَاسَاتِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتْ بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ فِي الْمَحْلَبِ عِنْدَ الْحَلْبِ، ثُمَّ رُمِيَتْ مِنْ سَاعَتِهَا لَمْ يَنْجَسْ اللَّبَنُ، كَذَا رَوَى عَنْهُ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ، لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبِئْرِ فَالْوَاقِعُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ حَيًّا، وَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ مَيِّتًا، فَإِنْ أُخْرِجَ حَيًّا فَإِنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ يُنَجِّسُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَفِي الْكَلْبِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِي كَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ، فَمَنْ جَعَلَهُ نَجِسَ الْعَيْنِ اسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفِ أَنَّ الْكَلْبَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَانْتَفَضَ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ أَيْضًا أَنَّ كَلْبًا لَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ فَانْتَفَضَ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ إنْ كَانَ الْمَطَرُ الَّذِي أَصَابَهُ وَصَلَ إلَى جِلْدِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ قَالَ: وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، فَدَلَّ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُضْمَنُ مُتْلَفُهُ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَلَا مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْخِنْزِيرِ، دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ وَقَعَا فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، ثُمَّ خَرَجَا أَنَّهُ يُعْجَنُ بِذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ صَلَّى وَفِي كُمِّهِ جَرْوُ كَلْبٍ: إنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَيَّدَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ مَسْدُودَ الْفَمِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ آدَمِيًّا لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا حُكْمِيَّةٌ - وَقَدْ اسْتَنْجَى - لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِزَوَالِ الْحَدَثِ أَوْ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْجِيًا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِالْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلِ أَكْثَرُ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَبَّ اللَّبَنَ فِي الْبِئْرِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بَالَتْ شَاةٌ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسًا، يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا يُنْزَحُ كُلُّهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَارَ هَذَا الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا لَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ طَهُورًا كَمَا كَانَ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَسَنِ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا بِطَهَارَتِهِ بِأَنْ اغْتَسَلَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُنْزَحُ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنْ عُلِمَ بِيَقِينٍ أَنَّ عَلَى بَدَنِهَا نَجَاسَةً أَوْ عَلَى مَخْرَجِهَا نَجَاسَةً تَنَجَّسَ الْمَاءُ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِهِ سَوَاءٌ وَصَلَ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِبْرَةُ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ إنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لَا يَنْجَسُ وَلَا يُنْزَحُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ وَصَلَ لُعَابُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ يَنْجَسُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ لَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرَ هُوَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ فَإِنْ كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَالْمَاءُ طَاهِرٌ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَالْمَاءُ نَجِسٌ وَيُنْزَحُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْزَحَ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالْمَاءُ
كَذَلِكَ وَيُنْزَحُ كُلّه كَذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْفَأْرَةِ نَزْحُ عِشْرِينَ، وَفِي الْهِرَّةِ نَزْحُ أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ أَعْظَمَ جُثَّةً كَانَ أَوْسَعَ فَمًا وَأَكْثَرَ لُعَابًا وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ: إذَا وَقَعَتْ وَزَغَةٌ فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ حَيَّةً يُسْتَحَبُّ نَزْحُ أَرْبَعِ دِلَاءٍ إلَى خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُوَ عَنْ الْبَوْلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً. وَقَدْ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ مِنْ الْبِئْرِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفِخًا أَوْ مُتَفَسِّخًا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِخًا وَلَا مُتَفَسِّخًا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ، وَفِي الْآدَمِيِّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَعَلَهُ خَمْسَ مَرَاتِبَ: فِي الْحَمَامَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا عِشْرُونَ، وَفِي الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ ثَلَاثُونَ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ، وَفِي الْآدَمِيّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ. وَقَوْلُهُ: فِي الْكِتَابِ يُنْزَحُ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ، وَفِي الْهِرَّةِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّخْيِيرَ بَلْ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وُجُوبًا وَثَلَاثِينَ اسْتِحْبَابًا، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَفِي الصَّغِيرِ مِنْهَا يُنْزَحُ الْأَقَلُّ وَفِي الْكَبِيرِ يُنْزَحُ الْأَكْثَرُ، وَالْأَصْلُ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ يُطَمُّ وَيُحْفَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْقَى الطِّينُ وَالْحِجَارَةُ نَجِسًا، وَلَا يُمْكِنُ كَبُّهُ لِيُغْسَلَ، وَالثَّانِي: مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ، فَلَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَحَوْضِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ يُصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُغْتَرَفُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ النَّجِسَةِ فِيهِ، ثُمَّ قُلْنَا: وَمَا عَلَيْنَا لَوْ أَمَرْنَا بِنَزْحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ؟ وَلَا نُخَالِفُ السَّلَفَ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَضَرْبٍ مِنْ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ ثَلَاثُونَ دَلْوًا» وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ جَمِيعِ مَاءِ زَمْزَمَ حِين مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا مَسْفُوحًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا. وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَالْمَاءُ يَتَنَجَّسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا جَاوَرَ النَّجَسَ نَجِسٌ بِالشَّرْعِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ يُقَوَّرُ مَا حَوْلَهَا وَيُلْقَى، وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي» فَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَجَاسَةِ جَارِ النَّجَسِ وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا قَدَّرَهُ أَصْحَابُنَا، وَهُوَ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ؛ لِصِغَرِ جُثَّتِهَا، فَحُكِمَ بِنَجَاسَةِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُجَاوِرْ الْفَأْرَةَ، بَلْ جَاوَرَ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِتَنْجِيسِ جَارِ النَّجَسِ، لَا بِتَنْجِيسِ جَارِ جَارِ النَّجِسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِطَهَارَةِ مَا جَاوَرَ السَّمْنَ الَّذِي جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، وَحَكَمَ بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَارَ جَارِ النَّجَسِ لَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ؛ لَحُكِمَ أَيْضًا بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ جَارَ جَارِ النَّجَسِ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ قَطْرَةً مِنْ بَوْلٍ أَوْ فَأْرَةٍ لَوْ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ عَظِيمٍ أَنْ يَتَنَجَّسَ جَمِيعُ مَائِهِ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَفِي الدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ الْمُجَاوَرَةُ أَكْثَرُ؛ لِزِيَادَةِ ضَخَامَةٍ فِي جُثَّتِهَا فَقُدِّرَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْآدَمِيُّ وَمَا كَانَتْ جُثَّتُهُ مِثْلَ جُثَّتِهِ كَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُجَاوِرُ جَمِيعَ الْمَاءِ فِي الْعَادَةِ؛ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ فَيُوجِبُ تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا تَفَسَّخَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوَاقِعَاتِ أَوْ انْتَفَخَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرُجُ الْبِلَّةُ مِنْهَا؛ لِرَخَاوَةٍ فِيهَا فَتُجَاوِرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَقِيلَ: ذَلِكَ لَا يُجَاوِرُ إلَّا قَدْرَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِصَلَابَةٍ فِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا وَقَعَ فِي
الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا، هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا: يُنْزَحُ عِشْرُونَ إلَى الْأَرْبَعِ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ إلَى التِّسْعِ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَتَيْنِ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَفِي الثَّلَاثِ أَرْبَعُونَ، وَإِذَا كَانَتْ الْفَأْرَتَانِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ. هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْبِئْرِ حَيَوَانًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَجْسِدًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى جَمِيعِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَجْسِدًا، فَإِنْ كَانَ رَخْوًا مُتَخَلْخِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْعَذِرَةِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِمَا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لِرَخَاوَتِهِ يَتَفَتَّتُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهُ، وَإِنْ كَانَ صُلْبًا نَحْوَ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَنْجَسَ الْمَاءُ قَلَّ الْوَاقِعُ فِيهِ أَوْ كَثُرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يَنْجَسُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَنْجَسُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ رَطْبًا يَنْجَسُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَإِنْ كَانَ مُنْكَسِرًا يَنْجَسُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَسِرًا لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا، وَتَكَلَّمُوا فِي الْكَثِيرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُغَطِّيَ جَمِيعَ وَجْهِ الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ وَجْهِ الْمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّلَاثُ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ وَقَعَتَا فِي الْمَاءِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرٌ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ سَلَمَةَ: إنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ كُلُّ دَلْوٍ عَنْ بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَثِيرُ مَا اسْتَكْثَرَهُ النَّاظِرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ يَابِسًا لَا يَنْجَسُ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مُنْكَسِرًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يَمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الرَّوْثِ الْيَابِسِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَنْجَسُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمَشَايِخِ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْبَعْرِ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ طَرِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنَّ لِلْيَابِسِ صَلَابَةً، فَلَا يَخْتَلِطُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّطْبَ يَنْجَسُ بِاخْتِلَاطِ رُطُوبَتِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ وَالْحَاكِمِ فِي الْإِشَارَاتِ، وَكَذَا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الرَّوْثُ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ رَخْوٌ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ، لِتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ لَا يَنْجَسُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَثُرَتْ تَقَعُ الْمُمَاسَّةُ بَيْنَهُمَا؛ فَيَصْطَكُّ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهَا فَتَنْجَسُ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَا حَاجِزَ لَهَا عَلَى رُءُوسِهَا، وَيَأْتِيهَا الْأَنْعَامُ فَتُسْقَى فَتَبْعَرُ، فَإِذَا يَبِسَتْ الْأَبْعَارُ عَمِلَتْ فِيهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْبِئْرِ، فَلَوْ حُكِمَ بِفَسَادِ الْمِيَاهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي ، وَمَا ضَاقَ أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ، فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: الْكَثِيرُ مِنْهُ يُفْسِدُ الْمِيَاهَ؟ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ فِي الْكَثِيرِ، وَكَذَا الرَّطْبُ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ تَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ لِثِقَلِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ سَوَاءٌ؛ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ فَلَا يَفْسُدُ إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الْمُنْكَسِرِ أَشَدُّ، وَالرَّوْثُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَعْرِ، هَذَا فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ، (وَأَمَّا) الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا الْمَشَايِخُ، فَمَنْ اعْتَمَدَ مَعْنَى الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةَ لَا يُفَرِّقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَمَنْ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ فَيَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَلَوْ انْفَصَلَتْ بَيْضَةٌ مِنْ دَجَاجَةٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: يُنْتَفَعُ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهَا قَذَرًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَتْ رَطْبَةً أَفْسَدَتْ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي الْمَرَقَةِ لَا تُفْسِدُهُمَا، وَهِيَ حَلَالٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ، سَقَطَتْ السَّخْلَةُ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ مُبْتَلَّةٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ، حَتَّى لَوْ حَمَلَهَا الرَّاعِي فَأَصَابَ بَلَلُهَا الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْسَدَتْ الْمَاءَ، وَإِذَا يَبِسَتْ فَقَدْ طَهُرَتْ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُوَافِقُ قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا فِي قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْبَيْضَةُ طَاهِرَةٌ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً، وَكَذَا السَّخْلَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَانِهَا وَمَعْدِنِهَا كَمَا قَالَ فِي
الْإِنْفَحَةِ إذَا خَرَجَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، جَامِدَةً كَانَتْ أَوْ مَائِعَةً، وَعِنْدَهُمَا، إنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَنَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَلَوْ وَقَعَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ عَظْمُ الْخِنْزِيرِ أَفْسَدَهُ كَيْفَمَا كَانَ. وَأَمَّا عَظْمُ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ أَوْ دَسَمٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَشِيعُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُفْسِدْ؛ لِأَنَّ الْعَظْمَ طَاهِرٌ بِئْرٌ وَجَبَ مِنْهَا نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا، فَنُزِحَ الدَّلْوُ الْأَوَّلُ وَصُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ، يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْبِئْرَ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى حِينَ كَانَ الدَّلْوُ الْمَصْبُوبُ فِيهَا، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الثَّانِي يُنْزَحُ تِسْعَةَ عَشْرَ دَلْوًا، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْعَاشِرُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - يُنْزَحُ عَشَرَةُ دِلَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَحَدَ عَشْرَ دَلْوًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأُولَى سِوَى الْمَصْبُوبِ، وَمِنْ الثَّانِيَةِ مَعَ الْمَصْبُوبِ، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ يَنْزَحُ دَلْوًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ، وَلَوْ أُخْرِجَتْ الْفَأْرَةُ وَأُلْقِيَتْ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ، وَصُبَّ فِيهَا أَيْضًا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ مَاءِ الْأُولَى تُطْرَحُ الْفَأْرَةُ وَيُنْزَعُ عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ، فَكَذَا الثَّانِيَةُ. بِئْرَانِ وَجَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ، فَنُزِحَ عِشْرُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى، يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَلَوْ وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى، نَزْحُ أَرْبَعِينَ، فَنُزِحَ مَا وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى، يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا وَجَبَ مِنْ النَّزَحِ مِنْهَا، وَإِلَى مَا صُبَّ فِيهَا، فَإِنْ كَانَا سَوَاءً تَدَاخَلَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ دَخَلَ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ، وَعَلَى هَذَا ثَلَاثَةُ آبَارٍ وَجَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ نَزْحُ عِشْرِينَ، فَنُزِحَ الْوَاجِبُ مِنْ الْبِئْرَيْنِ وَصُبَّ فِي الثَّالِثَةِ، يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ، فَلَوْ وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى نَزْحُ أَرْبَعِينَ فَصُبَّ الْوَاجِبَانِ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ؛ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ، وَلَوْ نُزِحَ دَلْوٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَصُبَّ فِي الْعِشْرِينَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ نُزِحَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ الْوَاجِب وَالْمَصْبُوبُ جَمِيعًا فَقِيلَ لَهُ: إنَّ مُحَمَّدًا رَوَى عَنْكَ الْأَكْثَرَ فَأَنْكَرَ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ وَمَاتَتْ فِيهَا يُهْرَاقُ كُلُّهُ، وَلَوْ صُبَّ مَاؤُهُ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ الْمَصْبُوبُ وَعِشْرُونَ دَلْوًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى مَاءِ الْجُبِّ فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ أَكْثَرَ نُزِحَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ نُزِحَ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةُ الْفَأْرَةِ. فَأْرَةٌ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ، فَجَاءُوا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ يَسَعُ عِشْرِينَ دَلْوًا بِدَلْوِهِمْ، فَاسْتَقَوْا مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُمْ وَطَهُرَتْ الْبِئْرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ قَدْرُ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ ذَلِكَ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ بِعِشْرِينَ دَلْوًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: لَا يَطْهُرُ إلَّا بِنَزْحِ عِشْرِينَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَكْرَارِ النَّزْحِ يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، وَلَوْ صُبَّ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالطَّاهِرُ إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّهُورِ لَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ، إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ طَهَارَتَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَاد بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ، فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ احْتِيَاطًا، وَلَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، أَوْ انْفَصَلَ وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، أَوْ انْفَصَلَ وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ. فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنْ الطَّاهِرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ طَهُرَ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ قَدْ تَمَيَّزَ مِنْ الطَّاهِرِ، وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ قَوْلَهُ: مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَسَ انْفَصَلَ مِنْ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنْ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، إذْ لَوْ أَعْطَى لِلْقَطَرَاتِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَمْ يَطْهُرْ بِئْرٌ أَبَدًا، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْآبَارِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَاتِ فِيهَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ إلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجَسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إلَّا بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ وَلَمْ
يُوجَدْ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُنْفَصِلًا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ الْقَطَرَاتِ تَقْطُرُ فِي الْبِئْرِ، فَإِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَانَ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَتَنَجَّسَ الْبِئْرُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ قَلِيلٌ، وَالنَّجَاسَةُ - وَإِنْ قَلَّتْ - مَتَى لَاقَتْ مَاءً قَلِيلًا تُنَجِّسُهُ، فَكَانَ هَذَا تَطْهِيرًا لِلْبِئْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنْجِيسًا لَهُ ثَانِيًا، وَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَنْجِيسِ الْبِئْرِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا. لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ، وَصَلَّى أَيَّامًا، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا فَأْرَةً، فَإِنْ عَلِمَ وَقْتَ وُقُوعِهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعِيدَ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَتْ مُنْتَفِخَةً أَوْ مُتَفَسِّخَةً أَعَادَ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْتَفِخَةٍ وَلَا مُتَفَسِّخَةٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ فِي ثَوْبِهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ وَقْتَ إصَابَتِهَا لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ، كَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَرِيَّةً يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً يُعِيدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ دَمًا لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَنِيًّا يُعِيدُ مِنْ آخِرِ مَا احْتَلَمَ؛ لِأَنَّ دَمَ غَيْرِهِ قَدْ يُصِيبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِصَابَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْ زَمَانَ وُجُودِهِ، فَأَمَّا مَنِيُّ غَيْرِهِ فَلَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنِيُّهُ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِ خُرُوجِهِ، حَتَّى أَنَّ الثَّوْبَ لَوْ كَانَ مِمَّا يَلْبِسُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ يَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الدَّمِ وَالْمَنِيِّ، وَمَشَايِخُنَا قَالُوا فِي الْبَوْلِ: يُعْتَبَرُ مِنْ آخَرِ مَا بَالَ، وَفِي الدَّمِ مِنْ آخِرِ مَا رَعَفَ وَفِي الْمَنِيّ مِنْ آخِرِ مَا احْتَلَمَ أَوْ جَامَعَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى، وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ مَيِّتَةً بِأَنْ مَاتَتْ فِي مَكَان آخَرَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا بَعْضُ الطُّيُورِ فِي الْبِئْرِ، عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَوْلِي مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَى أَنْ كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا فِي بُسْتَانِي فَرَأَيْتُ حِدَأَةً فِي مِنْقَارِهَا جِيفَةٌ فَطَرَحَتْهَا فِي بِئْرٍ، فَرَجَعْتُ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّكُّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى، فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ إصَابَتِهَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ، كَذَا هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وُقُوعَ الْفَأْرَةِ فِي الْبِئْرِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَالْمَوْتُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ صَالِحٍ يُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَإِنَّهُ يُحَالُ بِهِ إلَى الْجَرْحِ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَإِذَا حِيلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ فَأَدْنَى مَا يَتَفَسَّخُ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي عَلَى قَبْرِ مَيِّتٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَوَهَّمَ الْوُقُوعَ بَعْدَ الْمَوْتِ إحَالَةً بِالْمَوْتِ إلَى سَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ، وَتَعْطِيلٌ لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْوَهْمِ، وَالْتَحَقَ الْمَوْتُ فِي الْمَاءِ بِالْمُتَحَقِّقِ، إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ الْمُعَايَنَةِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ مَيِّتًا، فَحِينَئِذٍ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ حَاصِلٍ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَفِخَةً، فَلِأَنَّا إذَا أَحَلْنَا بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ زَمَانَ الْمَوْتِ سَابِقٌ عَلَى زَمَانِ الْوُجُودِ، خُصُوصًا فِي الْآبَارِ الْمُظْلِمَةِ الْعَمِيقَةِ الَّتِي لَا يُعَايَنُ مَا فِيهَا، وَلِذَا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَخْرُجُ بِأَوَّلِ دَلْوٍ، فَقُدِّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ، (وَالْفَرْقُ) بَيْنَ الْبِئْرِ وَالثَّوْبِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَاكِمِ أَنَّ الثَّوْبَ شَيْءٌ ظَاهِرٌ، فَلَوْ كَانَ مَا أَصَابَهُ سَابِقًا عَلَى زَمَانِ الْوُجُودِ لَعُلِمَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانَ، فَكَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْإِصَابَةِ - بِخِلَافِ الْبِئْرِ عَلَى مَا مَرَّ - وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عَجَنَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ خُبْزُهُ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُؤْكَلُ، وَإِذَا لَمْ يُؤْكَلْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ مَشَايِخُنَا: يُطْعَمُ لِلْكِلَابِ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ بِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِهِ - وَالنَّجَاسَةُ مَعْلُومَةٌ - لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَكْلِ، كَالدُّهْنِ النَّجَسِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ اسْتِصْبَاحًا إذَا كَانَ الطَّاهِرُ غَالِبًا فَكَذَا هَذَا وَبِئْرُ الْمَاءِ إذَا كَانَتْ بِقُرْبٍ مِنْ الْبَالُوعَةِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَقَدَّرَ أَبُو حَفْصٍ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمَا بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ بِخَمْسَةٍ، وَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِتَفَاوُتِ الْأَرَاضِي فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ: لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَلَكِنْ يُوجَدَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخُلُوصِ، وَعَدَمِ الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِظُهُورِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْآثَارِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ الْحَيَوَانُ إذَا مَاتَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ لَهُ
دَمٌ سَائِلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِّيًّا أَوْ مَائِيًّا، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، كَالذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَنَحْوِهَا لَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُنَجِّسُ مَا يَمُوتُ فِيهِ مِنْ الْمَائِعِ، سَوَاءٌ كَانَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ، كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَرِّيًّا أَوْ مَائِيًّا كَالْعَقْرَبِ الْمَائِيِّ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّمَكُ طَافِيًا أَوْ غَيْرَ طَافٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْمَائِعِ كَدُودِ الْخَلِّ، أَوْ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لَا يَنْجَسُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ قَوْلَانِ، (وَيَحْتَجُّ) بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ بِالْحَدِيثِ، وَالذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ بِالضَّرُورَةِ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِعَيْنِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَلَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَلَكِنْ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَإِنْ كَانَ بَرِّيًّا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَيُنَجِّسُ الْمَائِعَ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ مَاتَ فِي الْمَائِعِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الدَّمَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ السَّائِلَ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ، إلَّا الْآدَمِيَّ إذَا كَانَ مَغْسُولًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَائِيًّا كَالضُّفْدَعِ الْمَائِيِّ وَالسَّرَطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ حَيَّةً مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ مَاتَتْ فِي الْمَاءِ، إنْ كَانَتْ بِحَالٍ لَوْ جُرِحَتْ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا الدَّمُ لَا تُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ جُرِحَتْ لَسَالَ مِنْهَا الدَّمُ تُوجِبُ التَّنْجِيسَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا عَلَّلَ بِهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ - وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخٍ - فَهِمُوا مِنْ تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الْمِيَاهِ عَنْ مَوْتِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَعْدِنَهَا الْمَاءُ، فَلَوْ أَوْجَبَ مَوْتُهَا فِيهَا التَّنْجِيسَ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ، وَبَعْضُهُمْ - وَهُمْ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ - فَهِمُوا مِنْ تَعْلِيلِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا يَكُونُ لَهَا دَمٌ، إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لِمُخَالَفَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ الدَّمِ، فَلَمْ تَتَنَجَّسْ فِي نَفْسِهَا؛ لِعَدَمِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، فَلَا تُوجِبُ تَنْجِيسَ مَا جَاوَرَهَا ضَرُورَةً، وَمَا يُرَى فِي بَعْضِهَا مِنْ صُورَةِ الدَّمِ فَلَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّمَكَ يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ مَعَ أَنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلِذَا، إذَا شَمَسَ دَمُهُ يَبْيَضُّ، وَمِنْ طَبْعِ الدَّمِ أَنَّهُ إذَا شَمَسَ اسْوَدَّ، وَإِنْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الْأُولَى يُوجِبُ التَّنْجِيسَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صِيَانَةُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ عَنْ مَوْتِهَا فِيهَا، وَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ لِانْعِدَامِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ، وَأَبَا مُعَاذٍ عَنْ الضُّفْدَعِ يَمُوتُ فِي الْعَصِيرِ فَقَالَا: يُصَبُّ وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ فَقَالَا: لَا يُصَبُّ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَفْسُدُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ لَا يُفْسِدُ غَيْرَ الْمَاءِ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامُ عَنْهُمْ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ الْمُتَفَسِّخِ وَغَيْرِهِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ شُرْبُ الْمَائِعِ الَّذِي تَفَسَّخَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، ثُمَّ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَائِيِّ وَالْبَرِّيِّ أَنَّ الْمَائِيَّ: هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، وَالْبَرِّيَّ: هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِيهِمَا جَمِيعًا كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ؛ لِأَنَّ لَهُ دَمًا سَائِلًا وَالشَّرْعُ لَمْ يُسْقِطْ اعْتِبَارَهُ، حَتَّى لَا يُبَاحَ أَكْلُهُ بِدُونِ الذَّكَاةِ بِخِلَافِ السَّمَكِ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَفْسُدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَائِعِ. فَأَمَّا إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ أَوْ مَكَانَ الصَّلَاةِ، أَمَّا حُكْمُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ غَلِيظَةً، أَوْ خَفِيفَةً قَلِيلَةً، أَوْ كَثِيرَةً، أَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَفِيفَةً أَوْ غَلِيظَةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَمْنَعَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ - وَهِيَ الْحَدَثُ - شَرْطٌ، ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِم بِالْقَلِيلِ مِنْ الْحَدَثِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لُمْعَةٌ، فَكَذَا بِالْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ: إذَا كَانَ مِثْلَ ظُفْرِي هَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنَّ
الذُّبَابَ يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَةِ، ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى ثِيَابِ الْمُصَلِّي وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَجْنِحَتِهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْبَلْوَى فِي الْحَدَثِ مُنْعَدِمَةٌ؛ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِدُونِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ، حَتَّى لَوْ جَلَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ؛ وَلِهَذَا قَدَّرْنَا بِالدِّرْهَمِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ مَوْضِعِ خُرُوجِ الْحَدَثِ، كَذَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إنَّهُمْ اسْتَقْبَحُوا ذِكْرَ الْمَقَاعِدِ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَكَنَّوْا عَنْهُ بِالدِّرْهَمِ تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ وَأَخْذًا بِصَالِحِ الْأَدَبِ وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْكَثِيرَةُ فَتَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إذَا بَلَغَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَمْنَعُ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَدَّ مِقْدَارَ ظُفُرٍ مِنْ النَّجَاسَةِ قَلِيلًا، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَظُفْرُهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا فَعُلِمَ أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عَفْوٌ، وَذَلِكَ يَبْلُغُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمَبْطُونِ، وَلِأَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْسَعُ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَرْضِ وَالْمِسَاحَةِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنِ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ: الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ: مَا يَكُونُ عَرْضَ الْكَفِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ ظُفْرَهُ كَانَ كَعَرْضِ كَفِّ أَحَدِنَا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ الْمِثْقَالَ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْوَزْنِ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَر الْهِنْدُوَانِيُّ: لَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا فَنُوَفِّقُ وَنَقُولُ: أَرَادَ بِذِكْرِ الْعَرْضِ تَقْدِيرَ الْمَائِعِ، كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ تَقْدِيرُ الْمُسْتَجْسِدِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَزْنًا تُمْنَعُ؛ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَأَمَّا حَدُّ الْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ فَهُوَ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ فَكَرِهَ أَنْ يَحِدَّ لَهُ حَدًّا، وَقَالَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ مَا يَسْتَفْحِشُهُ النَّاسُ وَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَرُوِيَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الثَّوْبِ، وَرُوِيَ نِصْفُ الثَّوْبِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ نِصْفُ كُلِّ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ نِصْفُ طَرَفٍ مِنْهُ، أَمَّا التَّقْدِيرُ بِأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ؛ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ لَا يَكُونُ الشَّيْءُ قَلِيلًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ كَثِيرٌ، وَكَذَا لَا يَكُونُ كَثِيرًا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ قَلِيلٌ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِكَثِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابِلَتِهِ قَلِيلٌ؛ فَكَانَ الْكَثِيرُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ، بِالنِّصْفِ فَلِأَنَّ الْعَفْوَ هُوَ الْقَلِيلُ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، إذْ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالشِّبْرِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الضَّرُورَةِ تَقَعُ لِبَاطِنِ الْخِفَافِ. وَبَاطِنُ الْخُفَّيْنِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ وَبَاطِنِهِمَا، وَذَلِكَ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: الرُّبُعَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّرْهَمَ جُعِلَ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ شَرْعًا مَعَ انْعِدَامِ مَا ذَكَرَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ بِالدِّرْهَمِ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ؛ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَقُدِّرَ بِمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الرُّبْعُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِ الرُّبْعِ قِيلَ: رُبْعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدَّرَاهُ بِرُبْعِ الثَّوْبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْكُلِّ وَقِيلَ: رُبْعُ كُلِّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ مِنْ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ وَالذَّيْلِ، وَالْكُمِّ وَالدِّخْرِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا قَبْلَ الْخِيَاطَةِ كَانَ ثَوْبًا عَلَى حِدَةٍ، فَكَذَا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا وَرَدَ نَصٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى طَهَارَتِهِ، مُعَارِضًا لَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَالْخَفِيفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ: مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَالْخَفِيفَةُ: مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ، (إذَا) عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ
فَأُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَقَالَ: إنَّهَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ - أَيْ نَجِسٌ» - وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ مُعَارِضٌ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً. وَعَلَى قَوْلِهِمَا نَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، (أَمَّا) عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِ نَصٍّ مُعَارِضٍ لِنَصِّ النَّجَاسَةِ، (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَلِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِتَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، وَهُمَا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ مَعَ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ فِي الْبَوْلِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، (وَأَمَّا) الْعَذِرَاتُ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، فَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، هَذَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْأَرْوَاثِ عَلَى طَرِيقَةِ الِابْتِدَاءِ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْأَرْوَاثِ ضَرُورَةً، وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا فِي الطُّرُقَاتِ، فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ عَنْهَا - وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ - بِخِلَافِ خُرْءِ الدَّجَاجِ وَالْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلَّمَا يَكُونُ فِي الطُّرُقِ، فَلَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِإِصَابَتِهِ، وَبِخِلَافِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ وَيَجِفُّ بِهَا فَلَا تَكْثُرُ إصَابَتُهُ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّوْثِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنْ الْأَرْوَاثِ، وَلِلنَّاسِ فِيهَا بَلْوَى عَظِيمَةٌ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّ طِينَ بُخَارَى إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا؛ لِبَلْوَى النَّاسِ فِيهِ لِكَثْرَةِ الْعَذِرَاتِ فِي الطُّرُقِ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] جَمَعَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ لِكَوْنِهِمَا نَجِسَيْنِ، ثُمَّ بَيْنَ الْأُعْجُوبَةِ لِلْخَلْقِ فِي إخْرَاجِ مَا هُوَ نِهَايَةٌ فِي الطَّهَارَةِ - وَهُوَ اللَّبَنُ - مِنْ بَيْنِ شَيْئَيْنِ نَجِسَيْنِ، مَعَ كَوْنِ الْكُلِّ مَائِعًا فِي نَفْسِهِ؛ لِيُعْرَفَ بِهِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ، وَالْحَكِيمُ إنَّمَا يَذْكُرُ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّجَاسَةِ؛ لِيَكُونَ إخْرَاجُهُ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الطَّهَارَةِ، مِنْ بَيْنِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّجَاسَةِ نِهَايَةٌ فِي الْأُعْجُوبَةِ، وَآيَةٌ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ فِي الطُّرُقَاتِ فَالْعُيُونُ تُدْرِكُهَا فَيُمْكِنُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ، كَمَا فِي بَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ تُنَشِّفُ الْأَبْوَالَ فَالْهَوَاءُ يُجَفِّفُ الْأَرْوَاثَ، فَلَا تَلْتَزِقُ بِالْمَكَاعِبِ وَالْخِفَافِ، عَلَى أَنَّا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الضَّرُورَةِ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهَا - وَهُوَ الدِّرْهَمُ فَمَا دُونَهُ - فَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّرْقِيَةِ بِالتَّقْدِيرِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ - وَهِيَ كَثِيرَةٌ - فَجَفَّتْ، وَذَهَبَ أَثَرُهَا، وَخَفِيَ مَكَانُهَا؛ غُسِلَ جَمِيعُ الثَّوْبِ وَكَذَا لَوْ أَصَابَتْ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ؛ غَسَلَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَا إذَا رَاثَتْ الْبَقَرَةُ أَوْ بَالَتْ فِي الْكَدِيسِ وَلَا يُدْرَى مَكَانَهُ؛ غَسَلَ الْكُلَّ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: إذَا غَسَلَ مَوْضِعًا مِنْ الثَّوْبِ - كَالدِّخْرِيصِ وَنَحْوِهِ - وَأَحَدِ الْكُمَّيْنِ وَبَعْضًا مِنْ الْكَدِيسِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ طَاهِرًا فَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَرْفَعُ الْيَقِينَ، وَكَذَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَشَكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، إلَّا الْإِزَارُ وَالسَّرَاوِيلُ فَإِنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَتَجُوزُ، (أَمَّا) الْجَوَازُ؛ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثِّيَابِ هُوَ الطَّهَارَةَ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ جَارٍ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ الْمَغْنُومَةِ مِنْ الْكَفَرَةِ قَبْلَ الْغَسْلِ. وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فِي الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ فَلِقُرْبِهِمَا مِنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ - وَعَسَى لَا يَسْتَنْزِهُونَ مِنْ الْبَوْلِ - فَصَارَ شَبِيهَ يَدِ الْمُسْتَيْقِظِ وَمِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي الْكَرَاهَةِ خِلَافًا، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الشَّرَابِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ فَقَالَ: إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْهَا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا، ثُمَّ اشْرَبُوا فِيهَا» وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ، وَأَوَانِيهِمْ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ دُسُومَةٍ مِنْهَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ثِيَابِ الْفَسَقَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ إصَابَةَ الْخَمْرِ ثِيَابَهُمْ فِي حَالِ الشُّرْبِ. وَقَالُوا فِي الدِّيبَاجِ الَّذِي يَنْسِجُهُ أَهْلُ فَارِسٍ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فِيهِ الْبَوْلَ عِنْدَ النَّسْجِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي بِرِيقِهِ، ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ يُفْسِدُهُ فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ
الصَّلَاةُ مَعَهُ. (وَأَمَّا) حُكْمُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِسَاطِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهِ بِقُرْبٍ مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، وَالنَّجَاسَةُ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ وُجِدَ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً تَجُوزُ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الثَّوْبِ، أَوْ الْبَدَنِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ. (وَلَنَا) أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلِهَذَا لَوْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ بِدُونِ الْوَضْعِ يُجْزِئُهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ أَصْلًا، وَلَوْ تَرَكَ الْوَضْعَ جَازَتْ صَلَاتُهُ، فَهَهُنَا أَوْلَى، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْقِيَامِ: إنَّ ذَلِكَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَابِسَ الثَّوْبِ صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ وَتَمْشِي بِمَشْيِهِ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لِلثَّوْبِ، أَمَّا هَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ، فَإِنْ قَامَ عَلَيْهَا وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ افْتَتَحَهَا مَعَ الثَّوْبِ النَّجَسِ، أَوْ الْبَدَنِ النَّجِسِ، وَإِنْ قَامَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ. وَقَامَ عَلَيْهَا أَوْ قَعَدَ، فَإِنْ مَكَثَ قَلِيلًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ الصَّلَاةَ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَ قَلِيلًا يَكُونُ عَفْوًا وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ حَيْثُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَطَالَ الْوَضْعَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا بَلْ مِنْ تَوَابِعِهَا، فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ تَبَعًا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ؛ لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ. وَقَدْرُ الْجَبْهَةِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ أَرْنَبَةِ الْأَنْفِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَإِنْ كَانَ يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ الْأَرْنَبَةِ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ مَعَ الْأَرْنَبَةِ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، كَمَا إذَا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ زِيَادَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَمِقْدَارُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: إذَا سَجَدَ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَمْ تَجُزْ أَيْ صَلَاتُهُ، كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ سُجُودَهُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَفْسُدُ، حَتَّى لَوْ أَعَادَ السُّجُودَ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّجُودَ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ أَوْ رُكْنًا آخَرَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ؛ صَارَ فِعْلًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْقِيَامِ هُوَ الْقِيَامُ بِإِحْدَى الْقَدَمَيْنِ - وَإِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ - فَيَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ فَكَانَ وَضْعُ الْأُخْرَى فَضْلًا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَضَعَهُمَا جَمِيعًا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِهِمَا، كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى بِسَاطٍ فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ - وَهِيَ كَثِيرَةٌ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْبِسَاطُ كَبِيرًا بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا. كَمَا إذَا تَعَمَّمَ بِثَوْبٍ، وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ نَجِسٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ جَازَ
فصل بيان ما يقع به التطهير
وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بِخِلَافِ الْعِمَامَةِ، (وَالْفَرْقُ) أَنَّ الطَّرَفَ النَّجِسَ مِنْ الْعِمَامَةِ إذَا كَانَ يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ، صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لَهَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبِسَاطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ أَوْ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْمَوْضِعِ النَّجِسِ مِنْهُ يَجُوزُ؟ ، وَلَوْ صَارَ حَامِلًا لَمَا جَازَ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى ثَوْبٍ مُبَطَّنٍ ظِهَارَتُهُ طَاهِرَةٌ، وَبِطَانَتُهُ نَجِسَةٌ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ مَخِيطًا غَيْرَ مُضَرَّبٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبَيْنِ، وَالْأَعْلَى مِنْهُمَا طَاهِرٌ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كَانَ مَخِيطًا مُضَرَّبًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ. وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى عَلَى حَجَرِ الرَّحَا، أَوْ عَلَى بَابٍ، أَوْ بِسَاطٍ غَلِيظٍ، أَوْ عَلَى مُكَعَّبٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ، فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فَقَالَ: الْمَحَلُّ مَحَلٌّ وَاحِدٌ فَاسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، كَالثَّوْبِ الصَّفِيقِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْوَجْهَ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ فَقَالَ: إنَّهُ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، وَلَيْسَ هُوَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ فَتَجُوزُ، كَمَا إذَا صَلَّى عَلَى ثَوْبٍ تَحْتَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ بِخِلَافِ الثَّوْبِ الصَّفِيقِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ صَفِيقًا فَالظَّاهِرُ نَفَاذُ الرُّطُوبَاتِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا تُدْرِكُهُ الْعَيْنُ لِتَسَارُعِ الْجَفَافِ إلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ بِسَاطًا غَلِيظًا، أَوْ ثَوْبًا مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَعَلَى كِلَا وَجْهَيْهِ نَجَاسَةٌ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَكِنَّهُمَا لَوْ جُمِعَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يُجْمَعُ، وَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ لَا يُجْمَعُ، وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا صَفِيقًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ النَّفَاذُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، فَاجْتَمَعَ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ نَجَاسَتَانِ لَوْ جُمِعَتَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا، أَوْ بِسَاطًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَنَفَذَتْ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَإِذَا جُمِعَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ. وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ طَرِيقِ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ، وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ شَرَائِطِ التَّطْهِيرِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْحُكْمِيَّةُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَاءَ طَهُورًا بِقَوْلِهِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ» وَالطَّهُورُ: هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ طَهُورًا بِقَوْلِهِ فِي آخَرِ آيَةِ الْوُضُوءِ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] . وَقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَيَسْتَوِي الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. وَأَمَّا مَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ، وَهِيَ زَوَالُ الْحَدَثِ، وَهَلْ تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ زَوَالُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَحْصُلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَحْصُلُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، فَقَالَ فِي الثَّوْبِ: تَحْصُلُ وَفِي الْبَدَنِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْمَاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ عُرِفَتْ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ النَّجَسَ صَارَ نَجِسًا، وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجَسِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا إذَا غُسِلَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، أَوْ بِالْخَمْرِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ نَجَاسَةِ الْمَاءِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ، وَبَقَاؤُهُ طَهُورًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي إزَالَةِ الْحَدَثِ، (وَلَهُمَا) أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ تُشَارِكُ الْمَاءَ فِي التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا كَانَ مُطَهِّرًا لِكَوْنِهِ مَائِعًا رَقِيقًا يُدَاخَلُ أَثْنَاءَ الثَّوْبِ، فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَيُرَقِّقُهَا إنْ كَانَتْ كَثِيفَةً، فَيَسْتَخْرِجُهَا
بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ، وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ فِي الْمُدَاخَلَةِ، وَالْمُجَاوَرَةِ، وَالتَّرْقِيقِ، مِثْلُ الْمَاءِ فَكَانَتْ مِثْلَهُ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْخَلَّ يَعْمَلُ فِي إزَالَةِ بَعْضِ أَلْوَانٍ لَا تَزُولُ بِالْمَاءِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّطْهِيرِ أَبْلَغُ، (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَاءَ بِأَوَّلِ مُلَاقَاةِ النَّجَسِ صَارَ نَجِسًا مَمْنُوعٌ، وَالْمَاءُ قَطُّ لَا يَصِيرُ نَجِسًا، وَإِنَّمَا يُجَاوِرُ النَّجَسَ فَكَانَ طَاهِرًا فِي ذَاتِهِ فَصَلُحَ مُطَهِّرًا، وَلَوْ تُصُوِّرَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ فَذَلِكَ بَعْدَ مُزَايَلَتِهِ الْمَحَلَّ النَّجِسَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالتَّطْهِيرِ، وَلَوْ تَنَجَّسَ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَمَا تُصُوِّرَ التَّطْهِيرُ، فَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالتَّطْهِيرِ عَبَثًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْحَدَثِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ هُنَاكَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ التَّعَبُّدِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَائِعًا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَصِرُ، مِثْلُ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَالدُّهْنِ وَنَحْوِهَا، لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ أَصْلًا؛ لِانْعِدَامِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقِفُ عَلَيْهَا زَوَالُ النَّجَاسَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَمِنْهَا) : الْفَرْكُ، وَالْحَتُّ بَعْدَ الْجَفَافِ فِي بَعْضِ الْأَنْجَاسِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، (وَبَيَانُ) هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إذَا أَصَابَ الْمَنِيُّ الثَّوْبَ وَجَفَّ وَفُرِكَ طَهُرَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَطْهُرَ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إذَا رَأَيْتِ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبِكِ إنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ» ؛ وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ لَا يَتَشَرَّبُ فِي الثَّوْبِ إلَّا رُطُوبَتُهُ، ثُمَّ تَنْجَذِبُ تِلْكَ الرُّطُوبَةُ بَعْدَ الْجَفَافِ فَلَا يَبْقَى إلَّا عَيْنُهُ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالْفَرْكِ بِخِلَافِ الرَّطْبِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ بِالْحَتِّ فَأَجْزَاؤُهَا الْمُتَشَرِّبَةُ فِي الثَّوْبِ قَائِمَةٌ، فَبَقِيَتْ النَّجَاسَةُ، وَإِنْ أَصَابَ الْبَدَنَ، فَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ؛ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَإِنْ جَفَّ فَهَلْ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَطْهُرَ فِي الثَّوْبِ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الثَّوْبِ بِالْفَرْكِ فَبَقِيَ الْبَدَنُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَرْكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الثَّوْبِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَدَنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ أَقَلُّ تَشَرُّبًا مِنْ الثَّوْبِ، وَالْحَتُّ فِي الْبَدَنِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفَرْكِ فِي الثَّوْبِ فِي إزَالَةِ الْعَيْنِ. (وَأَمَّا) سَائِرُ النَّجَاسَاتِ إذَا أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَطْبَةً أَوْ يَابِسَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ سَائِلَةً أَوْ لَهَا جُرْمٌ وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ خَمْرٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا الْمِلْحَ، وَمَضَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارُ مَا يَتَخَلَّلُ فِيهَا، لَمْ يُحْكَمْ بِطَهَارَتِهِ، حَتَّى يَغْسِلَهُ. وَلَوْ أَصَابَهُ عَصِيرٌ، فَمَضَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارُ مَا يَتَخَمَّرُ الْعَصِيرُ فِيهَا، لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ، وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوْ النَّعْلَ وَنَحْوَهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ كَيْفَمَا كَانَتْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ كَيْفَمَا كَانَتْ مُسْتَجْسِدَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جُرْمٌ كَثِيفٌ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا جُرْمٌ كَثِيفٌ فَإِنْ كَانَ مَنِيًّا فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ كَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ الْغَلِيظِ وَالرَّوْثِ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَمَا قَالَاهُ اسْتِحْسَانٌ، وَمَا قَالَهُ قِيَاسٌ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْإِزَالَةِ، وَكَذَا الْقِيَاسُ فِي الْمَاءِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ طَهُورًا لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَاءِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إزَالَةِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالسَّائِلِ وَفِي الثَّوْبِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَنِيِّ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، خَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ: مَا بَالُكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ فَقَالُوا: خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ فَخَلَعْنَا نِعَالَنَا فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا أَذًى، ثُمَّ قَالَ: إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ» ، وَهَذَا نَصٌّ وَالْفِقْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحَلَّ إذَا كَانَ فِيهِ صَلَابَةٌ نَحْوُ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ، لَا تَتَخَلَّلُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فِيهِ لِصَلَابَتِهِ، وَإِنَّمَا تَتَشَرَّبُ مِنْهُ بَعْضَ الرُّطُوبَاتِ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُسْتَجْسِدَ فِي الْجَفَافِ جُذِبَتْ تِلْكَ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكُلَّمَا ازْدَادَ يُبْسًا ازْدَادَ جَذْبًا، إلَى أَنْ يَتِمَّ الْجَفَافُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ، أَوْ يَبْقَى شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَإِذَا جَفَّ الْخُفُّ، أَوْ مَسَحَهُ عَلَى الْأَرْضِ تَزُولُ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الرُّطُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ فَالرُّطُوبَاتُ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهُ خُرُوجُهَا بِالْجَذْبِ بِسَبَبِ الْيُبْسِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَبِخِلَافِ السَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجَاذِبُ - وَهُوَ الْعَيْنُ الْمُسْتَجْسِدَةُ - فَبَقِيَتْ الرُّطُوبَةُ الْمُتَشَرِّبَةُ فِيهِ، فَلَا يَطْهُرُ بِدُونِ الْغَسْلِ، وَبِخِلَافِ
الثَّوْبِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَتَخَلَّلُ فِي الثَّوْبِ كَمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهَا لِتَخَلْخُلِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ، فَبِالْجَفَافِ انْجَذَبَتْ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهَا، فَتَبْقَى أَجْزَاؤُهَا فِيهِ فَلَا تَزُولُ بِإِزَالَةِ الْجُرْمِ الظَّاهِرِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَصَارَ كَالْمَنِيِّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ عِنْدَ الْجَفَافِ؛ لِأَنَّ الْمَنِيَّ شَيْءٌ لَزِجٌ لَا يُدَاخِلُ أَجْزَاءَ الثَّوْبِ. وَإِنَّمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهُ فَقَطْ، ثُمَّ يَجْذِبُهَا الْمُسْتَجْسِدُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَيَطْهُرُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَالثَّانِي - أَنَّ إصَابَةَ هَذِهِ الْأَنْجَاسِ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ مِمَّا يَكْثُرُ، فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِالْمَسْحِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، وَالْحَرَجُ فِي الْأَرْوَاثِ لَا غَيْرُ، وَإِنَّمَا سَوَّى فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بَيْنَ الْكُلِّ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الْحَتِّ وَالْمَسْحِ يَعُودُ نَجِسًا، هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إذَا تَشَرَّبَ فِيهِ النَّجَسُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، إلَّا أَنَّ مُعْظَمَ النَّجَاسَةِ قَدْ زَالَ، فَجُعِلَ الْقَلِيلُ عَفْوًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ، لَا أَنْ يَطْهُرَ الْمَحَلُّ حَقِيقَةً، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ فَهَذَا مَاءٌ قَلِيلٌ جَاوَرَهُ قَلِيلُ نَجَاسَةٍ فَيُنَجِّسُهُ، وَأَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا حُتَّ طَهُرَ، وَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صُلْبًا صَقِيلًا، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا يَطْهُرُ بِالْحَتِّ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ فِي أَجْزَائِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَظَاهِرُهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ وَالْحَثِّ وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْأَرْضَ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِهَذَا التُّرَابِ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَلَنَا) طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَطْهُرْ حَقِيقَةً لَكِنْ زَالَ مُعْظَمُ النَّجَاسَةِ عَنْهَا، وَبَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَيُجْعَلُ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ، فَعَلَى هَذَا إذَا أَصَابَهَا الْمَاءُ تَعُودُ نَجِسَةً لِمَا بَيَّنَّا. وَالثَّانِي - أَنَّ الْأَرْضَ طَهُرَتْ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَنْ طَبْعِ الْأَرْضِ أَنَّهَا تُحِيلُ الْأَشْيَاءَ، وَتُغَيِّرُهَا إلَى طَبْعِهَا، فَصَارَتْ تُرَابًا بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَبْقَ نَجِسٌ أَصْلًا، فَعَلَى هَذَا إنْ أَصَابَهَا لَا تَعُودُ نَجِسَةً، وَقِيلَ: إنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ لِأَبِي يُوسُفَ، وَالثَّانِي لِمُحَمَّدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا، تَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ نَجِسًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَهُمَا. (مِنْهَا) : الْكَلْبُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَلَّاحَةِ، وَالْجَمْدِ، وَالْعَذِرَةُ إذَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَطِينُ الْبَالُوعَةِ إذَا جَفَّ وَذَهَبَ أَثَرُهُ وَالنَّجَاسَةُ إذَا دُفِنَتْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا بِمُرُورِ الزَّمَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ، فَلَا تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ أَنْ لَا يَطْهُرَ، لَكِنْ عَرَفْنَاهُ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ عَيْنَ الْجِلْدِ طَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا النَّجَسُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الرُّطُوبَاتِ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا اسْتَحَالَتْ، وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا نَجَاسَةً؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ، فَتَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ الْوَصْفِ، وَصَارَتْ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ. (وَمِنْهَا) الدِّبَاغُ لِلْجُلُودِ النَّجِسَةِ، فَالدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ كُلِّهَا إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَكِنْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَامِدِ، لَا فِي الْمَائِعِ، بِأَنْ يُجْعَلَ جِرَابًا لِلْحُبُوبِ دُونَ الزِّقِّ لِلْمَاءِ وَالسَّمْنِ وَالدِّبْسِ، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَمَا قُلْنَا إلَّا فِي جِلْدِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَاسْمُ الْإِهَابِ يَعُمُّ الْكُلَّ إلَّا فِيمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِفِنَاءِ قَوْمٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَسْتِ دَبَغْتِيهَا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» ؛ وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إذَا غُسِلَ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِلُبْسِ جِلْدِ الثَّعْلَبِ، وَالْفَنَكِ، وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهَا، فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَدَلَّ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْإِهَابَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِجِلْدٍ لَمْ يُدْبَغْ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ
وَالْخِنْزِيرِ، جَوَابُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجُلُودَ كُلَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ - فِي حَقِّهِ - وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ؛ لِأَنَّ لَهُ جُلُودًا مُتَرَادِفَةً، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا لِلْآدَمِيِّ. وَأَمَّا جِلْدُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ وَتَنْدَفِعُ رُطُوبَتُهُ بِالدَّبْغِ يَنْبَغِي أَنْ يَطْهُرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ احْتِرَامًا لَهُ وَأَمَّا جِلْدُ الْفِيلِ فَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، ثُمَّ الدِّبَاغُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حَقِيقِيٍّ، وَحُكْمِيٍّ، فَالْحَقِيقِيُّ: هُوَ أَنْ يُدْبَغَ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرْظِ وَالْعَفْصِ وَالسَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْحُكْمِيُّ: أَنْ يُدْبَغَ بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّتْرِيبِ وَالْإِلْقَاءِ فِي الرِّيحِ، وَالنَّوْعَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَعُودُ نَجِسًا، وَبَعْدَ الدِّبَاغِ الْحُكْمِيِّ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ إلَّا بِالدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمِيَّ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ النَّتِنِ، وَالْفَسَادِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، مِثْلُ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الذَّكَاةُ فِي تَطْهِيرِ الذَّبِيحِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذُبِحَ طَهُرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ إلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَمَا هُوَ طَاهِرٌ مِنْ الْمَيْتَةِ، مِنْ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا، كَالشَّعْرِ وَأَمْثَالِهِ، يَطْهُرُ مِنْهُ بِالذَّكَاةِ عِنْدَنَا. وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الَّتِي فِيهَا الدَّمُ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ فَهَلْ تَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ، اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ جِلْدَهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَطْهُرُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَمْ تُفِدْ حِلًّا فَلَا تُفِيدُ طُهْرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَثَرَ الذَّكَاةِ يَظْهَرُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَصْلًا، - وَهُوَ حِلُّ تَنَاوُلِ اللَّحْمِ - وَفِي غَيْرِهِ تَبَعًا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا فِي الْأَصْلِ كَيْفَ يَظْهَرُ فِي التَّبَعِ؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» أَلْحَقَ الذَّكَاةَ بِالدِّبَاغِ، ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ فِي إزَالَةِ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ، وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، فَتُشَارِكُهُ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فَغَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْجِلْدِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ فِي الْجِلْدِ، كَمَا أَنَّ تَنَاوُلَ اللَّحْمِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ فِي اللَّحْمِ، وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ بِذَكَاةٍ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ، فَلَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فَتَعَيَّنَ تَطْهِيرُهُ بِالدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فَقَالَ: كُلُّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؛ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِ بَلْخٍ: إنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ، فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا يَطْهُرُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَقَدْ زَالَ بِالذَّكَاةِ. (وَمِنْهَا) نَزْحُ مَا وَجَبَ مِنْ الدِّلَاءِ، أَوْ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ مِنْ الْآدَمِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي تَطْهِيرِ الْبِئْرِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ النَّجَسِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ - رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ. وَرُوِيَ مِائَتَا دَلْوٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ، أَوْ ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ بِجَنْبِهَا حَفِيرَةً مِقْدَارَ عَرْضِ الْمَاءِ، وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحَفِيرَةِ، حَتَّى تَمْتَلِئَ فَإِذَا امْتَلَأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُرْسَلُ فِيهَا قَصَبَةٌ، وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ، ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشَرَةُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَالْأَوْفَقُ فِي الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَارَةٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ، وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ مِنْ الْبِئْرِ أَيُغْسَلُ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا بَلْ يُطَهِّرُهُ مَا طَهَّرَ الْبِئْرَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا طَهُرَتْ الْبِئْرُ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ، كَمَا يَطْهُرُ طِينُ الْبِئْرِ وَحَمْأَتُهُ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُمَا بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ، وَطَهَارَتُهُمَا يَكُونُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ
فصل طريق التطهير بالغسل
أَيْضًا، كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ فِي دَنٍّ، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الدَّنِّ. (وَمِنْهَا) : تَطْهِيرُ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ إذَا تَنَجَّسَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِيهِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ مِثْلُ مَا كَانَ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلَاثًا. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: إذَا دَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ الطَّاهِرُ، وَخَرَجَ بَعْضُهُ، يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَا تَسْتَبِينَ فِيهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا، وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ النَّجَسِ فِيهِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَقِيلَ: إذَا خَرَجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ، كَالْبِئْرِ إذَا تَنَجَّسَتْ، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَزْحِ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ وَعَلَى هَذَا حَوْضُ الْحَمَّامِ أَوْ الْأَوَانِي إذَا تَنَجَّسَ. [فَصْلٌ طَرِيقُ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَرِيقُ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَكَذَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي الْأَوَانِي، بِأَنْ غَسَلَ الثَّوْبَ النَّجَسَ أَوْ الْبَدَنَ النَّجَسَ فِي ثَلَاثِ إجَّانَاتٍ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَطْهُرُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْإِجَّانَةِ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَطْهُرُ الْبَدَنُ وَإِنْ غُسِلَ فِي إجَّانَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا لَمْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، وَفِي الثَّوْبِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى حُصُولَ الطَّهَارَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى لَاقَى النَّجَاسَةَ تَنَجَّسَ، سَوَاءٌ وَرَدَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ، وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجِسِ لَا يَتَحَقَّقُ، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ وَالْأَعْضَاءِ النَّجِسَةِ، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ فِي الثَّوْبِ ضَرُورَةٌ، إذْ كُلُّ مَنْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَغَسْلُهُ، فَتَرَكَ الْقِيَاسَ فِيهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ؛ وَلِهَذَا جَرَى الْعُرْفُ بِغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الْأَوَانِي، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعُضْوِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ فِي الْفَصْلَيْنِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ بَعْضَ بَدَنِهِ يَجِدُ مَاءً جَارِيًا، أَوْ مَنْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّبِّ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ تُصِيبُ النَّجَاسَةُ مَوْضِعًا يَتَعَذَّرُ الصَّبُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ دَمِيَ فَمُهُ أَوْ أَنْفُهُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَوَصَلَ الْمَاءُ النَّجِسُ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ يَعْلُو إلَى دِمَاغِهِ، وَفِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ، فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ أَصْلًا، مَا دَامَ عَلَى الْمَحَلِّ النَّجَسِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ فَأَدْخَلَهَا فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ هَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْخَوَابِي خَلٌّ نَجِسٌ - وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - يَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا خِلَافًا لَهُمَا، بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةَ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّبُّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُزِيلُ أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُزِيلُ لَكِنْ بِشَرْطِ الصَّبِّ، وَلَمْ يُوجَدْ فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ فَمِنْهَا الْعَدَدُ فِي نَجَاسَةٍ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ عِنْدَنَا، وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّجَاسَةَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ، وَحُكْمِيَّةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ - وَهِيَ الْحَدَثُ وَالْجِنَايَةِ - تَزُولُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ. وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، كَالْبَوْلِ وَنَحْوِهِ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِالْحَدَثِ، إلَّا فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْإِنَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا» فَقَدْ أَمَرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَلْعِ عَادَةِ النَّاسِ فِي الْإِلْفِ بِالْكِلَابِ، كَمَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي ظُرُوفِ الْخَمْرِ حِينَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَادَةَ أَزَالَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْخَمْرِ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» وَفِي بَعْضِهَا: «وَعَفِّرُوا الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» أَمْرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا عِنْدَ
تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، فَعِنْدَ تَحَقُّقِهَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْمَرْئِيَّةَ فَقَطْ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَكَذَا غَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ ذَلِكَ يُرَى بِالْحِسِّ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَدَثِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّةَ لَا نَجَاسَةَ رَأْسًا، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ الْغَسْلِ نَصًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ، وَأَكْبَرِ ظَنِّهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْعَادَاتِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَزُولُ بِالثَّلَاثِ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ مَعَ مُوسَى حَيْثُ قَالَ لَهُ مُوسَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ، فَطَهَارَتُهَا زَوَالُ عَيْنِهَا، وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْعَيْنِ فَإِنْ زَالَتْ الْعَيْنُ زَالَتْ النَّجَاسَةُ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَقِيَتْ، وَلَوْ زَالَتْ الْعَيْنُ وَبَقِيَ الْأَثَرُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَزُولُ أَثَرُهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، مَا لَمْ يَزُلْ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ لَوْنُ عَيْنِهِ، لَا لَوْنُ الثَّوْبِ، فَبَقَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مِمَّا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ، لَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ عِنْدَنَا، وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ الْأَثَرُ بَاقِيًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِالْمِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: «حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرُضِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ» وَهَذَا نَصٌّ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُكَلِّفْنَا غَسْلَ النَّجَاسَةِ إلَّا بِالْمَاءِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعِ الْمَاءِ قَلْعُ الْآثَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ بَقَاءِ الْأَثَرِ فِيمَا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ زَوَالَ النَّجَاسَةِ. وَقَوْلُهُ: بَقَاءُ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَا يَضُرُّكِ بَقَاءُ أَثَرِهِ» ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ، وَلَمْ يُكَلِّفْنَا تَعَلُّمَ الْحِيَلِ فِي قَلْعِ الْآثَارِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَالْقَلِيلُ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ عِنْدَنَا؛ وَلِأَنَّ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ بَاقٍ كَالدَّمِ الْأَسْوَدِ الْعَبِيطِ مِمَّا يَكْثُرُ فِي الثِّيَابِ خُصُوصًا فِي حَقِّ النِّسْوَانِ، فَلَوْ أُمِرْنَا بِقَطْعِ الثِّيَابِ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ وَكَذَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَالشَّرْعُ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهِ؟ . (وَمِنْهَا) الْعَصْرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَنَجَّسَ إمَّا إنْ كَانَ شَيْئًا لَا يُتَشَرَّبُ فِيهِ أَجْزَاءُ النَّجِسِ أَصْلًا، أَوْ كَانَ شَيْئًا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، أَوْ كَانَ شَيْئًا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا، كَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحَجَرِ وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ وَالْخَزَفِ الْعَتِيقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَطَهَارَتُهُ بِزَوَالِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ، أَوْ الْعَدَدُ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ، كَالْبَدَنِ وَالْخُفِّ وَالنَّعْل فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْتَخْرِجُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَشَرَّبُ فِيهِ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَصْرُهُ كَالثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ وَالْعَصْرِ إلَى أَنْ تَزُولَ الْعَيْنُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَالْعَصْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتَخْرِجُ الْكَثِيرَ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ، وَلَا يَتِمُّ الْغَسْلُ بِدُونِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْعَصْرِ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ عِنْدَنَا بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَوْلُ الصَّبِيِّ يَطْهُرُ بِالنَّضْحِ مِنْ غَيْرِ عَصْرٍ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُنْضَحُ بَوْلُ الصَّبِيِّ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» . (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ بَوْلٍ وَبَوْلٍ، وَمَا رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ، خُصُوصًا إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ، كَالْحَصِيرِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْبُورِيِّ وَنَحْوِهِ، أَيْ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُتَشَرَّبْ فِيهِ، بَلْ أَصَابَ ظَاهِرَهُ يَطْهُرُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ، أَوْ بِالْغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عَصْرٍ، فَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ تَشَرَّبَ فِيهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْخَزَفُ الْجَدِيدُ إذَا تَشَرَّبَ فِيهِ النَّجِسُ، وَالْجِلْدُ إذَا دُبِغَ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ، وَالْحِنْطَةُ إذَا تَشَرَّبَ فِيهَا النَّجَسُ وَانْتَفَخَتْ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَبَدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَكَذَا السِّكِّينُ إذَا مُوِّهَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَاللَّحْمُ إذَا طُبِخَ بِمَاءٍ نَجِسٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يُمَوَّهُ السِّكِّينُ، وَيُطْبَخُ اللَّحْمُ بِالطَّاهِرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْبَاطِنِ يَتَعَذَّرُ اسْتِخْرَاجُهَا إلَّا بِالْعَصْرِ، وَالْعَصْرُ مُتَعَذِّرٌ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنْ تَعَذَّرَ الْعَصْرُ فَالتَّجْفِيفُ مُمْكِنٌ، فَيُقَامُ التَّجْفِيفُ مَقَامَ الْعَصْرِ
كتاب الصلاة
دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَقْيَسُ، وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَوْسَعُ، وَلَوْ أَنَّ الْأَرْضَ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ رِخْوَةً يُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ، حَتَّى يَتَسَفَّلَ فِيهَا فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِهَا شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَتَسَفَّلَتْ الْمِيَاهَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَدُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَمَا فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهَا طَهُرَتْ، وَيَقُومُ التَّسَفُّلُ فِي الْأَرْضِ مَقَامَ الْعَصْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، وَعَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَسَفَّلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ صُلْبَةً فَإِنْ كَانَتْ صَعُودًا يُحْفَرُ فِي أَسْفَلِهَا حَفِيرَةٌ، وَيُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُزَالُ عَنْهَا إلَى الْحَفِيرَةِ، ثُمَّ تَكْبَرُ الْحَفِيرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْمَاءُ عَنْهَا لَا تُغْسَلُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْغَسْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كُوثِرَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَتْ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ بَاقٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُقْلَبَ فَيُجْعَلُ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، وَأَسْفَلُهَا أَعْلَاهَا لِيَصِيرَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ وَجْهَ الْأَرْضِ، هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْفَرَ مَوْضِعُ» بَوْلِهِ، فَدَلَّ أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الصَّلَاةِ] يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَى مَعْرِفَة (أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ) ، وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْأَرْكَانِ، وَالشَّرَائِطِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَمَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فِيهِ وَمَا يُكْرَهُ، وَمَا يُفْسِدُهُ، وَمَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: فَرْضٍ، وَوَاجِبٌ، وَسُنَّةٌ، وَنَافِلَةٌ وَالْفَرْضُ نَوْعَانِ: فَرْضُ عَيْنٍ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ وَفَرْضُ الْعَيْنِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالثَّانِي: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ أَمَّا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ. فِي بَيَانِ أَصْلِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ عَدَدِهَا، وَفِي بَيَانِ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا؛ إذَا فَسَدَتْ؛ أَوْ فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا؛ أَوْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ صَلَاةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْجَمَاعَةِ؛ أَوْ عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ، وَنَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَمَّا فَرْضِيَّتُهَا فَثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ. (أَمَّا) الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا. وقَوْله تَعَالَى: وَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الَّتِي تُؤَدَّى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] الْآيَةَ يَجْمَعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى فِي أَحَدِ طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُؤَدَّيَانِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ إذْ النَّهَارُ قِسْمَانِ: غَدَاةٌ وَعَشِيٌّ، وَالْغَدَاةُ: اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ الْعَشِيُّ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْعَشِيُّ فَأَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَحْنَثُ؛ فَدَخَلَ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] الْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي زُلَفٍ مِنْ اللَّيْلِ وَهِيَ سَاعَاتُهُ. وَقَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَقِيلَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ: زَوَالُهَا، وَغَسَقُ اللَّيْلِ: أَوَّلُ ظُلْمَتِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ: أَيْ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، وَهُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفَرْضِيَّةُ صَلَاتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتَدْخُلُ صَلَاةُ الْفَجْرِ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، وَفَرْضِيَّةُ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وقَوْله تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حِينَ تُمْسُونَ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ: الْفَجْرُ، وَعَشِيًّا: الْعَصْرُ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ: الظُّهْرُ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ إمَّا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَنْزِيهٌ، وَالصَّلَاةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَنْزِيهُ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ. وَفِيهِ وَصْفٌ لَهُ بِالْجَلَالِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالتَّعَالِي عَنْ الْحَاجَةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ: إنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَلَوْ كَانَتْ
أَفْهَامُهُمْ مِثْلَ أَفْهَامِ أَهْلِ زَمَانِنَا لَمَا فَهِمُوا مِنْهَا سِوَى التَّسْبِيحِ الْمَذْكُورِ. وقَوْله تَعَالَى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَسَبِّحْ، أَيْ فَصَلِّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ تَأْكِيدًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ذِكْرَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ اسْمِ الصَّلَوَاتِ، كَذَا هَهُنَا. وقَوْله تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] قِيلَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ هَهُنَا هُمَا الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ: سَائِرُ الْأَذْكَارِ، وَالتَّسْبِيحُ: الصَّلَاةُ. وَقَوْلُهُ: بِالْغُدُوِّ: صَلَاةُ الْغَدَاةِ، وَالْآصَالِ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقِيلَ: الْآصَالِ هُوَ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَيُحْتَمَلُ الْعَصْرُ وَالظُّهْرُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي الْأَصِيلِ، وَهُوَ الْعَشِيُّ، وَفَرْضِيَّةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عُرِفَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» وَعَنْ عُبَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ؛ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ؛ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعَمِ مِنْهَا: نِعْمَةُ الْخِلْقَةِ؛ حَيْثُ فَضَّلَ الْجَوْهَرَ الْإِنْسِيَّ بِالتَّصْوِيرِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] وَقَالَ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] حَتَّى لَا تَرَى أَحَدًا يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّقْوِيمِ، وَالصُّورَةِ الَّتِي أُنْشِئَ عَلَيْهَا وَمِنْهَا: نِعْمَةُ سَلَّامَةِ الْجَوَارِحِ عَنْ الْآفَاتِ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ مَصَالِحِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ إنْعَامًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ، إذْ شُكْرُ النِّعْمَةِ: اسْتِعْمَالُهَا فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ ثُمَّ الصَّلَاةُ تَجْمَعُ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقُعُودِ وَوَضْعِ الْيَدِ مَوَاضِعَهَا وَحِفْظِ الْعَيْنِ، وَكَذَا الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ، وَإِشْعَارِهِ بِالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَإِحْضَارِ الذِّهْنِ، وَالْعَقْلِ بِالتَّعْظِيمِ، وَالتَّبْجِيلِ؛ لِيَكُونَ عَمَلُ كُلِّ عُضْوٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: نِعْمَةُ الْمَفَاصِلِ اللَّيِّنَةِ، وَالْجَوَارِحِ الْمُنْقَادَةِ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَأُمِرْنَا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ؛ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ - وَكُلَّ عِبَادَةٍ - خِدْمَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ لَا تَكُونُ إلَّا فَرْضًا، إذْ التَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ مُحَالٌ، وَالْعَزِيمَةُ هِيَ شَغْلُ جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَعَلَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْخِدْمَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُخْصَةً حَتَّى لَوْ شَرَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ؛ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إظْهَارِ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِيُخَالِفَ بِهِ مَنْ اسْتَعْصَى مَوْلَاهُ، وَأَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَفِي الصَّلَاةِ إظْهَارُ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَوْلَى جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَحْنِيَةِ الظَّهْرِ لَهُ، وَتَعْفِيرِ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ، وَالْجُثُوِّ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَدْحِ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا مَانِعَةٌ لِلْمُصَلِّي عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُسْتَشْعِرًا هَيْبَةَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ خَائِفًا تَقْصِيرَهُ فِي عِبَادَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَصَمَهُ ذَلِكَ عَنْ اقْتِحَامِ الْمَعَاصِي وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَرْضٌ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وقَوْله تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَمِنْهَا: أَنَّهَا جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالزَّلَّاتِ وَالتَّقْصِيرِ، إذْ الْعَبْدُ فِي أَوْقَاتِ
فصل عدد فروض الصلاة
لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَنْبٍ، أَوْ خَطَأٍ، أَوْ زَلَّةٍ، أَوْ تَقْصِيرٍ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ وَخَطَرُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ إذْ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النِّعَمِ، وَالْإِحْسَانِ مَا لَوْ أَخَذَ بِشُكْرِ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ الْكُلِّ؛ فَيَحْتَاجَ إلَى تَكْفِيرِ ذَلِكَ، إذْ هُوَ فَرْضٌ فَفُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَكْفِيرًا لِذَلِكَ. [فَصْلٌ عَدَد فُرُوض الصَّلَاة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَدَدُهَا فَالْخَمْسُ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، (أَمَّا) الْكِتَابُ فَمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا فَرْضِيَّةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وقَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَعَطَفَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى عَلَيْهَا، وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَهَذَا يَقْتَضِي جَمْعًا يَكُونُ لَهُ وُسْطَى. وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذَلِكَ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ جَمْعٍ يَكُونُ لَهُ وُسْطَى، وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذَلِكَ الْجَمْعِ هُوَ الْخَمْسُ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ وَالسِّتَّ لَا وُسْطَى لَهُمَا، وَكَذَا هُوَ شَفْعٌ إذْ الْوَسَطُ مَا لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الشَّفْعِ، وَالثَّلَاثُ لَهُ وُسْطَى لَكِنَّ الْوُسْطَى لَيْسَ غَيْرَ الْجَمْعِ إذْ الِاثْنَانِ لَيْسَا بِجَمْعٍ صَحِيحٍ، وَالسَّبْعَةُ وَكُلُّ وِتْرٍ بَعْدَهَا لَهُ وُسْطَى لَكِنَّهُ لَيْسَ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ لِمَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ، وَالسُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَالْمَشْهُورَةَ مَا أَوْجَبَتْ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَالْقَوْلُ بِفَرْضِيَّةِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ يَكُونُ قَوْلًا بِفَرْضِيَّةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا أَبَا حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَإِنَّمَا يَقُولُ بِوُجُوبِهِ (وَالْفَرْقُ) بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَدَدُ رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَدَدُ رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ: رَكْعَتَانِ، وَأَرْبَعٌ، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثٌ، وَأَرْبَعٌ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَدَدُ رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ. ثُمَّ زَالَ الْإِجْمَالُ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا فِي نُصُوصِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا فِي حَقِّهِ إحْدَى عَشْرَةَ عِنْدَنَا: رَكْعَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ، وَثَلَاثُ وَرَكْعَتَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ كَمَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ. [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا، وَيَبْطُلُ بِهِ السَّفَرُ وَيَعُودُ إلَى حُكْمِ الْإِقَامَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعٌ كَفَرْضِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ رُخْصَةً، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَقَّبَ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ، وَالْإِكْمَالَ رُخْصَةٌ وَهَذَا التَّلْقِيبُ عَلَى أَصْلِنَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا حَقِيقَةً عِنْدَنَا بَلْ هُمَا تَمَامُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ، وَالْإِكْمَالُ لَيْسَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ بَلْ هُوَ إسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَسَاءَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ، وَهَذَا لِأَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنْ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِعَارِضٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعْنَى التَّغْيِيرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رَأْسًا إذْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا لِمَا يُذْكَرْ ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَأُقِرَّتْ الرَّكْعَتَانِ عَلَى حَالِهِمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا كَانَتَا فِي الْأَصْلِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى التَّغْيِيرِ أَصْلًا فِي حَقِّهِ. وَفِي حَقِّ الْمُقِيمِ وُجِدَ التَّغْيِيرُ لَكِنْ إلَى الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ لَا إلَى السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ، وَالرُّخْصَةُ تُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً، وَلَوْ سُمِّيَ فَإِنَّمَا سُمِّيَ مَجَازًا لِوُجُودِ بَعْضِ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ. (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، وَلَفْظُ لَا جُنَاحَ تُسْتَعْمَلُ
فِي الْمُبَاحَاتِ وَالْمُرَخَّصَاتِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَالْعَزَائِمِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَلَا فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُخْتَارًا فِي قَبُولِ الصَّدَقَةِ كَمَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُسَافِرِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَضَاعِفَةِ، وَالتَّخْفِيفُ فِي التَّخْيِيرِ فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْقَصْرِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْإِكْمَالِ كَمَا فِي الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرُوِيَ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَرَوَى الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَكَذَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَر عَلَى مَا كَانَتْ وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ» . وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالْإِكْمَالُ هُوَ الْعَزِيمَةُ لَمَا تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إلَّا أَحْيَانًا، إذْ الْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَأَمَّا تَرْكُ الْأَفْضَلِ أَبَدًا وَفِيهِ تَضْيِيعُ الْفَضِيلَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ فَمِمَّا لَا يُحْتَمَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَرَ بِمَكَّةَ وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَلَوْ جَازَ الْأَرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَنِمُ زِيَادَةَ الْعَمَلِ فِي الْحَرَمِ لِمَا لِلْعِبَادَةِ فِيهِ مِنْ تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إمَامًا وَخَلْفَهُ الْمُقِيمُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا كَيْ لَا يَحْتَاجَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ إلَى التَّفَرُّدِ وَلِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ لَهُمْ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» فَدَلَّ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْفَرْضَ مَا قُلْنَا إذْ لَوْ كَانَ الْأَرْبَعُ عَزِيمَةً لَمَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَلَمَا اعْتَذَرَ هُوَ إذْ لَا يُلَامُ عَلَى الْعَزَائِمِ وَلَا يُعْتَذَرُ عَنْهَا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قُلْنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ أَيْ: خَالَفَ السُّنَّةَ اعْتِقَادًا لَا فِعْلًا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ: أَنْتَ أَكْمَلْتَ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنْتَ قَصَرْتَ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَصْلُ الْقَصْرِ لَا صِفَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَالْقَصْرُ قَدْ يَكُونُ عَنْ الرَّكَعَاتِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ لَا بِتَرْكِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ مُرَخَّصٌ عِنْدَنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ الْقَصْرُ عَنْ الرَّكَعَاتِ " وَهُوَ تَرْكُ شَطْرِ الصَّلَاةِ "؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الْخَوْفِ وَهُوَ خَوْفُ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَالْقَصْرُ عَنْ الرَّكَعَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ الْخَوْفِ بَلْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَالْحَدِيثُ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ فَلَا يَبْقَى لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ شَرْعًا إذْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقَوْلُهُ: " الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُخْتَارًا فِي الْقَبُولِ " قُلْنَا: مَعْنَى قَوْلِهِ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ: حَكَمَ عَلَيْكُمْ عَلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ كَالْعَفْوِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ تَرْفِيهًا بِقَصْرِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، بَلْ لَمْ يُشْرَعْ فِي السَّفَرِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " لَا تَقُولُوا قَصْرًا فَإِنَّ الَّذِي فَرَضَهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا هُوَ الَّذِي فَرَضَهَا فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ " وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ إبْطَالُ قَدْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا أَوْ الْفَجْرَ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ كَذَا هَذَا وَلَا قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنْهُمَا لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَكَذَا لَا قَصْرَ فِي السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ
فصل بيان ما يصير به المقيم مسافرا
ثَمَّةَ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِتَرْكِ السُّنَنِ فِي السَّفَرِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أُتِيتَ بِالسُّنَنِ فِي السَّفَرِ لَأَتْمَمْتُ الْفَرِيضَةَ " وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُكْثُ لِأَدَاءِ السُّنَنِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، بَلْ الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي يَقَعُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي حَقِّهِ وَهِيَ فَرْضٌ، وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْمَكْتُوبَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَفِي خَارِجِ الْوَقْتِ وَفِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَاقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ قَدْ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ، فَكَانَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضًا فِي حَقِّهِ، فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ فَرْضٌ. وَقَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ بِالْقَضَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْأَرْبَعُ عِنْدَهُ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ عِنْدَهُ، وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ هِيَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُقِيمِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ بِبُطْلَانِ الِاقْتِدَاءِ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْأَصْلِ لَمَّا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الْقَصْرُ رُخْصَةً فَإِذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَتَأَكَّدَ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَرْبَعِ فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَوِي فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنْ الصَّلَاةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ مِنْ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَفَرُ الْمُبَاحِ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْبَغْيِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَثْبُتُ رُخْصَةُ الْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ رُخْصَةَ الْقَصْرِ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا أَوْ نَظَرًا عَلَى الْمُسَافِرِ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَالتَّخْفِيفَ. (وَلَنَا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا، وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ صَلَاةُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَالْخَوْفُ لَا يُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُقِيمًا كَانَ الْخَائِفُ أَوْ مُسَافِرًا وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ اعْتِبَارِ بَعْضِ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمَشْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا: فَاَلَّذِي يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجُ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُدَّةُ السَّفَرِ وَأَقَلُّهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مُقَدَّرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَسِيرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَجَعَلَ لِكُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ فَرَاسِخَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، قِيلَ: سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَافِلَةَ لَا تَقْطَعُ فِي يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَثْبَتُ أَقْوَالِهِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمَيْنِ، أَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] عَلَّقَ الْقَصْرَ بِمُطْلَقِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ فَالتَّقْدِيرُ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» جَعَلَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَلُّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ» فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَعْنًى، وَالْحَدِيثَانِ فِي حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِمَا إنْ كَانَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ نَسْخًا مَعَ مَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ السَّيْرِ فِيهَا مُسَافِرًا، يُقَالُ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: سَارَ فِيهَا مُسَافِرًا، فَكَانَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةً عَنْ سَيْرٍ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُسَافِرًا لَا مُطْلَقَ السَّيْرِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَيْرٍ مُطْلَقٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ؟ وَكَذَا مُطْلَقُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ يَقَعُ عَلَى سَيْرٍ يُسَمَّى سَفَرًا، وَالنِّزَاعُ فِي تَقْدِيرِهِ شَرْعًا وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّقْدِيرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ " وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ " (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِضَرْبِ مَشَقَّةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ وَهِيَ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ، وَالسَّيْرِ، وَالنُّزُولِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ رَحْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَحَطِّهِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرِ، وَهَذِهِ الْمَشَقَّاتُ تَجْتَمِعُ فِي يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحُطُّ الرَّحْلَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَالسَّيْرُ مَوْجُودٌ فِي الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا مَشَقَّةُ السَّيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الرَّحْلَ مِنْ وَطَنِهِ وَيَحُطُّهُ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَيُقَدَّرُ بِيَوْمَيْنِ لِهَذَا. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِكْمَالِ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَمَا دُونَ الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالثَّلَاثُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَنْ سَافَرَ يَوْمًا عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ وَالْحَطِّ وَالسَّيْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَمَعَ هَذَا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِاجْتِمَاعِ الْمَشَقَّاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مَشَقَّةُ حَمْلِ الرَّحْلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرُ وَحَطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ؛ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّ أَبْطَأَ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ، وَالْأَسْرَعَ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، فَكَانَ أَوْسَطُ أَنْوَاعِ السَّيْرِ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» وَلِأَنَّ الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ يَتَجَاذَبَانِ فَيَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ عَلَى الْوَسَطِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ سَارَ فِي الْمَاءِ يَوْمًا وَذَلِكَ فِي الْبَرِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلْإِسْرَاعِ، وَكَذَا لَوْ سَارَ فِي الْبَرِّ إلَى مَوْضِعٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَقْصُرُ اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَافَرَ فِي الْجِبَالِ وَالْعَقَبَاتِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِيهَا لَا فِي السَّهْلِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِمَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِالْمَرَاحِلِ فِي السَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْفَرَاسِخِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا خَرَجَ إلَى مِصْرٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَصَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَمْ يَقْصُرْ وَيَكُونُ كَالْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ وَقَدْ وُجِدَ وَالثَّانِي: نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ السَّيْرَ قَدْ يَكُونُ سَفَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ إلَى مَوْضِعٍ لِإِصْلَاحِ الضَّيْعَةِ ثُمَّ تَبْدُو لَهُ حَاجَةٌ أُخْرَى إلَى الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ هُوَ نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَبْدُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَوْلَاهُ، وَالزَّوْجَةُ بَنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْغَرِيمُ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ: فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا فَالنِّيَّةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا فَالنِّيَّةُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ وَالثَّالِثُ: الْخُرُوجُ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ عَفْوٌ، وَفِعْلُ السَّفَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ لَا يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ
مُسَافِرًا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ حَيْثُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ هُنَاكَ قَارَنَتْ الْفِعْلَ " وَهُوَ تَرْكُ السَّفَرِ "؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْفِعْلِ فِعْلٌ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَسَوَاءً خَرَجَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِأَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إنَّمَا يَقْصُرُ إذَا خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُكْمِلُ الظُّهْرَ، وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْعَصْرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِيهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِكْمَالُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ مَضَى دُونَ ذَلِكَ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهِ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا غَيْرُ أَوْ لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا. (أَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَعِنْدَهُمْ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَكُلَّمَا دَخَلَ الْوَقْتُ أَوْ مَضَى مِنْهُ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِأَدَاءِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَلَا يَسْقُطُ شَطْرُهَا بِسَبَبِ السَّفَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا إذَا صَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَسْقُطُ الشَّطْرُ كَذَا هَهُنَا، وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْلِ حَتَّى بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا وَهُوَ مُقِيمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ شَرْعًا حَتَّى لَوْ صَلَّى فِيهِ التَّطَوُّعَ جَازَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَدَاءُ الْأَرْبَعِ وَاجِبًا قَبْلَ الشُّرُوعِ فَإِذَا نَوَى السَّفَرَ وَخَرَجَ مِنْ الْعُمْرَانِ حَتَّى صَارَ مُسَافِرًا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْتُ فَاضِلًا عَلَى الْأَدَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْفِعْلِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ يَتَعَيَّنُ آخِرَ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ تَعْيِينِهِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ فَاضِلًا عَلَى الْأَدَاءِ وَلَكِنَّهُ يَسَعُ لِلرَّكْعَتَيْنِ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الطَّاهِرَةُ إذَا حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ وَالْعَاقِلُ إذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَالْمُسْلِمُ إذَا ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يُوجَدْ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فِيهِ لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَعِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّلِهِ، وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ تُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَوْ صَلَّى الصَّبِيُّ الْفَرْضَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يُجْزِيهِ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ كَانَ نَظَرًا لَهُ، وَالنَّظَرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ كَيْ لَا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ صَحَّتْ مِنْهُ نَظَرًا لَهُ وَهُوَ الثَّوَابُ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِالْمِيرَاثِ إنْ لَمْ يَزُلْ بِالْوَصِيَّةِ. (وَلَنَا) أَنَّ فِي نَفْسِ الْوُجُوبِ ضَرَرًا فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الصَّبِيِّ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ فِيهِ وَإِنَّمَا انْقَلَبَ نَفْعًا لِحَالَةٍ اتَّفَقَتْ " وَهِيَ الْبُلُوغُ فِيهِ " وَأَنَّهُ نَادِرٌ فَبَقِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ فِي الْأَصْلِ الْمُسْلِمُ إذَا صَلَّى ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْحَجُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ دُونَ نَفْسِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ حَصَلَتْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَلَا يُبْطِلُهَا كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وقَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِنَفْسِ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ: مَنْ عَلَّقَ حُكْمًا بِشَرْطَيْنِ وَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيقَيْنِ وَيَنْزِلُ عِنْدَ أَيِّهِمَا وُجِدَ كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حَرٌّ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حَرٌّ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْطُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَلْ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَتَقَ وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِالتَّعْلِيقِ الْآخَرِ. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ: فَهُوَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ طَهَارَةٌ وَأَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ الْكُفْرِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُهَا لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَبَقِيَتْ
الْحَاجَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَبِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، قَالَ الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجِبُ إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيُّ وَبُنِيَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الْحَائِضُ إذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُ إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْأَدَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ، وَأَدَاءُ كُلِّ الْفَرْضِ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَاسْتَحَالَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ فِعْلًا بِالْأَدَاءِ، وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلْبَعْضِ وَجَبَ تَعْيِينُهُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ كُلِّ الْوَقْتِ لِكُلِّ الْعِبَادَةِ تَعْيِينُ كُلِّ أَجْزَائِهِ لِكُلِّ أَجْزَائِهَا ضَرُورَةً، وَفِي تَعْيِينِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ لِجُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَإِذَا وَجَبَ الْبَعْضُ فِيهِ وَجَبَ الْكُلُّ فِيمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنْ الْوَقْتِ إنْ كَانَ لَا يَتَعَقَّبُهُ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ تَعَقَّبَهُ يَجِبُ الْكُلُّ لِيُؤَدَّى فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا قَدْرُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَ تَحْصِيلُ التَّحْرِيمَةِ ثُمَّ تَجِبُ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّحْرِيمَةِ فَيُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْفَجْرِ، وَفِي الْفَجْرِ يُؤَدِّيهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى التَّدْرِيجِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَدْ تَقَرَّرَ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَقْضِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَقْتَ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَصْلُحُ لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ بَلْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ مُتَعَيَّنٌ لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ ثُمَّ الثَّانِي مِنْهُ لِلثَّانِي مِنْهَا وَالثَّالِثُ لِلثَّالِثِ وَهَكَذَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي أَوْ الْخَامِسِ مِنْ الْوَقْتِ وَلَا الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ الْعِبَادَةِ مِنْ الْجُزْءِ السَّادِسِ مِنْ الْوَقْتِ فَإِذَا فَاتَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ فَلَمْ يَجِبْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي أَوْ الْعَاشِرِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّوْمِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِهِ فِيهِ. وَلِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الصَّوْمِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وَهُوَ مَحَلُّ أَدَائِهِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ الْيَوْمِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَلَا أَدَاءً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ جُزْءٍ مُطْلَقٍ مِنْ الْوَقْتِ يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ، إذْ التَّحْرِيمَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ الْفَرْقُ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ - ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ إذَا طَهُرَتْ وَعَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا تَغْتَسِلُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلَاةُ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا عَنْ الْحَيْضِ فَإِذَا أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَتْ مِنْ الِاغْتِسَالِ أَوْ لَمْ تَتَمَكَّنْ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ أَسْلَمَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ صَبِيٍّ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَ هُوَ خُرُوجُ الدَّمِ فِي وَقْتٍ مُعْتَادٍ فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا انْعَدَمَ حَقِيقَةً انْعَدَمَ حُكْمًا إلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الِانْقِطَاعِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَتَخَلَّلُ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ فَشُرِطَتْ زِيَادَةُ
فصل بيان ما يصير المسافر به مقيما
شَيْءٍ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ أَوْ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الطُّهْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِجْمَاعَ وَمِثْلَ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ مُنْعَدِمَانِ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ لَنَا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَقْصَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَهَلْ يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قِرَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ؟ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؟ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُبَاحُ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا: فَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِوُجُودِ الْإِقَامَةِ، وَالْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صَرِيحُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِقَامَةِ. (أَمَّا) نِيَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لِانْتِظَارِ الْقَافِلَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَفِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ كَانَ مُقِيمًا وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ (احْتَجَّ) لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَتَى وُجِدَتْ حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ الصَّلَاةُ قَلَّتْ الْإِقَامَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّهَا ضِدُّ السَّفَرِ، وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمَا يُضَادُّهُ إلَّا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَصَرَ الصَّلَاةَ» فَتَرَكْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالنَّصِّ فَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ. وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَبْطُلَ السَّفَرُ بِقَلِيلِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالسَّفَرُ انْتِقَالٌ، وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ بِمَا يُضَادُّهُ فَيَنْعَدِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً، إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْإِقَامَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَثِيرِ أَنْ يَكُونُ جَمْعًا، وَالثَّلَاثَةُ وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا لَكِنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَكَانَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْكَثْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً صَارَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِزَوَالِ مَعْنَى الْقِلَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَالْقِيَاسُ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ (وَأَمَّا) مُدَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَحُجَّتُهُمَا مَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ تُوجِبُ حُكْمَ الْإِقَامَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَأَقْصِرْ وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالَاهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ دَخَلُوا مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَمَكَثُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْيَوْمَ الْخَامِسَ وَالْيَوْمَ السَّادِسَ وَالْيَوْمَ السَّابِعَ فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ خَرَجُوا إلَى مِنًى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» دَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَرْبَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَرَخَّصَ بِالْمُقَامِ ثَلَاثًا لِهَذَا لَا لِتَقْدِيرِ
الْإِقَامَةِ. (وَأَمَّا) اتِّحَادُ الْمَكَانِ: فَالشَّرْطُ نِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالُ يُضَادُّهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الِانْتِقَالِ فِي مَكَانَيْنِ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَوْضِعَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسَافِرًا لَمْ يَقْصُرْ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ نِيَّةُ كَمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ فَصَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى أَوْ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أَوْ قَرْيَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِصْرٌ وَالْآخَرُ قَرْيَةٌ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ يَقْصُرُ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ " وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " فَلَغَتْ نِيَّتُهُ، فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمُقَامَ فِيهِ بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ دَخَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ بِاللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرَّحْلِ حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلسُّوقِيِّ أَيْنَ تَسْكُنُ؟ يَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ بِالنَّهَارِ يَكُونُ بِالسُّوقِ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ الْحَاجَّ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ دَخَلَ قَبْلَ أَيَّامِ الْعَشْرِ لَكِنْ بَقِيَ إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّةُ إقَامَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَصِحُّ، وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ صَاحِبٍ لِي، وَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ شَهْرًا فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ مِنًى بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ عَلَى أَنْ أُصَاحِبَهُ وَجَعَلْتُ أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ فَمَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا لَا تَصِيرُ مُسَافِرًا فَقُلْت: أَخْطَأْتُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ وَاشْتَغَلْتُ بِالْفِقْهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ مَبْلَغُ عِلْمِ الْفِقْهِ فَيَصِيرُ مَبْعَثُةُ لِلطَّلَبَةِ عَلَى طَلَبِهِ. (وَأَمَّا) الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ: فَهُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ نَحْوُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، فَعَلَى هَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ لَا يَصِحُّ. " ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعُيُونِ " فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى هَذَا الْإِمَامُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْجُنْدِ وَمَعَهُمْ أَخْبِيَةٌ وَفَسَاطِيطُ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الْمَفَازَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الْأَصْلِ، فَكَانَتْ النِّيَّةُ لَغْوًا. وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا إذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ وَقَالَ زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الشَّوْكَةَ إذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَقَعُ الْأَمْنُ لَهُمْ مِنْ إزْعَاجِ الْعَدُوِّ إيَّاهُمْ فَيُمْكِنَهُمْ الْقَرَارُ ظَاهِرًا، فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ صَادَفَتْ مَحَلِّهَا فَصَحَّتْ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إلَّا بِنِيَّةِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: إنَّا نُطِيلُ الثَّوَاءَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَهْلِكَ؛ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْقَرَارِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلْقَرَارِ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَوْضِعَ قَرَارِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَارِبِينَ لِجَوَازِ أَنْ يُزْعِجَهُمْ الْعَدُوُّ سَاعَةً فَسَاعَةً لِقُوَّةٍ تَظْهَرُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ سِجَالٌ أَوْ تَنْفُذُ لَهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ حِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ الْمُكْثِ هُنَالِكَ: فَتْحُ الْحِصْنِ دُونَ التَّوَطُّنِ، وَتَوَهُّمُ انْفِتَاحِ الْحِصْنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ قَائِمٌ فَلَا
تَتَحَقَّقُ نِيَّتُهُمْ إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الْعَدْلِ الْبُغَاةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُونَ مُقِيمِينَ أَبَدًا وَإِنْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْإِقَامَةُ فِي الْمَفَاوِزِ دُونَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، فَكَانَتْ الْمَفَاوِزُ لَهُمْ كَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَهْلِهَا وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلرَّجُلِ أَصْلٌ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ وَهُمْ لَا يَنْوُونَ السَّفَرَ بَلْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى حَتَّى لَوْ ارْتَحَلُوا عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَقَصَدُوا مَوْضِعًا آخَرَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ صَارُوا مُسَافِرِينَ فِي الطَّرِيقِ. ثُمَّ الْمُسَافِرُ كَمَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا خَارِجَ الصَّلَاةِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءً نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي وَسَطِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بَاقِيًا وَإِنْ قَلَّ، وَسَوَاءً كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا مَسْبُوقًا أَوْ مُدْرِكًا إلَّا إذَا أَحْدَثَ الْمُدْرِكُ أَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَوَضَّأَ أَوْ انْتَبَهَ بَعْدَ مَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالصَّلَاةُ لَا تُنَافِي نِيَّةَ الِاسْتِقْرَارِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِيهَا فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا وَالْفَرْضُ لَمْ يُؤَدَّ بَعْدُ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَيَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْمُغَيَّرِ " وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ "، وَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ أُدِّيَ الْفَرْضُ لَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَلَا يَعْمَلُ الْمُغَيَّرُ فِيهِ، وَالْمُدْرِكُ الَّذِي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ أَحْدَثَ وَذَهَبَ لِلْوُضُوءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ الْفَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فِي حَقِّهِ فَكَذَا فِي حَقِّ اللَّاحِقِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي الْوَقْتِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْوَقْتِ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ. وَكَذَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ بَعْدُ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْلٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ اسْتَحْكَمَ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِتَكُونَ الرَّكْعَتَانِ لَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَتْرَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ أَفْسَدَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ فَفَرْضُهُ تَامٌّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ، هَذَا إذَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ وَإِنْ أَقَامَ صُلْبَهُ لَا يَعُودُ، كَالْمُقِيمِ إذَا أَقَامَ مِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَهُوَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ بِالْخِيَارِ. وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَتَّى نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا قَدْ فَسَدَتْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ تَمَّ شُرُوعُهُ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْ بِتَمَامِ فِعْلِ النَّفْلِ، وَتَمَامُ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ، وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً بِدُونِهِ، وَإِذَا صَارَ شَارِعًا فِي النَّفْلِ صَارَ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةً لَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الْأَرْجَحُ لَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ارْتَفَعَتْ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهُ تَطَوُّعًا مُسَافِرٌ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَقْرَأُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ، وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الرَّكْعَتَانِ لَهُ تَطَوُّعًا عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ، ثُمَّ الْفَجْرُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ، فَكَذَا الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي رَفْعِ صِفَةِ الْفَسَادِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُفْسِدَ لَمْ يَتَقَرَّرْ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ خُلُوُّ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِغَرَضِ أَنْ يَلْحَقَهَا مُدَّةُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ الْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ إذْ لَيْسَ لَهَا هَذِهِ الْعَرَضِيَّةُ، وَكَذَا إذَا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَمْ يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَسَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِسَهْوِهِ أَوْ سَجَدَهُمَا ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خُرُوجًا مَوْقُوفًا، إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَخْرُجْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خَرَجَ حَتَّى لَوْ ضَحِكَ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ سَلَامُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَصْلًا حَتَّى لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِعَتَا لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَإِنَّمَا يَنْجَبِرَانِ لَوْ حَصَلَتَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مَا يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هَذَا السَّلَامِ فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً، فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلِّلًا فِي الشَّرْعِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ فِي التَّحْرِيمَةِ لِيُلْحِقَ الْجَابِرَ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ بِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيَنْجَبِرَ النُّقْصَانُ فَبَقَّيْنَا التَّحْرِيمَةَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إبْقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ، فَعَمَلَ السَّلَامُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِ التَّحْرِيمَةِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ كَمَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا وَالتَّحْرِيمَةُ مُنْقَطِعَةٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَالْعَوْدُ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ هَهُنَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ فَرْضَهُ صَارَ أَرْبَعًا وَهَذَا وَسَطُ الصَّلَاةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا آخِرُ الصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّوَقُّفِ هَهُنَا، فَلَا يَتَوَقَّفُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَوْقُوفٌ، إنْ اشْتَغَلَ بِالسَّجْدَتَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ هُنَاكَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ صَحِيحٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ أَوْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ جَمِيعًا حَيْثُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا لِحُصُولِهِمَا فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَحَّ اشْتِغَالُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً فَوُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَإِذَا تَغَيَّرَ أَرْبَعًا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّجْدَةَ حَصَلَتْ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَيَبْطُلُ اعْتِبَارُهَا وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَنَّهَا مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً مُعْتَدًّا بِهَا حِينَ حَصَلَتْ بَلْ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتَ حُصُولِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ. فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَبِخِلَافِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ انْفَسَخَ بِمَعْنًى يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْعِقَادِهِ
وَانْتَفَى بَعْدَ انْفِسَاخِهِ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ أَصْلًا نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَتَّى انْفَسَخَ الْبَيْعُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ الَّذِي كَانَ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ كَانَ حُرًّا ظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ مَا كَانَ مُنْعَقِدًا، وَفِي بَابِ الْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ، فَكَذَا هَهُنَا وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا قَبْلَ السَّلَامِ فَفِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى، فَيُعَادُ لِتَحْقِيقِ مَا شُرِعَ لَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ بِيَقِينٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَوَقُّفَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا بَلْ يَخْرُجُ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يَعُودُ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ، وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَبُطْلَانِهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ تُوجَدْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. (وَالثَّانِي) وُجُودُ الْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ، كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ مَوْلَاهُ، وَالْمَرْأَةِ بِإِقَامَةِ زَوْجِهَا، وَالْجَيْشِ بِإِقَامَةِ الْأَمِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبَعِ ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا تُرَاعَى لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا وَأَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ (وَأَمَّا) الْغَرِيمُ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ: فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السَّفَرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مَلِيًّا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا يَصِيرُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ مُلَازَمَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَ الدَّيْنِ، فَكَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ إنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى التَّبَعُ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي اللُّزُومِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَحَرَجًا، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَيْضًا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَنْقَلِبُ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَصَاعِدًا يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَإِنْ أَدْرَكَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَنْقَلِبُ بِأَنْ اقْتَدَى بِهِ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَالْأَدَاءُ " أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ " مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إلَى الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْوَقْتِ؟ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا دَلِيلُ التَّغْيِيرِ " وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ "، فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَصَارَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِعَدَمِ دَلِيلِ التَّغْيِيرِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ بِالِاقْتِدَاءِ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَوْ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ كَانَ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فَوُجُودُ الْمُغَيِّرِ فِي جُزْئِهَا كَوُجُودِهِ فِي كُلِّهَا، وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ فَلَمَّا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ صَلَّاهُمَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَأَمَّا) اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ الْمُسَافِرِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُقِيمِينَ
خَلْفَهُ " أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمُقْتَدِي فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ إذَا كَانَ مُدْرِكًا أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَفْعٌ أَخِيرٌ فِي حَقِّهِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ إلَى الْعَكْسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِالْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ السَّهْوِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ الْمُقِيمُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا، وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ مِنْهُمْ تَامَّةٌ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادُ، وَلَوْ قَامَ الْمُقِيمُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُقَيِّدْ هَذَا الْمُقِيمُ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ إمَامَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَرْفُضْ وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ صَارَتْ أَرْبَعًا تَبَعًا لِإِمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ النَّفْلِ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَلَوْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ حَتَّى لَوْ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ الْإِمَامَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. وَعَلَى هَذَا إذَا اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَبْطُلُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَصَارَ تَبَعًا لَهُ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُقِيمِينَ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الرَّكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَهَذَا قَدْ صَارَ مُقِيمًا، وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا إذَا صَارَ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ انْتَبَهَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ يُصَلِّي مَا نَامَ عَنْهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَقَدْ انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَالتَّبَعِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُقْتَدِيًا بِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فِي الْوَقْتِ فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ الْمُقِيمِينَ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَا تَنْقَلِبُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ أَرْبَعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُقِيمِ حَتَّى تُعَلَّقَ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ صِحَّةً وَفَسَادًا، وَالْمُسَافِرُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِهِ ابْتِدَاءً؛ وَلِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَوْ لَمْ يَنْقَلِبْ أَرْبَعًا لَمَا جَازَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فِي حَقِّ الْإِمَامِ نَفْلٌ وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِينَ فَرْضٌ فَيَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُقِيمَ إنَّمَا صَارَ إمَامًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي مِقْدَارِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، إذْ الْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُسَافِرِ مَعْنًى فَلِذَلِكَ لَا تَنْقَلِبُ صَلَاتُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عَلَيْهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسَافِرِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قُدِّمَ مُسَافِرٌ فَنَوَى الْمُقَدَّمُ الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَيَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَا يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالسَّلَامِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ رَجُلًا مِنْ الْمُسَافِرِينَ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَيُصَلُّونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وُحْدَانًا؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ. وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ مِنْهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَلَّى بِمُسَافِرِينَ رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ هَهُنَا أَصْلٌ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ " وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ " فَتَتَغَيَّرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ خَلْفَهُ أَوْ قَامَ فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي مَحِلِّهِ، وَصَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَوْ تَكَلَّمَ فِيهِ إمَامُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَكَذَا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ مَا نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا تَبَعًا لِلْإِمَامِ فَحَصَلَ كَلَامُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ فَسَادُهَا
وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا تَبَعًا. وَقَدْ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ فَعَادَ حُكْمُ الْمُسَافِرِينَ فِي حَقِّهِ. (وَأَمَّا) الثَّالِثُ: فَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْوَطَنِ، فَالْمُسَافِرُ إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا، سَوَاءٌ دَخَلَهَا لِلْإِقَامَةِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، وَالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ» . وَلِأَنَّ مِصْرَهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَإِذَا قَرُبَ مِنْ مِصْرِهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنْ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُسَافِرِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ يَصِيرُ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكَافِرَ إذَا خَرَجَا إلَى السَّفَرِ فَبَقِيَ إلَى مَقْصِدِهِمَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ - فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرَ الَّذِي أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ السَّفَرِ صَحِيحٌ مِنْ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي لِكُفْرِهِ فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ الْمَانِعُ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ: فَقَصْدُهُ السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ، وَحِينَ أَدْرَكَ لَمْ يَبْقَ إلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ابْتِدَاءً. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَلَمَّا انْتَهَى قَرِيبًا مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَدَخَلَ الْمِصْرَ لِيَتَوَضَّأَ - إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَحِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ صَارَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا وَهُوَ مُدْرِكٌ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَاللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مُقِيمًا، فَكَذَا إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ حِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ إقَامَتِهِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا بِالدُّخُولِ إلَى مِصْرِهِ، وَكَذَا بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتَ بَاقٍ، فَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلتَّغْيِيرِ، أَرْبَعًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا إنْ اُعْتُبِرَ بِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْمَسْبُوقِ يَتَغَيَّرْ. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّاحِقَ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ؟ وَلَكِنَّهُ قَاضٍ مِثْلَ مَا انْعَقَدَ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَبِفَرَاغِ الْإِمَامِ فَاتَ الْأَدَاءُ مَعَهُ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَضَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأَصْلِ وَهُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَقَدْ خَرَجَ الْأَصْلُ عَنْ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ وَصَارَ مُقِيمًا عَلَى وَظِيفَةِ الْمُسَافِرِينَ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْخَلَفُ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَصِرْ قَضَاءً فَيَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ، وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ مَا سُبِقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَهُ مَعَ الْإِمَامِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَتَغَيَّرَ ثُمَّ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ مِصْرَهُ إذَا دَخَلَهُ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ فَرْضُ السَّفَرِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالدُّخُولِ فِي الْمِصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَبِالْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. مَطْلَبٌ فِي أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ (ثُمَّ) الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ: وَهُوَ وَطَنُ الْإِنْسَانِ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بِهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَصْدِهِ الِارْتِحَالُ عَنْهَا بَلْ التَّعَيُّشُ بِهَا. (وَوَطَنُ) الْإِقَامَةِ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْكُثَ فِي مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ. (وَوَطَنُ) السُّكْنَى: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ الْمُقَامَ فِي غَيْرِ بَلْدَتِهِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِي قَسَّمَ الْوَطَنَ إلَى قِسْمَيْنِ وَسَمَّى أَحَدَهُمَا وَطَنَ قَرَارٍ، وَالْآخَرَ مُسْتَعَارًا، فَالْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَنْتَقِضُ بِمِثْلِهِ لَا غَيْرُ وَهُوَ: أَنْ يَتَوَطَّنَ الْإِنْسَانُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُلَ الْأَهْلَ إلَيْهَا مِنْ بَلْدَتِهِ فَيَخْرُجَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا، حَتَّى لَوْ دَخَلَ فِيهِ مُسَافِرًا لَا تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَ لَهُمْ بِهَا أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا دَارًا لِأَنْفُسِهِمْ انْتَقَضَ وَطَنُهُمْ الْأَصْلِيُّ بِمَكَّةَ، حَتَّى كَانُوا إذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى بِهِمْ: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَدَارٌ فِي بَلْدَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّةِ
أَهْلِهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ أَهْلٍ إلَى أَهْلٍ فِي السَّنَةِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا مِنْ بَلْدَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ وَدَخَلَ فِي أَيِّ بَلْدَةٍ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُهُ فَيَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَا يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ وَلَا بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ، وَالشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا لَا يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِالْعَوْدِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ مُسَافِرًا وَكَانَ وَطَنُهُ بِهَا بَاقِيًا حَتَّى يَعُودَ مُقِيمًا فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ» . (وَوَطَنُ) الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَصَارَ مُعْرِضًا عَنْ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ دَلَالَةً، وَلَا يُنْتَقَضُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ فَلَا يَنْسَخُهُ. (وَوَطَنُ) السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَبِالسَّفَرِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ: إنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إقَامَةٍ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَطَّنَ فِيهِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا. فَأَمَّا بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَصِيرُ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْمُقِيمَ إذَا خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ إلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ يَتَوَطَّنَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ سَفَرٍ لِانْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ، وَكَذَا إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ وَخَرَجَ حَتَّى وَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ مَسِيرَةُ مَا دُونَ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ: يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ يُخَرَّجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْهُلَ تَخْرِيجُ الْبَاقِي خُرَاسَانِيٌّ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِالْكُوفَةِ - فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَقَدْ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِالْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ أَيْضًا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَطَنَ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَا وَطَنُهُ بِالْحِيرَةِ اُنْتُقِضَ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ، فَكَمَا خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ صَارَ مُسَافِرًا، وَلَا وَطَنَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَدْخُلَ بَلْدَتَهُ بِخُرَاسَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى الْمُقَامَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطَنٍ مِثْلَهُ وَلَا سَفَرٍ فَيَبْقَى وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ كَمَا كَانَ. وَلَوْ أَنَّ خُرَاسَانِيًّا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا يُرِيدُ مَكَّةَ، فَقَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَ حَاجَةً لَهُ بِالْكُوفَةِ فَعَادَ - فَإِنَّهُ يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قَدْ بَطَلَ بِالسَّفَرِ كَمَا يَبْطُلُ بِوَطَنٍ مِثْلِهِ. وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا خَرَجَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ عَادَ مِنْ الْحِيرَةِ يُرِيدُ الشَّامَ فَمَرَّ بِالْقَادِسِيَّةِ قَصَرَ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَالْحِيرَةِ سَوَاءٌ، فَيَبْطُلُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي، وَلَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ يَرْتَحِلَ إلَى الشَّامِ صَلَّى بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ (وَأَمَّا) الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ لِلْوَطَنِ: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ يَصِيرُ مُقِيمًا حِينَ عَزَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَصَحَّ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مُدَّةُ سَفَرٍ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إلَى جِهَةٍ. وَقَصَدَ السَّفَرَ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ يَكْمُلْ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَهَا، ثُمَّ أَحْدَثَ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ هُنَالِكَ فَنَوَى أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ فَحِينَ نَوَى ذَلِكَ صَارَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ دَخَلَ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَصَدَ الدُّخُولَ فِي الْمِصْرِ بِنِيَّةِ تَرْكِ السَّفَرِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَصَحَّتْ، فَإِذَا دَخَلَهُ صَلَّى أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ صَلَاةُ
فصل أركان الصلاة
الْمُقِيمِينَ، فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمِصْرَ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ فَمَشَى إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ - صَلَّى أَرْبَعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِالنِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا، فَبِالْمَشْيِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِنْ حَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ السَّفَرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُسَافِرًا لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ، فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَنَعَتْهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ شَرْعًا، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ، وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ تَكَلَّمَ حِينَ عَلِمَ بِالْمَاءِ أَمَامَهُ، أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي مَكَانِهِ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا، وَلَوْ مَشَى أَمَامَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا ثَانِيًا بِالْمَشْيِ إلَى الْمَاءِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَيُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ أَخْرَجَتْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَرْكَانُهَا فَسِتَّةٌ: مِنْهَا الْقِيَامُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مُتَرَكِّب مِنْ مَعَانٍ مُتَغَايِرَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمُرَكَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا كَانَ كُلُّ مَعْنًى مِنْهَا رُكْنًا لِلْمُرَكَّبِ كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ وَكُلُّ مَا يَتَغَيَّرُ الشَّيْءُ بِهِ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ - كَانَ شَرْطًا، كَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَهَذَا تَعْرِيفُ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ بِالتَّحْدِيدِ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُمَا بِالْعَلَامَةِ فِي هَذَا الْبَابِ: فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُومُ مِنْ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ إلَى انْتِهَائِهَا كَانَ شَرْطًا، وَمَا يَنْقَضِي ثُمَّ يُوجَدُ غَيْرُهُ فَهُوَ رُكْنٌ، وَقَدْ وُجِدَ حَدُّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتُهُ فِي الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ مَعَ الْمَعَانِي الْأُخَرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ، وَكَذَا لَا يَدُومُ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا، بَلْ يَنْقَضِي ثُمَّ يُوجَدُ غَيْرُهُ فَكَانَ رُكْنًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ (وَمِنْهَا) الرُّكُوعُ، (وَمِنْهَا) السُّجُودُ، لِوُجُودِ حَدِّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وَالْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الرُّكُوعِ أَصْلُ الِانْحِنَاءِ وَالْمَيْلِ، وَمِنْ السُّجُودِ أَصْلُ الْوَضْعِ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ عَلَيْهِمَا فَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرْضٌ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ فَرْضٌ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ ذِكْرِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ سُنَنِهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ إقَامَةِ فَرْضِ السُّجُودِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: هُوَ بَعْضُ الْوَجْهِ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: السُّجُودُ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ: الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» . (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالسُّجُودِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عُضْوٍ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ فَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَنَحْمِلُهُ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْجَبْهَةُ أَوْ الْأَنْفُ غَيْرَ عَيْنٍ، حَتَّى لَوْ وَضَعَ أَحَدَهُمَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يُجْزِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَحْدَهَا جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَوْ وَضَعَ الْأَنْفَ وَحْدَهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: هُوَ الْجَبْهَةُ عَلَى التَّعْيِينِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَيْهَا حَالَ الِاخْتِيَارِ لَا يُجْزِيهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْأَنْفَ وَحْدَهُ فِي حَالِ الْعُذْرِ يُجْزِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ. احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنْ الْأَرْضِ» ، أَمَرَ بِوَضْعِهِمَا جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَحْدَهَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، وَالْأَنْفُ تَابِعٌ، وَلَا عِبْرَةَ لِفَوَاتِ التَّابِعِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ مُطْلَقًا عَنْ التَّعْيِينِ ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْوَجْهِ وَمَا سِوَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَالْأَنْفُ بَعْضُ الْوَجْهِ كَالْجَبْهَةِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى تَعْيِينِ الْجَبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُهَا، وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الرَّدِّ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. هَذَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَكَذَا إذَا خَافَ زِيَادَةَ الْعِلَّةِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَفِيهِ أَيْضًا حَرَجٌ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَإِنْ عَجَزَ
عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقُعُودِ يَسْتَلْقِي وَيُومِئُ إيمَاءً؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ هُوَ الصَّلَاةُ أَيْ: صَلُّوا، وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي رُخْصَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا إنْ اسْتَطَاعَ، وَإِلَّا فَقَاعِدًا، وَإِلَّا فَمُضْطَجِعًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ تُومِئُ إيمَاءً» ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السُّجُودُ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ أُقِيمَ مَقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَحَدَهُمَا أَخْفَضُ مِنْ الْآخَرِ، كَذَا الْإِيمَاءُ بِهِمَا وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ: «إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ فَلْيَجْعَلْ سُجُودَهُ رُكُوعًا وَرُكُوعَهُ إيمَاءً» وَالرُّكُوعُ أَخْفَضُ مِنْ الْإِيمَاءِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّلَاةِ مُسْتَلْقِيًا جَوَابُ الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْقُعُودِ يُصَلِّي عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «فَعَلَى جَنْبِكَ تُومِئُ إيمَاءً» ؛ وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا، وَلِهَذَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ هَكَذَا لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ. فَأَمَّا الْمُسْتَلْقِي يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ رِجْلَاهُ فَقَطْ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي الْمَرِيضِ: إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى الْقَفَا يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِقَبُولِ الْعُذْرِ» ، وَلِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَذَلِكَ فِي الِاسْتِلْقَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ هُوَ تَحْرِيكُ الرَّأْسِ، فَإِذَا صَلَّى مُسْتَلْقِيًا يَقَعُ إيمَاؤُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَإِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنْبِ يَقَعُ مُنْحَرِفًا عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى. وَقِيلَ: إنَّ الْمَرَضَ الَّذِي كَانَ بِعِمْرَانَ كَانَ بَاسُورًا، فَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الِاضْطِجَاعُ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَضَعَ جَنْبَهُ إذَا نَامَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْقِيًا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِالْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْتَلْقٍ فَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى الْجَنْبِ؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ مُتَرَكِّبٌ مِنْ الضُّلُوعِ فَكَانَ لَهُ النِّصْفُ مِنْ الْجَنْبَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ عَلَى جَنْبٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَقْرَبَ إلَى مَعْنَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَكَانَ أَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَضْعِ فِي اللَّحْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي اللَّحْدِ فِعْلٌ يُوجِبُ تَوْجِيهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ لِيُوضَعَ مُسْتَلْقِيًا، فَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْوَضْعِ عَلَى الْجَنْبِ فَوُضِعَ كَذَلِكَ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ، لَكِنْ نُزِعَ الْمَاءُ مِنْ عَيْنَيْهِ فَأُمِرَ أَنْ يَسْتَلْقِيَ أَيَّامًا عَلَى ظَهْرِهِ وَنُهِيَ عَنْ الْقُعُودِ وَالسُّجُودِ - أَجْزَأَهُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ وَيُصَلِّيَ بِالْإِيمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُجْزِئُهُ، (وَاحْتُجَّ) بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ طَبِيبًا قَالَ لَهُ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ: لَوْ صَبَرْتَ أَيَّامًا مُسْتَلْقِيًا صَحَّتْ عَيْنَاكَ، فَشَاوَرَ عَائِشَةَ وَجَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يُرَخِّصُوا لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ مِتَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِصَلَاتِكَ. (وَلَنَا) أَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاء كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبْعٍ لَوْ قَعَدَ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالِاسْتِلْقَاءِ، فَكَذَا إذَا خَافَ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ صِدْقُ ذَلِكَ الطَّبِيبِ فِيمَا يَدَّعِي، ثُمَّ إذَا صَلَّى الْمَرِيضُ قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ كَيْفَ يَقْعُدُ؟ أَمَّا فِي حَالِ التَّشَهُّدِ: فَإِنَّهُ يَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ وَفِي حَالِ الرُّكُوعِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْعُدُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَرَبِّعًا، وَإِنْ شَاءَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا افْتَتَحَ تَرَبَّعَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَجَلَسَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ السَّجْدَةَ وَقَالَ زُفَرُ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عُذْرَ الْمَرَضِ أَسْقَطَ عَنْهُ الْأَرْكَانَ فَلَأَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْهَيْئَاتِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا
بِالْإِيمَاءِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئهُ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» ، عَلَّقَ الْجَوَازَ قَاعِدًا بِشَرْطِ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ، وَلَا عَجْزَ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْإِيمَاءُ حَالَةَ الْقِيَامِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ رَاجِلًا، أَوْ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَهُوَ رَاجِلٌ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا بِالْإِيمَاءِ، كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَانَ عَنْ الْقِيَامِ أَعْجَزَ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ أَشَقُّ مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ، وَالْغَالِبُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ فِي الْأَحْكَامِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى صَلَّى قَائِمًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ فِعْلًا لَيْسَ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الرُّكُوعَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ السُّجُودَ أَصْلٌ وَسَائِرَ الْأَرْكَانِ كَالتَّابِعِ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ السُّجُودُ مُعْتَبَرًا بِدُونِ الْقِيَامِ كَمَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ الْقِيَامُ مُعْتَبَرًا بِدُونِ السُّجُودِ بَلْ لَمْ يُشْرَعْ بِدُونِهِ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّابِعُ ضَرُورَةً، وَلِهَذَا سَقَطَ الرُّكُوعُ عَمَّنْ سَقَطَ عَنْهُ السُّجُودُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ، وَكَانَ الرُّكُوعُ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ لَهُ، فَكَذَا الْقِيَامُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ أَشَدُّ تَعْظِيمًا وَإِظْهَارًا لِذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ الْقِيَامِ، ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ تَابِعًا لَهُ وَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ فَالْقِيَامُ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ وَصَلَّى قَائِمًا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِدُونِ السُّجُودِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْأَصْلُ فَكَذَا التَّابِعُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّ الْعَجْزَ شَرْطٌ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ هَهُنَا نَظَرًا إلَى الْغَالِبِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْعَجْزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْقُدْرَةُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، ثُمَّ الْمَرِيضُ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ، فَأَمَّا فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ لِلْعُذْرِ، فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ، حَتَّى لَوْ صَلَّى قَبْلَ وَقْتِهَا أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجْزِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا أَوْمَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَتَسْقُطُ بِالْعَجْزِ كَالْقِيَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا سَقَطَتْ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ؟ وَكَذَا إذَا صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ أَجْزَأَهُ، بِأَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا فَتَحَرَّى وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، كَمَا فِي حَقِّ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ لَا يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ يُصَلِّي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا ذَلِكَ، وَهَلْ يُعِيدُهَا إذَا بَرِئَ؟ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يُعِيدُهَا وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّرَائِطِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْأَرْكَانِ، وَثَمَّةَ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ فَهَهُنَا أَوْلَى وَلَوْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ جُرْحٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ عَلَى الْجَبْهَةِ لَمْ يُجْزِهِ الْإِيمَاءُ، وَعَلَيْهِ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ مَسْجِدٌ كَالْجَبْهَةِ خُصُوصًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى السُّجُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُجْزِئُهُ الْإِيمَاءُ. وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ وَهُوَ تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: يُومِئُ بِالْحَاجِبَيْنِ أَوَّلًا، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْعَيْنَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ وَبِحَاجِبَيْهِ وَلَا يُومِئُ بِقَلْبِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ دَائِمٌ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْعَجْزِ، فَمَا عَجَزَ عَنْهُ يَسْقُطُ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِهِ، فَإِذَا قَدَرَ بِالْحَاجِبَيْنِ كَانَ الْإِيمَاءُ بِهِمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الرَّأْسِ، فَإِنْ عَجَزَ الْآنَ يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَذَا الْعَيْنَانِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ النِّيَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ صِحَّتِهَا؟ فَعِنْدَ الْعَجْزِ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ تُؤَدَّى بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَيْسَ بِذِي حَظٍّ مِنْ أَرْكَانِهَا بَلْ هُوَ ذُو حَظٍّ مِنْ الشَّرْطِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْإِيمَاءِ فَلَا يُؤَدَّى بِهِ الْأَرْكَانُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَرِيضِ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى الْقَفَا يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِقَبُولِ الْعُذْرِ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا كَانَ مَعْذُورًا، وَلِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّنَفُّلُ بِهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلَوْ كَانَ صَلَاةً لَجَازَ كَمَا لَوْ تَنَفَّلَ قَاعِدًا إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ الصَّلَاةِ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِالْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ فَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مُقَامَهُ، ثُمَّ إذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ بِحُكْمِ
الْعَجْزِ فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ وَقْتَ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا إذَا بَرِئَ أَوْ صَحَّ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَيُؤَاخَذُ بِقَضَائِهَا، بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ فَيَمْنَعُ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ دَخَلَتْ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَقَدْ فَاتَتْ لَا بِتَضْيِيعِهِ الْقُدْرَةَ بِقَصْدِهِ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَالَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَخْتَلِفُ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ عَنْ الْحَائِضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ يُعْجِزُهَا عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ أَفَاقَ قَضَى مَا فَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَقَالَ بِشْرٌ: الْإِغْمَاءُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْإِغْمَاءِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِغْمَاءُ يُسْقِطُ إذَا اسْتَوْعَبَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا وَتُذْكَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَ بَيَانِ مَا يُقْضَى مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَمَا لَا يُقْضَى مِنْهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنْ كَانَ شُرُوعُهُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ بُنِيَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُف - اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْتَقْبِلُ قِيَاسًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَائِمَ لَا يَقْتَدِي بِالْقَاعِدِ فَكَذَا لَا يَبْنِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ عَلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا وَإِنْ كَانَ شُرُوعُهُ بِالْإِيمَاءِ يَسْتَقْبِلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَبْنِي؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا يُذْكَرُ. (وَأَمَّا) الصَّحِيحُ إذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ عَلَى حَسَبِ إمْكَانِهِ قَاعِدًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا صَارَ إلَى الْإِيمَاءِ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ مُخْتَلِفَانِ فِعْلًا فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَثَمَّةَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِالصَّحِيحِ لِمَا يُذْكَرُ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ هَهُنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَنَى لَصَارَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ كَامِلًا وَبَعْضَهَا نَاقِصًا، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ لَأَدَّى الْكُلَّ نَاقِصًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. وَلَوْ رُفِعَ إلَى وَجْهِ الْمَرِيضِ وِسَادَةٌ أَوْ شَيْءٌ فَسَجَدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُومِئَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي حَقِّهِ الْإِيمَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُفْعَلَ هَذَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ فَقَالَ: إنْ قَدَرْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ وَإِلَّا فَأَوْمِ بِرَأْسِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ يَعُودُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي وَيُرْفَعُ إلَيْهِ عُودٌ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَنَزَعَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَرَضَ لَكُمْ الشَّيْطَانُ، أَوْمِ لِسُجُودِك. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ مَرِيضٍ فَقَالَ: أَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى؟ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يُنْظَرْ: إنْ كَانَ يَخْفِضُ رَأْسَهُ لِلرُّكُوعِ شَيْئًا ثُمَّ لِلسُّجُودِ ثُمَّ يُلْزَقُ بِجَبِينِهِ يَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِيمَاءِ لَا لِلسُّجُودِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ الْوِسَادَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ يَسْجُدُ عَلَيْهَا - جَازَتْ صَلَاتُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَسْجُدُ عَلَى مِرْفَقَةٍ مَوْضُوعَةٍ بَيْنَ يَدَيْهَا لِرَمَدٍ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ إذَا كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ وَبِهِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ، مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ أَوْ السَّبُعِ، أَوْ كَانَ فِي طِينٍ أَوْ رَدْغَةٍ يُصَلِّي الْفَرْضَ عَلَى الدَّابَّةِ قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَجَزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَيُومِئُ إيمَاءً، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُومِئُ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ» لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ بِجَمَاعَةٍ سَوَاءٌ تَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ أَوْ تَوَسَّطَهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجُوزَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِالْإِمَامِ إذَا كَانَتْ دَوَابُّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ دَابَّةِ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فُرْجَةٌ إلَّا بِقَدْرِ الصَّفِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَكَانِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ لِيَثْبُتَ اتِّحَادُ الصَّلَاتَيْنِ تَقْدِيرًا بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ الْمَكَانِ، وَهَذَا مُمْكِنٌ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ جُعِلَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ شَرْعًا، وَكَذَا فِي الصَّحْرَاءِ تُجْعَلُ الْفُرُجُ الَّتِي بَيْنَ
الصُّفُوفِ مَكَانَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْغَلُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَيْضًا فَصَارَ الْمَكَانُ مُتَّحِدًا، وَلَا يُمْكِنُ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهَا بِالْإِيمَاءِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَلَمْ تَكُنْ الْفُرَجُ الَّتِي بَيْنَ الصُّفُوفِ وَالدَّوَابِّ مَكَانَ الصَّلَاةِ فَلَا يَثْبُتُ اتِّحَادُ الْمَكَانِ تَقْدِيرًا، فَفَاتَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلَكِنْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ حَتَّى لَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحْمَلٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي شِقَّيْ مَحْمَلٍ وَاحِدٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ عَلَى حِدَةٍ، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى حِمَارِهِ وَبَعِيرِهِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى سَرْجِهِ قَذَرٌ جَازَتْ صَلَاتُهُ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ الرِّكَابَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ وَأَوَّلَا الْعُذْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ بِالْعُرْفِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا تَجُوزُ - كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَصْلِ - لِتَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالدَّابَّةُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْنَعْ الْجَوَازُ فَهَذَا أَوْلَى وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - مَعَ أَنَّ الْأَرْكَانَ أَقْوَى مِنْ الشَّرَائِطِ - فَلَأَنْ يَسْقُطَ شَرْطُ طَهَارَةِ الْمَكَانِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَكَانِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي عَلَى مَوْضِعِ سَرْجِهِ وَرِكَابَيْهِ هَهُنَا رُكْنًا لِيَشْتَرِطَ طَهَارَتَهَا؛ إنَّمَا الَّذِي يُوجَدُ مِنْهُ الْإِيمَاءُ، وَهُوَ إشَارَةٌ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ طَهَارَةُ مَوْضِعِ السَّرْجِ وَالرِّكَابَيْنِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ كَيْفَمَا كَانَتْ الدَّابَّةُ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى السَّيْرِ، فَأَمَّا لِعُذْرِ الطِّينِ وَالرَّدْغَةِ فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ سَائِرَةً؛ لِأَنَّ السَّيْرَ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَمْ تُوجَدْ وَلَوْ اسْتَطَاعَ النُّزُولَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ لِلطِّينِ وَالرَّدْغَةِ يَنْزِلُ وَيُومِئُ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ يَنْزِلُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ إذَا صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَنْ يَجُوزَ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِيَامِ وَالسَّفِينَةُ جَارِيَةٌ، وَلَوْ قَامَ يَدُورُ رَأْسُهُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ أَنَّ السَّفِينَةَ لَا تَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً، فَإِنْ كَانَتْ وَاقِفَةً فِي الْمَاءِ أَوْ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى الْأَرْضِ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَقَرَّتْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأَرْضِ، وَلَا تَجُوزُ إلَّا قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ. وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا قَاعِدًا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى الْأَرْضِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ إمْكَانِ النُّزُولِ كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ إلَى الشَّطِّ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ دَوَرَانَ الرَّأْسِ فِي السَّفِينَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْقُعُودِ، وَهُوَ آمِنٌ عَنْ الدَّوْرَانِ فِي الشَّطِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَصَلَّى فِيهَا قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السَّفِينَةِ قُعُودًا، وَلَوْ شِئْنَا لَخَرَجْنَا إلَى الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ السَّفِينَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ، وَإِذَا دَارَتْ السَّفِينَةُ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ حَيْثُ دَارَتْ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَذُّرٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا إمْكَانَ وَأَمَّا إذَا صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِيَامِ - بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَدُورُ رَأْسُهُ لَوْ قَامَ - وَعَنْ الْخُرُوجِ إلَى الشَّطِّ - أَيْضًا - يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِعُذْرِ الْعَجْزِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقُعُودِ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَصَلَّى بِالْإِيمَاءِ لَا يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ وَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ أَوْ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الشَّطِّ فَصَلَّى قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - وَقَدْ أَسَاءَ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُجْزِئُهُ. (وَاحْتَجَّا) بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» ، وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لِلْقِيَامِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْحَبَشَةِ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا إلَّا أَنْ يَخَافَ الْغَرَقَ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِعُذْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ. (وَلِأَبِي) حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الصَّلَاةِ فِي
السَّفِينَةِ فَقَالَا: إنْ كَانَتْ جَارِيَةً يُصَلِّي قَاعِدًا، وَإِنْ كَانَتْ رَاسِيَةً يُصَلِّي قَائِمًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ لَا؛ وَلِأَنَّ سَيْرَ السَّفِينَةِ سَبَبٌ لِدَوَرَانِ الرَّأْسِ غَالِبًا، وَالسَّبَبَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ إذَا كَانَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمُسَبِّبِ حَرَجٌ، أَوْ كَانَ الْمُسَبِّبُ بِحَالٍ يَكُونُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَأَلْحَقُوا النَّادِرَ بِالْعَدَمِ، وَلِهَذَا أَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ مَقَامَ خُرُوجِ الْمَذْيِ، لِمَا أَنَّ عَدَمَ الْخُرُوجَ عِنْدَ ذَلِكَ نَادِرٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ، وَهَهُنَا عَدَمُ دَوْرَانِ الرَّأْسِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَصَارَ كَالرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهِيَ تَسِيرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِيَامُ لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عَلَيْهَا غَالِبًا، كَذَا هَذَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ، فَإِنْ صَلَّوْا فِي السَّفِينَةِ بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ السَّفِينَتَانِ مَقْرُونَتَيْنِ - جَازَ لِأَنَّهُمَا بِالِاقْتِرَانِ صَارَتَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ تَخَلُّلَ مَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمُقْتَدُونَ عَلَى الْحَدِّ وَالسَّفِينَةُ وَاقِفَةٌ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ طَرِيقٌ أَوْ مِقْدَارُ نَهْرٍ عَظِيمٍ - لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَمِثْلَ هَذَا النَّهْرِ يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فِي مَوْضِعِهِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ السَّفِينَةِ يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ فِي السَّفِينَةِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ كَالْبَيْتِ، وَاقْتِدَاءَ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمَامَ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ كَذَا هَهُنَا. (وَمِنْهَا) - الْقِرَاءَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِوُجُودِ حَدِّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتِهِ وَهُمَا مَا بَيَّنَّا، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْأَصْلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ. (وَأَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهُمَا اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ لَا لِلْأَذْكَارِ، حَتَّى قَالَا: يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَالْمَرْئِيُّ هُوَ الْأَفْعَالُ دُونَ الْأَقْوَالِ؛ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ اسْمًا لِلْأَفْعَالِ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ عَنْ الْعَاجِزِ عَنْ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَذْكَارِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ الْأَخْرَسُ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَالرُّؤْيَةُ أُضِيفَتْ إلَى ذَاتِهِ لَا إلَى الصَّلَاةِ، فَلَا يَقْتَضِي كَوْنَ الصَّلَاةِ مَرْئِيَّةً، وَفِي كَوْنِ الْأَعْرَاضِ مَرْئِيَّةً اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا جَائِزَةُ الرُّؤْيَةِ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ، يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ، عَلَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الدَّلَائِلِ فَنُثْبِتُ فَرْضِيَّةَ الْأَقْوَالِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَفَرْضِيَّةَ الْأَفْعَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَسُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْ الْعَاجِزِ عَنْ الْأَفْعَالِ لِكَوْنِ الْأَفْعَالِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَقْوَالِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْهَا فَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْأَكْثَرِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَكَذَا الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا قِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ، إذْ الْأَعْجَمُ اسْمٌ لِمَنْ لَا يَنْطِقُ. (وَلَنَا) مَا تَلَوْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْنَا مِنْ السُّنَّةِ، وَفِي الْبَابِ نَصٌّ خَاصٌّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا غَيْرُ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: أَقْرَأُ خَلْفَ إمَامِي؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا قِرَاءَةً وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَلَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُخَافِتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ قَوْلَانِ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالِاقْتِدَاءِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ
وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] أَمْرٌ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ، وَالِاسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالْإِنْصَاتُ مُمْكِنٌ فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِمَامُهُمْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» الْحَدِيثُ أَمْرٌ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعِنْدَنَا «لَا صَلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةٍ» أَصْلًا، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ بِدُونِ قِرَاءَةٍ أَصْلًا، بَلْ هِيَ صَلَاةٌ بِقِرَاءَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لِلْمُقْتَدِي، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» ، ثُمَّ الْمَفْرُوضُ هُوَ أَصْلُ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَيْنًا فِي الْأُولَيَيْنِ فَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ (وَأَمَّا) بَيَانُ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَمَحَلُّهَا الرَّكْعَتَانِ الْأُولَيَانِ عَيْنًا فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَكْعَتَانِ مِنْهَا غَيْرُ عَيْنٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ وَأَشَارَ فِي الْأَصْلِ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ يَقْضِيهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَقَدْ جَعَلَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ مَحَلَّهَا الْأُولَيَانِ عَيْنًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمَفْرُوضُ هُوَ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ احْتَجَّ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَإِذَا قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّرْعِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» ، أَثْبَتَ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَةٍ فَثَبَتَتْ الصَّلَاةُ ضَرُورَةً، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: اسْمُ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ رَكْعَةٍ فَلَا تَجُوزُ كُلُّ رَكْعَةٍ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَرْضٌ فِي النَّفْلِ فَفِي الْفَرْضِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَائِرُ الْأَرْكَانِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَذَا الْقِرَاءَةُ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: الْقِرَاءَةُ فِي الْأَكْثَرِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْكُلِّ تَيْسِيرًا. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَغْرِبِ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَجَهَرَ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ، وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَقُولَانِ: الْمُصَلِّي بِالْخِيَارِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَالَتْ: لِيَكُنْ عَلَى وَجْهِ الثَّنَاءِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ذِكْرٌ يُخَافِتُ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا تَكُونُ فَرْضًا، كَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الْأَرْكَانِ عَلَى الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَرْضًا لَمَا خَالَفَتْ الْأُخْرَيَانِ الْأُولَيَيْنِ فِي الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَحْنُ مَا عَرَفْنَا فَرْضِيَّةَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالثَّانِي أَنَّا مَا عَرَفْنَا فَرْضِيَّتَهَا بِنَصِّ الْأَمْرِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى، وَالتَّكْرَارُ فِي الْأَفْعَالِ إعَادَةٌ مِثْلُ الْأَوَّلِ، فَيَقْتَضِي إعَادَةَ الْقِرَاءَةِ، بِخِلَافِ الشَّفْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْرَارِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَانِ، زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الشَّفْعَانِ فِي وَصْفِ الْقِرَاءَةِ مِنْ حَيْثُ الْجَهْرُ وَالْإِخْفَاءُ، وَفِي قَدْرِهَا وَهُوَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، عَلَى أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِيهِمَا بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَقَدْ خَرَجَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مِقْدَارٍ فَيُجْعَلُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَمَّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَوْ سَبَّحَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ مَكَانَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ سَكَتَ - أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا إنْ كَانَ عَامِدًا، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ سَاهِيًا، كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: إنَّ الْمُصَلِّيَ بِالْخِيَارِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَهَذَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُمَا كَالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَأَمَّا) بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ (أَمَّا) الْكَلَامُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَفِيمَا يُكْرَهُ فَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ، طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] . وَقَوْلِهِ {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] ، وَقَوْلِهِ {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] رِوَايَةٍ الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ قُدِّرَ الْفَرْضُ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولَانِ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَمْرٌ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَعَسَى لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ. وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَيْ الْجَمْعِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ فَيَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَيُقَالُ قَرَأْتُ الشَّيْءَ قُرْآنًا أَيْ جَمَعْتُهُ، فَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتُهُ فَقَدْ قَرَأْتُهُ. وَقَدْ حَصَلَ مَعْنَى الْجَمْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، وَكَذَا الْعُرْفُ ثَابِتٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ التَّامَّةَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ فِي الْعُرْفِ. فَأَمَّا مَا دُونَ الْآيَةِ فَقَدْ يُقْرَأُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقُرْآنِ فَيُقَالُ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا بِالْآيَةِ التَّامَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِتَسْمِيَتِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ وَقَدْ قَرَّرَ الْقُدُورِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. وَقَالَ: الْمَفْرُوضُ مُطْلَقُ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ مَا دُونَ الْآيَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْرَأُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَإِنَّ الْآيَةَ التَّامَّةَ قَدْ تُقْرَأُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ قَدْ تُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ لَا لِقَصْدِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ آيَةٌ تَامَّةٌ؟ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا قَرَأَ عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَوَازُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ الْجَوَازُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَحْسَنَ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ، وَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ عِنْدَهُ وَلَا يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، فَهُمْ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] ، فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، وَالْإِعْجَازُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ، وَلِهَذَا لَمْ تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَلَا يُؤْمَرُ بِقِرَاءَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] . وَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ فِي كُتُبِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِهَذَا الْمَعْنَى. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ - (فَالْجَوَابُ) عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَا يَنْفِي
أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا قُرْآنًا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ سُمِّيَتْ قُرْآنًا لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْقُرْآن، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى إرَادَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ دُونَ الْعِبَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ يُوجَدُ فِي الْفَارِسِيَّةِ فَجَازَ تَسْمِيَتُهَا قُرْآنًا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعَجَمِ كَانَ قُرْآنًا وَالثَّانِي: إنْ كَانَ لَا يُسَمَّى غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَكِنَّ قِرَاءَةَ الْعَرَبِيَّةَ مَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تُسَمَّى قُرْآنًا بَلْ لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَرَبِيَّةً لَا يَتَأَدَّى بِهَا كَلَامُ اللَّهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، فَضْلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا وَاجِبًا، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا تُفْتَرَضُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَعُذْرُهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّهُ قُرْآنٌ عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، فَإِذَا زَالَ اللَّفْظُ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى قُرْآنًا فَلَا مَعْنَى لِلْإِيجَابِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَهُوَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَالْقَوْلُ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَا هُوَ مُفْسِدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْإِعْجَازَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ - فَنَعَمْ لَكِنَّ قِرَاءَةَ مَا هُوَ مُعْجِزُ النَّظْمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَرَدَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ لَا بِقِرَاءَةِ مَا هُوَ مُعْجِزٌ، وَلِهَذَا جَوَّزَ قِرَاءَةَ آيَةٍ قَصِيرَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ مُعْجِزَةً مَا لَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفَصْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مَمْنُوعٌ. وَلَوْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ الزَّبُورِ فِي الصَّلَاةِ إنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّفٍ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيفِهِمْ بِقَوْلِهِ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَقْرُوءَ مُحَرَّفٌ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَشَهَّدَ أَوْ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَلَوْ أَمَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ لَبَّى عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ بِهِ الْإِعْلَامُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهَا سُنَّةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ؟ . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ السَّجْدَةِ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» ، عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَأَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْفَرَائِضِ إذْ لَمْ يَتِمَّ أَصْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدُ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تَمَامَ قَبْلَهَا إذْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَرَجَعَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمَا رَجَعَ كَمَا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ، لَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ هُوَ قَدْرُ التَّشَهُّدِ، حَتَّى لَوْ انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ هَذَا الْقَدْرَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» ، عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَدَلَّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ فَهَذِهِ السِّتَّةُ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُوَلَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْبَاقِيَتَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَعْدَةُ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ مَالَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا فَرْضٌ تَنْعَدِمُ الصَّلَاةُ بِانْعِدَامِهَا كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُتَرَكِّبِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ بِدُونِ الْقُعُودِ، وَلِهَذَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا وَوَقْتَ الزَّوَالِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْقَعْدَةُ، وَلَوْ أَتَى بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَحْنَثُ، وَلِأَنَّ الْقَعْدَةَ بِنَفْسِهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِرَاحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَتَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي كَوْنِهَا رُكْنًا أَصْلِيًّا، فَلَمْ تَكُنْ هِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فُرُوضِهَا حَتَّى لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ
فصل شرائط أركان الصلاة
بِدُونِهَا، وَيُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَأَمَّا التَّحْرِيمَةُ فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هِيَ شَرْطٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ فِي بَابِ الْحَجِّ أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ رُكْنٌ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ بِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ بِأَنْ يُحْرِمَ لِلْفَرْضِ وَيَفْرُغَ مِنْهُ وَيَشْرَعَ فِي النَّفْلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمَةٍ جَدِيدَةٍ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى النَّفَلُ بِتَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ كَمَا يَتَأَدَّى بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِلْفَرْضِ وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَتْ رُكْنًا وَقَدْ انْقَضَى الْفَرْضُ بِأَرْكَانِهِ فَتَنْقَضِي التَّحْرِيمَةُ أَيْضًا. (وَجْهُ) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا وُجِدَتْ عَلَامَةُ الْأَرْكَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ بَلْ تَنْقَضِي، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] عَطَفَ الصَّلَاةَ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمَةُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ أَنْ تُوجَدَ الصَّلَاةُ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَوْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الذِّكْر لِاسْتِحَالَةِ انْعِدَامِ الشَّيْءِ فِي حَالِ وُجُودِ رُكْنِهِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالثَّانِي - أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَا يَتَحَقَّقُ الْمُغَايَرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ غَيْرُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنَهُ، وَكَذَا الْمَوْجُودُ فِيهَا حَدَّ الشَّرْطِ لَا حَدُّ الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الصَّلَاةَ بِهَا، وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا مَعَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ فَكَانَتْ شَرْطًا، وَكَذَا عَلَامَةُ الشُّرُوطِ فِيهَا مَوْجُودَةٌ، فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ الِانْزِجَارِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّ الْعَلَامَةَ إذَا خَالَفَتْ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْحَدُّ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَاذِبَةٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لَهَا بَلْ، لِلْقِيَامِ الْمُتَّصِلِ بِهَا، وَالْقِيَامُ رُكْنٌ، حَتَّى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِالرُّكْنِ جَوَّزْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَقْتِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَرْكَانِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الشَّرَائِطِ أَنَّهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جَمِيعًا، وَهُوَ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ، وَهُوَ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ. (أَمَّا) شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ: (فَمِنْهَا) الطَّهَارَةُ بِنَوْعَيْهَا مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ، وَالطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَمَكَانِ الصَّلَاةِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ. (أَمَّا) طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَطَهَارَةُ الْبَدَنِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ، وَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ: {لِيُطَهِّرَكُمْ} [الأنفال: 11] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ» . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» ، وَالْإِنْقَاءُ هُوَ التَّطْهِيرُ، فَدَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَالْحُكْمِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْقُولُ كَذَا يَقْتَضِي مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - وَعَمَّ نَوَالُهُ -، وَخِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِبَدَنٍ طَاهِرٍ وَثَوْبٍ طَاهِرٍ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ الْقِيَامِ بِبَدَنٍ نَجِسٍ وَثَوْبٍ نَجِسٍ وَعَلَى مَكَان نَجِسٍ، كَمَا فِي خِدْمَةِ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجَاسَةً مَرْئِيَّةً فَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تُوجِبُ اسْتِقْذَارَ مَا حَلَّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَافِحَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتَنَعَ وَقَالَ: إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَانَ قِيَامُهُ مُخِلًّا بِالتَّعْظِيمِ؟ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ نَجَاسَةٌ رَأْسًا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ بَادِيَةٌ عَادَةً فَيَتَّصِلُ بِهَا الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ، فَيَجِبُ غَسْلُهَا تَطْهِيرًا لَهَا مِنْ الْوَسَخِ، وَالدَّرَنِ فَتَتَحَقَّقُ الزِّينَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُلُوكِ لِلْخِدْمَةِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَأَنْظَفِهَا الَّتِي أَعَدَّهَا لِزِيَارَةِ الْعُظَمَاءِ،
وَلِمَحَافِلِ النَّاسِ، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَعَمِّمًا أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، لِمَا أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِرَامِ وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ تَذْكِيرًا لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ مِنْ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَآثِمِ، فَأَمَرَ لَا لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ تَطْهِيرًا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْحَدَثِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ؟ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا سَبَبِ مَأْثَمٍ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي بَاطِنِهِ أَسْبَابُ الْمَآثِمِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ دَلَالَةً وَتَنْبِيهًا عَلَى تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَتَطْهِيرُ النَّفَسِ عَنْهَا وَاجِبٌ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَالثَّالِثُ - أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ وَرَاءَ النِّعْمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا الصَّلَاةُ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَسَائِلُ إلَى اسْتِيفَاءِ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ، بَلْ بِهَا تُنَالُ جُلُّ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَالْيَدُ بِهَا يَتَنَاوَلُ وَيَقْبِضُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالرِّجْلُ يَمْشِي بِهَا إلَى مَقَاصِدِهِ، وَالْوَجْهُ وَالرَّأْسُ مَحَلُّ الْحَوَاسِّ وَمَجْمَعُهَا الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ عِظَمُ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْأُذُنِ، الَّتِي بِهَا الْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالسَّمْعُ، الَّتِي بِهَا يَكُونُ التَّلَذُّذُ وَالتَّشَهِّي وَالْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِمَا يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَالرَّابِعُ - أَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَكْفِيرًا لِمَا ارْتَكَبَ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْإِجْرَامِ، إذْ بِهَا يَرْتَكِبُ جُلَّ الْمَآثِمِ مِنْ أَخْذِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْيِ إلَى الْحَرَامِ، وَالنَّظَرِ إلَى الْحَرَامِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ، وَسَمَاعِ الْحَرَامِ مِنْ اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا تَكْفِيرًا لِهَذِهِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِكَوْنِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِلْمَآثِمِ فَكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمُهُ، وَخِدْمَةُ الْمَعْبُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ، فَكَانَ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ شَرْطًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَقَوَارِعِ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى -» أَمَّا مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ فَلِكَوْنِهِمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا مَعَاطِنُ الْإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ عَادَةً، لَكِنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» مَعَ أَنَّ الْمَعَاطِنَ وَالْمَرَابِضَ فِي مَعْنَى النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا تَبُولُ عَلَى الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَهَذَا لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْغَنَمِ وَأَمَّا قَوَارِعُ الطُّرُقِ فَقِيلَ إنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ عَادَةً، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ فِيهَا أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمَارَّةُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَا يُكْرَهُ، وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يُصَلِّي عَلَى الطَّرِيقِ فِي الْبَادِيَةِ وَأَمَّا الْحَمَّامُ فَمَعْنَى النَّهْيِ فِيهِ أَنَّهُ مَصَبُّ الْغُسَالَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَادَةً، فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى فِي مَوْضِعِ الْحَمَّامِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ فِيهِ أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ، فَعَلَى هَذَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ غُسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَوْ لَمْ يُغْسَلْ وَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَقِيلَ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْيَهُودِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَسْجِدًا» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إلَى قَبْرٍ فَنَادَاهُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ، فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يَقُولُ: الْقَمَرَ الْقَمَرَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ، فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى تَنَبَّهَ فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَتُكْرَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْمَقَابِرَ لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّ الْجُهَّالَ يَسْتَتِرُونَ بِمَا شَرُفَ مِنْ الْقُبُورِ فَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ خَلْفَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ وَأَمَّا فَوْقَ بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَمَعْنَى النَّهْيِ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْهِيٌّ عَنْ الصُّعُودِ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا النَّهْيُ لِلْإِفْسَادِ، حَتَّى لَوْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيمَا بَعْدُ وَلَوْ صَلَّى فِي بَيْتٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَتْ التَّمَاثِيلُ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ، فَإِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ تَمَاثِيلَ
وَالْتَحَقَتْ بِالنُّقُوشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُهْدِيَ إلَيْهِ تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَيْرٍ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُحِيَ وَجْهُهُ» . وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ خُيُولٍ وَرِجَالٍ؟ فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا أَوْ تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ يَسَارِهَا، فَأَشَدُّ ذَلِكَ كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مُؤْخِرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ تَحْتَ الْقَدَمِ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ التَّشَبُّهِ فِي الصَّلَاةِ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَذَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ إلَى بَيْتٍ فِيهِ صُوَرٌ عَلَى سَقْفِهِ أَوْ حِيطَانِهِ أَوْ عَلَى السُّتُورِ وَالْأُزُرِ وَالْوَسَائِدِ الْعِظَامِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ، وَلَا خَيْرَ فِي بَيْتٍ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَذَا نَفْسُ التَّعْلِيقِ لِتِلْكَ السُّتُورِ وَالْأُزُرِ عَلَى الْجِدَارِ، وَوَضْعُ الْوَسَائِدِ الْعِظَامِ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِي هَذَا الصَّنِيعِ مِنْ التَّشْبِيهِ بِعُبَّادِ الصُّوَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي وَأَنَا مُسْتَتِرَةٌ بِسِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عَرَفْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي وَهَتَكَهُ بِيَدِهِ فَجَعَلْنَاهُ نُمْرُقَةً أَوْ نُمْرُقَتَيْنِ» وَإِنْ كَانَتْ الصُّوَرُ عَلَى الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ الصِّغَارِ وَهِيَ تُدَاسُ بِالْأَرْجُلِ لَا تُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَتِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا حَدِيثُ جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَلَوْ صَلَّى عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ فَإِنْ كَانَتْ الصُّورَةُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْنَامِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَمَامَهُ فِي مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَحْصُلُ بِتَقْرِيبِ الْوَجْهِ مِنْ الصُّورَةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ دُونَ التَّعْظِيمِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ كَبِيرَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ الصَّنَمَ لَا يَعْبُدُ الصَّغِيرَ مِنْهَا جِدًّا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي مُوسَى ذُبَابَتَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَلَى فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ، أَوْ لِأَنَّ التِّمْثَالَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ حَلَالًا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكَرَاهَةِ فِي صُورَةِ الْحَيَوَانِ. فَأَمَّا صُورَةُ مَا لَا حَيَاةَ لَهُ كَالشَّجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ الصُّوَرِ لَا يَعْبُدُونَ تِمْثَالَ مَا لَيْسَ بِذِي رُوحٍ، فَلَا يَحْصُلُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ، وَكَذَا النَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ عَنْ تَصْوِيرِ ذِي الرُّوحِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَوَّرَ تِمْثَالَ ذِي الرُّوحِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فَأَمَّا لَا نَهْيَ عَنْ تَصْوِيرِ مَا لَا رُوحَ لَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ نَهَى مُصَوِّرًا عَنْ التَّصْوِيرِ؛ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَهُوَ كَسْبِي؟ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِتِمْثَالِ الْأَشْجَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ مَخْرَجٍ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا، وَالْمَسَاجِدُ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] ، وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ إذَا كَانَتْ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْأَقْذَارِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَأَمَّا مَسْجِدُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِبْلَتُهُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ، وَكَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ بَلْوَى بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ. وَلَوْ صَلَّى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى قَوْلِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ: لَا تَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا، الْمُصَلِّي فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ صَلَّى وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مَغْصُوبٌ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَائِلٌ مِنْ بَيْتٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ حَاصِلٌ، فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ (وَمِنْهَا) سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا} [الأعراف: 31] ، قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: الزِّينَةُ: مَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ، وَالْمَسْجِدُ: الصَّلَاةُ، فَقَدْ أَمَرَ بِمُوَارَاةِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِلْحَائِضِ إلَّا بِخِمَارٍ» ، كَنَى بِالْحَائِضِ عَنْ الْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَلِيلُ الْبُلُوغِ، فَذَكَرَ الْحَيْضَ وَأَرَادَ بِهِ الْبُلُوغَ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأَمَةِ؛ وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ حَالَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ، وَأَنَّهُ فُرِضَ عَقْلًا وَشَرْعًا،
وَإِذَا كَانَ السَّتْرُ فَرْضًا كَانَ الِانْكِشَافُ مَانِعًا جَوَازَ الصَّلَاةِ ضَرُورَةً، وَالْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ عَوْرَةً وَمَا لَا يَكُونُ مَوْضِعُهُ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ: قَلِيلُ الِانْكِشَافِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ خَرْقٍ عَادَةً وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ الْكَثِيرَ بِالرُّبْعِ فَقَالَا: الرُّبْعُ وَمَا فَوْقَهُ مِنْ الْعُضْوِ كَثِيرٌ وَمَا دُونَ الرُّبْعِ قَلِيلٌ وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَ الْأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ كَثِيرًا، وَمَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي النِّصْفِ، فَجَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فِي الْأَصْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ، فَإِنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ، فَمَا كَانَ مُقَابِلُهُ أَقَلَّ مِنْهُ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَا كَانَ مُقَابِلُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ قَلِيلٌ. (وَلَهُمَا) أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الرُّبْعَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَمَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ كَذَا هَهُنَا، إذْ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِ فَنَقُولُ: الشَّرْعُ قَدْ جَعَلَ الرُّبْعَ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَزِمَ الْأَخْذُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ كَثِيرُ الِانْكِشَافِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعُضْوُ الْوَاحِدُ وَالْأَعْضَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ، حَتَّى لَوْ انْكَشَفَ مِنْ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ مَا لَوْ جُمِعَ لَكَانَ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ وَهِيَ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَالْخَفِيفَةُ كَالْفَخْذِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدَّرَ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ بِالدِّرْهَمِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ كُلُّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الدِّرْهَمِ فَتَقْدِيرُهَا بِالدِّرْهَمِ يَكُونُ تَخْفِيفًا لِأَمْرِهَا لَا تَغْلِيظًا لَهُ، فَتَنْعَكِسُ الْقَضِيَّةُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي امْرَأَةٍ صَلَّتْ فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهَا، وَشَيْءٌ مِنْ ظَهْرِهَا، وَشَيْءٌ مِنْ فَرْجِهَا، وَشَيْءٌ مِنْ فَخْذِهَا: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَ بَلَغَ الرُّبْعَ مَنَعَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا يَمْنَعُ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ وَاعْتَبَرَ فِيهَا الرُّبْعَ، فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهَا لَا يَخْتَلِفُ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهَذَا فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ فَالِانْكِشَافُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، بِأَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا يَجِدُ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الرُّبْعُ مِنْهُ طَاهِرًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا فَإِنْ كَانَ رُبْعُهُ طَاهِرًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ فَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْكَمَالِ، كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِ الْمُحْرِمِ رُبْعَ الرَّأْسِ، وَكَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ فُلَانًا وَإِنْ عَايَنَهُ مِنْ إحْدَى جِهَاتِهِ الْأَرْبَعِ، فَجُعِلَ كَأَنَّ الثَّوْبَ كُلَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا أَوْ الطَّاهِرُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، إنْ شَاءَ صَلَّى عُرْيَانًا، وَإِنْ شَاءَ مَعَ الثَّوْبِ، لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ أَفْضَلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُجْزِئُهُ إلَّا مَعَ الثَّوْبِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَرْضٌ، وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ، إلَّا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّهُمَا وَآكَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ فِي الْأَحْوَالِ أَجْمَعِ، وَفَرْضِيَّةُ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى حَالَةِ الصَّلَاةِ، فَيُصَارُ إلَى الْأَهَمِّ، فَتُسْتَرُ الْعَوْرَةُ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، وَيَتَحَمَّلُ اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عُرْيَانًا كَانَ تَارِكًا فَرَائِضَ مِنْهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلَوْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ كَانَ تَارِكًا فَرْضًا وَاحِدًا وَهُوَ تَرْكُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَطْ، فَكَانَ هَذَا الْجَانِبُ أَهْوَنَ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا» ، فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا. (وَلَهُمَا) أَنَّ الْجَانِبَيْنِ فِي الْفَرْضِيَّةِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَى السَّوَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ عُرْيَانًا لَا تَجُوزُ مَعَ الثَّوْبِ الْمَمْلُوءِ نَجَاسَةً، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ أَحَدِ الْفَرْضَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِتَرْكِ الْآخَرِ؟ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُمَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ، فَيُخَيَّرُ فَيُجْزِئُهُ كَيْفَمَا فَعَلَ، إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ (وَمِنْهَا) اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لِلصَّلَاةِ شَرْطٌ زَائِدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ فِيمَا هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَكَذَا فِي عَامَّةِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَإِنَّمَا عُرِفَ شَرْطًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ شَرْعًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِقَدْرِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ،
وَفِيمَا وَرَاءَهُ يُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ فَإِلَى عَيْنِهَا، أَيْ: أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وَفِي وُسْعِهِ تَوْلِيَةُ الْوَجْهِ إلَى عَيْنِهَا فَيَجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ الْكَعْبَةِ غَائِبًا عَنْهَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا، وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ بِالْإِمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَا إلَى عَيْنِهَا، وَتُعْتَبَرُ الْجِهَةُ دُونَ الْعَيْنِ. كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَفْرُوضُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حَتَّى قَالُوا: " إنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ شَرْطٌ " وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ؛ وَلِأَنَّ لُزُومَ الِاسْتِقْبَالِ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْعَيْنِ لَا فِي الْجِهَةِ؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لَوْ كَانَتْ الْجِهَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ الْجِهَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ فِي اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، فَدَلَّ أَنَّ قِبْلَتَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي. (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ مَفْرُوضَةً؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لَوْ كَانَتْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ لَتَرَدَّدَتْ صَلَاتُهُ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِتَحَرِّيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ. وَقَدْ عُرِفَ بُطْلَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، أَمَّا إذَا جُعِلَتْ قِبْلَتُهُ الْجِهَةَ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْخَطَأِ، فَنَزَلَتْ الْجِهَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ قِبْلَةً لِعِبَادِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] ؛ وَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوا عَيْنَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي، وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَجَرُّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَالْجِهَةُ صَارَتْ قِبْلَةً بِاجْتِهَادِهِمْ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مِنْ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ فَوْقَ الِاجْتِهَادِ بِالتَّحَرِّي، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ دَخَلَ بَلْدَةً وَعَايَنَ الْمَحَارِيبَ الْمَنْصُوبَةَ فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، وَكَذَا إذَا دَخَلَ مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ لَهُ وَبِحَضْرَتِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ - لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عِلْمًا بِالْجِهَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَمَارَاتِ فَكَانَ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالتَّحَرِّي، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ، وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ، وَلَهُ عِلْمٌ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى الْقِبْلَةِ - لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ التَّحَرِّي. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَنْوِيَ الْكَعْبَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُحَاذِيَ هَذِهِ الْجِهَةُ الْكَعْبَةَ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ حَالَةَ الْقُدْرَةِ، وَالْقُدْرَةَ حَالَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا حَالَ الْبُعْدِ عَنْهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الِاسْتِقْبَالَ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ، أَنَّ ذَلِكَ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا دُونَ حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَاجِزًا بِسَبَبِ عُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ عَجْزُهُ بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا لِعُذْرٍ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَيَسْقُطَ عَنْهُ الِاسْتِقْبَالُ، نَحْوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَدُوِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، أَوْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَثِبُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، أَوْ السَّبْعُ، أَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ مِنْ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ لَوْ وَجَّهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ يَغْرَقُ غَالِبًا، أَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِنَفْسِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُحَوِّلَهُ إلَيْهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفَازَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، أَوْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، فَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ وَتَحَرَّى وَصَلَّى فَإِنْ أَصَابَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ جَازَ لَهُ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا التَّحَرِّي فَتَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّحَرِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَرَّوْا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ
وَصَلَّوْا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ فَإِذَا صَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَلَّى إلَى الْجِهَةِ بِالتَّحَرِّي أَوْ بِدُونِ التَّحَرِّي فَإِنْ صَلَّى بِدُونِ التَّحَرِّي فَلَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ كَانَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَشُكَّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، أَوْ تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا التَّحَرِّي أَمَّا إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَشُكَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هُوَ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِهَةِ قِبْلَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ مِنْ السُّؤَالِ أَوْ التَّحَرِّي، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاكًّا، فَإِذَا مَضَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ صَارَتْ الْجِهَةُ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةً لَهُ ظَاهِرًا، فَإِنْ ظَهْرَ أَنَّهَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَقَرَّرَ الْجَوَازُ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ بِأَنْ انْجَلَى الظَّلَامُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، أَوْ تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا إنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ مَا جُعِلَ حُجَّةً بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَقْوَى يَبْطُلُ عِنْدَ وُجُودِهِ، كَالِاجْتِهَادِ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هُوَ الْفَسَادُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا إمَّا بِيَقِينٍ أَوْ بِالتَّحَرِّي تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةٌ إنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَبَنَى صَلَاتَهُ عَلَى الشَّكِّ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةً وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ فِي الِابْتِدَاءِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بَلْ يُحْكَمُ بِالْفَسَادِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْعَدَمُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ بَطَلَ الْحُكْمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَثَبَتَ الْجَوَازُ مِنْ الْأَصْلِ. وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ لِمَا قُلْنَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى الشَّكِّ، وَمَتَى ظَهَرَتْ الْقِبْلَةُ إمَّا بِالتَّحَرِّي أَوْ بِالسُّؤَالِ مِنْ غَيْرِهِ صَارَتْ حَالَتُهُ هَذِهِ أَقْوَى مِنْ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَلَوْ ظَهَرَتْ فِي الِابْتِدَاءِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى هَذِهِ الْجِهَةَ، فَكَذَا إذَا ظَهَرَتْ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَصَارَ كَالْمُومِئِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ لِمَا ذَكَرْنَا، كَذَا هَذَا. وَأَمَّا إذَا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ فَإِنْ أَخْطَأَ لَا تُجْزِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَصَابَ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ، (وَوَجْهُهُ) أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّحَرِّي هُوَ الْإِصَابَةُ وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ فَيُحْكَمُ بِالْجَوَازِ، كَمَا إذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي فَتَوَضَّأَ بِغَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ يُجْزِيهِ، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي مَالَ إلَيْهَا الْمُتَحَرِّي، فَإِذَا تَرَكَ الْإِقْبَالَ إلَيْهَا فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا هُوَ قِبْلَتُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَوَانِي؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ فَأَمَّا إذَا صَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ؛ وَلِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ فِي مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ، وَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ فِي زَمَانِ مَا قَبْلَ النَّسْخِ، كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً يُجْزِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ يُجْزِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْزِيهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ عَلَى قَوْمٍ فَتَحَرَّوْا وَصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ عِنْدَنَا إلَّا صَلَاةَ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى إمَامِهِ أَوْ عَلِمَ بِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ. (وَجْهِ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَدْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَيَبْطُلُ، كَمَا إذَا تَحَرَّى وَصَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ طَاهِرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي تَحَرَّى إلَيْهَا. وَقَدْ صَلَّى إلَيْهَا فَتُجْزِيهِ كَمَا إذَا صَلَّى إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قِبْلَتُهُ هِيَ جِهَةُ التَّحَرِّي النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: ثَمَّةَ قِبْلَةُ
اللَّهِ، وَقِيلَ: ثَمَّةَ رِضَاءُ اللَّهِ، وَقِيلَ: ثَمَّةَ وَجْهُ اللَّهِ الَّذِي وَجَّهَكُمْ إلَيْهِ إذْ لَمْ يَجِئْ مِنْكُمْ التَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ، وَأَضَافَ التَّوَجُّهَ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ كَانَ مِنْهُمْ فِي الطَّلَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ، وَإِنْ وُجِدَ الْأَكْلُ مِنْ الصَّائِمِ حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا فِيهِ أَضَافَ فِعْلَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَيَّرَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ، كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا كَانَ تَوَجُّهُهُ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ حَيْثُ أَتَى بِجَمِيعِ مَا فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ، أَضَافَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ إلَى ذَاتِهِ وَجَعَلَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ تَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إصَابَةِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَلَا إلَى إصَابَةِ جِهَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِعَدَمِ الدَّلَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهَا، وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَالتَّكْلِيفُ بِالصَّلَاةِ مُتَوَجِّهٌ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ مُمْتَنِعٌ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الصَّلَاةُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي فَتَعَيَّنَتْ هَذِهِ قِبْلَةً لَهُ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ حَالَةَ الْعَجْزِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ، وَالْمِحْرَابِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّحَرِّي شَرْطًا نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا لِإِصَابَةِ الْقِبْلَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَخْطَأَ قِبْلَتَهُ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ جِهَةُ التَّحَرِّي وَقَدْ صَلَّى إلَيْهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هُوَ الصَّلَاةُ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ أُمِرَ بِإِصَابَتِهِ بِالتَّحَرِّي، فَإِذَا لَمْ يُصِبْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ فَلَمْ يَجُزْ، أَمَّا هَهُنَا فَالشَّرْطُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَقِبْلَتُهُ هَذِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَدْ اسْتَقْبَلَهَا، فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيَخْرُجُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ خَارِجَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالنَّصِّ، وَيَجُوزُ إلَى أَنَّ الْجِهَاتِ مِنْ الْكَعْبَةِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ مِنْهَا لِوُجُودِ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ شَطْرَ الْكَعْبَةِ، فَإِنْ صَلَّى مُنْحَرِفًا عَنْ الْكَعْبَةِ غَيْرَ مُوَاجِهٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى قِبْلَتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَشَرَائِطُ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. (ثُمَّ) إنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَلُّوا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، وَإِمَّا أَنْ صَلُّوا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُصْطَفِّينَ فَإِنْ صَلَّوْا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَقْبِلًا جُزْءًا مِنْ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَصْطَفُّوا زِيَادَةً عَلَى حَائِطِ الْكَعْبَةِ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ جَاوَزَ الْحَائِطَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا وَإِنْ صَلَّوْا حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ جَازَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه -، ثُمَّ صَلَاةُ الْكُلِّ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ أَبْعَدَ، إلَّا صَلَاةَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي الْإِمَامُ إلَيْهَا بِأَنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ فَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى الصَّفِّ الَّذِي مَعَ الْإِمَامِ وَوَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى إمَامِهِ لَا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لِلْإِمَامِ، وَالْمُقَابِلُ لِغَيْرِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونُ تَابِعًا لَهُ بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا إذَا قَامَتْ امْرَأَةٌ بِجَنْبِ الْإِمَامِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ وَنَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ قَامَتْ فِي الصَّفِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، وَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ عَلَى يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَمَنْ كَانَ خَلْفَهَا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ مُنْهَدِمَةً فَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ أَرْضِ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا هَكَذَا، أَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا مُتَوَجِّهًا إلَى جُزْءٍ مِنْهَا - جَازَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ وَالْبِنَاءِ جَمِيعًا إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ مَعْنًى. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الْبُقْعَةِ حِينَ رُفِعَ الْبِنَاءُ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ بَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَفِي عَهْدِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَعَادَهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ مَقْضِيَّةً بِالْجَوَازِ، وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّةَ بِنَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ وُجِدَ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَ الْبِنَاءُ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَعْلِيقِ الْأَنْطَاعِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ السُّتْرَةِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيهِ بِدُونِ السُّتْرَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ لِنَفْسِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَفَلَ إلَى عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَى إلَيْهَا لَا يَجُوزُ، بَلْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ لِاتِّصَالِهِ بِالْعَرْصَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَى الْبِنَاءِ بَلْ إلَى الْهَوَاءِ، دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعَرْصَةِ وَالْهَوَاءِ دُونَ الْبِنَاءِ، هَذَا إذَا صَلَّوْا خَارِجَ الْكَعْبَةِ فَأَمَّا إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَالصَّلَاةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، نَافِلَةً كَانَتْ أَوْ مَكْتُوبَةً. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا جِهَةً كَانَ مُسْتَدْبِرًا جِهَةً أُخْرَى، وَالصَّلَاةُ مَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ لَا تَجُوزُ فَأَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ، فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَالْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ وَصَارَ كَالطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْ الْكَعْبَةِ غَيْرَ عَيْنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً لَهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ، وَمَتَى صَارَتْ قِبْلَةً فَاسْتِدْبَارُهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَكُونُ مُفْسِدًا فَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الَّتِي لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهَا لَمْ تَصِرْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ، فَاسْتِدْبَارُهَا لَا يَكُونُ مُفْسِدًا، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ وَرَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي صَارَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالِانْحِرَافُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، بِخِلَافِ النَّائِي عَنْ الْكَعْبَةِ إذَا صَلَّى بِالتَّحَرِّي إلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بِأَنْ صَلَّى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَصَلَّى رَكْعَةً إلَيْهَا هَكَذَا جَازَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي تَحَرَّى إلَيْهَا مَا صَارَتْ قِبْلَةً لَهُ بِيَقِينٍ بَلْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَحِينَ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى صَارَتْ قِبْلَتُهُ هَذِهِ الْجِهَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَبْطُلْ مَا أَدَّى بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَا أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، فَصَارَ مُصَلِّيًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَى الْقِبْلَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ، فَهُوَ الْفَرْقُ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ أَوْ مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ مُتَحَلِّقِينَ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ مَنْ وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، أَوْ إلَى يَمِينِ الْإِمَامِ، أَوْ إلَى يَسَارِهِ، أَوْ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، وَكَذَا صَلَاةُ مَنْ وَجْهُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ الصُّورَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ. وَأَمَّا صَلَاةُ مَنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ وَظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ، وَصَلَاةُ مَنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا جِهَةَ الْإِمَامِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَائِطِ مِنْ الْإِمَامِ فَلَا تَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا بِخِلَافِ جَمَاعَةٍ تَحَرَّوْا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاقْتَدُوا بِالْإِمَامِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ فِي جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اعْتَقَدَ الْخَطَأَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ إمَامَهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ. وَأَمَّا هَهُنَا فَمَا اعْتَقَدَ الْخَطَأَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْكَعْبَةِ قِبْلَةٌ بِيَقِينٍ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَإِنْ صَلَّوْا مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ إلَى جِهَةِ الْإِمَامِ فَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ وَجْهُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَظَهْرُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِهِ لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا أَمَامَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْإِمَامَ إذَا نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ فَقَامَتْ امْرَأَةٌ بِحِذَائِهِ مُقَابِلَةً لَهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، وَتَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَخَلْفِهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهَا، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ (وَمِنْهَا) الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ إلَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَفِي بَيَانِ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وَفِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَأَصْلُ أَوْقَاتِهَا عُرِفَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]
، وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] . وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَبَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِهَا لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَأَمَّا) بَيَانُ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا فَإِنَّمَا عُرِفَ بِالْأَخْبَارِ أَمَّا الْفَجْرُ فَأَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَآخِرُهُ حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَآخِرُهُ حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَجْرِ الثَّانِي لِأَنَّ الْفَجْرَ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ يَبْدُو فِي نَاحِيَةٍ مِنْ السَّمَاءِ - وَهُوَ الْمُسَمَّى ذَنَبَ السِّرْحَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ - ثُمَّ يَنْكَتِمُ، وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ ثُمَّ يَخْلُفُ وَيَعْقُبُهُ الظَّلَامُ، وَهَذَا الْفَجْرُ لَا يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِينَ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَالْفَجْرُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ لَا يُزَالُ يَزْدَادُ نُورُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيُسَمَّى هَذَا فَجْرًا صَادِقًا؛ لِأَنَّهُ إذَا بَدَأَ نُورُهُ يَنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ وَلَا يَخْلُفُ، وَهَذَا الْفَجْرُ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، وَيَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ الْفَجْرِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ، فَجْرٌ مُسْتَطِيلٌ يَحِلُّ بِهِ الطَّعَامُ، وَتَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَفَجْرٌ مُسْتَطِيرٌ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَتَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ» ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ لَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» . وَرُوِيَ «لَا يَغُرَّنَّكُمْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ» أَيْ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ. وَقَالَ الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا لَا هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ طُولًا؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ لَيْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِتَعَقُّبِ الظَّلَامِ إيَّاهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ، فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَحِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» . وَأَمَّا آخِرُهُ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِآخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ، وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو وَعَنْهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ بَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ مُهْمَلٌ كَمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَهَذَا يَنْفِي الْوَقْتَ الْمُهْمَلَ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ زَوَالِ الشَّمْسِ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدُّ الزَّوَالِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَإِذَا مَالَتْ الشَّمْسُ عَنْ يَسَارِهِ فَهُوَ الزَّوَالُ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ: أَنَّهُ يَغْرِزُ عُودًا مُسْتَوِيًا فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، وَيَجْعَلُ عَلَى مَبْلَغِ الظِّلِّ مِنْهُ عَلَامَةً فَمَا دَامَ الظِّلُّ يَنْتَقِصُ مِنْ الْخَطِّ فَهُوَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِذَا وَقَفَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ فَهُوَ سَاعَةُ الزَّوَالِ، وَإِذَا أَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ فَالشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ فَيْءِ الزَّوَالِ فَخُطَّ عَلَى رَأْسِ مَوْضِعِ الزِّيَادَةِ خَطًّا فَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْخَطِّ إلَى الْعَوْدِ فَيْءُ الزَّوَالِ فَإِذَا صَارَ ظِلَّ الْعُودِ مِثْلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْخَطِّ لَا مِنْ الْعُودِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِذَا صَارَ ظِلُّ الْعُودِ مِثْلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْخَطِّ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَهُمْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ حَدِيثَ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى بِي الْيَوْمَ الْأَوَّلَ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ النَّهَارُ، ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ» ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ هَذَا فَكَانَ هُوَ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ ضَرُورَةً وَالثَّانِي - أَنَّ الْإِمَامَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَانَتْ لِبَيَانِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ مَا ذَكَرْنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ «مَثَلَكُمْ وَمَثَلَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ؟ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ فَكُنْتُمْ أَقَلَّ عَمَلًا وَأَكْثَرَ أَجْرًا» . فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ مُدَّةِ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْصَرَ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ، وَالْإِبْرَادُ يَحْصُلُ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَرَّ لَا يَفْتُرُ خُصُوصًا فِي بِلَادِهِمْ، عَلَى أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ التَّعَارُضِ مَوْضِعُ الشَّكِّ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ بِالشَّكِّ أَيْضًا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ فِيهِمَا، وَالثَّانِي أَنَّ مَا ثَبَتَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَخَبَرُ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْسُوخٌ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَغَايُرِ وَقْتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا فِي الْفَرْعِ، وَلَا يُقَالُ: مَعْنَى مَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ أَيْ بَعْدَ مَا صَارَ، وَمَعْنَى مَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَيْ قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا نِسْبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، أَوْ إلَى التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ مُبْهَمًا مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مِنْهُ أَوْ دَلِيلٍ يُمْكِنُ الْوُصُولُ بِهِ إلَى الِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَمِثْلُهُ لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: خَالَفْتُ أَبَا حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَقُلْتُ: أَوَّلُهُ إذَا دَارَ الظِّلُّ عَلَى قَامَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ، وَآخِرُهُ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ: إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ، وَفِي قَوْلٍ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُهُ الْمُسْتَحَبُّ وَيَبْقَى أَصْلُ الْوَقْتِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَآخِرُهَا حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَهُ الْعَصْرُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَحِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَكَذَا حَدِيثُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا، وَالصَّلَاةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَتْ بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقْتُهَا مَا يَتَطَهَّرُ الْإِنْسَانُ وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءً لَا أَدَاءً عِنْدَهُ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْمَرَّتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. (وَلَنَا) أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَآخِرُهُ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ» ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَخِّرْهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ مَكْرُوهٌ إلَّا لِعُذْرٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيُعَلِّمَهُ الْمُبَاحَ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ الْعَصْرَ إلَى الْغُرُوبِ
مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ إلَيْهِ؟ وَكَذَا لَمْ يُؤَخِّرْ الْعِشَاءَ إلَى مَا بَعْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، لِمَا رُوِيَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الشَّفَقِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْبَيَاضُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ هُوَ الْحُمْرَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ» ، فَلَوْ كَانَ الشَّفَقُ هُوَ الْبَيَاضُ لَمَا كَانَ مُؤَخِّرًا لَهَا، بَلْ كَانَ مُصَلِّيًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَبْقَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ خُصُوصًا فِي الصَّيْفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ. (أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ، جَعَلَ الْغَسَقَ غَايَةً لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَلَا غَسَقَ مَا بَقِيَ النُّورُ الْمُعْتَرِضُ. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَبَيَاضُهُ، وَالْمُعْتَرِضُ نُورُهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأُفُقُ، وَإِنَّمَا يَسْوَدُّ بِإِخْفَائِهَا بِالظَّلَامِ. (وَأَمَّا) الِاسْتِدْلَال فَمِنْ وَجْهَيْنِ: لُغَوِيٍّ، وَفِقْهِيٍّ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَهُوَ أَنَّ الشَّفَقَ اسْمٌ لِمَا رَقَّ، يُقَالُ: ثَوْبٌ شَفِيقٌ أَيْ رَقِيقٌ، إمَّا مِنْ رِقَّةِ النَّسْجِ وَإِمَّا لِحُدُوثِ رِقَّةٍ فِيهِ مِنْ طُولِ اللُّبْسِ، وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ مِنْ الْخَوْفِ أَوْ الْمَحَبَّةِ، وَرِقَّةُ نُورِ الشَّمْسِ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ الْبَيَاضُ. وَقِيلَ الشَّفَقُ اسْمٌ لِرَدِيءِ الشَّيْءِ وَبَاقِيهِ، وَالْبَيَاضُ بَاقِي آثَارِ الشَّمْسِ وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَهُوَ أَنَّ صَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ فِي أَثَرِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْمَغْرِبُ مَعَ الْفَجْرِ، وَصَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، فَيَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلَاتَيْنِ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْعِشَاءُ وَالْوِتْرُ، وَبَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ لَا يَبْقَى أَثَرٌ لِلشَّمْسِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَغِيبُ قَبْلَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ غَالِبًا وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِآخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي قَوْلٍ يُؤَخِّرُ إلَى آخِرِ نِصْفِ اللَّيْلِ بِعُذْرِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ لَيْلَةً إلَى النِّصْفِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ لَنَا بِعُذْرِ السَّفَرِ (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَآخِرُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ أُخْرَى» وَقَّتَ عَدَمَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَى غَايَةِ خُرُوجِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَمْ يَتَوَقَّفْ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ وَيُؤَدَّى فِي وَقْتِهَا، وَأَفْضَلُ وَقْتِهَا السَّحَرُ دَلَّ أَنَّ السَّحَرَ آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ السَّفَرِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي زِيَادَةِ الْوَقْتِ، وَإِمَامَةُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ تَعْلِيمًا لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ ثُلُثُ اللَّيْلِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالسَّمَاءُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً فَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً فَفِي الْفَجْرِ الْمُسْتَحَبُّ آخِرُ الْوَقْتِ، وَالْأَسْفَارُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ بِهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ، إلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ التَّغْلِيسَ بِهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ بِهَا وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَجُمْلَةُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرْضِ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ وَحْدَهُ مَا دَامَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَقْتِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وَالتَّعْجِيلُ مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ، وَذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - أَقْوَامًا عَلَى الْكَسَلِ فَقَالَ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] ، وَالتَّأْخِيرُ مِنْ الْكَسَلِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ» أَيْ يُنَالُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَيُنَالُ بِأَدَائِهَا فِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاسْتِيجَابُ الرِّضْوَانِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِيجَابِ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الرِّضْوَانَ أَكْبَرُ الثَّوَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ، وَيُنَالُ بِالطَّاعَاتِ، وَالْعَفْوُ يُنَالُ بِشَرْطِ سَابِقِيَّةِ الْجِنَايَةِ. وَرُوِيَ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ
يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» رَوَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّهُ قَدْ غَلَّسَ بِهَا فَسُمِّيَ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ صَلَاةً قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ فِي الْفَجْرِ الْإِسْفَارُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَصْرِ وَالتَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ، وَفِي الْإِسْفَارِ تَكْثِيرُهَا فَكَانَ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْقَيْلُولَةِ؛ وَلِأَنَّ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضَرْبَ حَرَجٍ خُصُوصًا فِي حَقِّ الضُّعَفَاءِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ» ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ فِي مَكَانِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَمَكَثَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» وَقَلَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ فِيهَا لِطُولِ الْمُدَّةِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِهَا عِنْدَ الْإِسْفَارِ فَكَانَ أَوْلَى، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْجَمِيلَةِ فَنَقُولُ بِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، لَكِنْ قَامَتْ الدَّلَائِلُ فِي بَعْضِهَا عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ لِمَصْلَحَةٍ وُجِدَتْ فِي التَّأْخِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُسَارَعَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَدَاءَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُسَارَعَةٌ لِمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا؟ وَقِيلَ فِي الْحَدِيثِ: إنَّ الْعَفْوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَضْلِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ، فَكَانَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَنْ أَدَّى الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ فَقَدْ نَالَ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَأَمِنَ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ؛ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَهُ وَأَدَائِهِ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَدَّى فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَقَدْ نَالَ فَضْلَ اللَّهِ، وَنَيْلُ فَضْلِ اللَّهِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الرِّضْوَانِ فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَاتِ إسْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ ثَبَتَ التَّغْلِيسُ فِي وَقْتٍ فَلِعُذْرِ الْخُرُوجِ إلَى سَفَرٍ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كُنَّ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ ثُمَّ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ، اُنْتُسِخَ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَمَّا فِي الظُّهْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ فِي الصَّيْفِ وَأَوَّلُهُ فِي الشِّتَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ يُعَجِّلْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ يُؤَخِّرْ يَسِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ خَبَّابُ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّهُ قَالَ: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا، فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّعْجِيلِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ فِي الصَّيْفِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْقَيْلُولَةِ، وَإِمَّا الْإِضْرَارُ بِهِمْ لِتَأَذِّيهِمْ بِالْحَرِّ. وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ فِي الشِّتَاءِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ: «إذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَبْرِدْ بِالظُّهْرِ فَإِنَّ النَّاسَ يُقِيلُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا، وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ فَإِنَّ اللَّيَالِيَ طِوَالٌ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ خَبَّابُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَرْكَ الْجَمَاعَةِ أَصْلًا فَلَمْ يَشْكُهُمْ لِهَذَا، عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ يَدَعْنَا فِي الشِّكَايَةِ بَلْ أَزَالَ شَكْوَانَا بِأَنْ أَبْرَدَ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الْعَصْرُ فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا هُوَ التَّأْخِيرُ مَا دَامَتْ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَمْ يَدْخُلْهَا تَغْيِيرٌ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّعْجِيلُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي» ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي وَيَنْحَرُ الْجَزُورَ وَيَطْبُخُ الْقُدُورَ وَيَأْكُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ» ، وَهَذَا مِنْهُ بَيَانُ تَأْخِيرِهِ لِلْعَصْرِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ الْعَصْرَ لِأَنَّهَا تُعْصَرُ أَيْ تُؤَخَّرُ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ تَكْثِيرُ النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ بَعْدَهَا مَكْرُوهَةٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا
كَانَ التَّعْجِيلُ فِي الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ قَبْلَهَا مَكْرُوهَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ مَكَثَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ ثَمَانِيًا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» ، وَإِنَّمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِالتَّأْخِيرِ لَا بِالتَّعْجِيلِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ كَانَتْ حِيطَانُ حُجْرَتِهَا قَصِيرَةً فَتَبْقَى الشَّمْسُ طَالِعَةً فِيهَا إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الصَّيْفِ وَمِثْلُهُ يَتَأَتَّى لِلْمُسْتَعْجِلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمَغْرِبُ فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّعْجِيلُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جَمِيعًا، وَتَأْخِيرُهَا إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ» ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّأْخِيرَ سَبَبٌ لِتَقْلِيلِهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ بِالتَّعَشِّي وَالِاسْتِرَاحَةِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ، وَكَذَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى (وَأَمَّا) الْعِشَاءُ الْمُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّأْخِيرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ، وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ النِّصْفِ وَأَمَّا فِي الصَّيْفِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ لِمَا ذُكِرَ، وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ حِينَ يَسْقُطُ الْقَمَرُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَكُونُ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخَّرَ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا سَقَمُ السَّقِيمِ وَضَعْفُ الضَّعِيفِ لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " أَنْ صَلِّ الْعِشَاءَ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، فَإِنْ نِمْتَ فَلَا نَامَتْ عَيْنَاكَ " وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ النِّصْفِ الْأَخِيرِ تَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفَوَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَنَمْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَامَ فَغَلَبَهُ النَّوْمُ فَلَا يَسْتَيْقِظُ فِي الْمُعْتَادِ إلَى مَا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ، وَتَعْرِيضُ الصَّلَاةِ لِلْفَوَاتِ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ فِي الشِّتَاءِ رُبَّمَا يَقَعُ فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَنَامُونَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِطُولِ اللَّيَالِي فَيَشْتَغِلُونَ بِالسَّمَرِ عَادَةً، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَأَنْ يَكُونَ اخْتِتَامُ صَحِيفَتِهِ بِالطَّاعَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالتَّعْجِيلُ فِي الصَّيْفِ لَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا الْقَبِيحِ لِأَنَّهُمْ يَنَامُونَ لِقِصَرِ اللَّيَالِي فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَارَعَةُ إلَى الْخَيْرِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانِ الصَّيْفِ أَوْ عَلَى حَالِ الْعُذْرِ. وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: الْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِلْآثَارِ، وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُذْرَ لِمَرَضٍ وَلِسَفَرٍ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِعْلًا، وَلَوْ كَانَ الْمَذْهَبُ كَرَاهَةَ التَّأْخِيرِ مُطْلَقًا لَمَا أُبِيحَ ذَلِكَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، كَمَا لَا يُبَاحُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، هَذَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً فَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ هُوَ التَّأْخِيرُ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ التَّعْجِيلُ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَحْفَظَ هَذَا فَكُلُّ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ اسْمِهَا (عَيْنٌ) تُعَجَّلُ، وَمَا لَيْسَ فِي أَوَّلِ اسْمِهَا (عَيْنٌ) تُؤَخَّرُ، أَمَّا التَّأْخِيرُ فِي الْفَجْرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَلَّسَ بِهَا فَرُبَّمَا تَقَعُ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ، وَكَذَا لَوْ عَجَّلَ الظُّهْرَ فَرُبَّمَا يَقَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَوْ عَجَّلَ الْمَغْرِبَ عَسَى يَقَعُ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَلَا يُقَالُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يَقَعُ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِلتَّأْخِيرِ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فَلِئَلَّا يَقَعَ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَلَيْسَ فِيهِ وَهْمُ الْوُقُوعِ قَبْلَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ قَدْ أُخِّرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ كَيْ لَا تَقَعَ بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ فِي التَّعْجِيلِ تَوَهُّمُ الْوُقُوعِ قَبْلَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ قَدْ أُخِّرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَفْضَلُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أَبِي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ وَعَلَّلَ وَقَالَ: إنَّ فِي التَّأْخِيرِ تَرَدُّدًا بَيْنَ وَجْهَيْ الْجَوَازِ إمَّا الْقَضَاءُ وَإِمَّا الْأَدَاءُ، وَفِي التَّعْجِيلِ تَرَدُّدٌ بَيْنَ وَجْهَيْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، اتَّفَقَ عَلَيْهِ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ، (وَاحْتُجَّ) بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْمَعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ كَيْ لَا يَنْقَطِعَ بِهِ السَّيْرُ، وَفِي الْمَطَرِ كَيْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ، إذْ لَوْ رَجَعُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بِهَذَا كَمَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يُبَاحُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ وَالْمَطَرَ لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي إبَاحَةِ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ مَعَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْعُذْرِ؟ وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ مَا كَانَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُضَادُّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، بَلْ ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلُحَ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَكَذَا الْجَمْعُ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسَّيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فِي خَبَرِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ غَرِيبٌ وَرَدَ فِي حَادِثَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا ثُمَّ هُوَ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا لَا وَقْتًا، بِأَنْ أَخَّرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَدَّى الْأُخْرَى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فَوَقَعَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِعْلًا، كَذَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي سَفَرٍ وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ وَلَا سَفَرٍ» وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِعْلًا، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِلْمَغِيبِ لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ لِلنَّهْيِ عَنْ عُمُومِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ: مِنْهَا - إذَا تَضَيَّفَتْ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ عَلَى مَا يُذْكَرُ. وَقَدْ وَرَدَ وَعِيدٌ خَاصٌّ فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا» ، لَكِنْ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَسْقُطَ الْفَرْضُ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَرْضِ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ قَبْلَهُ، وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَجْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ وَيَقُولُ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ النَّوَافِلِ لَا عَنْ الْفَرَائِضِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَصْرَ يَوْمِهِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. (وَنَحْنُ) نَقُولُ النَّهْيُ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا لِمَا يُذْكَرُ فِي قَضَاءِ الْفَرَائِضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا تَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا كَذَلِكَ لَكَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ أَفْسَدْنَا لَوَقَعَ الْكُلُّ خَارِجَ الْوَقْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالْفَرْقُ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَدِّي الْعَصْرَ إذَا غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) - النِّيَّةُ وَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» . وَقَالَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي تَفْسِيرِ النِّيَّةِ، وَالثَّانِي - فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ - فِي وَقْتِ النِّيَّةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ، فَنِيَّةُ الصَّلَاةِ هِيَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَالْإِرَادَةُ عَمَلُ الْقَلْبِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا. فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إنْ كَانَ
يُصَلِّي التَّطَوُّعَ تَكْفِيهِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ لِيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَنْوِيهَا، فَكَانَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِيهَا لِتَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا تَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَتَأَدَّى صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ. وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ لَا يَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْوِيَهَا فَيَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ أَوْ ظُهْرَ الْوَقْتِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا تَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَكْفِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّ ظُهْرَ الْوَقْتِ هُوَ الْمَشْرُوعُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ، وَغَيْرَهُ عَارِضٌ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، كَمُطْلَقِ اسْمِ الدِّرْهَمِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَ نِيَّةِ ظُهْرِ الْوَقْتِ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الظُّهْرَ فَقَدْ نَوَى الْفَرْضَ، إذْ الظُّهْرُ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَصَلَاةَ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَحْصُلُ بِهَذَا وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فَيَنْوِي مَا يَنْوِي الْمُنْفَرِدُ، وَهَلْ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْإِمَامَةِ؟ أَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ بِدُونِ نِيَّةِ إمَامَتِهِمْ. وَأَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُنَّ بِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ، قَاسَ إمَامَةَ النِّسَاءِ بِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَهُنَاكَ النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ كَذَا هَذَا، وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فَرُبَّمَا تُحَاذِيهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَشَرْطُ نِيَّةَ اقْتِدَائِهَا بِهِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَرِضَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ صِيَانَتِهَا عَنْ النَّوَاقِضِ، وَلَوْ صَحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الصِّيَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي فَتَقْتَدِي بِهِ ثُمَّ تُحَاذِيهِ فَتُفْسِدُ صَلَاتَهُ. وَأَمَّا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ نِيَّةَ إمَامَتِهِنَّ شَرْطٌ فِيهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ شُرِطَتْ لَلَحِقَهَا الضَّرَرُ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَحْدَهَا، وَلَا تَجِدُ إمَامًا آخَرَ تَقْتَدِي بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الْإِمَامِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ، وَيَحْتَاجُ لِزِيَادَةِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِالِاقْتِدَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَشَرَطَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ حَتَّى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فِيهِ، أَوْ يَنْوِيَ الشُّرُوعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَوْ يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ وَلَمْ يُعَيِّنْ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَا نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ هَلْ يُجْزِيهِ عَنْ الْفَرْضِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ يَصِحُّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، مَعَ أَنَّ النَّفَلَ أَدْنَاهُمَا، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى مَا لَمْ يُعَيِّنْ الْأَعْلَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ وَالشَّرِكَةِ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ إلَّا إذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْضِ، إلَّا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي النَّفْلِ. وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ. وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْإِمَامِ فَلَا تَتَعَيَّنُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ بِدُونِ النِّيَّةِ. مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إذَا انْتَظَرَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ كَبَّرَ بَعْدَهُ كَفَاهُ عَنْ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ قَصَدَ مِنْهُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ النِّيَّةِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ مُتَرَدِّدٌ قَدْ يَكُونُ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ. وَقَدْ يَكُونُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَلَا يَصِيرُ مُقْتَدِيًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَلَوْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ يَنْوِي صَلَاتَهُ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوْ الْجُمُعَةُ - أَجْزَأَهُ أَيَّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ بَنَى صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ الْعِلْمِ فِي حَقِّ التَّبَعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِمَ أَهْلَلْتُمَا؟ فَقَالَا: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَّزَ ذَلِكَ لَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقْتَ الْإِهْلَالِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الظُّهْرَ وَالِاقْتِدَاءَ فَإِذَا هِيَ جُمُعَةٌ - فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى غَيْرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ
صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْجُمُعَةِ فَإِذَا هِيَ الظُّهْرُ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبِنَاءُ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الْإِمَامِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو كَانَ اقْتِدَاؤُهُ صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ وَالْإِمَامُ عَمْرٌو ثُمَّ الْمُقْتَدِي إذَا وَجَدَ الْإِمَامَ فِي حَالِ الْقِيَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا، ثُمَّ يُتَابِعُهُ فِي الْقِيَامِ وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الرُّكُوعِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ أُخْرَى مَعَ الِانْحِطَاطِ لِلرُّكُوعِ، وَيُتَابِعُهُ فِي الرُّكُوعِ، وَيَأْتِي بِتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الْقَوْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ فِي الْقَعْدَةِ الَّتِي بَيْن السَّجْدَتَيْنِ يُتَابِعُهُ فِي ذَلِكَ وَيَسْكُتُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي مِقْدَارِ التَّشَهُّدِ إلَى قَوْلِهِ: " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَهَلْ يُتَابِعُهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُؤَخَّرٌ إلَى الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهَذِهِ قَعْدَةٌ أُولَى فِي حَقِّهِ، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَدْعُوَ بِالدَّعَوَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْعُو بِالدَّعَوَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْكُتُ وَعَنْ هِشَامٍ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قَعْدَةٌ أُولَى فِي حَقِّهِ، وَالزِّيَادَةَ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى غَيْرُ مَسْنُونَةٍ، وَلَا مَعْنَى لِلسُّكُوتِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا الِاسْتِمَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ التَّشَهُّدَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (وَأَمَّا) بَيَانُ وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ مُخَالِطًا لِنِيَّتِهِ إيَّاهَا، أَيْ مُقَارِنًا أَشَارَ إلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ وَقْتُ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ، فَإِنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يُوجَد بَيْنَهُمَا عَمَلٌ يَقْطَعُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَالْقِرَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقِرَانُ شَرْطٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشُّرُوعِ لَا قَبْلَهُ، فَكَانَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ هَدْرًا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْقِرَانُ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ، وَلَا حَرَجَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْقِرَانِ، وَقَوْلُهُ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» مُطْلَقًا أَيْضًا، وَعِنْدَهُ لَوْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ لَا يَكُونُ لَهُ مَا نَوَى، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْقِرَانِ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَجِ فَلَا يُشْتَرَطُ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ، فَإِذَا قَدَّمَ النِّيَّةَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ نِيَّتَهُ يُجْزِئُهُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُجْزِئُهُ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ التَّحَرِّي أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ تَوَضَّأَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ - جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ عَرِيَتْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشُّرُوعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الْفَرْضَ فِي الْجَمَاعَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كَبَّرَ وَلَمْ تَحْضُرهُ النِّيَّةُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ - أَنَّهُ يَجُوزُ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَمَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا نَوَى فَهُوَ عَلَى عَزْمِهِ وَنِيَّتِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَاطِعُ وَلَمْ يُوجَدْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ يَحْصُلُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الشُّرُوعِ تَقْدِيرًا عَلَى مَا مَرَّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عِنْدَ الشُّرُوعِ: أَيُّ صَلَاةٍ تُصَلِّي؟ يُمْكِنُهُ الْجَوَابُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ يُجْزِئُهُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ، إلَّا مَا رَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا نَوَى وَقْتَ الثَّنَاءِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثَّنَاءَ مِنْ تَوَابِعِ التَّكْبِيرِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِرَانِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ يَنْدَفِعُ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّأْخِيرِ. وَلَوْ نَوَى بَعْدَ قَوْلِهِ: " اللَّهُ " قَبْلَ قَوْلِهِ: " أَكْبَرُ " - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ يَصِحُّ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ " لِمَا يُذْكَرُ، فَكَأَنَّهُ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَأَمَّا نِيَّةُ الْكَعْبَةِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا شَرْطٌ؛ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ بِالْبُعْدِ فَيَنْوِيهَا بِقَلْبِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْبُعْدِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ لَا عَيْنُ الْكَعْبَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَتَى بِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَمْ يَنْوِ الْكَعْبَةَ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أَبِي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنْ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَأْتِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْبَيْتَ وَالْمَقَامَ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى مَكَّةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْمَقَامَ غَيْرُ الْبَيْتِ. (وَمِنْهَا) - التَّحْرِيمَةُ وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، فَزَعَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ وَلَيْسَتْ بِأَذْكَارٍ حَتَّى أَنْكَرَ افْتِرَاضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» ، نَفَى قَبُولَ الصَّلَاةِ بِدُونِ التَّكْبِيرِ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا، لَكِنْ إنَّمَا يُؤْخَذُ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى الْقَادِرِ عَنْ الْعَاجِزِ، فَلِذَلِكَ جَازَتْ صَلَاةُ الْأَخْرَسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَذْكَارِ فَالْقَادِرُ عَلَى الْأَفْعَالِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْأَكْثَرِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَذْكَارِ تَقْدِيرًا، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الذِّكْرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، اللَّهُ أَجَلُّ، اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ مَعَ الصِّفَةِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ، الرَّحِيمُ أَجَلُّ، سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِأَلْفَاظٍ مُشْتَقَّةٍ مِنْ التَّكْبِيرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ. إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ، أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوعَ بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظَيْنِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» ، نَفَى الْقَبُولَ بِدُونِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ عَيْنِ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ دُونَ التَّعْلِيلِ، إذْ التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ لَا لِإِبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ كَمَا فِي الْأَذَانِ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ السُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: فِي الْأَكْبَرِ أَتَى بِالْمَشْرُوعِ وَزِيَادَةِ شَيْءٍ، فَلَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً، كَمَا إذَا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، فَأَمَّا الْعُدُولُ عَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَالتَّكْبِيرُ حَاصِلٌ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ أَكْبَرَ هُوَ الْكَبِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، بَلْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى دُخُولِهَا تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالتَّكْبِيرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ، وَالْكِبْرِيَاءُ تُنْبِئُ عَنْ الْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ، يُقَالُ: هَذَا أَكْبَرُ الْقَوْمِ أَيْ أَعْظَمُهُمْ مَنْزِلَةً وَأَشْرَفُهُمْ قَدْرًا، وَيُقَال: هُوَ أَكْبَرُ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَقْدَمُ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَقَامَهُ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَعْنَى، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالْجَوَازِ إذَا لَمْ يُحْسِنْ، أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ لِلضَّرُورَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الصَّلَاةَ الذِّكْرَ بِحَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ بِلَا فَصْلٍ، وَالذِّكْرُ الَّذِي تَتَعَقَّبُهُ الصَّلَاةُ بِلَا فَصْلٍ هُوَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، فَقَدْ شَرَعَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ذِكْرٌ بِلَفْظٍ خَاصٍّ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ بِهِ لِأَنَّا إذَا عَلَّلْنَاهُ بِمَا ذُكِرَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَلَوْ لَمْ نُعَلِّلْ احْتَجْنَا إلَى رَدِّهِ أَصْلًا لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ، فَإِذًا تَرْكُ التَّعْلِيلِ هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ دُونَ التَّعْلِيلِ، عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] ، أَيْ عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] ، أَيْ عَظَّمْنَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أَيْ فَعَظِّمْ، فَكَانَ الْحَدِيثُ وَارِدًا بِالتَّعْظِيمِ، وَبِأَيِّ اسْمٍ ذَكَرَ فَقَدْ عَظَّمَ اللَّهَ - تَعَالَى -، وَكَذَا مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَقَدْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَسِمَاتِ الْحَدَثِ، فَصَارَ وَاصِفًا لَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ، وَكَذَا إذَا هَلَّلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَصَفَهُ بِالتَّفَرُّدِ وَالْأُلُوهِيَّةِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّة دُونَهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُمْ السُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ لِلتَّفَاوُتِ فِي التَّعْظِيمِ كَمَا فِي الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ الْأَذَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِغَيْرِ هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ يَجُوزُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُنْتَقَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوْ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ سَوَاءٌ قَوْله تَعَالَى: {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} [الإسراء: 110] ، وَلِهَذَا يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، أَوْ بِاسْمِ الرَّحِيمِ، فَكَذَا هَذَا، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَذْهَبَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَنَا بِهِمْ أُسْوَةٌ هَذَا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ، فَأَمَّا إذَا ذَكَر الِاسْمَ لَا غَيْرَ بِأَنْ قَالَ: " اللَّهُ " لَا يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا، وَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْمِ الْمُجَرَّدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِقَوْلِهِ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ " لَا بِالنَّفْيِ، وَلَوْ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ - تَعَالَى - بَلْ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ وَالدُّعَاءِ دُونَ خَالِصِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَلَوْ قَالَ: " اللَّهُمَّ " اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّ الْمِيمَ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ بَدَلٌ عَنْ النِّدَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: " يَا اللَّهُ ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّ الْمِيمَ فِي قَوْلِهِ: " اللَّهُمَّ " بِمَعْنَى السُّؤَالِ، مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ آمِنَّا بِخَيْرٍ، أَيْ أَرِدْنَا بِهِ فَيَكُونُ دُعَاءً لَا ثَنَاءً خَالِصًا كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قَالَ: خداي بزر كنر أَوْ خداي بزرك - يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ. وَلَوْ ذَبَحَ وَسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَفِي بَابِ الذَّبْحِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَذَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَجَوَّزَ النَّقْلَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ النَّقْلَ إلَى الْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ: الْعَرَبِيَّةُ لِبَلَاغَتِهَا وَوَجَازَتِهَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا الْفَارِسِيَّةُ، فَتَحْتَمِلُ الْخَلَلَ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ النَّقْلِ مِنْهَا إلَى الْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا لِلْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - أَهْلَ كَرَامَتِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَذِهِ اللُّغَةِ؛ فَلَا يَقَعُ غَيْرُهَا مِنْ الْأَلْسِنَةِ مَوْقِعَ كَلَامِ الْعَرَبِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ جَازَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَمَدَ كِتَابَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي اعْتِبَارِ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَاعْتُبِرَ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْفَارِسِيَّةِ ثُمَّ شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْبِيرِ أَنْ يُوجَدَ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا، حَتَّى لَوْ كَبَّرَ قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ لَا يَصِيرُ شَارِعًا، وَلَوْ وَجَدَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ أَوْ الْقُعُودِ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا ثُمَّ يَتْبَعَهُ فِي الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَوْ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ فِي الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِعَدَمِ التَّكْبِيرِ قَائِمًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. (وَمِنْهَا) - تُقَدَّمُ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ الَّتِي يَتَذَكَّرُهَا إذَا كَانَتْ الْفَوَائِتُ قَلِيلَةً، وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ، فَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِمُسْقِطٍ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي اشْتِرَاطِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّرْتِيبِ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - التَّرْتِيبُ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالثَّانِي - التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ، وَالثَّالِثُ - التَّرْتِيبُ فِي الْفَوَائِتِ، وَالرَّابِعُ - التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا شَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهَا، حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، وَلَا أَدَاءُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لَا تَجِبُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ مُحَالٌ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. (أَمَّا) التَّرْتِيبُ بَيْنَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ شَرْطٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِشَرْطٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ صَارَ لِلْوَقْتِيَّةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِهَا كَمَا فِي حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلِيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، فَقَدْ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتَ الْفَائِتَةِ» ، فَكَانَ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ أَدَاءً قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلِيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ وَلِيَجْعَلْهَا تَطَوُّعًا، ثُمَّ لِيَقْضِ مَا تَذَّكَّر ثُمَّ لِيُعِدْ مَا كَانَ صَلَّاهُ مَعَ الْإِمَامِ» ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ تَفْسُدُ الْفَرْضِيَّةُ لِلصَّلَاةِ إذَا تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ فِيهَا، وَيَلْزَمهُ الْإِعَادَةُ، بِخِلَافِ حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا كَوْنَ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَعَرَفْنَا كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْفَائِتَةِ عِنْد ضِيقِ الْوَقْتِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتٌ لِلْوَقْتِيَّةِ عَنْ الْوَقْتِ، وَكَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَتَفُوتُ الْوَقْتِيَّةُ عَنْ وَقْتِهَا؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَعَلَ الْوَقْتَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ فَلَا يَصِيرُ وَقْتًا لَهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ صَلَاةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْوَقْتِيَّةُ؛ وَلِأَنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى وَقْتٍ لَيْسَ بِمَشْغُولٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ لَا يَشْغَلُ، كَمَا انْصَرَفَ إلَى وَقْتٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ. (وَأَمَّا) النِّسْيَانُ فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ، وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا فَلَمْ يَصِرْ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ وُجِدَ التَّذَكُّرُ فَكَانَ الْوَقْتُ لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، بَلْ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلَائِلِ، إذْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ عَنْ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا شُغْلُ مَا هُوَ مَشْغُولٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْوَقْتِيَّةَ وَقَضَى الْفَائِتَةَ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوَقْتِيَّةِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ، وَأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لَهَا بَلْ كَانَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ. فَأَمَّا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ - وَإِنْ لَمْ يَتَّصِل بِهِ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ - لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَانَ وَقْتًا لَهُ حَتَّى تَصِيرَ الصَّلَاةُ فَائِتَةً وَتَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّرْتِيبُ فِي الْفَوَائِتِ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْوَقْتِيَّةِ وَالْفَائِتَةِ - عِنْدنَا - يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ إذَا كَانَتْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ - عِنْدَنَا أَيْضًا -؛ لِأَنَّ قِلَّةَ الْفَوَائِتِ لَمْ تَمْنَعْ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى التَّرْتِيبِ ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَيُبْنَى عَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أَوْلَى - فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ بِيَقِينٍ وَهُوَ التَّرْتِيبُ فَيُصَارُ إلَى التَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ قَامَ مَقَامَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ عَمِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ كَالثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ وَأَرَادَ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ مَا صَلَّى أَوَّلًا أَيَّتُهُمَا كَانَتْ، إلَّا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالظُّهْرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ وُجُوبًا فِي الْأَصْلِ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ أَوَّلًا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ وَكَانَتْ الظُّهْرُ الَّتِي أَدَّاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثَانِيَةً نَافِلَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَصْرُ هِيَ الْمَتْرُوكَةُ أَوَّلًا كَانَتْ الظُّهْرُ الَّتِي أَدَّاهَا قَبْلَ الْعَصْرِ نَافِلَةً لَهُ، فَإِذَا أَدَّى الْعَصْرَ بَعْدَهَا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ، ثُمَّ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ بَعْدَهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ فَيَعْمَلُ كَذَلِكَ لِيَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا نَأْمُرهُ إلَّا بِالتَّحَرِّي، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ كَيْفَ يَصْنَعُ عِنْدَهُمَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ أَنَّهُ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِحْبَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُمَا مَا بَيَّنَّا الِاسْتِحْبَابَ، وَذِكْرُ عَدَمِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ مَا أَوْجَبَ الْإِعَادَةَ. (وَجْهٌ) قَوْلُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ هُوَ التَّحَرِّي وَالْعَمَلُ بِهِ لَا الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ يَعْمَلُ بِالتَّحَرِّي وَلَا يَأْخُذُ بِالْيَقِينِ بِأَنْ يُصَلِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ؟ وَكَذَا مَنْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا يَتَحَرَّى وَلَا يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ الْأَقَلُّ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّمَا يُصَلِّي مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ لِتَصِيرَ هَذِهِ مُؤَدَّاةٌ قَبْلَ وَقْتِهَا فَسَقَطَ عَنْهُ التَّرْتِيبُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ كَانَ أَوْلَى إلَّا إذَا تَضَمَّنَ فَسَادًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ ثَمَّةَ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ
حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَيَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَهَهُنَا لَا فَسَادَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَتَكُونُ إحْدَاهُمَا تَطَوُّعًا، وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا لَا يُبْنَى عَلَى الْأَقَلِّ لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى أَرْبَعًا فَيَصِيرُ بِالْقِيَامِ إلَى الْأُخْرَى تَارِكًا لِلْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ فَرْضٌ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ أُمِرَ بِالْقَعْدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالرَّكْعَةِ لَحَصَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهَهُنَا يَصِيرُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ فَسَادًا، فَكَانَ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهَا هِيَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا كَذَا هَهُنَا. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا حِينَ بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لَا يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عَلَيْهِ أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ فَكَانَ التَّرْتِيبُ عَنْهُ سَاقِطًا فَنَقُولُ: حِينَ صَلَّى هَذِهِ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عَلَيْهِ أُخْرَى لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا سَابِقَةٌ عَلَى هَذِهِ أَوْ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَيْهَا لَمْ تَجُزْ الْمُؤَدَّاةُ لِعَدَمِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُؤَدَّاةُ سَابِقَةً جَازَتْ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْجَوَازِ فَصَارَتْ الْمُؤَدَّاةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ دَائِرَةً بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِيَقِينٍ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَكَّ فِي ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ مِنْ يَوْمٍ، وَالْعَصْرُ مِنْ يَوْمٍ، وَالْمَغْرِبُ مِنْ يَوْمٍ - ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ يَزِيدُ - عَلَى هَذَا - سِتَّ صَلَوَاتٍ، فَصَارَتْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ فَلَا يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِي قَضَائِهَا، فَيُصَلِّي أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَالتَّرْتِيبُ عِنْدَ النِّسْيَانِ سَاقِطٌ فَكَانَتْ الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْفَائِتَةِ فِي أَنْفُسِهَا جَائِزَةً لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ، فَبَقِيَتْ الْفَوَائِتُ فِي أَنْفُسِهَا فِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِيهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ سَبْعَ صَلَوَاتٍ: يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ الظُّهْرَ، ثُمَّ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ الظُّهْرَ، مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ بِيَقِينٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَبِرَ الْفَائِتَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَتَا فَيُعِيدَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، ثُمَّ يَأْتِي بِالثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا بِأَنْ تَرَكَ الْعِشَاءَ مِنْ يَوْمٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي سَبْعَ صَلَوَاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا سَبْعَ صَلَوَاتٍ مِثْلَ مَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الرَّابِعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الِاحْتِيَاطِ هَهُنَا حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ مِنْ أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ أَوَّل يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ صَلَاةً وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَالْجَوَابُ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ مَا قَالَاهُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، إلَّا أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ احْتِيَاطٌ لَا حَتْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بَلْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُرَادِ، وَإِعَادَةُ الْأُولَى وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبٌ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةً وَلَهُ طَرِيقٌ فِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ مَشَقَّةٍ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ بِأَنْ صَلَّى أَيَّامًا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا، ثُمَّ تَذَكَّرَ الْفَوَائِتَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ التَّرْتِيبَ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلْفَوَائِتِ حَتَّى صَلَّى أَيَّامًا مَعَ تَذَكُّرِهَا ثُمَّ نَسِيَ سَقَطَ التَّرْتِيبُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ صَارَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ بَعْدَ الْفَوَائِتِ عِنْدَهُمَا فَاسِدَةٌ إلَى السِّتِّ وَإِذَا فَسَدَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحَرِّي وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ عِنْدَهُ تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ إذَا بَلَغَتْ مَعَ الْفَائِتَةِ سِتًّا، وَإِذَا انْقَلَبَتْ إلَى الْجَوَازِ بَقِيَتْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِيهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إلَى الْفَوَائِتِ فَمَا دَامَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيهَا، وَإِذَا كَثُرَتْ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِيهَا؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ فِي الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ فِي الْقَضَاءِ أَوْلَى، هَذَا إذَا شَكَّ فِي صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَاتَتْهُ وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ - يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ يُصَلِّي خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ: إنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا الْفَجْرَ، وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ أُخَرَ بِتَحْرِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ يَنْوِي بِهَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مَا فَاتَتْهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا أَوْ عِشَاءً انْصَرَفَتْ هَذِهِ إلَيْهَا وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مَا
عَلَيْهِ لَكِنْ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ فَيَقْعُدُ، عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَتْرُوكَةُ فَجْرًا لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَلَوْ كَانَتْ الْمَغْرِبَ لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ كَانَتْ كُلُّهَا فَرْضًا وَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، إلَّا أَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ أُخْرَى كَانَ تَرَكَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَوْ نَوَى مَا عَلَيْهِ يَنْصَرِفُ إلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضُ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى هَذِهِ الَّتِي يُصَلِّي، فَيُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ صُلْبِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَلَمْ يَدْرِ أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ - يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَصَارَ الشَّكُّ فِيهَا كَالشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ يَسْقُطُ بِأَحَدِ خِصَالٍ ثَلَاثٍ: أَحَدُهَا - ضِيقُ الْوَقْتِ بِأَنْ يَذْكُرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ يَخْرُجُ الْوَقْتُ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ، سَقَطَ عَنْهُ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ تَذَّكَّر صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بَعْدَ مَا تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَلَا يُجْزِئُهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَضَاءَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَضَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ. وَأَمَّا إذَا تَذَكَّرَهَا قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا لَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ - لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَصْرَ قَبْلَ أَنْ يُرَاعِيَ التَّرْتِيبَ فَيَقْضِيَ الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ خُرُوجَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا. بَلْ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ قَبْلَ الظُّهْرِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَقَالَ: هَذَا عِنْدِي عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْفَجْرَ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ يَخَافُ فَوْتَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ، فَلَمْ يَجْعَلَا فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ الْفَجْرَ، فَجَعَلَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَلَى قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَصْرُ وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الْعَصْرِ مَعَ تَرْكِ الظُّهْرِ لَمْ يَصِحَّ، فَيَقْطَعُ ثُمَّ يَفْتَتِحُهَا ثَانِيًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَلَوْ افْتَتَحَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حَتَّى دَخَلَ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلتَّرْتِيبِ قَدْ وُجِدَ عِنْد افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَاخْتِتَامِهَا، وَهُوَ النِّسْيَانُ وَضِيقُ الْوَقْتِ وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فَلَمَّا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ - الْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ قَدْ زَالَ وَهُوَ ضِيقُ الْوَقْتِ فَعَادَ التَّرْتِيبُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَمْضِي فِيهَا ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ. (وَالثَّانِي) - النِّسْيَانُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ، وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى الْمَغْرِبَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: رَآنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟ فَقَالُوا: لَا فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَغْرِبَ» ، وَلَوْ وَجَبَ التَّرْتِيبُ لَأَعَادَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِمَا صَنَعَ فَأَعَادَ الظُّهْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْعَصْرَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ تُجْزِئُهُ أَعَادَ الْعَصْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَغْرِبَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الظُّهْرِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ شَرْطِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَحِينَ صَلَّى الْعَصْرَ صَلَّى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الظُّهْرَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا الظَّنُّ مُعْتَبَرًا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ جَهْلٍ، وَالظَّنُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا نَشَأَ عَنْ دَلِيلٍ أَوْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ هَذَا جَهْلًا مَحْضًا، فَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ فَكَانَ مُصَلِّيًا الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ، وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ إعَادَتِهِمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ فَصَارَ الْمَغْرِبُ فِي، وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ فَأَمَّا لَوْ كَانَ أَعَادَ الظُّهْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْعَصْرَ فَظَنَّ جَوَازَهَا ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ - فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْعَصْرِ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ أَنَّ عَصْرَهُ جَائِزٌ ظَنٌّ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَلِهَذَا خَفِيَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَحِين
صَلَّى الْمَغْرِبَ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا الْمُخْتَصَّةِ بِهَا، إنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى شُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عَلَيْهِ - حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ كَمَا لَوْ كَانَ نَاسِيًا لِلْعَصْرِ، بَلْ هَذَا فَوْقَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ النَّاسِي لَمْ يَنْشَأْ عَنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ بَلْ عَنْ غَفْلَةٍ طَبِيعِيَّةٍ، وَهَذَا الظَّنُّ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ فَكَانَ هَذَا فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ هُنَاكَ حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ فَهَهُنَا أَوْلَى، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْفَائِتَةِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِهَا حَالَ الْفَوَاتِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ قَضَائِهَا، حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَكَثَ فِيهَا سَنَةً وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَمْ يُصَلِّ ثُمَّ عَلِمَ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا ذِمِّيًّا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ (وَجْهٌ) قَوْلُ زُفَرَ: أَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ أَحْكَامَهُ، وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (وَلَنَا) أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُنِعَ عَنْهُ الْعِلْمُ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِ، وَلَا وُجُوبَ عَلَى مَنْ مُنِعَ عَنْهُ الْعِلْمُ كَمَا لَا وُجُوبَ عَلَى مَنْ مُنِعَ عَنْهُ الْقُدْرَةُ بِمَنْعِ سَبَبِهَا، بِخِلَافِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ السُّؤَالِ، وَالْوُجُوبُ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ مَنْ ضَيَّعَ الْعِلْمَ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّضْيِيعُ هَهُنَا إذْ لَا يُوجَدُ فِي الْحَرْبِ مَنْ يَسْأَلهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ وَمَا مُنِعَ مِنْهُ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ حُكْمًا لَهُ سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ بَلَّغَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا يَتْرُكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُخْبِرْهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ مُلْزِمٌ، وَمِنْ أَصْلِهِ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الْخَبَرِ الْمُلْزِمِ، كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْإِخْبَارِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ الْأَصَحُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالتَّبْلِيغِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» ، فَهَذَا الْمُبَلِّغُ نَظِيرُ الرَّسُولِ مِنْ الْمُوَلِّي وَالْمُوَكِّلِ، وَخَبَرُ الرَّسُولِ هُنَاكَ مُلْزِمٌ فَهَهُنَا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالثَّالِثُ) - كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: التَّرْتِيبُ لَا يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً فَصَلَّى فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَصَلَاةُ عُمُرِهِ عَلَى الْفَسَادِ مَا لَمْ يَقْضِ الْفَائِتَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلتَّرْتِيبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ قَلِيلِ الْفَائِتِ وَكَثِيرِهِ؛ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تَكُونُ عَنْ كَثْرَةِ تَفْرِيطِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ التَّخْفِيفُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ لَوْ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مَعَهَا لَفَاتَتْ الْوَقْتِيَّةِ عَنْ الْوَقْتِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ أَدْنَى الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ: فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّابِعَةِ قَبْلَهَا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ خَمْسًا، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَلْزَمهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ شَهْرٍ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى شَهْرٍ. (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ فِي كُلِّ بَابٍ كُلُّ جِنْسِهِ، كَالْجُنُونِ إذَا اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ لَا تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَصِيرُ مُكَرَّرَةً، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى بَعْدهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ بَعْد، وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُنَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا كُلَّ صَلَاةٍ مِنْهَا فِي وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ. وَالْمَتْرُوكَةُ قَبْلَ الْمُؤَدَّاةِ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا الْمُؤَدَّاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا - فَلَمْ يَجُزْ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ يَقْضِي الْمَتْرُوكَةَ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ السَّادِسَةَ جَائِزَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِهَا حَتَّى صَلَّى السَّابِعَةَ فَالسَّابِعَةُ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ السَّابِعَةِ وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ السَّادِسَةُ لَمْ يُجْعَلْ وَقْتًا لِلْفَوَائِتِ
لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ وَقْتًا لَهُنَّ لَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ لِاسْتِيعَابِ تِلْكَ الْفَوَائِتِ هَذَا الْوَقْتَ وَفِيهِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ، فَإِذَا أَدَّاهَا حُكِمَ بِجَوَازِهَا لِحُصُولِهَا فِي وَقْتِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَيُجْعَلُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، ثُمَّ إذَا صَلَّى السَّابِعَةَ تَعُودُ الْمُؤَدَّيَاتُ الْخَمْسُ إلَى الْجَوَازِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَحْدَهَا اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ صَلَّى السَّادِسَةَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَوَائِتِ فَالسَّادِسَةُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ صَلَّى السَّابِعَةَ تَنْقَلِبُ السَّادِسَةُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْخَمْسِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَنْقَلِبُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ السِّتِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى شَهْرًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسٍ بَعْدَهَا، إلَّا عَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُعِيدُ الْفَائِتَةَ وَجَمِيعَ مَا صَلَّى بَعْدَهَا مِنْ صَلَاةِ الشَّهْرِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: " وَاحِدَةٌ تُصَحِّحُ خَمْسًا وَوَاحِدَةٌ تُفْسِدُ خَمْسًا "؛ لِأَنَّهُ إنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ صَحَّ الْخَمْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ قَضَى الْمَتْرُوكَةَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي السَّادِسَةَ فَسَدَتْ الْخَمْسُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ مُؤَدَّاةٍ إلَى الْخَمْسِ حَصَلَتْ فِي وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْمَتْرُوكَةِ لِكَوْنِ الْمَتْرُوكَةِ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَوَقْتُ الْمَتْرُوكَةِ قَبْلَ وَقْتِ هَذِهِ الْمُؤَدَّاةِ، فَحَصَلَتْ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَ وَقْتِهَا فَفَسَدَتْ، فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِجَوَازِهَا وَلَا لِلْحُكْمِ بِتَوَقُّفِهَا لِلْحَالِ. (وَأَمَّا) وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ، قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ: إنَّا وَجَدْنَا صَلَاةً بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ جَائِزَةً وَهِيَ السَّادِسَةُ. وَقَدْ أَدَّاهَا عَلَى نَقْصِ التَّرْكِيبِ وَتَرْكِ التَّأْلِيفِ، فَكَذَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ مَا قَبْلِهَا وَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى تَرْكِ التَّأْلِيفِ وَنَقْصِ التَّرْكِيبِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ وَاهِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ السَّادِسَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلِهَا فِي الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا، بَلْ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُفَرِّقِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ السَّادِسَةِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْمَتْرُوكَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَوَقْتُ كُلِّ صَلَاةٍ مُؤَدَّاةٍ قَبْلَ السَّادِسَةِ وَقْتٌ لِلْمَتْرُوكَةِ، فَكَانَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ أَدَاءً فِي وَقْتِهَا فَجَازَتْ، وَأَدَاءُ كُلِّ مُؤَدَّاةٍ أَدَاءٌ قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَمْ تَجُزْ. (وَقَالَ) مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّ الْكَثْرَةَ عِلَّةُ سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، فَإِذَا أَدَّى السَّادِسَةَ فَقَدْ ثَبَتَتْ الْكَثْرَةُ وَهِيَ صِفَةٌ لِلْكُلِّ لَا مَحَالَةَ، فَاسْتَنَدَتْ إلَى أَوَّلِ الْمُؤَدَّيَاتِ فَنَسْتَنِدُ لِحُكْمِهَا فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ لِلْكُلِّ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَإِنْ صَارَتْ صِفَةً لِلْكُلِّ لَكِنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُؤَدَّيَاتِ كَمَا أُدِّيَتْ تَثْبُتُ لَهَا صِفَةُ الْكَثْرَةِ قَبْل وُجُودِ مَا يَتَعَقَّبُهَا لِاسْتِحَالَةِ كَثْرَةِ الْوُجُودِ بِمَا هُوَ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ بَعْد، وَلَوْ اتَّصَفَتْ هِيَ بِالْكَثْرَةِ، وَلَا تَتَّصِفُ الذَّاتُ بِهَا وَحْدَهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْوَاحِدِ كَثِيرًا بِمَا يَتَعَقَّبُهَا مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ، وَتِلْكَ مَعْدُومَةً فَيُؤَدِّي إلَى اتِّصَافِ الْمَعْدُومِ بِالْكَثْرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَدَلَّ أَنَّ صِفَةَ الْكَثْرَةِ تَثْبُت لِلْكُلِّ مُقْتَصِرًا عَلَى وُجُودِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، كَمَا إذَا خَلَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - جَوْهَرًا وَاحِدًا لَمْ يَتَّصِفْ بِكَوْنِهِ مُجْتَمِعًا، فَلَوْ خُلِقَ مُنْضَمًّا إلَيْهِ جَوْهَرٌ آخَرُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُجْتَمِعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَذَا هَذَا، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الدَّعْوَى الْمُمْتَنِعَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاهَلَةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّاةَ الْأُولَى وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهَا لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِجَوَازِهَا وَسُقُوطِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ كَانَ مُتَعَلِّقًا لِمَعْنًى وَهُوَ اسْتِيعَابُ الْفَوَائِتِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَتَفْوِيتُ الْوَقْتِيَّةِ عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فَلَمْ تَجِبْ الْمُرَاعَاةُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِد، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ فِي الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسِ، وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ وَسُقُوطَ التَّرْتِيبِ بِسَبَبِ صِفَةِ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ، وَمَتَى حُكِمَ بِالْجَوَازِ لَمْ تَبْقَ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَيَجِيءُ التَّرْتِيبُ، وَمَتَى جَاءَ التَّرْتِيبُ جَاءَ الْفَسَادُ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ صَحِيحَيْنِ. وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْمُعِينِ وَهُوَ أَنَّ أَدَاءَ السَّادِسَةِ مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ حَصَلَ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتُهَا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعِ وَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَائِتَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي جَعْلِ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا، وَانْتَهَى مَا هُوَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ، فَإِذَا قُضِيَتْ الْفَائِتَةُ بَعْدَ
أَدَاءِ السَّادِسَةِ مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَهُوَ وَقْتُهَا الْأَصْلِيُّ؛ لِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ فَالْتِحَاقُهَا بِمَحَلِّهَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُتَعَيَّنٌ لَهُ، وَلَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُزَاحِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَالْتِحَاقُهَا بِوَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهَا فِيهِ أَوْلَى. (وَالثَّانِي) - أَنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَهَذَا وَقْتُ غَيْرِهِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ وَقْتًا لَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُرَجَّحُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا فَالْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ حُكْمًا، وَالثَّابِتُ حُكْمًا كَالثَّابِتِ حَقِيقَةً، وَإِذَا الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْسَ الْمُؤَدَّيَاتِ أُدِّيَتْ فِي أَوْقَاتِهَا فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قُضِيَتْ الْمَتْرُوكَةُ قَبْلَ أَدَاءِ السَّادِسَةِ؛ لِأَنَّهَا قُضِيَتْ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتُهَا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ كَوْنَهُ وَقْتًا لَهَا، فَإِذَا قُضِيَتْ فِيمَا هُوَ وَقْتُهَا ظَاهِرًا تَتَقَرَّرُ فِيهِ وَلَا تَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسَ أُدِّيَتْ بَعْدَ الْفَائِتَةِ، بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُدِّيَتْ قَبْلَ الْفَائِتَةِ لِاسْتِقْرَارِ الْفَائِتَةِ بِمَحَلِّ قَضَائِهَا وَعَدَمِ الْتِحَاقِهَا بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، فَحُكِمَ بِفَسَادِ الْمُؤَدَّيَاتِ، وَبِخِلَافِ حَالِ النِّسْيَانِ وَضِيقِ الْوَقْتِ إذَا أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ، حَيْثُ لَا تَجِبُ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ، وَلَوْ الْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ بِمَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ لَوَجَبَ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَصَلَتْ قَبْلَ وَقْتِ الْفَائِتَة؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُؤَدَّى حَصَلَ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتٌ لَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا مَرَّ، فَأَدَاءُ الْفَائِتَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ هَذَا الْوَقْتَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْمُؤَدَّاةِ، فَتَقَرَّرَتْ الْمُؤَدَّاةُ فِي مَحَلِّهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَالْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ فِي حَقِّ الْمُؤَدَّاةِ بِصَلَاةِ وَقْتِهَا بَعْدَ وَقْتِ الْمُؤَدَّاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إفْسَادِ الْمُؤَدَّاةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ الْمُصَلِّي وَقَرَأَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَكَعَ حَيْثُ لَمْ يَلْتَحِقْ الرُّكُوعُ بِمَحَلِّهِ وَهُوَ قَبْلَ السُّجُودِ حَتَّى كَانَ لَا يَجِبُ إعَادَةُ السُّجُودِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَحِقْ حَتَّى يَجِبَ إعَادَةُ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُجْعَلُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّهِ أَنْ لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ آخَرُ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَهُ وَوَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْتَحَقَ بِمَحَلِّهِ، وَهُنَاكَ السُّجُودُ وَقَعَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَمَا وَقَعَ مُعْتَبَرًا، فَلَغَا، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الرُّكُوعُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ السَّجْدَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَقَالُوا) فِيمَنْ تَرَكَ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً مَجَانَةً ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا مِنْ الْفَوَائِتِ، فَتَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى أُخْرَى وَهُوَ ذَاكِرٌ لِهَذِهِ الْفَائِتَةِ الْحَدِيثَةِ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَجْعَلُ الْفَوَائِتَ الْكَثِيرَةَ الْقَدِيمَةَ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ، وَتُضَمُّ هَذِهِ الْمَتْرُوكَةُ إلَى مَا مَضَى، إلَّا أَنَّ الْمَشَايِخَ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا زَجْرًا لِلسُّفَهَاءِ عَنْ التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَلِئَلَّا تَصِيرَ الْمَقْضِيَّةُ وَسِيلَةً إلَى التَّخْفِيفِ، ثُمَّ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ كَمَا تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ فِي الْأَدَاءِ تُسْقِطُهُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا عَمِلَتْ فِي إسْقَاطِ التَّرْتِيبِ فِي غَيْرِهَا فَلَأَنْ تَعْمَلَ فِي نَفْسِهَا أَوْلَى، حَتَّى لَوْ قَضَى فَوَائِتَ الْفَجْرِ كُلَّهَا، ثُمَّ الظُّهْرَ كُلَّهَا، ثُمَّ الْعَصْرَ كُلَّهَا هَكَذَا - جَازَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَصَلَّى مِنْ الْغَدِ مَعَ كُلِّ صَلَاةِ صَلَاةً قَالَ: الْفَوَائِتُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ قَدَّمَهَا أَوْ أَخَّرَهَا. وَأَمَّا الْوَقْتِيَّةُ فَإِنْ قَدَّمَهَا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى وَاحِدَةً مِنْهَا صَارَتْ الْفَوَائِتُ سِتًّا، لَكِنَّهُ مَتَى قَضَى فَائِتَةً بَعْدَهَا عَادَتْ خَمْسًا ثَمَّ، وَثَمَّ فَلَا تَعُودُ إلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قَضَى فَائِتَةً عَادَتْ الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا وَفَسَدَتْ الْوَقْتِيَّةُ، إلَّا الْعِشَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ قَدْ قَضَاهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِي. (وَأَمَّا) التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ شَرْطٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَسَبَقَهُ الْإِمَامُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَوْ عَادَ مِنْ وُضُوئِهِ - فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ ثُمَّ يُتَابِعَ إمَامَهُ لِمَا يَذْكُرُ، وَلَوْ تَابَعَ إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَ عِنْدنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إذَا زَحَمَهُ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَبَقِيَ قَائِمًا، وَأَمْكَنَهُ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّي الْأُولَى، ثُمَّ قَضَى الْأُولَى بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً فِي الرُّكُوعِ وَقَضَاهَا، أَوْ سَجْدَةً فِي السَّجْدَةِ وَقَضَاهَا - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الرُّكُوعَ أَوْ السُّجُودَ الَّذِي هُوَ فِيهِمَا. وَلَوْ اعْتَدَّ بِهِمَا وَلَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَدَّ بِهِمَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهُمَا. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ
فَلَا يَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ، كَمَا إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ السُّجُودِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ، ثُمَّ أَمْرٌ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ لَا بِمَا سَبَقَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَقَدْ أَخَّرَهُ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاو، وَأَنَّهُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَقَعُ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ، إلَّا أَنَّ الْمَسْبُوقَ صَارَ مَخْصُوصًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بِهَا» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِظَاهِرِهِ، وَبِضَرُورَتِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ إسْقَاطٌ فِيمَا هُوَ مِنْ أَجْزَائِهَا ضَرُورَةٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ قَبْلَ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانَ شَرَائِطِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ الَّتِي تَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جَمِيعًا، (فَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ وَهُوَ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ رُكْنِ الِاقْتِدَاءِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ. (وَأَمَّا) رُكْنُهُ فَهُوَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وَقَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا - الشِّرْكَةُ فِي الصَّلَاتَيْنِ وَاتِّحَادُهُمَا سَبَبًا وَفِعْلًا وَوَصْفًا؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لِمَا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ، فَكُلَّمَا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ مِنْ الْمُقْتَدِي، وَمَا لَا فَلَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالشِّرْكَةِ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَاتِّحَادُهُمَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّذِي وَصَفْنَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَسَائِلُ: الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِافْتِتَاحِ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ لَا يُتَصَوَّرَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْعَدَمِ مُحَالٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» ، وَمَا لَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ لَا يَتَحَقَّقُ الِائْتِمَامُ بِهِ، وَكَذَا إذَا كَبَّرَ قَبْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَدَّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاطِعًا لِمَا كَانَ فِيهِ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، كَمَنْ كَانَ فِي النَّفْلِ فَكَبَّرَ وَنَوَى الْفَرْضَ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ النَّفْلِ دَاخِلًا فِي الْفَرْضِ، وَكَمَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ أَلْفَيْنِ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَعَقْدًا آخَرَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ لَمْ يُجَدِّدْ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ هَلْ يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ؟ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِيمَا إذَا جَدَّدَ التَّكْبِيرَ وَنَوَى الدُّخُولَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَالَ: التَّكْبِيرُ الثَّانِي قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ، وَأَشَارَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ، ثُمَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ كَبَّرَ فَيَصِيرَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ، كَالْمُقْتَدِي بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُكَبِّرْ فَيَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهُ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِمَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِمُشْرِكٍ أَوْ جُنُبٍ أَوْ بِمُحْدِثٍ، وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ اسْتَأْنَفَ التَّكْبِيرَ نَاوِيًا الشُّرُوعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا مُسْتَأْنِفًا، وَاسْتِقْبَالُ مَا هُوَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ، دَلَّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي إحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى. (وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ نَوَى شَيْئَيْنِ: الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فَبَطَلَتْ إحْدَى نِيَّتَيْهِ وَهِيَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا فَتَصِحُّ الْأُخْرَى وَهِيَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَصَارَ كَالشَّارِعِ فِي الْفَرْضِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِالْمُشْرِكِ وَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَصَارَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ. وَأَمَّا هَذَا فَمِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ مُعْتَبَرَةٌ فَلَمْ يَصِرْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَبَّرَ الْمُقْتَدِي وَعَلِمَ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَأَمَّا إذَا كَبَّرَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْهَارُونِيَّاتِ وَجَعَلَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ بَعْدَ الْإِمَامِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْيَقِينِ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ رَأْيُهُ
عَلَى شَيْءٍ فَالْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْجَوَازُ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ بِيَقِينٍ، وَيُحْمَلُ عَلَى الصَّوَابِ احْتِيَاطًا مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِالْخَطَأِ، كَمَا قُلْنَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةٌ أَمْ لَا: إنَّهُ يَقْضِي بِجَوَازِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، وَكَذَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ هَهُنَا. وَلَوْ كَبَّرَ الْمُقْتَدِي مَعَ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ طَوَّلَ قَوْلَهُ حَتَّى فَرَغَ الْمُقْتَدِي مِنْ قَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ قَوْلِهِ: " اللَّهُ " لَمْ يَصِرْ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ " وَحْدَهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُقْتَدِي مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّعْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي ذِكْرِهِمَا، فَإِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِاسْمِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي ذِكْرِ النَّعْتِ لَا غَيْرَ، وَهُوَ غَيْرُ كَافٍ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ اللَّابِسِ بِالْعَارِي؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ بِهَا الصَّلَاةُ مَعَ السِّتْرِ فَلَا يُقْبَلُ الْبِنَاءُ لِاسْتِحَالَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْعَدَمِ، وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهَا فِي الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْعَارِي لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، فَلَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْعَدَمِ مُسْتَحِيلٌ. وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الصَّحِيحِ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ الدَّائِمِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ مَعَ انْقِطَاعِ الدَّم فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ، وَلِأَنَّ النَّاقِضَ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي. فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ مِنْ الْمُقْتَدِي، وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ عَنْ الْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي. وَكَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِالْأَخْرَسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَلَا تَحْرِيمَةَ مِنْ الْإِمَامِ أَصْلًا فَاسْتَحَالَ الْبِنَاءُ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ بِلَا تَحْرِيمَةٍ لِلضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْ الْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَنَزَلَ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى التَّحْرِيمَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ مَنْزِلَةَ الْقَارِئِ مِنْ الْأُمِّيِّ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحْرِيمَةِ جَازَ اقْتِدَاؤُهُ بِالْأَخْرَسِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجَةِ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْمُومِئِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَقَطَ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الْإِيمَاءُ، وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بِالْخَلْفِ كَأَدَائِهِ بِالْأَصْلِ، وَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ وَالْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ. (وَلَنَا) أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْإِيمَاءُ - وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ فِيهِ بَعْضُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا أَنَّهُمَا لِلِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ، وَقَدْ وُجِدَ أَصْلُ الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ فِي الْإِيمَاءِ فَلَيْسَ فِيهِ كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - تَنْعَقِدُ تَحْرِيمَتُهُ لِتَحْصِيلِ وَصْفِ الْكَمَالِ، فَلَمْ يُمْكِنُ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْمُومِئِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، فَلَمْ يَكُنْ مَا أَتَى بِهِ الْمُومِئُ صَلَاةً شَرْعًا فِي حَقِّهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْبِنَاءُ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ خَلْفٌ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْفَرْضِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ لَا أَنْ يَكُونَ خَلْفًا، بِخِلَافِ الْمَسْحِ مَعَ الْغَسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَلْفٌ فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مِنْ يُومِئُ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا بِمَنْ يُومِئُ مُضْطَجِعًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ، ثُمَّ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْأُمِّيَّ إذَا أَمَّ الْقَارِئَ أَوْ الْقَارِئَ وَالْأُمِّيِّينَ فَصَلَاةُ الْكُلِّ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأُمِّيِّ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ تَامَّةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ عُذْرٍ اقْتَدَى بِهِ مَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ - فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ، كَالْعَارِي إذَا أَمَّ الْعُرَاةَ وَاللَّابِسِينَ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَؤُمُّ الْأَصِحَّاءَ وَأَصْحَابَ الْجِرَاحِ، وَالْمُومِئِ إذَا أَمَّ الْمُومِئِينَ وَالرَّاكِعِينَ وَالسَّاجِدِينَ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِ، كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ
فِي الْمَسْأَلَةِ: إحْدَاهُمَا - مَا ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ - فَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ، بِأَنْ يُقَدِّمَ الْقَارِئَ فَيَقْتَدِيَ بِهِ فَتَكُونَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَفَسَدَتْ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْإِمَامِ يَكُونُ لُبْسًا لِلْمُقْتَدِي، وَكَذَا رُكُوعُ الْإِمَامِ وَسُجُودُهُ، وَلَا يَنُوبُ عَنْ الْمُقْتَدِي، وَوُضُوءُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ وُضُوءً لِلْمُقْتَدِي فَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ الْعُذْرِ بِتَقْدِيمِ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، وَلَا يَلْزَم عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَا إذَا كَانَ الْأُمِّيُّ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُنَاكَ قَارِئٌ يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ، حَيْثُ تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِالْقَارِئِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَمْنُوعَةٌ، وَذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ، هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْقَارِئِ رَغْبَةٌ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ حَيْثُ اخْتَارَ الِانْفِرَادَ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (وَالطَّرِيقَةُ) الثَّانِيَةُ - مَا ذَكَرَهُ غَسَّانُ وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ، فَإِذَا صَلَّوْا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ كَالْقَارِئِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِاشْتِرَاكِهَا بَيْنَ الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ أَوَانِ الْقِرَاءَةِ تَفْسُدُ لِانْعِدَامِ الْقِرَاءَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّحْرِيمَةَ لَمْ تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ اللَّابِسِ لَمْ تَنْعَقِدْ إذَا اقْتَدَى بِالْعَارِي لِافْتِقَارِهَا إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِلَى ارْتِفَاعِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْقَارِئِ مُشْتَرَكَةً فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَحْرِيمَةُ الْأُمِّيِّ لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَارِئِ فِيهَا، أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اقْتَدَى الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، حَيْثُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ صَحَّ شُرُوعٌ فِي الِابْتِدَاءِ لَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا، وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمهُ شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فِيهَا. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْكَافِرِ، وَلَا اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَكَانَتْ صَلَاتُهَا عَدَمًا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، إلَّا أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فُرَادَى أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَنْسُوخَةٌ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ إذَا نَوَى الرَّجُلُ إمَامَتَهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، ثُمَّ إذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا خَاصَّةً لَا صَلَاةُ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ كَانَ قَصْدُهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ لَا إفْسَادَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، فَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ، وَإِذَا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ فَقَدْ قَصَدَتْ إفْسَادَ صَلَاتِهِ فَيُرَدُّ قَصْدُهَا بِإِفْسَادِ صَلَاتِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِهَذَا الضَّرَرِ. وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهَا بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ جَائِزٌ أَيْضًا، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْخُنْثَى أَنْ يَتَقَدَّمَ وَلَا يَقُومَ فِي وَسَطِ الصَّفِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالْمُحَاذَاةِ، وَكَذَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً، وَالْمُقْتَدِي رَجُلًا، فَيَكُونَ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا. (وَأَمَّا) الِاقْتِدَاءُ بِالْمُحْدِثِ أَوْ الْجُنُبِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا فِي الْكَافِرِ، لَكِنِّي تَرَكْتُ الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً فَأَعَادَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِعَادَةِ. وَقَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ وَأَعَادُوا» ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا ثُمَّ
عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ أَنْ يُنَادِيَ: أَلَا إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ جُنُبًا فَأَعِيدُوا صَلَاتَكُمْ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ هَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّحْرِيمَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى بُدُوِّ الْأَمْرِ قَبْلَ تَعَلُّقِ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ كَانَ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى مَا فَاتَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ، حَتَّى تَابَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَوْ مُعَاذٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ فَصَارَ شَرِيعَةً بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِاللَّابِسِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ انْعَقَدَتْ لِمَا يَبْنِي عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْتِي بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَيُقْبَلُ الْبِنَاءُ، وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فَتَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ، ثُمَّ الْعُرَاةُ يُصَلُّونَ قُعُودًا بِإِيمَاءٍ، وَقَالَ بِشْرٌ: يُصَلُّونَ قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ تَحْصِيلِ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَقَدَرُوا عَلَى تَحْصِيلِ أَرْكَانِهَا، فَعَلَيْهِمْ الْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا قُعُودًا تَرَكُوا أَرْكَانًا كَثِيرَةً وَهِيَ: الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَإِنْ صَلَّوْا قِيَامًا تَرَكُوا فَرْضًا وَاحِدًا وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ» ، فَهَذَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّي قَائِمًا فَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَائِمًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبُوا الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَخَرَجُوا مِنْ الْبَحْرِ عُرَاةً، فَصَلَّوْا قُعُودًا بِإِيمَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: " الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ " وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ لِلصَّلَاةِ قَاعِدًا تَرْجِيحًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ لَوْ صَلَّى قَاعِدًا فَقَدْ تَرَكَ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَمَا تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِبَعْضِهِمَا وَهُوَ الْإِيمَاءُ، وَأَدَّى فَرْضَ الْقِيَامِ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، فَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْفَرْضَيْنِ جَمِيعًا، وَفِيمَا قُلْتُمْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى، وَالثَّانِي - أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّ مِنْ أَدَاءِ الْأَرْكَانِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَالْأَرْكَانَ فَرَائِضُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرِهَا، وَالثَّانِي - أَنَّ سُقُوطَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ إلَى الْإِيمَاءِ جَائِزٌ فِي النَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْمُتَنَفِّلِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا تَسْقُطُ فَرْضِيَّتُهُ قَطُّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَ أَهَمَّ، فَكَانَ مُرَاعَاتُهُ أَوْلَى، فَلِهَذَا جَعَلْنَا الصَّلَاةَ قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ صَلَّى قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ فَقَدْ كَمَّلَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ: الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى تَكْمِيلِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَصَارَ تَارِكًا لِفَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ أَصْلًا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، فَجَوَّزْنَا لَهُ ذَلِكَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَاجَةِ، وَحُصُولِ الْغَرَضِ، وَجَعَلْنَا الْقُعُودَ بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى لِكَوْنِ ذَلِكَ الْفَرْضِ أَهَمَّ، وَلِمُرَاعَاةِ الْفَرْضَيْنِ جَمِيعًا مِنْ وَجْهٍ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ حُكْمًا، حَيْثُ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ، ثُمَّ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ: فَإِنْ قَامَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمْ احْتِرَازًا عَنْ مُلَاحَظَةِ سَوْأَةِ الْغَيْرِ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ أَمْرٌ مَسْنُونٌ، فَإِذَا كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِارْتِكَابِ بِدْعَةٍ، وَتَرْكِ سُنَّةٍ أُخْرَى - لَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهَا، بَلْ يُكْرَهُ تَحْصِيلُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ وَأَمَرَ الْقَوْمَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِمْ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَسْلَمُونَ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُنْكَرِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمْ غَضُّ الْبَصَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ عَلَى عَوْرَةِ الْإِمَامِ، مَعَ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ لِمَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ حَالَةٍ إلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ الْبَصَرُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ، وَفِي غَضِّ الْبَصَرِ فَوَاتُ ذَلِكَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِارْتِكَابِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ فَتَسْقُطَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُمْ، فَلَوْ صَلَّوْا مَعَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ فَالْأَوْلَى لِإِمَامِهِمْ أَنْ يَقُومَ وَسَطَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ، فَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ أَيْضًا، وَحَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَحَالِ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ، وَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ قَامَتْ إمَامَتُهُنَّ وَسَطَهُنَّ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُنَّ جَازَ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْعُرَاةِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِالصَّحِيحِ وَبِمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِالْقَارِئِ وَبِالْأُمِّيِّ لِمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِالرَّاكِعِ السَّاجِدِ وَبِالْمُومِئِ لِمَا مَرَّ، وَيَسْتَوِي الْجَوَاب،
بَيْنَمَا إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي قَاعِدًا يُومِئُ بِالْإِمَامِ الْقَاعِد الْمُومِئ، وَبَيْنَمَا إذَا كَانَ قَائِمًا وَالْإِمَامُ قَاعِدٌ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ؟ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ، فَقَامَ الْمَسْحُ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ لِتَعَذُّرِ غَسْلِهِمَا عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ عَلَى مَا مَرَّ، فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ مَعَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، فَصَحَّ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْقَدَمِ حَصَلَتْ بِالْغَسْلِ السَّابِقِ، وَالْخُفُّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، فَكَانَ هَذَا اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْغَاسِلِ فَصَحَّ، وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْمَسْحِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فِيهِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْقَاعِدِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ الْمُومِئِ بِالْقَاعِدِ الْمُومِئِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» أَيْ لِقَائِمٍ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَّ لِجَالِسٍ جَازَ، وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ أَعْلَى حَالًا مِنْ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَاقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، وَاقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ. (وَفِقْهُهُ) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَتَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ بَلْ انْعَقَدَتْ لِلْقُعُودِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِيَامِ عَلَيْهَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُمِّيِّ، وَبِنَاءُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْمُومِئِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ «آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا وَأَصْحَابُهُ خَلْفَهُ قِيَامٌ يَقْتَدُونَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ فِي مَرَضِهِ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلِيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قُولِي لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ فِي مَكَانِكَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ فَقَالَتْ حَفْصَةُ ذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتُنَّ صُوَيْحِبَاتُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّلَاةَ وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ وَهُوَ يُهَادَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ، وَرِجْلَاهُ يَخُطَّانِ الْأَرْضَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِسَّهُ تَأَخَّرَ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسَ يُصَلِّي، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسْمَعُ تَكْبِيرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُكَبِّرُ، وَالنَّاسُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ» ، فَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تُوُهِّمَ وُرُودُ النَّسْخِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ، فَإِذَا لَمْ يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ غَيْرُ الْقِيَامِ، وَإِذَا أُقِيمَ شَيْءٌ مَقَامَ غَيْرِهِ جُعِلَ بَدَلًا عَنْهُ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مَعَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ وَالْحَقِيقَةِ. (أَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْقِيَامَ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُمَا الِانْتِصَابَانِ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ، فَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ الِانْحِنَاءُ سُمِّيَ رُكُوعًا لِوُجُودِ الِانْحِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْحِنَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وِفَاقًا، فَأَمَّا هُوَ فِي اللُّغَةِ فَاسْمٌ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَحَسْبُ وَهُوَ الِانْحِنَاءُ، وَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ انْضِمَامُ الرِّجْلَيْنِ وَإِلْصَاقُ الْأَلْيَةِ بِالْأَرْضِ يُسَمَّى قُعُودًا، فَكَانَ الْقُعُودُ اسْمًا لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُمَا الِانْتِصَابُ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالِانْضِمَامُ وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْأَرْضِ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ، فَكَانَ الْقُعُودُ مُضَادًّا لِلْقِيَامِ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ، وَكَذَا الرُّكُوعُ، وَالرُّكُوعُ مَعَ الْقُعُودِ يُضَادُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ صِفَةُ النِّصْفِ الْأَعْلَى، وَاسْمُ الْمَعْنَيَيْنِ يَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ بِوُجُودِ مُضَادِّ أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَالْبُلُوغِ وَالْيُتْمِ، فَيَفُوتُ الْقِيَامُ بِوُجُودِ الْقُعُودِ أَوْ الرُّكُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا قُمْتُ بَلْ قَعَدْتُ، وَمَا أَدْرَكْتُ الْقِيَامَ بَلْ أَدْرَكْتُ الرُّكُوعَ - لَمْ يُعَدَّ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ مَا صَارَ الْقِيَامُ لِأَجْلِهِ طَاعَةً يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ إنَّمَا صَارَ طَاعَةً لِانْتِصَابِ نِصْفِهِ الْأَعْلَى، بَلْ لِانْتِصَابِ رِجْلَيْهِ، لِمَا يَلْحَقُ رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ بِالْكُلِّيَّةِ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ، فَثَبَتَ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا أَنَّ الْقِيَامَ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ فَصَارَ الْجُلُوسُ بَدَلًا عَنْهُ، وَالْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ أَوْ تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا اقْتِدَاءَ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ لِقِيَامِ الْمَسْحِ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغَسْلِ لِكَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ، فَكَانَ الْقُعُودُ مِنْ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَجُعِلَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِلْقِيَامِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هُوَ بَدَلُ الْقِيَامِ، فَصَحَّ بِنَاءُ قِيَامِ الْمُقْتَدِي عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ بَدَلُ الْقِرَاءَةِ بَلْ سَقَطَتْ أَصْلًا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلْقِرَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ أَمَّا هَهُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْقِيَامُ أَصْلًا بَلْ أُقِيمَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اضْطَجَعَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ لَا يَجُوزُ؟ وَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ يَسْقُطُ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ - وَذَا لَيْسَ وَقْتَ وُجُوبِ الْقُعُودِ بِنَفْسِهِ - كَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مُضْطَجِعًا يَجُوزُ، وَحَيْثُ لَمْ يَجُزْ دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ إلَى بَدَلِهِ، وَجُعِلَ بَدَلَهُ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْقِيَامِ، وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ عَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَمْ تَنْعَقِد تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلْفَائِتِ، وَهُوَ الْكَمَالُ فَلَمْ يُمْكِنْ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَقَطَ عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ جَنْبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ أَيَّامًا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَوَجَدُوهُ يُصَلِّي قَاعِدًا فَافْتَتَحُوا الصَّلَاةَ خَلْفَهُ قِيَامًا، فَلَمَّا رَآهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: " اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ "؟ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ؟ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ التَّكَلُّمُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا، وَمَا رَوَيْنَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا، فَانْتَسَخَ قَوْلُهُ السَّابِقُ بِفِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ فِي بَنِي سَلِمَةَ، وَمُعَاذٌ كَانَ مُتَنَفِّلًا وَكَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ الْمُفْتَرِضُونَ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ لَا صَلَاةَ صَاحِبِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِعْلَ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ وَافَقَ فِعْلَ إمَامِهِ أَوْ خَالَفَهُ، وَلِهَذَا جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفَ وَجَعَلَ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ، وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ لِيَنَالَ كُلُّ فَرِيقٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَلَوْ جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرَضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى ثُمَّ نَوَى النَّفَلَ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَشْيِ وَأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضِيَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ فَلَيْسَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَيْضًا، بَلْ هِيَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبِنَاءُ مِنْ الْمُقْتَدِي، بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ؛ لِأَنَّ النَّفْلِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ بَلْ هِيَ عَدَمٌ، إذْ النَّفَلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَصْلٍ لَا وَصْفَ لَهُ فَكَانَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِمَا يَبْنِي عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَصَحَّ الْبِنَاءُ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ، لَكِنَّ إحْدَاهُمَا بِنَاءٌ عَلَى الْأُخْرَى، وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِنَاءِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَرْضَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَنْوِي النَّفَلَ ثُمَّ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ الْفَرْضَ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَهُ طُولُ قِرَاءَتِهِ: «إمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِهِمْ، وَإِلَّا فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ مَعَنَا» ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ تَكْرَارُ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. اقْتِدَاءُ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ فِي الْفَرَائِضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الصَّبِيِّ لَا يَقَعُ فَرْضًا فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ. (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَلَمَةَ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمَاعَةٍ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ لَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةً بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ نُسِخَ. وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، لَا فِي الْفَرِيضَةِ وَلَا فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الصَّبِيِّ انْعَقَدَتْ لِنَفْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ، وَنَفْلُ الْمُقْتَدِي الْبَالِغِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ، وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّبَ وَلَدَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إذَا عَقَلَهُمَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» ، وَلَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَنَذْكُرُ حَدَّ الْبُلُوغِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ احْتَلَمَ الصَّبِيُّ لَيْلًا ثُمَّ تَنَبَّهَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ - قَضَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِبُلُوغِهِ بِالِاحْتِلَامِ. وَقَدْ انْتَبَهَ وَالْوَقْتُ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ لَكِنَّهُ نَائِمٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ احْتَلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُحْتَمَلُ قَبْلَهُ، فَلَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ احْتَلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَاحْتُمِلَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَحْوَطُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْعَصْرِ، وَلَا اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرَ يَوْمٍ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَنَا لِاخْتِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ وَصِفَتِهِمَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، لِمَا مَرَّ. وَرُوِيَ عَنْ أَفْلَحَ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ وَلَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ، فَوَجَدْتُ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ فِي الظُّهْرِ، فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَنَوَيْتُ الظُّهْرَ، فَلَمَّا فَرَغُوا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْعَصْرِ، فَقُمْتُ وَصَلَّيْتُ الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَوَجَدَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرِينَ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا فَعَلْتُ، فَاسْتَصْوَبُوا ذَلِكَ وَأَمَرُوا بِهِ، فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ: بِأَنْ نَذَرَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِيمَا نَذَرَ،. وَكَذَا إذَا شَرَعَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَحْدَهُ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَهُوَ نَذْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشُرُوعُهُ، فَاخْتَلَفَ الْوَاجِبَانِ وَتَغَايَرَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ حَيْثُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ لَا نَفْسُ الصَّلَاةِ فَبَقِيَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا نَفْلًا، فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِأَنْ اقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِيهَا، ثُمَّ أَفْسَدَاهَا حَتَّى وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِي الْقَضَاءِ جَازَ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا مَعْنًى فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ الْمُقْتَدِي. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا فَسَدَتْ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ هَلْ يَصِيرُ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ؟ ذُكِرَ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الرَّجُلِ إذَا كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ - وَقَدْ نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ - فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ وَاقْتَدَتْ بِهِ فَرْضًا آخَرَ - لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ - وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ، حَتَّى لَوْ حَاذَتْ الْإِمَامَ لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْأَذَان قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْحَدَثِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلُوهُ فَرْعِيَّةَ مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَقِيَ فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ يَمْكُثُ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَضُمُّ إلَيْهَا مَا يُتِمُّهَا فَيَكُونَ تَطَوُّعًا، وَعِنْدَهُ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَا إذَا كَانَ فِي الظُّهْرِ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ الْفَجْرَ - يَنْقَلِبُ ظُهْرُهُ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَوَى فَرْضًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فَلَا يَلْغُو نِيَّةَ الْفَرْضِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَلْغُ نِيَّةَ الْفَرْضِ لَمْ يَصِرْ شَارِعًا فِي النَّفْلِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخَالِفُ فَرْضُهُ فَرْضَ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، فَلَمْ يَصِرْ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ لَغَتْ أَصْلًا كَأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ بَنَى أَصْلَ الصَّلَاةِ وَوَصْفَهَا عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَبِنَاءُ الْأَصْلِ صَحَّ وَبِنَاءُ الْوَصْفِ لَمْ يَصِحَّ، فَلَغَا بِنَاءُ الْوَصْفِ وَبَقِيَ بِنَاءُ الْأَصْلِ، وَبُطْلَان بِنَاءِ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ بُطْلَان بِنَاءِ الْأَصْلِ لِاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، فَيَصِيرُ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ، وَأَنَّهُ جَائِز. وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ
فِي رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ صَلَاةً وَاحِدَةً مَعًا، وَيَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَؤُمَّ صَاحِبَهُ فِيهَا أَنَّ صَلَاتَهُمَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَلَوْ اقْتَدَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ فِيهَا فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا إمَامَ هَهُنَا. (وَمِنْهَا) - أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقْتَدِي عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ مُتَقَدِّمًا عَلَى إمَامِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيُجْزِئُهُ إذَا أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْقَوْمُ صَفٌّ حَوْلَ الْبَيْتِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَبْلَ الْإِمَامِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُ» ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ الْإِمَامَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ؛ وَلِأَنَّ الْمَكَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْمَكَانِ؟ كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَهُ إذَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تَنْقَطِعْ التَّبَعِيَّةُ، وَلَا يُسَمَّى قَبْلَهُ بَلْ هُمَا مُتَقَابِلَانِ، كَمَا إذَا حَاذَى إمَامَهُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْقَبْلِيَّةَ إذَا كَانَ ظَهْرُهُ إلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. (وَمِنْهَا) - اتِّحَادُ مَكَانِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ يَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ فَيَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي الْمَكَانِ ضَرُورَةً، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ تَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْمَكَانِ فَتَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ لَازِمِهَا؛ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُقْتَدِي فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمُتَابَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ عَامٌّ يَمُرُّ فِيهِ النَّاسُ أَوْ نَهْرٌ عَظِيمٌ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانَيْنِ عُرْفًا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» ، وَمِقْدَارُ الطَّرِيقِ الْعَامُّ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ مِقْدَارِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَقَالَ: مِقْدَارُ مَا تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ وَتَمُرُّ فِيهِ الْأَوْقَارُ، وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْهُ فَقَالَ: مِقْدَارُ مَا يَمُرُّ فِيهِ الْجَمَلُ. وَأَمَّا النَّهْرُ الْعَظِيمُ فَمَا لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ عَلَيْهِ إلَّا بِعِلَاجٍ كَالْقَنْطَرَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الطَّرِيقِ مَا تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ طَرِيقَةٌ لَا طَرِيقٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْرِ مَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجَدْوَلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً عَلَى الطَّرِيقِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرَّ النَّاسِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقًا بَلْ صَارَ مُصَلًّى فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى النَّهْرِ جِسْرٌ وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهَذَا فِي الْحَاصِلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْحَائِطُ قَصِيرًا ذَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ كَحَائِطِ الْمَقْصُورَةِ - لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَائِطٌ: إنْ كَانَ طَوِيلًا وَعَرِيضًا لَيْسَ فِيهِ ثُقْبٌ - يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثُقْبٌ لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَةَ حَالِ الْإِمَامِ - لَا يَمْنَعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا: فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ أَوْ خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ رِوَايَتَانِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي قَالَ لَا يَصِحُّ - أَنَّهُ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْوُجُودُ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - وَبَعْضُ النَّاسِ يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ الصَّفَّ مِنْ النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ، وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي أَقْصَى الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي الْمِحْرَابِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ عَلَى تَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَوْ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ: فَإِنْ كَانَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ بِحِذَائِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَطْحٍ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ؛ وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ تَبَعٌ
فصل واجبات الصلاة
لِلْمَسْجِدِ، وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَبِهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ وُقُوفُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ لَا يُجْزِئْهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، مُتَّصِلٍ بِهِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، فَاقْتَدَى بِهِ - صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَكَانَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّطْحَ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ كَانَ تَبَعًا لِسَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَتَبَعُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ اقْتِدَاؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ كَاقْتِدَائِهِ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ. وَلَوْ اقْتَدَى خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ: إنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْمَسْجِدِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ: فَإِنْ كَانَتْ الْفُرْجَةُ الَّتِي بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ قَدْرَ الصَّفَّيْنِ فَصَاعِدًا - لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَيُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ كَمْ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَمْنَعَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ؟ قَالَ إذَا كَانَ مِقْدَارُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْطَفَّ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ صَلَّى فِي مُصَلَّى الْعِيدِ؟ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي عَلَى دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ - جَازَ وَيُكْرَهُ. (أَمَّا) الْجَوَازُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ التَّبَعِيَّةَ وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ، (وَأَمَّا) الْكَرَاهَةُ فَلِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ، وَلِمَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَانْفِرَادُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ الصَّفِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل: يَمْنَعُ، (وَاحْتَجُّوا) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» ، وَعَنْ وَابِصَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَقَامَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَأَقَامَ أُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا» جَوَّزَ اقْتِدَاءَهَا بِهِ عَنْ انْفِرَادِهَا خَلْفَ الصُّفُوفِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا خَلْفَهُمَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الِانْفِرَادِ خَلْفَ الصَّفِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا. وَرُوِيَ أَنَّ «أَبَا بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ وَدَبَّ حَتَّى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أَوْ قَالَ: لَا تَعْدُ» جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُ بِهِ خَلْفَ الصَّفِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ بِجَنْبِهِ كَانَ مُحْدِثًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ حَقِيقَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ، وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، أَيْ نَاحِيَةٍ، لَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يَلْتَحِقَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ إنْ وَجَدَ فُرْجَةً ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيُكْرَهُ لَهُ الِانْفِرَادُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ نَذْكُرهُ فِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ انْفَرَدَ ثُمَّ مَشَى لِيَلْحَقَ بِالصَّفِّ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ إنْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ مِقْدَارَ صَفٍّ وَاحِدٍ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ مَشَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَتْ، وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَتَقَدَّمَ حَتَّى لَا يَمُرَّ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ إنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَتْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ وَمَشَى مِقْدَارَ صَفٍّ وَوَقَفَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَقَدَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِمِقْدَارِ الصَّفَّيْنِ، إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. [فَصْلٌ وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْد الْخُرُوجِ مِنْهَا. (أَمَّا) الَّذِي قَبْلَ الصَّلَاةِ فَاثْنَانِ: أَحَدُهُمَا - الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ. وَالْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَحَلِّ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ. (وَأَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَر مُحَمَّدٌ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ ضَرَبْتُهُ وَحَبَسْتُهُ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُ وَيُضْرَبُ
فصل بيان كيفية الأذان
وَيُحْبَسُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّهُمَا سُنَّتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، لِمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ: فَقَدْ أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْقَوْلَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَسَعُ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سَمَّاهُ سُنَّةً، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا؟ وَالْإِثْمُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْأَذَانِ - فَإِنَّهُ رَوَى «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنْ تَفُوتَهُمْ الصَّلَاةُ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِبَاهِ الْوَقْتِ عَلَيْهِمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَنْصِبُوا لِذَلِكَ عَلَامَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرِبُ بِالشَّبُّورِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ الْيَهُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُوقِدُ نَارًا عَظِيمَةً فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ الْمَجُوسِ، فَتَفَرَّقُوا مِنْ غَيْرِ رَأْيٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ مَنْزِلَهُ فَقَدَّمَتْ امْرَأَتُهُ الْعَشَاءَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُمُّهُمْ أَمْرُ الصَّلَاةِ، إلَى أَنْ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ رَأَيْتُ نَازِلًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَبِيَدِهِ نَاقُوسٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَبِيعُ مِنِّي هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: أَذْهَبُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَضْرِبَ بِهِ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّك إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟ فَقُلْت: نَعَمْ فَوَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ - الْأَذَانَ الْمَعْرُوفَ - إلَى آخِرِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهُ لَرُؤْيَا حَقٍّ، فَأَلْقِهَا إلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ، وَمُرْهُ يُنَادِي بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَذَانَ بِلَالٍ خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ يَجُرُّ ذَيْلَ رِدَائِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ طَافَ بِي اللَّيْلَةَ مِثْلُ مَا طَافَ بِعَبْدِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ سَبَقَنِي بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنَّهُ لَأَثْبَتُ» . فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُلْقِيَ الْأَذَانَ إلَى بِلَالٍ وَيَأْمُرَهُ يُنَادِيَ بِهِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْكَارِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ وَإِنْ كَانَ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شَهِدَ بِحَقِيقَةِ رُؤْيَاهُ ثَبَتَتْ حَقِيقَتُهَا، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِلَالًا يُنَادِيَ بِهِ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي عُمْرِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ مَهْمَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ فَهُوَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ، وَنَقَّصَ الْبَعْضُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْتَمُ الْأَذَانُ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ "، اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ الْخَتْمُ (بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وَأَصْلُ الْأَذَانِ ثَبَتَ بِحَدِيثِهِ، فَكَذَا قَدْرُهُ، وَمَا يَرْوُونَ فِيهِ مِنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالِاعْتِمَادُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُكَبِّرُ فِي الِابْتِدَاءِ مَرَّتَيْنِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ حَيْثُ يُؤْتَى بِهَا مَرَّتَيْنِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنِ مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ تِسْعَةَ عَشْرَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةَ سَبْعَةَ عَشْرَ كَلِمَةً، وَإِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّكْبِيرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ. وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَنَقُولُ: كُلُّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا، فَكَأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ كَمَا يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ تَرْجِيعٌ وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُؤَذِّنُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، يَخْفِضُ بِهِمَا صَوْتَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَيَرْفَعُ بِهِمَا صَوْتَهُ. (وَاحْتُجَّ) بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَلَيْسَ فِيهِ
تَرْجِيعٌ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ فِي آذَانِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَرْجِيعٌ. (وَأَمَّا) حَدِيثُ «أَبِي مَحْذُورَةَ فَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ وَمَدَّ صَوْتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ خَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، بَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَخَافَةَ الْكُفَّارِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْهَرُ بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ اسْتَحْيَا فَخَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَرَكَ أُذُنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ وَقُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ غَيْظًا لِلْكُفَّارِ» . (وَأَمَّا) الْإِقَامَةُ فَمَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالْأَذَانِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلُهُ: " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " فَإِنَّهُ يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآمِرَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَتَى بِالْأَذَانِ وَمَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ مَرَّتَيْنِ (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) ، وَرَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ " وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً "، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَثْنَى. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: كَانَ النَّاسُ يَشْفَعُونَ الْإِقَامَةَ حَتَّى خَرَجَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ فَأَفْرَدُوا الْإِقَامَةَ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ، وَأَشَارَ إلَى كَوْنِ الْإِفْرَادِ بِدْعَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ فِي حَقِّ الصَّوْتِ وَالنَّفَسِ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي تَفْسِيرِ التَّثْوِيبِ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي - فِي الْمَحَلِّ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ، وَالثَّالِثُ - فِي وَقْتِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ - فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ كَيْفَ التَّثْوِيبُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ؟ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْأَذَانِ " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " فَأَحْدَثَ النَّاسُ هَذَا التَّثْوِيبَ وَهُوَ حَسَنٌ، فَسَّرَ التَّثْوِيبَ، وَبَيَّنَ وَقْتَهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْ التَّثْوِيبَ الْمُحْدَثَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقْتَهُ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيَّنَ وَقْتَهُ فَقَالَ: التَّثْوِيبُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " مَرَّتَيْنِ - حَسَنٌ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ أُحْدِثَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَوَصَفَهُ بِالْحَسَنِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوهُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» . (وَأَمَّا) مَحَلُّ التَّثْوِيبِ فَمَحَلُّ الْأَوَّلِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِالتَّثْوِيبِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ، وَأَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي الْجَدِيدِ رَأْسًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ كَوَقْتِ الْفَجْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ كَمَا فِي وَقْتِ الْفَجْرِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا التَّثْوِيبُ، وَكَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ذِكْرُ التَّثْوِيبِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا بِلَالُ ثَوِّبْ فِي الْفَجْرِ وَلَا تُثَوِّبْ فِي غَيْرِهَا» ، فَبَطَلَ بِهِ الْمَذْهَبَانِ جَمِيعًا، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ «بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحْسَنَ هَذَا اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ» ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " وَتَعْلِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا مَحْذُورَةَ، وَتَعْلِيمُ الْمَلَكِ كَانَ تَعْلِيمَ أَصْلِ الْأَذَانِ لَا مَا يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَامِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَعَنْ السَّمَرِ بَعْدَهَا، فَالظَّاهِرُ هُوَ التَّيَقُّظُ. (وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ فَمَحَلُّهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَيْضًا، وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، غَيْرَ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: لَا بَأْسَ بِالتَّثْوِيبِ الْمُحْدَثِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِفَرْطِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا، وَشِدَّةِ رُكُونِهِمْ إلَى الدُّنْيَا، وَتَهَاوُنِهِمْ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَصَارَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِنَا مِثْلَ الْفَجْرِ فِي زَمَانِهِمْ، فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِعْلَامِ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَكَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ: " السَّلَامُ عَلَيْكَ
فصل بيان سنن الأذان
أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ "؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِزِيَادَةِ شُغْلٍ بِسَبَبِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، فَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ نَظَرًا لَهُمْ، ثُمَّ التَّثْوِيبُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ: إمَّا بِالتَّنَحْنُحِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، أَوْ قَامَتْ قَامَتْ، أَوْ بايك نماز بايك كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ بُخَارَى؛ لِأَنَّهُ الْإِعْلَامُ، وَالْإِعْلَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ. (وَأَمَّا) وَقْتُهُ فَقَدْ بَيَّنَّا وَقْتَ التَّثْوِيبِ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ بَيَانُ سُنَنِ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سُنَنِ الْأَذَانِ فَسُنَنُ الْأَذَانِ فِي الصَّلَاةِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا - أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ فَيَرْفَعَ بِهِ صَوْتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ يَحْصُلُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ؟ وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ أَسْمَعَ لِلْجِيرَانِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ حُدُوثُ بَعْضِ الْعِلَلِ كَالْفَتْقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِأَبِي مَحْذُورَةَ أَوْ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ رَآهُ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْأَذَانِ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَنْقَ طِعَ مُرَيْطَاؤُكَ وَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ، وَكَذَا يَجْهَرُ بِالْإِقَامَةِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْأَذَانِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْإِعْلَامِ بِهَا دُونَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْأَذَانِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ الْأَذَانِ بِسَكْتَةٍ، وَلَا يَفْصِلَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ الْإِقَامَةِ بَلْ يَجْعَلُهَا كَلَامًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْإِقَامَةِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ. (وَمِنْهَا) - أَنْ يَتَرَسَّلَ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدِرَ فِي الْإِقَامَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِفْ» وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ، وَذَا فِي التَّرَسُّلِ أَبْلَغُ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْحَدْرِ، وَلَوْ تَرَسَّلَ فِيهِمَا أَوْ حَدَرَ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُرَتِّبَ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ تَرَكَ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ يُرَتِّبُ وَيُؤَلِّفُ وَيُعِيد الْمُقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَغَا، وَكَذَلِكَ إذَا ثَوَّبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ فَظَنَّ أَنَّهُ فِي الْإِقَامَةِ فَأَتَمَّهَا، ثُمَّ تَذَكَّرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِقَامَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ التَّرْتِيبِ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ رَتَّبَ، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ مُؤَذِّنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا رَتَّبَا؛ وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ، وَالْأَذَانُ شَبِيهٌ بِهَا فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ سُنَّةً (وَمِنْهَا) أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَالَى وَعَلَيْهِ عَمَلُ مُؤَذِّنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ فَظَنَّ أَنَّهُ الْإِقَامَةُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ مَا فَرَغَ - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ، وَيَسْتَقْبِلَ الْإِقَامَةَ مُرَاعَاةً لِلْمُوَالَاةِ وَكَذَا إذَا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ وَظَنَّ أَنَّهُ فِي الْأَذَانِ، ثُمَّ عَلِمَ - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِقَامَةَ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا إذَا غُشِيَ عَلَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ سَاعَةً، أَوْ مَاتَ، أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ - فَالْأَفْضَلُ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ لِمَا قُلْنَا، وَالْأَوْلَى لَهُ إذَا أَحْدَثَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأ وَيُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ جَائِزٌ، فَالْبِنَاءُ أَوْلَى. وَلَوْ أَذَّنَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءُوا أَعَادُوا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَتُهُ مَحْضَة، وَالرِّدَّةُ مُحْبِطَةٌ لِلْعِبَادَاتِ، فَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ شَاءُوا اعْتَدُّوا بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الْمُوَالَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ كَالْخُطْبَةِ فَلَا يَسَعُ تَرْكُ حُرْمَتِهِ وَيُكْرَهُ لَهُ رَدُّ السَّلَامِ فِي الْأَذَانِ لِمَا قُلْنَا، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْأَذَانِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَأْتِي بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ هَكَذَا فَعَلَ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، كَذَا فَعَلَ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَلِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إلَيْهِمْ إعْلَامًا لَهُمْ، كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدَمَاهُ مَكَانَهُمَا لِيَبْقَى مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي السَّلَامِ وَالصَّلَاةِ، وَيُحَوِّلَ وَجْهَهُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَذَا هَهُنَا وَإِنْ كَانَ فِي الصَّوْمَعَةِ: فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَزِمَ مَكَانَهُ، لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى الِاسْتِدَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً فَاسْتَدَارَ فِيهَا لِيُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ نَوَاحِيهَا فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ إذَا كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَالْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ
بِدُونِ الِاسْتِدَارَةِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرَ جَزْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْأَذَانُ جَزْمٌ. (وَمِنْهَا) تَرْكُ التَّلْحِينِ فِي الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: إنِّي أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: لِمَ قَالَ: لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُغَنِّي فِي أَذَانِكَ، يَعْنِي التَّلْحِينَ، أَمَّا التَّفْخِيمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إحْدَى اللُّغَتَيْنِ. (وَمِنْهَا) الْفَصْلُ - فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ - بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ، وَالْفَصْلُ - فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ - بِالصَّلَاةِ أَوْ بِالْجُلُوسِ مَسْنُونٌ، وَالْوَصْلُ مَكْرُوهٌ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدِرْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ فَاحْذِفْ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَاحْذِمْ، وَلْيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي» ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِاسْتِحْضَارِ الْغَائِبِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْهَالِ لِيَحْضُرُوا، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارُ الْفَصْلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْمَغْرِبِ يَقُومُ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفِي الْعِشَاءِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ مِقْدَارَ مَا يُحْضِرُ الْقَوْمَ مَعَ مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا يُفْصَلُ فِيهَا بِالصَّلَاةِ عِنْدنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْصَلُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إلَّا الْمَغْرِبَ» ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ» ، وَالْفَصْلُ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ لَهَا، فَلَا يُفْصَلُ بِالصَّلَاةِ، وَهَلْ يُفْصَلُ بِالْجُلُوسِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْصَلُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: يُفْصَلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ، وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيُفْصَلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَصْلَ بِالْجَلْسَةِ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَصْلَ مَكْرُوهٌ، وَتَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا مَكْرُوهٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْكَرَاهَتَيْنِ يَحْصُلُ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ، وَبِالْهَيْئَةِ مِنْ التَّرَسُّلِ وَالْحَذْفِ، وَالْجَلْسَةُ لَا تَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا، وَهِيَ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ فَكَانَتْ مَكْرُوهَةً (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: (مِنْهَا) - أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا إنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا فَقَدْ ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً، وَإِنْ خَفَضَتْ فَقَدْ تَرَكَتْ سُنَّةَ الْجَهْرِ؛ وَلِأَنَّ أَذَانَ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ فَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» ، وَلَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَهُمْ حَتَّى لَا تُعَادَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ وَكَذَا أَذَانُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا حَتَّى لَا يُعَادَ ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ، لَكِنَّ أَذَانَ الْبَالِغِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُرَاعَاةِ الْحُرْمَةِ أَبْلَغُ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعْتَدُّونَ بِأَذَانِهِ، وَأَمَّا أَذَانُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا يُجْزِئُ وَيُعَادُ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ لَا عَنْ عَقْلٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَصَوْتِ الطُّيُورِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ وَتَأْذِينُهُمَا تَرْكٌ لِتَعْظِيمِهِ، وَهَلْ يُعَادُ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَادَ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ كَلَامِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ هَذَيَانٌ، فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ. (وَمِنْهَا) - أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» ، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا التَّقِيُّ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ، وَيُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» ، وَخِيَارُ النَّاسِ الْعُلَمَاءُ؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ سُنَنِ الْأَذَانِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْعَالِمِ بِهَا، وَلِهَذَا إنَّ أَذَانَ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، لَكِنَّ غَيْرَهُمْ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَفَرَّغُ لِمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَكَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَوَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْجَهْلُ. (وَمِنْهَا) - أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّرِيرِ؛ لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ لَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَالْإِعْلَامَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالدُّخُولِ - مُتَعَذِّرٌ
لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَذَّنَ يَجُوزُ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِصَوْتِهِ، وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ مُؤَذِّنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَعْمَى. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الْأَذَانِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْإِعْلَامِ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ بِصَوْتِ الْمُوَاظِبِ أَبْلَغُ مِنْ حُصُولِهِ بِصَوْتِ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ بِصَوْتِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ وَإِنْ أَذَّنَ السُّوقِيُّ لِمَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَغَيْرُهُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السُّوقِيَّ يُحْرَجُ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمَحَلَّةِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِحَاجَتِهِ إلَى الْكَسْبِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَاجْعَلْ أُصْبُعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى لِصَوْتِكَ وَأَمَدُّ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَنَبَّهَ عَلَى الْحِكْمَةِ» وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْإِعْلَامِ بِدُونِهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَإِنْ جَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى أُذُنِهِ فَحَسَنٌ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ فَإِتْيَانُهُ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا يَجُوزُ، وَلَا يُكْرَهُ حَتَّى يُعَادَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعَادُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَذَانِ شَبَهًا بِالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ، فَمَا هُوَ شَبِيهٌ بِهَا يُكْرَهُ مَعَهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رُبَّمَا أَذَّنَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَذَانِ وَإِنْ أَقَامَ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَسَوَّى بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَقَالَ: وَيَجُوزُ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ إقَامَةَ الْمُحْدِثِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ الْفَصْلُ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ الْأَذَانِ، وَلَا تُعَادُ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْأَذَانِ. وَأَمَّا الْأَذَانُ مَعَ الْجَنَابَةِ فَيُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُعَادَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ - وَهُوَ الْإِعْلَامُ -، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْجَنَابَةِ ظَهَرَ فِي الْفَمِ فَيَمْنَعُ مِنْ الذِّكْرِ الْمُعَظَّمِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ، وَكَذَا الْإِقَامَةُ مَعَ الْجَنَابَةِ تُكْرَهُ لَكِنَّهَا لَا تُعَادُ لِمَا مَرَّ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا إذَا أَذَّنَ لِلْجَمَاعَةِ، وَيُكْرَهُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَذَّنَ قَائِمًا حَيْثُ وَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ فِعْلًا، فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَإِجْمَاعَ الْخَلْقِ؛ وَلِأَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ بِالْقِيَامِ وَيُجْزِئُهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُرَاعَاةُ سُنَّةِ الصَّلَاةِ لَا الْإِعْلَامُ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُبَّمَا أَذَّنَ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَذَانَ أَصْلًا فِي السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ رَاكِبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَيُكْرَهُ الْأَذَانُ رَاكِبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ ثَمَّ الْمُؤَذِّنُ يَخْتِمُ الْإِقَامَةَ عَلَى مَكَانِهِ، أَوْ يُتِمُّهَا مَاشِيًا، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَخْتِمُهَا عَلَى مَكَانِهِ سَوَاءً كَانَ الْمُؤَذِّنُ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُتِمُّهَا مَاشِيًا، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَوْلَهُ: (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ، إمَامًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ (وَمِنْهَا) - أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدَيْنِ، وَيُصَلِّيَ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي، وَالتَّنَفُّلُ بِالْأَذَانِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ يَخْتَصُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي يُصَلِّي النَّافِلَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ لَا يُسَاعِدهُمْ فِيهَا. (وَمِنْهَا) - أَنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ، وَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ: فَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ اكْتِسَابَ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِهِ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ تَأَذَّى بِهِ أَوْ لَمْ يَتَأَذَّ (احْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَخِي صُدَاءَ أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا إلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّ أَخَا صُدَاءَ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ «لَمَّا قَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَقِّنْهَا بِلَالًا، فَأَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فصل بيان محل وجوب الأذان
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ فَأَقَامَ» . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ وَبِلَالٌ يُقِيمُ، وَرُبَّمَا أَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ (وَمِنْهَا) - أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ أَجْرًا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الطَّاعَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَإِنْ عَلِمَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُجَازَاةِ عَلَى إحْسَانِهِ بِمَكَانِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ فَالْمَحَلُّ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَذَانُ وَيُؤَذَّنُ لَهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ، فَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْقِيَامُ، إذْ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا رُكُوعَ وَلَا سُجُودَ وَلَا قُعُودَ، فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ النَّوَافِلِ؛ وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ فَجُعِلَ أَذَانُ الْأَصْلِ أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا، وَلَا أَذَانَ، وَلَا إقَامَةَ فِي السُّنَنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا أَذَانَ، وَلَا إقَامَةَ فِي الْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا فَكَانَ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ، فَكَانَ تَبَعًا لَهَا فِي الْأَذَانِ كَسَائِرِ السُّنَنِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ غَيْرُ الْمَكْتُوبَةِ وَالْأَذَانُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ» ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ الْجَمَاعَةُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِنَّ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَالْجُمُعَةُ فِيهَا أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ؛ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَالْجُمُعَةُ قَائِمَةٌ مُقَامَهُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: الْفَرْضُ هُوَ الْجُمُعَةُ ابْتِدَاءً وَهِيَ آكَدُ مِنْ الظُّهْرِ، حَتَّى وَجَبَ تَرْكُ الظُّهْرِ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ إنَّهُمَا وَجَبَا لِإِقَامَةِ الظُّهْرِ، فَالْجُمُعَةُ أَحَقُّ، ثُمَّ الْأَذَانُ الْمُعْتَبَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى بِهِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ، وَتَجِبُ الْإِجَابَةُ وَالِاسْتِمَاعُ لَهُ دُونَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْمَنَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ يَقَعُ بِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَذَانًا وَاحِدًا حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْأَذَانِ الثَّانِي عَلَى الزَّوْرَاءِ» وَهِيَ الْمَنَارَةُ، وَقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ تُؤَدَّى مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُرَاعَى لِلْعَصْرِ أَذَانٌ عَلَى حِدَةٍ، لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ أَذَانُ الظُّهْرِ وَإِقَامَتُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بِإِقَامَتَيْنِ، وَفِي الثَّانِي يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحَقُّقِ الْجَمَاعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، فَيُنْدَبُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَوَاتِ الْجَهْرِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ،. أَشَارَ إلَى أَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ وَإِقَامَتَهُمْ وَقَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَيِّ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْضُرَ مَسْجِدَ الْحَيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا فِي
الْمِصْرِ فِي مَنْزِلٍ أَوْ فِي مَسْجِدِ مَنْزِلٍ، فَأُخْبِرُوا بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ - أَجْزَأَهُمْ. وَقَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمَا، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ يَكُونُ أَذَانًا لِلْأَفْرَادِ وَلَا يَكُونُ أَذَانًا لِلْجَمَاعَةِ، هَذَا فِي الْمُقِيمِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا، وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَالسَّفَرُ لَمْ يُسْقِطْ الْجَمَاعَةَ فَلَا يُسْقِطْ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا، فَإِنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ وَأَقَامُوا وَتَرَكُوا الْأَذَانَ - أَجْزَأَهُمْ وَلَا يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا تَرَكُوا الْأَذَانَ وَأَقَامُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ. وَقَدْ أَثَّرَ فِي سُقُوطِ شَطْرٍ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ أَحْدِ الْأَذَانَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْإِقَامَةَ آكَدُ ثُبُوتًا فَيَسْقُطُ شَطْرُ الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُسَافِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذَّنَ، وَأَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِهُجُومِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَحْضُرُوا، وَالْقَوْمُ فِي السَّفْرِ حَاضِرُونَ فَلَمْ يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، بِخِلَافِ الْحَضَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِرَفِ وَالْمَكَاسِبِ لَا يَعْرِفُونَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ، فَيُكْرَهُ تَرْكُ الْإِعْلَامِ - فِي حَقِّهِمْ - بِالْأَذَانِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ فَإِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ، وَالْمُقِيمُ إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ فَتَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَا يُكْرَهُ (وَالْفَرْقُ) أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَقَعُ أَذَانًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَكَأَنَّهُ وُجِدَ الْأَذَانُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ تَقْدِيرًا، فَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْمُسَافِرِ مِنْ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ الْأَذَانُ فِي حَقِّهِ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ هَلْ يُكْرَهْ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامُ فِيهِ ثَانِيًا؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ مَسْجِدًا لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ: فَإِنْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ بِأَنْ كَانَ عَلَى شَوَارِعِ الطَّرِيقِ - لَا يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَكْرَارَ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ هَلْ يُكْرَهُ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً، فَأَمَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً فَقَامُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ لَا يُكْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا يُكْرَهُ. (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ دَخَلَ رَجُلٌ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَامَ وَصَلَّى مَعَهُ» وَهَذَا أَمْرٌ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ، وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْمُرَ بِالْمَكْرُوهِ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى أَنَّ النَّاسَ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فِي الْبُيُوتِ وَعَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ أَثِمُوا وَخُوصِمُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتَرْكِهِمْ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ صَلَّوْا فُرَادَى فِي الْمَسَاجِدِ أَثِمُوا بِتَرْكِهِمْ الْجَمَاعَةَ، وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ مَا قَضَوْا حَقَّ الْمَسْجِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَلَا يُكْرَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي مَسَاجِدِ قَوَارِعِ الطُّرُقِ، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ لِتَشَاجُرٍ بَيْنَهُمْ فَرَجَعَ وَقَدْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنْزِلِ بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً، وَلَوْ لَمْ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِد. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمْ الْجَمَاعَةُ فَيَسْتَعْجِلُونَ فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ فَتَقِلُّ الْجَمَاعَةُ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا أَهْلٌ مَعْرُوفُونَ، فَأَدَاءُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ
فصل بيان وقت الأذان والإقامة
الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ أَذَانَ الْمُؤَذِّن الْمَعْرُوفِ فَيَحْضُرُونَ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَسْجِدِ لَمْ يُقْضَ بَعْدُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّهِ عَلَى أَهْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرَمَّةَ وَنَصْبَ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ؟ وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَظِرُوا حُضُورَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ وَاحِدًا وَذَا لَا يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنْ فَاتَهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَاهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَكَذَا إذَا فَاتَتْ الْجَمَاعَةَ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَوْهَا بِالْجَمَاعَةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: يُصَلِّي بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يُصَلِّي بِالْإِقَامَةِ لَا غَيْرُ. (احْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَضَاهُنَّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ. وَرُوِيَ فِي قِصَّةِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ وَصَلُّوا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَا حَاجَةَ هَهُنَا إلَى الْإِعْلَامِ بِهِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَقَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسْنَا فَمَا اسْتَيْقَظْنَا حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَثِبُ دَهْشًا وَفَزَعًا، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ارْتَحِلُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي فَإِنَّهُ وَادِي شَيْطَانٍ، فَارْتَحَلْنَا وَنَزَلْنَا بِوَادٍ آخَرَ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَقَضَى الْقَوْمُ حَوَائِجَهُمْ أَمَرَ بِلَالًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ» ، وَهَكَذَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمْ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ قَضَاهُنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ. وَقَدْ فَاتَتْهُمْ الصَّلَاةُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَتُقْضَى كَذَلِكَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحَدِيثِ التَّعْرِيسِ وَالْأَحْزَابِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ أَذَّنَ هُنَاكَ وَأَقَامَ عَلَى مَا رَوَيْنَا. وَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فَإِنْ أَذَّنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَأَقَامَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْبَوَاقِي فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى، خُصُوصًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَأَدَاءُ الظُّهْرِ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ فِي الْمِصْرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَوَقْتُهُمَا مَا هُوَ وَقْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، حَتَّى لَوْ أَذَّنَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِئُهُ وَيُعِيدُهُ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَخِيرًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذَّنَ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ السَّحُورِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ» ؛ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ، وَفِي مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْحَرَجِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رَوَى شَدَّادُ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا» ، وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَالْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَذِبٌ، وَكَذَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ
فصل بيان ما يجب على السامعين عند الأذان
يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتَ نَوْمِهِمْ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ تَهَجَّدَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ إذَا سَمِعَ مَنْ يُؤَذِّن قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ: عُلُوجٌ فِرَاغٌ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْوَقْتِ، لَوْ أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ، وَبِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ لِمَعَانٍ أُخَرَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ السَّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ وَيَرُدَّ قَائِمَكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صَائِمُكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» . وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ يَتَهَجَّدُونَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، وَفِرْقَةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَكَانَ الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كَانَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُعِيدُهُ ثَانِيًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْفَجْرَ الصَّادِقَ الْمُسْتَطِيرَ فِي الْأُفُقِ مُسْتَبِينٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِجَابَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ: مَنْ بَالَ قَائِمًا، وَمَنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَلَمْ يُجِبْ، وَمَنْ سَمِعَ ذِكْرِي وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» ، وَالْإِجَابَةُ: أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ إلَّا فِي قَوْلِهِ: " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " فَإِنَّهُ يَقُولُ مَكَانَهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ ذَلِكَ تُشْبِهُ الْمُحَاكَاةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " لَا يُعِيدُهُ السَّامِعُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، أَوْ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ السَّامِعُ فِي حَالِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ سِوَى الْإِجَابَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ وَيَشْتَغِلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِجَابَةِ، كَذَا قَالُوا فِي الْفَتَاوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالثَّانِي) : الْجَمَاعَةُ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَفِي بَيَانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» ، جَعَلَ الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] ، أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الرُّكُوعِ، فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. (وَأَمَّا) تَوَارُثُ الْأُمَّةِ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاظَبَتْ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهَا، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ، وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ، خُصُوصًا مَا كَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ فَقَالَ: الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عَنْهَا إلَّا لِعُذْرٍ؟ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ: فَالْجَمَاعَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ، الْعَاقِلِينَ، الْأَحْرَارِ، الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِين، وَالْعَبِيدِ، وَالْمُقْعَدِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْمَرِيضِ (أَمَّا) النِّسَاءُ فَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِتْنَةٌ. (وَأَمَّا) الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ مَوَالِيهِمْ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ الْمُسْتَحَقَّةِ وَأَمَّا الْمُقْعَدُ وَمَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ
فصل بيان من تنعقد به الجماعة
عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ. (وَأَمَّا) الْأَعْمَى فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعَ حُجَجِهَا تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَأَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ؛ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً، وَلِحُصُولِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ بِانْضِمَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِمَامِ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِالْعَدَمِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَفْعَلُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ يَرْجُو إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِيهِ - فَحَسَنٌ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَحَسَنٌ، لِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْجَمَاعَةَ، أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ وَلِأَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ مُرَاعَاةَ حُرْمَةٍ وَتَرْكَ أُخْرَى، فَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَسْجِدِهِ وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُرَاعَاةُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ حَقِّ مَسْجِدِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَالَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ جَمَعَ بِأَهْلِهِ فِي مَنْزِلِهِ، وَإِنْ صَلَّى وَحْدَهُ جَازَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى صُلْحٍ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَانْصَرَفَ مِنْهُ وَقَدْ فَرَغَ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ، فَمَالَ إلَى بَيْتِهِ وَجَمَعَ بِأَهْلِهِ فِي مَنْزِلِهِ» ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الطَّلَبِ، إذْ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ صَلَّى فِيهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ كُلُّ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ، حَتَّى تَجُوزَ إمَامَةُ الْعَبْدِ، وَالْأَعْرَابِيِّ، وَالْأَعْمَى، وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ، وَالْفَاسِقُ خَائِنٌ، وَلِهَذَا لَا شَهَادَةَ لَهُ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» ، وَالْحَدِيثُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ وَرَدَ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْأُمَرَاءِ - وَأَكْثَرُهُمْ فُسَّاقٌ - لَكِنَّهُ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، إذْ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَالتَّابِعُونَ اقْتَدَوْا بِالْحَجَّاجِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَفْسَقَ أَهْلِ زَمَانِهِ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: لَوْ جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا وَجِئْنَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ لَغَلَبْنَاهُمْ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ كُنْيَةُ الْحَجَّاجِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: عَرَّسْتُ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ فِي بَيْتِ غَيْرِكَ؟ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَأَنَا يَوْمئِذٍ عَبْدٌ. وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَكَانَ أَعْمَى؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، إلَّا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَؤُمُّ غَيْرَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ غَيْرُهُ، وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي عَصْرِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ هَؤُلَاءِ فَتُؤَدِّي إمَامَتُهُمْ إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا الْجَهْلُ. أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ لِيَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا سَاوَى الْعَبْدُ غَيْرَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً، وَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ أَحَبَّ إلَيَّ، (وَاحْتَجَّ) بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَانْتِقَاصُ
فصل بيان من يصلح للإمامة على التفصيل
فَضِيلَتِهِ عَنْ فَضِيلَةِ الْأَحْرَارِ يُوجِبَانِ الْكَرَاهَةَ. وَكَذَا الْغَالِبُ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْجَهْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] ، وَالْأَعْرَابِيُّ هُوَ الْبَدَوِيُّ، وَإِنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ، وَالْعَرَبِيُّ اسْمُ مَدْحٍ. وَكَذَا وَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْجَهْلُ لِفَقْدِهِ مَنْ يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ مَعَالِمَ الشَّرِيعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَتَحَمَّلهَا الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَعْمَى يُوَجِّهُهُ غَيْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَيَصِيرَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا يَمِيلُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِبْلَةِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْإِمَامَةِ بَعْد مَا كُفَّ بَصَرُهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ أَؤُمُّكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْدِلُونَنِي؟ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ التَّوَقِّي عَنْ النَّجَاسَاتِ فَكَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ فِي الْفَضْلِ لَا يُوَازِيهِ فِي مَسْجِدِهِ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَوْلَى، وَلِهَذَا اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِمَامَةُ صَاحِبِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَكْرُوهَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ صَاحِبَ هَوًى وَبِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ لَا تَجُوزُ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُكَفِّرُهُ تَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى لَوْ أَمَّتْ النِّسَاءَ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ وَسَطَهُنَّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَمَّتْ نِسْوَةً فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَأَمَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ نِسَاءً وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَهَذَا أَسْتَرُ لَهَا، إلَّا أَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ، وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ لَكِنَّ تِلْكَ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَا يُبَاحُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى الشَّوَابَّ عَنْ الْخُرُوجِ؛ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ، وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ يَصْلُحُ إمَامًا فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَؤُمَّ الصِّبْيَانَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَفِي إمَامَتِهِ الْبَالِغِينَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا مَرَّ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَكُلُّ مَنْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ فِي صَلَاةٍ يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ فِيهَا، وَمَنْ لَا فَلَا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ شَرَائِط صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بِهَا فَالْحُرُّ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ الْعَبْدِ، وَالتَّقِيُّ أَوْلَى مِنْ الْفَاسِقِ، وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْ الْأَعْمَى، وَوَلَدُ الرِّشْدَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الزِّنَا، وَغَيْرُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى مِنْ الْأَعْرَابِيِّ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي إنْسَانٍ كَانَ هُوَ أَوْلَى، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، وَالْمُسْتَجْمَعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ أَكْمَلِ النَّاسِ، أَمَّا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا كِبَرُ السِّنِّ فَلِأَنَّ مَنْ امْتَدَّ عُمُرُهُ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَكْثَرَ طَاعَةً وَمُدَاوَمَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقَتْ فِي أَشْخَاصٍ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ فَقَالَ: وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا» ، ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَجْرَى الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَهُوَ أَوْلَى، كَذَا ذُكِرَ فِي آثَارِ أَبِي حَنِيفَةَ لِافْتِقَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقِرَاءَة إلَى الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَدَارُكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْعَوَارِضِ، وَافْتِقَارِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا إلَى الْعِلْمِ بِالْخَطَأِ الْمُفْسِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَعْلَمُ أَفْضَلَ حَتَّى قَالُوا: إنَّ الْأَعْلَمَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْفَوَاحِشَ الظَّاهِرَةَ
فصل بيان مقام الإمام والمأموم
وَالْأَقْرَأُ أَوَرَعُ مِنْهُ - فَالْأَعْلَمُ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ الْأَقْرَأَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَأَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ أَعْلَمَ لِتَلَقِّيهِمْ الْقُرْآنَ بِمَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَاهِرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا حَظَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ، فَكَانَ الْأَعْلَمُ أَوْلَى، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ فَأَوْرَعُهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّةَ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ إلَى الْوَرَعِ أَشَدُّ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ» ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَقْدَمَهُمْ هِجْرَةً فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً يَوْمئِذٍ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، فَيُقَدَّمُ الْأَوْرَعُ لِتَحْصُلَ بِهِ الْهِجْرَةُ عَنْ الْمَعَاصِي، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْوَرَعِ فَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَأَكْبَرَهُمْ سِنًّا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكُبْرَ الْكُبْرَ» فَإِنْ، كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ، وَمَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا؛ لِأَنَّ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ أَكْثَرُ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ - فِي الْحَدِيثِ - أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا أَيْ أَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِالْأُمُورِ، يُقَالُ: وَجْهُ هَذَا الْأَمْرِ كَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ: أَكْثَرُهُمْ صَلَاةً بِاللَّيْلِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَثُرَ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مُمْكِنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ دَوَاعِي الِاقْتِدَاءِ، فَكَانَتْ إمَامَتُهُ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى. وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَةِ أَخِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِعَوْرَاتِ بَيْتِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي بَيْتِهِ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءً بِهِ بَيْنَ عَشَائِرِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَذَا لَا يَلِيقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كَانَتْ لِحَقِّهِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الضَّيْفَ إذَا كَانَ ذَا سُلْطَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّ بِدُونِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِمِثْلِ هَذَا الضَّيْفِ ثَابِتٌ دَلَالَةً، وَإِنَّهُ كَالْإِذْنِ نَصًّا وَأَمَّا إذَا كَانَ الضَّيْفُ سُلْطَانًا فَحَقُّ الْإِمَامَةِ لَهُ حَيْثُمَا يَكُونُ، وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَنَقُولُ: إذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ يَتَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَلِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ جَدَّتِي مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى طَعَامٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُومُوا لِأُصَلِّيَ بِكُمْ، فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِهِ، وَأُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ مِنْ وَرَائِنَا» ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَى الدَّاخِلِ لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ. وَلَوْ قَامَ فِي وَسَطِهِمْ أَوْ فِي مَيْمَنَةِ الصَّفِّ أَوْ فِي مَيْسَرَتِهِ جَازَ وَقَدْ أَسَاءَ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْكَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَتَرْكُهُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَجَعْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ الدَّاخِلُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضُ اقْتِدَائِهِ لِلْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ إذَا كَانَ سِوَاهُ اثْنَانِ يَتَقَدَّمُهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَسَّطُهُمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَقَامَ وَسَطَهُمَا، وَقَالَ هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمَ وَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ» ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تُرْوَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ضِيقِ الْمَكَانِ، كَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَحْوَالِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَذْهَبِهِ. وَلَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَهِيَ أَيْضًا مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ: هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ضِيقِ الْمَكَانِ، عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ إنْ تَعَارَضَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمَعْقُولِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ حَالُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا لَوْ قَامَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمَا لَا يُكْرَهُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ وَكَوْنِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ يَقِفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْتَبَهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ
فصل بيان ما يستحب للإمام أن يفعله عقيب الفراغ من الصلاة
مُعَلَّقٍ فِي الْهَوَاءِ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ، فَتَوَضَّأْتُ وَوَقَفْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي - وَفِي رِوَايَةٍ بِذُؤَابَتِي - وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَعُدْتُ إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْقَفْتُكَ فِيهِ؟ فَقُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ فِي الْمَوْقِفِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، فَإِعَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا رُوِيَ «عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَوَّلَهُ وَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ» ، ثُمَّ إذَا وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِمَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ. وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي أَطْوَلَ مِنْ الْإِمَامِ وَكَانَ سُجُودُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ لَا لِمَوْضِعِ السُّجُودِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي الصَّفِّ وَوَقَعَ سُجُودُهُ أَمَامَ الْإِمَامِ لِطُولِهِ وَلَوْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَفَا فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُمَا بِهِ؟ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَقَامَ الْمُخْتَارَ لَهُ، وَلِهَذَا حَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَقَفَ خَلْفَهُ جَازَ لِمَا مَرَّ، وَهَلْ يُكْرَهُ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ الْكَرَاهَةَ نَصًّا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ خَلْفَهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ عَلَى يَمِينِهِ فَلَا يَتِمُّ إعْرَاضُهُ عَنْ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ الْوَاقِفِ عَلَى يَسَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمُنْبَذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ» ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ هُوَ الْكَرَاهَةُ، وَإِنَّمَا نَشَأَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَنْ إشَارَةِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُسِيءٌ - فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ جَوَابَ الْإِسَاءَةِ إلَى آخِرِ الْفِعْلَيْنِ ذِكْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: " وَكَذَلِكَ "، ثُمَّ أَثْبَتَ الْإِسَاءَةَ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا. وَإِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ امْرَأَةٌ أَقَامَهَا خَلْفَهُ؛ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا مُفْسِدَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ خُنْثَى مُشْكِلٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ رَجُلٌ وَخُنْثَى، أَقَامَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ أَوْ الْخُنْثَى خَلْفَهُ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ أَوْ خُنْثَى أَقَامَ الرَّجُلَيْنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُمَا وَلَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْخَنَاثَى وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ - يَقُومُ الرِّجَالُ صَفًّا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ الْإِنَاثُ، ثُمَّ الصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ. وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي الْجَنَائِزِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا جِنَازَةُ الرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ وَالْخُنْثَى وَالْأُنْثَى وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلَى إذَا جُمِعَتْ فِي حَفِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - (وَأَفْضَلُ) مَكَانِ الْمَأْمُومِ إذَا كَانَ رَجُلًا حَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا» ، وَإِذَا تَسَاوَتْ الْمَوَاضِعُ فِي الْقُرْبِ إلَى الْإِمَامِ فَعَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي الْأُمُورِ، وَإِذَا قَامُوا فِي الصُّفُوفِ تَرَاصَّوْا وَسَوَّوْا بَيْنَ مَنَاكِبِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرَاصُّوا وَأَلْصِقُوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ» . [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ: إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ: أَوْ كَانَتْ صَلَاةً تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ: فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدهَا سُنَّةٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَامَ وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ فِي مَكَانِهِ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْمُكْثُ عَلَى هَيْئَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ إلَّا مِقْدَارَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . وَرُوِيَ أَنَّ جُلُوسَ الْإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ - بِدْعَةٌ؛ وَلِأَنَّ مُكْثَهُ يُوهِمُ الدَّاخِلَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ فَيَفْسُدُ اقْتِدَاؤُهُ، فَكَانَ الْمُكْثُ تَعْرِيضًا لِفَسَادِ اقْتِدَاءِ غَيْرِهِ بِهِ فَلَا يَمْكُثُ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ إنْ شَاءَ، إنْ لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ
فصل الواجبات الأصلية في الصلاة
الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا؟» كَأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ رُؤْيَا فِيهَا بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ. فَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لَا يَسْتَقْبِلْ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الصُّورَةِ الصُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لِلْمُصَلِّي: أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ، وَلِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ، وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ؛ لِأَنَّ بِالِانْحِرَافِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ كَمَا يَزُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ الِانْحِرَافِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْحَرِفُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ تَبَرُّكًا بِالتَّيَامُنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْحَرِفُ إلَى الْيَسَارِ لِيَكُونَ يَسَارُهُ إلَى الْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمْنَةً وَإِنْ شَاءَ يَسْرَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَهُوَ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ يَحْصُلُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. (وَإِنْ) كَانَتْ صَلَاةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا، وَكَرَاهَةُ الْقُعُودِ مَرْوِيَّةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا عَلَى الرَّضْفِ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَيَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ، وَعَنْ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَحَّى إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ، أَوْ اسْتِكْثَارًا مِنْ شُهُودِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (وَأَمَّا) الْمَأْمُومُونَ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الِانْتِقَالِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى الدَّاخِلِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ فَرَاغِ مَكَانِ الْإِمَامِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَيْضًا أَنْ يَنْقُضُوا الصُّفُوفَ وَيَتَفَرَّقُوا لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ الْمُعَايِنِ الْكُلَّ فِي الصَّلَاةِ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ أَصْلِيٌّ، وَنَوْعٌ هُوَ عَارِضٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ. [فَصْلٌ الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ فَسِتَّةٌ: مِنْهَا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا: فَإِنْ كَانَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ: قِرَاءَتُهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ. (احْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» . وَرُوِيَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا» ، أَوْ قَالَ: وَشَيْءٌ مَعَهَا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا أَوْ تَعْيِينُهُمَا نَسَخَ الْإِطْلَاقَ، وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَقَبِلْنَا الْحَدِيثَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ عَمَلًا حَتَّى تُكْرَهَ تَرْكُ قِرَاءَتِهِمَا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، كَيْ لَا يُضْطَرَّ إلَى رَدِّهِ لِوُجُوبِ رَدِّهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ وَهُوَ الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَهُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ إذَا كَانَ إمَامًا. وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَكَذَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّرْوِيحَاتِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَوْمِ فِعْلًا، فَيَجْهَرُ لِيَتَأَمَّلَ الْقَوْمُ وَيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ وَفَائِدَتُهَا لِلْقَوْمِ، فَتَصِيرُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُمْ تَقْدِيرًا، كَأَنَّهُمْ قَرَءُوا. وَثَمَرَةُ الْجَهْرِ تَفُوتُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْأَغْلَبِ يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَاتِ فِي خِلَالِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ، فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّأَمُّلِ فَلَا يَكُونُ الْجَهْرُ مُفِيدًا بَلْ يَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِثْمِ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ فِي خِلَالِ الشُّغْلِ، وَبِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحُضُورِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْعَثَةٌ عَلَى إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
وَالْأَرْكَانُ فِي الْفَرَائِضِ تُؤَدَّى عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دُونَ الْإِخْفَاءِ، وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ» إلَى أَنْ قَصَدَ الْكُفَّارُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَادُوا يَلْغُونَ فِيهِ فَخَافَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِالْمَدِينَةِ قُوَّةُ الْأَذَى، ثُمَّ وَإِنْ زَالَ هَذَا الْعُذْرُ بَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَى الْمُخَافَتَةِ فِيهِمَا فِي عُمْرِهِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً؛ وَلِأَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْعَجْمَاءِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَبِينُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهَا إلَّا بِتَرْكِ الْجَهْرِ فِيهَا، وَكَذَا وَاظَبَ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْأُمَّةِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ فِيمَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إسْمَاعُ الْقَوْمِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَإِخْفَاءُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمْ فِيمَا يُخَافَتُ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ خَافَتَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ إنْ زَادَ عَلَى مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ. وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ إذَا جَهَرَ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى إسْمَاعِ غَيْرِهِ يُخَافِتُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَلَوْ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَابِ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، وَالنُّقْصَانُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئَيْنِ نُهِيَ عَنْهُمَا: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَسْمَعَ مَنْ أُمِرَ بِالْإِخْفَاءِ عَنْهُ، وَالْمُنْفَرِدُ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَطْ فَكَانَ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ أَقَلَّ، وَمَا وَجَبَ لِجَبْرِ الْأَعْلَى لَا يَجِبُ لِجَبْرِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مُفَسَّرًا أَنَّهُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ، أَمَّا كَوْنُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ فَلِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إمَامٌ فِي نَفْسِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ. وَلَهُ أَنْ يُخَافِتَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ لِإِسْمَاعِ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَحْتَاجُ إلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُخَافَتَةِ، وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالْجَمَاعَةِ، وَالْمُنْفَرِدُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، وَلِهَذَا إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ كَانَ أَفْضَلَ هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ يُخَافِتُ، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَافَتَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي التَّرَاوِيحِ يَجِبُ الْجَهْرُ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ سُمِعَتْ قِرَاءَتُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ» . وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَمَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَقَالَ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكِ قَلِيلًا، وَيَا عُمَرُ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا، وَيَا بِلَالُ إذَا فَتَحْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا» ، ثُمَّ الْمُنْفَرِدُ إذَا خَافَتَ وَأَسْمَعَ أُذُنَيْهِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ بِيَقِينٍ، إذْ السَّمَاعُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا إذَا صَحَّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ وَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يُسْمِعْ أُذُنَيْهِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَخُرُوجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا - فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ الْبَلْخِيّ الْمَعْرُوفِ بِالْأَعْمَشِ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ
وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُسْمِعْ نَفْسُهُ، وَعَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أَدْنَى رَجُلٌ صِمَاخَ أُذُنَيْهِ إلَى فِيهِ سَمِعَ كَفَى، وَإِلَّا فَلَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ، وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْحُرُوفِ وَنَظْمِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْ وُجِدَ، فَأَمَّا إسْمَاعُهُ نَفْسَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ فِعْلُ الْأُذُنَيْنِ دُونَ اللِّسَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ نَجِدُهَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَصَمِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ؟ وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَقَدْرِ مَا لَا يَسْمَعُ هُوَ لَوْ كَانَ سَمِيعًا لَمْ يَعْرِفْ قِرَاءَةً. وَجْهُ قَوْلِ بِشْرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ. وَمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إشَارَةً إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ. وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ قَوْلُهُ: قَرَأَ فِي نَفْسِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحُرُوفِ لَأَدَّى إلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالنُّطْقِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) - الطُّمَأْنِينَةُ وَالْقَرَارُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الطُّمَأْنِينَةُ مِقْدَارُ تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ إنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ، إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ. (احْتَجَّا) بِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَخَفَّ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَسْتَطِعْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَتَطَهَّرْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَاقْرَأْ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَسْتَقِمْ قَائِمًا» ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، وَالْإِعَادَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَفَسَادُهَا بِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ الْمُؤَدَّى صَلَاةً بِقَوْلِهِ: فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا لِنَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَأَمَرَ بِمُطْلَقِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ، يُقَالُ: رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ إلَى الْأَرْضِ، وَالسُّجُودُ هُوَ: التَّطَأْطُؤُ وَالْخَفْضُ، يُقَالُ: سَجَدَتْ النَّخْلَةُ إذَا تَطَأْطَأَتْ، وَسَجَدَتْ النَّاقَةُ إذَا وَضَعَتْ جِرَانَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَخَفَضَتْ رَأْسَهَا لِلرَّعْيِ، فَإِذَا أَتَى بِأَصْلِ الِانْحِنَاءِ وَالْوَضْعِ فَقَدْ امْتَثَلَ لِإِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَكِنْ يَصْلُح مُكَمِّلًا، فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالِاعْتِدَالِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَنَفْيُهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ الَّذِي يُوجِبُ عَدَمَهَا مِنْ وَجْهٍ، وَأَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الْوُجُوبِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ إلَى مِثْلِهِ كَالْأَمْرِ بِكَسْرِ دَنَانِ الْخَمْرِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّنَ الْأَعْرَابِيَّ مِنْ الْمُضِيِّ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَرَّاتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَطْعِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصَّلَاةُ جَائِزَةً لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهَا عَبَثًا، إذْ الصَّلَاةُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْهُ. ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، حَتَّى لَا يَجِبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا، وَكَذَا الْقَوْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةُ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الرُّكْنِ، وَإِكْمَالُ الرُّكْنِ وَاجِبٌ كَإِكْمَالِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَلْحَقَ صَلَاةَ الْأَعْرَابِيِّ بِالْعَدَمِ؟ وَالصَّلَاةُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ إمَّا لِانْعِدَامِهَا أَصْلًا بِتَرْكِ الرُّكْنِ، أَوْ بِانْتِقَاصِهَا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ عَدَمًا مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا، وَلِهَذَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ. (وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا قَامَ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَرَجَعَ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا، أَوْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ فَوَجَبَتْ الْقَعْدَةُ فَاصِلَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» ، أَمَرَنَا بِالتَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ: " قُولُوا "، وَنَصَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك أَثْبَتَ تَمَامَ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَعْدَةِ. وَلَوْ كَانَ التَّشَهُّدُ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَ التَّمَامُ بِدُونِهِ، دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَعْرُوفِ، إذْ الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ. (وَمِنْهَا) - مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ السَّجْدَةُ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ فَرَضِيَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ سَاهِيًا فَوَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (وَأَمَّا) الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ بِعَارِضٍ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: سُجُودُ السَّهْوِ، وَالْآخَرُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ. (أَمَّا) سُجُودُ السَّهْوِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَان سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ السُّجُودِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ، وَكَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا سَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ سُنَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَفَعَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالْفَائِتُ مِنْ التَّطَوُّعِ كَيْفَ يُجْبَرُ بِالْوَاجِبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُمَا تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرِهِ، وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا لِنُقْصَانِ الْعِبَادَةَ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ، وَلَا تَحْصُلُ صِفَةُ الْكَمَالِ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ فَكَانَ وَاجِبًا ضَرُورَةً، إذْ لَا حُصُولَ لِلْوَاجِبِ إلَّا بِهِ، إلَّا أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لَا لِأَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السُّجُودَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ رَافِعًا لِلْقَعْدَةِ
فصل بيان سبب وجوب سجود السهو
الْوَاقِعَةِ فِي مَحَلِّهَا، فَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَمَحَلُّهَا قَبْلَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهَا يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ. (أَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَنَقُولُ: أَصْلُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا لَكِنَّ لَهَا أَرْكَانٌ لَا تَقُومُ بِدُونِهَا، وَوَاجِبَاتٌ تَنْتَقِصُ بِفَوَاتِهَا وَتَغْيِيرِهَا عَنْ مَحَلِّهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَابِرِ، مَعَ أَنَّ النَّفَلَ يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَنَا بِالشُّرُوعِ وَيَلْتَحِقُ بِالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يُبَيَّنُ فِي مَوَاضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَغْيِيرُهُ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ مِنْهَا عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ سَاهِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ، وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ السَّهْوُ عَنْهُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَذْكَارِ، إذْ الصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ بِأَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعَ الْقُعُودِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ عَنْ وَقْتِهِ، أَوْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأُولَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَقْعُدْ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يُعِدْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ» وَكَذَا إذَا رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ أَوْ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ عَنْ مَحَلِّهِ أَوْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ بَعْدَ مَا قَعَدَ وَعَادَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ، أَوْ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ وَهُوَ السَّلَامُ. وَلَوْ زَادَ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ. (لَهُمَا) أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ لَوَجَبَ جَبْرُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ وَلَا يُعْقَلُ تَمَكُّنُ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ بِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ حَصَلَ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْخِيرٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ تَلَا سَجْدَةً فَنَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ وَلَوْ سَلَّمَ مُصَلِّي الظُّهْرِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهَا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ - يُتِمُّهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ أَمَّا الْإِتْمَامُ فَلِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُصَلِّي الْجُمُعَةِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ نَادِرٌ فَكَانَ سَلَامُهُ سَلَامَ عَمْدٍ، وَأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ. وَلَوْ تَرَكَ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ، وَالْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ الْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سَاهِيًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ عِنْدَهُمَا وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا إذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ، وَإِمَّا إنْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذِهِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ بِأَنْ كَانَ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنهُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ لَمْ يَطُلْ فَإِنْ لَمْ يَطُلْ تَفَكُّرُهُ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَطُلْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّ الْفِكْرَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ فَإِنْ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ السَّهْوُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ يُمْكِنُ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا، فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِكْرِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَالْفِكْرِ الْقَلِيلِ. وَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ وَإِنْ طَالَ فِكْرُهُ كَذَا هَذَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْفِكْرَ الطَّوِيلَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ
مِمَّا يُؤَخِّرُ الْأَرْكَانَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَيُوجِبُ تَمَكُّنَ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَبْرِهِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ، بِخِلَافِ الْفِكْرِ الْقَصِيرِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ سَهْوُ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا سَهْوُ صَلَاةٍ أُخْرَى. وَلَوْ شَكَّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَتَحَرَّى وَلَا يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَا يَسْلَمُ عَنْ السَّهْوِ فِيهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. (وَحُكِيَ) أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِلْكِسَائِيِّ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ ابْنَ خَالَتِهِ: لِمَ لَا تَشْتَغِلُ بِالْفِقْهِ مَعَ هَذَا الْخَاطِرِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَحْكَمَ عِلْمًا فَذَاكَ يَهْدِيهِ إلَى سَائِرِ الْعُلُومِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنَا أُلْقِي عَلَيْك شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَخَرِّجْ جَوَابَهُ مِنْ النَّحْوِ فَقَالَ: هَاتِ قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ؟ فَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِنْ أَيِّ بَابٍ مِنْ النَّحْوِ خَرَّجْتَ هَذَا الْجَوَابَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَابِ أَنَّهُ لَا يُصَغَّرُ الْمُصَغَّرُ فَتَحَيَّرَ مِنْ فِطْنَتِهِ. وَلَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي الْعَصْرِ، فَصَلَّى عَلَى ذَلِكَ الْوَهْمِ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الظُّهْرِ - فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا شَرْطُ بَقَائِهَا كَأَصْلِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ وَلَا تَرْكُ وَاجِبٍ، فَإِنْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ تَفَكُّرًا شَغَلَهُ عَنْ رُكْنٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ، ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ كَبَّرَ - فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخَّرَ رُكْنًا وَهُوَ الرُّكُوعُ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ وَهُوَ السَّلَامُ. وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ مَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً ثُمَّ اسْتَيْقَنَ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ وَانْعَدَمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَنْقِيصُهَا بِتَفْوِيتِ وَاجِبٍ مِنْهَا، فَاسْتَحَالَ إيجَابُ الْجَابِرِ. وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَعَادَ إلَى الْوُضُوءِ، ثُمَّ شَكَّ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا طَالَ تَفَكُّرُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ. وَأَمَّا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبِنَاءِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَنَقُولُ: إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ - وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَسْهُ فِي عُمُرِهِ قَطُّ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، (احْتَجَّ) بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا؟ - فَلْيَلْغِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ» ، أَمَرَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا أَخْذًا بِالْيَقِينِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ الْعَمَلِ فَكَانَ أَوْلَى. (وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى؟ فَلِيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ» أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا هَكَذَا. وَرُوِيَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ أَدَّى الْفَرْضَ بِيَقِينٍ كَامِلًا، وَلَوْ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ مَا أَدَّاهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي زِيَادَةً عَلَى الْمَفْرُوضِ، وَإِدْخَالُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانٌ فِيهَا، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ بِأَنْ كَانَ أَدَّى أَرْبَعًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَدَّى ثَلَاثًا فَبَنَى عَلَى الْأَقَلِّ وَأَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَيْسَ إبْطَالًا لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلَ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا، وَالْإِكْمَالُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ مِرَارًا وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا هَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا، فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا تَحَرَّى وَبَنَى عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَرِّي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُ الْيَقِينِ بِدُونِهِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْأَقَلِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرِّي. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا؟ - فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَالتَّحَرِّي عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ مَشْرُوعٌ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يَقَعَ ثَانِيًا وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَلَا وَجْهَ لِلْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوَصِّلهُ إلَى مَا عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ، وَعِنْدَنَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَكَيْفِيَّةُ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ يَجْعَلُهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ لَا مَحَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لَهُ فَلِذَلِكَ يَقْعُدُ. وَأَمَّا الشَّكُّ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ يَكْثُرُ يَتَحَرَّى أَيْضًا كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي بَابِ الْحَجِّ وَتَكْرَارَ الرُّكْنِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ رَكْعَةً فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا وُجِدَتْ قَبْلَ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي أَحْوَطَ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ سُجُودُ السَّهْوِ بِهَا أَرْبَعَةٌ: الْقِرَاءَةُ، وَالْقُنُوتُ، وَالتَّشَهُّدُ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ. (أَمَّا) الْقِرَاءَةُ فَإِذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَاهِيًا يُوجِبُ السَّهْوَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هِيَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنًا وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ تَرْكِهَا فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاءً، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا فَقَدْ غَيَّرَ الْفَرْضَ عَنْ مَحَلِّ أَدَائِهِ سَهْوًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَلَوْ سَهَا عَنْ الْفَاتِحَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، أَوْ عَنْ السُّورَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا - فَعَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا قِرَاءَةُ السُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، أَوْ قِرَاءَةُ مِقْدَارِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَهِيَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَاجِبَةٌ، فَيَتَعَلَّقُ السُّجُودُ بِالسَّهْوِ عَنْهُمَا. وَلَوْ غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ سَهْوًا بِأَنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ - فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ هَيْئَةِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَيَكُونُ سُنَّةً كَهَيْئَةِ كُلِّ رُكْنٍ، نَحْوَ الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ وَهَيْئَةِ الْقَعْدَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي الْمِقْدَارِ فَقَالَ: إنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ - فَعَلَيْهِ السَّهْوُ، وَإِلَّا فَلَا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِلَّا فَلَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا جَهَرَ بِحَرْفٍ يَسْجُدُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ أَلْزَمُ مِنْ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ؟ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُخَافَتُ فَإِذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ بِنَفْسِ الْجَهْرِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ فَأَمَّا بِنَفْسِ الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ أَحْيَانًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهَذَا جَهْرٌ فِيمَا يُخَافَتُ، فَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ثَبَتَ فِي الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ الْحَدِيثُ مُقَدَّرًا بِآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ وَلَمْ يَرِدْ بِأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ فَيُوجِبُ السَّهْوَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَة عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً، فَإِذَا غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَعَلَّقَ بِهِ السَّهْوُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، فَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ التَّغْيِيرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَجِبُ السَّهْوُ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، أَمَّا إذَا خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَهْرَ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا وَجَبَ تَحْصِيلًا لِثَمَرَةِ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ فَلَمْ يَجِبْ الْجَهْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النَّقْصُ فِي الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا وَجَبَتْ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ الْمُغَالَبَةِ وَاللَّغْوِ فِيهَا؛
فصل بيان المتروك ساهيا هل يقضى أم لا
لِأَنَّ صِيَانَةَ الْقِرَاءَةِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِهَارِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهَا الْمُغَالَبَةُ فَلَمْ تَكُنْ الصِّيَانَةُ بِالْمُخَافَتَةِ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فَأَخْطَأَ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُهُ إذْ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَرَأَ الْحَمْدُ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ السُّورَةَ بِتَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ. وَلَوْ قَرَأَ الْحَمْدُ ثُمَّ السُّورَةَ ثُمَّ الْحَمْدُ - لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً. وَلَوْ تَشَهَّدَ مَرَّتَيْنِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ أَوْ فِي قِيَامِهِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ مَوَاضِعُ الثَّنَاءِ. (وَأَمَّا) الْقُنُوتُ فَتَرْكُهُ سَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ إذَا تَرَكَهَا أَوْ نَقَصَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَكَذَا إذَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ إذَا سَهَا عَنْهَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا - قَرَأَهَا وَسَلَّمَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ سُنَّةٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهَا كَبِيرُ نُقْصَانٍ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَمَا إذَا تَرَكَ الثَّنَاءَ وَالتَّعَوُّذَ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ وَاجِبَةٌ، أَمَّا وُجُوبُ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ فَلِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا وُجُوبُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَمُوَاظَبَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا سَهْوَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا سَهَا عَنْ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ - لِمَا يُذْكَرُ - فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا السَّهْوُ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهَا مِنْ السُّنَنِ، وَنُقْصَانُ السُّنَّةِ لَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ وَلَا يَجِبُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْفَائِتِ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ السَّهْوُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا فَوْقَ النَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ بِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَالشَّرْعُ لَمَّا جَعَلَ السُّجُودَ جَابِرًا لِمَا فَاتَ سَهْوًا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا، وَإِذَا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا كَانَ دُونَ مَا فَاتَ عَمْدًا، وَالشَّيْءُ لَا يَنْجَبِرُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْجَبِرُ بِهِ النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ بِفَوَاتِ الْفَرْضِ. وَلَوْ سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّلَامِ مِنْ بَابِ السُّنَنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ. وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ مِرَارًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَتَانِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» وَلِأَنَّ كُلَّ سَهْوٍ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فَيَسْتَدْعِي جَابِرًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَجْدَتَانِ تُجْزِيَانِ لِكُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وَسَجَدَ لَهَا سَجْدَتَيْنِ، وَكَأَنْ سَهَا عَنْ الْقَعْدَةِ وَعَنْ التَّشَهُّدِ حَيْثُ تَرَكَهُمَا، وَعَنْ الْقِيَامِ حَيْثُ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ كَافِيَتَانِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إنَّمَا أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى تَكْرَارِهِ لَوْ وَقَعَ السَّهْوُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جِنْسِ السَّهْوِ الْمَوْجُودِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَنَّهُ عَيْنُ السَّهْوِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ الْمَتْرُوكِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمَتْرُوكِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا؟ نَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّ الْمَتْرُوكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنْ الْأَذْكَارِ، وَمِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ كَانَ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ إنْ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ فَرْضًا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَا تَفْسُدُ، وَلَكِنْ تُنْتَقَصُ وَتَدْخُلُ فِي حَدِّ الْكَرَاهَةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِذَا تَرَكَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا آخِرَ الصَّلَاةِ - قَضَاهَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْضِيهَا وَيَقْضِي مَا بَعْدَهَا، (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَا صَلَّى بَعْدَ الْمَتْرُوكِ حَصَلَ قَبْلَ
أَوَانِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً فَلَا تُعْتَبَرُ بِدُونِ التَّرْتِيبِ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ وُجِدَتْ الرَّكْعَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ؟ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ، فَكَانَ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُعْتَبَرًا مُعْتَدًّا بِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ مَا صَادَفَ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ، وَالرَّكْعَةُ بِدُونِ الرُّكُوعِ لَا تَتَحَقَّقُ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ - قَضَاهُمَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَيَبْدَأُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا ثُمَّ بِالثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ. وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ تَرَكَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْأُخْرَى صُلْبِيَّةٌ تَرَكَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ - يُرَاعِي التَّرْتِيبَ أَيْضًا فَيَبْدَأُ بِالتِّلَاوَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ زُفَرُ: يَبْدَأُ بِالثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ التِّلَاوَةِ أَدَاءً فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ لَخَرَّ لَهَا مِنْ رُكُوعِهِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَسَجَدَهَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَعُودَ إلَى حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ فَيُعِيدَهَا لِيَكُونَ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَسْنُونَةِ وَهِيَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرْضٌ عِنْدَهُ فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّهَا فَبَطَلَ مَا أَدَّى مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ، وَعِنْدَنَا التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ دُونَ مَا سَبَقَهُ، وَلَئِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ، فَوَقَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مُعْتَبَرًا لِمُصَادِفَتِهِ مَحَلَّهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الرُّكُوعِ إذَا خَرَّ لَهَا مِنْ الرُّكُوعِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ مَا أَحْدَثَ فِيهِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَا قَاهُ الْحَدَثُ مِنْ الرُّكْنِ قَدْ فَسَدَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ كُلَّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْبِنَاءِ، فَيُعْمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى سَلَّمَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا، أَوْ سَاهٍ عَنْهَا. فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مُحَلِّلٌ فِي الشَّرْعِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ حَالَةَ السَّهْوِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ النِّسْيَانِ، وَفِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي غَيْرِ حَالَةِ السَّهْوِ فِي حَقِّ مَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مُحَلِّلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ سَلَامَ الْعَمْدِ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مَا مَرَّ، ثُمَّ إنْ سَلَّمَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ - لَمْ يَصْرِفْ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ - يَعُدْ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ. وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ، وَإِذَا عَادَ إلَى السَّجْدَةِ يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فِيهَا وَلَكِنْ لَا يَعْتَدُّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ، وَيُتَابِعُهُ فِي التَّشَهُّدِ دُونَ التَّسْلِيمِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يُتَابِعهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ سَاهِيًا لَا يُتَابِعُهُ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ الْإِمَامُ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَفَائِدَةُ صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اقْتَدَى بِهِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ الْعِشَاءِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعُودَ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ صَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ هُوَ فِي
الْمَسْجِدِ بِالْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَكَانَ بَقَاؤُهُ فِيهِ كَبَقَائِهِ فِي مَكَانِ صَلَاتِهِ، وَصَرْفُ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، فَأَمَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ فَلَا بِخِلَافِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَالَانِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يَعُدْ وَتَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ مَانِعٌ مِنْ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الصُّفُوفَ مِنْ خَلْفِهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ أَوْ الْيَسَارِ عَادَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ الْتَحَقَ بِالْمَسْجِدِ، وَلِهَذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ. وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ، لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إنْ مَشَى قَدْرَ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُ عَادَ وَبَنَى وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ، وَقِيلَ: إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ لَا يَعُودُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي حُكْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ كَانَ يَعُودُ مَا لَمْ يُجَاوِزْهَا؛ لِأَنَّ دَاخِلَ السُّتْرَةِ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ فَإِنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، أَوْ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ - فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ سَلَامَ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ. وَلَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَكِنَّهَا تُنْتَقَصُ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُ عَنْ الصَّلَاةِ، حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ بِالْقَهْقَهَةِ، وَيَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا أَرْبَعًا، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي الْعَوْدِ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْبِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ - سَقَطَ عَنْهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ، إلَّا أَنَّهَا تُنْتَقَصُ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ الْعَوْدُ إلَى هَذِهِ الْمَتْرُوكَاتِ وَهِيَ السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَتَا سَهْوٍ فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُمَا أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا وَذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، أَمَّا إذَا كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ أَوَّلًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَيَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ تَشَهُّدَهُ اُنْتُقِضَ بِالْعَوْدِ إلَيْهَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً سَقَطَتَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا أَوْ ذَاكِرًا لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ خَاصَّةً لَا يَسْقُطَانِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ أَوْ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ التِّلَاوَةَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَشَهَّدَ - لِمَا مَرَّ - ثُمَّ يُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا يَعُودُ فَيَقْضِهِمَا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ الصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ سَجْدَتَا السَّهْوِ إنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ أَوْ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَيَعُودُ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إنْ كَانَتْ الصُّلْبِيَّةَ أَوَّلًا بَدَأَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ التِّلَاوَةُ أَوَّلًا بَدَأَ بِهَا عِنْدَهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ سَاهِيًا عَنْ الصُّلْبِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمَامِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ، (وَوَجْهُهُ) أَنَّ سَلَامَهُ فِي حَقِّ الرُّكْنِ سَلَامُ سَهْوٍ وَذَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ الطَّاعِنِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرَّرُوا هَذَا الْوَجْهَ فَقَالُوا: إنَّ هَذَا سَلَامُ سَهْوٍ فِي حَقِّ الرُّكْنِ، وَسَلَامُ عَمْدٍ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ، وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُهُ وَسَلَامُ الْعَمْدِ يُخْرِجُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ، وَالتَّحْرِيمَةُ صَحِيحَةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِلتِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرُّكْنِ عَلَى جَانِبِ الْوَاجِبِ، وَفِيمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ تَرْجِيحُ جَانِبِ
الْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ إلَّا أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْعَمْدِ يُخْرِجُ وَجَانِبَ الشَّكِّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يُخْرِجُ وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْ الْإِخْرَاجِ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالرُّكْنِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ أَنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْرِجًا وَالْآخَرُ مُبْقِيًا، وَهَهُنَا جَانِبُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْخُرُوجَ، وَجَانِبُ الرُّكْنِ لَا يُوجِبُ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْ الْإِخْرَاجِ، فَأَنَّى يَقَعُ التَّعَارُضُ؟ عَلَى أَنَّ كُلَّ سَلَامٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ مُحَلِّلًا شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ عَلَى مَا مَرَّ إلَّا أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِخْرَاجِ حَالَةَ السَّهْوِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ، وَلَا يُكْرَهُ سَلَامُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَاجِبَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ فَبَقِيَ مُخْرَجًا عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِالصُّلْبِيَّةِ - يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَأْتِي بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلتِّلَاوَةِ فَكَانَ سَلَامَ عَمْدٍ فِي حَقِّهِ، وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَهُوَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ أَوْ ذَاكِرًا لِلْكُلِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَأَ بِالسَّهْوِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّكْبِيرُ يُؤْتَى بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا فِي تَحْرِيمَتِهَا، وَالتَّلْبِيَةُ لَا تَخْتَصُّ بِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ سَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ وَالتَّكْبِيرُ، وَكَذَا إذَا لَبَّى بَعْدَ السَّهْوِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْبِيرُ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّكْبِيرُ يَخْتَصُّ بِحُرْمَتِهَا، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَلَامٌ لِكَوْنِهَا جَوَابًا لِخِطَابِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] . وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ قُرْبَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ دُونَ التِّلَاوَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ دُونَ الصُّلْبِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ، ثُمَّ يُلَبِّي لِمَا مَرَّ. وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا تَفْسُدُ - لِمَا مَرَّ - وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ خَارِجُ الصَّلَاةِ فِي حُرْمَتِهَا، فَإِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ فَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكُوعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ هَذَا الرُّكُوعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْكَعْ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ السُّجُودِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَالْتَحَقَ السُّجُودُ بِالْعَدَمِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فَكَانَ أَدَاءُ هَذَا الرُّكُوعِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا أَتَى بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ صَارَ مُؤَدِّيًا رَكْعَةً تَامَّةً. وَكَذَا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ ثُمَّ سَجَدَ - فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَكُونُ هَذَا السُّجُودُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ وَقَعَ مُعْتَبَرًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ تَتَقَيَّدَ بِالسَّجْدَةِ، فَإِذَا قَامَ وَقَرَأَ لَمْ يَقَعْ قِيَامُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ مُعْتَدًّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي مَحَلِّهِ فَلَغَا، فَإِذَا سَجَدَ صَادَفَ السُّجُودُ مَحَلَّهُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ رُكُوعٍ مُعْتَبَرٍ فَتَقَيَّدَ رُكُوعُهُ بِهِ، فَقَدْ وُجِدَ انْضِمَامُ السَّجْدَتَيْنِ إلَى الرُّكُوعِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً، وَكَذَا إذَا قَرَأَ أَوْ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ، فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهُ رُكُوعَانِ وَوُجِدَ السُّجُودُ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا وَيَلْغُو الْآخَرَ، غَيْرَ أَنَّ فِي بَابِ الْحَدَثِ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ، وَفِي بَابِ السَّهْوِ مِنْ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ،، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، فَوَقَعَ الثَّانِي مُكَرَّرًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ يَتَقَيَّدُ بِهِ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً. وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ
وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ سُجُودَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ، فَإِذَا قَرَأَ وَرَكَعَ تَوَقَّفَ هَذَا الرُّكُوعُ عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَ بِسُجُودِهِ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَجَدَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ تَقَيَّدَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ بِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً. وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ فِي الْأُولَى وَلَمْ يَسْجُدْ، ثُمَّ رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَسَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ - فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِمَا مَرَّ غَيْرَ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ يَلْتَحِقُ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ أَمْ بِالثَّانِي؟ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نَقْصٌ فِيهَا، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْبَةٌ وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ إلَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ إدْخَالُ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ أَوْ السُّجُودِ الزَّائِدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَفْسُدُ بِوُجُودِ أَفْعَالِهَا بَلْ بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ صَلَاةٍ كَامِلٌ، فَانْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْفَرْضِ ضَرُورَةٌ لِمَكَانِ فَسَادِ فَرْضٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِعْلٍ كَامِلٍ لِيَصِيرَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا، أَوْ بِالِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهَا، وَقَدْ انْعَدَمَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ - فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَيِّدْ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَكُنْ رَكْعَةً فَلَمْ يَكُنْ فِعْلَ صَلَاةٍ كَامِلًا، وَمَا لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فَكَانَ قَابِلًا لِلرَّفْعِ، وَيَكُونُ رَفْعُهُ فِي الْحَقِيقَةِ دَفْعًا وَمَنْعًا عَنْ الثُّبُوتِ، فَيُدْفَعُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَعَادَ، وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ وَفَسَدَ فَرْضُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَيَعُودُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ عِنْدَهُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى النَّقْصِ لِبَقَاءِ فَرْضٍ عَلَيْهِ وَهُوَ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ، وَأَنَّا نَقُولُ: وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ بِهِ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِهِ فِي النَّفْلِ خُرُوجَهُ عَنْ الْفَرْضِ لِتَغَايُرِهُمَا فَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ فِيهِمَا وَقَدْ حَصَلَ فِي النَّفْلِ فَصَارَ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةً. وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَعُدْ وَلَكِنْ سَبَّحَ بِهِمْ فَقَامُوا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ سَبَّحُوا بِهِ فَعَادَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا وَكَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ فَرِيضَةٌ وَالْقَعْدَةَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ فَلَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ لِمَكَانِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ - تَعَالَى -، وَإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ مَنْ عَصَاهُ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْ سَجْدَتِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِوُجُودِ حَدِّ الْقِيَامِ وَهُوَ انْتِصَابُ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ جَمِيعًا، وَمَا بَقِيَ مِنْ الِانْحِنَاءِ فَقَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَقْعُدُ لِانْعِدَامِ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ هَلْ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، كَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ: لَا يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ كَانَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَسْجُدُ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ أَخَّرَ وَاجِبًا وَجَبَ وَصْلُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الرُّكْنِ فَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ. (وَأَمَّا) الْأَذْكَارُ فَنَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا عِنْدِي أَدَاءٌ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَكُونُ قَاضِيًا وَمَسَائِلُ الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ أَدَاءً لَجَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ الْتَحَقَتْ بِالْأُولَيَيْنِ فَحَلَّتْ الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَيَصِيرُ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ،
فصل بيان محل السجود للسهو
وَإِنَّهُ فَاسِدٌ. وَذُكِرَ فِي بَابِ السَّهْوِ: مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ فَاقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَقَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا، ثُمَّ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةِ - وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ لَكَانَ الْإِمَامُ مُؤَدِّيًا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَقَدْ أَدْرَكَهُمَا الْمَسْبُوقُ فَحَصَلَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، وَمَعَ هَذَا وَجَبَ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُولَيَيْنِ مَحَلُّ أَدَاءِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا، وَالْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ الْأُولَيَيْنِ، فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ قَضَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْفَائِتُ إذَا قُضِيَ يَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهِ فَحَلَّتْ الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَقَدْ فَاتَ عَلَى الْمَسْبُوقِ الْقِرَاءَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا قِرَاءَةٍ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنْ وُجِدَتْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا لِافْتِرَاضِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَحَسْبُ، فَقَدْ فَاتَ الْفَرْضُ عَلَى الْمَسْبُوقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهَا فِيمَا يَقْضِي. وَلَوْ تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ هَهُنَا. وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَبَدَأَ بِغَيْرِهَا، فَلَمَّا قَرَأَ بَعْضَ السُّورَةِ تَذَكَّرَ - يَعُودُ فَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سُمِّيَتْ فَاتِحَةً لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي مَحَلِّهَا كَانَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، كَمَا لَوْ سَهَا عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ - يَعُودُ إلَى التَّكْبِيرَاتِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا كَذَا، هَذَا. وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ السُّورَةَ لَمْ يَقْضِهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَاتِحَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوْجَبُ مِنْ السُّورَةِ، ثُمَّ السُّورَةُ تُقْضَى فَلَأَنْ تُقْضَى الْفَاتِحَةُ أَوْلَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مَحَلُّ الْفَاتِحَةِ أَدَاءً فَلَا تَكُونَا مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً بِخِلَافِ السُّورَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ السُّورَةَ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْضِيهَا كَمَا لَا يَقْضِي الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ السُّورَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ لَيْسَتَا مَحَلًّا لِلسُّورَةِ أَدَاءً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَجَهَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ جَهَرَ بِهِمَا أَوْ بِالسُّورَةِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُ الْبَلْخِيّ فَقَالَ: أَتَى بِالسُّورَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَيَجْهَرُ بِالسُّورَةِ أَدَاءً فَكَذَا قَضَاءً، فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ سُنَنِهَا الْإِخْفَاءُ فَيُخْفِي بِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُخَافِتُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ، وَالسُّورَةُ تُبْنَى عَلَيْهَا، ثُمَّ السُّنَّةُ فِي الْفَاتِحَةِ: الْمُخَافَتَةُ، فَكَذَا فِيمَا يُبْنَى عَلَيْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَهْرُ بِالسُّورَةِ فَيَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ يَعُودُ إلَى الْقِرَاءَةِ، وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ. وَلَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَتَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ قَضَاهَا فِي الرُّكُوعِ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ إذَا تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ حَيْثُ يَسْقُطُ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ أَيْضًا. وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَامَ ثُمَّ تَذَكَّرَ - يَعُودُ وَيَتَشَهَّدُ إذَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَرَأَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَعُودُ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ فَهَهُنَا أَوْلَى. وَكَذَا إذَا لَمْ يَقُمْ وَتَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا، وَلَوْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ وَسَقَطَ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَرْكُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَا يَعُودُ وَتَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَعُودُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَحَلِّ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْنُونُ بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ كَانَ السَّهْوُ بِإِدْخَالِ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ نُقْصَانٍ فِيهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَبْلَ السَّلَامِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلنُّقْصَانِ فَقَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ فَبَعْدَ السَّلَامِ. (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّشَهُّدِ كَمَا حَمَلْتُمْ السَّلَامَ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَيْ فَتَشَهَّدْ، وَيُرَجَّحُ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْمَعْنَى إيَّاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّجْدَةَ إنَّمَا يُؤْتَى بِهَا جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَابِرُ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِ النَّقْصِ لَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِالسَّجْدَةِ بَعْدَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ لَا فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ، وَالْإِتْيَانُ بِهَا قَبْلَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ جَبْرَ النُّقْصَانِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ، وَبِالسَّلَامِ الْقَاطِعِ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْأَصْلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ جَبْرُ النُّقْصَانِ بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ. (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ فِي مَثْنَى مِنْ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَهْوًا فِي نُقْصَانٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَهْوًا فِي الزِّيَادَةِ؛ وَلِأَنَّ السَّهْوَ إذَا كَانَ نُقْصَانًا فَالْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ، فَيُؤْتَى بِهِ فِي مَحِلِّ النُّقْصَانِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ زِيَادَةً فَتَحْصِيلُ السَّجْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ يُوجِبُ زِيَادَةً أُخْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُوجِبُ رَفْعَ شَيْءٍ، فَيُؤَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ. وَلَنَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ» ؛ وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمَعْنًى، ذَلِكَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ هُنَاكَ ثُمَّ سَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهِ فِي كُلِّ مَحِلٍّ، وَتَكْرَارُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَأُخِّرَ إلَى وَقْتِ السَّلَامِ احْتِرَازًا عَنْ التَّكْرَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ أَيْضًا عَنْ السَّلَامِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنْ السَّهْوِ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهَا، فَلَوْ أَتَى بِالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ الْجَابِرُ لِلنُّقْصَانِ مُوجِبًا زِيَادَةَ نَقْصٍ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ. (وَأَمَّا) الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفِعْلِ مُتَعَارِضَةٌ فَبَقِيَ لَنَا رِوَايَةُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ، أَوْ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا لِمُعَاضَدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى إيَّاهُ، أَوْ يُوَفَّقُ فَيُحْمَلُ مَا رَوَيْنَا عَلَى أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سَوَاءٌ فَكَانَ مُحْكَمًا، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الثَّانِي، فَكَانَ مُتَشَابِهًا فَيُصْرَفُ إلَى مُوَافَقَةِ الْمُحْكَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ رَدًّا لِلْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْكَمِ وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ نَقَصَ أَوْ زَادَ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ نُقْصَانًا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَهَا مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ مَاذَا يَفْعَلُ؟ وَتَكْرَارُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَلْزَمَ مَالِكًا بَيْنَ يَدَيْ الْخَلِيفَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ زَادَ وَنَقَصَ كَيْف يَصْنَعُ؟ فَتَحَيَّرَ مَالِكٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ أَحَدِ مَعْنَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْجَابِرَ يَحْصُلُ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُ لِمَعْنًى يُوجِبُ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْجَبْرَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا حَالَ قِيَامِ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَنَعَمْ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَاطِعٌ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ أَوْ يَقْطَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ بِالْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الثَّانِي يُسَلِّمُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَعُودُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي بِالدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ وَهُوَ سُجُودُ السَّهْوِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَرَاغُ،
فصل قدر سلام السهو وصفته
فَلِذَلِكَ كَانَ التَّأْخِيرُ إلَى التَّشَهُّدِ الثَّانِي أَحَقَّ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِدَعَوَاتٍ تُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ لِئَلَّا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانَ مَحَلِّهِ الْمَسْنُونِ. وَأَمَّا مَحِلُّ جَوَازِهِ فَنَقُولُ: جَوَازُ السُّجُودِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ السَّلَامِ، حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ يَجُوزُ وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ سُنَّتَهُ وَهُوَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ بَعْدَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ كَانَ تَكْرَارًا، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَدْرُ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتُهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الزَّاهِدِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيِّ وَقَالَ: لَوْ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ تَبْطُلُ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ لِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، وَمَعْنَى التَّحِيَّةِ سَاقِطٌ عَنْ سَلَامِ السَّهْوِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، فَكَانَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» ذَكَرَ السَّلَامَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَبْسِ أَوْ إلَى الْمَعْهُودِ وَهُمَا التَّسْلِيمَتَانِ. [فَصْلٌ عَمَلُ سَلَامِ السَّهْوِ هَلْ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَمَلُ سَلَامِ السَّهْوِ أَنَّهُ هَلْ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا؟ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ: إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَطَعَ، حَتَّى لَوْ ضَحِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَوَقُّفَ فِي انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَلْ تَنْقَطِعُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عِنْدَهُمَا فِي عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا، إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ تَعُدْ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَبُطْلَانُهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِإِعَادَةٍ، وَلَمْ تُوجَدْ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِّعَتَا لِجُبْرَانِ النُّقْصَانِ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ إنْ حَصَلَتَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مَا يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هَذَا السَّلَامِ، فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً، فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلَّلًا فِي الشَّرْعِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَتَحْلِيلُهَا، التَّسْلِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ فِي التَّحْرِيمَةِ لِيَلْتَحِقَ الْجَابِرُ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيُجْبَرُ النُّقْصَانُ، فَنَفَيْنَا التَّحْرِيمَةَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ فَيَعْمَلُ السَّلَامُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَإِبْطَالُ التَّحْرِيمَةِ عَمَلَهُ. وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: إذَا قَهْقَهَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقَهْقَهَةِ: أَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَا تُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، كَمَا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ. وَالثَّانِيَةُ إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى السُّجُودِ - فَاقْتِدَاؤُهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنْ عَادَ إلَى السُّجُودِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَقَالَ بِشْرٌ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أَوْ لَمْ يُعِدْ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السَّلَامَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ جَزْمًا. وَالثَّالِثَةُ: الْمُسَافِرُ إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ - لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ - رَجُلٌ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، إلَّا عِنْدَ بِشْرٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ
فصل بيان من يجب عليه سجود السهو ومن لا يجب عليه سجود السهو
الْحَالَةِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيُؤَخِّرُ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ سِيَّمَا إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ، أَوْ سَاهٍ عَنْهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَوْ لَا يَسْجُدَ حَتَّى لَا يَسْقُطَ عَنْهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ السَّلَامِ إلَّا إذَا فَعَلَ فِعْلًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّهُ وَهُوَ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةَ فَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَكَذَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ احْمَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ سَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جَبْرٌ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ، وَقَدْ وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا يُقْضَى النَّاقِصَ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَسُجُودُ السَّهْوِ، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْمُنْفَرِدِ مَقْصُودًا لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُمَا وَهُوَ السَّهْوُ، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِمَامِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ مِمَّنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، فَكَانَ سَهْوُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السُّجُودِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ لِتَعَذُّرِ السُّجُودِ عَلَيْهِ، فَسَقَطَ السُّجُودُ عَنْهُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ وَهُوَ الْمُدْرِكُ لِأَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا فَاتَهُ بَعْضُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ بِسَبَبِ النَّوْمِ أَوْ الْحَدَثِ السَّابِقِ، بِأَنْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ انْتَبَهَ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَوْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ فَرَغَ عَنْهَا - فَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَسَهَا فِيهِ - لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَجَبَ عَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ؟ . وَأَمَّا الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ ثُمَّ قَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَسَهَا هَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: إنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ كَاللَّاحِقِ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُؤَدِّيهِ بِتِلْكَ التَّحْرِيمَةِ كَاللَّاحِقِ، وَلِهَذَا لَا يَقْرَأُ كَاللَّاحِقِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِإِمَامِهِ إلَّا بِقَدْرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِذَا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَارَ مُنْفَرِدًا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يَقْرَأُ فِيمَا يُتِمُّ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَقَدْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا فَكَانَتْ قِرَاءَةً لَهُ، وَسَهْوُ الْإِمَامِ يُوجِبُ السُّجُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعْ إمَامَكَ عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدْتَهُ» وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ ثَبَتَ بِوُجُودِ السَّبَبِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ سَهْوُ الْإِمَامِ سَبَبًا لِوُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُقْتَدِي، وَلِهَذَا لَوْ سَقَطَ عَنْ الْإِمَامِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يَسْقُطُ عَنْ الْمُقْتَدِي، وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ إذَا سَهَا فِي حَالِ نَوْمِ اللَّاحِقِ، أَوْ ذَهَابِهِ إلَى الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَهُ، وَلَكِنْ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إذَا انْتَبَهَ فِي حَالِ اشْتِغَالِ الْإِمَامِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، أَوْ جَاءَ إلَيْهِ مِنْ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَلْ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَوْ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ حَيْثُ تَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالْإِتْمَامِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ اللَّاحِقَ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا اقْتَدَى بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا فَصَّلَ الْإِمَامُ، وَأَنَّهُ اقْتَدَى بِهِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَيُتَابِعُهُ فِي جَمِيعِهَا عَلَى نَحْوِ مَا يُؤَدِّي الْإِمَامُ، وَالْإِمَامُ أَدَّى الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَكَذَا هُوَ، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُتَابَعَتَهُ بِقَدْرِ مَا هُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا الْقَدْرَ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ ثُمَّ يَنْفَرِدُ، وَكَذَا الْمُقِيمُ الْمُقْتَدِي بِالْمُسَافِرِ. وَلَوْ سَجَدَ اللَّاحِقُ مَعَ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ تَابَعَهُ فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ أَوَانِهِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِمَامِ سَهْوٌ - حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابَعَ الْإِمَامَ وَمَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ، ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ لَيْسَ لِزِيَادَةِ السَّجْدَتَيْنِ بَلْ لِلِاقْتِدَاءِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ مُقْتَدٍ فِي جَمِيعِ مَا يُؤَدِّي، فَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ
لِسَهْوِ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَانَ سَهْوُهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ قَبْلَهُ بِأَنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ وَقَدْ سَهَا الْإِمَامُ فِيهَا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ فِي السَّلَامِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمُتَابَعَةُ فِي السَّهْوِ. (وَلَنَا) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤَدَّى فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً، وَإِذَا بَقِيَتْ الصَّلَاةُ بَقِيَتْ التَّبَعِيَّةُ فَيُتَابِعُهُ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ، وَالتَّلْبِيَةِ حَتَّى لَا يُلَبِّيَ الْمَسْبُوقُ، وَلَا يُكَبِّرَ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالتَّلْبِيَةَ لَا يُؤَدَّيَانِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ. وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ لَا يَصِحُّ؟ بِخِلَافِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَإِنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ، وَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. (فَإِنْ) قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْهُو فِيمَا يَقْضِي فَيَلْزَمُهُ السُّجُودُ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَابَعَهُ فِي السُّجُودِ يَقَعُ سُجُودُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ - (فَالْجَوَابُ) أَنَّ التَّكْرَارَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهُمَا صَلَاتَانِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ، وَنَظِيرُهُ الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ فَسَهَا الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ الْمُقِيمُ فِي السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَدِي رُبَّمَا يَسْهُو فِي إتْمَامِ صَلَاتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّهْوِ يَسْجُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُنْفَرِدًا فِي ذَلِكَ كَانَا صَلَاتَيْنِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً كَذَا هَهُنَا، ثُمَّ الْمَسْبُوقُ إنَّمَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي السَّهْوِ دُونَ السَّلَامِ، بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُسَلِّمَ فَيَسْجُدَ فَيُتَابِعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا فِي سَلَامِهِ. وَإِنْ سَلَّمَ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي بَاطِلٌ، فَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ لِلسَّهْوِ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ وَيُتَابِعُهُ فِي التَّشَهُّدِ، وَلَا يُسَلِّمُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّلَامَ لِلْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ فَإِذَا سَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الصَّلَاةِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِ سَلَامِهِ؟ يَنْظُرُ إنْ سَلَّمَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَوْ سَلَّمَا مَعًا لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُقْتَدِي، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي مُتَعَطِّلٌ، وَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُنْفَرِدِ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَتَابَعَهُ فِيهِمَا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِتْمَامِ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبُوقِينَ، إذْ لَمْ يُدْرِكُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ لِإِدْرَاكِهِمْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَلَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي السَّهْوِ - سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يُقْضَى، وَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي فَصَارَ كَمَنْ لَزِمَتْهُ السَّجْدَةُ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا وَدَخَلَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، لَا يَسْجُدُ فِي الثَّانِيَةِ بَلْ يَسْقُطُ كَذَا هَذَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ التَّحْرِيمَةَ مُتَّحِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْنِي مَا يُقْضَى عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، فَجَعَلَ الْكُلَّ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ صَلَاةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَمَكَّنَ فِيهَا النُّقْصَانُ بِسَهْوِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُجْبَرْ ذَلِكَ بِالسَّجْدَتَيْنِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ فِي الْأَفْعَالِ، أَمَّا هُوَ مُقْتَدٍ فِي التَّحْرِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ غَيْرِهِ؟ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمَةِ. وَلَوْ سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِ الْإِمَامِ كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِسَهْوِهِ وَلِمَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَوْ سَجَدَ لِسَهْوِ الْإِمَامِ ثُمَّ سَهَا فِيمَا يَقْضِي فَعَلَيْهِ السَّهْوُ لِمَا مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ إذًا سَهْوَانِ فِي صَلَاتَيْنِ حُكْمًا، فَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا. وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ لِلسَّهْوِ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ السُّجُودِ، أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ، أَوْ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ السُّجُودِ أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسُجُودُ السَّهْوِ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ السَّجْدَةِ الْأُولَى إذَا أَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّهْوُ. وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِي تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَحِينَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ مَا يَرْتَفِعُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَدْ أَتَى بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَانْجَبَرَ النَّقْصُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ شَيْئًا، ثُمَّ لَمْ يُتَابِعْ إمَامَهُ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ حَيْثُ يَسْجُدُ السَّجْدَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ
هُنَاكَ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَتَحْرِيمَتُهُ نَاقِصَةٌ نُقْصَانًا لَا يَنْجَبِرُ إلَّا بِسَجْدَتَيْنِ، وَبَقِيَ النُّقْصَانُ لِانْعِدَامِ الْجَابِرِ فَيَأْتِي بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ السَّهْوُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ السُّجُودِ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِسَبَبِ سَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِي تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَحِينَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ النَّقْصُ انْجَبَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ، وَلَا يُعْقَلُ وُجُودُ الْجَابِرِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَهَذَا لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا تَوَضَّأَ وَسَجَدَ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ وَلَا يَمْنَعُ بِنَاءَ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَلَى الْبَعْضِ؛ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بِنَاءَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، فَيُقَدِّمَ الْخَلِيفَةَ لِيَسْجُدَ كَمَا لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ أَوْ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْمَسْبُوقَ وَلَا لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، بَلْ يُقَدِّمُ رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُسَلِّمُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَهُ أَوْ تَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَأْتِي بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ السُّجُودِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَيَتَأَخَّرُ وَيُقِيمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ. وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَيَسْجُدُ هُوَ مَعَهُمْ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ خَلِيفَتِهِ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ الْمَسْبُوقُ مُدْرِكًا، وَكَانَ الْكُلُّ مَسْبُوقِينَ، قَامُوا وَقَضَوْا مَا سُبِقُوا بِهِ فُرَادَى؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ، ثُمَّ إذَا فَرَغُوا لَا يَسْجُدُونَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْجُدُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ. وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ فَسَجَدَهُمَا - يَعُودُ إلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَقْتَدِي وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا قَرَأَ وَرَكَعَ. (وَالْجُمْلَةُ) فِي الْمَسْبُوقِ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا قَامَ إلَيْهِ وَقَضَاهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ كَانَ مَا قَامَ إلَيْهِ وَقَضَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَمْ يَنْفَرِدْ الْمَسْبُوقُ بِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَتَهُ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ فَبَقِيَ مُقْتَدِيًا، وَقِرَاءَةُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ لَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةً مِنْ صَلَاتِهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ قِيَامِهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَوُجِدَ بَعْدَ مَا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ قَدْرَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ - جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْفَرَدَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِانْقِضَاءِ أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فِي أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَوْ وُجِدَ الْقِيَامُ دُونَ الْقِرَاءَةِ - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِانْعِدَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فِي أَوَانِهِ. وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ، ثُمَّ رَكَعَ وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ - جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَفَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ وُجِدَ الْقِيَامُ وَإِنْ قَلَّ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَوُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ - فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ أَنْجَزَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قِيَامٌ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَامُ بَعْدَ تَشَهُّدِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا إذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ فَقَضَاهُ - أَجْزَأَهُ وَهُوَ مُسِيءٌ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ قِيَامَهُ حَصَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ انْتِظَارَ سَلَامِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ قِيَامِهِ لِلْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ الْقِيَامَ عَنْ السَّلَامِ. وَلَوْ قَامَ بَعْدَمَا سَلَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَخَرَّ لَهُمَا فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رُفِضَ ذَلِكَ وَيَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَيْسَ بِفِعْلٍ كَامِلٍ، وَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلرَّفْضِ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ قَبْلَ التَّمَامِ مَنْعًا لَهُ عَنْ الثُّبُوتِ حَقِيقَةً، فَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ، فَيَعُودُ وَيُتَابِعُ إمَامَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ، وَبَطَلَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَمَضَى عَلَى قَضَائِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ عَوْدَ
الْإِمَامِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، وَالْبَاقِي عَلَى الْإِمَامِ سُجُودُ السَّهْوِ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْمُتَابَعَةُ فِي الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ، فَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى لَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؟ فَكَذَا الْمَسْبُوقُ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَضَائِهِ اسْتِحْسَانًا. وَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قَدْ تَمَّ وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ رُكْنٌ وَلَوْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِغَيْرِهِ بَعْدَ وُجُودِ الِانْفِرَادِ وَوُجُوبِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فَسَجَدَهَا فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ - لِمَا مَرَّ - فَيَسْجُدَ مَعَهُ لِلتِّلَاوَةِ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَيَقُومَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبْلُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِرْ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ دُونَ فِعْلِ صَلَاةٍ فَتُرْتَفَضُ الْقَعْدَةُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، فَإِذَا ارْتَفَضَتْ فِي حَقِّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْفِرَادُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَانُ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، وَالِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَمَضَى عَلَيْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ انْفَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ، وَالِانْفِرَادُ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ. (وَجْهُ) نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ ارْتِفَاضَ الْقَعْدَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْعَوْدِ إلَى التِّلَاوَةِ، وَالْعَوْدُ حَصَلَ بَعْدَمَا تَمَّ انْفِرَادُهُ عَنْ الْإِمَامِ، وَخَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّلَاةِ لَوْ ارْتَفَضَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُؤْتَمِّ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، فَفِي حَقِّ الْقَعْدَةِ أَوْلَى، وَلِذَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِقَوْمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَهَا - ارْتَفَضَ ظُهْرُهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ الرَّفْضُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْفِرَادُ لَمْ يَتِمَّ عَلَى مَا قَرَرْنَا (وَنَظِيرُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ وَقَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ بَعْدَمَا تَشَهَّدَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ حَتَّى تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا - فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَمَضَى عَلَيْهَا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ. وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ وَلَوْ لَمْ يُعِدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عَادَ إلَى الْمُتَابَعَةِ أَوْ لَمْ يَعُدْ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَعَلَى الْإِمَامِ رُكْنَانِ: السَّجْدَةُ، وَالْقَعْدَةُ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ إكْمَالِ الرَّكْعَةِ، وَلَوْ انْتَقَلَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَعَجَزَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى. (رَجُلٌ) صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ لَمْ يَقْعُدْ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْ فَإِنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَتَّى تَذَكَّرَ - يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيُتِمَّهَا وَيُسَلِّمْ لِمَا مَرَّ. وَإِنْ قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ثُمَّ عِنْدَنَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ أَوْ فِي الْعِشَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَا لَهُ نَفْلًا، إذْ التَّنَفُّلُ بَعْدَهُمَا جَائِزٌ، وَمَا دُونَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ صَلَاةً تَامَّةً، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللَّهِ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ. وَإِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ لَا يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى بَلْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا شَرَعَ فِيهِ قَصْدًا، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِيهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ فَلَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فِي الظُّهْرِ بَلْ قَطَعَهَا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ وَالصَّوْمِ الْمَظْنُونِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ هَهُنَا فِي الْخَامِسَةِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى فِي الظُّهْرِ هَلْ تُجْزِئُ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عَنْ السُّنَّةِ الَّتِي بَعْدَ الظُّهْرِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْزِيَانِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَيْسَتْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ يُؤَدَّيَانِ نَفْلًا وَقَدْ وُجِدَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَا يُجْزِيَانِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بِنَاءً عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ هَيْئَةُ السُّنَّةِ فَلَا تَنُوبُ عَنْهَا، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَرَاجِرِيِّ ثُمَّ إذَا أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً
فصل سجدة التلاوة
أُخْرَى فَعَلَيْهِ السَّهْوُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ تَمَكَّنَ فِي الْفَرْضِ وَقَدْ أَدَّى بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا بَنَى النَّفَلَ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَقَدْ تَمَكَّنَ فِيهَا النَّقْصُ بِالسَّهْوِ فَيُجْبَرُ بِالسَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْبُوقِ. (ثُمَّ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي الْفَرْضِ أَوْ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ فِي النَّفْلِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي النَّفْلِ لِدُخُولِهِ فِيهِ لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلنَّقْصِ الَّذِي تَمَكَّنَ فِي الْفَرْضِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ انْقَطَعَتْ تَحْرِيمَةُ الْفَرْضِ بِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ، فَلَا وَجْهَ إلَى جَبْرِ نُقْصَانِ الْفَرْضِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَانْقِطَاعِ تَحْرِيمَتِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ وَوَصْفِهَا، وَبِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ انْقَطَعَ الْوَصْفُ لَا غَيْرُ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِنَاءَ النَّفْلِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الِاقْتِدَاءِ حَتَّى جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ؟ فَكَذَا بِنَاءُ فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ فَرْضِهِ يَكُونُ جَائِزًا، وَالْأَصْلُ فِي الْبِنَاءِ هُوَ الْبِنَاءُ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ إنْسَانٌ وَاقْتَدَى بِهِ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَوْ أَفْسَدَهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَمِنْ هَذَا صَحَّحَ مَشَايِخُ بَلْخٍ اقْتِدَاءَ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ فِي التَّطَوُّعَاتِ فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ، اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي سِتًّا وَلَوْ أَفْسَدَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ تُجْعَلَ السَّجْدَتَانِ جَبْرًا لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ إحْرَامٌ وَاحِدٌ، فَيَنْجَبِرُ بِهِمَا النَّقْصُ الْمُتَمَكَّنُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ قَيَّدَ فَسَدَ فَرْضُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ، وَيَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْفَرْضِ بِلَفْظِ السَّلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْكَامِلَةَ فِي احْتِمَالِ النَّقْصِ وَمَا دُونِهَا سَوَاءٌ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْخَامِسَةَ بِسَجْدَةٍ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَا أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةَ حُصُولِهِ فِي النَّفْلِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِيهِمَا، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ بَقَاءِ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: صَلَّى الظُّهْرَ وَالظُّهْرُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا، وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْقَعْدَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ الْفَسَادُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِوَضْعِ رَأْسِهِ بِالسَّجْدَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِرَفْعِ رَأْسِهِ عَنْهَا، حَتَّى لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَيَتَوَضَّأَ، وَيَعُودَ، وَيَتَشَهَّدَ، وَيُسَلِّمَ، وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ الْحَدَثِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِنَفْسِ الْوَضْعِ فَلَا يَعُودُ، ثُمَّ الَّذِي يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْفَرْضِيَّةُ لَا أَصْلُ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فَتَصِيرَ السِّتُّ لَهُ نَفْلًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِيَّةِ مَتَى بَطَلَتْ بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَبْطُلُ، وَهَذَا الْخِلَافُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَ مِنْ مَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْأَصْلِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ قَبْلَ إتْمَامِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَهْقَهَ - تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا تُنْتَقَضُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ نَفْلًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، وَكَذَا تَرْكُ الْقَعْدَةِ فِي كُلِّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ عِنْدَهُ مُفْسِدٌ، وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا شُعَبٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِ تَفَاصِيلِهَا وَجُمَلِهَا وَمَعَانِي الْفُصُولِ وَعِلَلِهَا حَالَّةً إلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ فُرُوعِهَا دَخَلَ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ، لِمَا أَنَّ لَهَا فُرُوعًا أُخَرَ لَا تُنَاسِبُ مَسَائِلَ الْفَصْلِ، وَكَرِهْنَا قَطْعَ الْفَرْعِ عَنْ الْأَصْلِ، فَرَأَيْنَا الصَّوَابَ فِي إيرَادِهَا بِفُرُوعِهَا فِي آخِرِ الْفَصْلِ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ
فصل بيان كيفية وجوب سجدة التلاوة
الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّرَائِعَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ فَلَوْ كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةً لَمَا اُحْتُمِلَ تَرْكُ الْبَيَانِ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَشَوَّفَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَلَا ابْنُ آدَمَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَلَمْ أَسْجُدْ فَلِيَ النَّارُ» ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَكِيمَ مَتَى حَكَى عَنْ غَيْرِ الْحَكِيمِ أَمْرًا وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالنَّكِيرِ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَوَابٌ فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ ابْنِ آدَمَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا بِتَرْكِ السُّجُودِ فَقَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَإِلْزَامٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْقَلَمِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اسْتِكْبَارِ الْكَفَرَةِ عَنْ السُّجُودِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ بِتَحْصِيلِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ تَلَاهَا، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهَا، وَعَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ وَعَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَفِيهِ بَيَانُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً لَا مَا يَجِبُ بِسَبَبٍ يُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَنْذُورَ وَهُوَ وَاجِبٌ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا بَلْ أُوجِبَتْ، وَفَرْقٌ بَيْن الْفَرْضِ وَالْوَاجِب عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ مُطْلَقَةٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَتَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ. (وَأَمَّا) فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّضْيِيقِ وَهُوَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانًا فِيهَا، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبُ نُقْصَانًا، وَإِذَا الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَدَاؤُهَا مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّضْيِيقِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى السُّجُودَ لَمْ يُجْزِهِ. وَكَذَا إذَا نَوَاهَا فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يَتَحَقَّقُ عَادَةً وَالْجَوَازُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَنْ يَكُونَ إلَّا لِخَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدِ وَلَا خَوْفَ هَهُنَا لِانْعِدَامِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا بِالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ فِي سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ مُوجِبٌ فَيَجِبُ عَلَى التَّالِي الْأَصَمِّ وَالسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يَتْلُ. أَمَّا التِّلَاوَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا السَّمَاعُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْحَقَ اللَّائِمَةَ بِالْكُفَّارِ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] الْآيَةَ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ التَّالِي وَالسَّامِعِ، وَرَوَيْنَا عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ بِالسَّمَاعِ كَمَا تَلْزَمُهُ بِالتِّلَاوَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ لِحُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَخْضَعُ بِالْقِرَاءَةِ. وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي حَقِّ التَّالِي
بَيْنَ مَا إذَا تَلَا السَّجْدَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ السُّجُودُ فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ السَّامِعِ فَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا: يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِمَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزَةٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي: إنْ كَانَ السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْفَارِسِيَّةَ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ سَوَاءٌ فُهِمَ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ وَإِنْ فُهِمَ. اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ وَهُمَا: التِّلَاوَةُ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ تَلَا السَّجْدَةَ ثُمَّ سَمِعَهَا، أَوْ سَمِعَهَا ثُمَّ تَلَاهَا أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ، أَوْ التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ حَتَّى أَنَّ مَنْ تَلَا آيَةً وَاحِدَةً مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مُعَلِّمِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ الْآيَةَ مِرَارًا وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ آيَةَ السَّجْدَةِ حِينَ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةَ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ جَامِعٌ لِلْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ السَّجْدَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إيقَاعٌ فِي الْحَرَجِ لِكَوْنِ الْمُعَلِّمِينَ مُبْتَلِينَ بِتَكْرَارِ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ لِلتِّلَاوَةِ فَأَمَّا التَّكْرَارُ فَلَمْ يَكُنْ لِحَقِّ التِّلَاوَةِ بَلْ لِلتَّحَفُّظِ أَوْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهِ فَجُعِلَ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ، كَذَا عَلَّلَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ. (وَأَمَّا) الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكُتُبِ وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا عَلَى السَّجْدَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْفُونِي بَعْدَ مَوْتِي فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ نَجْفُوَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْ أُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَتَدَاخَلُ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إنَّ مَنْ عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يُشَمِّتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْعَاطِسِ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ: قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّكَ مَزْكُومٌ. (ثُمَّ) لَا فَرْقَ هَهُنَا بَيْنَ مَا إذَا تَلَا مِرَارًا ثُمَّ سَجَدَ وَبَيْنَ مَا إذَا تَلَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا بَعْدَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى مِرَارًا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ حُدَّ ثُمَّ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ تَكَرَّرَ السَّبَبُ لِمُسَاوَاةِ كُلِّ فِعْلٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَأْثَمِ، وَالْقُبْحِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ، وَكُلِّ مَعْنًى صَارَ بِهِ الْأَوَّلُ سَبَبًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ جُعِلَ ذَلِكَ حُكْمًا لِكُلِّ سَبَبٍ فَجُعِلَ بِكَمَالِهِ حُكْمًا لِهَذَا وَحُكْمًا لِذَاكَ وَجُعِلَ كَأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ انْعَقَدَ سَبَبًا كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا السَّبَبُ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ السَّبَبُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَبَدَّلُ بِتَخَلُّلِ السَّجْدَةِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ التَّخَلُّلِ لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِحَقِّ التَّأَمُّلِ وَالتَّحَفُّظِ فِي الْحَالَيْنِ. وَكَذَا السَّامِعُ لَتِلْكَ التِّلَاوَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهَا فِي حَقِّهِ جُعِلَ غَيْرَ سَبَبٍ بَلْ تَبَعًا لِلتَّأَمُّلِ وَالْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْإِعَانَةَ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّدَبُّرِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ إنْسَانٌ آخَرُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ أَوْ الرَّابِعَةَ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَوَّلَ مَا سَمِعَ حَيْثُ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ تِلَاوَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ جُعِلَتْ سَاقِطَةً
فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ فِي حَقِّهِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ بَقِيَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ النُّصُوصَ مُنْعَدِمَةً وَالْجَامِعُ وَهُوَ الْمَجْلِسُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَمَعْنَى التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ زَائِلٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَجْلِسِ الْآخَرِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ لِيَنَالَ ثَوَابَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْضًا. أَمَّا النُّصُوصُ فَلَا تُشْكِلُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَا يَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلِعَبْدِهِ بِالْعِتْقِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَجْعَلُ الْمَجْلِسُ الْكُلَّ إقْرَارًا وَاحِدًا، وَكَذَا الْحَرَجُ مُنْتَفٍ، وَكَذَا التِّلَاوَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ فِي الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَكَان وَذَهَبَ عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا فَعَلَيْهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فَتَجَدَّدَ السَّبَبُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ أُخْرَى وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَلَاهَا فِي مَكَانِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ يَزْحَفُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً أُخْرَى فَيُعَلِّمُهُمْ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَوْضِعٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَسْمَعُهَا ثُمَّ ذَهَبَ التَّالِي عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا وَالسَّامِعُ عَلَى مَكَانِهِ سَجَدَ التَّالِي لِكُلِّ مَرَّةٍ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا السَّامِعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ مَا حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فِي حَقِّهِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّالِي عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ وَالسَّامِعُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَسْمَعُ تِلْكَ الْآيَةِ سَجَدَ السَّامِعُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً وَلَيْسَ عَلَى التَّالِي إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ تَلَاهَا فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَفِي حَقِّ السَّجْدَةِ أَوْلَى، وَكَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالْمَحْمَلُ وَالسَّفِينَةُ فِي حُكْمِ التِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ السَّفِينَةُ وَاقِفَةً، أَوْ جَارِيَةً بِخِلَافِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ تَلَاهَا وَهُوَ يَمْشِي لَزِمَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ لِتَبَدُّلِ الْمَكَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ بَحْرٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ يَسْبَحُ فِي حَوْضٍ أَوْ غَدِيرٍ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ قِيلَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى غُصْنٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غُصْنٍ آخَرَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَكَذَا التِّلَاوَةُ عِنْدَ الْكِرْسِ، وَقَالُوا فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ إنَّهُ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ إنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَهَا فِي السَّفِينَةِ وَهِيَ تَجْرِي حَيْثُ تَكْفِيهِ وَاحِدَةٌ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ قَوَائِمَ الدَّابَّةِ جُعِلَتْ كَرِجْلَيْهِ حُكْمًا لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهَا فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ فَكَانَ تَبَدُّلُ مَكَانِهَا كَتَبَدُّلِ مَكَانِهِ فَحَصَلْت الْقِرَاءَةُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ بِخِلَافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ رِجْلَيْ الرَّاكِبِ لِخُرُوجِهَا عَنْ قَبُولِ تَصَرُّفِهِ فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ وَلِهَذَا أُضِيفَ سَيْرُهَا إلَيْهَا دُونَ رَاكِبِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] وَقَالَ {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] فَلَمْ يَجْعَلْ تَبَدُّلَ مَكَانِهَا تَبَدُّلَ مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ مَا اسْتَقَرَّ هُوَ فِيهِ مِنْ السَّفِينَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ وَذَلِكَ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَكَانَتْ التِّلَاوَةُ مُتَكَرِّرَةً فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَمْ يَجِبْ لَهَا إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الْبَيْتِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ بِأَنْ سَمِعَهَا مِنْ غَيْره مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِ السَّامِعِ، هَذَا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَيْثُ جَوَّزَ صَلَاتَهُ عَلَيْهَا مَعَ حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ اخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ أَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَهْرَ الدَّابَّةِ لَا مَا هُوَ مَكَانُ قَوَائِمِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَغْيِيرٍ لِلْحَقِيقَةِ أَوْ هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا لَهَا وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالظَّهْرُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَارَ رَاكِبُ الدَّابَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ أَمْكِنَةَ قَوَائِمِ الدَّابَّةِ لَصَارَ هُوَ مَاشِيًا بِمَشْيِهَا، وَالصَّلَاةُ مَاشِيًا لَا تَجُوزُ. (وَأَمَّا) إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْفِيَهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ
عَنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ إحْدَاهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ رَهْنًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ أَنْ يُخَيَّرَ الْمَوْلَى ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُخَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يُخَيَّرُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ وَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيمَا إذَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكَانَ هَهُنَا وَإِنْ اتَّحَدَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً مُسْتَحَقَّةً فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا لِلْأُولَى وَالْتَحَقَتْ الْقِرَاءَةُ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لَخَلَتْ الثَّانِيَةُ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَلَفَسَدَتْ وَحَيْثُ لَمْ تَفْسُدْ دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ مُكَرَّرَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ جَعْلُ التِّلَاوَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ مُتَّحِدَةً حُكْمًا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَكَانَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيُوجِبُ كَوْنَ الثَّانِيَةِ تَكْرَارًا لِلْأُولَى كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَهَا حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَحِقَةً بِالْأُولَى فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ فَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَسَجَدَ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا، أَوْ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا، أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَتَبَدَّلُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَجْلِسُونَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الدَّرْسِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ النِّكَاحِ، ثُمَّ بِالْبَيْعِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْأَكْلِ، ثُمَّ بِالْقِتَالِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْقِتَالِ فَصَارَ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كَتَبَدُّلِهِ بِالذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَسِيرًا ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا سَوَاءٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا طَالَ الْعَمَلُ اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ إذَا عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ يَدِهَا وَكَانَ قَطْعًا لِلْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَهَا أَوْ أَطَالَ الْجُلُوسَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَيْسَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَطُولِ الْجُلُوسِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّهْلِيلِ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَهَا وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَمْ يَتَبَدَّلْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ قِيَامٌ وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ كَأَكْلِ لُقْمَةٍ، أَوْ شُرْبِ شَرْبَةٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا حَيْثُ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا مُوجِبُ الِاعْتِرَاض عَنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ إذْ التَّخْيِيرُ تَمْلِيكٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّمْلِيكُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا أَمْرٌ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَنْظُرَ أَيَّ ذَلِكَ أَعْوَدَ لَهَا وَأَنْفَعَ، وَالْقُعُودُ أَجْمَعُ لِلذِّهْنِ وَأَشَدُّ إحْضَارًا لِلرَّأْيِ فَالْقِيَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ إلَى مَا يُوجِبُ تَفَرُّقَ الذِّهْنِ وَفَوَاتَ الرَّأْيِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ أَمَّا هَهُنَا فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَتَعَدُّدِهِ لَا بِالْإِعْرَاضِ وَعَدَمِهِ وَالْمَجْلِسُ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَلَمْ يَعْدُ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ فَقَعَدَ ثُمَّ أَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَرَأَهَا فِي مَكَان ثُمَّ قَامَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ عَلَى مَكَانِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَوْ سَارَتْ الدَّابَّةُ ثُمَّ تَلَا بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِهِ بِالنُّزُولِ أَوْ الرُّكُوبِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّزُولَ أَوْ الرُّكُوبَ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَلَا يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ سَارَ ثُمَّ نَزَلَ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِهِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا ثُمَّ قَامَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ وَرَكِبَ ثُمَّ نَزَلَ
قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَعَادَهَا وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ أَنَّ النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ لَيْسَا بِمَكَانَيْنِ وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَتَلَاهَا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ صَارَتْ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ تَابِعَةً لِلْأُخْرَى فَتَسْتَتْبِعُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَهَا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْمَأْثَمُ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَكِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَصْلِ وَنَوَادِرِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ وَلَنَا عَلَى رِوَايَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو سُلَيْمَانَ لَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ الْأُولَى وَبَقِيَتْ السَّجْدَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ. وَأَمَّا إذَا تَلَاهَا وَسَجَدَ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَأَعَادَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَسْجُدُ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَتَيْنِ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَلِعَدَمِ الِاسْتِتْبَاعِ وَثُبُوتِ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ فَلِكَوْنِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ تَابِعَةً لِلْمَوْجُودَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّابِعُ لَا يَسْتَتْبِعُ الْمَتْبُوعَ فَلَا تَصِيرُ السَّجْدَةُ لِتِلْكَ التِّلَاوَةِ مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ السَّجْدَةِ بِهَذِهِ التِّلَاوَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْأُولَى وُجِدَتْ فِي مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةَ فِي مَجْلِسِ الصَّلَاةِ وَالْمَجْلِسُ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْأَفْعَالِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَجْلِسَ عَقْدٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ مُذَاكَرَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ أَكْلٍ وَاعْتُبِرَ هَذَا التَّبَدُّلُ فِي حَقِّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْعُقُودِ وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْحُكْمِيَّ مُلْحَقٌ بِالتَّعَدُّدِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْمَوَاضِعِ أَجْمَعَ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ وَحُكْمٍ وَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَفُوتُ لِالْتِحَاقِهَا بِأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَا هُوَ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لِلْأُولَى فَالْأُولَى أَيْضًا تَفُوتُ بِالسَّبْقِ فَلَا تَصِيرُ تَابِعَةً لِمَا بَعْدَهَا إذْ الشَّيْءُ لَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مَا قَبْلَهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَجْلِسَ صَلَاةٍ وَلَكِنْ فِي الصَّلَاةِ تِلَاوَةٌ مَفْرُوضَةٌ فَكَانَ مَجْلِسُ الصَّلَاةِ مَجْلِسَ التِّلَاوَةِ ضَرُورَةً فَلَمْ يُوجَدْ التَّبَدُّلُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ صِفَةِ الِاتِّحَادِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِلتِّلَاوَتَيْنِ الْمُتَعَدِّدَتَيْنِ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِصِفَةِ الِاتِّحَادِ وَهُوَ الْمَجْلِسُ الْمُتَّحِدُ، وَكَذَا الْمُتَعَدِّدُ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا كَالسَّمَاعِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ سَبَبٌ، ثُمَّ مَنْ قَرَأَ وَسَمِعَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْتَحَقَ السَّبَبَانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتَعَدِّدَ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا فَصَارَ مُتَّحِدًا حُكْمًا وَزَمَانُ وُجُودِ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ التِّلَاوَتَيْنِ وُجِدَتَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ مُتَقَرِّرَةٌ فِي مَحِلِّهَا بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ دُونَ جَوَازِ الصَّلَاةِ لَبَقِيَ التَّعَدُّدُ مِنْ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ الِاتِّحَادِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمَوْجُودَةُ فِي الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ التَّفَكُّرِ لِتَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ دُونَ التَّفَكُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى كَأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تُلِيَتَا فِي الصَّلَاةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَلَا تِلْكَ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَذَا وَاَلَّذِي تَلَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مَكَانَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ. وَلَوْ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ سَلَّمَ فَأَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَهُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاةِ تَفُوتُ بِالسَّبْقِ، وَحُرْمَةِ الصَّلَاةِ جَمِيعًا فَيَسْتَتْبِعُ الْأَدْنَى دَرَجَةً الْمُتَأَخِّرَةُ وَقْتًا وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حُكْمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَتْلُوَّةَ فِي الصَّلَاةِ لَا وُجُودَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا الْحُكْمُ فَإِنَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ لَا بَقَاءَ لِمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ أَصْلًا وَالْمَوْجُودُ هُوَ الَّذِي يُسْتَتْبَعُ دُونَ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأُولَى مَتْلُوَّةً خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ
تِلْكَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التِّلَاوَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ وُجِدَتْ وَالْأُولَى مَوْجُودَةٌ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ الْأَوْهَى. وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَبِالسَّلَامِ لَمْ يَنْقَطِعْ فَوْرُ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا فِي الصَّلَاةِ وَوَضَعَهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ وَبِالْكَلَامِ يَنْقَطِعُ فَوْرُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ بَعْدَ السَّلَامِ يَأْتِي بِهَا وَبَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَأْتِي بِهَا؟ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَجَدَهَا الْآنَ قَالَ فِي الْأَصْلِ: أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَسَجَدَ، أَمَا لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْكَلَامِ. تَلَاهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ سَمِعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعِيَّةَ لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَاَلَّتِي أَدَّاهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تَنُوبُ عَمَّا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التِّلَاوَةَ الْأُولَى مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَالثَّانِيَةَ لَا فَحَصَلَتْ الثَّانِيَةُ تَكْرَارًا لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ فَجُعِلَ وَصْفُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ فَصَارَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَة، وَقَالُوا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَيْضًا: تَكُونُ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَتَلْتَحِقُ بِالْأُولَى بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُلْحَقَةً بِالْأُولَى. وَلَوْ سَمِعَهَا أَوَّلًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ تَلَاهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَانِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ تِلْكَ الْآيَةَ فَعَلَى هَذَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ عَنْ مَكَانِهِ فَسَمِعَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إذَا قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ وَقَرَأَ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَكَانُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَكَانُ قَدْ تَبَدَّلَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَسَمَاعُ السَّجْدَةِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَّحِدْ الْمَكَانُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ مَكَانًا وَاحِدًا حُكْمًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجُعِلَتْ الْأَمْكِنَةُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ الْجَوَازِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهَا مُتَّحِدًا، فَأَمَّا السَّمَاعُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَتَبْقَى الْأَمْكِنَةُ فِي حَقِّهِ مُتَفَرِّقَةً لِعَدَمِ ضَرُورَةٍ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ، وَالْحَقَائِقُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا حُكْمًا إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ إمَامٍ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْهَا سَجَدَهَا مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ سَجَدَهَا الْإِمَامُ سَقَطَتْ عَنْهُ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ صَارَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُ وَجُعِلَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَهَا ثَانِيًا فَصَارَتْ تِلْكَ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ ثَانِيًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاة فَكَذَا هَهُنَا وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ. وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِمَا سَمِعَ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ تَلَا مَا سَمِعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَسَجَدَ لَهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِتَكْرَارٍ لِلْأُولَى لِأَنَّ التَّكْرَارَ إعَادَةُ الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ وَهَهُنَا الْأُولَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةُ وَاجِبَةٌ وَهِيَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفَ الْوَصْفُ فَلَمْ تَكُنْ إعَادَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ كَانَتَا جَمِيعًا خَارِجَ الصَّلَاةِ حَيْثُ كَانَ تَكْرَارًا لِاتِّحَادِ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَا كَانَ تَكْرَارًا بَلْ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَلَوْ بَاعَ فِي الثَّانِيَةِ بِأَلْفٍ كَانَ تَكْرَارًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَرَأَ آيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَكَان أَوْ آيَةً فِي مَكَانَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ
فصل بيان من تجب عليه سجدة التلاوة
قَرَأَ الْأُولَى وَسَجَدَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَأَعَادَهَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فِي الرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِإِعَادَةٍ وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَمَا لَزِمَهُ أُخْرَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ إعَادَةٌ لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِإِعَادَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ؛ لِأَنَّ وَصْفَ كَوْنِهَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُولَى وَوُجِدَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ حُكْمًا لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً، وَالثَّانِيَةُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى فَجُعِلَتْ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ كَأَنَّهَا عَيْنُ الْأُولَى فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلتِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى لِصَيْرُورَةِ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْأَوْلَى فَتَصِيرُ صِفَتُهَا صِفَةَ تِلْكَ فَصَارَتْ هِيَ أَيْضًا مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَجَدَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ حُكْمًا بَلْ انْقَضَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ وَصْفُ الثَّانِيَةِ وَصْفًا لِلْأُولَى فَبَقِيَتْ الثَّانِيَةُ إعَادَةً مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ابْتِدَاءً مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَتَجِبُ سَجْدَةٌ أُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ وَلَا تَجِبُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ جَانِبُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَتْبُوعُ لِمَا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْوُجُوبِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوَصْفِ فَوَجَبَتْ سَجْدَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْوَصْفِ مُوجِبٌ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ فَلَمْ يَقَعْ التَّعَارُضُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَقَرَأَ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ قَبْلَ هَذَا وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوهَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إمَّا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ السَّجْدَةِ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَالْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَرَءُوا أَوْ سَمِعُوا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَتَجِبُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا تَجِبُ عَلَى السَّامِعِ بِتِلَاوَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمَجْنُونَ؛ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ مِنْهُمْ صَحِيحَةٌ كَتِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْبَالِغِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ وَالْمُتَطَهِّرُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّجْدَةِ بِقَلِيلِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ مَا دُونَ آيَةٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ النَّهْيُ فَيُنْظَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّالِي وَأَهْلِيَّتِهِ بِالتَّمْيِيزِ وَقَدْ وُجِدَ فَوُجِدَ سَمَاعُ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ فَتَجِبُ السَّجْدَةُ بِخِلَافِ السَّمَاعِ مِنْ الْبَبْغَاءِ وَالصَّدَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتِلَاوَةٍ وَكَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِانْعِدَامِ التَّمْيِيزِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ السَّجْدَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، وَطَهَارَةِ النَّجِسِ وَهِيَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَمَكَانِ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَهُوَ. شَرْطُ جَوَازِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ ثَمَّةَ مَاءً أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَيْرُورَةِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ خَشْيَةُ الْفَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى التَّرَاخِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ إذَا تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُجْزِيهِ الْإِيمَاءُ كَمَا فِي سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَسَجَدَ إلَى جِهَةٍ فَأَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّحَرِّي إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ جَائِزَةٌ فَالسَّجْدَةُ أَوْلَى. وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْإِيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالنَّذْرِ فَإِنَّ الرَّاكِبَ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ التِّلَاوَةَ أَمْرٌ دَائِمٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ فِي اشْتِرَاطِ النُّزُولِ حَرَجٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَالنَّذْرِ، وَمَا وَجَبَ مِنْ السَّجْدَةِ فِي الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى الدَّابَّةِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الدَّابَّةِ يَجُوزُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْأَرْضِ وَجَبَ تَامًّا فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِيمَاءِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ السُّجُودِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَى الدَّابَّةِ وَجَبَ بِالْإِيمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً وَهُوَ رَاكِب فَأَوْمَأَ بِهَا إيمَاءً. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَمِعَ سَجْدَةً وَهُوَ رَاكِبٌ قَالَ فَلْيُومِ
فصل في بيان محل أداء سجدة التلاوة
إيمَاءً، وَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَاءُ فَإِذَا نَزَلَ وَأَدَّاهَا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ أَدَّاهَا تَامَّةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى الدَّابَّةِ فَنَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَدَّاهَا بِالْإِيمَاءِ جَازَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ نُزُولِهِ بِالْإِيمَاءِ جَازَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا نَزَلَ وَرَكِبَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِالْإِيمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ وَجَبَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَمَا لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ قَضَاهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَتْ، كَذَا هَذَا وَكَذَا يُشْتَرَطُ لَهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِمَا قُلْنَا وَيُشْتَرَطُ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَا الْوَقْتُ حَتَّى لَوْ تَلَاهَا أَوْ سَمِعَهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَأَدَّاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ كَالصَّلَاةِ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَسَجَدَهَا فِيهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا نَاقِصَةً كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّحْرِيمَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَمْ تُوجَدْ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا مِنْ الْحَدَثِ وَالْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لَهَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَمَا لَوْ وُجِدَتْ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِتَمَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَقَدْ حَصَلَ الْوَضْعُ قَبْلَ هَذِهِ الْعَوَارِضِ وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُ لِلْوَضْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُفْسِدَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فِي الْقَهْقَهَةِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِيهَا لَا تُفْسِدُ عَلَيْهِ السَّجْدَةَ وَإِنْ نَوَى إمَامَتَهَا؛ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ لِهَذِهِ السَّجْدَةِ وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مُفْسِدَةً بِأَمْرِ الشَّرْعِ بِتَأْخِيرِهَا وَالْأَمْرُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَمْ تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَحَلِّ أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ أَدَائِهَا فَمَا تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا مَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ حُكْمًا لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِخُرُوجِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَدَّاهَا فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْخَلَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَفْسُدْ لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ تَنْتَقِصُ لِإِدْخَالِهِ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ الدَّاخِلَ فِيهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ نَظْمَهَا وَيَمْنَعَ وَصْلَ فِعْلٍ بِفِعْلٍ وَذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ فَصَارَ الْمُؤَدَّى مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَلَا يَسْقُطُ بِأَدَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَأَمَّا مَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ صَارَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ حُكْمًا لِمَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا وَأَدَاءُ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَنْ يُتَصَوَّرَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لِقِرَاءَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُ فَسَقَطَ إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: إذَا قَرَأَ الرَّجُلُ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى سَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ سَمِعَهَا فِي صَلَاتِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ سَجَدَهَا فِيهَا كَانَ مُسِيئًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ السَّجْدَةُ لَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ فَكَانَ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ رَفْضًا لَهَا. (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةً مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ دُونَ الرَّكْعَةِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً فِي الصَّلَاةِ تَطَوُّعًا. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مَا إذَا قَرَأَ الْمُقْتَدِي آيَةَ السَّجْدَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَمِعَهَا الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فَنَقُولُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ بِنَفْسِهِ إذَا خَافَتَ فَقَدْ انْفَرَدَ عَنْ إمَامِهِ فَصَارَ مُخْتَلِفًا عَلَيْهِ. وَلَوْ سَجَدُوا؛ لِسَمَاعِ تِلَاوَتِهِ إذَا جَهَرَ بِهِ لَانْقَلَبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا؛ لِأَنَّ التَّالِيَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لِلسَّامِعِينَ، وَفِي حَقِّ بَقِيَّةِ الْمُقْتَدِينَ تَصِيرُ صَلَاتُهُمْ بِإِمَامَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا مَقَامَ الْآخَرِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا يَسْجُدُونَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْجُدُونَ وَلَوْ سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَسْجُدُونَ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ
فصل في كيفية أداء سجدة التلاوة
بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ سَمِعَ مِنْ الْمُقْتَدِي مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِ يَسْجُدُ كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَقِيبَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ التِّلَاوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي حَقِّ الْمُؤْتَمِّ وَسَمَاعُهَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَهُوَ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ الْأَدَاءُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَمَا إذَا سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ وَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ أَدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ التِّلَاوَةِ. وَتِلَاوَةُ الْمُقْتَدِي مَحْسُوبَةٌ مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْقِرَاءَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، فَإِذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ مَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ غَيْرُهُ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ مَحْسُوبَةً مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَصَارَ مَا هُوَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا صَارَتْ فِي حَقِّ التَّالِي مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَارَتْ فِي حَقِّ الْكُلِّ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهَا جُعِلَتْ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفِينَ عِنْدَ اتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ كَالْمَوْجُودَةِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ لِحُصُولِ ثَمَرَاتِ الْقِرَاءَةِ بِالسَّمَاعِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْقِرَاءَةُ الْمَوْجُودَةُ مِنْ الْإِمَامِ كَالْقِرَاءَةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ الْكُلِّ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ وَقِيَاسُ هَذِهِ النُّكْتَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَقْرَأْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ قِرَاءَةً لِلْكُلِّ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعُ تَبَعًا فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ كَوْنِهَا مِنْ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ يَقُولُ تَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذِهِ التِّلَاوَةَ مِنْ الْمُقْتَدِي مِمَّنْ لَا يُشَارِكُهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَقِّهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ الْمُصَلِّي مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ يَسْجُدُ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ التِّلَاوَةِ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِعَدَمِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّالِي فِي الصَّلَاةِ، وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ وَالسَّمَاعُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيُؤَدَّى. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ يُؤْمَرُ بِهِ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ حَيْثُ يُوجِبُ السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ وَبِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُنْهِيَا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ دُونَ الْآيَةِ وَهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ عَنْ تِلَاوَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ، أَمَّا الْمُقْتَدِي فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ قِرَاءَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْ قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَجِبْ، أَوْ نَقُولُ إنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِدَلِيلِ نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ، وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَمَنْ سَلَكَ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ يَقُولُ: لَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى السَّامِعِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُمْ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا فَإِنْ كَانَ تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ يُؤَدِّيهَا عَلَى نَعْتِ سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ تَلَا فِي الصَّلَاةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّجَدَاتِ أَيْضًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، وَقَرَأَ، وَرَكَعَ حَصَلَتْ لَهُ قُرْبَتَانِ. وَلَوْ رَكَعَ تَحْصُلُ لَهُ قُرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَأَدَّى الْوَاجِبَ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَلَوْ رَكَعَ لَأَدَّاهُ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ ثُمَّ إذَا سَجَدَ وَقَامَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ كَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةُ السَّجْدَةِ فِي وَسَطِ الصُّورَةِ أَوْ عِنْدَ خَتْمِهَا أَوْ بَقِيَ بَعْدَهَا إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ، ثُمَّ يَرْكَعَ فَيَنْظُرَ إنْ كَانَتْ آيَةُ السَّجْدَةِ فِي وَسَطِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ السُّورَةَ ثُمَّ يَرْكَعَ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ خَتْمِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يَرْكَعَ وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْهَا إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ كَمَا فِي سُورَةِ " بَنِي إسْرَائِيلَ "، وَسُورَةِ " إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ بَقِيَّةَ السُّورَةِ، ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ كَيْ لَا يَكُونَ بَاقِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ رَكَعَ كَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ
أَجْزَأَهُ؛ لِحُصُولِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ السَّجْدَةِ. وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّجْدَةِ وَلَكِنَّهُ رَكَعَ بِهَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ قَالَ: وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، وَإِنَّمَا أَخَذَ أَصْحَابُنَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْمَعَانِي فَهُوَ قِيَاسٌ وَمَا خَفِيَ مِنْهَا فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَلَا يُرَجَّحُ الْخَفِيُّ لِخَفَائِهِ وَلَا الظَّاهِرُ لِظُهُورِهِ فَيُرْجَعُ فِي طَلَبِ الرُّجْحَانِ إلَى مَا اقْتَرَنَ بِهِمَا مِنْ الْمَعَانِي، فَمَتَى قَوِيَ الْخَفِيُّ أَخَذُوا بِهِ وَمَتَى قَوِيَ الظَّاهِرُ أَخَذُوا بِهِ، وَهَهُنَا قَوِيَ دَلِيلُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَأَخَذُوا بِهِ ثُمَّ إنَّ مَشَايِخَنَا اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الرُّكُوعَ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَمَحِلُّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ هَذَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَقُومَ الرُّكُوعُ مَقَامَهُمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَقُومُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ فِي الْقِيَاسِ يُجْزِئُهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِئُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ بَلْ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَمْ يُجْعَلْ قُرْبَةً فَلَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقُرْبَةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ وَقَالَ: رَأَيْتُ فِي فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لَا الرُّكُوعِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ تَقُومَ الصُّلْبِيَّةُ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقُومُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّحْقِيقَ لِكَوْنِ الْجَوَازِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَنْ يُتَصَوَّرَ إلَّا عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ السَّجْدَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَسُقُوطُ مَا وَجَبَ مِنْ السَّجْدَةِ بِالسَّجْدَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ قِيَاسًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ نَفْسِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا كَصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ أَظْهَرُ وَدَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ أَأَخْفَى؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي أَمْرٌ خَفِيٌّ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ وَالتَّفْرِقَةَ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي، وَالْعِلْمُ بِذَاتِ مَا يُعَايَنُ أَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِوَصْفِهِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ بِالْحِسِّ وَبِالْمَعْنَى بِالْعَقْلِ عَقِيبَ التَّأَمُّلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِكَوْنِ الْجَوَازِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ بِالِاسْتِحْسَانِ مُمْكِنٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى الْجَوَازَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مَعَ السُّجُودِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا فَلَوْ ثَبَتَ بَيْنَهُمَا مُسَاوَاةٌ لَثَبَتَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ إقَامَةِ أَحَدِهِمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ مِنْ تَوَابِعِ الذَّاتِ وَالْعِلْمُ بِهِ ظَاهِرٌ، وَجَوَازُ الْقِيَامِ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْنَى وَالْعِلْمُ بِهِ خَفِيٌّ فَإِذَا كَانَتْ قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقَضِيَّةُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَجُوزَ وَجَوَابُ الْكِتَابِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَذَا فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَا. وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ: لَا بَلْ الرُّكُوعُ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَالرَّكْعَةُ فِي ذَلِكَ وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَلَاةٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] وَتَفْسِيرُهَا خَرَّ سَاجِدًا، فَالرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ. وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَهَذَا كُلُّهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ خِلَافَ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي وَإِذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا يَعْنِي إنْ شَاءَ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا ذَكَرَ هَذَا التَّفْسِيرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ فَكَانَا فِي حَقِّ حُصُولِ التَّعْظِيمِ بِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا اقْتِدَاءً بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِمَّا مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْجَوَازُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ السُّجُودُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَعْ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ نَوَى بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقَعَ عَنْ السَّجْدَةِ لَا يَجُوزُ. وَكَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لَوْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ كَذَا هَهُنَا ثُمَّ أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا
كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عَنْ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ. وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَقَدْ وُجِدَ التَّعْظِيمُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُ بِالرُّكُوعِ لَيْسَا بِأَدْوَنَ مِنْ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى السُّجُودِ لِعَيْنِهِ بَلْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ تَعْظِيمِهِ أَوْ اقْتِدَاءً بِمَنْ خَضَعَ لَهُ وَأَذْعَنَ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَاعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالرُّكُوعِ حَسَبَ حُصُولِهَا بِالسُّجُودِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَكَانَ السُّجُودِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لَا لِمَكَانِ أَنَّ الرُّكُوعَ أَدْوَنُ مِنْ السُّجُودِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُجْعَلْ عِبَادَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ انْفَرَدَ عَنْ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالسُّجُودُ جُعِلَ عِبَادَةً بِدُونِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ الرُّكُوعُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ التَّعْظِيمُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ اللَّذَانِ وَجَبَا بِالتِّلَاوَةِ، بِخِلَافِ السَّجْدَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا رَكَعَ مَكَانَ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ عَيْنُ السَّجْدَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ مَقَامَهَا، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَلُّبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَفَاصِلِ السَّلِيمَةِ. وَبِالرُّكُوعِ لَا يَحْصُلُ شُكْرُ حَالَةِ السُّجُودِ فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِعَيْنِ السُّجُودِ لَا بِمَا يُوَازِيهِ فِي كَوْنِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْكَعْ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى الرُّكُوعَ عَنْ السَّجْدَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّهَا لِوُجُوبِهَا بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِيهَا نُقْصَانًا مَا فِيهَا، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبْ نَقْصًا، وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَوْ تَرَكَ أَدَاءَهَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا لَا بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَمَبْنَى أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤَدَّى كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَكَذَا هَذِهِ وَإِذَا لَمْ تُؤَدَّ فِي مَحَلِّهَا حَتَّى فَاتَ صَارَ دَيْنًا، وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ وَقَدْ وُجِدَ فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ كَدَاخِلِ الْمَسْجِدِ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ نَابَ ذَلِكَ مَنَابَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِحُصُولِ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ، وَالْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ إذَا صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَكَانَ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا عَنْ صَوْمٍ هُوَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَعْبَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ فَاعْتَكَفَ لَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا هُوَ لَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا بِمَا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى مَضَى يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ حَيْثُ يَجُوزُ، وَلَا يُقَالُ: أَنَّ الْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ بِالْفَوَاتِ عَنْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ أَوْ فَاتَتْهُ فَرِيضَةٌ عَنْ وَقْتِهَا فَأَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ جَازَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوُضُوءُ شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَصِرْ بِفَوَاتِهِ عَنْ مَحَلِّهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ عِبَادَةٍ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْأَهْلِيَّةِ لِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَقَدْ حَصَلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَأَمَّا السَّجْدَةُ وَالصَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا فَاتَا عَنْ الْمَحَلِّ وَوَجَبَا صَارَا حَقَّيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا بِمَا عَلَيْهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَتْ السَّجْدَةُ عَنْ مَحَلِّهَا فِي الصَّلَاةِ وَصَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ فَرَكَعَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ السَّجْدَةِ الْفَائِتَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ حَصَلَ الرُّكُوعُ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ فِيهَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّه تَعَالَى وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَمَا أَمْكَنَنَا جَعْلُهُ قُرْبَةً فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ التَّعْظِيمُ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ فَإِنَّهَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِهَا النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ السَّهْوِ وَلَا يَنْجَبِرُ
فصل في بيان وقت أداء سجدة التلاوة
بِالرُّكُوعِ ثُمَّ إذَا رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِقِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؟ فَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّكْتَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَحْصِيلِ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ وُجِدَا نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ كَالْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِصِيَامِهِ عَنْ الِاعْتِكَافِ وَاَلَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ غَيْرَ نَاوٍ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: يُحْتَاجُ هَهُنَا إلَى النِّيَّةِ، وَيَدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا أَشَارَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فِي الرُّكُوعِ يَخِرُّ سَاجِدًا فَيَسْجُدُ كَمَا تَذَكَّرَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَعُودُ إلَى الرُّكُوعِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرُّكُوعُ الَّذِي تَذَكَّرَ فِيهِ التِّلَاوَةَ كَانَ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ بِلَا فَصْلٍ أَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ وَلَوْ كَانَ الرُّكُوعُ مِمَّا يَنُوبُ عَنْ السَّجْدَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَكَانَ لَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ بَلْ قَامَ نَفْسُ الرُّكُوعِ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرُ إشَارَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ مَا يُوجِبُ صَيْرُورَةَ السَّجْدَةِ دَيْنًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: تَذَكَّرَ سَجْدَةً وَالتَّذَكُّرُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّسْيَانِ وَالنِّسْيَانُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ مُمْتَنِعٌ أَوْ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ ثُمَّ يَحْتَاجُ هَذَا الْقَائِلُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَ صَوْمِهِ شَرْطًا لِلِاعْتِكَافِ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَا الَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَدَّى الْفَرْضَ كَمَا دَخَلَ فَاشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ هَهُنَا هُوَ السُّجُودُ إلَّا أَنَّ الرُّكُوعَ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَبَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَرْقٌ فَلِمُوَافَقَةِ الْمَعْنَى تَتَأَدَّى السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ إذَا نَوَى وَلِمُخَالَفَةِ الصُّورَةِ لَا تَتَأَدَّى إذَا لَمْ يَنْوِ بِخِلَافِ صَوْمِ الشَّهْرِ، فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ مُوَافَقَةً مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَذَا فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ إنْ كَانَ لَهَا عِبْرَةٌ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ وَإِنْ نَوَى فَإِنَّ مَنْ نَوَى إقَامَةَ غَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مَقَامَ مَا وَجَبَ لَا يَقُومُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِبْرَةٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَعُذْرُ الصَّوْمِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ مُخَالَفَةً مِنْ حَيْثُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَقُمْ يَحْتَاجُ فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ إلَى أَنْ يَنْوِيَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةً لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْ وُجُوبِهِمَا فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الرُّكُوعِ لَا يُجْزِئُهُ. وَلَوْ نَوَى فِي الرُّكُوعِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَلَوْ نَوَى بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ فِيمَا إذَا لَمْ تَطُلْ الْقِرَاءَةُ بَيْنَ آيَةِ السَّجْدَةِ وَبَيْنَ الرُّكُوعِ فَأَمَّا إذَا طَالَ فَقَدْ فَاتَتْ السَّجْدَةُ وَصَارَتْ دَيْنًا فَلَا يَقُومُ الرُّكُوعُ مَقَامَهَا، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا لَمْ يُقَدِّرُوا فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فَوَّضُوا ذَلِكَ إلَى رَأْي الْمُجْتَهِدِ كَمَا فَعَلُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنْ قَرَأَ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ لَمْ تَطُلْ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ طَالَتْ وَصَارَتْ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ ثُمَّ إنَّهُ نَاقَضَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَنَوَى بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ قَامَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مُدَّةَ أَدَاءِ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالِانْحِطَاطِ إلَى السُّجُودِ يَكُونُ مِثْلَ مُدَّةِ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ تِلْكَ قِرَاءَةً مُعْتَبَرَةً فَالرُّكُوعُ رُكْنٌ مُعْتَبَرٌ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِد، أَوْ يَعْتَبِرَ مَا يُعَدُّ طَوِيلًا عَلَى أَنْ جَعَلَ ثَلَاثَ آيَاتٍ قَاطِعَةً لِلْفَوْرِ، وَإِدْخَالُهَا فِي حَدِّ الطُّولِ خِلَافُ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّجْدَةُ فِي آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِيَتْ مِنْ السُّورَةِ بَعْدَ آيَةِ السَّجْدَةِ قَالَ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَكَعَ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بِهَا قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ بِهَا قَالَ: نَعَمْ قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ بِهَا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السَّجْدَةِ ثُمَّ يَقُومَ فَيَتْلُوَ مَا بَعْدَهَا مِنْ السُّورَةِ وَهُوَ آيَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ ثُمَّ يَرْكَعَ قَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى. وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَيْسَتْ بِقَاطِعَةٍ لِلْفَوْرِ وَلَا بِمُدْخِلَةٍ لِلسَّجْدَةِ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانَ وَقْتِ أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فَمَا وَجَبَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا جَمِيعُ الْعُمُرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى التَّرَاخِي عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا مَا وَجَبَ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا فَوْرُ الصَّلَاةِ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ وُجُوبَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ أَنْ
فصل في سنن السجود
لَا تَطُولَ الْمُدَّةُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَبَيْنَ السَّجْدَةِ، فَأَمَّا إذَا طَالَتْ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ وَصَارَ آثِمًا بِالتَّفْوِيتِ عَنْ الْوَقْتِ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي مِقْدَارِ الطُّولِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ. [فَصْلٌ فِي سُنَنِ السُّجُودِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُ السُّجُودِ فَمِنْهَا، أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ السُّجُودِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِلِانْتِقَالِ مِنْ الرُّكْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَوُجِدَ عِنْدَ الرَّفْعِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِلتَّالِي: إذَا قَرَأْت سَجْدَةً فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ وَإِذَا رَفَعْت رَأْسَك فَكَبِّرْ، وَلَوْ تَرَكَ التَّحْرِيمَةَ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ كَالْقِيَامِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ جَمِيعُ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ؟ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَحُرْمَةُ مَا وَرَاءَهَا مِنْ الْأَفْعَالِ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ السُّجُودِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا شَيْئًا آخَرَ لَزِدْنَا عَلَى النَّصِّ وَلِأَنَّ السُّجُودَ وَجَبَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعًا لَهُ، وَتَرْكُ التَّحْرِيمَةِ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، وَالتَّكَلُّمُ بِمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيُنَافِي التَّعْظِيمَ وَالْخُشُوعَ. وَحُرْمَةُ الْكَلَامِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ مَعَ الْكَلَامِ لِانْعِدَامِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ وَلِأَنَّ السُّجُودَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عِبَادَةً وَاحِدَةً وَهَهُنَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيمَةِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ مِنْ التَّسْبِيحِ مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقُولَ: فِيهَا سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} [الإسراء: 108] الْآيَةَ، وَاسْتَحَبُّوا أَيْضًا أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ؛ لِأَنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقُرْآنُ وَرَدَ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَسَمِعُوهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّ التَّالِيَ إمَامُ السَّامِعِينَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلتَّالِي: كُنْتَ إمَامَنَا لَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا مَعَكَ وَإِنْ فَعَلُوا أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَسَدَتْ سَجْدَتُهُ بِسَبَبٍ لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِمْ وَلَا تَشَهُّدَ فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ وَكَذَا لَا تَسْلِيمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمَةَ لَهَا عِنْدَنَا فَلَا يُعْقَلُ التَّحْلِيلُ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُسَلِّمُ لِلْخُرُوجِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ وَيُكْرَه لِلرَّجُلِ تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ مِنْ سُورَةٍ يَقْرَؤُهَا؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرٌ لِتَأْلِيفِهِ وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أَيْ تَأْلِيفَهُ فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا، وَلِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْفِرَارِ عَنْ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَكَذَا فِيهِ صُورَةُ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ مَهْجُورًا، وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِنْ بَيْنِ السُّورَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ طَاعَةٌ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِتَكُونَ أَدَلَّ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إيجَابِ السَّجْدَةِ إذْ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إلَى التِّلَاوَةِ لَا إلَى إلْزَامِ السُّجُودِ. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَعِنْدَهُ نَاسٌ فَإِنْ كَانُوا مُتَوَضِّئِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِلسَّجْدَةِ قَرَأَهَا فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُتَهَيِّئِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفِضَ قِرَاءَتَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَهَرَ بِهَا لَصَارَ مُوجِبًا عَلَيْهِمْ شَيْئًا بِمَا يَتَكَاسَلُونَ عَنْ أَدَائِهِ فَيَقَعُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْلُوَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةٍ يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «سَجَدَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ الم السَّجْدَةِ» وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَلَنَا) إنَّ هَذَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَلَا وَلَمْ يَسْجُدْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ سَجَدَ فَقَدْ لَبَّسَ عَلَى الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَهَا عَنْ الرُّكُوعِ وَاشْتَغَلَ بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَيُسَبِّحُونَ وَلَا يُتَابِعُونَهُ وَذَا مَكْرُوهٌ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَكْرُوهٍ كَانَ مَكْرُوهًا. وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ فَلَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا وَإِنْ تَلَاهَا مَعَ ذَلِكَ سَجَدَ بِهَا لِتُقَرَّ وَالسَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ؟
فصل بيان مواضع السجدة في القرآن
وَلَوْ تَلَاهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ مَعَهُ مَنْ سَمِعَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّامِعَ يَتْبَعُ التَّالِيَ فِي السَّجْدَةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ فِي الْقُرْآنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ فِي الْقُرْآنِ فَنَقُولُ: إنَّهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ، أَرْبَعٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الرَّعْدِ، وَفِي النَّحْلِ، وَفِي بَنِي إسْرَائِيلَ، وَعَشْرٌ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فِي مَرْيَمَ، وَفِي الْحَجِّ فِي الْأُولَى، وَفِي الْفُرْقَانِ، وَفِي النَّمْلِ، وَفِي الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَفِي (ص) وَفِي حم السَّجْدَةِ، وَفِي النَّجْمِ، وَفِي إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَفِي اقْرَأْ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا: أَحَدُهَا، أَنَّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عِنْدَنَا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَتَانِ إحْدَاهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوْ قَالَ: فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَقْرَأْهَا» . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «عَدَّ السَّجَدَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً» ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي الْحَجِّ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاة، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ مَتَى قُرِنَتْ بِالرُّكُوعِ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] ، وَالثَّانِي أَنَّ فِي سُورَةِ (ص) عِنْدَنَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ الشُّكْرِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ سَجَدَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَسْجُدُهَا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي ص وَسَجَدَهَا ثُمَّ قَالَ: سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ ص فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ قَرَأَهَا فَتَشَوَّفَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ وَقَالَ: لَمْ أُرِدْ أَنْ أَسْجُدَهَا فَإِنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا سَجَدْتُ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَوَّفْتُمْ لِلسُّجُودِ» . (وَلَنَا) حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ (ص) وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ كَمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَتْ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ فَأَمَرَ حَتَّى تُلِيَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مَعَ أَصْحَابِهِ» . وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ دَلِيلُنَا فَإِنَّا نَقُولُ نَحْنُ نَسْجُدُ ذَلِكَ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى دَاوُد بِالْغُفْرَانِ وَالْوَعْدِ بِالزُّلْفَى وَحُسْنِ الْمَآبِ، وَلِهَذَا لَا يُسْجَدُ عِنْدَنَا عَقِيبَ قَوْلِهِ " وَأَنَابَ " بَلْ عَقِيبَ قَوْلِهِ " مَآبٍ "، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّنَا فَإِنَّهُ يُطْمِعُنَا فِي إقَالَةِ عَثَرَاتِنَا وَغُفْرَانِ خَطَايَانَا وَزَلَّاتِنَا فَكَانَتْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ؛ لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ مَا كَانَ سَبَبُهَا التِّلَاوَةَ، وَسَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ السَّجْدَةِ تِلَاوَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ عَلَى دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَطْمَاعُنَا فِي نَيْلِ مِثْلِهِ. وَكَذَا سَجْدَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمُعَةِ الْأُولَى وَتَرْكُ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، وَتَرْكُهُ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ بَلْ كَانَ يُرِيدُ التَّأْخِيرَ. وَهِيَ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ فَكَانَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَسْجُدَهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ فِي الْمُفَصَّلِ عِنْدَنَا ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا سَجْدَةَ فِي الْمُفَصَّلِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ بَعْدَمَا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، ثَلَاثٌ مِنْهَا فِي الْمُفَصَّلِ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: عَزَائِمُ السُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وحم السَّجْدَةِ، وَالنَّجْمُ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إلَّا شَيْخًا وَضَعَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقِيتُهُ قُتِلَ كَافِرًا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ» ؛ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
فصل لفظ الخروج من الصلاة
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْجُدُهَا عَقِيبَ التِّلَاوَةِ كَمَا كَانَ يَسْجُدُ مِنْ قَبْلُ نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، ثُمَّ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ، عِنْدَنَا السَّجْدَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَكَذَا، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ هَهُنَا فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ السُّجُودَ مَرَّةٌ بِالْأَمْرِ، وَمَرَّةٌ بِذِكْرِ اسْتِكْبَارِ الْكُفَّارِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ، وَمَرَّةٌ عِنْدَ ذِكْرِ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ السَّجْدَةَ لَوْ وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ {تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] فَالتَّأْخِيرُ إلَى قَوْلِهِ {لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لَا يَضُرُّ وَيَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ. وَلَوْ وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ {لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لَكَانَتْ السَّجْدَةُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَهُ حَاصِلَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَيُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُؤَدِّ الثَّانِيَةَ فَيَصِيرُ الْمُصَلِّي تَارِكًا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، فَيَصِيرُ النَّقْصُ مُتَمَكِّنًا فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَا نَقْصَ فِيمَا قُلْنَا أَلْبَتَّةَ وَهَذَا هُوَ أَمَارَةُ التَّبَحُّرِ فِي الْفِقْهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ لَفْظُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَفْظُ السَّلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْكَلَامُ فِي التَّسْلِيمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ أَنَّهُ فَرْضٌ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ. أَمَّا صِفَتُهُ فَإِصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا. وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودٌ لِسَهْوٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمَا لَوْ تَرَكَهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، احْتَجَّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، خَصَّ التَّسْلِيمَ بِكَوْنِهِ مُحَلِّلًا فَدَلَّ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَيَكُونُ التَّحْلِيلُ فِيهَا رُكْنًا قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ فِي الْحَجِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا، أَنَّهُ جَعَلَهُ قَاضِيًا مَا عَلَيْهِ عِنْدَ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ وَمَا لِلْعُمُومِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ فَيَقْضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَبْقَى عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ لَفْظِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مَا خَيَّرَهُ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ خُرُوجٌ عَنْ الصَّلَاةِ وَتَرْكٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَخِطَابٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لَهَا؟ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ التَّسْلِيمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا، وَالِاعْتِبَارُ بِالطَّوَافِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمُحَلِّلٍ إنَّمَا الْمُحَلِّلُ هُوَ الْحَلْقُ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ بِالْإِحْلَالِ عَلَى الطَّوَافِ فَإِذَا طَافَ حَلَّ بِالْحَلْقِ لَا بِالطَّوَافِ، وَالْحَلْقُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَنُزِّلَ السَّلَامُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ مَنْزِلَةَ الْحَلْقِ فِي بَابِ الْحَجِّ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْلِيمَةُ الْأَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي قَدْرِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ: يُسَلِّمُ الْمُقْتَدِي تَسْلِيمَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثَالِثَةً يَنْوِي بِهَا رَدَّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً عَنْ يَمِينِهِ» وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ شُرِعَ لِلتَّحْلِيلِ وَأَنَّهُ يَقَعُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا مَعْنًى لِلثَّانِيَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوَّلُهُمَا أَرْفَعُهُمَا» ، وَلِأَنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ لِلْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي التَّحِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَالْأَخْذُ بِمَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَكَانَا يَقُومَانِ بِقُرْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» فَكَانَا أَعْرَفَ بِحَالِ
فصل حكم التكبير في أيام التشريق
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَقُومُ فِي حَيِّزِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وَهُوَ آخِرُ الصُّفُوفِ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ مِنْ الصِّغَارِ وَكَانَ فِي أُخْرَيَاتِ الصُّفُوفِ وَكَانَا يَسْمَعَانِ التَّسْلِيمَةَ الْأَوْلَى لِرَفْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا صَوْتَهُ وَلَا يَسْمَعَانِ الثَّانِيَةَ لِخَفْضِهِ بِهَا صَوْتَهُ» ، وَقَوْلُهُمْ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِالْأُولَى فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لِلتَّحْلِيلِ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ وَالتَّحِيَّةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهَا التَّحْلِيلُ وَلَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَالتَّحِيَّةُ وَرَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ، إلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ سَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ هَلْ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ السَّلَامَ مَنْ خَلْفَهُ فَيَقُولُ وَعَلَيْكَ؟ قَالَ: لَا. وَتَسْلِيمُهُمْ رَدٌّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّالِثَةَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَفَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّمَهَا الْأُمَّةَ فِعْلًا كَمَا فَعَلُوا التَّسْلِيمَتَيْنِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ التَّسْلِيمِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَعُتْبَةَ وَغَيْرِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَكَذَا. (وَأَمَّا) سُنَنُ التَّسْلِيمِ فَنَذْكُرُهَا فِي بَابِ سُنَنِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. (وَأَمَّا) حُكْمُهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْخُرُوجُ يَتَعَلَّقُ بِإِحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى لِلْخُرُوجِ وَالتَّحِيَّةِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّحِيَّةِ خَاصَّةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَخْرُجُ مَا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ، وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَكْلِيمُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمْ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ؟ . [فَصْلٌ حُكْمُ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، فَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ، فِي تَفْسِيرِهِ، وَفِي وُجُوبِهِ، وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي مَحَلِّ أَدَائِهِ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ يُقْضَى بَعْدَ الْفَوَاتِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ؟ . (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَفْسِيرِ التَّكْبِيرِ، رُوِيَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَارَثُ مِنْ الْأُمَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ وُجُوبِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) بَيَانُ وُجُوبِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ فَقَالَ: تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ نَقَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السُّنَّةِ عَلَى الْوَاجِبِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَوْ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، وَكُلُّ وَاجِبٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ، وَقَوْلُهُ {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] إلَى قَوْلِهِ {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قِيلَ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ: الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا، وَذَكَرَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الذِّكْرَ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الذَّبَائِحُ وَأَيَّامُ الذَّبَائِحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَأَكْثِرُوا فِيهَا مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ» . [فَصْلٌ وَقْتُ تَكْبِير التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَائِهِ، اتَّفَقَ شُيُوخُ الصَّحَابَةِ نَحْوُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الْبِدَايَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَتْمِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُخْتَمُ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُقْطَعُ وَذَلِكَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ عَلِيٌّ يَخْتِمُ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيُكَبِّرُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا الشُّبَّانُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْبِدَايَةِ بِالظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْخَتْمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَخْتِمُ عِنْدَ
فصل محل أداء تكبير التشريق
الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَخْتِمُ عِنْدَ الْفَجْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (أَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْبِدَايَةِ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَقَعُ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَاقْتَضَى وُجُوبَ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وَهِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِي جَمِيعِهَا وَاجِبًا إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ خُصَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَا إجْمَاعَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَضْحَى فَوَجَبَ التَّكْبِيرُ فِيهِمَا عَمَلًا بِعُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِتَعْظِيمِ الْوَقْتِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْمَنَاسِكُ، وَأَوَّلُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ إذْ فِيهِ يُقَامُ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلِهَذَا قَالَ مَكْحُولٌ: يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا سَاكِتَةٌ عَنْ الذِّكْرِ قَبْلَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَا. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْخَتْمِ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِوُقُوفِهِمْ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنْ الشَّرَائِعِ دُونَ مَا نُسِخَ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لِكَوْنِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً إلَّا فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَكَانَ التَّكْبِيرُ فِيهَا وَاجِبًا؛ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ، وَأَمْرُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَيَمْتَدُّ بِالتَّكْبِيرِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ؛ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، وَلَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَيْثُ لَمْ نَأْخُذْ هُنَاكَ بِالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَهُنَاكَ تَرَجَّحَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ أَوْلَى، وَهَهُنَا لَا رُجْحَانَ بَلْ اسْتَوَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الثُّبُوتِ وَفِي الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَالسُّنَّةُ فِي الْأَذْكَارِ الْمُخَافَتَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» وَلِذَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّضَرُّعِ وَالْأَدَبِ وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّيَاءِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ جَاءَ الْمُخَصِّصُ لِلتَّكْبِيرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَاجِبٌ إلَّا فِيمَا خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِيمَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا إجْمَاعَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْخُصُوصِ. وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا تَخْصِيصَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَتَرَدُّدِ التَّكْبِيرِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي دَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي التَّرْكِ لَا فِي الْإِتْيَانِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ الْبِدْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَنَقُولُ رُكْنُ الْحَجِّ، الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَأَمَّا الرَّمْيُ فَمِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ فَيُعْتَبَرُ فِي التَّكْبِيرِ وَقْتُ الرُّكْنِ لَا وَقْتُ التَّوَابِعِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الذِّكْرُ عَلَى الْأَضَاحِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهَا الذِّكْرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وَالتَّعَجُّلُ وَالتَّأْخِيرُ إنَّمَا يَقَعَانِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ لَا فِي التَّكْبِيرِ. [فَصْلٌ مَحَلُّ أَدَاءِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ، فَدُبُرُ الصَّلَاةِ، وَإِثْرُهَا، وَفَوْرُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ مَا يَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَيُرَاعَى لِإِتْيَانِهِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ تَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُ التَّكْبِيرَ. وَلَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبْنَى؟ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقْطَعُ الْبِنَاءَ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وَمَا لَا فَلَا، وَإِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ فَكَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ
فصل بيان من يجب عليه تكبير التشريق
لِلطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ كَانَ خُرُوجُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ قَاطِعًا لِفَوْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُكَبِّرُ لِلْحَالِ جَزْمًا. وَلَوْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ فَلِلْقَوْمِ أَنْ يُكَبِّرُوا وَقَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ: صَلَّيْتُ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقُمْتُ وَسَهَوْتُ أَنْ كَبَّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ لَيْسَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوا حَتَّى لَوْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ تَكَلَّمَ سَقَطَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، وَالْفَرْقُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْجَابِرُ يَكُونُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ وَلِهَذَا يُؤَدِّي فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، إمَّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَوْ؛ لِأَنَّهُ عَادَ وَشَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ بَعْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ فَلَا يَتَأَتَّى بِهِ الْمُقْتَدِي فَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَلَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ التَّحْرِيمَةُ وَيُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَتَى بِهِ الْإِمَامُ يَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ مُتَّصِلًا بِهَا فَيُنْدَبُ إلَى اتِّبَاعِ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْإِمَامُ أَتَى بِهِ الْقَوْمُ لِانْعِدَامِ الْمُتَابَعَةِ بِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ كَالسَّامِعِ مَعَ التَّالِي أَيْ: إنْ سَجَدَ التَّالِي يَسْجُدُ مَعَهُ السَّامِعُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ التَّالِي يَأْتِي بِهِ السَّامِعُ كَذَا هَهُنَا، وَلِهَذَا لَا يَتَّبِعُ الْمُقْتَدِي رَأْيَ إمَامِهِ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُقْتَدِي يَرَى رَأْيَ عَلِيٍّ فَصَلَّى صَلَاةً بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ اتِّبَاعًا لِرَأْيِهِ يُكَبِّرُ الْمُقْتَدِي اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ الَّتِي بِهَا صَارَ تَابِعًا لَهُ فَكَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا وَقَدْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ لَبَّى؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ. وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ فَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ الَّتِي بِهَا صَارَ تَابِعًا لَهُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا وَقَدْ سَهَا بِهِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ فَيُقَدِّمُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَإِنْ كَانَ يُؤْتَى بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَالتَّلْبِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ بَلْ يُؤْتَى بِهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كُلَّمَا هَبَطَ وَادِيًا أَوْ عَلَا شَرَفًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا. وَمَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ الشَّيْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِنْهُ فَيُجْعَلُ التَّكْبِيرُ كَأَنَّهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْحَالِ فَكَذَا مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ التَّكْبِيرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ الْحَالُ فَلَا يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ. وَلَوْ سَهَا وَبَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ السَّجْدَةِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ قَطْعَ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَلَوْ لَبَّى أَوَّلًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ تُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْوَضْعِ جَوَابٌ لِكَلَامِ النَّاسِ، وَغَيْرُهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَكَذَا هِيَ، وَتَسْقُطُ سَجْدَةُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا فِي التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ، وَيَسْقُطُ التَّكْبِيرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ وَقَدْ زَالَ الِاتِّصَالُ وَعَلَى هَذَا الْمَسْبُوقُ لَا يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَسْبُوقُ بَعْدُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْمُقِيمِينَ الْأَحْرَارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُصَلِّينَ الْمَكْتُوبَةَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَالْفَرْضَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤَدِّي مَكْتُوبَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ فَمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُكَبِّرَانِ عَقِيبَ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَمَا وَرَدَ النَّصُّ إلَّا عَقِيبَ الْمَكْتُوبَاتِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا نَذْكُرُ، وَالنَّوَافِلُ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ الْوِتْرِ عِنْدَنَا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمَكْتُوبٍ وَالْجَهْرُ
فصل بيان حكم التكبير أيام التشريق
بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ إلَّا فِي الْمَكْتُوبَاتِ. وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَيُكَبَّرُ عَقِيبَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ كَالظُّهْرِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فَهُمَا احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، وَقَوْلِهِ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ مَكَان أَوْ جِنْسٍ أَوْ حَالٍ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ مِنْ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ يُوجِبُ قَطْعَ التَّكْبِيرِ فَكُلُّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَالْمُرَادُ مِنْ التَّشْرِيقِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ هَكَذَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَكَانَ مِنْ أَرْبَابِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ، وَلِأَنَّ التَّصْدِيقَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِظْهَارُ، وَالشُّرُوقَ هُوَ الظُّهُورُ يُقَالُ: شَرَقَتْ الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَظَهَرَتْ سُمِّيَ مَوْضِعُ طُلُوعِهَا وَظُهُورِهَا مَشْرِقًا لِهَذَا، وَالتَّكْبِيرُ نَفْسُهُ إظْهَارٌ لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ إظْهَارُ مَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَشْرِيقًا، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا عَلَى إلْقَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بِالْمَشْرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ مُرَادًا بِالتَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَامُ الدِّينِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَشْتَهِرُ فِيهِ وَيَشِيعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالنِّسْوَانُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاشْتِهَارِ يَخْتَصُّ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ وَلِهَذَا لَا يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَأَمْرُ النِّسْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ دُونَ الْإِشْهَارِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا. وَأَمَّا الْأُولَى فَنَحْمِلُهَا عَلَى خُصُوصِ الْمَكَانِ وَالْجِنْسِ وَالْحَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ مُسَلَّمٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّرَائِطِ، فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا نُسَلِّمُ التَّبِيعَةَ. وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِإِمَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَيُكَبِّرُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَكَذَا النِّسَاءُ إذَا اقْتَدَيْنَ بِرَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ فَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ وَحْدَهُنَّ فَلَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ إذَا صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِمْ التَّكْبِيرَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مُغَيِّرٌ لِلْفَرْضِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْبِيرِ ثُمَّ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَكَذَا فِي سُقُوطِ التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ وَالْمُسَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَالْتَحَقَ الْمِصْرُ فِي حَقِّهِ بِالْعَدَمِ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيمَا دَخَلَ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إمَّا إنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، أَوْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَإِنْ فَاتَتْهُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسْبِ الْأَدَاءِ وَقَدْ فَاتَتْهُ بِلَا تَكْبِيرٍ فَيَقْضِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبِهَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ وَقَدْ فَاتَتْهُ مَعَ التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا حَيْثُ وَرَدَ الشَّرْعُ وَالشَّرْعُ مَا وَرَدَ بِهِ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ بِدْعَةً. فَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ أَيْضًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِجَعْلِ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ صَلَاةٍ هِيَ مِنْ صَلَوَاتِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَعْلِهِ وَقْتًا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَبَقِيَ بِدْعَةً كَأُضْحِيَّةٍ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَإِنْ عَادَ الْوَقْتُ، وَكَذَا رَمْيُ الْجِمَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةُ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتًا لِتَكْبِيرَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَاتِ فِيهَا. [فَصْلٌ فِي سُنَنِ حُكْمِ التَّكْبِيرِ أَيَّام التَّشْرِيق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُهَا فَكَثِيرَةٌ، بَعْضُهَا صَلَاةٌ بِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا مِنْ لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ. أَمَّا الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ بِنَفْسِهِ فَالسُّنَنُ
الْمَعْهُودَةُ الَّتِي يُؤَدِّي بَعْضُهَا قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَلَهَا فَصْلٌ مُنْفَرِدٌ نَذْكُرُهَا فِيهِ بِعَلَائِقِهَا. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَوْعُ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ. أَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَسُنَنُ الِافْتِتَاحِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِرَانُ النِّيَّةِ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ نَصًّا وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَقَالَ: وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، فَكَذَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ صَلَاةَ كَذَا فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي؛ لِأَنَّ هَذَا سُؤَالُ التَّوْفِيقِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مَسْنُونًا. (وَمِنْهَا) حَذْفُ التَّكْبِيرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ» وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْمَدِّ فِي ابْتِدَاءِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ يَكُونُ لِلشَّكِّ وَالشَّكُّ فِي كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، وَقَوْلُهُ أَكْبَرُ لَا مَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلُ، وَأَفْعَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَدَّ لُغَةً، وَمِنْهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي أَصْلِ الرَّفْعِ، وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي مَحَلِّهِ. أَمَّا أَصْلُ الرَّفْعِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي عَشْرَةِ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا: هَاتِ، فَقَالَ: رَأَيْته إذَا كَبَّرَ عِنْدَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ السَّلَفِ. وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُ التَّكْبِيرِ مُقَارِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ. التَّكْبِيرُ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْقِرَانِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِالنَّشْرِ تَفْرِيجَ الْأَصَابِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا مَفْتُوحَتَيْنِ لَا مَضْمُومَتَيْنِ حِينَ تَكُونُ الْأَصَابِعُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُفَرِّجُ كُلَّ التَّفْرِيجِ وَلَا يَضُمُّ كُلَّ الضَّمِّ بَلْ يَتْرُكُهُمَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَصَابِعُ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ. وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ فَقَالَ: قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ يَرْفَعُ حَتَّى يُحَاذِي بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَيْدِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: حِذَاءَ رَأْسِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» . (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَلِأَنَّ هَذَا الرَّفْعَ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَمْ يُرْفَعْ فِي تَكْبِيرَةٍ هِيَ عِلْمٌ لِلِانْتِقَالِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَاجِبٌ فَمَا رُوِيَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ حِينَ كَانَتْ عَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ فَكَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ الرَّفْعُ إلَى الْأُذُنَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْآذَانِ ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَنَاكِبِ، أَوْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا رَوَيْنَا رُءُوسُ الْأَصَابِعِ، وَبِمَا رُوِيَ الْأَكُفُّ وَالْأَرْسَاغُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ أُذُنَيْهَا كَالرَّجُلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ كَفَّيْهَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَبِنَاءُ أَمْرِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَعْتَدِلُ فِي سُجُودِهِ وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ فِي رُكُوعِهِ وَالْمَرْأَةُ تَفْعَلُ كَأَسْتَرَ مَا يَكُونُ لَهَا؟ . أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْفِي بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَإِنَّمَا الْجَهْرُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ
لِحَاجَتِهِ إلَى الْإِعْلَامِ فَإِنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْلَمُ بِالشُّرُوعِ إلَّا بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي وَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي التَّسْلِيمِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّكْبِيرِ وَإِنْ كَبَّرَ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِهِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْقِرَانِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ إذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَاد، وَبِهَذَا فَارَقَ التَّسْلِيمَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا بِسَلَامِ الْإِمَامِ. أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قَالَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّفِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يَقُومُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُكَبِّرُونَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْمُنْبِئَ عَنْ الْقِيَامِ قَوْلُهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ لَا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ دُعَاءٌ إلَى مَا بِهِ فَلَاحُهُمْ وَأَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَنْ تَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إلَّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَيْهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّا نَمْنَعُهُمْ عَنْ الْقِيَامِ كَيْ لَا يَلْغُوَ قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؛ لِأَنَّ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى شَيْءٍ فَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ إيَّاهُ يَلْغُو مِنْ الْكَلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُنْبِئَ عَنْ الْقِيَامِ قَوْلُهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ يُنْبِئُ عَنْ قِيَامِ الصَّلَاةِ لَا عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهَا، وَقِيَامُهَا وُجُودُهَا وَذَلِكَ بِالتَّحْرِيمَةِ لِيَتَّصِلَ بِهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا تَصْدِيقًا لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ، ثُمَّ إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ إذَا قَالَ: الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةً، وَفِي إدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَضِيلَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرَاغِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا تَكُونُ جَمِيعُ صَلَاتِهِمْ بِالْإِقَامَةِ وَفِيمَا قَالُوا بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا انْتَهَى الْمُؤَذِّنُ إلَى قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ. وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنْتَ تَسْبِقُنِي بِالتَّكْبِيرِ فَلَا تَسْبِقْنِي بِالتَّأْمِينِ» وَلَوْ كَبَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ لَمَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَضْلًا عَنْ التَّأْمِينِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُؤْتَمَنُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ وُجُودُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِيُوجَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَصِيرُ الْمُخْبِرُ عَنْ قِيَامِهَا صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْمُتَرَكِّبِ مِنْ أَجْزَاءٍ لَا بَقَاءَ لَهَا لَنْ يَكُونَ إلَّا عَنْ وُجُودِ جُزْءٍ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتَرَكِّبِ كَمَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ يُصَلِّي فِي الْحَالِ يَكُونُ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِي حَالَةِ الْإِخْبَارِ إلَّا جُزْءٌ مِنْهَا؛ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهَا فِي الْوُجُودِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ نَقُولُ فِي تَصْدِيقِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةٌ كَمَا أَنَّ إجَابَتَهُ فَضْلَةٌ بَلْ فَضِيلَةُ التَّصْدِيقِ فَوْقَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ مَعَ أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ فَوَاتَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا إذْ لَا جَوَابَ لِقَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ، وَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا بَلْ حَصَلَتْ الْإِجَابَةُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَا قُلْنَا سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ فَكَانَ أَحَقَّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَا بَأْسَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَكْثَرِ الْإِقَامَةِ، وَأَدَاءِ أَكْثَرِهَا بَعْدَ جَمِيعِ الْإِقَامَةِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اخْتَارُوا فِي الْفِعْلِ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ النِّيَّةِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ بِالْإِقَامَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَقُومُونَ مَا لَمْ يَحْضُرْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى النَّاسَ قِيَامًا يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ أَيْ: وَاقِفِينَ مُتَحَيِّرِينَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا بِدُونِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ مُفِيدًا، ثُمَّ إنْ دَخَلَ الْإِمَامُ مِنْ قُدَّامِ الصُّفُوفِ
فَكَمَا رَأَوْهُ قَامُوا؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ مَقَامَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ دَخَلَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُلَّمَا جَاوَزَ صَفًّا قَامَ ذَلِكَ الصَّفُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَوْ اقْتَدَوْا بِهِ جَازَ فَصَارَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مَكَانَهُ. وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الِافْتِتَاحِ فَنَقُولُ: إذَا فَرَغَ مِنْ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالثَّانِي فِي وَقْتِ الْوَضْعِ، وَالثَّالِثِ فِي مَحَلِّ الْوَضْعِ، وَالرَّابِعِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، وَقَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ هِيَ الْإِرْسَالُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، وَالْوَضْعُ لِلِاسْتِرَاحَةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَخَافَةَ اجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَأَخْذُ الشِّمَالِ بِالْيَمِينِ فِي الصَّلَاةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَقْتُ الْوَضْعِ فَكُلَّمَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا حَالَةَ الثَّنَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَضَعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ سُنَّةُ الْقِيَامِ الَّذِي لَهُ قَرَارٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوَضْعُ فِي الْقِيَامِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ وَلَا قِرَاءَةَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمٌ لَهُ وَالْوَضْعُ فِي التَّعْظِيمِ أَبْلَغُ مِنْ الْإِرْسَالِ كَمَا فِي الشَّاهِدِ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْقِيَامُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَقَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْوَضْعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُ ضَرْبَ قَرَارٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِرْسَالُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَضَعُ يَحْتَاجُ إلَى الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا. وَأَمَّا فِي حَالِ الْقُنُوتِ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ ثُمَّ يَكُفُّهُمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: مَعْنَاهُ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا كَمَا يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى يَسَارِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بَلْ يَضَعُ وَمَعْنَى الْإِرْسَالِ أَنْ لَا يَبْسُطَهُمَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْسُطُ يَدَيْهِ بَسْطًا فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا قِيَامٌ فِي الصَّلَاةِ لَهُ قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ فِيهِ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَالصَّحِيحُ أَيْضًا أَنْ يَضَعَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ» وَلِأَنَّ الْوَضْعَ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ فِي قِيَامٍ لَهُ قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ أَوْلَى. وَأَمَّا مَحَلُّ الْوَضْعِ فَمَا تَحْتَ السُّرَّةِ فِي حَقِّ الرِّجْلِ وَالصَّدْرُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَحَلُّهُ الصَّدْرُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قَوْلُهُ وَانْحَرْ أَيْ ضَعْ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ فِي النَّحْرِ وَهُوَ الصَّدْرُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ» . وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهُ أَيْ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ فِي الْأَصْلِ وَوَضْعُ الْيَدِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَبْعَاضِهَا وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الْبَعْضِ وَبَيْنَ الْكُلِّ، أَوْ يُحْتَمَلُ مَا قُلْنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَال عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: السُّنَّةُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فَلَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَنْهُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ: بَعْضُهُمْ يَضَعُ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضَعُ عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضَعُ عَلَى الْمِفْصَلِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَقْبِضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى رُسْغِ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضَعُ كَذَلِكَ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ وَضْعًا وَزِيَادَةً وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَيَأْخُذُ الْمُصَلِّي رُسْغَ يَدِهِ الْيُسْرَى بِوَسَطِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنْصَرَهُ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ عَلَى
مِعْصَمِهِ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ، ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الْوَضْعُ وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ فَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَقْرَأُ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] لَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَلَا بَعْدَهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: يَقُولُ مَعَ التَّسْبِيحِ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] وَلَا يَقُولُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَذِبَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ يُقَدِّمُ التَّسْبِيحَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ يَفْتَتِحُ بِقَوْلِهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا بِالتَّسْبِيحِ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَخْ، وَقَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ، وَالشَّافِعِيُّ زَادَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، أَنَا بِكَ وَلَكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ» وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] ذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. وَرَوَى هَذَا الذِّكْرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِالْآحَادِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ فَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا اشْتَهَرَ فِيهِ الْأَثَرُ أَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْآيَةِ أَوْ تَأَيَّدَ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لِإِحْضَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا لَقَّنُوهُ الْعَوَامَّ. ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا، وَالْكَلَامُ فِي التَّعَوُّذِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ «أَبَا الدَّرْدَاءِ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» ، وَكَذَا النَّاقِلُونَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَأَمَّا وَقْتُ التَّعَوُّذِ فَمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] الْآيَةَ، أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ التَّعَوُّذَ شُرِعَ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَا بَعْدَهَا وَالْإِرَادَةُ مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ فَإِذَا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ كَذَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَيْهَا. وَأَمَّا مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّعَوُّذُ فَهُوَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ دُونَ الْمُقْتَدِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ أَوْ تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ لَهَا، وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَعَلَى قَوْلِهِ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ مَا يَتْبَعُهُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إحْدَاهَا أَنَّهُ لَا تَعَوُّذَ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَهُمَا
لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ فَيَأْتِي بِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، وَالثَّانِيَةِ الْمَسْبُوقُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَسَبَّحَ لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَالثَّالِثَةِ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَرَى رَأْيَ ابْنِ عَبَّاسِ أَوْ رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّعَوُّذِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَوْ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّ أَوْلَى الْأَلْفَاظِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَقَدْ وَرَدَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ وَمَا بَعْدَ التَّعَوُّذِ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ لَا مَحَلُّ الثَّنَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّعَوُّذِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَذَكَرَ مِنْهَا التَّعَوُّذَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ثُمَّ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهِ. وَالْكَلَامُ فِي التَّسْمِيَةِ فِي مَوَاضِعَ، أَحَدِهَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا، وَالثَّالِثِ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ السُّورَةِ أَمْ لَا، وَيَنْبَنِي عَلَى كُلِّ فَصْلٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مَكْتُوبًا بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَهُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ، وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ، فَقُلْتُ: فَمَا بَالُكَ لَا تَجْهَرُ بِهَا فَلَمْ يُجِبْنِي. وَكَذَا رَوَى الْجَصَّاصُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَةِ لِلْبُدَاءَةِ بِهَا تَبَرُّكًا وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ دُونَ الثَّنَاءِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَأَدَّى؛ لِأَنَّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً احْتِمَالٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَإِنَّهَا فِي النَّمْلِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَإِنَّمَا الْآيَةُ قَوْلُهُ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَتُهَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ. أَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهَا عَلَيْهِمْ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي كَوْنِهَا مِنْ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ قَوْلَانِ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا عِنْدَ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا فِي الِاخْتِلَافِ نَصًّا لَكِنَّ أَمْرَهُمْ بِالْإِخْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَجْهَرَ بِبَعْضِ السُّورَةِ دُونَ الْبَعْضِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعَ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَقَدْ عَدَّ التَّسْمِيَةَ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ دَلَّ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ وَلِأَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى رَأْسِ الْفَاتِحَةِ وَكُلُّ سُورَةٍ بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَكَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهَا لَا بِالْحَمْدِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ بَلْ يَكُونُ مَا لِلَّهِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَمِنْ مَوْضِعِ كَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا تَوَاتُرَ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَعَدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهَا، وَذَا دَلِيلُ عَدَمِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ السُّورَةِ مَعَ الشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ لَا يُوَافِقُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَذْهَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وَقَدْ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مِنْهَا لَكَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْهَا لَكَانَتْ سُورَةُ الْكَوْثَرِ أَرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ خَمْسَ آيَاتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَفِيهِ اضْطِرَابٌ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ شَكَّ فِي ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْنَادِ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ: لَقِيتُ نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي السَّنَدِ وَالْوَقْفِ وَالرَّفْعِ يُوجِبُ ضَعْفًا فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي حَدِّ الْآحَادِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَكَوْنُ التَّسْمِيَةِ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَثْبَتُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ حَدِيثُ الْقِسْمَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ عَلَى رَأْسِ السُّوَرِ فَنَعَمْ لَكِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ لِجَوَازِ أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لَا لِأَنَّهَا مِنْهَا فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ السُّوَرِ بِالِاحْتِمَالِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ حَتَّى يَجْهَرَ بِهَا ضَرُورَةَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ، وَعِنْدَهُ يَجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَمَا يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ لِكَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى تَرَدَّدَتْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ تَرَدَّدَ الْجَهْرُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهَا الْتَحَقَتْ بِالْأَذْكَارِ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذْكَارِ بِدْعَةٌ وَالْفِعْلُ إذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ تُغَلَّبُ جِهَةُ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَلَا فَرْضِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ أَوْ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِخْفَاءُ بِهَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ التَّسْمِيَةَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالَ: الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ إعْرَابِيَّةٌ وَالْمَنْسُوبُ إلَيْهِمْ بَاطِلٌ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ بِالشَّرَائِعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ» ، ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ لَمْ يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ لَكِنْ يَأْتِي بِهَا الْإِمَامُ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا تَبَرُّكًا كَمَا يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَهَلْ يَأْتِي بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكَعَاتِ الْأُخَرِ؟ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِهَا تَبَرُّكًا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى كَالتَّعَوُّذِ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ لَمْ تُجْعَلْ مِنْ الْفَاتِحَةِ قَطْعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَصَارَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ عَمَلًا فَمَتَى لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْتِي بِهَا احْتِيَاطًا كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ مُنْقَطِعٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مَا مَرَّ وَفِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَا إجْمَاعَ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ احْتِيَاطًا، وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي حَقِّ الْجَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ أَصْلٌ فِي الْأَذْكَارِ وَالْجَهْرَ بِهَا بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهَا ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ كَانَتْ الْمُخَافَتَةُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَكَانَتْ أَحَقَّ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ وَإِذَا كَانَ يَجْهَرُ بِهَا لَا يَأْتِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَأَخْفَى بِهَا فَيَكُونُ
سَكْتَةً لَهُ فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ثُمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسُّورَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْرَهَا وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ، وَالْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَبَّ مِنْ الْقِرَاءَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ هُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً قَصِيرَةً قَدْرَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَيِّ سُورَةٍ كَانَتْ، حَتَّى لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا أَوْ قَرَأَ مَعَهَا آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا» وَأَقْصُرُ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْجَوَازِ بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَأَدَاءُ الْمَفْرُوضِ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَيَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا بِأَرْبَعِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَرْبَعِينَ خَمْسِينَ سِتِّينَ سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ سُورَةَ (ق) حَتَّى أَخَذَ بَعْضُ النِّسْوَانِ مِنْهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْهُنَّ أُمُّ هِشَامِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ وَعَنْ مُوَرِّقِ الْعِجْلِيّ قَالَ: تَلَقَّنْتُ سُورَةَ (ق) وَاقْتَرِبْ، مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ ب {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةِ، وَفِي الْأُخْرَى بِهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ» ، وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا بَيْنَ سِتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةٍ» كَذَا ذَكَرَ وَكِيعٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ فَرَكَعَ، وَوَفَّقَ بَعْض هُمْ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ: الْمَسَاجِدُ ثَلَاثٌ مَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ زُهَّادٌ وَعُبَّادٌ يَرْغَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ كُسَالَى غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ أَوْسَاطٌ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَ بِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قِرَاءَةً فِي الْأَوَّلِ وَبِأَدْنَاهَا قِرَاءَةً فِي الثَّانِي وَبِأَوْسَطِهَا قِرَاءَةً فِي الثَّالِثِ عَمَلًا بِالرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا، وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ دُونِهِ. وَذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حَرَّرْنَا قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِينَ آيَةً، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَقَرَأَ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، وَفِي الْعَصْرِ يَقْرَأُ بِعِشْرِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا» ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِسُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] . وَفِي الْعِشَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ» فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لِقَوْلِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ كَانَ يَقْرَأُ الْبَقَرَةَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الشَّمْسِ وَضُحَاهَا {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] » ؛ وَلِأَنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَوْمِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ إيَّاهُمْ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ خَمْسِ آيَاتٍ أَوْ سِتِّ آيَاتٍ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطُوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ. وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ وَفِي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ تَأْخِيرُهَا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ سَوَاءٌ وَالْمَغْرِبُ دُونَ ذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِعَبَسَ أَوْ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فِي الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِلَا أُقْسِمُ أَوْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَفِي الْعَصْرِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى وَالضُّحَى أَوْ وَالْعَادِيَاتِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَلْهَاكُمْ أَوْ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] . وَفِي الْمَغْرِبِ فِي الْأُولَى مِثْلَ مَا فِي الْعَصْرِ، وَفِي الْعِشَاءِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ مَا فِي الظُّهْرِ فَقَدْ جَعَلَهَا فِي الْأَصْلِ كَالْعَصْرِ وَفِي الْمُجَرَّدِ كَالظُّهْرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَقَالَ: وَقَدْرُ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ لِلْمُقِيمِ قَدْرُ ثَلَاثِينَ آيَةً إلَى سِتِّينَ آيَةً سِوَى الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا بَيْنَ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ. قَالَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحَبُّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رَوَاهَا الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَوَقْتُ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتُطَوَّلُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَيْ لَا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ، وَكَذَا وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقِيلُونَ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتُ رُجُوعِ النَّاسِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَنْقُصُ عَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ، وَكَذَا وَقْتُ الْعِشَاءِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ عَلَى النَّوْمِ فَكَانَ مِثْلَ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ عَلَى الْأَكْلِ فَقُصِّرَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِمْ عَنْ الْأَكْلِ خُصُوصًا لِلصَّائِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ وَحَالِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ. فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ مَا يَخِفُّ عَلَى الْقَوْمِ وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّمَامِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ «آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ قَوْمَ مُعَاذٍ لَمَّا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ دَعَاهُ فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ؟ قَالَ الرَّاوِي فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ» ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَتَمَّ وَأَخَفَّ مِمَّا صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالُوا: أَوْجَزْتَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْقَوْمِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ مَا يَخِفُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ بِأَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَكَانُ الْمَشَقَّةِ فَلَوْ قَرَأَ فِيهِ مِثْلَ مَا يَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ وَانْقَطَعَ بِهِمْ السَّيْرُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا أُثِرَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤْثَرَ فِي قَصْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْفَجْرِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُفَضِّلُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَكَذَا هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا» وَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ تَسْبِيبٌ إلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ فَيُفَضِّلُ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمَا فِي الْآيِ مُسْتَوِيَتَانِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوْلَى سُورَةَ الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَاشِيَةَ وَهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ» ، وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَلَا تُفَضَّلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا لِدَاعٍ وَقَدْ وُجِدَ الدَّاعِي فِي الْفَجْرِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَكَانَ التَّفْضِيلُ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَلَا دَاعِيَ لَهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ يَقَظَةٍ فَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ تَقْصِيرًا وَالْمُقَصِّرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِالثَّنَاءِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَا بِالْقِرَاءَةِ. أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ تَامَّةٍ كَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا يُكْرَهُ وَكَذَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ «قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَى قَوْلِهِ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ وَخَتَمَ السُّورَةَ» وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ
لَا يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْتَرَ بِسَبْعِ سُوَرٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ» وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَجْمَعَ وَلَوْ قَرَأَ مِنْ وَسَطِ السُّورَةِ أَوْ آخِرِهَا لَا بَأْسَ بِهِ كَذَا رَوَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ يَقُولُ آمِينَ إمَامًا كَانَ أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُؤْتَى بِالتَّأْمِينِ أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» حَثَّنَا عَلَى التَّأْمِينِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. ثُمَّ السُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْجَهْرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ، وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «آمِينَ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخْفَى التَّأْمِينَ» وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا» . وَلَوْ كَانَ مَسْمُوعًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَجِبْ أَوْ لِيَكُنْ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وَمُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ كَانَ يُؤَمِّنُ، وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ، وَحَدِيثُ وَائِلٍ طَعَنَ فِيهِ النَّخَعِيّ وَقَالَ: أَشَهِدَ وَائِلٌ؟ وَغَابَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَرَ مَرَّةً لِلتَّعْلِيمِ وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ وَيُكَبِّرُ مَعَ الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ. أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ فَسُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُكَبِّرُ حَالَ مَا رَكَعَ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ حَالَ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَهْوِي وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ رُكْنٍ لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ كَمَا هُوَ مُعَظِّمٌ لَهُ بِالْفِعْلِ فَيَزْدَادُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ بِمَعْنَى الرُّكْنِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ الذِّكْرُ فِيهِ مَسْنُونًا. وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَنَا إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَيْدِي فِي تَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ» . (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ» ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الَّتِي تُفْتَتَحُ بِهَا الصَّلَاةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ مَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَخِلَاف هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ قَبِيحٌ. وَفِي الْمَشَاهِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شُمُسٍ اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «قَارُّوا فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَةٌ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الَّذِي خَلْفَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِعْلَامِ بِالرَّفْعِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَتَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِي الْعِيدَيْنِ وَتَكْبِيرَاتِ الْقُنُوتِ، فَأَمَّا فِيمَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى
الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعْنَا وَتَرَكَ فَتَرَكْنَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ الرَّفْعِ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ. قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَمُجَاهِدٌ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَدَلَّ عَمَلُهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا رَوَيَا عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا انْتِسَاخَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الرَّفْعُ لَا تَرْبُو دَرَجَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ بِدْعَةً وَتَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ السُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ مَعَ ثُبُوتِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَالتَّحْصِيلُ مَعَ عَدَمِ الثُّبُوتِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ مِنْ الرُّكُوعِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا سُنَنُ الرُّكُوعِ - فَمِنْهَا أَنْ يَبْسُطَ ظَهْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ» -، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُنَكِّسَ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ أَيْ: يُسَوِّيَ رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُنَكِّسْهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُدَبِّحَ الْمُصَلِّي تَدْبِيحَ الْحِمَارِ» وَهُوَ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ؛ وَلِأَنَّ بَسْطَ الظَّهْرِ سُنَّةٌ، وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعَ الرَّفْعِ وَالتَّنْكِيسِ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السُّنَّةُ هِيَ التَّطْبِيقُ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُرْسِلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذَا رَكَعْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ» وَفِي رِوَايَةٍ وَفَرِّقْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: ثُنِيَتْ لَكُمْ الرُّكَبُ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ، وَالتَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ رَأَى ابْنَهُ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: رُحِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نُطَبِّقُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُهِينَا عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَبْلُغْهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَضْعُ مَعَ الْأَخْذِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالتَّفْرِيقُ أَمْكَنُ مِنْ الْأَخْذِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ مَنْ تَرَكَ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَجِدُ فِي الرُّكُوعِ دُعَاءً مُؤَقَّتًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَقَصَ مِنْ الثَّلَاثِ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّسْبِيحِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ مَعَ كَوْنِ التَّسْبِيحِ سُنَّةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ثُمَّ السُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُولُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ مُمْتَثِلًا بِتَحْصِيلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ جَعَلَ الثَّلَاثَ أَدْنَى التَّمَامِ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ نَاقِصًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا يُسَبِّحُ إلَى أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ إمَامًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى الْقَوْمِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ التَّطْوِيلَ سَبَبُ التَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقُولُهَا أَرْبَعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْقَوْمُ مِنْ أَنْ يَقُولُوهَا ثَلَاثًا، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقُولُهَا خَمْسًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَيَقُولُ فِي السُّجُودِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ
عَلَى النَّوَافِلِ ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا كَانَ فِي الرُّكُوعِ فَسَمِعَ خَفْقَ النَّعْلِ مِمَّنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ هَلْ يَنْتَظِرُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَاهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْشَى عَلَيْهِ أَمْرًا عَظِيمًا يَعْنِي الشِّرْكَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ مِقْدَارَ تَسْبِيحَةٍ أَوْ تَسْبِيحَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطَوِّلُ التَّسْبِيحَاتِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْعَدَدِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِظَارُ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَجُوزُ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ الْجَائِيَ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً عَلَى الطَّاعَةِ. وَإِذَا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ. أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ، فَأَمَّا رَفْعُ الرَّأْسِ وَعَوْدُهُ إلَى الْقِيَامِ فَهُوَ تَعْدِيلُ الِانْتِقَالِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا سُنَنُ هَذَا الِانْتِقَالِ فَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فَرْضٌ فَكَانَ الذِّكْرُ فِيهِ مَسْنُونًا وَاخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّةِ الذِّكْرِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَا يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا، احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وَغَالِبُ أَحْوَالِهِ كَانَ هُوَ الْإِمَامُ، وَكَذَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَكَذَا الْإِمَامُ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّحْمِيدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَيْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44] وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» قُسِّمَ التَّحْمِيدُ وَالتَّسْمِيعُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَجُعِلَ التَّحْمِيدُ لَهُمْ وَالتَّسْمِيعُ لَهُ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينُ أَيْضًا بِقَضِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ إتْيَانَ التَّحْمِيدِ مِنْ الْإِمَامِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّكْرَ يُقَارِنُ الِانْتِقَالَ فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ مُقَارِنًا لِلِانْتِقَالِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ لَوَقَعَ قَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِ الْمُقْتَدِي فَيَنْقَلِبُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا، وَمُرَاعَاةُ التَّبَعِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُمْ: الْإِمَامُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنْفَرِدِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَنَقُولُ: إذَا أَتَى بِالتَّسْمِيعِ فَقَدْ صَارَ دَالًّا عَلَى التَّحْمِيدِ وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَاسِيًا نَفْسَهُ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِالْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ الْأَذْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِرَاءَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ دُعَاءٌ إلَى التَّحْمِيدِ وَحَقُّ مَنْ دُعِيَ إلَى شَيْءٍ الْإِجَابَةُ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ لِإِعَادَةِ قَوْلِ الدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ دُونَ التَّحْمِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ
الرُّكُوعِ فِي الْفَرِيضَةِ أَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؟ قَالَ: يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَسْكُتُ وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنْفَرِدَ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ تَرْغِيبٌ فِي التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ يُرَغِّبُهُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُرَغِّبُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ حَاجَتُهُ إلَى التَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ التَّحْمِيدَ يَقَعُ فِي حَالَةِ الْقَوْمَةِ وَهِيَ مَسْنُونَةٌ وَسُنَّةُ الذِّكْرِ تَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَالتَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا لَمْ يُشَرَّعْ فِي الْقَعْدَتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سِوَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ وَلِهَذَا كَانَ عَمَلُ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَاخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ فِي لَفْظِ التَّحْمِيدِ فِي بَعْضِهَا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَفِي بَعْضِهَا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَإِذَا اطْمَأَنَّ قَائِمًا يَنْحَطُّ لِلسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ فَيَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ السُّجُودُ إذْ الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ لِمَا مَرَّ، وَمِنْ سُنَنِ الِانْتِقَالِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بُرُوكِ الْجَمَلِ فِي الصَّلَاةِ» وَهُوَ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا، وَلَنَا عَيْنُ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ قَوْلِنَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ حَافِيًا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَا خُفٍّ لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ. وَالْكَلَامُ فِي فَرْضِيَّةِ أَصْلِ السُّجُودِ وَالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ مِنْهُ وَمَحَلِّ إقَامَةِ الْفَرْضِ قَدْ مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ السُّجُودِ، مِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَجْمَعَ فِي السُّجُودِ بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ فَيَضَعُهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَمَسَّ أَنْفُهُ الْأَرْضَ كَمَا يَمَسُّ جَبْهَتُهُ» ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ لِمَا مَرَّ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ مِنْ الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ. وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ جَازَ عِنْدَنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ» ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَهِيَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ وَلَوْ سَجَدَ بِهِ عَلَى حَشِيشٍ أَوْ قُطْنٍ إنْ تَسَفَّلَ جَبِينُهُ فِيهِ حَتَّى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا إذَا صَلَّى عَلَى طُنْفُسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَ إذَا كَانَ مُتَلَبِّدًا، وَكَذَا إذَا صَلَّى عَلَى الثَّلْجِ إذَا كَانَ مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ اُسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيكَ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ لَكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ شَرِيكِهِ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» ، وَمِنْهَا أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ فَلِيُوَجِّهَ مِنْ أَعْضَائِهِ إلَى الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ» ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إذَا سَجَدْتَ فَاعْتَمِدْ عَلَى رَاحَتَيْكَ» ، وَمِنْهَا أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ «وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ» أَيْ أَظْهِرْ الضَّبُعَ وَهُوَ وَسَطُ الْعَضُدِ بِلَحْمِهِ، وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ» ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَدِلَ فِي سُجُودِهِ وَلَا يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَفْتَرِشْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ» ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْتَرِشُ فِي النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهَا وَتَنْخَفِضُ وَلَا تَنْتَصِبَ كَانْتِصَابِ الرَّجُلِ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَاعِدًا وَالرَّفْعُ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الرَّفْعِ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِلِاعْتِدَالِ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا مِقْدَارُ الرَّفْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ مِقْدَارَ مَا تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ أَنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يُسَمَّى بِهِ رَافِعًا جَازَ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: إنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يُشْكِلُ عَلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ جَازَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْفَصْلُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَالِانْتِقَالُ وَهَذَا هُوَ الْمَفْرُوضُ فَأَمَّا الِاعْتِدَالُ فَمِنْ بَابِ السُّنَّةِ أَوْ الْوَاجِبِ عَلَى مَا مَرَّ وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الرَّفْعِ لِمَا مَرَّ ثُمَّ يَنْحَطُّ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مُكَبِّرًا وَيَقُولُ وَيَفْعَلُ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ثُمَّ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ يَعْنِي إذَا قَامَ مِنْ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ وَمِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُومُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا وَاعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ حَالَةَ الْقِيَامِ» وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ هُمْ كَانُوا يَنْهَضُونَ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الضَّعْفِ حَتَّى كَانَ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قَدْ بَدُنْتُ أَيْ كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ فَاخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَا عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى وَيَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ صِفَةَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ شُرِعَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، وَهَهُنَا نَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَعْدَةِ وَذِكْرَ الْقَعْدَةِ. أَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْتَرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الْقَعْدَتَيْنِ جَمِيعًا وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ فَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَتَوَرَّكُ، وَقَالَ مَالِكُ: يَتَوَرَّكُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَتَفْسِيرُ التَّوَرُّكِ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيُخْرِجَ رِجْلَيْهِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيَجْلِسُ عَلَى وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ «إذَا جَلَسَ فِي الْأُولَى فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وَإِذَا جَلَسَ فِي الثَّانِيَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ وَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ وَرِكِهِ الْيُمْنَى» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَعَدَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا» ، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ التَّوَرُّكِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقْعُدُ كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ لَهَا فَتَجْلِسُ مُتَوَرِّكَةً؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ فَرْضِ السَّتْرِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقَعْدَةِ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا مَرَّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ فِي حَالَةِ الْقَعْدَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَعَدَ وَضَعَ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَكَذَا الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ» ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَوْجِيهَ أَصَابِعِهِ إلَى الْقِبْلَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ تَوْجِيهُهَا إلَى الْأَرْضِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْقَعْدَةِ فَالتَّشَهُّدُ وَالْكَلَامُ فِي التَّشَهُّدِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّشَهُّدِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ التَّشَهُّدِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ سُنَّةِ التَّشَهُّدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي كَيْفِيَّتِهِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِتَشَهُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمَالِكٌ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَنْ يَقُولَ
التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ؟ فَقَالَ: بِوَاوَيْنِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي لَا وَلَا، ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ سُؤَالِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْ التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ؟ فَقُلْت: بِوَاوَيْنِ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ كَمَالُ فِطْنَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنَفَاذُ بَصِيرَتِهِ حَيْثُ كَانَ يَقِفُ عَلَى الْمُرَادِ بِحَرْفٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَهُوَ مِنْ الشُّيُوخِ يَنْقُلُ مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ التَّطْبِيقُ وَغَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَ التَّحِيَّةِ بِالْبَرَكَةِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وَفِيهِ ذُكِرَ السَّلَامُ مُنَكَّرًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109] {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120] {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ: قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ إلَى آخِرِهَا، وَقَالَ: إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» وَأَخْذُ الْيَدِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ، وَكَذَا أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ وَكَذَا عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِهَذَا التَّشَهُّدِ فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَا تُوصَفُ صَلَاتُهُ بِالتَّمَامِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا التَّشَهُّدَ هُوَ الْمُسْتَفِيضُ فِي الْأُمَّةِ الشَّائِعُ فِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ، وَذَكَرَ مِثْلَ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى نَحْوِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ» وَذَكَرَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ هَكَذَا تَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عَطْفَ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْبَعْضِ فَكَانَ كُلُّ لَفْظٍ ثَنَاءً عَلَى حِدَةٍ وَفِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، وَقَوْلَهُ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمِينٌ وَاحِدٌ وَكَذَا السَّلَامُ فِي التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي ذَلِكَ التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ التَّنْكِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّامَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مَعَ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33] وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ التَّرْجِيحِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ عَلَى رِوَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاحِدٌ لَا يَقُولُ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ فَمِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ حَرْفًا أَوْ يَبْتَدِئَ بِحَرْفٍ قَبْلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدَ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ» فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَمَا نُقِلَ فِي أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ وَفِي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فَشَاذٌّ لَمْ يَشْتَهِرْ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالدَّعَوَاتِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَزِيدُ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَتَشَهَّدْ وَسَلِّمْ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ لَا يَزِيدُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّشَهُّدِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ النُّهُوضَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى التَّشَهُّدِ
مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَسَادًا فِي الْمَذْهَبِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ سَلَامُ التَّشَهُّدِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ وَلَوْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ سَاهِيًا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ. وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ مَسْعُودٍ: «إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ الدَّعَوَاتِ مَا شِئْت» وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ وَهُوَ إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ، وَفَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ مَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أَعْطِنِي كَذَا أَوْ زَوِّجْنِي امْرَأَةً، وَمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ مَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ إنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدُّعَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ثُمَّ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُتَدَاوَلُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ، وَلَا يُكْرَهَ أَنْ يَقُولَ فِيهَا: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَبَعْضُهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّقْصِيرَ مِنْهُ فِي الطَّاعَةِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِهِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَازَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا وَهِيَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَهُ فِي فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْأُولَى قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِي صَلَاتِهِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا النَّدْبُ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضُ الْعُمُرِ كَالْحَجِّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْيِينُ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَبِهِ نَقُولُ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: إنَّهَا فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: كُلَّمَا ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ اسْمَهُ تَجِبُ. وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَإِذَا امْتَثَلَ مَرَّةً فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هُوَ الذِّكْرُ أَوْ السَّمَاعُ، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ كَمَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِتَكَرُّرِ أَسْبَابِهَا. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَوَاجِبٌ اسْتِحْسَانًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ: إنَّهُ سَنَةٌ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّشَهُّدِ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْقَعْدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةً؟ فَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِيهَا سُنَّةً لِيَظْهَرَ انْحِطَاطُ رُتْبَتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا
بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُسِيئًا، وَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حَتَّى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا سُنَّةُ التَّشَهُّدِ فَهِيَ الْإِخْفَاءُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَعَدَّ مِنْهَا التَّشَهُّدَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَثْنِيَةِ وَالْأَدْعِيَةِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُشِيرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشِيرُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُسَبِّحَةِ حُدِّثْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَصْنَعُ مَا صَنَعَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ؟ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَعْقِدُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَيُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مَعَ الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَالْكَلَامُ فِي صِفَةِ التَّسْلِيمِ وَقَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ التَّسْلِيمِ، فَمِنْهَا أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّسْلِيمِ عَنْ الْيَمِينِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الشِّمَالِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى. وَلَوْ سَلَّمَ أَوَّلًا عَنْ يَسَارِهِ أَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يُبَالِغَ فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أَوْ قَالَ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الِالْتِفَاتِ. وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْلِيمِ إنْ كَانَ إمَامًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ، وَمِنْهَا أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قَالَا فِي التَّكْبِيرِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَنْوِي خِطَابَهُ لَغْوٌ وَسَفَهٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنْهُمْ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْحَفَظَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ يُقَدِّمُ الْحَفَظَةَ فِي النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ خِطَابٌ فَيَبْدَأُ بِالنِّيَّةِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُمْ الْحَفَظَةُ ثُمَّ الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَدِّمُ الْبَشَرَ فِي النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ إذْ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ الْمَلَائِكَةُ فَكَذَا فِي السَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَرَى تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى تَفْضِيلَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهِيَ تَنْتَظِمُ الْكُلَّ جُمْلَةً بِلَا تَرْتِيبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتِّبَ فِي النِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْحَفَظَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عَنْ يَسَارِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَلَا يَنْوِي عَدَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْإِحَاطَةِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا غَيْرُ، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: يَنْوِي جَمِيعَ رِجَالِ الْعَالَمِ وَنِسَائِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ وَخِطَابُ الْغَائِبِ مِمَّنْ لَا يَبْقَى خِطَابُهُ وَلَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ خِطَابِ مَنْ يَبْقَى خِطَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ يَنْوِي الْحِفْظَةَ لَا غَيْرَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ يَنْوِي الْحِفْظَةَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَيَنْوِي مَا يَنْوِي الْإِمَامُ، وَيَنْوِي أَيْضًا إنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ يَنْوِيهِ فِي يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى
فصل بيان ما يستحب في الصلاة وما يكره
الْيَسَارِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْوِيهِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْإِمَامِ عَنْ يَمِينِ الْمُقْتَدِي وَيَسَارَهُ عَنْ يَسَارِهِ فَكَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الْجَانِبَيْنِ فَيَنْوِيهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُكْرَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا وَمَا يُكْرَهُ. فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْخَاشِعِينَ فِي الصَّلَاةِ، وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي خَاشِعًا شَاخِصًا بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] رَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ» أَيْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلَهُ وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ: يَرْمِي بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَفِي حَالَةِ الرُّكُوعِ إلَى رُءُوسِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ وَفِي حَالَةِ السُّجُودِ إلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ وَفِي حَالَةِ الْقَعْدَةِ إلَى حِجْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَعْظِيمٌ وَخُشُوعٌ. وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالصَّلَاةِ أَمَرَهُمْ كَذَلِكَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ، وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُطَأْطِئُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةَ الْعَيْنِ وَهِيَ النَّظَرُ إلَى الْمَسْجِدِ فَيُخِلُّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُدَبِّحَ الرَّجُلُ تَدْبِيحَ الْحِمَارِ» أَيْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ وَلَا يَتَشَاغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَلَاتِهِ مِنْ عَبَثٍ بِثِيَابِهِ أَوْ بِلِحْيَتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْخُشُوعِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْخُشُوعِ، وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الْوَضْعِ، وَلَا يَجْعَلُ يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ» وَقِيلَ: إنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: إنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أُهْبِطَ أُهْبِطَ مُخْتَصِرًا وَالتَّشَبُّهُ بِالْكَفَرَةِ وَبِإِبْلِيسَ مَكْرُوهٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ. وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى إلَّا أَنْ يُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِسُجُودِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ خَلِيلِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ تَسْوِيَةِ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أَوْ ذَرْ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَأَنْ يُمْسِكْ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَصَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقَةِ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا كَانَ الْحَصَى لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ السُّجُودِ لِحَاجَتِهِ إلَى السُّجُودِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَتَرْكُهُ أَوْلَى؛ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ. وَلَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ» ، «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ» وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ بِمُؤْخِرِ عَيْنَيْهِ» وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَلَا يُقْعِي لِمَا رُوِيَ عَنْ «أَبِي ذَرٍّ» أَنَّهُ قَالَ: «نَهَانِي خَلِيلِي عَنْ ثَلَاثٍ، أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ، وَأَنْ أَقْعَى إقْعَاءَ الْكَلْبِ، وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ» وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ نَصْبُ الْقَدَمَيْنِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْعَقِبَيْنِ وَهُوَ عَقِبُ الشَّيْطَانِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ الْجُلُوسُ عَلَى الْأَلْيَتَيْنِ وَنَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ وَوَضْعُ الْفَخِذَيْنِ عَلَى الْبَطْنِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِإِقْعَاءِ الْكَلْبِ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْجِلْسَةِ الْمَسْنُونَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلَا يَتَرَبَّعُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَأَى ابْنَهُ يَتَرَبَّعُ فِي صَلَاتِهِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يَا أَبَتِ، فَقَالَ: إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ فَكَانَ أَوْلَى، وَلَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. وَلَا يَتَمَطَّى وَلَا يَتَثَاءَبُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِرَاحَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَتُكْرَهُ كَالِاتِّكَاءِ عَلَى شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَظَمَ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّثَاؤُبُ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَضَعْ
يَدَهُ عَلَى فِيهِ» ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّغْطِيَةِ مَنْعًا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَطَّى بِيَدِهِ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ الْيَدِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَلَوْ غَطَّاهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَجُوسِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَلَثَّمُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ النَّارَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ التَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ» إلَّا إذَا كَانَتْ التَّغْطِيَةُ لِدَفْعِ التَّثَاؤُبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا مَرَّ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُفَّ ثَوْبَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَأَنْ لَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا أَكْفِتَ شَعْرًا» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَاقِصًا شَعْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ رَأَى «الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُصَلِّي عَاقِصًا شَعْرَهُ فَحَلَّ الْعُقْدَةَ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْحَسَنُ مُغْضَبًا فَقَالَ: يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ أَقْبِلْ عَلَى صَلَاتِكَ وَلَا تَغْضَبْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ ذَاكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ، وَالْعَقْصُ أَنْ يَشُدَّ الشَّعْرَ ضَفِيرَةً حَوْلَ رَأْسِهِ كَمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أَوْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ فَيَعْقِدَهُ فِي مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُعْتَجِرًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الِاعْتِجَارِ» ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِاعْتِجَارِ قِيلَ: هُوَ أَنْ يَشُدَّ حَوَالَيْ رَأْسِهِ بِالْمِنْدِيلِ وَيَتْرُكَهَا مِنْهُ وَهُوَ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَلُفَّ شَعْرَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِمِنْدِيلٍ فَيَصِيرُ كَالْعَاقِصِ شَعْرَهُ وَالْعَقْصُ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَكُونُ الِاعْتِجَارُ إلَّا مَعَ تَنَقُّبٍ وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَجْعَلَ طَرَفًا مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ كَمُعْتَجَرِ النِّسَاءِ إمَّا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ أَوْ لِلتَّكَبُّرِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَغْمِيضِ الْعَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفِي التَّغْمِيضِ تَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَذَا الْعَيْنُ، وَلَا يُرَوِّحُ فِي الصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ وِتْرِكِ الْخُشُوعِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْزُقَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسْجِدِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْحَصَى أَوْ يَتَمَخَّطَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنْ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ فِي النَّارِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلِأَنَّ النُّخَامَةَ وَالْمُخَاطَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ طَبْعًا وَإِذَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَوْ دَفَنَهُ فِي الْمَسْجِدِ تَحْتَ الْحَصِيرِ يُرَخَّصُ لَهُ ذَلِكَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ فِي دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ» ؛ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَإِذَا دُفِنَ لَا يُسْتَقْذَرُ وَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنْفِيرِ وَالرَّفْعُ أَوْلَى تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ عَمَّا يَنْزَوِي مِنْهُ. وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كُرِهَ فِي الْفَرْضِ وَرُخِّصَ فِي التَّطَوُّعِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَّ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ السُّنَّةِ وَفِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَعَدَدِ التَّسْبِيحِ خُصُوصًا فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ الَّتِي تَوَارَثَتْهَا الْأُمَّةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْعَدِّ بِالْيَدِ تَرْكًا لِسُنَّةِ الْيَدِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَالْقَلِيلُ مِنْهُ إنْ لَمْ يُفْسِدْ الصَّلَاةَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ الْكَرَاهَةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَدِّ بِالْيَدِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ وَيُعَيِّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ أَوْ يَعُدُّ بِقَلْبِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَلَى دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ أَوْ كَانَ الْقَوْمُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْإِمَامُ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ أَوْ كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ مَعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَوْ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ يُكْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ قَدْرَ قَامَةِ الرَّجُلِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْقَامَةَ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ هُبُوطًا وَصُعُودًا وَقَلِيلُ الِارْتِفَاعِ عَفْوٌ وَالْكَثِيرُ لَيْسَ بِعَفْوٍ فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ مَا يُجَاوِزُ الْقَامَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا كَانَ دُونَ الْقَامَةِ لَا يُكْرَهُ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَامَ بِالْمَدَائِنِ لِيُصْلِيَ بِالنَّاسِ عَلَى دُكَّانٍ فَجَذَبَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ثُمَّ قَالَ: مَا الَّذِي أَصَابَكَ؟ أَطَالَ الْعَهْدُ أَمْ نَسِيتَ؟ أَمَا سَمِعْت رَسُولُ وَلَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَقُومُ الْإِمَامُ عَلَى مَكَان أَنْشَزَ مِمَّا عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ؟» وَفِي رِوَايَةٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَصْحَابَكَ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ
تَذَكَّرْتُ حِينَ جَذَبْتَنِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُمْكِنُ الْجَذْبُ عَنْهُ مَا دُونَ الْقَامَةِ، وَكَذَا الدُّكَّانُ الْمَذْكُورُ يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَا دُونَ الْقَامَةِ؛ وَلِأَنَّ كَثِيرَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ فَقَلِيلُهَا يُورِثُ الْكَرَاهَةَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا صَنِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَسْفَلَ مِنْ الْقَوْمِ يُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي صَنِيعِهِمْ وَلَا تَشَبُّهَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ مَكَانَ إمَامِهِمْ لَا يَكُونُ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِ الْقَوْمِ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ كَوْنِ الْمَكَانِ أَرْفَعَ كَانَ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَوُجُودِ بَعْضِ الْمُفْسِدِ وَهُوَ اخْتِلَافُ الْمَكَانِ وَهَهُنَا وُجِدَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَهِيَ وُجُودُ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ مَعَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَمَنْ اعْتَبَرَ مَعْنَى التَّشَبُّهِ قَالَ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ؛ لِزَوَالِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُشَارِكُونَ الْإِمَامَ فِي الْمَكَانِ، وَمَنْ اعْتَبَرَ وُجُودَ بَعْضِ الْمُفْسِدِ قَالَ: يُكْرَهُ وَهُوَ قِيَاسُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِوُجُودِ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ. وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ كَمَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لَا يُكْرَهُ كَيْفَمَا كَانَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُرَاعَاةِ. وَيُكْرَهُ لِلْمَارِّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» ، وَلَمْ يُوَقِّتُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ قَدْرَ الْمُرُورِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرُ مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِقْدَارُ الصَّفَّيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرُ مَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ لَوْ صَلَّى بِخُشُوعٍ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ الْمَارَّ أَيْ يَدْفَعَهُ حَتَّى لَا يَمُرَّ حَتَّى لَا يَشْغَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ فَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَلَوْ مَرَّ لَا تُقْطَعُ الصَّلَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَارُّ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ أَوْ الْأَخْذِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ مِنْ غَيْرِ مَشْيٍ وَمُعَالَجَةٍ شَدِيدَةٍ حَتَّى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنْ لَمْ يَقِفْ بِإِشَارَتِهِ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقِتَالِ؛ لِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَأَرَادَ ابْنُ مَرْوَانَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ فَلَمَّا حَاذَاهُ ضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ ضَرْبَةً أَقْعَدَهُ عَلَى اسْتِهِ فَجَاءَ إلَى أَبِيهِ يَشْكُو أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَ ابْنِي؟ فَقَالَ: مَا ضَرَبْتُ ابْنَكَ إنَّمَا ضَرَبْتُ شَيْطَانًا، فَقَالَ: لِمَ تُسَمِّي ابْنِي شَيْطَانًا، فَقَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَأَرَادَ مَارٌّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» يَعْنِي أَعْمَالَ الصَّلَاةِ، وَالْقِتَالُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاة مُبَاحًا، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إنَّ الدَّرْءَ رُخْصَةٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَدْرَأَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَكَذَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُتْرَكَ الدَّرْءُ، وَالْأَمْرُ بِالدَّرْءِ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الرُّخْصَةِ كَالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ كَالْأُسْطُوَانَةِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرُورِ فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِلِ وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُودًا أَوْ يَضَعَ شَيْئًا أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ كَيْ لَا يَحْتَاجَ إلَى الدَّرْءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» . وَرُوِيَ أَنَّ «الْعَنَزَةَ كَانَتْ تُحْمَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتُرْكَزَ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا حَتَّى قَالَ: عَوْنُ بْنُ جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَطْحَاءِ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ فَأَخْرَجَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى إلَيْهَا وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا» وَإِنَّمَا قُدِّرَ أَدْنَاهُ بِذِرَاعٍ طُولًا دُونَ اعْتِبَارِ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي غِلَظِ أُصْبُعٍ؛ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُجْزِئُ مِنْ السُّتْرَةِ السَّهْمُ؛ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وَيَدْنُو مِنْ السُّتْرَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا» فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً هَلْ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا؟ حَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّ الْخَطَّ وَتَرْكَهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا إمَّا طُولًا شِبْهَ ظِلِّ السُّتْرَةِ أَوْ عَرْضًا شِبْهَ الْمِحْرَابِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ فَلْيَخُطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا» وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ غَرِيبٌ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا نَأْخُذُ بِهِ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ أَوْ الْحَيَّةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ وَهُمَا الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ» وَهَذَا تَرْخِيصٌ وَابَاحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ عَالَجَ مُعَالَجَةً كَثِيرَةً فِي قَتْلِهِمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ. ، وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْبِقَ الْإِمَامَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قَدْ بَدُنْتُ» وَلَوْ سَبَقَهُ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يُشَارِكْهُ الْإِمَامُ فِي الرُّكْنِ الَّذِي سَبَقَهُ أَصْلًا لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يُعِدْ الرُّكْنَ وَسَلَّمَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُتَابَعَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي الرُّكْنِ وَإِنْ شَارَكَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ الرُّكْنِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بَاطِلًا وَالْبَاقِي بِنَاءً عَلَيْهِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ وَلَنَا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ رُكُوعٌ تَامٌّ فَيُكْتَفَى بِهِ، وَانْعِدَامُ الْمُشَارَكَةِ فِيمَا قَبْلَهُ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَالَ: أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . وَيُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ بِخِلَافِ التَّنَفُّسِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، وَهَلْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِالنَّفْخِ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا تَفْسُدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ أَتَى الْإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَنْ يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ «دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّكُوعِ فَكَبَّرَ كَمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَدَبَّ رَاكِعًا حَتَّى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ إحْدَى الْكَرَاهَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِالصُّفُوفِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّهُ فِعْلٌ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنْ مَشَى خُطْوَةً خُطْوَةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ خُطْوَتَيْنِ تَفْسُدُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تَفْسُدُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ الْكَرَاهَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي رَكَعَ فِيهِ فَيَكُونُ مُصَلِّيًا خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمُنْتَبِذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ» وَأَدْنَى أَحْوَالِ النَّفْيِ هُوَ نَفْيُ الْكَمَالِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا وَجَدَ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ فَلَا تُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْعُذْرِ وَإِنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَقُومَ خَلْفَ الصَّفِّ؟ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا الرَّجُلَ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ فَوَجَبَ الِانْفِرَادُ لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي إذَا لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً أَنْ يَنْتَظِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ مِنْ الصَّفِّ إلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَحُسْنَ الْخُلُقِ لِكَيْ لَا يَغْضَبَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَقِفْ حِينَئِذٍ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيُؤْمَرُ مَنْ أَدْرَكَ الْقَوْمَ رُكُوعًا أَنْ يَأْتِيَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا يُعَجِّلَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّ إلَى الصَّفِّ فَمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَمَا فَاتَهُ قَضَى، وَأَصْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» . وَيُكْرَهُ لِمُصَلِّي الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ يُخِلُّ بِالْقِيَامِ وَتَرْكُ الْقِيَامِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَلَوْ فَعَلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقِيَامِ وَهَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمُصَلِّي التَّطَوُّعِ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ فِي التَّطَوُّعِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَالْإِخْلَالُ بِهِ أَوْلَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى حَبْلًا مَمْدُودًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: لِفُلَانَةَ تُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَعْيَتْ اتَّكَأَتْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتُصَلِّي فُلَانَةُ بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَعْيَتْ فَلْتَنَمْ» ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاعْتِمَادِ بَعْضُ التَّنَعُّمِ وَالتَّحَبُّرِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَيُكْرَهُ السَّدْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سَدْلَ الثَّوْبِ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى
كَتِفَيْهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ. وَرُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: السَّدْلُ يُكْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّدْلُ عَلَى الْقَمِيصِ وَعَلَى الْإِزَارِ وَقَالَ: لِأَنَّهُ صُنْعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ السَّدْلُ بِدُونِ السَّرَاوِيلِ فَكَرَاهَتُهُ لِاحْتِمَالِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِزَارِ فَكَرَاهَتُهُ لِأَجْلِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِهِ كَيْفَمَا كَانَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ كَانَ مِنْ الْخُيَلَاءِ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ السَّدْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» . وَيُكْرَهُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هُوَ أَنْ يَجْمَعَ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ وَيُخْرِجَهُمَا تَحْتَ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى إحْدَى كَتِفَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ وَإِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَصَلَ بَيْنَ الِاضْطِبَاعِ وَلُبْسَةِ الصَّمَّاءِ فَقَالَ: إنَّمَا تَكُونُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إزَارٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ إزَارٌ فَهُوَ اضْطِبَاعٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ تَحْتَ إحْدَى ضَبْعَيْهِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ لُبْسُ أَهْلَ الْكِبْرِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ لُبْسَةَ الصَّمَّاءِ أَنْ يَلُفَّ الثَّوْبَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ مِنْ الْعُنُقِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَوْ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ اللُّبْسَ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: لُبْسٌ مُسْتَحَبٌّ، وَلُبْسٌ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلُبْسٌ مَكْرُوهٌ. أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَعِمَامَةٍ كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ فِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالزِّينَةُ جَمِيعًا. وَأَمَّا اللُّبْسُ الْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَوْ قَمِيصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَأَصْلُ الزِّينَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتِمَّ الزِّينَةُ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟» أَشَارَ إلَى الْجَوَازِ وَنَبَّهَ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ ثَوْبَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الثَّوْبُ صَفِيقًا لَا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ مَكْشُوفَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ» ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَمِيصَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ مَحْلُولَ الْجَيْبِ وَالزِّرِّ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ فِيمَنْ صَلَّى مَحْلُولَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إزَارٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ نَظَرَ رَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ مِنْ زِيقِهِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ نَظَرَ لَمْ يَرَ عَوْرَتَهُ جَازَتْ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ إذَا نَظَرَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَيَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ. وَأَمَّا اللُّبْسُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ وَسَرَاوِيلَ وَاحِدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ إنْ حَصَلَ فَلَمْ تَحْصُلْ الزِّينَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَرْسَلْتُكَ فِي حَاجَةٍ أَكُنْتَ مُنْطَلِقًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فِعْلُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَفِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَبْعَدُ مِنْ الْجَفَاءِ وَفِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهَا ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا دِرْعٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ فَإِنْ صَلَّتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحَةً بِهِ يُجْزِئُهَا إذَا سَتَرَتْ بِهِ رَأْسَهَا وَسَائِرَ جَسَدِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْهَا مَكْشُوفًا فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ رَأْسَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ مِنْ التُّرَابِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُكْرَهُ فَلَأَنْ
فصل بيان ما يفسد الصلاة
لَا يُكْرَهَ إدْخَالُ فِعْلٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وَأَمَّا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقَالَ: قُلْتُ فَإِنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ؟ قَالَ: لَا، أَكْرَهُهُ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ وَجَعَلَ كَلِمَةَ لَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ أَكْرَهُ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي آثَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ فِي الصَّلَاةِ» وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ فَكَذَا هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ " لَا " مَقْطُوعَةٌ عَنْ قَوْلِهِ أَكْرَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ يَمْسَحُ؟ فَقَالَ: لَا نَفْيًا لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ وَقَالَ: أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ فَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْحِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَبْلَ السَّلَامِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْحَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْجُدَ ثَانِيًا فَيَلْتَزِقُ التُّرَابُ بِجَبْهَتِهِ ثَانِيًا وَالْمَسْحُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ مُفِيدٌ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ تَحْصِيلُهُ فِي وَقْتٍ لَا يُبَاحُ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ وَعَدَّ مِنْهَا مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ» وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ تَرَكَهُ لَا يُؤْذِيهِ وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ عَلَى الْمَسْحِ بِالْيَدَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ تَرْكُ الْمَسْحِ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَمُحَمَّدٌ يُسَاعِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ» ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ كَانَ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا يُكْرَه لَهُ فِي فَصْلِ الْإِمَامَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. فَالْمُفْسِدُ لَهَا أَنْوَاعٌ، مِنْهَا الْحَدَثُ الْعَمْدُ قَبْلَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدَثِ السَّابِقِ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِهِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ رُعَافٍ أَوْ دَمٍ سَائِلٍ مِنْ جُرْحٍ أَوْ دُمَّلٍ بِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ اسْتِحْسَانًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْسِدُهَا فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قِيَاسًا، وَالْكَلَامُ فِي الْبِنَاءِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ أَصْلِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ لَوْ كَانَ جَائِزًا، وَفِي بَيَانِ مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ كَمَا لَا تَنْعَقِدُ مَعَهُ لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا إذْ الشَّيْءُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِيَّتِهِ لَا يَبْقَى مَعَ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ وَلِأَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْيَ فِي الصَّلَاةِ مُنَافٍ لَهَا وَبَقَاءُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ مُحَالٌ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ النَّصُّ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ انْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» وَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةَ الثَّلَاثَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَثَبَتَ الْبِنَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْلًا وَفِعْلًا وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ. فَمِنْهَا الْحَدَثُ السَّابِقُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَالثَّانِي الْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا وَكَذَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِ الْقَوْمِ خُصُوصًا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ وَرُبَّمَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْوُضُوءِ لَفَاتَ عَلَيْهِ فَضِيلَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْأَفْضَلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ
التَّلَاقِي فَالشَّرْعُ نَظَرَ لَهُ بِجَوَازِ الْبِنَاءِ صِيَانَةً لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ لِحُصُولِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ مُتَعَمِّدَ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ جَانٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا كَانَ بِهِ دُمَّلٌ فَعَصَرَهُ حَتَّى سَالَ، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رُكْبَتِهِ فَانْتَفَخَ مِنْ اعْتِمَادِهِ عَلَى رُكْبَتِهِ فِي سُجُودِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ، وَكَذَا إذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ عَمِلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا جُنَّ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ لَا يَبْنِي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَهُمَا فِي الصَّلَاةِ نَادِرٌ فَلَمْ يَكُونَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَكَذَا لَوْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ عَلَى بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ مَوْضِعٍ فَانْفَتَلَ فَغَسَلَهُ لَا يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَبْنِي. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ وَصَلَتْ إلَى بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَكَانَ مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّ هَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِيهِ الْخَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَعَفَ فَأَصَابَ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ تِلْكَ النَّجَاسَةَ وَهَهُنَا لَا يُحْتَاجُ إلَى غَسْلِ النَّجَاسَةِ لَا غَيْرَ، فَلَمَّا جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هُنَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ بُدًّا مِنْ غَسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْ الثَّوْبِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَيُلْقِي مَا تَنَجَّسَ مِنْ سَاعَتِهِ وَيُصَلِّي فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَلَوْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ عَلَى ثَوْبِ الْمُصَلِّي فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ مَوْضِعٍ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَلْقَى النَّجِسَ مِنْ سَاعَتِهِ وَمَضَى عَلَى صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ لِوُجُودِ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ لَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ عَفْوًا وَإِنْ أَدَّى رُكْنًا أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ يَسْتَقْبِلُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَانْصَرَفَ وَغَسَلَهُ لَا يَبْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَلَوْ أَصَابَتْهُ بُنْدُقَةٌ فَشَجَّتْهُ أَوْ رَمَاهُ إنْسَانٌ بِحَجَرٍ فَشَجَّهُ أَوْ مَسَّ رَجُلٌ قَرْحَهُ فَأَدْمَاهُ أَوْ عَصَرَهُ فَانْفَلَتَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ حَدَثٌ آخَرُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْنِي وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ فِي الْمِحْرَابِ اسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ حَصَلَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَكَانَ كَالْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ، وَلِأَنَّ الشَّاجَّ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا فَتْحُ بَابِ الدَّمِ فَبَعْدَ ذَلِكَ خُرُوجُ الدَّمِ بِنَفْسِهِ لَا بِتَسْيِيلِ أَحَدٍ فَأَشْبَهَ الرُّعَافَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْحَدَثَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ، وَكَذَا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ الرَّمْيِ فَلَا يَقْصِدُهُ غَالِبًا وَالْإِصَابَةُ خَطَأٌ نَادِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّزُ خَوْفًا مِنْ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ الْمَحْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ جَازَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ قَاعِدًا؟ وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ بِفِعْلِ الْبَشَرِ بِأَنْ قَيَّدَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَجُزْ لِغَلَبَةِ الْأَوَّلِ وَنُدْرَةِ الثَّانِي كَذَا هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ هَذَا فَتَحَ بَابَ الدَّمِ فَنَقُولُ: نَعَمْ وَلَكِنْ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْمَائِعِ حَتَّى سَالَ الْمَائِعُ جُعِلَ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْفَاتِحِ؛ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِ السَّائِلِ فِي سَيَلَانِهِ وَلِهَذَا يَجِبُ ضَمَانُ الدُّهْنِ عَلَى شَاقِّ الزِّقِّ إذَا سَالَ الدُّهْنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ سَقَطَ الْمَدَرُ مِنْ السَّقْفِ مِنْ غَيْرِ مَشْيِ أَحَدٍ عَلَى السَّطْحِ عَلَى الْمُصَلِّي أَوْ سَقَطَ الثَّمَرُ مِنْ الشَّجَرِ عَلَى الْمُصَلِّي أَوْ أَصَابَهُ حَشِيشُ الْمَسْجِدِ فَأَدْمَاهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ الْبِنَاءَ بِالْإِجْمَاعِ لِانْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِ الْعِبَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قِيلَ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَاسْتَخْلَفَهُ لِيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ قَالَ آهٍ قَتَلَنِي الْكَلْبُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا حَقِيقَةُ الْحَدَثِ لَا وَهْمُ الْحَدَثِ وَلَا مَا جُعِلَ حَدَثًا حُكْمًا حَتَّى لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ لَكِنَّهُ خَافَ أَنْ يَبْتَدِرَهُ فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ سَبَقَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ فَصَارَ كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَكَذَا إذَا جُنَّ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا
لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ يَنْدُرُ وُقُوعُهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ إذَا جُرِحَ وَقْتَ صَلَاتِهِ، وَالْمَاسِحُ عَلَى الْخُفِّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ مَسْحِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَظْهَرُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ فِي كَثْرَةِ الْوُقُوعِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، وَكَذَا لَوْ اعْتَرَضَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَيُمْنَعُ الْبِنَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَمِنْهَا الْحَدَثُ الصَّغِيرُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ فِي الْحَدَثِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الْجَنَابَةُ بِأَنْ نَامَ فِي الصَّلَاةِ فَاحْتَلَمَ أَوْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ تَفَكُّرٍ فَأَنْزَلَ؛ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ يَسِيرٌ وَالِاغْتِسَالُ عَمَلٌ كَثِيرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ؛ وَلِأَنَّ الِاغْتِسَالَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَذَلِكَ مِنْ قَوَاطِعِ الصَّلَاةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ يَجُوزُ يُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَفْعَلَ بَعْدَ الْحَدَثِ فِعْلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحْدَثَ إلَّا مَا لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ أَوْ كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ مِنْ تَوَابِعِهِ وَتَتِمَّاتِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ ضَحِكَ مُتَعَمِّدًا أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ لِمَا نَذْكُرُ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْهَا بَدَا، وَكَذَا إذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَانَ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ، وَكَذَا لَوْ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَلَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَهُ مِنْهُ بُدٌّ. وَكَذَا لَوْ اسْتَقَى مِنْ الْبِئْرِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إلَى الْوُضُوءِ فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ أَوْ اسْتَقَى مِنْ الْبِئْرِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَمْرٌ لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَالْمَشْيُ وَالِاغْتِرَافُ وَالِاسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُضُوءِ وَلَوْ اسْتَنْجَى فَإِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ بَطَلَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ وَلِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ اسْتَنْجَى تَحْتَ ثِيَابِهِ بِحَيْثُ لَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ فَكَانَ مِنْ تَتِمَّاتِهِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَإِنَّهُ قَالَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ إدْخَالَ عَمَلٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الْوُضُوءِ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْوُضُوءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَتُتَحَمَّلُ الزِّيَادَةُ كَمَا يُتَحَمَّلُ الْأَصْلُ وَهَذَا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى هِيَ الْفَرْضُ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ نَفْلٌ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ فَالثَّلَاثَةُ كُلُّهَا فَرْضٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ لَمَّا الْتَحَقَتَا بِالْأُولَى صَارَ الْكُلُّ وُضُوءًا وَاحِدًا فَيَصِيرُ الْكُلُّ فَرْضًا كَالْقِيَامِ إذَا طَالَ وَالْقِرَاءَةِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَوْعَبَ الْمَسْحَ وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَتَى بِسَائِرِ سُنَنِ الْوُضُوءِ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الْوُضُوءِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ فَيُتَحَمَّلُ كَمَا يُتَحَمَّلُ الْأَصْلُ، وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا عَادَ إلَى مَقَامِهِ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، وَقِيلَ الْقِيَاسُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُتَيَمِّمٌ وَجَدَ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا مَشَى مُتَيَمِّمًا حَصَّلَ فِعْلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَلَا يُعْفَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِعْلًا فِي الصَّلَاةِ هُوَ مُضَادٌّ لَهَا فَلَا يُفْسِدُهَا، وَمَا مَشَى كُلَّ ذَلِكَ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِتَحْصِيلِ التَّطْهِيرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ ثُمَّ وَجَدَ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ وُجِدَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ قَلَّ مَعَ التَّيَمُّمِ فَظَهَرَ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ السَّابِقِ، وَإِنَّ التَّيَمُّمَ مَا كَانَ طَهَارَتُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَدَّى شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ لَا يَخْتَلِفُ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْحَدَثُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي آخِرِهَا حَتَّى لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِلَفْظَةِ السَّلَامِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ عِنْدَنَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُ
فصل الكلام في محل البناء وكيفيته في الصلاة
الْجَوَابُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ سِيَّمَا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ عَلَى عِلْمٍ بِالْحَدَثِ أَوْ عَلَى ظَنٍّ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَحْدَثَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعَ وَبَنَى فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يَبْنِي. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَبْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا عَلِمَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَمَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا فَرَأَى سَرَابًا فَظَنَّهُ مَاءً فَانْصَرَفَ فَإِنَّهُ لَا يَبْنِي سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حُكْمَ الْمَكَانِ لَمْ يَتَبَدَّلْ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَالِانْصِرَافُ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَعَزْمِ الرَّفْضِ بَلْ لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَ تَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ هَذَا الِانْصِرَافِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْصَرِفْ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَلِمَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَكَانِ قَدْ تَبَدَّلَ وَبِخِلَافِ تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْصِرَافَ لَيْسَ لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِ بَلْ لِقَصْدِ الْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَعَزْمِ الرَّفْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَ لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْكَلَامَ وَالْحَدَثَ الْعَمْدَ وَالْقَهْقَهَةَ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ سَاهِيًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ سَوَاءٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ فَظَنَّ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ أَنَّهَا تَرْوِيحَةٌ فَسَلَّمَ أَوْ صَلَّى الظُّهْرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْعِشَاءَ وَالظُّهْرَ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ يُعْطَى لِمَا انْتَهَى إلَيْهِ الصُّفُوفُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ إنْ مَشَى يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً أَوْ خَلْفًا، وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِنَاءٌ وَلَا سُتْرَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ وَالصَّحِيحُ هُوَ التَّقْدِيرُ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ سُتْرَةٌ فَإِنَّهُ يَبْنِي مَا لَمْ يُجَاوِزْهُ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَجْعَلُ لِمَا دُونَهَا حُكْمَ الْمَسْجِدِ حَتَّى لَا يُبَاحُ الْمُرُورُ دَاخِلَ السُّتْرَةِ وَيُبَاحُ خَارِجُهَا، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ فَمَسْجِدُهُ قَدْرُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ إلَّا إذَا مَشَى أَمَامَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَيُعْطَى لِدَاخِلِ السُّتْرَةِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ، لِمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : الْكَلَامُ فِي مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، الْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إلَى مُصَلَّاهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ. وَلَوْ أَتَى الْمَسْجِدَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشْيٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إلَى الْمَاءِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إمَامُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ. وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ إلَّا إذَا كَانَ بَيْتُهُ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ تَغَيُّرًا وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مُقْتَدِيًا وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءُ تَحْرِيمَةٍ وَهُوَ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلًا عَمَّا كَانَ هُوَ فِيهِ إلَى هَذَا فَيَبْطُلُ ذَلِكَ. وَمَا حَصَلَ فِيهِ بَعْضُ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كُلِّ الصَّلَاةِ بِأَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ، ثُمَّ إذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَلَا يَضُرُّهُ إنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ. وَلَوْ تَابَعَ إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ إمَامُهُ مِنْ الصَّلَاةِ يُخَيَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُنْفَرِدِ تَوَضَّأَ وَقَدْ فَرَغَ
فصل الكلام في الاستخلاف في الصلاة
الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ لَا يَقْعُدُ هَذَا الْمُقْتَدِي فِي الثَّانِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَقْعُدُ، ذِكْرُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَوْلَى وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إلَّا لِأَمْرٍ فَوْقَهُ كَمَا إذَا كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَرَكَ الْإِمَامُ الْقَعْدَةَ وَقَامَ بِتَرْكِهَا الْمُقْتَدِي مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَهُوَ الْقِيَامُ لِكَوْنِهِ فَرْضًا وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّاحِقِ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لَا تَتَحَقَّقُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْقَعْدَةِ، وَلَنَا أَنَّ اللَّاحِقَ خَلْفَ الْإِمَامِ تَقْدِيرًا حَتَّى يَسْجُدَ لِسَهْوِ الْإِمَام وَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِ نَفْسِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي الْقَضَاءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ خَلْفَهُ حَقِيقَةً يَتْرُكُ الْقَعْدَةَ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ فَكَذَا إذَا كَانَ خَلْفَهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ كَانَ إمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ وَالْأَمْرُ فِي مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ. فِي مَوَاضِعَ: أَحَدِهَا فِي جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالثَّانِي فِي شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَالثَّالِثِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَيُصَلِّي الْقَوْمُ وُحْدَانًا بِلَا إمَامٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْإِمَامِ إذْ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ فَلَا يَمْلِكُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ وَكَذَا الْقَوْمُ لَا يَمْلِكُونَ النَّقْلَ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْإِمَامَةُ لَا بِتَفْوِيضٍ مِنْهُمْ بَلْ بِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ الِاقْتِدَاءُ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالتَّكْبِيرَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ فِي حَقِّ الثَّانِي بِخِلَافِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَاتٍ تَثْبُتُ لَهُ شَرْعًا بِالتَّفْوِيضِ وَالْبَيْعَةِ كَمَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ وَالْقَاضِي فَيَقْبَلُ التَّمْلِيكَ وَالْعَزْلَ لَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَقَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ مَنْ لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ الصَّلَاةَ فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ» وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ لِكَوْنِ الْمُضِيِّ مِنْ بَابِ التَّقَدُّمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي حَقِّ كُلِّ إمَامٍ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَتَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا، وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ؛ وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إلَى تَمَامِ صَلَاتِهِمْ بِالْإِمَامِ وَقَدْ الْتَزَمَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ بِنَفْسِهِ يَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُمْ كَيْ لَا تَبْطُلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ بِالْمُنَازَعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْإِمَامَ لَا وِلَايَةَ لَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ وِلَايَةُ الْمَتْبُوعِيَّةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَأَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ إلَّا بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ وَأَنْ يَقْرَأَ فَتَصِيرَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُمْ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْإِمَامَةِ بِنَفْسِهِ مَلَكَ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخِلَافَةِ لَا مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنَّ الثَّانِيَ يَخْلُفُ الْأَوَّلَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ كَالْوَارِثِ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَالْخِلَافَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْوِلَايَةِ وَالْأَمْرِ بَلْ شَرْطُهَا الْعَجْزُ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيمُ مِنْ الْإِمَامِ لِلتَّعْيِينِ كَيْ لَا تَبْطُلَ بِالْمُنَازَعَةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ خَلْفَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يَصِيرُ إمَامًا وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَا فَوَّضَ إلَيْهِ، وَكَذَا التَّقْدِيمُ مِنْ الْقَوْمِ لِلتَّعْيِينِ دُونَ التَّفْوِيضِ فَصَارَ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّ الْبَيْعَةَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلتَّمْلِيكِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يَمْلِكُ أُمُورًا لَا تَمْلِكُهَا الرَّعِيَّةُ وَهِيَ إقَامَةُ الْحُدُودِ فَكَذَا هَذَا فَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ الْقَوْمُ رَجُلًا جَازَ مَا دَامَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَخْلَفَ كَانَ سَعْيُهُ لِلْقَوْمِ نَظَرًا لَهُمْ كَيْ لَا تَبْطُلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ فَإِذَا فَعَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ جَازَ كَمَا فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى لَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ غَيْرَهُ وَمَاتَ وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَنَصَّبُوا مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ فَعَلَ فَعَلَ لَهُمْ فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ وَتَقْدِيمِ الْقَوْمِ وَالْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِهِ حَاجَةً إلَى صِيَانَةِ صَلَاتِهِ وَلَا طَرِيقَ لَهَا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْإِمَامِ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ وَالْقَوْمِ عَنْ التَّقْدِيمِ إلَّا ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ائْتَمُّوا بِهِ فَقَدْ رَضُوا بِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُمْ قَدَّمُوهُ، وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ أَوْ الْقَوْمُ رَجُلَيْنِ فَإِنْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا
إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ قَبْلَ الْآخَرِ تَعَيَّنَ هُوَ لِلْإِمَامَةِ. وَجَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الثَّانِي وَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا تَقَدَّمَ بِتَقْدِيمِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ لِتَقْدِيمٍ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَصَارَ إمَامًا لِلْكُلِّ كَالْأَوَّلِ فَصَارَ الْإِمَامُ الثَّانِي وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ مُنْفَرِدِينَ عَمَّنْ صَارَ إمَامًا لَهُمْ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لِمَا مَرَّ مِنْ الْفِقْهِ، وَإِنْ وَصَلَا مَعًا فَإِنْ اقْتَدَى الْقَوْمُ بِأَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ هُوَ لِلْإِمَامَةِ وَإِنْ اقْتَدَوْا بِهِمَا جَمِيعًا بَعْضُهُمْ بِهَذَا وَبَعْضُهُمْ بِذَاكَ فَإِنْ اسْتَوَتْ الطَّائِفَتَانِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لِمَكَانِ التَّعَارُضِ فَبَطَلَتْ إمَامَتُهُمَا وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ لِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ عَنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ خَلِيفَةٍ لِلْقَوْمِ وَلِأَدَائِهِمْ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدِينَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: صَحَّ تَقْدِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ تَرْجِيحِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ عَلَيْهِ فَجُعِلَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ إمَامُ كُلِّ طَائِفَةٍ إمَامًا لِلْكُلِّ كَإِمَامِ أَكْثَرِ الطَّائِفَتَيْنِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ وَعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى إمَامِ كُلِّ طَائِفَةٍ وَمَنْ تَابَعَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْآخَرِ فَإِنْ لَمْ يَقْتَدُوا جُعِلُوا مُنْفَرِدِينَ أَوْ أَنَّ وُجُوبَ الِاقْتِدَاءِ وَإِنْ اقْتَدَوْا أَدَّوْا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِمَامَيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فَلَمْ يَجُزْ. وَلَوْ كَانَتْ الطَّائِفَتَانِ عَلَى التَّفَاوُتِ فَإِنْ اقْتَدَى جَمَاعَةُ الْقَوْمِ بِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ اقْتَدَيَا بِالثَّانِي فَصَلَاةُ مِنْ اقْتَدَى بِهِ الْجَمَاعَةُ صَحِيحَةٌ وَصَلَاةُ الْآخَرِ وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا وَصَلَا مَعًا وَقَدْ تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَا إمَامَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ وَأَمْكَنَ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ نَصًّا وَاعْتِبَارًا، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» ، وَقَوْلُهُ «مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» ، وَقَوْلُهُ «كَدَرُ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ صَفْوِ الْفِرْقَةِ» . وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الشُّورَى: إنْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ اقْتَدَى بِكُلِّ إمَامٍ جَمَاعَةٌ لَكِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ الْآخَرِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فَقَالَ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ تَامٌّ يَتِمُّ بِهِ نِصَابُ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ الْأَقَلُّ مُسَاوِيًا لِلْأَكْثَرِ حُكْمًا كَالْمُدَّعِيَيْنِ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَازَتْ صَلَاةُ الْأَكْثَرِينَ وَتَعَيَّنَ الْفَسَادُ فِي الْآخَرِينَ كَمَا فِي الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ وَاسْتَدَلَّ بِوَضْعِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا قَدَّمَ الْقَوْمُ أَوْ الْإِمَامُ رَجُلَيْنِ فَأَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً جَازَتْ صَلَاةُ أَكْثَرِ الطَّائِفَتَيْنِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ لَوْ كَانَتْ جَمَاعَةً تَرْجَحُ أَيْضًا بِالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ لَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ كَانَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً وَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ أَمِيرَ عَسْكَرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَالَ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ فَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِرُءُوسٍ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْفُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى حَتَّى إنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نِصْفَ مَا أَتَى بِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِأَنْ كَانَتْ الرُّءُوسُ عَشْرَةً فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُعْطِيَ تِسْعَةً مِنْ ذَلِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ يَقَعُ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَيُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَلْفَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ صَارَ إمَامًا نَوَى الْإِمَامَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، قَامَ فِي مَكَانِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ يَقُمْ، قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يُقَدِّمْهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ لِلْإِمَامَةِ مَا لَمْ يُقَدِّمْهُ أَوْ يَتَقَدَّمْ حَتَّى بَقِيَتْ الْإِمَامَةُ لِلْأَوَّلِ كَانَ بِحُكْمِ التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَهَهُنَا لَا تَعَارُضَ فَتَعَيَّنَ هُوَ لِحَاجَتِهِ إلَى إبْقَاءِ صَلَاتِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ لَوْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ هَذَا الثَّانِي، وَالثَّانِي لَوْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِالثَّانِي وَفَسَادُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي لَا تُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَثَرٌ فِي فَسَادِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي وَدَخَلَ فِي صَلَاةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ قَالَ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِمَامَةِ فَبِنَفْسِ انْصِرَافِهِ تَتَحَوَّلُ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ فَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ
فصل شرائط جواز الاستخلاف
وَصَلَّى بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَتَحَوَّلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِالِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهَذَا الثَّانِي ثُمَّ أَحْدَثَ الثَّانِي صَارَ الثَّالِثُ إمَامًا لِتَعَيُّنِهِ لِذَلِكَ فَإِنْ أَحْدَثَ الثَّالِثُ وَخَرَجَ قَبْلَ رُجُوعِهِمَا أَوْ رُجُوعِ أَحَدِهِمَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمَّا صَارَ إمَامًا صَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُقْتَدِيَيْنِ بِهِ فَإِذَا خَرَجَ هُوَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ إمَامَهُمَا خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ فَتَحَقَّقَ تَبَايُنُ الْمَكَانِ فَفَسَدَ الِاقْتِدَاءُ لِفَوْتِ شَرْطِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ، وَإِنْ كَانَ تَبَايُنُ الْمَكَانِ مَوْجُودًا حَالَ بَقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا لِحَاجَةِ الْمُقْتَدِي إلَى صِيَانَةِ صَلَاتِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَهَهُنَا لَا حَاجَةَ لِكَوْنِ ذَلِكَ فِي حَدِّ النُّدْرَةِ وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ خَرَجَ الثَّالِثُ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ صَارَ إمَامًا لَهُمْ لِتَعَيُّنِهِ. وَلَوْ رَجَعَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَإِنْ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا صَارَ هُوَ الْإِمَامُ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّمْ حَتَّى خَرَجَ الثَّالِثُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِرْ إمَامًا لِلتَّعَارُضِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ فَبَقِيَ الثَّالِثُ إمَامًا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ. فَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ حَتَّى لَا يَجُوزَ مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَسَائِرِ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَكُونُ لِلْقَائِمِ وَلَا قِيَامَ لِلصَّلَاةِ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ تَفْسُدُ وَلَوْ حُصِرَ الْإِمَامُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَاسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ حُكْمٌ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ غَالِبُ الْوُقُوعِ، وَالْحَصْرُ فِي الْقِرَاءَةِ لَيْسَ نَظِيرَهُ فَالنَّصُّ الْوَارِدُ ثَمَّةَ لَا يَكُونُ وَارِدًا هُنَا وَصَارَ كَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالِاحْتِلَامِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِخْلَافَ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ هَهُنَا بِالنَّصِّ الْخَاصِّ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِجَمَاعَةٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَوَجَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِفَّةً فَحَضَرَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا أَحَسَّ الصِّدِّيقُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ فِي الْقِرَاءَةِ فَتَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ» ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَازَ لَهُ يَكُونُ جَائِزًا لِأُمَّتِهِ هُوَ الْأَصْلُ لِكَوْنِهِ قُدْوَةً. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَ هُوَ أَوْ يُقَدِّمَ الْقَوْمُ إنْسَانًا أَوْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ فَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ اخْتَلَفَ مَكَانُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَبَطَلَ الِاقْتِدَاءُ لِفَوْتِ شَرْطِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَكَانِ وَهَذَا لِأَنَّ غَيْرَهُ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بَقِيَ هُوَ إمَامًا فِي نَفْسِهِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِ الْإِمَامَةِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْمَكَانُ قَدْ اخْتَلَفَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا تُشْكِلُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعُدَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ حُكْمًا وَلِهَذَا حُكِمَ بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ كَذَلِكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَكَانِ فَإِنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ لَنْ تَحْصُلَ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنَّ صِيَانَةَ صَلَاةِ الْقَوْمِ تُمْكِنُهُ بِأَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ أَوْ يُقَدِّمَ الْقَوْمُ رَجُلًا أَوْ يَتَقَدَّمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ فَرَضُوا وَمَا سَعَوْا فِي صِيَانَةِ صَلَاتِهِمْ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي وُسْعِهِ فَبَقِيَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِتْمَامِ. وَأَمَّا حَالُ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِخْلَافِهِ لَمَّا أَثَّرَ فِي فَسَادِ صَلَاةِ الْقَوْمِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي فَسَادِ صَلَاتِهِ أَوْلَى، وَذَكَرَ أَبُو عِصْمَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْمُنْفَرِدُ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ فَخَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَفْسُدُ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ
الْإِمَامُ رَجُلًا مِنْ الصُّفُوفِ الْخَارِجَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَوَاضِعَ الصُّفُوفِ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ؟ فَجَعَلَ الْكُلَّ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَهُمَا أَنَّ الْبُقْعَةَ مُخْتَلِفَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لَهَا حُكْمَ الِاتِّحَادِ إذَا كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً بِالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الْخَارِجِ عَنْ الْمَسْجِدِ خَاصَّةً لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ فَلَا يَظْهَرُ الِاتِّحَادُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ كَبَّرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَبَّرَ الْقَوْمُ بِتَكْبِيرِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ؟ وَإِذَا ظَهَرَ حُكْمُ اخْتِلَافِ الْبُقْعَةِ فِي حَقِّ الْمُسْتَخْلِفِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَمُجَاوَزَةُ الصُّفُوفِ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ إنْ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ خَلْفَهُ فَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ جَاوَزَ مِقْدَارَ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمَ الْخُرُوجِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ يُعْطَى لِدَاخِلِ السُّتْرَةِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ لِمَا مَرَّ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقَدِّمُ صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً فَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ عَمَلًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَكَانَ إعْرَاضًا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ فَقَدْ اقْتَدَى بِهِ وَمَتَى صَارَ هُوَ مُقْتَدِيًا بِهِ صَارَ الْقَوْمُ أَيْضًا مُقْتَدِينَ بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ لَا يَصِحُّ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا وَهَذَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا فَكَذَا فِي حَالِ الِاسْتِخْلَافِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا اقْتَدَوْا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ فَكَذَا فِي حَالِ الِاسْتِخْلَافِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِخْلَافَ الْمُحْدِثِ صَحِيحٌ حَتَّى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ رَجُلًا وَالْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ يَنْوِي أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ حَتَّى قَدَّمَ غَيْرَهُ صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ؛ لَمَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ غَيْرَهُ وَلَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِاسْتِخْلَافِهِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ اسْتِخْلَافُ الْمُقَدَّمِ غَيْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا التَّعَذُّرُ لِمَكَانِ الْحَدَثِ فَصَارَ أَمْرُهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْإِمَامِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ صَبِيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِلْإِمَامِ فِي الْفَرْضِ كَمَا لَا يَصْلُحُ أَصِيلًا فِي الْإِمَامَةِ فِي الْفَرَائِضِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِنَا أَيْضًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ امْرَأَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِمَامِ وَالْمُقَدَّمِ، وَقَالَ زُفَرُ صَلَاةُ الْمُقَدَّمِ وَالنِّسَاءِ جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرِّجَالِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» فَصَارَ بِاسْتِخْلَافِهِ إيَّاهَا مُعْرِضًا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَمْ تَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ الْأُمِّيَّ أَوْ الْعَارِيَ أَوْ الْمُومِيَ وَقَالَ زُفَرُ: إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ؛ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِتَأَدِّي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ مَنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ هَهُنَا وَهُوَ الِاسْتِخْلَافُ، إلَّا أَنَّ بِنَاءَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ، وَالْأَصْلُ فِي بَابِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْإِمَامِ بِهِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا فَأَحْدَثَ فَقَدَّمَ مُتَوَضِّئًا جَازَ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُتَوَضِّئِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَدَّمَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ مِنْهُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ
لَا يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمًا فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ الْقَوْمِ. وَلَوْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا جَازَ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ» وَمَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ جَازَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يَسْتَخْلِفُ هَذَا الثَّانِي رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ لِبَقَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ فَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ إمَامًا فَيُخْرِجُ الْأَوَّلَ مِنْ الْإِمَامَةِ ضَرُورَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَكُونُ لَهَا إمَامَانِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إمَامًا وَقَدْ بَقِيَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ صَارَ مُقْتَدِيًا ضَرُورَةً فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي مِنْ بَقِيَّةِ صَلَاةِ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ قَعَدَ الْإِمَامُ الثَّانِي فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَهْقَهَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَصَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ مِنْ صَلَاتِهِ قَدْ فَسَدَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانٌ وَمَنْ بَاشَرَ الْمُفْسِدَ قَلَّ أَدَاءُ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَسْبُوقِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِمْ وَإِنْ فَسَدَ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْعَالِ وَصَلَاتُهُمْ بِدُونِ هَذَا الْجُزْءِ جَائِزَةٌ فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا. وَأَمَّا الْمَسْبُوقُونَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَدْ فَسَدَ وَعَلَيْهِمْ أَرْكَانٌ لَمْ تُؤَدَّ بَعْدُ كَمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي، فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي مَعَ الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُدْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ قَهْقَهَةَ الْإِمَامِ كَقَهْقَهَةِ الْمُقْتَدِي فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ وَلَوْ قَهْقَهَ الْمُقْتَدِي نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِبَقَاءِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْمَسْبُوقِينَ إنَّمَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ وَأَفْسَدَتْهُ مِنْ وَسَطِ صَلَاتِهِمْ فَإِذَا فَسَدَ الْجُزْءُ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَّا هَذَا الْجُزْءُ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُدْرِكٌ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَمِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا تَرَكَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَيَأْتِي بِهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذَا الْجُزْءِ مُوجِبًا فَسَادَ صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَتَى وَصَلَّى مَا تَرَكَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ وَصَلَّى بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْإِمَامُ الثَّانِي لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ كُلَّهُمْ مَسْبُوقِينَ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِمَا بَيَّنَّا فَيُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْقَوْمُ يَقُومُونَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَامُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا لِوُجُوبِ الِانْفِرَادِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا نَامَ عَنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أَوْ كَانَ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ هُوَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِذَا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِيُصَلِّيَ مَا فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أَوْ ذَهَابِهِ لِلتَّوَضُّؤِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا وَسَلَّمَ بِهِمْ ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا فَاتَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ لَا يُجْزِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ
الْمَأْمُورَ بِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ، وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِهَا وَالتَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَوْ ثَبَتَ افْتِرَاضُهُ لَكَانَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ وَذَا جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ وَلَا يَثْبُتُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْتِيبَ فَرْضًا يُسَاوِي دَلِيلَ افْتِرَاضِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا لَفَسَدَتْ، وَكَذَا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ هُنَاكَ لَيْسَ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ بَلْ لِلْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ أَوْ لِلِانْفِرَادِ عِنْدَ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُومِئَ إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ حَتَّى يَقْضِيَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَأَخَّرَ حِينَ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْهُمْ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ أَيْضًا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِرَكْعَتِهِ ثُمَّ تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ مُسَافِرًا وَخَلْفَهُ مُقِيمُونَ وَمُسَافِرُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا جَازَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُقَدِّمَ مُقِيمًا وَلَوْ قَدَّمَهُ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْقُعُودِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا يَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَإِذَا أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ تَأَخَّرَ هُوَ وَقَدَّمَ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ الْخُرُوجِ فَيَسْتَخْلِفُ مُسَافِرًا حَتَّى يُسَلِّمَ فَإِذَا سَلَّمَ قَامَ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ أَحْدَثَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا. وَلَوْ مَضَى الْإِمَامُ الثَّانِي فِي صَلَاتِهِ مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى أَتَمَّهَا يَعْنِي صَلَاةَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ تَامَّةٌ، أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّ مَا الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ رَكْعَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ وَرَكْعَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَلِأَنَّهُمْ انْتَقَلُوا إلَى النَّفْلِ بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرْضِ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَفَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَعَدُوا قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ اقْتِدَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ أَنْ يُصَلُّوا الْأُولَيَيْنِ مُقْتَدِينَ بِهِ وَالْأُخْرَيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ فَإِذَا اقْتَدَوْا فِيهِمَا فَقَدْ اقْتَدَوْا فِي حَالِ وُجُوبِ الِانْفِرَادِ وَبَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَبِالِاقْتِدَاءِ خَرَجُوا عَمَّا كَانُوا دَخَلُوا فِيهِ وَهُوَ الْفَرْضُ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ الْمَفْرُوضَةُ وَمَا دَخَلُوا فِيهِ دَخَلُوا بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا شُرُوعَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ صَارَتْ فَرْضًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ فَإِذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ فَقَدْ تَرَكَ مَا هُوَ فَرْضٌ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ لِتَرْكِهِمْ الْقَعْدَةَ الْمَفْرُوضَةَ أَيْضًا وَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ بِفَسَادِ صَلَاةِ إمَامِهِمْ بِتَرْكِهِ الْقَعْدَةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ سَاعَتَئِذٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ جَازَ لِمَا مَرَّ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِمَا مَرَّ أَيْضًا أَنَّ غَيْرَ الْمَسْبُوقِ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَوْ قَدَّمَهُ مَعَ هَذَا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَإِنْ سَهَا عَنْ الثَّانِيَةِ وَصَلَّى رَكْعَةً وَسَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ سَجَدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ يَتْبَعُهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى وَلَا يَتْبَعُهُ فِي الثَّانِيَةِ إلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ مَا يَقْضِي، وَالْإِمَامُ الثَّانِي لَا يَتْبَعُهُ فِي الْأُولَى وَيَتْبَعُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَدَّمَ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنْ كَانُوا أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ اتَّبَعَهُ كُلُّ إمَامٍ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى وَيَتْبَعُهُ الْإِمَامُ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمُدْرِكَ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ بَلْ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ، وَالْمَسْبُوقُ يُتَابِعُ إمَامَهُ فِيمَا أَدْرَكَ ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْإِمَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَيُتِمَّانِ صَلَاتَهُ، إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: الْإِمَامُ الْأَوَّلُ لَمَّا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَدَّمَ هَذَا الثَّانِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَالْأَوَّلُ
لَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ لَسَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ كَذَا الثَّانِي، فَلَوْ أَنَّهُ سَهَا عَنْ هَذِهِ السَّجْدَةِ وَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَلَمَّا سَجَدَ سَجْدَةً سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ، وَتَقَدَّمَ هَذَا الثَّالِثُ يَنْبَغِي لِهَذَا الْإِمَامِ الثَّالِثِ أَنْ يَسْجُدَ السَّجْدَتَيْنِ أَوَّلًا لِأَنَّ هَذَا الثَّالِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ كَانَ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَكَذَا هَذَا، وَإِذَا سَجَدَ الثَّالِثُ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَكَانَ جَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُتَابِعُهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ وَانْتَهَتْ صَلَاتُهُ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَيَأْتِي بِهَا وَكَذَا الْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَلَّوْا تِلْكَ الرَّكْعَةَ أَيْضًا وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا تِلْكَ السَّجْدَةُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الثَّانِي فَلَا يُتَابِعُهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ يُتَابِعُهُ فِيهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الثَّالِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ يَأْتِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ كَانَ يُتَابِعُهُ الثَّانِي بِأَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَةِ وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ غَيْرَ مَحْسُوبَةٍ مِنْ صَلَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُهُ الْإِمَامُ فَكَذَا إذَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ الثَّالِثُ وَيَأْتِي بِهَا الثَّانِي بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْأُولَى غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ الثَّالِثِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي مُتَابَعَتُهُ فِيهَا بَلْ هِيَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ سَجْدَةٍ زَائِدَةٍ، وَالْإِمَامُ إذَا كَانَ يَأْتِي بِسَجْدَةٍ زَائِدَةٍ لَا يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فِيهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ فِي السَّجْدَةِ حَيْثُ يُتَابِعُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ. وَأَمَّا فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إلَّا إذَا كَانَ صَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ سَجْدَةً وَانْتَهَى إلَى هَذِهِ وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي فِيهَا لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ هِيَ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَيُتَابِعُهُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحْسُوبَةً لِلْإِمَامِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ لِلْإِمَامِ الثَّانِي، وَكَذَا الْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ أَيْضًا وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ، ثُمَّ إذَا سَجَدَ الْإِمَامُ الثَّالِثُ السَّجْدَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ يُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ الرَّابِعُ لِلسَّهْوِ لِيَجْبُرَ بِهَا النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بِتَأْخِيرِ السَّجْدَةِ الْأُولَى عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَيَسْجُدُونَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ الثَّالِثُ فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ يَقُومُ الثَّانِي فَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِقِرَاءَةٍ وَيُتِمُّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ. وَأَمَّا إذَا كَانُوا كُلُّهُمْ مُدْرِكِينَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ الثَّالِثَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ انْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَيُتَابِعُهُ فِيهَا لَا مَحَالَةَ، فَكَذَا الْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَهَذِهِ السَّجْدَةُ مِنْهَا وَقَدْ فَاتَتْهُ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْتِي بِهَا. وَأَمَّا فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَهُوَ مَا أَتَى بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ فِي آخِرِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَيُتَابِعُهُ الْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ انْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَإِنَّهُ صَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَتَرَكَ هَذِهِ السَّجْدَةَ فَيَأْتِي بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَصَلَّى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا فَإِنْ كَانَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مَسْبُوقِينَ بِأَنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَأَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ وَتَوَضَّأَ الْأَئِمَّةُ وَجَاءُوا يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ الْخَامِسُ السَّجَدَاتِ الْأَرْبَعَ فَيَسْجُدُ الْأُولَى فَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ انْتَهَتْ إلَيْهَا وَلَا يُتَابِعُهُ فِيهَا الْإِمَامُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْخَامِسِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَسْجُدُونَهَا مَعَهُ بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ وَلَا يُتَابِعُهُ فِيهَا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَهُوَ مَا صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ حَتَّى لَوْ كَانَ صَلَّاهَا وَانْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ سَجَدَ الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ، وَكَذَا لَا يُتَابِعُهُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ فَقَطْ، ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ فَقَطْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ إمَامٍ يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ رَكْعَتِهِ الَّتِي صَلَّاهَا؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى إلَيْهَا وَلَا يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ تِلْكَ الرَّكْعَةِ مُدْرِكٌ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إلَّا إذَا انْتَهَتْ صَلَاتُهُ إلَيْهَا، وَهَلْ يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي فَاتَتْهُ؟ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ نَعَمْ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَتَأَخَّرُ فَيُقَدِّمُ سَادِسًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ يَقُومُ الْخَامِسُ فَيُصَلِّي
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ وَالْإِمَامُ الثَّانِي يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِمَا ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ يَقْضِي الرَّابِعَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهِمَا، وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ يَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَفِي الثَّالِثَةِ هُوَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا، هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مَسْبُوقِينَ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا مُدْرِكِينَ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا وَجَاءَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْخَامِسِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْأَئِمَّةُ وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْقَوْمُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَهُوَ مَا أَدَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ إلَّا إذَا كَانَ عَجَزَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَحِينَئِذٍ يُتَابِعُهُ فِيهَا، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُصَلِّيَا الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُمْ مَا صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ بَعْدُ، ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَالْإِمَامُ الثَّانِي رَكْعَتَيْنِ وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ الرَّكْعَةَ الرَّابِعَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ مُدْرِكُونَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْخَامِسُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ لِمَا مَرَّ وَكُلُّ إمَامٍ فَرَغَ مِنْ إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَأَدْرَكَهُ تَابَعَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْسِدُ صَلَاتَهُمْ؛ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ مَنْ لَا يَصْلُحُ أَمَّا مَا لَهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْ هَذَا وَهُوَ الِاسْتِخْلَافُ إلَّا أَنَّ بِنَاءَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ، وَالْأَصْلُ فِي بَابِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْإِمَامِ بِهِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا وَأَحْدَثَ وَقَدَّمَ مُتَوَضِّئًا جَازَ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُتَوَضِّئِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَدَّمَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ مِنْهُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمٌ فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاة الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ الْقَوْمِ. وَلَوْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا جَازَ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ» وَمَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ جَازَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يَسْتَخْلِفُ هَذَا الثَّانِي رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ لِبَقَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ فَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ، وَيَقُومُ هُوَ لِقَضَائِهِ مَا سُبِقَ بِهِ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ إمَامًا فَيُخْرِجُ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِمَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَكُونُ لَهَا إمَامَانِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إمَامًا وَقَدْ بَقِيَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ صَارَ مُقْتَدِيًا ضَرُورَةً، فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي مِنْ صَلَاةِ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ قَعَدَ الثَّانِي فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ قَهْقَهَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَصَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ مِنْ صَلَاتِهِ قَدْ فَسَدَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانٌ، وَمَنْ بَاشَرَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ أَدَاءِ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَسْبُوقِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِمْ وَإِنْ فَسَدَ بِفَسَادِ
فصل بيان حكم الاستخلاف
صَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْعَالِ فَصَلَاتُهُمْ بِدُونِ هَذَا الْجُزْءِ جَائِزَةٌ فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُونَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَدْ فَسَدَ وَعَلَيْهِمْ أَرْكَانٌ لَمْ تُؤَدَّ بَعْدَ كَمَالِ حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي، فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُدْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ قَهْقَهَةَ الْإِمَامِ كَقَهْقَهَةِ الْمُقْتَدِي فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَلَا يُرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ وَلَوْ قَهْقَهَ الْمُقْتَدِي نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِبَقَاءِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْمَسْبُوقِ إنَّمَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَابَسَتْهُ الْقَهْقَهَةُ أَفْسَدَتْهُ مِنْ وَسَطِ صَلَاتِهِمْ فَإِذَا فَسَدَ الْجُزْءُ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ، فَأَمَّا هَذَا الْجُزْءُ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَمِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَيَأْتِي بِهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذَا الْجُزْءِ مُوجِبًا فَسَادَ صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَتَى وَصَلَّى مَا تَرَكَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ وَصَلَّى بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْإِمَامُ الثَّانِي لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ مَنْ خَلْفَ الْمُحْدِثِ كُلُّهُمْ مَسْبُوقِينَ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِمَا بَيَّنَّا فَيُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَكَذَا الْقَوْمُ يَقُومُونَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَامُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا لِوُجُوبِ الِانْفِرَادِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا نَامَ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أَوْ كَانَ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ هُوَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ مَا فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أَوْ ذَهَابِهِ لِلتَّوَضُّؤِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا فَسَلَّمَ بِهِمْ ثُمَّ قَامَ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِهَا، وَالتَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَوْ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ لَكَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ، وَذَا جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ وَلَا يَثْبُتُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ، وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْتِيبَ فَرْضًا لِيُسَاوِيَ دَلِيلَ افْتِرَاضِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لَمْ تَسْقُطْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا لَفَسَدَتْ، وَكَذَا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ. فَحُكْمُهُ صَيْرُورَةُ الثَّانِي إمَامًا وَخُرُوجُ الْأَوَّلِ عَنْ الْإِمَامَةِ وَصَيْرُورَتُهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِالثَّانِي، ثُمَّ إنَّمَا يَصِيرُ الثَّانِي إمَامًا وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ عَنْ الْإِمَامَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِقِيَامِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ يَنْوِي صَلَاتَهُ، أَوْ بِخُرُوجِ الْأَوَّلِ عَنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدُ وَلَمْ يَقُمْ الْخَلِيفَةُ مَقَامَهُ فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ حَتَّى لَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَاقْتَدَى بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ. وَلَوْ أَفْسَدَ الْأَوَّلُ صَلَاتَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ إمَامًا وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ بِانْتِقَالِهَا إلَى غَيْرِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا إمَامَانِ أَوْ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ لِفَوْتِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ غَيْرُهُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَنْتَقِلْ وَالْبُقْعَةُ مُتَّحِدَةٌ فَبَقِيَ إمَامًا فِي نَفْسِهِ كَمَا كَانَ وَقَوْلُنَا يَنْوِي صَلَاةَ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَتَقَدَّمَ وَكَبَّرَ، فَإِنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ وَأَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ وَجَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَقَالَ بِشْرٌ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ الْمُحْدِثِ عِنْدَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ بَعْدَ الْحَدَثِ أَمْرٌ عُرِفَ
بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالِابْتِدَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَقَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ يَمْنَعُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ فِيهَا؟ فَيُمْنَعُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ أَيْضًا ابْتِدَاءً، وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا كَبَّرَ وَنَوَى الدُّخُولَ فِي صَلَاةِ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ بَعْدُ فِي الْمَسْجِدِ وَحُرْمَةُ صَلَاتِهِ بَاقِيَةٌ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَبَقِيَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عَلَى الِاسْتِخْلَافِ أَيْ صَارَ الثَّانِي بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِهِ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ بِالِاسْتِخْلَافِ السَّابِقِ فَصَارَ مُسْتَخْلِفًا مَنْ كَانَ مُقْتَدِيًا بِهِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا لِمَا مَرَّ وَإِنْ كَانَ كَبَّرَ وَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً لَمْ يَصِرْ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَيْسَ بِمُقْتَدٍ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ أَمْرٌ جُوِّزَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى عَيْنُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي اسْتِخْلَافِ مَنْ هُوَ مُقْتَدٍ بِهِ فَبَقِيَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَلَاةُ هَذَا الثَّانِي صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا بِهَا وَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُ الثَّانِي بَقِيَ الْأَوَّلُ إمَامًا لَهُمْ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي صَلَّوْا خَلْفَ مَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ لَهُمْ وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ هُوَ إمَامُهُمْ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إتْمَامُهَا مُقْتَدِينَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُؤَدَّى بِإِمَامَيْنِ بِخِلَافِ خَلِيفَةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ فَكَانَ الْإِمَامُ وَاحِدًا مَعْنًى وَإِنْ كَانَ مُثَنًّى صُورَةً، وَهَهُنَا الثَّانِي لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ قَطُّ فَكَانَ هَذَا أَدَاءُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ خَلْفَ إمَامَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ اقْتَدَى بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِمَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ لَوْ أَنَّ إمَامًا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَإِنْ نَوَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ إمَامًا مِنْ سَاعَتِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمَامًا إذَا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا خَرَجَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الثَّانِي إلَى مَقَامِهِ وَلَوْ قَامَ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْهَا أَيْ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ الْكَلَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَلَامُ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَلَهُ فِي الْكَثِيرِ قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَخَرَجَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ وَصَلَّى الْبَاقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ نَاسِيًا فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَذُو الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ نَاسِيًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ قَصُرَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَأْمُرْ ذَا الْيَدَيْنِ وَلَا أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِي بِمَنْزِلَةِ سَلَامِ النَّاسِي وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ الْآدَمِيِّينَ وَلِهَذَا يُخْرِجُ عَمْدُهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَكَذَا هَذَا، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» جَوَّزَ الْبِنَاءَ إلَى غَايَةِ التَّكَلُّمِ فَيَقْضِي انْتِهَاءُ الْجَوَازِ بِالتَّكَلُّمِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا إلَى الْحَبَشَةِ وَبَعْضُنَا يُسَلِّمُ عَلَى بَعْضٍ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا قَدِمْتُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي بَعْضُ الْقَوْمِ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَا لِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ شَزْرًا فَضَرَبُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُسْكِتُونَنِي فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَانِي فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ مَا نَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ
إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» ، وَمَا لَا يَصْلُحُ فِي الصَّلَاةِ فَمُبَاشَرَتُهُ مُفْسِدَةٌ لِلصَّلَاةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ كَثُرَ كَانَ مُفْسِدًا وَلَوْ كَانَ النِّسْيَانُ فِيهَا عُذْرًا لَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ يُبَاحُ فِيهَا التَّكَلُّمُ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ ابْتِدَاءُ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ عَامِدِينَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِقْبَالِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَمْدَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالرَّفْعُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِسَلَامِ النَّاسِي غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْقَى مَعَ سَلَامِ الْعَمْدِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَالنِّسْيَانُ دُونَ الْعَمْدِ فَجَازَ أَنْ تَبْقَى مَعَ النِّسْيَانِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَفِقْهُهُ أَنَّ السَّلَامَ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الدُّعَاءِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الْخُرُوجُ فِي أَوَانِ الْخُرُوجِ جُعِلَ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ شَرْعًا، فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ السَّلَامُ مَوْجُودًا فِي أَوَانِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ حَكَمْنَا بِخُرُوجِهِ عَنْ الصَّلَاةِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ نَاسِيًا فَلَوْ جَعَلْنَاهُ قَاطِعًا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنَّفْخُ الْمَسْمُوعُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النَّفْخَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَسْمُوعٍ وَغَيْرِ مَسْمُوعٍ، وَغَيْرُ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمَنْظُومُ الْمَسْمُوعُ وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا مَرَّ أَنْ إدْخَالَ مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَأَمَّا الْمَسْمُوعُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: إنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ بِأَنْ قَالَ: أُفٍّ أَوْ تُفٍّ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ، وَتَبْعِيدُهُ يُفْسِدُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّأْفِيفَ لَا يُفْسِدُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يُفْسِدُ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ أَوْ لَمْ يُرِدْ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الضَّمِيرِ فَيُفْسِدُ وَإِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّأْفِيفَ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الضَّمِيرِ فَلَا يُفْسِدُ كَالتَّنَحْنُحِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي الْوَضْعِ فَلَا يَصِيرُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ هَهُنَا مِنْ الزَّوَائِدِ الَّتِي يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ وَالْحَرْفُ الزَّائِدِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بَقِيَ حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ أَصْلِيَّةٍ أَوْ زَائِدَةٍ أَوْ كَانَا حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ الْمَسْمُوعَةِ وَأَدْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ انْتِظَامُ الْحُرُوفِ حَرْفَانِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي التَّأْفِيفِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ كَلَامًا فِي الْعُرْفِ أَنْ تَكُونَ مَفْهُومَةَ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ نَوْعَانِ، مُهْمَلٌ وَمُسْتَعْمَلٌ وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ بِالْمُهْمَلَاتِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مَعَ مَا أَنَّ التَّأْفِيفَ مَفْهُومُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ لِلتَّبْعِيدِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ حَتَّى حُرِّمَ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ احْتِرَامًا لَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَهَذَا النَّصُّ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ لَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى التَّأْفِيفَ قَوْلًا فَدَلَّ أَنَّهُ كَلَامٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّفْخَ كَلَامٌ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِغُلَامٍ يُقَالُ لَهُ رَبَاحٌ حِينَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَنْفُخُ التُّرَابَ مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي صَلَاتِهِ: لَا تَنْفُخْ فَإِنَّ النَّفْخَ كَلَامٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ نَفَخَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ؟ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَأَمَّا التَّنَحْنُحُ عَنْ عُذْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسِدُ لِوُجُودِ الْحَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْهَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ تَنَحْنَحَ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ لَا يُفْسِدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَعْيٌ فِي أَدَاءِ الرُّكْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَرَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْجُوزَجَانِيِّ صَاحِبِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ أَخَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ هِجَاءً وَيُسْمَعُ فَهُوَ كَالنَّفْخِ الْمَسْمُوعِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ قَوْلًا، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ الْمَسْمُوعَةَ كَافِيَةٌ لِلْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعْنًى مَفْهُومًا كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِمُهْمَلٍ كَثُرَتْ حُرُوفُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ مِنْ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ فَنَعَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ لَكِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَيْسَ هُوَ بِزَائِدٍ وَإِلْحَاقُ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ مِنْ كَلِمَةٍ لَيْسَ هُوَ فِيهَا زَائِدًا بِالزَّوَائِدِ مُحَالٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ بِامْتِنَاعِ
التَّغَيُّرِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وَأَرَادَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْإِنْكَارَ لِلْبَعْثِ يَكْفُرُ فَدَلَّ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي الْوَضْعِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ. وَلَوْ أَنَّ فِي صَلَاتِهِ أَوْ بَكَى وَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ الْأَنِينَ أَوْ الْبُكَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ لِخَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ فَيَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى خَلِيلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّأَوُّهِ فَقَالَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ التَّأَوُّهِ فِي الصَّلَاةِ «وَكَانَ لِجَوْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزِيرٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوْتُ الْمُنْبَعِثُ عَنْ مِثْلِ الْأَنِينِ لَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا؛ وَلِأَنَّ التَّأَوُّهَ وَالْبُكَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِمَسْأَلَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ آهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، وَإِذَا قَالَ: أَوْهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالتَّنَحْنُحِ وَالتَّنَفُّسِ، وَالثَّانِيَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ عَطَسَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي الصَّلَاةِ: يَرْحَمُك اللَّهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَاطِسِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ بِالنَّصِّ وَإِنْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ أُخْبِرَ بِمَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ جَوَابَ الْمُخْبِرِ لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ قَطَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفَسَادَ لَوْ فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِالصِّيغَةِ أَوْ بِالنِّيَّةِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ الْأَذْكَارِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ وَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ صَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَمَنَ قَالَ لِرَجُلٍ اسْمِهِ يَحْيَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ مَوْضُوعٌ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ بِهِ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا لَا قَارِئًا، وَكَذَا إذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي بِأَيِّ مَوْضِعٍ مَرَرْتَ فَقَالَ: بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، وَأَرَادَ بِهِ جَوَابَ الْخِطَابِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُوءُهُ فَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَوَابَهُ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ قَطَعَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَوَابِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ أَعِينُونِي فَإِنِّي مُصَابٌ وَلَمْ يُذْكَرْ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَمَنْ سَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الِاسْتِرْجَاعُ إظْهَارُ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَوْ مَرَّ الْمُصَلِّي بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، أَوْ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَهُوَ حَسَنٌ إذَا كَانَ وَحْدَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا مَثَلٌ إلَّا وَقَفَ وَتَفَكَّرَ» . وَأَمَّا الْإِمَامُ فِي الْفَرَائِضِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَا الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي خُشُوعِهِ وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَلَوْ اسْتَأْذَنَ عَلَى الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَسَبَّحَ وَأَرَادَ بِهِ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ دَخَلْتُ فَكُنْتُ إذَا أُتِيتُ الْبَابَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ فَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَانْصَرَفْتُ» وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ رُبَّمَا يُلِحُّ الْمُسْتَأْذِنُ حَتَّى يُبْتَلَى هُوَ بِالْغَلَطِ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَانَ الْقَصْدُ بِهِ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ فَلَمْ تَفْسُدْ، وَكَذَا إذَا عَرَضَ لِلْإِمَامِ شَيْءٌ فَسَبَّحَ الْمَأْمُومُ وَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إصْلَاحُ الصَّلَاةِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْكَلَامِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِصْلَاحِ، وَلَا يُسَبِّحُ الْإِمَامُ إذَا قَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ
الرُّجُوعُ إذَا كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبُ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْبِيحُ مُفِيدًا. وَلَوْ فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ الْفَاتِحُ هُوَ الْمُقْتَدِيَ بِهِ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُصَلِّي سَوَاءٌ كَانَ الْفَاتِحُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى غَيْرِ صَلَاةِ الْمُصَلِّي وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ أَيْضًا إنْ كَانَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَإِنَّ الْقَارِئَ إذَا اسْتَفْتَحَ غَيْرَهُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَاذَا بَعْدَ مَا قَرَأْتَ فَذَكِّرْنِي، وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَعْدَ مَا قَرَأْتَ كَذَا فَخُذْ مِنِّي. وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا يُشْكِلُ فِي فَسَادِ الصَّلَاةِ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا فَتَحَ عَلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ التَّعْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ فَتْحَهُ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِهِ جَوَابٌ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، هَذَا إذَا فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي عَنْ اسْتِفْتَاحٍ فَأَمَّا إذَا فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةِ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ عِنْدَ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِخِطَابٍ لِأَحَدٍ فَقَلِيلُهُ يُورِثُ الْكَرَاهَةَ وَكَثِيرُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاتِحُ هُوَ الْمُقْتَدِيَ بِهِ فَالْقِيَاسُ هُوَ فَسَادُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ فَتَرَكَ حَرْفًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَلَم يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ، فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا نُسِخَتْ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ سُورَةً فَقَالَ نَافِعٌ: إذَا زُلْزِلَتْ فَقَرَأَهَا وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ عَنْ الْفَسَادِ عِنْدَ تَرْكِ الْإِمَامِ الْمُجَاوَزَةَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى أَوْ الِانْتِقَالِ إلَى الرُّكُوعِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ فَتَحَ عَلَى الْإِمَامِ بَعْدَ مَا انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إنْ أَخَذَهُ الْإِمَامُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ خَاصَّةً لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَحُوجَهُمْ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَرْكَعُ أَوْ يَتَجَاوَزُ إلَى آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَخَافَ الْمُقْتَدِي أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَحِينَئِذٍ يَفْتَحُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وَهُوَ مُلِيمٌ أَيْ مُسْتَحِقُّ الْمَلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَجَ الْمُقْتَدِي وَاضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَنْوِيَ بِالْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ التِّلَاوَةَ، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عِنْدَنَا، وَالْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا رُخِّصَ لَهُ فِيهِ بِنِيَّةِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا إذَا كَانَ الْفَتْحُ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّعْلِيمِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ. وَلَوْ قَرَأَ الْمُصَلِّي مِنْ الْمُصْحَفِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَامَّةٌ وَيُكْرَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَوْلًى لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يُقَالُ لَهُ ذَكْوَانُ كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ وَالْقِرَاءَةُ عِبَادَةٌ وَانْضِمَامُ الْعِبَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ مَا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّا نَأْكُلُ مَا يَأْكُلُونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْهُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ وَالنَّظَرِ فِيهِ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِي الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقْرَأُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ أَوْ قَرَأَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمِحْرَابِ مِنْ الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الْمُفْسِدِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ هَذَا يُلَقَّنُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَيَكُونُ تَعَلُّمًا مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُصْحَفِ يُسَمَّى مُتَعَلِّمًا فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمٍ وَذَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَكَذَا هَذَا، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ حَامِلًا لِلْمُصْحَفِ مُقَلِّبًا لِلْأَوْرَاقِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُقَلِّبُ الْأَوْرَاقَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ذَكْوَانَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَائِشَةَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ مَكْرُوهٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ لَمَا مَكَّنُوهُ مِنْ عَمَلِ الْمَكْرُوهِ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الرَّاوِي كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ إخْبَارًا عَنْ حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَيْ كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ إشْعَارًا مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ فَكَانَ يَؤُمُّ بِبَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يَخْتِمَ أَوْ كَانَ يَسْتَظْهِرُ كُلَّ يَوْمٍ وِرْدَ كُلِّ لَيْلَةٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَلَوْ دَعَا فِي صَلَاتِهِ
فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا فَإِنْ دَعَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَكَذَا لَوْ دَعَا بِمَا يُشْبِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ كُلُّ دُعَاءٍ يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ النَّاسِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ دَعَا بِمَا لَا يَمْتَنِعُ سُؤَالُهُ مِنْ النَّاسِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا نَحْوِ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دِرْهَمًا، وَزَوِّجْنِي فُلَانَةَ، وَأَلْبِسْنِي ثَوْبًا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا دَعَا فِي صَلَاةٍ بِمَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ وَالْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَدْعُو عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ أَيْ عَادَاهُ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ الْعَبْدُ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَضْعًا وَلَمْ يَخْلُصْ دُعَاءً، وَقَدْ جَرَى الْخِطَابُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْأَلُ بَعْضًا ذَلِكَ فَيَقُولُ أَعْطِنِي دِرْهَمًا أَوْ زَوِّجْنِي امْرَأَةً؟ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ وَلِهَذَا عَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ كَلَامًا مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَمَّا خَاطَبَ الْآدَمِيَّ بِهِ وَقَصَدَ قَضَاءَ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً صِيغَةً وَهَذَا صِيغَتُهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَإِنْ خَاطَبَ اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ مُفْسِدًا بِصِيغَتِهِ وَالْكِتَابُ وَالسَّنَةُ مَحْمُولَانِ عَلَى دُعَاءٍ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ أَوْ عَلَى خَارِجِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَأَعِدْ صَلَاتَكَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَمَا كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ، وَمِنْ الشِّعْرِ مَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمُصَلِّي وَلَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرُدَّ سَلَامَهُ بِإِشَارَةٍ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ أَمَّا السَّلَامُ فَلِأَنَّهُ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ فَيَصِيرُ مَانِعًا لَهُ عَنْ الْخَيْرِ وَإِنَّهُ مَذْمُومٌ. وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ فَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ النَّاسِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الرَّدِّ وَلِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْكَفُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» غَيْرَ أَنَّهُ إذَا رَدَّ بِالْقَوْلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَلَوْ رَدَّ بِالْإِشَارَةِ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَكِنْ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ. (وَمِنْهَا) السَّلَامُ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ سَلَامُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ صَارَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِهِ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ. (وَمِنْهَا) الْقَهْقَهَةُ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا؛ لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ أَفْحَشُ مِنْ الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَنْتَقِضُ الْوُضُوءَ وَالْكَلَامُ لَا يَنْقُضُ ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ الْكَلَامُ قَاطِعًا لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يَفْصِلْ فِيهِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ فَالْقَهْقَهَةُ أَوْلَى. وَمِنْهَا الْخُرُوجُ عَنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامُ وَالسَّلَامُ وَالْقَهْقَهَةُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَأَمَّا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا خَلْفَهُ لَاحِقُونَ أَوْ مَسْبُوقُونَ وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ اللَّاحِقُونَ الْإِمَامَ فِي صَلَاتِهِ وَصَلَّوْا مَعَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَإِنْ كَانَ إمَامًا خَلْفَهُ لَاحِقُونَ وَمَسْبُوقُونَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ تَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَصَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَامَّةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ لَمْ يُفْسِدَا صَلَاةَ الْإِمَامِ فَلَا يُفْسِدَانِ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي لَوْ فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِإِفْسَادِ الْإِمَامِ صَلَاتَهُ لَا بِإِفْسَادِ الْمُقْتَدِي لِانْعِدَامِ الْمُفْسِدِ مِنْ الْمُقْتَدِي فَلَمَّا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ مَعَ وُجُودِ الْمُفْسِدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَأَنْ لَا تَفْسُدَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي أَوْلَى، وَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إفْسَادٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي لَاقَاهُ مِنْ صَلَاتِهِ فَيَفْسُدُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ صَلَاتِهِ وَيَفْسُدُ مِنْ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فَيُقْتَصَرُ الْفَسَادُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْجُزْءِ وَقَدْ بَقِيَ لِلْمَسْبُوقِ فُرُوضٌ فَتَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فَقَطْعٌ لِلصَّلَاةِ وَمُضَادٌّ لَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فَيَمْنَعُ مِنْ الْوُجُودِ وَلَا تَفْسُدُ وَشَرْحُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ الْعَمْدَ لَيْسَا بِمُضَادَّيْنِ لِلصَّلَاةِ بَلْ هُمَا مُضَادَّانِ لِلطَّهَارَةِ وَالطَّهَارَةُ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْحَدَثُ مُضَادًّا لِلْأَهْلِيَّةِ بِوَاسِطَةِ مُضَادَّتِهِ شَرْطَهَا، وَالشَّيْءُ لَا يَنْعَدِمُ بِمَا لَا يُضَادُّهُ فَلَمْ تَنْعَدِمْ الصَّلَاةُ
بِوُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُضَادَّةَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ فَيُوجَدُ جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ مَا يُضَادُّهُ وَيَفْسُدُ هَذَا الْجُزْءُ لِحُصُولِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ وَلَا صِحَّةَ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ وَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْجُزْءُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ فَتَتَعَلَّقُ بِهَا صِحَّةً وَفَسَادًا؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَمَّا فَسَدَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ التَّحْرِيمَةُ الْمُقَارِنَةُ لِهَذَا الْفِعْلِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ الْأَفْعَالِ فَتَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ الْأَفْعَالُ صِحَّةً وَفَسَادًا فَإِذَا فَسَدَتْ هِيَ فَسَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْمُقْتَدِي فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُدْرِكِينَ اتَّصَفَتْ بِالتَّمَامِ بِدُونِ الْجُزْءِ الْفَاسِدِ. فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ فَسَدَ جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَفَسَدَتْ التَّحْرِيمَةُ الْمُقَارِنَةُ لِذَلِكَ الْجُزْءِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّحْرِيمَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يُتَصَوَّرْ حُصُولُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُضَادٍّ لِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ نَفْسِهَا، وَوُجُودُ الضِّدِّ لَا يُفْسِدُ الضِّدَّ الْآخَرَ بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْ الْوُجُودِ فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ كَانَتْ تُوجَدُ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرَارِ فَإِذَا انْعَدَمَ فِعْلٌ يَعْقُبُهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ فَإِذَا تَعَقَّبَهُ مَا هُوَ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ جُزْءٍ مِنْهَا مُقَارِنًا لِلضِّدِّ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي الْمُتَضَادَّاتِ وَانْتَهَتْ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَتَجَدَّدْ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَهَا كَانَ لِتَجَدُّدِ الْأَفْعَالِ وَقَدْ انْتَهَتْ فَانْتَهَتْ هِيَ أَيْضًا وَمَا فَسَدَتْ، وَبِانْتِهَاءِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ لَا تَنْتَهِي تَحْرِيمَةُ الْمَسْبُوقِ كَمَا لَوْ سَلَّمَ فَإِنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مُنْتَهِيَةٌ وَتَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ غَيْرُ مُنْتَهِيَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا اللَّاحِقُونَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَدْرَكُوا الْإِمَامَ فِي صَلَاتِهِ وَصَلَّوْا مَعَهُ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكُوا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ تَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَفْسُدُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَارِضُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَعَلَى الْمُصَلِّي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلَهُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ مَاءً بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا الْحُجَجَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ أُمِّيٌّ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ ثُمَّ تَعَلَّمَ سُورَةً فَقَرَأَهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، مَثَلُ الْأَخْرَسِ يَزُولُ خَرَسُهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَصَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فَصَارَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَفْسُدُ فِي الْأَوَّلَ وَلَا تَفْسُدُ فِي الثَّانِي اسْتِحْسَانًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَقَطْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِئَ لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَجْزَأَهُ فَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَجْزُهُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَإِذَا تَعَلَّمَ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَضُرُّهُ عَجْزُهُ عَنْهَا فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَا يَضُرُّهُ لَوْ تَرَكَهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ فِي الْأَوَّلِ لَحَصَلَ الْأَدَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فَأُمِرَ بِالِاسْتِقْبَالِ. وَلَوْ اسْتَقْبَلَهَا فِي الثَّانِي لَأَدَّى كُلَّ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَكَانَ الْبِنَاءُ أَوْلَى لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا الْبَعْضَ بِقِرَاءَةٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِشَرْطِ الْعَجْزِ عَنْهَا فِي كُلِّ الصَّلَاةِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي بَعْضِهَا فَاتَ الشَّرْطُ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ صَلَاةً؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأُمِّيِّ لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْقِرَاءَةِ بَلْ انْعَقَدَتْ لِأَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا غَيْرَ، فَإِذَا قَدَرَ صَارَتْ الْقِرَاءَةُ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةٍ كَأَدَاءِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَالصَّلَاةُ لَا تُوجَدُ بِدُونِ أَرْكَانِهَا فَفَسَدَتْ وَلِأَنَّ الْأَسَاسَ الضَّعِيفَ لَا يَحْتَمِلُ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ بِقِرَاءَةٍ أَقْوَى فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّعِيفِ كَالْعَارِي إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ، وَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لِأَدَاءِ كُلِّ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ. وَلَوْ اقْتَدَى الْأُمِّيُّ بِقَارِئٍ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ الْإِمَامُ قَامَ الْأُمِّيُّ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ قَامَ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ الْقِرَاءَةَ ضِمْنًا لِلِاقْتِدَاءِ وَهُوَ مُقْتَدٍ فِيمَا بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ لَا فِيمَا سَبَقَهُ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَنَى كَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ اسْتَقْبَلَ كَانَ مُؤَدَّيَا جَمِيعَهَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ
إذَا كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ اسْتِتَارَهَا مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَكَانَ انْكِشَافُهَا فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقَلِيلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ إذَا سَقَطَ قِنَاعُهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَرَفَعَتْهُ وَغَطَّتْ رَأْسَهَا بِعَمَلٍ قَلِيلٍ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّي رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَ أَنْ تَمْكُثَ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُبْتَلَى بِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَأَمَّا إذَا بَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى أَدَّتْ رُكْنًا أَوْ مَكَثَتْ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَوْ غَطَّتْ مِنْ سَاعَتِهَا لَكِنْ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أُعْتِقَتْ فِي خِلَالِ صَلَاتِهَا وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ فَأَخَذَتْ قِنَاعَهَا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَإِذَا أُعْتِقْنَ أَخَذْنَ الْقِنَاعَ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ السَّتْرِ تَوَجَّهَ لِلْحَالِ إلَّا إنْ تَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهَا السَّتْرَ مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ رَأْسَهَا إنَّمَا صَارَ عَوْرَةً بِالتَّحْرِيرِ وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ فَكَذَا صَيْرُورَةُ الرَّأْسِ عَوْرَةً بِخِلَافِ الْعَارِي إذَا وَجَدَ كِسْوَةً فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ مَا صَارَتْ عَوْرَةً لِلْحَالِ بَلْ كَانَتْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ السَّتْرَ كَانَ قَدْ سَقَطَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَإِذَا زَالَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فَسَقَطَ عَنْهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسِ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِتَارُ يَفُوتُ بِالِانْكِشَافِ وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ وَجَعَلْنَا مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ عُرْيَانُ لَا يَجِدُ ثَوْبًا جَازَتْ صَلَاتُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ الْجَوَابِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ رُبُعٌ مِنْهُ طَاهِرًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ الْمُحَاذَاةُ مُفْسِدَةَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ امْرَأَةٌ خَلْفَ الْإِمَامِ وَنَوَتْ صَلَاتَهُ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ حَاذَتْهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِخَسَاسَتِهَا أَوْ لِاشْتِغَالِ قَلْبِ الرَّجُلِ بِهَا وَالْوُقُوعِ فِي الشَّهْوَةِ، لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ أَخَسَّ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمُحَاذَاتُهُمَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهَا وَالْمُحَاذَاةُ فِيهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِهَذَا أَيْضًا، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الرَّجُلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهَا أَيْضًا وَلَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فَكَذَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» عَقِيبَ قَوْلِهِ «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالتَّأْخِيرِ صَارَ التَّأْخِيرُ فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ بِتَرْكِهِ التَّأْخِيرَ تَارِكًا فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهَا فَتَفْسُدُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ أَمْرٌ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهَا ضَرُورَةً فَإِذَا لَمْ تُؤَخَّرْ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فَقَدْ قَامَ مَقَامًا لَيْسَ بِمَقَامٍ لَهُ فَتَفْسُدُ كَمَا إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَبَقِيَ غَيْرُهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّأْخِيرِ يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ وَيُمْكِنُهُ تَأْخِيرُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَأَخَّرَ هِيَ بِنَفْسِهَا وَيَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ فَرْضًا عَلَيْهَا فَتَرْكُهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مُحَاذَاةِ الْبَالِغَةِ وَبَيْنَ مُحَاذَاةِ الْمُرَاهِقَةِ الَّتِي تَعْقِلُ الصَّلَاةَ فِي حَقِّ فَسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُفْسِدَ مُحَاذَاةُ غَيْرِ الْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا تَخَلُّقٌ وَاعْتِيَادٌ لَا حَقِيقَةُ صَلَاةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالصَّلَاةِ مَضْرُوبَةٌ عَلَيْهَا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فَجُعِلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ تَكْفِي لِلْفَسَادِ إذَا وُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ مُفْسِدَةٌ فَنَقُولُ: إذَا قَامَتْ فِي الصَّفِّ امْرَأَةٌ فَسَدَتْ صَلَاةُ رَجُلٍ عَنْ يَمِينِهَا وَرَجُلٍ عَنْ يَسَارِهَا وَرَجُلٍ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُحَاذِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ
صَارُوا حَائِلِينَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ أُسْطُوَانَةٍ أَوْ كَارَّةٍ مِنْ الثِّيَابِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُحَاذَاةُ وَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مَنْ عَلَى يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِمَا وَمَنْ خَلْفَهُمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ مِنْهُنَّ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: الثِّنْتَانِ يُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مَنْ عَلَى يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِمَا وَاثْنَانِ مِنْ خَلْفِهِمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ مَنْ كَانَ عَلَى يَمِينِهِنَّ وَمَنْ كَانَ عَلَى شِمَالِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ بِحِذَائِهِنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ اثْنَتَانِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ رَجُلَيْنِ عَنْ يَمِينِهِمَا وَيَسَارِهِمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ رَجُلٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَرَجُلٍ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَصَلَاةَ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ صَفًّا تَامًّا فَسَدَتْ صَلَاةُ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُنَّ وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ صَفًّا. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْحَيْلُولَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ إنَّمَا تَقَعُ بِالصَّفِّ التَّامِّ مِنْ النِّسَاءِ بِالْحَدِيثِ، وَلَمْ تُوجَدْ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالْمُحَاذَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَهُ أَنَّ لِلْمُثَنَّى حُكْمَ الثَّلَاثِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ الِاثْنَيْنِ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ كَالثَّلَاثَةِ ثُمَّ حُكْمُ الثَّلَاثَةِ هَذَا فَكَذَا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ. وَجْهُ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ لَا تُحَاذِيَانِ إلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ فَلَا تُفْسِدَانِ صَلَاةَ غَيْرِهِمْ وَفِي الصَّفِّ التَّامِّ، الْقِيَاسُ هَكَذَا أَنْ تَفْسُدَ صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ خَلْفَهُنَّ لَا غَيْرَ لِانْعِدَامِ مُحَاذَاتِهِنَّ لِمَنْ وَرَاءَ هَذَا الصَّفِّ الْوَاحِدِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فَحَكَمْنَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الصُّفُوفِ أَجْمَعَ لِحَدِيثِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» جَعَلَ صَفَّ النِّسَاءِ حَائِلًا كَالنَّهْرِ وَالطَّرِيقِ فَفِي حَقِّ الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ وُجِدَ تَرْكُ التَّأْخِيرِ مِنْهُمْ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ بِهِنَّ وَفِي حَقِّ الصُّفُوفِ الْأُخَرِ وُجِدَتْ الْحَيْلُولَةُ لَا غَيْرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةٌ كَامِلَةٌ لِلْفَسَادِ ثُمَّ الثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِجَمْعٍ حَقِيقَةً فَلَا يُلْحَقَانِ بِالصَّفِّ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي هِيَ اسْمُ جَمْعٍ فَانْعَدَمَتْ الْحَيْلُولَةُ فَيَتَعَلَّقُ الْفَسَادُ بِالْمُحَاذَاةِ لَا غَيْرَ وَالْمُحَاذَاةُ لَمْ تُوجَدْ إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ فَأَمَّا الثَّلَاثُ مِنْهُنَّ فَجَمْعٌ حَقِيقَةً فَأُلْحِقْنَ بِصَفٍّ كَامِلٍ فِي حَقِّ مَنْ صِرْنَ حَائِلَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَوَاحِدٍ عَنْ يَسَارِهِنَّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَسَادَ بِالْمُحَاذَاةِ لَا بِالْحَيْلُولَةِ وَلَمْ تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَقَفَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ فَأَتَمَّتْ بِهِ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَلِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً. وَأَمَّا صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ قَارَنَتْ شُرُوعَهَا فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ طَرَأَتْ كَانَتْ مُفْسِدَةً فَإِذَا اقْتَرَنَتْ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ اقْتِدَائِهَا بِهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَا تَقَعُ الشَّرِكَةُ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهَا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مُقَارِنًا لِلشُّرُوعِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ وَلَمْ تَأْتَمَّ بِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِانْعِدَامِ الْمُشَارَكَةِ، وَكَذَا إذَا قَامَتْ أَمَامَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّتْ بِهِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهَا لَمْ يَصِحَّ فَلَمْ تَقَعْ الْمُشَارَكَةُ، وَكَذَا إذَا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ وَنَوَتْ فَرْضًا آخَرَ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَنَوَتْ هِيَ الْعَصْرَ فَأَتَمَّتْ بِهِ ثُمَّ حَاذَتْهُ لَمْ تُفْسِدْ عَلَى الْإِمَامِ صَلَاتَهُ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ شَارِعَةً فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُشَارَكَةُ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْآذَانِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ شَارِعَةً فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَفَسَدَتْ صَلَاتُهَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ لِحُصُولِ الْفَسَادِ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهَا كَمَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَقَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَأَتَمَّتْ بِهِ تَنْوِي التَّطَوُّعَ ثُمَّ قَامَتْ بِجَنْبِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ فَكَذَا هَذَا وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَبْلُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْآذَانِ، وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْحَدَثِ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَتُجْعَلُ هِيَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا أَصْلًا فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي صَلَاتِهِ تَطَوُّعًا. وَلَوْ قَامَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ يَقْضِيَانِ مَا سَبَقَهُمَا الْإِمَامُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَا أَدْرَكَا أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَكَانَا نَامَا أَوْ أَحْدَثَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَيْنِ فِيمَا يَقْضِيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ عَلَى الْمَسْبُوقِ، وَلَوْ سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فَلَمْ
يَشْتَرِكَا فِي صَلَاةٍ فَلَا تَكُونُ الْمُحَاذَاةُ مُفْسِدَةَ صَلَاتِهِ، فَأَمَّا الْمُدْرِكَانِ فَهُمَا كَأَنَّهُمَا خَلْفَ الْإِمَامِ بَعْدُ بِدَلِيلِ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمَا وَانْعِدَامِ وُجُوبِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ عِنْدَ وُجُودِ السَّهْوِ كَأَنَّهُمَا خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً فَوَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَتُوجِبُ فَسَادَ صَلَاتِهِ. وَمُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: يَقْطَعُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، «وَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ فَقِيلَ لِأَبِي ذَرٍّ: وَمَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةِ: «يَا عُرْوَةُ مَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِرَاقِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ، فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ بِئْسَمَا قَرَنْتُمُونَا بِالْكِلَابِ وَالْحُمُرِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُعْتَرِضَةٌ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَرْأَةِ نَصٌّ خَاصٌّ وَكَذَا فِي الْحِمَارِ وَالْكَلْبِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَأَرَادَ ابْنُهَا عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ قِفْ فَوَقَفَ ثُمَّ أَرَادَتْ زَيْنَبُ بِنْتُهَا أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهَا أَنْ قِفِي فَلَمْ تَقِفْ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: إنَّهُنَّ أَغْلَبُ» . وَرُوِيَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: زُرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَخِي الْفَضْلِ عَلَى حِمَارٍ فِي بَادِيَةٍ فَنَزَلْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَالْحِمَارُ يَرْتَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ يَمُرَّانِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَارَّ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ أَوْ أَخَذَ طَرَفَ ثَوْبِهِ مِنْ غَيْرِ مَشْيٍ وَلَا عِلَاجٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَقَوْلِهِ «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ» ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا مَرَّتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ لِيَصْرِفَهَا لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ أَيْ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ بِإِحْدَاهَا كِفَايَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَيْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا. وَمِنْهَا الْمَوْتُ فِي الصَّلَاةِ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فِيهَا أَمَّا الْمَوْتُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عَنْ الْمُضِيِّ فِيهَا. وَأَمَّا الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُمَا يَنْقُضَانِ الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعَانِ الْبِنَاءَ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اعْتِرَاضَهُمَا فِي الصَّلَاةِ نَادِرٌ فَلَا يَلْحَقَانِ بِمَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْحَدَثُ السَّابِقُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إمَامًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقُومُ الْقَوْمُ فَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا كَمَا إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ. وَمِنْهَا الْعَمَلُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمَّا الْقَلِيلُ فَغَيْرُ مُفْسِدِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَثِيرُ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ وَالْقَلِيلُ مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ حَتَّى قَالُوا: إذَا زَرَّ قَمِيصَهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا حَلَّ إزَارَهُ لَا تَفْسُدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ عَمَلٍ لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ نَاظِرٌ رُبَّمَا يُشْبِهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ قَلِيلٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مَا إذَا قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا إذَا أَخَذَ قَوْسًا وَرَمَى بِهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْقَوْسِ وَتَثْقِيفَ السَّهْمِ عَلَيْهِ وَمَدِّهِ حَتَّى يَرْمِيَ عَمَلٌ كَثِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ، وَكَذَا النَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَابُوا عَلَى مُحَمَّدٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَرَمَى بِهَا فَقَالُوا: الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ إلْقَاؤُهَا مِنْ يَدِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الرَّمْي بِالسَّهْمِ رَمَى عَنْهَا لَا رَمَى بِهَا، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ غَرَضَ مُحَمَّدٍ تَعْلِيمُ الْعَامَّةِ وَقَدْ وَجَدَ هَذَا اللَّفْظَ مَعْرُوفًا فِي لِسَانِهِمْ فَاسْتَعْمَلَهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَكَذَا لَوْ ادَّهَنَ أَوْ سَرَّحَ رَأْسَهُ أَوْ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ صَبِيَّهَا وَأَرْضَعَتْهُ لِوُجُودِ حَدِّ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ عَلَى الْعِبَارَتَيْنِ، فَأَمَّا حَمْلُ الصَّبِيِّ بِدُونِ الْإِرْضَاعِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَقَدْ حَمَلَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ
فصل الكلام في صلاة الخوف
عَلَى عَاتِقِهِ فَكَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا» ثُمَّ هَذَا الصَّنِيعُ لَمْ يُكْرَهْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ لِبَيَانِهِ الشَّرْعَ بِالْفِعْلِ إنَّ هَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي زَمَانِنَا أَيْضًا لَا يُكْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ فَمَكْرُوهٌ. وَلَوْ صَلَّى وَفِي فِيهِ شَيْءٌ يُمْسِكُهُ إنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنْ يُخِلُّ بِهَا كَدِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ لُؤْلُؤَةٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ الرُّكْنِ وَلَكِنْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِالرُّكْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَا يُخِلُّ بِهِ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الرُّكْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي فِيهِ سُكَّرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي كَفِّهِ مَتَاعٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الرَّاحَتَيْنِ عِنْدَ السُّجُودِ يُكْرَهُ لِمَنْعِهِ عَنْ تَحْصِيلِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ رَمَى طَائِرًا بِحَجَرٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا فَرْقٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَيْثُ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا غَيْرَ مُفْسِدٍ إيَّاهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْصَلَ فِي بَابِ الصَّوْمِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ أَيْضًا لِوُجُودِ ضِدِّ الصَّوْمِ فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ تَرْكُ الْكَفِّ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ، وَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ كَثِيرًا مَا يُبْتَلَى بِهِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ فَلَوْ حَكَمْنَا بِالْفَسَادِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي الصَّلَاةِ سَاهِيًا نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَيُعْمَلُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؟ وَلَوْ مَضَغَ الْعِلْكَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ إلَيْهِ مِنْ بَعْدُ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ التَّحْدِيدِ هُوَ الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ حَيْثُ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدِ رَأْسًا فَضْلًا عَنْ اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ. وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ إنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِرِيقِهِ لِقِلَّتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً فَلَوْ جُعِلَ مُفْسِدًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ الْحِمَّصَةِ فَصَاعِدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ جَوْفَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَكَذَا الْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ قَدْ يُبْتَلَى بِهِ خُصُوصًا فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عِنْدَ امْتِلَاءِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْفِطْرِ فَلَوْ جُعِلَ مُفْسِدًا لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ. وَقَتْلُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ أَنْ عَقْرَبًا لَدَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ نَعْلَهُ وَغَمَزَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تُبَالِي نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ أَوْ قَالَ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ لِيَفْعَلَ الْمَكْرُوهَ خُصُوصًا فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْأَذَى فَكَانَ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُ الْحَيَّةِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَقْرَبِ. وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى مُعَالَجَةٍ وَضَرَبَاتٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُصَلِّي فَأَشْبَهَ الْمَشْيَ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءَ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤَ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ إذَا عَمِلَهَا الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ كَمَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَصَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ لَا تَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الْآيَةَ جَوَّزَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِشَرْطِ كَوْنِ الرَّسُولِ فِيهِمْ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا انْعَدَمَتْ الشَّرْطِيَّةُ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ حَالَ حَيَاتِهِ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي لِمَا فِيهَا مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَهِيَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي
فصل مقدارها صلاة الخوف
حَالَ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى اسْتِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ فِي زَمَانِنَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي فَيُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى جَوَازِهَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْبَهَانَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ كَانَ يُحَارَبُ الْمَجُوسَ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَحُذَيْفَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ: أَيُّكُمْ شَهِدَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَقَامَ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى نَحْوِ مَا يَقُولُهُ فَانْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَا مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ مُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ يَحْتَاجُونَ إلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِهِمْ وَإِلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ عَامًا فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَإِحْرَازُ الْفَضِيلَةِ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ فِيهِمْ لَا تَجُوزُ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. [فَصْلٌ مِقْدَارُهَا صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُهَا. فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ أَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ كَالْفَجْرِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِيمِينَ وَالصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ الثَّلَاثِ صَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا، وَلَا يَنْتَقِضُ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ صَلَاةُ الْمُقِيمِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً فَكَانَتْ لَهُ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ» ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَهَكَذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهَا رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَعِنْدَنَا يُصَلِّي الْإِمَامُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً وَاحِدَةً إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّة صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا. فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ فِي الْبَابِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا يَجْعَلُ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِطَائِفَةٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً إنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ فَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَجِيءُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجْعَلُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِطَائِفَةٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ وَيَمْكُثُ قَائِمًا فَتَتِمُّ هَذِهِ الطَّائِفَةُ صَلَاتَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَيُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ بَلْ يَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسَلِّمُ الْإِمَامُ حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاتَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَيُسَلِّمُونَ مَعَهُ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً انْتَظَرَهُمْ حَتَّى أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَذَهَبُوا إلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَبَدَءُوا بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرهُمْ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ» وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ شَاذًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ» . احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَرَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَقَامَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَبَرِسْتَانَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ لَمْ تَتَعَارَضْ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ مُتَعَارِضَةٌ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلَ
فصل شرائط جواز صلاة الخوف
مَذْهَبِنَا فَكَانَ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِمْ أَوْلَى مَعَ أَنَّ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ يَقْضُونَ مَا سُبِقُوا بِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ثُمَّ يُسَلِّمُونَ مَعَهُ، وَهَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ ثُمَّ نُسِخَ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَا رُوِيَ فِي الشَّاذِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفَّلِ وَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَوَّلًا وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ جُمْلَةً جَازَ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ صَفَّيْنِ وَيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِهِمْ جَمِيعًا فَإِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ رَكَعَ الْكُلُّ مَعَهُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعُوا جَمِيعًا وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَإِذَا قَعَدَ وَسَلِّمْ سَلَّمُوا مَعَهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تَجُوزُ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ هَكَذَا بِعُسْفَانَ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْعَدُوِّ الْقِبْلَةَ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ذَهَابًا وَمَجِيئًا وَاسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى نَحْو مَا يُصَلِّي أَنْ لَوْ كَانَ الْعَدُوُّ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] وَقَالَ {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] أَمَرَ بِجَعْلِ النَّاسِ طَائِفَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْحِرَاسَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ لَمْ يَكُونُوا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَكَانُوا أَقْدَرَ عَلَى الْحِرَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَا يُخَالِفُ كُلُّ صَفٍّ إمَامَهُمْ فِي سَجْدَةٍ، وَمُخَالَفَةُ الْإِمَامِ مَنْهِيَّةٌ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِحَالٍ، فَإِنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَمْشِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُتَطَوِّعُ عَلَى الدَّابَّةِ يُصَلِّي أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ الدَّابَّةُ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَا يَقْرَءُونَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَعَجَزُوا عَنْ الْإِتْمَامِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي فَصَارَ كَالنَّائِمِ وَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَجَاءَ، وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ يَقْرَءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ فَيَقْضُونَ بِقِرَاءَةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا فِي الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ: يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ بِالْخِيَارِ. وَجْهُ قَوْلِ سُفْيَانَ إنْ فَرَضَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي ذَلِكَ حَظًّا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: مُرَاعَاةُ التَّنْصِيفِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنْ شَاءَ صَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ صَلَّى بِأُولَئِكَ، وَلَنَا أَنَّ التَّنْصِيفَ وَاجِبٌ وَقَدْ تَعَذَّرَ هَهُنَا وَكَانَ تَفْوِيتُ التَّنْصِيفِ عَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْوِيتَ قَصْدًا بَلْ حُكْمًا لِإِيفَاءِ حَقِّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً وَنِصْفًا لِتَتَحَقَّقَ الْمُعَادِلَةُ فِي الْقِسْمَةِ فَشُرِعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَضَاءً لِحَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا، فَأَمَّا لَوْ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ فَوَّتَ التَّنْصِيفَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَصْدًا لَا حُكْمًا لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدُ بِإِيفَاءِ حَقِّ الثَّانِيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَفْوِيتَ الْحَقِّ حُكْمًا دُونَ تَفْوِيتِهِ قَصْدًا؛ لِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى تَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَقْعُدُونَ بَيْنَهُمَا وَبَعْدَهُمَا كَمَا يَفْعَلُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَتَيْنِ فِي الْمَغْرِبِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ. فَمِنْهَا أَنْ لَا يُقَاتِلَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] أَبَاحَ لَهُمْ أَخْذَ السِّلَاحِ فَيُبَاحُ الْقِتَالُ وَلِأَنَّ أَخْذَ السِّلَاحِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقِتَالِ، وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ وَقَالَ: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ
فصل حكم صلوات الخوف إذا فسدت أو فاتت عن أوقاتها
اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا» فَلَوْ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ إدْخَالَ عَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْمَشْيِ لَا فِي الْقِتَالِ مَعَ أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ بَقَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْمَشْيِ لَا الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ فَوْقَ الْبَقَاءِ فَأَنَّى يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِخِلَافِ أَخْذِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْجَوَازِ مَعَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَنْصَرِفَ مَاشِيًا وَلَا يَرْكَبُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَلَوْ رَكِبَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ انْصِرَافُهُ مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى الْعَدُوِّ أَوْ مِنْ الْعَدُوِّ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْطَفُّوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَكَذَا أَخْذُ السِّلَاحِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلدَّفْعِ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ غَفَلُوا عَنْ أَسْلِحَتِهِمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الضَّرُورَة، وَلَوْ كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ وَلَا يُمْكِنُهُمْ النُّزُولُ عَنْ دَوَابِّهِمْ صَلَّوْا رُكْبَانًا بِالْإِيمَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] ثُمَّ إنْ قَدَرُوا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِقْبَالُ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ إذَا صَلَّاهَا عَلَى الدَّابَّةِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْفَرْضِ أَضْيَقُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِيمَاءُ فِي التَّطَوُّعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ، وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَلَا يُصَلُّونَ جَمَاعَةً رُكْبَانًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ فِي الْخَوْفِ أَنْ يُصَلُّوا رُكْبَانًا بِجَمَاعَةٍ وَقَالَ أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ لِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَقَدْ جَوَّزْنَا لَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ طَرِيقًا فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَشْيِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا وَلَوْ صَلَّى رَاكِبًا وَالدَّابَّةُ سَائِرَةٌ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ فِعْلُ الدَّابَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِتَسْيِيرِهِ فَإِذَا جَاءَ الْعُذْرُ انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى مَاشِيًا أَوْ سَابِحًا حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً فَلَا يُتَحَمَّلُ إلَّا إذَا كَانَ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ طَالِبًا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ فِي حَقِّهِ فَيُمْكِنُهُ النُّزُولُ وَكَذَلِكَ الرَّاجِلُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُومِئُ إيمَاءً لِمَكَانِ الْعُذْرِ كَالْمَرِيضِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ حَتَّى لَوْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُعَايِنُوا الْعَدُوَّ جَازَ لِلْإِمَامِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَوْمِ إذَا صَلَّوْا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَكَذَا لَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَإِذَا هُوَ إبِلٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ صَلَاةُ الْكُلِّ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ شُرِعَتْ عِنْدَ الْخَوْفِ وَقَدْ صَلَّوْا عِنْدَ الْخَوْفِ فَتُجْزِئُهُمْ، وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ الْخَوْفُ مِنْ الْعَدُوِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ مَقْضِيَّةٌ بِالْجَوَازِ؛ لِانْعِدَامِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْقَوْمِ فَلَا يُتَحَمَّلُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ، ثُمَّ الْخَوْفُ مِنْ سَبُعٍ يُعَايِنُوهُ كَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ؛ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ بِحُكْمِ الْعُذْرِ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا أَوْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْجَمَاعَةِ أَوْ عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فِي آخِرِ تِلْكَ الصَّلَاةِ. أَمَّا إذَا فَسَدَتْ يَجِبُ إعَادَتُهَا مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا؛ لِأَنَّهَا إذَا فَسَدَتْ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ تَفْرِيقُهَا عَنْهُ بِالْأَدَاءِ. وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ صَلَاةٌ مِنْهَا عَنْ وَقْتِهَا بِأَنْ نَامَ عَنْهَا أَوْ نَسِيَهَا ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ اشْتَغَلَ عَنْهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَالْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ. يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أَوْ اسْتَيْقَظَ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهَا تُقْضَى إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَأَمْكَنَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْوَقْتِ لِمَعَانٍ هِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَهِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى
وَتَعْظِيمُهُ وَقَضَاءُ حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَتَكْفِيرُ الزَّلَلِ وَالْخَطَايَا الَّتِي تَجْرِي عَلَى يَدِ الْعَبْدِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ وَأَمْكَنَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا مَشْرُوعٌ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ حَقًّا لَهُ فَيَقْضِي بِهِ مَا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ إذْ الْإِيجَابُ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَمِنْهَا فَوَاتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْفَائِتِ وَلَا فَائِتَ مُحَالٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا مَشْرُوعًا لَهُ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ إذَا الْقَضَاءُ صَرَفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ إذْ الْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا، فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ اسْتِدْرَاكًا لِلْمُصْلِحَةِ الْفَائِتَةِ فِي الْوَقْتِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَفَوَاتُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ لَا يَقِف عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي زَمَانِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَلَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ إذْ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ وَالْإِسْلَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِمْ حَرَجًا؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ وَالْجُنُونُ إذَا اسْتَحْكَمَ وَهُوَ الطَّوِيلُ مِنْهُ قَلَّمَا يَزُولُ وَالْإِسْلَامُ مِنْ الْكَافِرِ الْمُقَلِّدِ لِآبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ نَادِرٌ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ. وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِيمَاءِ إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرَأَ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ فِي الْمَرِيضِ: إنَّهُ يَقْضِي وَإِنْ امْتَدَّ وَطَالَ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ؛ لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَإِنْ كَانَتَا تَفْهَمَانِ الْخِطَابَ بَلْ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْمَرِيضِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُونَ الْقَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى أَنَّ سَابِقِيَّةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الصَّلَوَاتُ الْفَائِتَةُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إذَا قَضَاهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا بِلَا تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ صَلَاةً مَشْرُوعَةً مِنْ جِنْسِ الْفَائِتَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَكْبِيرٌ مَشْرُوعٌ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يَجْهَرُ بِهِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ إلَّا الْوَقْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ بَلْ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةً وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الزَّوَالِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِمَا مَرَّ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفَائِتِ وَالصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَقَعُ نَاقِصَةً وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَقَضَاءُ الْفَرَائِضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْفَجْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَمَا يَجُوزُ أَدَاءُ عَصْرِ يَوْمِهِ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ وَقْتٍ وَوَقْتٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَصْرُ يَوْمِهِ أَدَاءٌ فَكَذَا قَضَاءٌ، وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِصِيغَتِهِ وَبِمَعْنَاهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا رَوَاهُ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَمَا نَرْوِيهِ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيُخَصِّصُهَا عَنْ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ مَعَ مَا أَنَّ عِنْدَ التَّعَارُضِ الرُّجْحَانُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِعَصْرِ يَوْمِهِ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا فَجَوَّزْنَاهَا، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ لَأَمَرْنَا بِالتَّفْوِيتِ، وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلَوْ جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ كَانَ الْأَدَاءُ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ يَتَضَيَّقُ وُجُوبُهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَافِرًا لَوْ أَسْلَمَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ صَبِيًّا احْتَلَمَ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَالصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ وَفِي عَصْرِ يَوْمِهِ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ بِخِلَافِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ فِيهَا الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَضَيَّقُ بِآخِرِ وَقْتِهَا وَلَا نَهْيَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَوَجَّهُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي الْوَقْتِ وَفَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كَيْفِيَّةِ قَضَائِهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ وَتُقْضَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَهَا بَعْدَ سَابِقِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَالْفَوْتُ يَكُونُ تَسْلِيمَ مِثْلِ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةِ الْفَائِتِ لِتَكُونَ مِثْلَهُ إلَّا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَدَاءِ يَسْقُطُ بِعُذْرٍ فَلَأَنْ يَسْقُطَ وَصْفُهُ لِعُذْرٍ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ الْوُجُوبِ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ يُعْتَبَرُ فِي قَضَائِهَا الْحَالُ وَهِيَ حَالُ الْقَضَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَثْبُتْ فَيُقْضَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ أُقِيمَ مَقَامَ صِفَةِ الْأَصْلِ خَلَفًا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَيُرَاعَى صِفَةُ الْأَصْلِ لَا صِفَةُ الْفَائِتِ كَمَنَ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ بِالتَّيَمُّمِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ فِي الْإِقَامَةِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ كَذَلِكَ وَفَاتَتْهُ كَذَلِكَ فَيُرَاعَى وَقْتُ الْوُجُوبِ لَا وَقْتُ الْقَضَاءِ وَكَذَا الْمُقِيمُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ السَّفَرِ يَقْضِيهَا رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فَاتَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا قَضَى فَوَائِتَ الصِّحَّةِ قَضَاهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَى حَسَبِ الْفَوَاتِ، وَأَصْلُ الْأَدَاءِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ وَصْفُهُ أَوْلَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ الْمَرَضِ يَقْضِيهَا عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الصِّحَّةِ لَا عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْفَوَاتِ حَتَّى لَوْ قَضَاهَا كَمَا فَاتَتْهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ فَقَضَاهَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِالْإِيمَاءِ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الصَّلَاةِ خَلَفًا عَنْهَا لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَدَاءِ بِالْإِيمَاءِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ بِالْإِيمَاءِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهَا فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيهِ كَمَا وَجَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إذَا فَاتَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَأَدْرَكَ الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ اللَّاحِقِ وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ حَتَّى صَلَّى الْإِمَامُ بَعْضَ صَلَاتِهِ ثُمَّ انْتَبَهَ أَوْ رَجَعَ مِنْ الْوُضُوءِ فَكَيْفَ يَقْضِي مَا سُبِقَ بِهِ؟ أَمَّا الْمَسْبُوقُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ وَلَا يُتَابِعُهُ فِي التَّسْلِيمِ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ يَقُومُ هُوَ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَلَوْ بَدَأَ بِمَا سُبِقَ بِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ لِوُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِالنَّصِّ وَالِانْفِرَادُ عِنْدَ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَدِيثٌ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بِهَا» أَمَرَ بِالِاسْتِنَانِ بِسُنَّتِهِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ عَقِيبَ الْإِدْرَاكِ بِلَا فَصْلٍ فَصَارَ نَاسِخًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَأَمَّا اللَّاحِقُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ يُتَابِعُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِالْتِزَامِهِ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ وَإِتْمَامِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلِهَذَا لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ لَا سَهْوٍ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ إلَّا فِي قَدْرِ مَا أَدْرَكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْرَأُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ بِخِلَافِ اللَّاحِقِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنَّهُ تَابَعَ الْإِمَامَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ ثُمَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ أَوْ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَكَذَا مَا يَقْضِيهِ اُخْتُلِفَ فِيهِمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ آخَرَ صَلَاتَهُ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَمَا يَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ أَنَّ مَا يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا كَمَا هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَمَا يُقْضَى آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمًا كَمَا هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ قَوْلِهِمْ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: وَجَدْتُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَمَا يَقْضِي آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَمَا قَالَ أُولَئِكَ إلَّا فِي حَقّ مَا يَتَحَمَّلُ
الْإِمَامُ عَنْهُ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقُنُوتِ وَالِاسْتِفْتَاحِ فَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ يَأْتِي بِالِاسْتِفْتَاحِ عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَا فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْإِمَامُ فَكَانَتْ الرَّكْعَةُ الْمُدْرَكَةُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الِاسْتِفْتَاحِ فَيَأْتِي بِهِ هُنَاكَ. وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَيَأْتِي بِهِ ثَانِيًا فِي آخِرِ مَا يَقْضِي فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَمَا أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ أَتَى بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا فِي آخِرِ مَا يَقْضِي كَمَا هُوَ قَوْلُ أُولَئِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَحَمَّلُ الْقُنُوتَ عَنْ الْقَوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ فِي الْقُنُوتِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ لِشَبَهِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ الْقُنُوتَ وَمَعَ هَذَا قَالَ لَا يَأْتِي بِهِ الْمَسْبُوقُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَرَّةً مَعَ الْإِمَامِ وَلَوْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ حَيْثُ يَأْتِي بِهِ إذَا قَضَى رَكْعَةً وَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَدَّى إلَى التَّكْرَارِ لَكِنَّ التَّكْرَارَ فِي التَّشَهُّدِ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَأْتِي بِالِاسْتِفْتَاحِ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَلْ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حُكْمًا هَذَا، وَهُوَ مَا يَقْضِي لَا ذَاكَ وَلَا يَأْتِي بِالْقُنُوتِ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَمَا يَقْضِي أَوَّلُ صَلَاتِهِ وَمَحَلُّ الْقُنُوتِ آخِرُ الصَّلَاةِ لَا أَوَّلُهَا فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِفْتَاحِ لَا فِي الْقُنُوتِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِفْتَاحِ احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ لِأَصْحَابِنَا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِتْمَامِ عَلَى أَدَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ بِآخِرِهِ فَدَلَّ أَنَّ الَّذِي يَقْضِي آخِرَ صَلَاتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَعْدَةِ عَلَى مَنْ سُبِقَ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ إذَا قَضَى رَكْعَةً وَلَوْ كَانَ مَا يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَمَا وَجَبَتْ الْقَعْدَةُ الْوَاحِدَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا عَقِيبَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا إذَا قَضَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَعْدَةُ وَالْقَعْدَةُ لَا تُفْتَرَضُ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ كَانَ مَا قَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ فَيَكُونُ فَرْضًا لَهُ كَمَا لِلْإِمَامِ فَلَا يُفْتَرَضُ ثَانِيًا فِيمَا يَقْضِي كَمَا لَا يَأْتِي بِالْقُنُوتِ عِنْدَكُمْ ثَانِيًا لِحُصُولِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا سُبِقَ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ حَيْثُ يَقْضِيهِمَا مَعَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ مَا يَقْضِي آخِرَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكَانَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَقْضِيهِمَا؛ لِأَنَّهَا ثَالِثَةٌ وَلَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْرَأْ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا بُدَّ لِلْمَسْبُوقِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِيهَا قَضَاءً عَنْ الْأُولَى، كَمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَى يَقْضِي فِي الثَّالِثَةِ وَإِنْ كَانَ قَرَأَ فَقِرَاءَتُهُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي ثَالِثَتِهِ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ إنَّمَا تَنُوبُ عَنْ قِرَاءَةِ الْمُقْتَدِي الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْمُقْتَدِي إذَا كَانَتْ فَرْضًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقِرَاءَةُ فِي الثَّالِثَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا تَنُوبُ عَنْ الْمُقْتَدِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الثَّالِثَةِ لِهَذَا لَا لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُؤَدَّى مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً وَمَا يُقْضَى آخِرَهَا حَقِيقَةٌ وَكُلُّ حَقِيقَةٍ يَجِبُ تَقْرِيرُهَا إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّغْيِيرِ، وَمَا أَدْرَكَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ فَتَصِيرُ آخِرَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ إلَّا أَنَّ التَّبَعِيَّةَ تَظْهَرُ فِي حَقِّ مَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ عَنْ الْمُقْتَدِي لَا فِي حَقِّ مَا لَا يَتَحَمَّلُ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فَانْعَدَمَ الدَّلِيلُ الْمُعْتَبَرُ فَبَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِهَا وَتَقْرِيرِهَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَالْقَضَاءُ اسْمٌ لِمَا يُؤَدَّى مِنْ الْفَائِتِ وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَا يُؤَدِّيهِ الْمَسْبُوقُ قَضَاءً لِمَا فَاتَهُ وَهُوَ أَوَّلُ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُدْرَكَ لَمَّا كَانَ آخِرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي إذْ لَوْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَفَاتَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ وَإِنَّهُ مَانِعُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ فَيَقْضِي الِاتِّفَاقُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّابِعِ مَا لِلْمَتْبُوعِ وَإِلَّا فَاتَتْ التَّبَعِيَّةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْعِدَامِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْأُولَيَيْنِ
فصل الكلام في مسائل السجدات يدور على أصول
إلَّا فَرْضًا وَتُوجَدُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرَ فَرْضٍ وَكَذَا تَجِبُ فِي الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ لَا تَجِبُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَكَذَا الشَّفْعُ الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ عَلَى الْأَصَالَةِ وَالشَّفْعُ الثَّانِي مَشْرُوعٌ زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفْرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ وَمَعَ هَذَا صَحَّ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آخِرَ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ بِآخِرِهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ حَدَّ التَّمَامِ مَا إذَا حَرَّرْنَاهُ لَمْ يُحْتَجْ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَا لَا يَخْتَصُّ بِأَوَّلٍ وَلَا بِآخِرٍ فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ آخِرَ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ كَتَبَ أَوَّلَهُ يَصِيرُ مُتَمِّمًا بِالْأَوَّلِ لَا بِالْآخِرِ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْكِتَابِ بِأَنْ قَرَأَ أَوَّلًا نِصْفَهُ الْأَخِيرِ ثُمَّ الْأَوَّلَ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَعْدَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُبِقَ بِهِمَا فَنَقُولُ الْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا اُبْتُلِيَا بِهَذَا فَصَلَّى جُنْدُبُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ وَصَلَّى مَسْرُوقٌ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى فَسَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كِلَاكُمَا أَصَابَ وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ مَسْرُوقٌ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِتَصْوِيبِهِمَا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيُحْمَلُ عَلَى التَّصْوِيبِ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ لَا فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ثُمَّ الْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّ الْمُدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَفِعْلًا لَكِنَّا جَعَلْنَا آخِرَ صَلَاتِهِ حُكْمًا لِلتَّبَعِيَّةِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ فَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً فَكَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ ثَانِيَةَ هَذَا الْمَسْبُوقِ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَغْرِبِ وَاجِبَةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ وَكَذَا الْقَعْدَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ اُفْتُرِضَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وُجِدَتْ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ وَاجِبَةَ الِاعْتِبَارِ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَحَلِّهَا فَلَا يُؤْتَى بِهَا ثَانِيًا قُلْنَا هِيَ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي كَمَا وَقَعَتْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ غَيْرَ أَنَّهَا مَا وَقَعَتْ فَرْضًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا مَا كَانَتْ لِوُقُوعِهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بَلْ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهَا حَتَّى أَنَّ الْمُتَطَوِّعَ إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ انْقَلَبَتْ قَعْدَتُهُ وَاجِبَةً عِنْدَنَا وَلَمْ تَبْقَ فَرْضًا لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ فَكَذَا هَذِهِ الْقَعْدَةُ عِنْدَنَا جُعِلَتْ فِعْلًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِمَّا سَبَقَ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ فَافْتُرِضَتْ الْقَعْدَةُ. وَأَمَّا حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَقُول: إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ ثُمَّ قَامَ إلَى الْقَضَاءِ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ فَرْضٌ فَتَرْكُهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ فَلِعِلَّةٍ أُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا قَضَى رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَقَامَ إلَى الْقَضَاءِ قَضَى رَكْعَةً يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْضِي رَكْعَةً أُخْرَى يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَاهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا قُلْنَا وَفِي الثَّالِثَةِ هُوَ بِالْخِيَارِ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ لِمَا عُرِفَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مَا إذَا قَرَأَ إمَامُهُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَبَيْنَ مَا إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا، وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ وَأَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ تَلْتَحِقُ بِالْأُولَيَيْنِ فَتَخْلُو الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فِيهِمَا. وَأَمَّا إذَا فَاتَ شَيْءٌ عَنْ مَحَلِّهِ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ سَجَدَاتِ صَلَاتِهِ سَاهِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَتْرُوكُ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَيَّةِ رَكْعَةٍ تَرَكَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْمَعْرُوفَةُ بِالسَّجَدَاتِ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ السَّجَدَاتِ يَدُورُ عَلَى أُصُولٍ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ السَّجَدَاتِ يَدُورُ عَلَى أُصُولٍ، مِنْهَا أَنَّ السَّجْدَةَ الْأَخِيرَةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا وَقُضِيَتْ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَضَاءِ وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ إذَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لِلْجَوَازِ وُجُوهٌ وَلِلْفَسَادِ وَجْهٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيمَا
قُلْنَا؛ لِأَنَّ إعَادَةَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ مَا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ السَّجْدَةَ الْمُؤَدَّاةَ فِي وَقْتِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَاَلَّتِي صَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا أُدِّيَتْ فِي مَحَلِّهَا تَنَاوَلَتْهَا نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا جُعِلَتْ مُتَنَاوِلَةً كُلَّ فِعْلٍ فِي مَحَلِّهِ الْمُتَعَيِّنِ لَهُ شَرْعًا، فَأَمَّا مَا وُجِدَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ النِّيَّةُ الْحَاصِلَةُ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ كَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ وَاجِبًا وَتَحْصِيلُ الْوَاجِبِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ السُّنَّةِ وَمَتَى دَار بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْفَرِيضَةِ كَانَ التَّحْصِيلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ وَاجِبٌ وَالْفَرْضُ أَهَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْفَرْضِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَتَحْصِيلَ الْبِدْعَةِ لَا يُفْسِدُهَا فَكَانَ تَحْصِيلُ الْفَرْضِ أَوْلَى. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَتْرُوكَ مَتَى دَارَ بَيْنَ سَجْدَةٍ وَرَكْعَةٍ يَأْتِي بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَأْتِي بِالرَّكْعَةِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ سَجْدَةً فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَيَتَشَهَّدُ وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ رَكْعَةً لَا يَضُرُّهُ تَحْصِيلُ زِيَادَةِ السَّجْدَةِ وَإِنَّمَا لَا يَبْدَأُ بِالرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَوْ كَانَ هُوَ الرَّكْعَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ هُوَ السَّجْدَةَ فَإِذَا أَتَى بِالرَّكْعَةِ فَقَدْ زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ فَانْعَقَدَتْ الرَّكْعَةُ تَطَوُّعًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْفَرْضِ فَيَفْسُدُ فَرْضُهُ وَإِذَا سَجَدَ قَعَدَ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَوْ كَانَ سَجْدَةً تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَافْتُرِضَتْ الْقَعْدَةُ وَلَوْ صَلَّى رَكْعَةً قَبْلَ التَّشَهُّدِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْفَرْضِ. وَلَوْ كَانَ الْمَتْرُوكُ هُوَ الرَّكْعَةَ لَا يَضُرُّهُ تَحْصِيلُ السَّجْدَةِ وَالْقَعْدَةِ وَقَدْ دَارَتْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ فَكَانَ التَّحْصِيلُ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرِيضَةِ بِأَنْ زَادَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا أَوْ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ زِيَادَةَ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ مُفْسِدَةٌ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ يُفْسِدُهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْفِقْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَكُونُ رُكْنًا وَتَرْكُهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ الثَّلَاثِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرِيضَةٌ لِمَا مَرَّ أَيْضًا. وَمِنْهَا أَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَجِبُ بِتَأْخِيرِ رُكْنٍ عَنْ مَحَلِّهِ وَتُؤَدَّى بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ هَذَا أَيْضًا. وَمِنْهَا أَنْ يُنْظَرَ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ إلَى الْمُؤَدَّيَاتِ مِنْ السَّجَدَاتِ وَإِلَى الْمَتْرُوكَاتِ فَتُخَرَّجُ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَعِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا يُخَيَّرُ لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عَرَفْتَ الْأُصُولَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إذَا تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَالْمَتْرُوكُ مِنْهُ إمَّا أَنْ كَانَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ عَلَى رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ أَوْ لَمْ يَزِدْ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْهَا فَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ سَجَدَهَا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهَا فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا وَلَمْ تَفْسُدْ الصَّلَاةُ بِفَوَاتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا؛ لِأَنَّهَا رُكْنٌ وَلَوْ لَمْ يَقْضِ حَتَّى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَالْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إذَا فَاتَتْ عَنْهُمَا تُقْضَى فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهَا رُكْنٌ وَلَوْ لَمْ تُقْضَ حَتَّى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ، وَإِنْ فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ لِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِقِيَامِ التَّحْرِيمَةِ كَذَا هَذَا، وَيَنْوِي الْقَضَاءَ عِنْدَ تَحْصِيلِ هَذِهِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَحْتَاجُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ أَصْلِ الصَّلَاةِ تَنَاوَلَتْهُ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَأْتِي بِالنِّيَّةِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ يَنْوِي مَا عَلَيْهِ مِنْ السَّجْدَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سَجْدَةٍ مَتْرُوكَةٍ يَسْجُدُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّشَهُّدِ. وَلَوْ تَرَكَهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِمَا مَرَّ وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُهُمَا وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تُقَيَّدُ كُلُّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ وَتَوَقَّفَ تَمَامُهَا عَلَى سَجْدَةِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ وَإِذَا تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيُتِمُّهَا بِسَجْدَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْأَدَاءِ لِوُجُودِهِمَا فِي مَحَلِّهِمَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى صَلَّى رَكْعَةً
وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ صَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلْغُوَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَلْتَحِقَانِ بِأَحَدِ الرُّكُوعَيْنِ لَكِنَّهُمَا يَلْتَحِقَانِ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالْآخِرِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الرُّكُوعُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ يَلْتَحِقَانِ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي وَيَلْغُو الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ أَوَانِهِ إذْ أَوَانُهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَالرُّكُوعُ الثَّانِي وَقَعَ فِي أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ كُلِّهَا. وَلَوْ أَدْرَكَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ، وَفِي رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ الْمُعْتَبَرِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُضَمُّ السَّجْدَتَانِ لِلسَّهْوِ وَيَلْغُو الثَّانِي، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَرَكَ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ مِنْ الْأُولَى وَالْأُخْرَى مِنْ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَتِمُّ بِسَجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقَيَّدَتْ بِالسَّجْدَةِ فَيَلْتَحِقُ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةٌ فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ وَتَكُونُ السَّجْدَتَانِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ لِفَوَاتِهِمَا عَنْ مَحَلِّهِمَا وَإِنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا السَّجْدَتَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَقَدْ حَصَلَتْ السَّجْدَتَانِ عَلَى وَجْهِ الْأَدَاءِ لِحُصُولِهِمَا بَعْدَهُمَا عَقِيبَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ فَيُحْكَمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَا رَكْعَةَ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ مَا وُجِدَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَلْتَحِقَانِ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ الرُّكُوعُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ وَحَصَلَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ مُكَرَّرًا فَلَمْ يَكُنْ بِهِمَا عِبْرَةٌ فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ وَعَلَى رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ تَنْصَرِفُ السَّجْدَتَانِ إلَى الرُّكُوعِ الثَّانِي لِقُرْبِهِمَا مِنْهُ فِعْلًا عَلَى مَا مَرَّ وَيَرْتَفِضُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ وَالْقِيَامُ قَبْلَهُ وَيَلْغُوَانِ، فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ فَفِي حَالَتَيْنِ يَجِبُ سَجْدَتَانِ وَفِي حَالَةٍ رَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ وَيَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ سَجْدَتَيْنِ تَتِمُّ صَلَاتُهُ بِهِمَا وَبِالتَّشَهُّدِ بَعْدَهُمَا فَالرَّكْعَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْفَرْضِ لَا تَضُرُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ رَكْعَةً فَزِيَادَةُ السَّجْدَتَيْنِ وَقَعْدَةٍ لَا تَضُرُّ أَيْضًا. وَلَوْ بَدَأَ بِالرَّكْعَةِ قَبْلَ السَّجْدَتَيْنِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ رَكْعَةٌ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِهِمَا وَإِنْ كَانَ سَجْدَتَانِ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ تُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِمَا مَرَّ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ صَلَاتِهِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَتَيْنِ الْقَضَاءَ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدًا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى أَقَلُّ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فَنَقُولُ لَا يَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْمِيلًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَلَا يَتَشَهَّدُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ بِتَحْصِيلِ رَكْعَةٍ لَا يَتَوَهَّمُ تَمَامَ الصَّلَاةِ لِيَتَشَهَّدَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَةِ قَضَاءَ الْمَتْرُوكَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِسَجْدَةٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ الْقَضَاءَ تَتَقَيَّدُ بِهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ فَإِذَا قَامَ بَعْدَهَا وَصَلَّى رَكْعَةً كَانَ مُتَنَفِّلًا بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِذَا نَوَى بِهَا الْقَضَاءَ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا وَانْتَقَضَ الرُّكُوعُ الْمُؤَدَّى بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَلِهَذَا يَنْوِي بِهَا الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مَاذَا يَفْعَلُ، وَقِيلَ إنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ تَشَهُّدٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَامَ وَرَكَعَ مَرَّتَيْنِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِيَلْتَحِقَ بِأَحَدِ الرُّكُوعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَلْغُو الرُّكُوعُ الْآخَرُ وَقِيَامُهُ وَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ صَلَّى رَكْعَةً تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ تَرَكَ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ مِنْ الْعَصْرِ أَوْ مِنْ الْعِشَاءِ سَجْدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً وَيَتَشَهَّدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَجْرِ. وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَيَّتُهُمَا كَانَتَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَلَوْ تَرَكَهُمَا مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ؛ لِأَنَّ قِيَامًا وَرُكُوعًا ارْتَفَضَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِذَا كَانَ يَجِبُ فِي حَالٍ رَكْعَةٌ وَفِي حَالٍ سَجْدَتَانِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا، وَإِذَا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يَقْعُدُ لِجَوَازِ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرْضٌ وَيَنْوِي بِالسَّجْدَتَيْنِ مَا عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنَّ تَرْكَهُمَا مِنْ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ الْأَخِيرَةِ أَوْ مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَهَا وَيَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ احْتِيَاطًا لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ
وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَيُقَيِّدُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّابِعَةِ فَيُتِمُّ الرَّابِعَةَ بِسَجْدَتَيْنِ وَيَلْتَحِقُ سَجْدَةٌ بِمَحَلِّهَا وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَيَلْغُو قِيَامٌ وَرُكُوعٌ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ لِتَنْضَمَّ إلَى تِلْكَ الرَّكْعَةِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ فِي حَالَتَيْنِ وَرَكْعَةٌ فِي حَالٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ عَلَى الرَّكْعَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَنْوِي بِالسَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ مَا عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ وَيَجْلِسُ بَيْنَ السَّجَدَاتِ وَالرَّكْعَةِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ. وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّابِعَةِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْأَرْبَعَ كُلَّهَا مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ مِنْهَا وَسَجْدَتَيْنِ فِي الرَّابِعَةِ فَقَدْ لَغَا قِيَامَانِ وَرُكُوعَانِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ، وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ وَسَجْدَتَانِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهَا لَا يَضُرُّ، وَتَقْدِيمُ الرَّكْعَتَيْنِ يُفْسِدُ الْفَرْضَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالصَّلَاةُ إذَا فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ يُحْكَمُ بِفَسَادِهَا احْتِيَاطًا لِمَا مَرَّ وَيَنْوِي فِي ثَلَاثِ سَجَدَاتٍ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثِنْتَيْنِ فِيهَا قَضَاءٌ لَا مَحَالَةَ وَالرَّابِعَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ كَانَتْ زَائِدَةً أَوْ مِنْ الرَّابِعَةِ فَلَا يَنْوِي فِيهَا وَالثَّالِثَةُ مُحْتَمَلَةٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ الرَّابِعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَيَنْوِي احْتِيَاطًا وَإِذَا سَجَدَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَتَشَهَّدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ صَلَاتِهِ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرِيضَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَتَشَهَّدُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ عَلَيْهِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ آخِرَ صَلَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَعْدَةِ فَيَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى وَيَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَيَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهَهُنَا يُعْتَبَرُ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ فَهَذَا رَجُلٌ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنْ سَجَدَهَا فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَقَيَّدَتْ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ. وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَتَانِ فَفِي حَالٍ عَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ وَفِي حَالٍ رَكْعَتَانِ وَسَجْدَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَهَلْ يَقْعُدُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ؟ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَا يَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ الْتَحَقَتْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةٌ فَتَمَّتْ لَهُ الثَّلَاثُ، وَالْقَعْدَةُ عَلَى رَأْسِ الثَّالِثَةِ بِدْعَةٌ. وَلَوْ كَانَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ تَمَّتْ لَهُ رَكْعَتَانِ وَسَجْدَتَانِ إلَّا أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ لَغَتَا، وَالْقَعْدَةُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا سُنَّةٌ فَدَارَتْ الْقَعْدَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَكَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَكِنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَهُوَ أَهَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ فَكَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَقْعُدُ بَعْدَ السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ لَمَّا دَارَتْ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ كَانَ تَحْصِيلُ الْوَاجِبِ مُسْتَحَبًّا فَقَالُوا: يَقْعُدُ هَهُنَا قَعْدَةً مُسْتَحَبَّةً لَا مُسْتَحَقَّةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ رَابِعَتُهُ مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ كَانَ أَدَّى السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ تَمَّتْ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً فَهَذِهِ رَابِعَتُهُ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَهَا فَرْضٌ وَهِيَ ثَالِثَتُهُ مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ أَدَّى السَّجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ، فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ الْتَحَقَتْ سَجْدَةٌ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةً وَتَمَّتْ لَهُ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ هَذِهِ ثَالِثَتَهُ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَهَا بِدْعَةٌ فَدَارَتْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ فَيُغَلَّبُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْفَرْضِ لِمَا فِي تَرْكِ الْفَرْضِ مِنْ ضَرَرِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ
فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَتِمَّ الرَّكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ أُخْرَاوَانِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيُقَدِّمُ السَّجْدَتَيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَبَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ هَلْ يَسْجُدُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنَّهَا بَعْدَ رَكْعَةٍ أَمْ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ كَانَتْ الْقَعْدَةُ بَعْدَ رَكْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ الْقَعْدَةُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ رَكْعَةٍ بِدْعَةً، وَبَعْدَهُمَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبَةٌ، وَكَذَا هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا صَلَّى بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِكَوْنِ الرَّكْعَةِ دَائِرَةً بَيْنَ كَوْنِهَا ثَانِيَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثَالِثَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ كَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ ثَانِيَةً، وَإِنْ كَانَ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ ثَالِثَةً، وَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى يَجْلِسُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهَا دَائِرَةً بَيْنَ كَوْنِهَا رَابِعَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثَالِثَةً فَافْهَمْ. وَلَوْ تَرَكَ سَبْعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً فَلَمْ تَتَقَيَّدْ إلَّا رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ سَجْدَةُ لِتَتِمَّ هَذِهِ الرَّكْعَةُ وَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِتَتِمَّ الْأَرْبَعُ. وَلَوْ تَرَكَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ يَلْتَحِقَانِ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ وَيَرْتَفِضُ الْبَاقِي عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُصَلِّيًا رَكْعَةً فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِتَتِمَّ الْأَرْبَعُ. وَلَوْ تَرَكَ مِنْ الْمَغْرِبِ سَجْدَةً سَجَدَهَا لَا غَيْرُ لِمَا مَرَّ وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِمَا بَيَّنَّا وَيَقْعُدُ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنَّ فَرْضَهُ تَمَّ بِأَنْ تَرَكَهَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةُ تَكُونُ تَطَوُّعًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُعُودِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا سَجَدَهَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَيَتَشَهَّدُ، وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الثَّالِثَةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ. وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا لِلْمُؤَدَّاةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ فَهَذَا رَجُلٌ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَةٍ فَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ، وَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تَقَيَّدَ بِكُلِّ سَجْدَةٍ رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِيَتِمَّا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، فَفِي حَالٍ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ وَفِي حَالٍ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. وَبَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ الْجِلْسَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عَلَى مَا مَرَّ وَبَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ يَجْلِسُ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أَنَّهَا ثَالِثَةٌ، وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ وَقَدْ كَانَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسَّجْدَةِ لَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَتَقَيَّدُ لَهُ رَكْعَتَانِ يَتَوَقَّفَانِ عَلَى سَجْدَتَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَدَائِهَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتِمُّ بِهِمَا الرَّكْعَتَانِ الْمُقَيَّدَتَانِ فَسَدَتْ فَرْضِيَّةُ صَلَاتِهِ، فَإِذَا نَوَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَقَيَّدَتْ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ تَمَّتْ بِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْعُدُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ ثَانِيَتُهُ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَعْدَةِ شُبْهَةُ الْبِدْعَةِ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِتَلْتَحِقَا بِرُكُوعٍ مِنْهَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَتَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ لِعَدَمِ شُبْهَةِ الْبِدْعَةِ ثُمَّ أُخْرَى وَيَقْعُد فَرْضًا هَذَا إذَا كَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ فَأَمَّا إذَا زَادَ بِأَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعًا لَمْ تَفْسُدْ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَتَى دَارَتْ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ نَحْكُمُ بِفَسَادِهَا احْتِيَاطًا، وَإِنَّ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ وَقَيَّدَ النَّفَلَ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْفَرْضِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ أَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ دُخُولِهِ فِي النَّفْلِ خُرُوجُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ فَيَفْسُدُ فَرْضُهُ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ قَبْلَ تَمَامِ الْفَرْضِ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى رَكَعَاتِ الْفَرْضِ رَكْعَةً يَضُمُّ الرَّكْعَةَ الزَّائِدَةَ إلَى الرَّكَعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَيَنْظُرُ إلَى عَدَدِهَا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى سَجَدَاتِ عَدَدِهَا فَتَكُونُ سَجَدَاتُ الْفَجْرِ بِالْمَزِيدِ سِتًّا؛ لِأَنَّهَا مَعَ الرَّكْعَةِ الزَّائِدَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَانِ وَسَجَدَاتُ الظُّهْرِ بِالْمَزِيدِ عَشْرًا وَسَجَدَاتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَزِيدِ ثَمَانِيًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ أَوْ النِّصْفَ يُحْكَمُ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ فَتَتَقَيَّدُ رَكَعَاتُ الْفَرْضِ كُلُّهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى الرَّكْعَةِ الزَّائِدَةِ
وَهِيَ تَطَوُّعٌ قَبْلَ أَدَاءِ تِلْكَ السَّجَدَاتِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمَفْرُوضَ مَعَ الزَّائِدِ لَمْ يَتَقَيَّدْ الْكُلُّ فَإِنَّ الْفَجْرَ مَعَ الزَّائِدِ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِسَجْدَتَيْنِ بَلْ لَوْ تَقَيَّدَ تَقَيَّدَ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِسَجْدَتَيْنِ فَلَمْ يُوجَدْ الِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ بَعْدُ، وَكَذَا خَمْسُ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَلَا الْمَغْرِبُ مَعَ الزِّيَادَةِ بِثَلَاثِ سَجَدَاتٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَفْسُدْ فَتَكُونُ الْمُؤَدَّيَاتُ أَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، فَيَنْظُرُ إلَى الْمُؤَدَّيَاتِ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ ثُمَّ يُتَمِّمُ الْفَرْضَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا عَرَفْتِ هَذِهِ الْأُصُولَ فَنَقُولُ: إذَا صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا مِنْ الْأُولَى أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِسَجْدَةٍ فَقَدْ انْعَقَدَتْ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةَ دُخُولِهِ فِي النَّفْلِ فَخَرَجَ مِنْ الْفَرْضِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ سَجْدَةٌ فَفَسَدَ فَرْضُهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى قَامَ وَذَهَبَ، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ الثَّالِثَةِ لَا تَفْسُدُ فَدَارَتْ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَنَحْكُمُ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ إنْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْأُولَى وَسَجْدَةً مِنْ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَقَيُّدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ بِسَجْدَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ فِي النَّفْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَرْضِ، وَكَذَا إنْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَسَجْدَةً مِنْ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ سَجْدَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ يَكْفِي لِفَسَادِ الْفَرْضِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَرَكَهُمَا مِنْ الثَّالِثَةِ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِذًا فِي حَالَيْنِ تَفْسُدُ وَفِي حَالٍ تَجُوزُ. وَلَوْ كَانَتْ تَجُوزُ فِي حَالَيْنِ وَتَفْسُدُ فِي حَالٍ لَلَزِمَ الْفَسَادُ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْقَوْلَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْتَمِلُ أَحَدُهُمَا الْجَوَازَ وَالْآخَرُ الْفَسَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَنَحْكُمُ بِالْفَسَادِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَقَّقَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ فِي قَوْلٍ: تَفْسُدُ لِمَا قُلْنَا، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ الْمَتْرُوكَتَيْنِ مِنْ الثَّالِثَةِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الثَّالِثَةِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ تَفْسُدُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ فَهَذَا الرَّجُلُ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ سَوَاءٌ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ أَقَلُّ مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَصِرْ مُنْتَقِلًا إلَى النَّفْلِ بَعْدُ فَلَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ وَيَتَشَهَّدَ وَلَا يُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ أَوَّلًا وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ صَلَّى الْغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَا صَلَّى إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى لِتَتِمَّ الرَّكْعَةُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى كَمَا إذَا صَلَّى الْغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ مِنْهَا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَالْجَوَابُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا وَإِنَّمَا رَكَعَ ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ فَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْنِ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى، كَمَا إذَا صَلَّى الْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَك مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ خَمْسًا وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً ثُمَّ قَامَ وَذَهَبَ. وَلَوْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إنْ تَرَكَهَا مِنْ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَتَرَكَ ثَلَاثًا مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعًا مِنْ الْأَرْبَعِ وَخَمْسًا مِنْ خَمْسٍ وَذَلِكَ جِهَةُ الْفَسَادِ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هَهُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ أُخَرَ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَكُونُ كَمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَالْجَوَابُ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا هُنَالِكَ كَذَا هَهُنَا وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ مِنْهَا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا أَوْ تِسْعًا أَوْ عَشْرًا فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعًا وَتَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَوْ سَجْدَتَيْنِ أَوْ سَجْدَةً أَوْ لَمْ يَسْجُدْ رَأْسًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ وَلَا الْمَعْنَى وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً أَوْ سَجْدَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إذَا صَلَّاهَا خَمْسًا وَتَرَكَ مِنْهَا خَمْسَ سَجَدَاتٍ أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا
خَمْسَ سَجَدَاتٍ أَوْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا لَا تَفْسُدُ وَيُنْظَرُ إلَى الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ مِنْهَا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا وَهُنَاكَ يُنْظَرُ إلَى الْمُؤَدَّى مِنْ السَّجَدَاتِ فَيَضُمُّ إلَى كُلِّ سَجْدَةٍ أَدَّاهَا سَجْدَةً ثُمَّ يُتِمُّ صَلَاتَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ وَكَذَا هَهُنَا. وَلَوْ كَبَّرَ رَجُلٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ فَصَلَّى إمَامُهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ النَّائِمَ بَعْدَ مَا انْتَبَهَ فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَتْبَعُوهُ فَيُصَلِّيَ رَكْعَةً وَسَجْدَةً، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيَتْبَعُهُ الْقَوْمُ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا يُصَلِّي الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ وَالْإِمَامُ مُسِيءٌ بِتَقْدِيمِهِ النَّائِمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَنَمْ وَلَكِنَّهُ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَدَّمَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ السَّجَدَاتِ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَوَّلِ لَصَارَ مُرْتَكِبًا أَمْرًا مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ وَالْمُدْرِكُ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَإِنْ ابْتَدَأَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَقَدْ أَلْجَأَ الْقَوْمَ إلَى زِيَادَةِ مُكْثٍ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشِيرَ لِئَلَّا يَتْبَعُوهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَعَ سَجْدَةٍ، فَإِذَا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ يُتَابِعُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا الرَّكَعَاتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا ثَانِيًا فَلَمَّا كَانَ تَقَدُّمُهُ يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا أَنْ يَتَقَدَّمَ هُوَ. وَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا وَاشْتَغَلَ بِالْمَتْرُوكَاتِ أَوَّلًا وَتَابَعَهُ الْقَوْمُ جَازَ لِكَوْنِهِ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ السَّجَدَاتُ لَا تُحْتَسَبُ مِنْ صَلَاتِهِ لَا يَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ مِنْهُ نَفْلًا بَلْ هُوَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ يُؤَدِّي الْفَرْضَ نَظِيرَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ إمَامًا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَتَانِ غَيْرَ مَحْسُوبَتَيْنِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِسَجْدَتَيْهَا وَمَعَ ذَلِكَ جَازَتْ إمَامَتُهُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَتَيْنِ فَرْضَانِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَوْ بَدَأَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيُشِيرُ إلَى الْقَوْمِ لِئَلَّا يَتْبَعُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ فَإِذَا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ تَابَعَهُ الْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا هَذِهِ السَّجْدَةَ هَكَذَا فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا. وَإِذَا فَعَلَ هَكَذَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ مَا حَكَى جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَالْقَوْمُ لَا يُتَابِعُونَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ تَابَعُوهُ، حَكَى مُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ أَمَا تَفْسُدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَلِمَاذَا؟ قُلْتُ: إنَّ الْإِمَامَ مَرَّةً يَصِيرُ إمَامًا لِلْقَوْمِ وَغَيْرَ إمَامٍ مَرَّةً وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا رَكْعَةً اُسْتُحْسِنَتْ فِي رَكْعَةٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ سُؤَالَهُ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ حِكَايَةَ هَذَا السُّؤَالِ مَعَ تَرْكِ الْجَوَابِ إخْبَارًا عَنْ الرُّجُوعِ، وَقَالَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَاعْتَمَدَ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْتَمَّ يَصِيرُ إمَامًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُؤْتَمًّا تَابِعًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ إمَامًا مَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ، وَالصَّلَاةُ فِي نَفْسِهَا لَا تَتَجَزَّأُ حُكْمًا، فَمَنْ كَانَ فِي بَعْضٍ تَابِعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَتْبُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ تَابِعًا فِي شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَيْرُورَتِهِ تَابِعًا فِي الْكُلِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِيءِ، وَكَذَا صَيْرُورَتُهُ مَتْبُوعًا فِي بَعْضٍ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ صَيْرُورَتِهِ مَتْبُوعًا فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ، فَإِذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا حِسًّا تَابِعًا وَفِي بَعْضِهَا مَتْبُوعًا كَأَنَّهُ فِي الْكُلِّ تَابِعٌ وَفِي الْكُلِّ مَتْبُوعٌ حُكْمًا؛ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ حُكْمًا، وَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ بِالنَّصِّ فَيَتَقَدَّرُ الْجَوَازُ بِقَدْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَالنَّصُّ مَا وَرَدَ فِيمَا يَصِيرُ إِمَامًا مِرَارًا ثُمَّ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا وَهَذَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يُؤَدِّيهَا مُؤْتَمًّا، فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الْمَتْرُوكَةِ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ يَصِيرُ إمَامًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلَائِلُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: اسْتَحْسَنْتُ هَذَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً لَا غَيْرُ مِنْ رَكْعَةٍ فَاسْتَخْلَفَ هَذَا النَّائِمَ وَابْتَدَأَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَالْقَوْمُ يَتَرَبَّصُونَ بُلُوغَهُ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَإِذَا سَجَدَهَا سَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ بَعْدَهُ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا فَفِي هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ تَفْسُدَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إمَامًا مَرَّةً وَمُؤْتَمًّا مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ جَائِزٌ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ مَسْبُوقًا يَجُوزُ وَقَبْلَ الِاسْتِخْلَافِ كَانَ مُؤْتَمًّا وَبَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ إلَى تَمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ إمَامًا ثُمَّ إذَا تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ حَتَّى سَلَّمَ وَقَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ عَادَ مُؤْتَمًّا مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ، أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَيَصِيرُ مُؤْتَمًّا وَإِمَامًا مِرَارًا إلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِنَا جَوَّزُوا وَقَالُوا: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يُجْعَلُ هَذَا رُجُوعًا مِنْ
فصل صلاة الجمعة
أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الرُّجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ إنْ ثَبَتَ نَصًّا لِكَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى إصْلَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ فَيَجُوزُ وَقَوْلُهُ إنَّ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ قُلْنَا: فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسَلَّمٌ أَمَّا فِي شَيْئَيْنِ فَلَا وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَابِعًا فِي بَعْضِهَا وَمَتْبُوعًا فِي بَعْضٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَجَزِّئَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ إلَّا فِي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَارْتِفَاعُهُ يَكُونُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَفِي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَغَيَّرَهَا فَلَمْ تَبْقَ مُتَبَعِّضَةً مُتَجَزِّئَةً فِي حَقِّهِمَا، فَأَمَّا فِي حَقِّ التَّبَعِيَّةِ وَالْمَتْبُوعِيَّةِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَاجَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَفِي أَوَانِ الْحَاجَةِ لَا إجْمَاعَ، وَالْحَقَائِقُ تَتَبَدَّلُ بِقَدْرِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ حَيْثُ جَوَّزَ الِاسْتِخْلَافَ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَرَّةً تَابِعًا وَمَرَّةً مَتْبُوعًا غَيْرُ مَانِعٍ، وَيُنْظَرُ إلَى الْحَاجَةِ لَا إلَى وُرُودِ الشَّرْعِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ؟ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَسْبُوقِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَغْيِيرِهَا، وَمَنْ جَعَلَ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ لِذِي الْحَاجَةِ وُرُودًا فِي كُلِّ مَحِلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِالْأَئِمَّةِ الْخَمْسَةِ وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَا الْوَاحِدُ إذَا ائْتَمَّ فَسَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَاحِدُ لِلْإِمَامَةِ فَإِذَا جَاءَ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ، ثُمَّ لَوْ سَبَقَ الثَّانِيَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْإِمَامَةِ، ثُمَّ إذَا جَاءَ هَذَا الثَّانِي وَسَبَقَ الْأَوَّلَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ هَذَا الثَّانِي لِلْإِمَامَةِ هَكَذَا مِرَارًا، لَكِنْ لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ جُوِّزَ وَجُعِلَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَارِدًا فِي كُلِّ مَحَلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرِيضَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ خَرَجَ وَقْتُهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجُمُعَةُ فَرْضٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا وَيُكَفَّرُ جَاحِدُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ هُوَ الْخُطْبَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ إلَى الْخُطْبَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إلَى الْخُطْبَةِ فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَيَتَنَاوَلُ الْخُطْبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَنَتِي هَذِهِ فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي اسْتِخْفَافًا بِهَا وَجُحُودًا عَلَيْهَا وَتَهَاوُنًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ، أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا. فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ لَكِنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الْحُرُّ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ حَتْمًا، وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ حَتَّى لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ الظُّهْرُ وَتَقَعُ الْجُمُعَةُ فَرْضًا، وَإِنْ تَرَكَ التَّرَخُّصَ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْعَزِيمَةِ وَيَكُونُ الْفَرْضُ هُوَ الظُّهْر لَا غَيْرُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ قَالَ: فَرْضُ الْوَقْتِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِالظُّهْرِ رُخْصَةً، وَفِي قَوْلٍ قَالَ: الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا فَأَيَّهُمَا فَعَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْفَرْضَ، وَقَالَ زُفَرُ وَقْتُ الْفَرْضِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجُمُعَةُ ظُهْرُ قَاصِرٍ، وَعِنْدَنَا هِيَ صَلَاةٌ مُبْتَدَأَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي بِنَاءِ الظُّهْرِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنْ خَرَجَ
وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ، وَعِنْدَهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا. أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَلِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْوَقْتُ مَتَى جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةٍ كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَسَائِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْقَصْرِ تُقْصَرُ كَمَا تُقْصَرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَهَهُنَا وُجِدَ سَبَبُ الْقَصْرِ وَهُوَ الْخُطْبَةُ وَمَشَقَّةُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ إلَى الْجَامِعِ، وَلَنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مَعَ الظُّهْرِ صَلَاتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ شُرُوطًا لِمَا نَذْكُرُ اخْتِصَاصَ الْجُمُعَةِ بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ لِلظُّهْرِ وَالْفَرْصُ الْوَاحِدُ لَا تَخْتَلِفُ شُرُوطُهُ بِالْقَصْرِ فَكَانَا غَيْرَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَبِنَاءِ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَفِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ الْقَصْرِ، أَمَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُورَ ظُهْرٌ؟ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ يَخْلُو عَنْ فَرْضِهِ أَدَاءً لِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ كَوَقْتِ الْعَصْرِ عَنْ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَنْ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَكَذَا هَهُنَا جَازَ أَنْ يَخْلُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَنْ الظُّهْرِ أَدَاءً إنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْهُ وُجُوبًا لَكِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَأَمَّا الْخِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَبِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَمِلَ بِطَرِيقِ التَّنَاسُخِ فَجَعَلَ الْآخَرَ وَهُوَ حَدِيثُ الْجُمُعَةِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْجُمُعَةَ بِالظُّهْرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ: إنَّهُ قَامَ دَلِيلُ فَرْضِيَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِفَرْضِيَّتِهِمَا عَلَى الْجَمْعِ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا كَانَتْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ فَكَانَ الْفَرْضُ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَمِلَا بِالْأَحَادِيثِ بِطَرِيقِ التَّوْفِيقِ إذْ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَا إنَّ: فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ لَكِنْ أَمَرَ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا يَجِبُ قَضَاءُ الظُّهْرِ بَعْدَ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَخُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْقَضَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ دَلَّ أَنَّ الظُّهْرَ هُوَ الْأَصْلُ إذْ الْأَرْبَعُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ خَلَفًا عَنْ رَكْعَتَيْنِ وَزُفَرُ يَقُولُ: لَمَّا اُنْتُسِخَ الظُّهْرُ بِالْجُمُعَةِ دَلَّ أَنَّ الْجُمُعَةَ أَصْلٌ، وَلَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ دَلَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْجُمُعَةِ إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ فَنَقُولُ: مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُؤَدِّهَا يَقَعُ فَرْضًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ حَتَّى لَا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ عِنْدَهُمَا وَلَكِنَّهُ أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ الْجُمُعَةَ بَقِيَ الْفَرْضُ ذَلِكَ فَإِذَا أَدَّاهُ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ، الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ تَعَيَّنَ فَرْضًا مِنْ الْأَصْلِ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَرْضُ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْجُمُعَةُ وَهِيَ الْعَزِيمَةُ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا بِالظُّهْرِ رُخْصَةً وَقَدْ تُرَخَّصُ بِالظُّهْرِ وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَمَّا كَانَ الظُّهْرُ بَدَلًا عَنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَهَهُنَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يُجْزِيهِ الْبَدَلُ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَعْذُورُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِمْ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ إلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْحَتْمِ، وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَلَمْ يَتَرَخَّصْ فَبَقِيَتْ الْعَزِيمَةُ وَهِيَ الظُّهْرُ وَقَدْ أَدَّاهَا فَتَقَعُ فَرْضًا. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَزِيمَةِ لَكِنْ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ وَقَدْ تُرُخِّصَ بِتَرْكِهَا بِالظُّهْرِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِ الظُّهْرُ بَدَلًا عَنْ الْجُمُعَةِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَعْذُورُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ شَهِدَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ وَيَصِيرُ تَطَوُّعًا، وَفَرْضُهُ الْجُمُعَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْقَادِرَ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ
فصل بيان شرائط الجمعة
وَقَدْ قَدَرَ فَإِذَا أَدَّى انْعَقَدَتْ جُمُعَتُهُ فَرْضًا وَلَا تَنْعَقِدْ فَرْضًا إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ فَرْضَيْ الْوَقْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ عِنْدَهُ خَلَفٌ عَنْ الْجُمُعَةِ فَكَانَ شَرْطُهُ الْعَجْزَ عَنْ الْأَصْلِ وَقَدْ تَحَقَّقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَصَحَّ الْخَلَفُ فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُهُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدِهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْجُمُعَةِ حِينَ خَرَجَ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وَشَرَعَ فِي الْجُمُعَةِ وَأَتَمَّهَا مَعَ الْإِمَامِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَلَا يَقَعُ ظُهْرُهُ فَرْضًا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْعَجْزُ عَنْ الْأَصْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالثَّالِثِ إذَا شُرِعَ فِي الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَرْتَفِضُ، كَذَا ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الِاخْتِلَافَ فِي كِتَابِ صَلَاتِهِ، وَالرَّابِعِ إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وَقَدْ كَانَ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَحِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ كَانَ لَمْ يَفْرُغْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الْجُمُعَةِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ، وَكَذَا بِوُجُودِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ السَّعْيُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَرْتَفِضُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ ارْتِفَاضَ الظُّهْرِ لِضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ فَرْضَيْ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَرْتَفِضُ الظُّهْرُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ مَا صَحَّ وَفَرَغَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ تَمَامِ الْجُمُعَةِ وَوُقُوعِهَا فَرْضًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا أَدَّى مِنْ الْبَعْضِ انْعَقَدَ فَرْضًا وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْفِعْلُ مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ بَقَاءِ الظُّهْرِ فَرْضًا فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِقَادِ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَرْضًا ارْتِفَاضُ الظُّهْرِ، وَكَذَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِهَا وَلَنْ يَنْعَقِدَ فَرْضًا مَعَ بَقَاءِ الظُّهْرِ فَرْضًا، وَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِهِ فَرْضًا ارْتِفَاضُ الظُّهْرِ، بِهِ عَلَّلَ هَذَا الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ. وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَعَ الرَّجُلُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ الْفَجْرَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ لَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُمُعَةَ وَيَبْدَأَ بِالْفَجْرِ ثُمَّ بِالْجُمُعَةِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ عَنْ الْوَقْتِ يَمْضِي فِيهَا وَلَا يَقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ سَاقِطٌ عَنْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ لَا يَفُوتُهُ الظُّهْرُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَلَا تُجْزِئُهُ الْجُمُعَةُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي فِي الْجُمُعَةِ وَلَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَهُوَ يُخَافُ فَوْتَهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّرْتِيبُ، كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْعِشَاءَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ يُخَالِفُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْعِشَاءِ، وَعِنْدَهُمَا فَرْضُ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْفَائِتَةِ فَلَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ. فَلِلْجُمُعَةِ شَرَائِطُ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي فَسِتَّةٌ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ، وَالْإِقَامَةُ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ إلَّا بِإِذْنِ مَوَالِيهمْ، وَالْمُسَافِرِينَ وَالزَّمْنَى، وَالْمَرْضَى. أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ اخْتَصَّتْ بِشَرَائِطَ لَمْ تُشْتَرَطْ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ لَمَّا كَانَا شَرْطًا لِوُجُوبِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَا شَرْطًا لِوُجُوبِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِمَوْلَاهُ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ وَهُوَ أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى طَرِيقِ الِانْفِرَادِ دُونَ الْجَمَاعَةِ لِمَا فِي الْحُضُورِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ مِنْ تَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَنَافِعِ عَلَى الْمَوْلَى، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْمِصْرِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَيَتَخَلَّفُ عَنْ الْقَافِلَةِ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْحُضُورِ أَوْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي الْحُضُورِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ لِكَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ؛ وَلِهَذَا لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِنَّ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إلَّا
مُسَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَرِيضًا فَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» . وَأَمَّا الْأَعْمَى فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ. وَأَمَّا إذَا وَجَدَ قَائِدًا إمَّا بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحَجِّ إذَا كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَائِدًا أَوْ وَعَدَ لَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَقُودَهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ إذَا حَضَرُوا الْجَامِعَ وَأَدَّوْا الْجُمُعَةَ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَصَلَاةُ الصَّبِيِّ تَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا صَلَاةَ لِلْمَجْنُونِ رَأْسًا، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ تُجْزِيهِمْ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَعْذَارِ وَقَدْ زَالَتْ وَصَارَ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى مَوْجُودًا دَلَالَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّ النِّسَاءُ يَجْمَعْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ لَهُنَّ لَا تَخْرُجْنَ إلَّا تَفِلَاتٍ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الْحَجَّ مَعَ مَوْلَاهُ لَا يُحْكَمُ بِجَوَازِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْجُمُعَةِ كَانَ نَظَرًا لِلْمَوْلَى وَالنَّظَرُ هَهُنَا فِي الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ وَقَدْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ عَلَى الْمَوْلَى لَوَجَبَ عَلَيْهِ الظُّهْرُ فَتَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ ثَانِيًا فَيَنْقَلِبُ النَّظَرُ ضَرَرًا وَذَا لَيْسَ بِحِكْمَةٍ فَتَبَيَّنَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ فَصَارَ مَأْذُونًا دَلَالَةً كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ يَجُوزُ وَيَجِبُ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّظَرَ لِلْمَوْلَى فِي الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ لِلْحَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ إذَا لَمْ نَحْكُمْ بِجَوَازِهِ بَلْ يُخَاطَبُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَتَعَطَّلُ عَلَى الْمَوْلَى مَنَافِعُهُ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي فَخَمْسَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، الْمِصْرُ الْجَامِعُ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْخُطْبَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، وَالْوَقْتُ. أَمَّا الْمِصْرُ الْجَامِعُ فَشَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلَّا عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي تَوَابِعِهِ وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ إلَّا فِي الْمَصْرِ وَتَوَابِعِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمَصْرِ وَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْمِصْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَكُلُّ قَرْيَةٍ يَسْكُنُهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ وَيُقَامُ بِهَا الْجُمُعَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ لَجُمُعَةٌ جُمِعَتْ بِجُوَاثَى وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُؤَاثَى فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ أَجْمِعْ بِهَا وَحَيْثُ مَا كُنْتَ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» ، وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ» ، وَمَا رُوِيَ الْإِقَامَةُ حَوْلَهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَتَحُوا الْبِلَادَ وَمَا نَصَبُوا الْمَنَابِرَ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ شَرْطٌ؛ وَلِأَنَّ الظُّهْرَ فَرِيضَةٌ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا بِنَصٍّ قَاطِعٍ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِتَرْكِهَا إلَّا الْجُمُعَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى الْجُمُعَةُ فِي الْبَرَارِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ فَتَخْتَصُّ بِمَكَانِ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ جُؤَاثَى مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ، وَاسْمُ الْقَرْيَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَلْدَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهَا مِنْ الْبُيُوتِ قَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وَهِيَ مِصْرُ وَقَالَ {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ} [محمد: 13] وَهِيَ مَكَّةُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْبَرَارِيِّ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَمَعْرِفَةِ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ. أَمَّا الْمِصْرُ الْجَامِعُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَقَاوِيلُ فِي تَحْدِيدِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ مَا أُقِيمَتْ فِيهِ الْحُدُودُ وَنُفِّذَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَاتٌ ذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ كُلُّ مِصْرٍ فِيهِ مِنْبَرٌ وَقَاضٍ يُنْفِذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ فَهُوَ مِصْرٌ جَامِعٌ تَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْجُمُعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ فِي قَرْيَةٍ مَنْ لَا يَسَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ بَنَى لَهُمْ الْإِمَامُ جَامِعًا وَنَصَبَ لَهُمْ مَنْ يُصَلِّي
بِهِمْ الْجُمُعَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَوْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ عَشْرَةُ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرُ أَمَرْتُهُمْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْمِصْرُ الْجَامِعُ مَا يَتَعَيَّشُ فِيهِ كُلُّ مُحْتَرِفٍ بِحِرْفَتِهِ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى حِرْفَةٍ أُخْرَى، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إذَا كَانُوا بِحَالٍ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ فَهَذَا مِصْرٌ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْمِصْرُ الْجَامِعُ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مِصْرًا عِنْدَ ذِكْرِ الْأَمْصَارِ الْمُطْلَقَةِ، وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْ حَدِّ الْمِصْرِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَقَالَ: أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَوْ جَاءَهُمْ عَدُوٌّ قَدَرُوا عَلَى دَفْعِهِ فَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُمَصَّرَ وَتَمَصُّرُهُ أَنْ يُنَصَّبَ فِيهِ حَاكِمٌ عَدْلٌ يُجْرِي فِيهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ خَصْمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سِكَكٌ وَأَسْوَاقٌ وَلَهَا رَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ بِحَشَمِهِ وَعِلْمِهِ أَوْ عِلْمِ غَيْرِهِ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ تَوَابِعِ الْمِصْرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ سَمَاعُ النِّدَاءِ إنْ كَانَ مَوْضِعًا يُسْمَعُ فِيهِ النِّدَاءُ مِنْ الْمِصْرِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ دُخُولُ الْمِصْرِ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كُلُّ قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِرَبَضِ الْمِصْرِ فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالرَّبَضِ فَلَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَيْسَ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قَدْرُ مِيلٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِلَّا فَلَا، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسِتَّةِ أَمْيَالٍ، وَمَالِكٌ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجُمُعَةَ وَيَبِيتَ بِأَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا حَسَنٌ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ بِمِنًى. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بِهَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ هُوَ الْخَلِيفَةُ، أَوْ أَمِيرُ الْعِرَاقِ، أَوْ أَمِيرُ الْحِجَازِ، أَوْ أَمِيرُ مَكَّةَ سَوَاءٌ كَانُوا مُقِيمِينَ أَوْ مُسَافِرِينَ، أَوْ رَجُلًا مَأْذُونًا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ أَمِيرَ الْمَوْسِمِ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَسْوِيَةِ أُمُورِ الْحُجَّاجِ لَا غَيْرُ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ إلَّا إذَا كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْعِرَاقِ أَوْ أَمِيرِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُقِيمًا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِمِنًى وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِعَرَفَاتٍ وَإِنْ أَقَامَهَا أَمِيرُ الْعِرَاقِ أَوْ الْخَلِيفَةُ نَفْسُهُ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنًى مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِهَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ فِي تَقْدِيرِ التَّوَابِعِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَبِخِلَافِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ إنَّ مِنًى لَيْسَ بِمِصْرٍ جَامِعٍ بَلْ هُوَ قَرْيَةٌ فَلَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِهَا كَمَا لَا تَجُوزُ بِعَرَفَاتٍ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ؛ لِأَنَّ لَهَا بِنَاءً وَيُنْقَلُ إلَيْهَا الْأَسْوَاقُ وَيَحْضُرُهَا وَالٍ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَيُنْفِذُ الْأَحْكَامَ فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَمْصَارِ بِخِلَافِ عَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا مَفَازَةٌ فَلَا تَتَمَصَّرُ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَحَضْرَةِ السُّلْطَانِ. وَهَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ خَارِجَ الْمِصْرِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْعُمْرَانِ أَمْ لَا؟ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِقْدَارَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَحَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ فَصَلَّى جَازَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ خَارِجَ الْمِصْرِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْعُمْرَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْجُمُعَةِ بِمِنًى. وَأَمَّا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَمِّعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَكَذَا ذُكِرَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَ مَوْضِعَيْ الْإِقَامَةِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ أَوْ نَحْوِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ لَا جِسْرَ عَلَى النَّهْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ جِسْرٌ فَلَا؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ مِصْرٍ وَاحِدٍ وَكَانَ يَأْمُرُ بِقَطْعِ الْجِسْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْفَصْلُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ إذَا كَانَ الْمِصْرُ عَظِيمًا وَلَمْ يَجُزْ فِي الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ صَغِيرٌ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَدَّوْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ فَالْجُمُعَةُ لِمَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا وَعَلَى الْآخَرِينَ أَنْ يُعِيدُوا
الظُّهْرَ، وَإِنْ أَدَّوْهَا مَعًا أَوْ كَانَ لَا يَدْرِي كَيْفَ كَانَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَانْطَلَقَ هُوَ إلَى حَاجَةٍ لَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْمِصْرَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ قَالَ: تُجْزِئُ أَهْلَ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلَا تُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِذَلِكَ فَيَجُوزُ وَهَذَا كَجُمُعَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَوْ خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ يَدْعُو وَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ وَخَلَّفَ إنْسَانًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَلَمَّا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي الْجَبَّانَةِ وَهِيَ عَلَى قَدْرِ غَلْوَةٍ مِنْ مِصْرِهِ وَصَلَّى خَلِيفَتُهُ فِي الْمِصْرِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ: تُجْزِئُهُمَا جَمِيعًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ أَنَّهُ تَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَلَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَبَّانَةِ فِي الْعِيدِ وَيَسْتَخْلِفُ فِي الْمِصْرِ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمَّا جَازَ هَذَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَكَذَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي اخْتِصَاصِهِمَا بِالْمِصْرِ سِيَّانِ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ يَنْدَفِعُ عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ بِمَوْضِعَيْنِ غَالِبًا فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْإِطْلَاقِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مَحْمُولٌ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَشَرْطُ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ إقَامَتُهَا بِدُونِ حَضْرَتِهِ أَوْ حَضْرَةِ نَائِبِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السُّلْطَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهَا السُّلْطَانُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ الْإِمَامَ لِإِلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِتَارِكِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَعَدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةَ» ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ السُّلْطَانَ لَأَدَّى إلَى الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ تُؤَدَّى بِجَمْعٍ عَظِيمٍ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ يُعَدُّ مِنْ بَابِ الشَّرَفِ وَأَسْبَابِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ فَيَتَسَارَعُ إلَى ذَلِكَ كُلُّ مَنْ جُبِلَ عَلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْمَيْلِ إلَى الرِّئَاسَةِ فَيَقَعُ بَيْنَهُمْ التَّجَاذُبُ وَالتَّنَازُعُ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّقَالِي فَفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي لِيَقُومَ بِهِ أَوْ يُنَصِّبَ مَنْ رَآهُ أَهْلًا لَهُ فَيَمْتَنِعُ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ عَنْ الْمُنَازَعَةِ لِمَا يَرَى مِنْ طَاعَةِ الْوَالِي أَوْ خَوْفًا مِنْ عُقُوبَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفَوِّضْ إلَى السُّلْطَانِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُؤَدِّي كُلُّ طَائِفَةٍ حَضَرَتْ الْجَامِعَ فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ فَائِدَةِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ عَلَى الْكَمَالِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ الْجُمُعَةُ لِلْأَوَّلِينَ وَتَفُوتُ عَنْ الْبَاقِينَ فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنْ تَكُونَ إقَامَتُهَا مُتَوَجِّهَةً إلَى السُّلْطَانِ لِيُقِيمَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ عِنْدَ حُضُورِ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا إذَا كَانَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ حَاضِرًا. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إمَامًا بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ أَوْ بِسَبَبِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَحْضُرْ وَالٍ آخَرُ بَعْدُ حَتَّى حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا حُوصِرَ قَدَّمَ النَّاسُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ. وَرُوِيَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَالِي مِصْرٍ مَاتَ وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَلِيفَةَ مَوْتُهُ حَتَّى حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أَوْ صَاحِبُ الشَّرْطِ أَوْ الْقَاضِي أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ قَدَّمَ الْعَامَّةُ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَائِمُونَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ حَالَ حَيَّاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا لَمْ يُفَوِّضْ الْخَلِيفَةُ الْوِلَايَةَ إلَى غَيْرِهِ. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا كَانَ يَخْطُبُ فَجَاءَ سُلْطَانٌ آخَرُ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ الْخُطْبَةَ يَجُوزُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ خُطْبَةً وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ بِأَمْرِهِ فَصَارَ نَائِبًا عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَكِنَّهُ سَكَتَ حَتَّى أَتَمَّ الْأَوَّلُ خُطْبَتَهُ فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ أَمْرًا فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ الثَّانِي وَقَدْ فَرَغَ الْأَوَّلُ مِنْ خُطْبَتِهِ فَصَلَّى الثَّانِي بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا خُطْبَةُ إمَامٍ مَعْزُولٍ وَلَمْ تُوجَدْ الْخُطْبَةُ مِنْ الثَّانِي وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ هَذَا كُلِّهِ إذَا عَلِمَ الْأَوَّلُ بِحُضُورِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَخَطَبَ وَصَلَّى وَالثَّانِي سَاكِتٌ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْزُولًا إلَّا بِالْعِلْمِ كَالْوَكِيلِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَصَارَ مَعْزُولًا. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا كَانَ سُلْطَانًا فَجَمَعَ بِالنَّاسِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ جَازَ، وَكَذَا إذَا كَانَ حُرًّا مُسَافِرًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ شَرْطُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي هُوَ حُرٌّ مُقِيمٌ
حكم الخطبة
حَتَّى إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مُسَافِرًا لَا تَصِحُّ مِنْهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ» فَلَوْ جَمَعَ بِالنَّاسِ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَجُوزُ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: «صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ مُسَافِرًا حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ، وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعَ» وَلَوْ لَمْ يَصْلُحْ إمَامًا لَمْ تُفْتَرَضْ طَاعَتُهُ؛ وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمَا التَّخَلُّفَ عَنْهَا وَالِاشْتِغَالَ بِتَسْوِيَةِ أَسْبَابِ السَّفَرِ وَخِدْمَةَ الْمَوْلَى نَظَرًا فَإِذَا حَضَرَ الْجَامِعَ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَةَ التَّرَخُّصِ وَاخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ وَيَلْتَحِقُ بِالْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ فَيَصِحُّ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْإِمَامَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَفِي الْجُمُعَةِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ سُلْطَانًا فَأَمَرَتْ رَجُلًا صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ حَتَّى صَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا فِي الْجُمْلَةِ فَتَصِحُّ إمَامَتُهَا. [حُكْم الْخُطْبَة] وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَالْكَلَامُ فِي الْخُطْبَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْخُطْبَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْخُطْبَةِ وَمِقْدَارِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَسْنُونُ فِي الْخُطْبَةِ، وَفِي بَيَانِ مَحْظُورَاتِ الْخُطْبَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا شَرْطًا قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالْخُطْبَةُ ذِكْرُ اللَّهِ فَتَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ لَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الذِّكْرِ الْخُطْبَةُ وَقَدْ أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَكَوْنِهَا شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا قُصِرَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ أَخْبَرَا أَنَّ شَطْرَ الصَّلَاةِ سَقَطَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَشَطْرُ الصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا فَلَا يَسْقُطُ إلَّا لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ فَرْضٌ وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ وَهِيَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ هِيَ وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقَامُ بِالْخُطْبَةِ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَرْكَانِهَا. وَأَمَّا وَقْتُ الْخُطْبَةِ فَوَقْتُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ لَكِنْ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا شَرْطُ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ وَهَكَذَا فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقْتُ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْضًا لَكِنَّهَا سُنَّتْ لِتَعْلِيمِ الْمَنَاسِكِ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فِي الْعِيدَيْنِ فَوَقْتُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَهِيَ سُنَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَمِقْدَارُهَا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ، كَذَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْأَمَالِي مُفَسِّرًا قَلَّ الذِّكْرُ أَمْ كَثُرَ حَتَّى لَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ يُسَمَّى خُطْبَةً فِي الْعُرْفِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِخُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَهَذَا ذِكْرٌ مُجْمَلٌ فَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِخُطْبَتَيْنِ وَلَهُمَا أَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ الْخُطْبَةُ وَالْخُطْبَةُ فِي الْمُتَعَارَفِ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ لَهُمْ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مَحْمَلًا؛ لِأَنَّهُ تَطَاوُعُ الْعَمَلُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِذِكْرٍ يُسَمَّى خُطْبَةً أَوْ بِذِكْرٍ طَوِيلٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالثَّانِي أَنْ يُقَيَّدَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُسَمَّى خُطْبَةً لَكِنَّ اسْمَ الْخُطْبَةِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ خَطَبَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ فَلَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ارْتَجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ إلَى إمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلَى إمَامٍ قَوَّالٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَكَانِ مَقَالًا وَسَتَأْتِيكُمْ الْخُطَبُ مِنْ بَعْدُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهِ لِي وَلَكُمْ وَنَزَلَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ وَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ صَنِيعَهُ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَكَانَ هَذَا إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ لُغَةً وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ عُرْفًا، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الذِّكْرُ لُغَةً وَعُرْفًا وَقَدْ وُجِدَ أَوْ ذُكِرَ هُوَ خُطْبَةٌ لُغَةً وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ خُطْبَةً فِي الْعُرْفِ وَقَدْ أُتِيَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي
مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَى غَرَضِهِمْ. وَأَمَّا فِي أَمْرٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ لُغَةً وَقَدْ وُجِدَ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْكَلَامِ يُسَمَّى خُطْبَةً فِي الْمُتَعَارَفِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِلَّذِي قَالَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى: بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» سَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكَلَامِ. وَأَمَّا سُنَنُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةً خَفِيفَةً يَفْتَتِحُ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعِظُ وَيُذَكِّرُ وَيُقْرَأُ سُورَةً ثُمَّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً أُخْرَى يَحْمَدُ اللَّه تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَيَكُونُ قَدْرُ الْخُطْبَةِ قَدْرَ سُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ فِيمَا بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَتْلُو آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ» ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] ، ثُمَّ الْقَعْدَةُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَكَذَا الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ الْقَعْدَةِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا تُجْعَلُ شَرْطًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لَهُ وَلَكِنْ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا لَهُ، فَقُلْنَا إنَّ قَدْرَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ يَكُونُ فَرْضًا وَمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ سُنَّةً عَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا ثَقُلَ أَيْ أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ وَقَعَدَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَعْدَةَ لِلِاسْتِرَاحَةِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَثَرِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ كَمَا تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ، وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ شَرْطُ الطَّهَارَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الذِّكْرِ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤَدَّى مُسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ الْخُطْبَةِ هَهُنَا، وَذَكَرَ فِي أَذَانِ الْجُنُبِ أَنَّهُ يُعَادُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَذَانَ إنْ تَحَلَّى بِحِلْيَةِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ الْخَلَلُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الْأَذَانِ أَشَدَّ، وَكَثِيرُ النَّقْصِ مُسْتَحَقُّ الرَّفْعِ دُونَ قَلِيلِهِ، كَمَا يُجْبَرُ نَقْصُ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ دُونَ تَرْكِ السُّنَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ مُسْتَحَبَّةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعِيدُهَا وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ هَكَذَا ذَكَرَ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ إلَّا أَنَّهَا سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَصْلُ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ خَطَبَ قَاعِدًا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِظَاهِرِ النَّصِّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا حِينَ كَبِرَ وَأَسَنَّ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا أَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا. وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا فَقَالَ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] » ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يَخْطُبُ، وَكَذَا السُّنَّةُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ وَاجِبٌ لِلْخُطْبَةِ وَذَا لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْمُقَابَلَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامَ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ فَإِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ انْحَرَفَ بِوَجْهِهِ إلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُطَوِّلَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَقْصِيرِ الْخُطَبِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: طَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ طُولُ الصَّلَاةِ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَيْ أَنَّ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى فِقْهِ الرَّجُلِ. وَأَمَّا مَحْظُورَاتُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ، وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ،. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا دَخَلَ الْجَامِعَ وَالْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ
أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَالصَّلَاةُ تُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَنُزُولِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ سُلَيْكًا أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» فَصَارَ مَنْسُوخًا أَوْ كَانَ سُلَيْكٌ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَذَا كُلُّ مَا شَغَلَ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ وَيَسْكُتَ وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي شَأْنِ الْخُطْبَةِ أَمَرَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ» ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالسُّكُوتِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ كَيْفَ يَصْنَعُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيّ: الْإِنْصَاتُ لَهُ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ، وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّ أَجْرَ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُنْصِتِ السَّامِعِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ قُرْبِهِ مِنْ الْإِمَامِ كَانَ مَأْمُورًا بِشَيْئَيْنِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ، وَبِالْبُعْدِ إنْ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْإِنْصَاتِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ أَجَازَ لَهُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ سِرًّا، وَكَانَ الْحَكَمُ بْنُ زُهَيْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا يُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ الْقُرْبِ لِيَشْتَرِكُوا فِي ثَمَرَاتِ الْخُطْبَةِ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ فَلْيُحْرِزْ لِنَفْسِهِ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ وَلِأَنَّ الْإِنْصَاتَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بَلْ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاسْتِمَاعِ فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ سَقَطَ عَنْهُ الْإِنْصَاتُ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ، وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِمَاعَ الْمَفْرُوضَ وَالْإِنْصَاتَ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِأَجْلِهِ، وَكَذَا رَدُّ السَّلَامِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ بِسَلَامِهِ مَأْثَمًا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ السَّلَامَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَقَعْ تَحِيَّةً فَلَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ؛ وَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، أَمَّا سَمَاعُ الْخُطْبَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ إقَامَتُهُ أَحَقَّ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الطَّوَافَ تَطَوُّعًا بِمَكَّةَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَالصَّلَاةُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ سَمَاعَ الْخُطْبَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِعَ وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عِنْدِ سَمَاعِ اسْمِهِ فِي الْخُطْبَةِ لِمَا أَنَّ إحْرَازَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يُمْكِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِحْرَازُ ثَوَابِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَفْضَلَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ اسْمِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ إحْرَازُ الْفَضِيلَتَيْنِ أَحَقَّ. وَأَمَّا الْعَاطِسُ فَهَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَكَذَا السَّلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ مَكْرُوهٌ لِمَا قُلْنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَخِيرِ حِينَ خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ حِينَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ هَلْ يُكْرَهُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ جَعَلَ الْقَاطِعَ لِلْكَلَامِ هُوَ الْخُطْبَةُ فَلَا يُكْرَهُ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ لِوُجُوبِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْتَدُّ غَالِبًا فَيَفُوتُ الِاسْتِمَاعُ وَتَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» فَقَدْ
أَخْبَرَ عَنْ طَيِّ الصُّحُفِ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا يَطْوُونَ الصُّحُفَ إذَا طَوَى النَّاسُ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا يَكْتُبُونَهُ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَلِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلْخُطْبَةِ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهَا وَالْمُسْتَعِدُّ لِلشَّيْءِ كَالشَّارِعِ فِيهِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ الِاسْتِعْدَادُ بِالشُّرُوعِ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْكَلَامِ يَقْطَعُ الْكَلَامَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا تَفْسُدُ الْخُطْبَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ فَلَا يُفْسِدُهَا كَلَامُ النَّاسِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مَنْظُومَةً كَالْآذَانِ وَالْكَلَامُ يَقْطَعُ النَّظْمَ إلَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ فَلَا يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ فِيهَا وَعْظٌ فَلَمْ يَبْقَ مَكْرُوهًا. وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ إنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ أَمَّا إذَا شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّ الثَّانِيَ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَيْئًا مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَوْ وُجِدَ وَحْدَهُ وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ فَكَذَا إذَا وُجِدَ مَعَ غَيْرِهِ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِخْلَافَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَالْأَمْرُ بِإِقَامَتِهَا مَعَ عِلْمِ الْوَالِي أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقَامَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَانْعَدَمَ الْإِذْنُ نَصًّا وَدَلَالَةً فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّهُ مُنْشِئٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَيْسَ بَيَانُ تَحْرِيمَتِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ إنْشَاءِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدُ، وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ أَيْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ جَازَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ لِلْجُمُعَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْخُطْبَةُ، وَالثَّانِي بَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَا هَذَا. ، وَلَوْ تَكَلَّمَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ مَا شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِمْ الْجُمُعَةَ إنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الظُّهْرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ الْمُنْشِئِ لِتَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِهِ حُكْمًا وَلَوْ تَكَلَّمَ الْأَوَّلُ اسْتَقْبَلَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَأَحْدَثَ قَبْلَ الشُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الرَّجُلُ مُحْدِثًا آخَرَ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَدَّمَ جُنُبًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَقَدَّمَ هَذَا الْجُنُبُ رَجُلًا طَاهِرًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ الَّذِي شَهِدَ الْخُطْبَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِقَامَةِ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِسَالِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ. وَلَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ كَافِرًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ بِخِلَافِ الْجُنُبِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُنُبَ أَهْلٌ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اكْتِسَابِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بِإِزَالَةِ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا اسْتِخْلَافًا لِمَنْ لَهُ قُدْرَةُ الْقِيَامِ بِمَا اُسْتُخْلِفَ عَلَيْهِ فَصَحَّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا، فَإِذَا قَدَّمَ هُوَ غَيْرَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ مَا صَارَ خَلِيفَةً فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى اكْتِسَابِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ إذْ الِاسْتِخْلَافُ شُرِعَ إبْقَاءً لِلصَّلَاةِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَاسْتِخْلَافُ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ اسْتِخْلَافُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَكَأَنَّهُ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ لِالْتِحَاقِ تَقَدُّمِهِمْ بِالْعَدَمِ شَرْعًا. وَلَوْ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى التَّقْدِيمِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِمَامِ
وَالْمُتَقَدِّمُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهُ، فَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَإِقَامَتُهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْإِمَامِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَخْلَفَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا فَأَدَّى الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ وِلَايَةَ السَّلْطَنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكَافِرِ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَدَّمَ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ أَحَدًا فَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْ وَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرَطِ أَوْ الْقَاضِي جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَقَدْ قَلَّدَهُمَا الْإِمَامُ مَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ لِدَفْعِ التَّنَازُعِ فِي التَّقَدُّمِ وَذَا يَحْصُلُ بِتَقَدُّمِهِمَا لِوُجُودِ دَلِيلِ اخْتِصَاصِهِمَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبًا لِلسُّلْطَانِ وَعَامِلًا مِنْ عُمَّالِهِ، وَكَذَا لَوْ قَدَّمَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّقْدِيمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ إقَامَةَ الصَّلَاةِ يَمْلِكُ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَهُ. وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَالْكَلَامُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِلْجُمُعَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُسَمَّى جُمُعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فِيهِ اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أُخِذَ اللَّفْظُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ ثَبَتَ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا لَمْ يُؤَدِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ ثُمَّ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا لَوْ نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ فَخَطَبَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَمَا هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَهِيَ شَرْطُ حَالِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ مِنْ الصَّلَاةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَالَ سَمَاعِهَا كَمَا تُشْتَرَط حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَرْطُ بَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَقَالَ زُفَرُ: إنَّهَا شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا بَعْدَ مَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الظُّهْرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ الْوَقْتِ وَسِتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا جُعِلَ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِتَسَاوِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ إلَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ قِرَانُهُ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ كَالنِّيَّةِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا لِانْعِقَادِهَا وَهُنَا لَا حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ هَذَا الشَّرْطِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ شَرْطَ الْأَدَاءِ كَمَا هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ دَوَامَ هَذَا الشَّرْطِ رَكْعَةً كَامِلَةً وَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي شَرْطِ الِانْعِقَادِ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي يُوقِعُهُ فِي الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُسْبَقُ بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَجُعِلَ فِي حَقِّهِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا غَيْرُ وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَلَا شَرْطَ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْعِبَادَةِ شَيْئًا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ إلَّا إذَا كَانَ شَرْطًا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَالْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بُدٌّ مِنْ تَحْصِيلِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَلَا وِلَايَةَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا إلَّا أَنَّا جَعَلْنَاهَا شَرْطًا بِالشَّرْعِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ قَبُولُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ وَصَارَ كَالنِّيَّةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَ النِّيَّةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي اسْتِدَامَتِهَا حَرَجٌ جُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْعِبَادِ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ شَرْطًا لِبَقَاءٍ
فَجُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنَّهَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَعِنْدَهُمَا يُتِمُّ الْجُمُعَةَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْجَامِعِ أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْجُمُعَةِ إذَا صَحَّتْ صَحَّ بِنَاءُ الْجُمُعَةِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ إنْسَانٌ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ لِمَا يُذْكَرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَوْ جُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ حِينَئِذٍ لَا تَنْعَقِدُ بِدُونِ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ إيَّاهُ فِيهَا، وَذَا لَا يَحْصُل إلَّا وَأَنْ تَقَعَ تَكْبِيرَاتُهُمْ مُقَارِنَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مُرَاعَاتُهُ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا حُضُورًا وَكَبَّرَ الْإِمَام ثُمَّ كَبَّرُوا صَحَّ تَكْبِيرُهُ وَصَارَ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ وَصَحَّتْ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فَلَمْ تُجْعَلْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَجُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ بِخِلَافِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ فِي حَقِّهِمْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَحْصُلُ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فِي التَّحْرِيمَةِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ سَبَقَهُمْ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ، فَانْعِقَادُ الْأَدَاءِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِعْلٌ وَالْحَاجَةُ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ أَدَاءً لِلصَّلَاةِ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ هُوَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثْ، فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُوجَدْ الْأَدَاءُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ فَشَرَطَ دَوَامَ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ الْإِمَامَ إلَى الْفَرَاغِ عَنْ الْأَدَاءِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الْجُمُعَةَ وَخَلْفَهُ قَوْمٌ وَنَفَرُوا مِنْهُ وَبَقِيَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَلَوْ جَاءَ قَوْمُ آخَرُونَ فَوَقَفُوا خَلْفَهُ ثُمَّ نَفَرَ الْأَوَّلُونَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا اشْتِرَاطُ الْمُشَارَكَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَنَقُولُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ كَافِيَةٌ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا بُدَّ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ الْمُشَارَكَةُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا كَافِيَةٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ حَتَّى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى أَوْ الثَّانِيَةِ أَوْ كَانَ فِي رُكُوعِهَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ فِي سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ فِي التَّشَهُّدِ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا فِي رِوَايَةٍ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ السَّهْوِ وَعَادَ إلَيْهِمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ لِوُقُوعِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا تَكُونُ الْأَرْبَعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظُهْرًا مَحْضًا، حَتَّى قَالَ: يَقْرَأُ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا، وَعَنْهُ فِي افْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأَوْلَى رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْهُ فَرْضٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى عَنْهُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَلَكَ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ، جُمُعَةً كَانَ الْفَرْضُ أَوْ ظُهْرًا، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَرْبَعُ ظُهْرٌ مَحْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ عُرِفَ بِنَصِّ الشَّرْعِ بِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ، مِنْهَا الْجُمُعَةُ وَالسُّلْطَانُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ كُلُّ مَسْبُوقٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكْعَةِ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ وَلَا نَصَّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَسْلُكُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» أَمَرَ الْمَسْبُوقَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَالْحَدِيثُ فِي حَدِّ الشُّهْرَةِ وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ
مقدار الجماعة في صلاة الجمعة
أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ» وَلِأَنَّ سَبَبَ اللُّزُومِ هُوَ التَّحْرِيمَةُ وَقَدْ شَارَكَ الْإِمَامُ فِي التَّحْرِيمَةِ وَبَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ فَيَلْزَمُهُ مَا لَزِمَ الْإِمَامَ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ كَمَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ رَوَوْا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدْرَكَهَا، فَأَمَّا ذِكْرُ الْجُمُعَةِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوْ مَنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا رَوَاهُ ضُعَفَاءُ أَصْحَابِهِ هَكَذَا قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَلَئِنْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَتَأْوِيلُهَا وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً، وَقَوْلُهُمْ هُنَاكَ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ قُلْنَا وَهَهُنَا أَيْضًا يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ إنْ كَانَتْ ظُهْرًا فَلَا يُمْكِنُ بِنَاؤُهَا عَلَى تَحْرِيمَةِ عَقْدِهَا لِلْجُمُعَةِ. أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ وَنَوَى الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ جُمُعَةً فَالْجُمُعَةُ كَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ عَلَى أَنَّهُ لَا احْتِيَاطَ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ فَسَادِ أَدِلَّةِ الْخُصُومِ وَصِحَّةِ دَلِيلِنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مِقْدَار الْجَمَاعَة فِي صَلَاة الْجُمُعَةَ] وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: أَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ. أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ كُفَّ بَصَرُهُ فَكَانَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقُلْتُ لَأَسْأَلَنَّهُ عَنْ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِي أُمَامَةَ فَبَيْنَمَا أَنَا أَقُودُهُ فِي جُمُعَةٍ إذْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ فَقُلْتُ: يلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ أَسْعَدُ، فَقُلْت: وَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ فَقَالَ: كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ إلَى الْجُمُعَةِ يَكُونُ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِثَلَاثَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَخْطُبُ فَقَدِمَ عِيرٌ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فَانْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَقَدْ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِهِمْ» . وَرُوِيَ أَنْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ تُسَاوِي مَا وَرَاءَهَا فِي كَوْنِهَا جَمْعًا فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ جَمْعِ الْأَرْبَعِينَ بِخِلَافِ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْجَمْعِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِالْأَرْبَعِينَ وَقَعَ اتِّفَاقًا. أَلَا يَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ أَقَامَهَا بِسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَامَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضُّوا إلَى التِّجَارَةِ وَتَرَكُوهُ قَائِمًا» . وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ شُرِطَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّهُمَا مَعَ الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ جَمْعٌ مُطْلَقٌ وَلِهَذَا يَتَقَدَّمُهُمَا الْإِمَامُ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَشَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ فَيَحْصُلَ هَذَا الشَّرْطُ ثُمَّ يُصَلِّي، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا إذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ إذْ لَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَام ثَلَاثَةٌ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ وَالْمُثَنَّى لَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْجَوَازِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَحْصِيلُ هَذَا الشَّرْطِ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَصْطَفَّانِ خَلَفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِي تَابِعٌ لِإِمَامِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ خَلْفَهُ لِإِظْهَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَقُومُ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَصِيرَ مُنْتَبَذًا خَلْفَ الصُّفُوفِ فَيَصِيرَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، فَإِذَا صَارَ اثْنَيْنِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَامَا خَلْفَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا صِفَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَعِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحْ إمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لَا غَيْرُ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ حَتَّى تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِقَوْمٍ عَبِيدٍ أَوْ مُسَافِرِينَ وَلَا تَنْعَقِدُ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ فِي صِفَةِ الْقَوْمِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ كَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. (وَلَنَا) أَنَّ دَرَجَةَ الْإِمَامِ أَعْلَى ثُمَّ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِقَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْإِمَامِ لِمَا مَرَّ فَلَأَنْ لَا تُشْتَرَطَ فِي الْقَوْمِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَا تَجِبْ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ إذَا لَمْ يَحْضُرُوا فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوُجُوبِ قَدْ زَالَ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [وَقْت صَلَاة الْجُمُعَةَ] وَأَمَّا الْوَقْتُ فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى زَوَالِ الشَّمْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ
فصل بيان مقدار صلاة الجمعة
إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُ: «إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «كَتَبَ إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي تَتَجَهَّزُ فِيهِ الْيَهُودُ لِسَبْتِهَا فَازْدَلِفْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ ضُحًى يَعْنِي بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَمُرَادُ الرَّاوِي أَنَّهُ مَا أَخَّرَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ تَسْقُطْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْضَى لِمَا نَذْكُرُ، وَقَالَ مَالِكُ: تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الظُّهْرِ بِالنَّصِّ فَيَصِيرُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَقْتًا لِلْجُمُعَةِ، وَمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ غَيْرِ الظُّهْرِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ مَذْكُورَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِر شَرْطًا آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الِاشْتِهَارِ حَتَّى إنَّ أَمِيرًا لَوْ جَمَعَ جَيْشَهُ فِي الْحِصْنِ وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا تُجْزِئُهُمْ كَذَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: السُّلْطَانُ إذَا صَلَّى فِي فَهَنْدَرَةٍ وَالْقَوْمُ مَعَ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ: إنْ فَتْحَ بَابَ دَارِهِ وَأَذِنَ لِلْعَامَّةِ بِالدُّخُولِ فِي فَهَنْدَرَةٍ جَازَ وَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي مُوضِعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِلْعَامَّةِ وَصَلَّى مَعَ جَيْشِهِ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ السُّلْطَانِ وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْعَامَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالنِّدَاءُ لِلِاشْتِهَارِ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً لِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مِقْدَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِهَا فَمِقْدَارُهَا رَكْعَتَانِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ تَبَرُّكًا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَسَنٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأْهُمَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ «قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةَ» فَإِنْ تَبَرَّكَ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَنِعْمَ مَا فَعَلَ وَلَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَلْ يَقْرَأْ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَلِئَلَّا تَظُنَّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهَا بِالْجَهْرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ» وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ لَمَا سُمِعَ وَكَذَا الْأُمَّةُ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ عَنْ الِاهْتِمَامِ لِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَتَحْصُلُ لَهُمْ ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا. وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا فَنَقُولُ: إنَّهُ يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا عَلَى الْخُصُوصِ أَشْيَاءُ، مِنْهَا خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يُفْسِدُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ الْعَامَّةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَكَذَا خُرُوجُ الْوَقْتِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَفْسُدُ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَقَدْ مَرَّتْ، وَمِنْهَا فَوْتُ الْجَمَاعَةِ الْجُمُعَةُ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ بِأَنْ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا لَا تَفْسُدُ. وَأَمَّا فَوْتُهَا بَعْدَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ. وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِهَا فَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ بِفَوْتِ الْجَمَاعَةِ يَسْتَقْبِلْ الظُّهْرَ وَإِنْ فَسَدَتْ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ عَامَّةُ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِلْ الْجُمُعَةَ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطهَا. وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَتَسْقُطُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ. فَالْمُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ أَنْ يَدَّهِنَ وَيَمَسَّ طِيبًا، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ، وَيَغْتَسِلَ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ
فصل في أنواع الصلاة الواجبة ومنها صلاة الوتر
يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» أَوْ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ؛ وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ» ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَتَأْوِيلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْرَقُونَ فِيهِ وَالْمَسْجِدُ قَرِيبُ السَّمْكِ فَكَانَ يَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ بَعْضٍ فَأُمِرُوا بِالِاغْتِسَالِ لِهَذَا، ثُمَّ اُنْتُسِخَ هَذَا حِينَ لَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ بِشَرَائِطَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا فَلَهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْغُسْلِ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لَهَا، وَكَذَا إذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ يَنَالُ فَضِيلَةَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ لِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا يُكْرَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَنَقُولُ تُكْرَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمِصْر فِي سِجْنٍ وَغَيْرِ سِجْنٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَمْصَارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لِلْمَعْذُورِ إقَامَةَ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمِصْرِ فَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ جَمْعِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ سَاكِنَ الْمِصْرِ مَأْمُورٌ بِشَيْئَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَشُهُودِ الْجُمُعَة، وَالْمَعْذُورُ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَاتِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّرْكِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا تَقْلِيلَ جَمْعِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ فِي حَقِّهِمْ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَكَذَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ مُبَاشَرَتِهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ. وَلَوْ بَاعَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ لَيْسَ لَعَيْنِ الْبَيْعِ بَلْ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. [فَصْلُ فِي أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَمِنْهَا صَلَاةُ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ. وَنَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَصْلُ) . وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ فَنَوْعَانِ: صَلَاةُ الْوِتْرِ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ. (أَمَّا صَلَاةُ الْوِتْرِ) فَالْكَلَامُ فِي الْوِتْرِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَتْرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي فِيهِ وَمِقْدَارِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ الْقُنُوتِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَرَوَى نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْجَامِعِ عَنْهُ أَنَّهُ سَنَةٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالُوا: إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» وَفِي رِوَايَةٍ «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ» وَكَذَا الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ «مُعَاذٍ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» وَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَصَارَ الْمَفْرُوضُ سِتَّ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ عَلَى الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ نَسْخٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْسَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتْ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ تَصِيرُ بَعْضَ الْوَظِيفَةِ فَيُنْسَخُ وَصْفُ الْكُلِّيَّةِ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَالْمَشَاهِيرِ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْآحَادِ وَلِأَنَّ عَلَامَاتِ السُّنَنِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى تَبَعًا لِلْعِشَاءِ، وَالْفَرْضُ مَا لَا يَكُونُ تَابِعًا لِفَرْضٍ آخَرَ، وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ، وَلِفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ أَوْقَاتٌ وَأَذَانٌ وَإِقَامَةُ جَمَاعَةٍ وَلِذَا يُقْرَأُ فِي الثَّلَاثِ
فصل بيان من تجب عليه صلاة الوتر
كُلِّهَا، وَهَذَا مِنْ أَمَارَاتِ السُّنَنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّاهَا زِيَادَةً وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قِرَانًا لَا زِيَادَةَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ عَلَى الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْفَرْضُ، فَأَمَّا النَّفَلُ فَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرْضِ لَكِنْ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ؟ ذَكَرَهَا مَعْرِفَةً بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعَهْدِ وَلِذَا لَمْ يَسْتَفْسِرُوهَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهَا مَعْهُودًا لَاسْتَفْسَرُوا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْوُجُوبِ لَا فِي الْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى السُّنَنِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَكَذَا التَّوَعُّدُ عَلَى التَّرْكِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ يُقْضَى عِنْدَهُمَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِي الشَّافِعِيِّ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَنْ الْفَوَاتِ لَا عَنْ عُذْرٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ وَلِذَا لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ، وَبِعَيْنِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ وَذَا مِنْ أَمَارَاتِ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالثَّلَاثِ وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهِيَ آخِرُ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا قَبْلَ الْوُجُوبِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْخَمْسِ، وَالْوِتْرُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ، وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ السَّمْتِيَّ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْوِتْرِ فَقَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ، فَقَالَ يُوسُفُ: كَفَرْتَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَتَّلْمَذَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَزَعَمَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِيُوسُفَ أَيَهُولُنِي إكْفَارُكَ إيَّايَ وَأَنَا أَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَجَلَسَ عِنْدَهُ لِلتَّعَلُّمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمْ تَصِرْ الْفَرَائِضُ الْخَمْسُ سِتًّا بِزِيَادَةِ الْوِتْرِ عَلَيْهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ عَلَى الْخَمْسِ لَيْسَتْ نَسْخًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَرْضًا. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهَا وَقْتٌ وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ الْعِشَاءِ عَلَيْهَا شَرْطٌ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَعِيَّةِ كَتَقْدِيمِ كُلِّ فَرْضٍ عَلَى مَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ اسْتِحْسَانًا فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبٌّ وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، وَذَا أَمَارَةُ الْأَصَالَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْعِشَاءِ لَتَبِعَتْهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ جَمِيعًا. وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي صَلَاةِ النِّسَاءِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَلِضَرْبِ احْتِيَاطٍ عِنْدَ تَبَاعُدِ الْأَدِلَّةِ عَنْ إدْخَالِهَا تَحْتَ الْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. فَوُجُوبُهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ بَلْ يَعُمُّ النَّاسَ أَجْمَعَ مِنْ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بَعْدَ أَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِ صَلَاةِ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِهِ. فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ أَحَدَ عَشْرَ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَفِي غَيْرِهِ رَكْعَةٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِخَمْسٍ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ» ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَجْمَعَ
فصل بيان وقت الوتر
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا سَلَامَ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَمِثْلُهُ لَا يُكَذَّبُ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ نَفْلٌ عِنْدَهُ وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرًا مِنْ الْأُصُولِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ فَرْضًا وَحَدِيثُ التَّخْيِيرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْوِتْرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِهِ. فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ، وَفِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ. أَمَّا أَصْلُ الْوَقْتِ فَوَقْتُ الْعِشَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَعَ أَنَّهُ وَقْتُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا كَوَقْتِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ وَهُوَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ لَكِنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقْتُهُ بَعْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ، سُنَّةٌ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَعَادَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ لَا تَبَعًا لِلْعِشَاءِ فَكَمَا غَابَ الشَّفَقُ دَخَلَ وَقْتُهُ كَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَاجِبٌ حَالَةَ التَّذَكُّرِ فَعِنْدَ النِّسْيَانِ يَسْقُطُ كَمَا فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ الَّتِي لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ يَجِبُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، ثُمَّ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ مَا ذَكَرْنَا لَا مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِشَاءِ وَلَوْ كَانَ وَقْتُهَا ذَلِكَ لَمَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتُهَا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ بِدُونِ فِعْلِ الْعِشَاءِ، هَذَا هُوَ تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ وَقْتُهُ مَا بَعْدَ وَقْتِ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ كَوَقْتِ رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ: «زَادَكُمْ صَلَاةً وَجَعَلَهَا لَكُمْ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَوُجُودُ مَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ سَابِقًا عَلَى وُجُودِهِمَا مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ إطْلَاقَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَا يَنْفِي الْإِطْلَاقَ قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا صَلَّى الْوِتْرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُوتِرْ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْوِتْرَ عِنْدَ وَقْتِهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ كَالْفَرْضِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْكِلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يَقْضِيَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُمَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فِي الْقَضَاءِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرٍ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ» فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلْوِتْرِ فَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ «تَارَةً كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي وَسَطِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَارَ وِتْرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ» وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنَامَ إلَّا عَنْ وِتْرٍ «، وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَعُمَرُ كَانَ يُوتِرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: أَخَذْتَ بِالثِّقَةِ وَقَالَ لِعُمَرَ: أَخَذْتَ بِفَضْلِ الْقُوَّةِ» . [فَصْلٌ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ. فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ فَرْضٌ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنَّ الْوَاجِبَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفْلٌ لَكِنْ يُرَجَّحُ جِهَةُ الْفَرْضِيَّةِ فِيهِ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُجْعَلُ وَاجِبًا مَعَ احْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا يُكْتَفَى بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَغْرِبِ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا يُشْتَرَطُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي النَّوَافِلِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِهَا فِي الْكُلِّ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَدْرَ
فصل في القنوت
الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: وَمَا قَرَأَ فِي الْوِتْرِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَرَأَ فِي الْوِتْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَقِّتَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْوِتْرِ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَسَنًا لَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَظُنَّهُ الْجُهَّالُ حَتْمًا، ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُمَا ثُمَّ يَقْنُتُ. أَمَّا التَّكْبِيرُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَقَنَتَ» . وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَرْفَعْ الْيَدَيْنِ إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْقُنُوتَ. وَأَمَّا الْإِرْسَالُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الْقُنُوت] (فَصْلٌ) : وَأُمَّا الْقُنُوتُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي صِفَةِ الْقُنُوتِ، وَمَحَلِّ أَدَائِهِ، وَمِقْدَارِهِ وَدُعَائِهِ، وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحِلِّهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقُنُوتُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي أَصْلِ الْوِتْرِ. وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ فَالْوِتْرُ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ عِنْدَنَا، وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَكَانَ يَدْعُو عَلَى قَبَائِلَ» ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا كَانَ يَدْعُو فِي قُنُوتِهِ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ مَنْسُوخًا» دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَخَلْفَ عُمَرَ كَذَلِكَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ بِالْإِمَامَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ أَمَرَهُ بِالْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: «رَاعَيْنَا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَلَمْ يَذْكُرُوا وَقْتًا فِي السُّنَّةِ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ طَوَّلَ الْقِيَامَ بِالْقِرَاءَةِ، وَطُولُ الْقِيَامِ يُسَمَّى قُنُوتًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ إمَامَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَانَتْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ حَالُهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ بِخِلَافِهِ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ قَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ» فَقَاسَ عَلَيْهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «قُنُوتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ» ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَنْسُوخِ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا مِقْدَارُ الْقُنُوتِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِقْدَارَ الْقِيَامِ فِي الْقُنُوتِ مِقْدَارُ سُورَةِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْقُنُوتِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَكِلَاهُمَا عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ السُّورَةِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يُطَوِّلُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ» . وَأَمَّا دُعَاءُ الْقُنُوتِ فَلَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَدْعِيَةٌ مُخْتَلِفَةً فِي حَالِ الْقُنُوتِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَقَّتَ مِنْ الدُّعَاءِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الدَّاعِي مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِهِ إلَى إحْضَارِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْعُدُ عَنْ الْإِجَابَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخُنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ مَا سِوَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا فِي الْقُنُوتِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَهُ. وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ وَلَوْ قَرَأَ مَعَهُ غَيْرَهُ كَانَ حَسَنًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ مَا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قُنُوتِهِ «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ» إلَى آخِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ فِي الْوِتْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا
فصل بيان ما يفسد الوتر وبيان حكمه إذا فسد
يَكُونُ جَاهِلًا فَيَأْتِي بِدُعَاءٍ يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ فَيُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ مَحْمُولٌ عَلَى أَدْعِيَةِ الْمَنَاسِكِ دُونَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا صِفَةُ دُعَاءِ الْقُنُوتِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إلَى قَوْلِهِ إنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ، وَإِذَا دَعَا الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يُتَابِعُهُ الْقَوْمُ؟ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُتَابِعُونَهُ وَيَقْرَءُونَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَقْرَءُونَ وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ شَاءَ الْقَوْمُ سَكَتُوا. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ فَقَدْ قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَهَا، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَأْتِي بِهَا؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى هَذَا كُلُّهُ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْقَاضِي مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ، وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْإِخْفَاءَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» . وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوتِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحِلِّهِ فَنَقُولُ: إذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ حَتَّى رَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَعُودُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقُنُوتُ وَإِنْ كَانَ فِي الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ شَبَهًا بِالْقِرَاءَةِ فَيَعُودُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ. وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ مَا رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ يَعُودُ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّكُوعَ يَتَكَامَلُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ أَصْلًا فَيَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ وَاجِبَةٌ فَيُنْتَقَضُ الرُّكُوعُ بِتَرْكِهَا فَكَانَ نَقْضُ الرُّكُوعِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالْأَحْسَنِ فَكَانَ مَشْرُوعًا فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَكَامَلُ بِهِ الرُّكُوعُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قُنُوتَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؟ وَالرُّكُوعُ مُعْتَبَرٌ بِدُونِهِ فَلَمْ يَكُنْ النَّقْضُ لِلتَّكْمِيلِ لِكَمَالِهِ فِي نَفْسِهِ. وَلَوْ نُقِضَ كَانَ النَّقْضُ لِأَدَاءِ الْقُنُوتِ الْوَاجِبِ وَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ أَيْضًا بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا تَذَكَّرَهَا فِي حَالِ الرُّكُوعِ حَيْثُ يُكَبِّرُ فِيهِ، وَالْفَرْقُ أَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ لَمْ تَخْتَصَّ بِالْقِيَامِ الْمَحْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالِ الِانْحِطَاطِ؟ وَهِيَ مَحْسُوبَةٌ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ مَحْضِ الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ جَازَ أَدَاءُ الْبَاقِي مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا فِي مَحْضِ الْقِيَامِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الرُّكُوعِ الَّذِي هُوَ قِيَامٌ مِنْ وَجْهٍ. وَلَوْ أَنَّهُ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ رُكُوعُهُ عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ حَيْثُ يُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ فَإِذَا عَادَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ وَقَعَ الْكُلُّ فَرْضًا؟ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْضِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ قَدْ فَاتَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ؟ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ قَصَدَ نَقْضَ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ وَاجِبٍ فَاتَ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَلَوْ عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ فَقَرَأَهَا وَرَكَعَ مَرَّةً أُخْرَى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَلَوْ كَانَ أَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَرَكَعَ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ يَعُودُ فَيَقْرَأُ وَيُعِيدُ الْقُنُوتَ وَالرُّكُوعَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ هَهُنَا حَصَلَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا وَلَوْ حَصَلَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ يَعُودُ وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ فَهَهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الْوِتْر وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهُ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ. أَمَّا مَا يُفْسِدُهُ وَحُكْمُهُ إذَا فَسَدَ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَإِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ يَقْضِي عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ) فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ نَصَّ الْكَرْخِيُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَقَالَ
فصل شرائط وجوب وجواز صلاة العيدين
وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ كَمَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلَّى التَّطَوُّعُ بِالْجَمَاعَةِ مَا خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ وَكُسُوفَ الشَّمْسِ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَاسْتَثْنَاهَا كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَسَمَّاهُ سُنَّةً فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَهَذَا اخْتِلَافٌ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ فَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ أَمْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السُّنَّةِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِهَا، وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الضَّرِيرُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهَا بَدَلُ صَلَاةِ الضُّحَى وَتِلْكَ سُنَّةٌ فَكَذَا هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وقَوْله تَعَالَى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهَا فَيَفُوتُ مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً صِيَانَةً لِمَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَوْتِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ وُجُوبِ وَجَوَازِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَجَوَازِهَا فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَجَوَازِهَا مِنْ الْإِمَامِ وَالْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْوَقْتِ إلَّا الْخُطْبَةَ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَلَوْ تَرْكَهَا جَازَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ. أَمَّا الْإِمَامُ فَشَرْطٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَكَذَا الْمِصْرُ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْسَ الْفِطْرِ وَنَفْسَ الْأَضْحَى وَنَفْسَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهَا مَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَارُثِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهَا مَا أُدِّيَتْ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فَإِنَّهَا لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ، وَكَذَا الذُّكُورَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَالْإِقَامَةُ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْعَبِيدِ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيهِمْ وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ لَمَّا أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلَأَنْ تُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْلَى، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ عَنْ حُضُورِ الْعِيدَيْنِ كَمَا لَهُ مَنْعُهُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ. وَأَمَّا النِّسْوَةُ فَهَلْ يُرَخَّصُ لَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ؟ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وَالْأَمْرُ بِالْقَرَارِ نَهْيٌ عَنْ الِانْتِقَالِ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِلَا شَكٍّ، وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ، وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْعِيدَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَنْعَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ خُرُوجِهِنَّ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَجَائِزِ وَلِهَذَا أَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ خُرُوجَهُنَّ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتُ انْتِشَارِ الْفُسَّاقِ فِي الْمَحَالِّ وَالطُّرُقَاتِ فَرُبَّمَا يَقَعُ مَنْ صَدَقَتْ رَغْبَتُهُ فِي النِّسَاءِ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِهِنَّ أَوْ يَقَعْنَ هُنَّ فِي الْفِتْنَةِ لِبَقَاءِ رَغْبَتِهِنَّ فِي الرِّجَالِ وَإِنْ كَبِرْنَ، فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَالْهَوَاءُ مُظْلِمٌ وَالظُّلْمَةُ تَحُولُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ نَظَرِ الرِّجَالِ، وَكَذَا الْفُسَّاقُ لَا يَكُونُونَ فِي الطَّرَقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَفِي الْأَعْيَادِ وَإِنْ كَانَ تَكْثُرُ الْفُسَّاقُ تَكْثُرُ الصُّلَحَاءُ أَيْضًا فَتَمْنَعُ هَيْبَةُ الصُّلَحَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ إيَّاهُمَا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَأْثَمِ، وَالْجُمُعَةُ فِي الْمِصْرِ فَرُبَّمَا تَصْدِمُ أَوْ تُصْدَمُ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وَفِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى فِي الْجَبَّانَةِ فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَعْتَزِلَ نَاحِيَةً عَنْ الرِّجَالِ كَيْ لَا تُصْدَمَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ الْخُرُوجَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ فِي الرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَأَمَّا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ فِي صَلَاةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي
فصل بيان وقت أداء صلاة العيدين
بَيْتِهَا» ثُمَّ إذَا رُخِّصَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ هَلْ يُصَلِّينَ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلِّينَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُرُوجِ هُوَ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلِيَخْرُجْنَ إذَا خَرَجْنَ تَفِلَاتٍ أَيْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُصَلِّينَ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنَّ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي فَعُلِمَ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ كَانَ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا حَضَرَ مَعَ مَوْلَاهُ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةَ لِيَحْفَظَ دَابَّتَهُ هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ رِضَاهُ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ لَا يُخِلُّ بِحَقِّ مَوْلَاهُ فِي إمْسَاكِ دَابَّتِهِ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَبَدَءُوا بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنُوا وَلَمْ يُقِيمُوا» وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِتَعْلِيمِ مَا يَجِبُ إقَامَتُهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْوَعْظِ وَالتَّكْبِيرِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى لِيَكُونَ الِامْتِثَالُ أَقْرَبَ إلَى زَمَانِ التَّعْلِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مَا رُوِيَ أَنَّ «مَرْوَانَ لَمَّا خَطَبَ الْعِيدَ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ يَا مَرْوَانُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطَبْتَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ مَرْوَانُ ذَاكَ شَيْءٌ قَدْ تُرِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَمَا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَيْ أَقَلُّ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي خُطْبَتِهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ وَكَانَ النَّاسُ لَا يَجْلِسُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِسَمَاعِهَا فَأَحْدَثُوهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَسْمَعَهَا النَّاسُ، فَإِنْ خَطَبَ أَوَّلًا ثُمَّ صَلَّى أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ أَصْلًا أَجْزَأَهُمْ فَهَذَا أَوْلَى. وَكَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ كَهِيَ فِي الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَقْرَأُ فِيهَا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَيَسْتَمِعُ لَهَا الْقَوْمُ وَيُنْصِتُوا لِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ الشَّرَائِعَ وَيَعِظُهُمْ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ إذَا اسْتَمَعُوا، وَلَيْسَ فِي الْعِيدَيْنِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَلِأَنَّهُمَا شَرْعًا عَلَمًا عَلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ أَدَاء صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِيدِ: مِنْ حِينِ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ، أَوْ رُمْحَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ. وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ فِي الْأُمَّةِ فَيَجِبُ اتِّبَاعَهُمْ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ أَصْلًا سَوَاءٌ تَرَكَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ غَيْرَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ لَا تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي يَوْمِ عِيدٍ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِالْعِيدِ فَيُقَالُ صَلَاةٌ لِعِيدٍ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصِّ الَّذِي وَرَدَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ فَبَقِيَ مَا رَوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى اسْتِدْلَالًا بِالْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَكَذَا صَلَاةُ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ، وَيَمْضِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِلنَّحْرِ خَاصَّةً، وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلتَّشْرِيقِ خَاصَّةً، وَالْيَوْمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِلنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ جَمِيعًا.
فصل بيان قدر صلاة العيدين وكيفية أدائها
[فَصْلٌ بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا فَنَقُولُ: يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ: فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ كَاسْمِهِ وُضِعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَخِّرُ التَّعَوُّذَ عَنْ التَّكْبِيرَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ، أَوْ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَيَرْكَعُ بِالرَّابِعَةِ فَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ عِنْدَنَا يُكَبِّرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ: سِتَّةٌ مِنْ الزَّوَائِدِ وَثَلَاثَةٌ أَصْلِيَّاتٌ: تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَفِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ؛ فَتَكُونُ الزَّوَائِدُ تِسْعًا: خَمْسٌ فِي الْأُولَى وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ، وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ سِوَى الْأَصْلِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فَقَالَ: فِي الْفِطْرِ يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَثَمَانٍ زَوَائِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْأَضْحَى يُكَبِّرُ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ: ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَتَكْبِيرَتَانِ زَائِدَتَانِ، وَعِنْدَهُ يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَّهُ شَاذٌّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَعَشْرَةٌ زَوَائِدُ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ اثْنَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا؛ وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاجْتِمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَتَاهُمْ فَقَالَ غَدًا الْعِيدُ فَكَيْفَ تَأْمُرُونِي أَنْ أَفْعَلَ فَقَالُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ عَلِّمْهُ فَعَلَّمَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إنَّهُ مُخْتَارُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرَاتِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ فَبِقَدْرِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَمْ تَبْقَ بِدْعَةً بِيَقِينٍ، وَمَا دَخَلَ تَحْتَ الِاخْتِلَافِ كَانَ تَوَهُّمَ الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ، إلَّا أَنَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ بِلَادِنَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ فَيَأْمُرُونَ عُمَّالَهُمْ بِالْعَمَلِ بِمَذْهَبِ جَدِّهِمْ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْأَصْلِ. مِقْدَارَ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ» . وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَتَلْتَحِقُ بِجِنْسِهَا وَهُوَ تَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَصَمِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالرَّفْعِ فَيَرْفَعُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَاتِ الْقُنُوتِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا فِي حَالِ الِانْتِقَالِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدِ لِلْإِعْلَامِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَحَسَنٌ، لَكِنْ يُكْرَهُ أَنْ يَتَّحِدَ بِهِمَا حَتْمًا لَا يُقْرَأُ فِيهَا غَيْرُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ، وَبِجَهْرِ الْقِرَاءَةِ كَذَا وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَهْرِ بِهِ، وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. ثُمَّ الْمُقْتَدِي يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرَاتِ عَلَى رَأْيِهِ، وَإِنْ كَبَّرَ أَكْثَرَ مَنْ تِسْعٍ مَا لَمْ يُكَبِّرْ تَكْبِيرًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ وَتَرْكُ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
فَلَا تَخْتَلِفُوا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَابِعْ إمَامَك عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدْته» مَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إذْ لَا مُتَابَعَةَ فِي الْخَطَإِ وَلِهَذَا لَوْ اقْتَدَى بِمَنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ، أَوْ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ، أَوْ بِمَنْ يَرَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يُتَابِعُهُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْسُوخٌ، ثُمَّ إلَى كَمْ يُتَابِعُهُ؟ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ قَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ يُتَابِعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، ثُمَّ يَسْكُتُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُتَابِعُهُ إلَى سِتَّةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ ذَهَبَ إلَى ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً الزَّوَائِدَ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ صَارَتْ سِتَّ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَقْرُبُ مِنْ الْإِمَامِ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَاتِ مِنْهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبْعُدُ مِنْهُ يَسْمَعُ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ يَأْتِي بِجَمِيعِ مَا يَسْمَعُ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَلَطَ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ، فَلَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا رُبَّمَا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ، وَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَا أَخْطَأَ فِيهِ الْمُكَبِّرُونَ فَيُتَابِعُهُمْ لِيَتَأَدَّى مَا يَأْتِيه الْإِمَامُ بِيَقِينٍ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي يَبْعُدُ مِنْ الْإِمَامِ يَسْمَعُ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِكُلٍّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِجَوَازِ أَنَّ مَا سَمِعَ قَبْلَ هَذِهِ كَانَ غَلَطًا مِنْ الْمُنَادِي، وَإِنَّمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ لِلِافْتِتَاحِ الْآنَ. وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ يُتَابِعُ الْإِمَامَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الزَّوَائِدَ وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لَا بِرَأْيِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ، وَإِنْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ الْمُصَلِّي قَبْلَ الْفَرَاغِ بِمَا أَدْرَكَهُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ النَّسْخُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَابَعَ الْإِمَامَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ، أَوْ لَا يَأْتِي بِهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي بِهَا فَهَذَا تَفْوِيتُ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي بِهَا فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ فِيمَا هُوَ مَحَلٌّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ فِيهِ تَفْوِيتُهُ عَنْ مَحِلِّهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فِيمَا هُوَ مَحِلٌّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهِ رَأْسًا، وَإِنْ خَافَ إنْ كَبَّرَ يَرْفَعُ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَرَكَعَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَعْ يَفُوتُهُ الرُّكُوعُ فَتَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوْتِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ أَيْضًا فَاتَتْهُ فَيَصِيرُ بِتَحْصِيلِ التَّكْبِيرَاتِ مُفَوِّتًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إذَا رَكَعَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ عَنْ مَحِلِّهَا وَهُوَ الْقِيَامُ فَيَسْقُطُ كَالْقُنُوتِ، وَلَهُمَا أَنَّ لِلرُّكُوعِ حُكْمُ الْقِيَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُدْرِكَهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ مَحِلُّهَا قَائِمًا فَيَأْتِي بِهَا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ الْقِيَامَ الْمَحْضَ، وَقَدْ فَاتَ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْبِيرَاتِ دُونَ التَّسْبِيحَاتِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ وَالتَّسْبِيحَاتِ سُنَّةٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى، فَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا رَفَعَ رَأْسَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحِلُّهَا. وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيُكَبِّرُ، وَقَدْ انْتَقَضَ رُكُوعُهُ وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي حَيْثُ أَمَرَ الْإِمَامَ بِالْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَدَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحِلَّ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْأَصْلِ الْقِيَامُ الْمَحْضُ، وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا حَالَةَ الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَبَقِيَ مَحِلُّهَا الْقِيَامُ الْمَحْضُ فَأُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ ارْتِفَاضُ الرُّكُوعِ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْفَاتِحَةَ فِي الرُّكُوعِ أَنَّهُ يَعُودُ وَيَقْرَأُ وَيَرْتَفِضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالْفَرَاغِ عَنْهَا، وَالرُّكْنُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا تَمَّتْ، هَذَا إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا إنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ عَنْهَا بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ دُونَ السُّورَةِ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ وَيَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ قَبْلَ أَوَانِهَا فَيَتْرُكُهَا وَيَأْتِي بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ لِيَكُونَ الْمَحِلُّ مَحِلًّا لَهُ ثُمَّ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ
فصل بيان ما يفسد صلاة العيدين وبيان حكمها إذا فسدت
لِأَنَّ الرُّكْنَ مَتَى تُرِكَ قَبْلَ تَمَامِهِ يُنْتَقَضُ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي نَفْسِهِ، وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الَّذِي بِهِ تَمَامُهُ فِي الْحُكْمِ، وَنَظِيرُهُ مَنْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً فِي الرُّكُوعِ خَرَّ لَهَا وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ؛ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ، وَتَابَعَ إمَامَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ فِيهَا رَأْيَ إمَامِهِ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ رَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْإِمَامِ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي، بِخِلَافِ اللَّاحِقِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِ إمَامِهِ بِأَنْ كَانَ إمَامُهُ يَرَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ كَذَلِكَ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَا يَقْضِي الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ، وَعِنْدَنَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَمَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَعِنْدَنَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقْرَأُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، بَلْ فِيهَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَجْهُ رِوَايَةِ وَالنَّوَادِرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ كَمَا فَاتَهُ، وَقَدْ فَاتَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِيهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَيَقْضِيهِ كَذَلِكَ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ: أَنَّ الْمَقْضِيَّ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ صُورَةً وَفِيمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ قَرَأَ، ثُمَّ كَبَّرَ؛ لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ الْإِمَامِ فَلَوْ قَدَّمَ هَهُنَا مَا يَقْضِي أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بِصُورَةِ هَذَا الْفِعْلِ. وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ لَكَانَ فِيهِ تَقْدِيمُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، لَكِنْ هَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إذْ هُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِد صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا، وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ، أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، فَكُلُّ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَمَا يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ يُفْسِدُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَفَوْتِ الْجَمَاعَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ، غَيْرَ أَنَّهَا إنْ فَسَدَتْ بِمَا يَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ عَلَى شَرَائِطِهَا، وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَتْ، وَلَا يَقْضِيهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي الْإِمَامُ يُكَبِّرُ فِيهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا عُرِفَتْ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فَعَلَهَا إلَّا بِالْجَمَاعَةِ كَالْجُمُعَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا فِي الْقَضَاءِ، فَلَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِالْقَضَاءِ لِفَقْدِ الشَّرَائِطِ، فَلَوْ صَلَّى مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى لِيَنَالَ الثَّوَابَ كَانَ حَسَنًا لَكِنْ لَا يَجِبُ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صَلَّى أَرْبَعًا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَشْيَاءُ مِنْهَا مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ، وَيَغْتَسِلَ، وَيَطْعَمَ شَيْئًا، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَيَمَسَّ طِيبًا، وَيُخْرِجَ فِطْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، أَمَّا الِاغْتِسَالُ وَالِاسْتِيَاكُ وَمَسُّ الطِّيبِ وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ - جَدِيدًا كَانَ أَوْ غَسِيلًا -؛ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا إخْرَاجُهُ الْفِطْرَةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الْفِطْرِ؛ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى» ؛ وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ. وَأَمَّا الذَّوْقُ فِيهِ فَلِكَوْنِ الْيَوْمِ يَوْمَ فِطْرٍ. وَأَمَّا فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ شَاءَ ذَاقَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَذُقْ، وَالْأَدَبُ أَنَّهُ لَا يَذُوقُ شَيْئًا إلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْقَرَابِينَ وَمِنْهَا أَنْ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى جَاهِرًا بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمُصَلَّى تَرَكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ» . وَأَمَّا فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَلَا يُجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُجْهَرُ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُجْهَرُ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وَلَيْسَ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إلَّا
فصل صلاة الكسوف والخسوف
هَذَا التَّكْبِيرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ قَائِدُهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فَسَمِعَ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَقَالَ لِقَائِدِهِ: أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَجُنَّ النَّاسُ؟ وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ سُنَّةً لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِنْكَارِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ عَلَى الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ التَّكْبِيرِ، وَكَلَامُنَا فِي وَصْفِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ، (وَمِنْهَا) أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ، وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً» . وَأَمَّا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَتَطَوَّعُ فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، (وَمِنْهَا) أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَخْلُفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِأَصْحَابِ الْعِلَلِ فِي الْمِصْرِ صَلَاةَ الْعِيدِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ اسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ لِيُصَلِّيَ بِالضَّعَفَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ مَعَ خَمْسِينَ شَيْخًا يَمْشِي وَيَمْشُونَ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا إعَانَةً لِلضَّعَفَةِ عَلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ فَكَانَ حَسَنًا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ سِوَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ عَلَى الضَّعَفَةِ، وَلَكِنْ لَوْ خَلَّفَ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُخْرَجُ الْمِنْبَرُ فِي الْعِيدَيْنِ؛ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ «كَانَ يَخْطُبُ فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى نَاقَتِهِ» ، وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ وَلِهَذَا اتَّخَذُوا فِي الْمُصَلَّى مِنْبَرًا عَلَى حِدَةٍ مِنْ اللَّبِنِ وَالطِّينِ، وَاتِّبَاعُ مَا اُشْتُهِرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَاجِبٌ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، أَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ فَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَوْضِعِهَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا تُصَلَّى نَافِلَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَاسْتَثْنَى صَلَاةَ الْكُسُوفِ مِنْ الصَّلَوَاتِ النَّافِلَةِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؛ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ: إنْ شَاءُوا صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا أَرْبَعًا، وَإِنْ شَاءُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالتَّخْيِيرُ يَكُونُ فِي النَّوَافِلِ لَا فِي الْوَاجِبَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ: إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَا إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوهُ وَسَبِّحُوهُ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَقُومُوا وَصَلُّوا» وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ فَزِعًا فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُرْسَلُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُهَا لِيُخَوِّفَ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَارْغَبُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفِرُوهُ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَافْزَعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ» وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إيَّاهَا نَافِلَةً لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَكُلُّ وَاجِبٍ زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَّبَهَا بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَهُوَ التَّرَاوِيحُ، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . [فَصْلٌ قَدْرِ وَكَيْفِيَّة صَلَاةِ الْكُسُوفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ، كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَقَوْمَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَهُمَا حَتَّى تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ وَلَدُهُ إبْرَاهِيمُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِيَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ نَحْوَ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ» ، وَرَوَى الْجَصَّاصُ عَنْ عَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا» ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رِوَايَتَهُمَا قَدْ تَعَارَضَتْ رُوِيَ كَمَا قُلْتُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَالْمُتَعَارَضُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا، أَوْ نَقُولُ تَعَاضَدَ مَا رَوَيْنَا بِالِاعْتِبَارِ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ، أَوْلَى أَوْ نَحْمِلُ مَا رَوَيْتُمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَرَفَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ رُءُوسَهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعًا رَكَعُوا وَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ فَمَنْ كَانَ خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فَرَوَوْا عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، وَعَلِمَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقَلُوا عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمُوهُ، وَمِثْلُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ وَاقِفَةً فِي خَيْرِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي صَفِّ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَنَقَلَا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمَا، فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، كَذَا وَفَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ لَا مَخْرَجَ التَّخْيِيرِ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ عَلَى التَّخْيِيرِ لَمَا اخْتَلَفُوا ثَمَّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ انْتِسَاخُ زِيَادَاتٍ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَاسْتَقَرَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْيَوْمَ عِنْدَنَا، فَكَانَ صَرْفُ النَّسْخِ إلَى مَا ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ نَسَخَهُ غَيْرُهُ، وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ لَا لِلْكُسُوفِ، بَلْ لِأَحْوَالٍ اعْتَرَضَتْ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَدَّمَ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى كَانَ كَمَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا ثُمَّ تَأَخَّرَ كَمَنْ يَنْفِرُ عَنْ شَيْءٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْهُ بِاعْتِرَاضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَسَعُهُ التَّكَلُّمُ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَمَّا أَشْكَلَ الْأَمْرُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ إلَّا بِيَقِينٍ. هَذِهِ الصَّلَاةُ تُقَامُ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَهَا بِالْجَمَاعَةِ، وَلَا يُقِيمُهَا إلَّا الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، فَأَمَّا أَنْ يُقِيمَهَا كُلُّ قَوْمٍ فِي مَسْجِدِهِمْ فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ لِكُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُقِيمُهَا إلَّا مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِالْمِصْرِ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: إنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِصْرِ فَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ حِينَئِذٍ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى: إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ، ثُمَّ إنْ شَاءُوا طَوَّلُوا الْقِرَاءَةَ، وَإِنْ شَاءُوا قَصَرُوا وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالَ بِالتَّضَرُّعِ إلَى أَنْ تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ تَارَةً، وَبِالْقِرَاءَةِ أُخْرَى، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» فَالْأَفْضَلُ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا. وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْهَرُ بِهَا، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ
فصل صلاة الاستسقاء
أَبَا حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ» وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكُنْتُ إلَى جَنْبِهِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي الْقِرَاءَةِ لِتَصِيرَ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ مُشْتَرَكَةً؛ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِهَذَا الْفَزَعِ، كَمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي صَلَوَاتِ النَّهَارِ؛ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِالْمَكَاسِبِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ تَعَارَضَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَقِيَ لَنَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَا مَعَ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، وَنَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِبَعْضِهَا اتِّفَاقًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا خُطْبَةَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ» ، وَلَنَا أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمْ تُنْقَلْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى قَوْلِهَا خَطَبَ أَيْ دَعَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْخُطْبَةِ رَدًّا لِقَوْلِ النَّاسِ: إنَّمَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ لَا لِلصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) خُسُوفُ الْقَمَرِ فَالصَّلَاةُ فِيهَا حَسَنَةٌ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» وَهِيَ لَا تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ «صَلَّى بِالنَّاسِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَقَالَ: صَلَّيْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ، وَقِيَامِ رَمَضَانَ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِاللَّيْلِ مُتَعَذَّرٌ، أَوْ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ. وَكَذَا تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ فَزَعٍ: كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ الْأَفْزَاعِ، وَالْأَهْوَالِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ. وَأَمَّا مَوْضِعُ الصَّلَاةِ: أَمَّا فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ فَيُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُصَلَّى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدُ، أَوْ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتُؤَدَّى فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ؛ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ. وَلَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَجْزَأَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا مَرَّ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ أَدَاءُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ دُونَ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَالنَّوَافِلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَسْبَابٌ عِنْدَنَا كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ، وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ] (فَصْلٌ: وَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ) . فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ " وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ أَيْ لَا صَلَاةَ فِيهِ بِجَمَاعَةٍ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الِاسْتِسْقَاءِ هَلْ فِيهِ صَلَاةٌ أَوْ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ أَوْ خُطْبَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَلَا، وَلَكِنْ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَلَا بَأْسَ بِهِ "، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " يُصَلِّي الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ " وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ» وَالْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] . وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ، فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11]
أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صَلَّى فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى الْجُمُعَةَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَاسْقِ لَنَا الْغَيْثَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَدَعَا، فَمَا ضَمَّ يَدَيْهِ حَتَّى مَطَرَتْ السَّمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلَهُ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَجَلْ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَأَنْشَدَ فَقَالَ أَتَيْنَاك وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا ... وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنْ الطِّفْلِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا إلَيْك فِرَارُنَا ... وَلَيْسَ فِرَارُ النَّاسِ إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَبَكَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا عَذْبًا طَيِّبًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ فَمَا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ إلَى صَدْرِهِ حَتَّى مَطَرَتْ السَّمَاءُ وَجَاءَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَصِيحُونَ الْغَرَقَ الْغَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ حَتَّى أَحْدَقَتْ بِالْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ مَنْ يُنْشِدُنَا قَوْلَهُ؟ فَقَامَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوَّلًا» وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يُصَلِّ بِجَمَاعَةٍ بَلْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَقَالُوا مَا اسْتَسْقَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَقَدْ اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْغَيْثُ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] . وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْعَبَّاسِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَوَقَفَ بِجَنْبِهِ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيُّكَ وَدَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ فَمَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ حَتَّى سُقُوا، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَسْقَى وَلَمْ يُصَلِّ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِجَمَاعَةٍ حَدِيثٌ شَاذٌّ وَرَدَ فِي مَحِلِّ الشُّهْرَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ يَكُونُ بِمَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ يُرَجَّحُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ، أَوْ وَهْمُهُ عَلَى ضَبْطِهِ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مَعَ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي دِيَارِهِمْ، وَمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاذُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ مَا شَاءَ جَهْرًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْرَأَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَؤُهُمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا يُكَبِّرُ فِيهَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا فُرَادَى، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَخْطُبُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَخْطُبُ، وَلَكِنْ لَوْ صَلَّوْا وُحْدَانًا يَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَالْجَمَاعَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَذَا الْخُطْبَةُ، ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْجِلْسَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعُهَا بِالْجِلْسَةِ، وَلَا يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا يَصْعَدُهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ مِنْبَرٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَقَدْ عَابَ النَّاسُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ الْمِنْبَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَنَسَبُوهُ إلَى خِلَافِ السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنْ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ وَإِنْ تَوَكَّأَ عَلَى عَصًا فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ خُطْبَتَهُ تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَصًا، وَيَخْطُبُ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ إلَى النَّاسِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ إنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، وَيَسْتَمِعُونَ الْخُطْبَةَ وَيُنْصِتُونَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعِظُهُمْ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ وَوَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَيَشْتَغِلُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالنَّاسُ قُعُودٌ مُسْتَقْبِلُونَ بِوُجُوهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَقْبِلَ
فصل الصلاة المسنونة
الْقِبْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ فَيَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُجَدِّدُونَ التَّوْبَةَ وَيَسْتَسْقُونَ. وَهَلْ يَقْلِبُ الْإِمَامُ رِدَاءَهُ لَا يَقْلِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْلِبُ إذَا مَضَى صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ فَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَلَبَ رِدَاءَهُ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَسْقَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَقْلِبْ الرِّدَاءَ» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ الثَّوْبِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرِّدَاءَ مُحْتَمَلٌ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ فَأَصْلَحَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَلَبَ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ بِطَرِيقِ التَّفَاؤُلِ فَفَعَلَ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَكَيْفِيَّةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُرَبَّعًا جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا جَعَلَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ. وَأَمَّا الْقَوْمُ فَلَا يَقْلِبُونَ أَرْدِيَتَهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْلِبُونَ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَحَوَّلَ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُمْ» وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَنَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ شَاذٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ؛ فَيَكُونُ تَقْرِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَدْبِرًا لَهُمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. ثُمَّ إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ سُنَّةٌ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ» . الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، وَالنَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّعَاءِ الْإِجَابَةُ، وَالثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ وَإِنْ أَمَرَ الْأَمَامُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ خَرَجُوا؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَحْطَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ» وَلَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا خَرَجُوا اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يُصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ إلَّا إذَا أَمَرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ حُضُورُ الْإِمَامِ، وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ إذْنُ الْإِمَامِ. وَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ إنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِمْ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ يَنْظُرُونَ نُزُولَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْكُفَّارُ مَنَازِلُ اللَّعْنَةِ وَالسَّخْطَةِ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْخُرُوجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ فَهِيَ السُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ هَذِهِ السُّنَنِ، وَمَقَادِيرِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ فِيهَا، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقْتُ جُمْلَتِهَا وَقْتُ الْمَكْتُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لِلْمَكْتُوبَاتِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهَا فِي الْوَقْتِ، وَمِقْدَارُ جُمْلَتِهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ، وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا مِقْدَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَوَقْتُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ: فَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ قَبْلَهُ فَحَسَنٌ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هَكَذَا إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَصْرِ: وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَفِي الْعِشَاءِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَالْعَمَلُ فِيمَا رَوَيْنَا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ. وَالْأَصْلُ فِي السُّنَنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» ، وَقَدْ وَاظَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِعُذْرٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ السُّنَّةِ، وَأَقْوَى السُّنَنِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِمَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَلُّوهُمَا فَإِنَّ فِيهِمَا لَرَغَائِبَ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فصل صفة القراءة في سنن الصلاة
وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا قَوْلًا عَلَى مَا نَذْكُرُ وَعَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُحَافَظَةِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ذَكَرَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ إلَّا أَنَّهُ زَادَ وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْت: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَقُلْتُ: أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ: بِتَسْلِيمَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ؟ فَقَالَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّشَهُّدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلَامِ كَمَا فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعَصْرِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْبَعِ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ غَيْرَ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فَصْلِهِ إيَّاهَا. وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا، وَفِي بَعْضِهَا رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَ حَسَنًا لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ كَانَتْ لَهُ جُنَّةً مِنْ النَّارِ» وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْأَصْلِ: إنَّ التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعِشَاءِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِهَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فِي الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ لَهُ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً، كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» . وَأَمَّا السُّنَّةُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ أَمَّا الْأَرْبَعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ؛ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ نَظِيرُ الظُّهْرِ، ثُمَّ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ كَذَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ فِيمَا قُلْنَا جَمْعًا بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» ، فَجَمَعْنَا بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْ لَا يَصِيرَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرْضِ بِمِثْلِهَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» وَمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مَنْ يُصَلِّي بَعْدَهَا كَمْ شَاءَ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا غَيْرُ؛ لِمَا رَوَيْنَا. [فَصْلٌ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا فَالْقِرَاءَةُ فِي السُّنَنِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَطَوُّعٌ وَكُلُّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ كُلُّ شَفْعٍ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ سُنَن الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْهَا فَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لِلِاشْتِبَاهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا حَتَّى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا مَرَّ. وَيُكْرَهُ أَنْ
يُصَلِّي شَيْئًا مِنْهَا وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ مِنْ الْفَجْرِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الْفَجْرُ تَرَكَهُمَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّاخِلَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ لَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ كَانَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ لَا يَرَى صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» . وَأَمَّا خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ. وَأَمَّا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ فَضِيلَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِهَا فَوَاتُ النَّوَافِلِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِ النَّوَافِلِ فَوْتُهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَكَانَ إحْرَازُ فَضِيلَتِهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّ التَّرْغِيبَ فِيهِمَا قَدْ وُجِدَ حَسْبَمَا وُجِدَ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ وَاخْتَلَفَ تَخْرِيجُ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَقَدْ سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَشَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِيَنَالَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ عِنْدَ فَوْتِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ غَيْرُ مَوْهُومٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ إحْرَازِ إحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يُحْرِزُ الْأُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَأْتِ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ بَعْدُ يَشْتَغِلُ بِإِحْرَازِهَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ تَأَيَّدَتْ بِالِانْضِمَامِ إلَى فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا فَإِنَّ مُحَمَّدًا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ: إنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالتَّطَوُّعِ إذَا كَانَ يَرْجُو إدْرَاكَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَفَاتَتْهُ فَضِيلَةُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا. وَلَوْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمَا فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هِيَ التَّحْرِيمَةُ، وَهِيَ تَبْقَى مَا دَامَتْ الْأَرْكَانُ بَاقِيَةً فَكَانَتْ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ بَاقِيَةً بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ مُدْرِكًا مِنْ وَجْهٍ وَصَارَ مُدْرِكًا أَيْضًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَكْثَرَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَكْعَةٌ لَا غَيْرُ، وَالْمُسْتَدْرَكُ رَكْعَةٌ وَقَعْدَةٌ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا إذَا فَاتَتَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا عِبْرَةَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا فَاتَ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ، وَالْفَائِتُ أَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَعَجَزَ عَنْ إحْرَازِهِمَا فَيَخْتَارُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِمَا انْضَمَّ إلَى إحْرَازِهَا فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرْضِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «تَفْضُلُ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَةٍ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ وَإِمَّا إنْ شَرَعَ فِي الْفَرْضِ، فَإِنْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَتَمَّ الشَّفْعَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَمَّا إتْمَامُ الشَّفْعِ، فَلِأَنَّ صَوْنَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ وَاجِبٌ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ فِي التَّطَوُّعِ زِيَادَةٌ عَلَى الشَّفْعِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَابْتِدَاءِ تَطَوُّعٍ آخَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِي الْفَرْضِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقْطَعُهَا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ نَقْصًا صُورَةً فَلَيْسَ بِنَقْصٍ مَعْنًى لِأَنَّهُ لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْهَدْمُ لِيَبْنِيَ أَكْمَلُ يُعَدُّ إصْلَاحًا لَا هَدْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ هَدَمَ مَسْجِدًا لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَأْثَمُ، وَإِذَا قَيَّدَ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْفَرْضُ بَعْدَ إتْمَامِهِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صَوْنُ الْمُؤَدَّى وَاسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ «صَلَاةُ الرَّجُلِ بِالْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»
فصل السنة إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا
عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى التَّشَهُّدِ وَيُسَلِّمُ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى حَالِهِ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَعْدَةِ كَانَتْ سُنَّةً، وَقَعْدَةُ الْخَتْمِ فَرْضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقَعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ أَتَمَّهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ، وَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فَيَجْعَلُهَا تَطَوُّعًا لِمَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا فَجِيءَ بِهِمَا تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ مَا لَكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا: كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا مَعَهُ وَاجْعَلَا ذَلِكَ سُبْحَةً» أَيْ: نَافِلَةً وَكَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ وَلَوْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ ثَوَابَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَصْرِ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ، وَيَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْخُرُوجِ أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْمُكْثِ. وَأَمَّا فِي الْمَغْرِبِ فَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى لَأَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ. وَلَوْ قَطَعَ كَانَ بِهِ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فِيهَا لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثَّلَاثِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ، وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِتَصِيرَ شَفْعًا لَهُ، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ يَقْعُدُ مَعَهُ وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ ثُمَّ جَازَ هَذَا التَّغْيِيرُ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ، كَذَا هَذَا فَإِنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ بِالْقِيَامِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلرَّكْعَتَيْنِ لِخُرُوجِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللَّهِ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ فَلِذَلِكَ يُتِمُّ أَرْبَعًا لَوْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ، هَذَا إذَا كَانَ لَمْ يُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّاهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بَعْدَهَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي سَائِرِ السُّنَنِ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا لَا تُقْضَى سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا، أَوْ مَعَ الْفَرِيضَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: تُقْضَى قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ، وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهِمَا مِنْ قَبْلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ» وَفِي رِوَايَةٍ «رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَيَرَوْنِي، فَقُلْتُ: أَفَأَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا؟ فَقَالَ: لَا» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اُخْتُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَرِكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَجِبَ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ، وَلِأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِبَارَةٌ عَنْ طَرِيقَتِهِ وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْفِعْلُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَا يَكُونُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِ، فَلَا يَكُونُ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا. وَأَمَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ إذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ فَقَدْ فَعَلَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً لَكِنَّهُمَا عَرَفَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنْ فَاتَتْ مَعَ الْفَرْضِ تُقْضَى مَعَ الْفَرْضِ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا نَامَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّ الشَّمْسِ فَارْتَحَلَ مِنْهُ ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ» . وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا لَا تُقْضَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْضَى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَاهُمَا بَعْدَ
فصل في قدر صلاة التراويح
طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ الزَّوَالِ» فَصَارَ ذَلِكَ وَقْتَ قَضَائِهِمَا، وَلَهُمَا أَنَّ السُّنَنَ شُرِعَتْ تَوَابِعَ لِلْفَرَائِضِ فَلَوْ قُضِيَتْ فِي وَقْتٍ لَا أَدَاءَ فِيهِ لِلْفَرَائِضِ لَصَارَتْ السُّنَنُ أَصْلًا، وَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ فَلَمْ تَبْقَ سُنَنٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً بِوَصْفِ التَّبَعِيَّةِ، وَلَيْلَةُ التَّعْرِيسِ فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ فَقُضِيَتَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا فَاتَتَا وَحْدَهُمَا، وَلَا وَجْهَ إلَى قَضَائِهِمَا وَحْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا لَا يُقْضَى غَيْرُهُمَا مِنْ السُّنَنِ وَلَا هُمَا يُقْضَيَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ سُنَنُ الصَّحَابَةِ فَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ، وَقْتِهَا، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي سُنَنِهَا، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ . أَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ سُنَّةٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا بَلْ أَقَامَهَا فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّاهَا لِلَيْلَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ ثُمَّ تَرَكَ وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ» لَكِنْ الصَّحَابَةُ وَاظَبُوا عَلَيْهَا فَكَانَتْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ. [فَصْلٌ فِي قَدْر صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُهَا فَعِشْرُونَ رَكْعَةً فِي عَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ، فِي خَمْسِ تَرْوِيحَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَتَيْنِ تَرْوِيحَةٌ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ: سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً، وَفِي قَوْلٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ، فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: وَقْتُهَا مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ فِي إمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ نَاسِيًا، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ إمَامٌ آخَرُ التَّرَاوِيحَ مُتَوَضِّئًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الْعِشَاءَ وَالتَّرَاوِيحَ جَمِيعًا: أَمَّا الْعِشَاءُ فَلَا شَكَّ فِيهَا. وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ؛ فَلِأَنَّهَا تُصَلَّى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا. وَهَلْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَا تَأْخِيرُهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ. [فَصْلٌ فِي سُنَن صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُهَا فَمِنْهَا الْجَمَاعَةُ وَالْمَسْجِدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْرَ مَا صَلَّى مِنْ التَّرَاوِيحِ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَلَّوْهَا بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةً، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْمَسْجِدِ، أَنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ أَمْ سُنَّةُ كِفَايَةٍ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا سُنَّةٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كُلُّهُمْ إقَامَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ أَسَاءُوا وَأَثِمُوا، وَمَنْ صَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ بِجَمَاعَةٍ لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ سُنَّةِ التَّرَاوِيحِ لِتَرْكِهِ ثَوَابَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ. وَمِنْهَا نِيَّةُ التَّرَاوِيحِ أَوْ نِيَّةُ قِيَامِ رَمَضَانَ، أَوْ نِيَّةُ سُنَّةِ الْوَقْتِ. وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ، قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، أَوْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَالنَّوَافِلُ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ، أَوْ سُنَّةَ الْوَقْتِ، أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَلَوْ اقْتَدَى مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِمَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، أَوْ النَّافِلَةَ قِيلَ: يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا التَّرَاوِيحَ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِعَمَلِ السَّلَفِ. وَلَوْ اقْتَدَى مَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى بِمَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ قِيلَ: لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ فَكَانَ نِيَّةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَغْوًا، وَلِهَذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بِمُصَلِّي الْأَرْبَعِ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْمُقْتَدِي أَيْضًا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ، وَفِي التَّعَوُّذِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعُ الثَّنَاءِ، أَوْ تَبَعُ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ التَّشَهُّدِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يَقْرَأُ فِيهَا كَمَا يَقْرَأُ فِي أَخَفِّ الْمَكْتُوبَاتِ وَهِيَ الْمَغْرِبُ، وَقِيلَ: يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ، وَقِيلَ: يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعَا بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَاسْتَقْرَأَهُمْ وَأَمَرَ أَوَّلَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً، وَأَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ آيَةً، وَأَمَرَ الثَّالِثَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ سُنَّةٌ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّةً فِي التَّرَاوِيحِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَهَذَا فِي زَمَانِهِمْ. وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْقَوْمِ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالْكَسَلِ فَيَقْرَأُ قَدْرَ مَا لَا يُوجِبُ تَنْفِيرَ الْقَوْمِ عَنْ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ، وَالْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي التَّرْوِيحَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يُعَدِّلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا الْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُطَوِّلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الْفَرَائِضِ. وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ. وَلَوْ صَلَّى تَرْوِيحَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً تَتَأَدَّى بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لَكِنْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ بِتَرْكِ التَّسْلِيمَةِ، وَالتَّحْرِيمَةِ، وَالثَّنَاءِ، وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا؛ لِأَنَّ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمَةِ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا هَذَا إذَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا عِنْدَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيَاسًا، ثُمَّ إذَا جَازَ عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ كَامِلًا، وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ وَلَمْ تُوجَدْ وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ. وَلَوْ صَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ تَنَفَّلَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَلَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا وَهُوَ الْمَغْرِبُ جَازَ، فَكَذَا النَّفَلُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الثَّالِثَةِ فِي النَّوَافِلِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الْمَغْرِبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِيهَا لَمْ تَجُزْ النَّافِلَةُ فَكَذَا فِي التَّرَاوِيحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ سَاهِيًا فِي الثَّالِثَةِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ صَحَّتْ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا يَضُمُّ رَكْعَةً أُخْرَى إلَيْهَا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ فَسَدَتْ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَشَرَعَ فِي الثَّالِثَةِ بِلَا تَحْرِيمَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَةٍ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْزِئُهُ عَنْ التَّرَاوِيحِ كُلِّهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِكُلِّ شَفْعٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ تَرْوِيحَةٍ إمَامٌ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، وَعَمَلُ السَّلَفِ وَلَا يُصَلِّي التَّرْوِيحَةَ الْوَاحِدَةَ إمَامَانِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ، وَيَكُونُ تَبْدِيلُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَلَا يُصَلِّي إمَامٌ وَاحِدٌ التَّرَاوِيحَ فِي مَسْجِدَيْنِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَى الْكَمَالِ وَلَا لَهُ فِعْلٌ وَلَا يُحْتَسَبُ التَّالِي مِنْ التَّرَاوِيحِ، وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ إمَامِهِمْ نَافِلَةٌ، وَصَلَاتُهُمْ سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ أَقْوَى فَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ مَحْسُوبٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا وَلَا
فصل صلاة التراويح إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا
بَأْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ فِي مَسْجِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اقْتِدَاءُ الْمُتَطَوِّعِ بِمَنْ يُصَلِّي السُّنَّةَ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَدَخَلَ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. إذَا صَلَّوْا التَّرَاوِيحَ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوهَا ثَانِيًا يُصَلُّونَ فُرَادَى لَا بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ، وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِجَمَاعَةٍ مَكْرُوهٌ. وَيَجُوزُ التَّرَاوِيحُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ صَلَّاهَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ السُّنَّةِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا، وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى تَرْكِهَا فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ كُلَّمَا صَلَّى تَرْوِيحَةً قَعَدَ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ يُسَبِّحُ، وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو وَيَنْتَظِرُ أَيْضًا بَعْدَ الْخَامِسَةِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَارَثٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ بَعْدَ خَمْسِ تَسْلِيمَاتٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَدَائِهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا تُقْضَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتِلْكَ لَا تُقْضَى فَكَذَلِكَ هَذِهِ. [فَصْلٌ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّطَوُّعَ هَلْ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ، وَفِي بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ مَنْ التَّطَوُّعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَإِذَا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي التَّطَوُّعِ وَلَا الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ التَّطَوُّعَ تَبَرُّعٌ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ فِيهِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ، وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْإِبْطَالِ، وَذَا بِلُزُومِ الْمُضِيِّ فِيهَا، وَإِذَا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَاجِبَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كَمَا فِي الْمَنْذُورِ وَالْمَفْرُوضِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ كَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ. وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَقَدْ صَارَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِيهَا يَنْوِي التَّطَوُّعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَصْلًا، أَوْ نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَتَنُوبُ هَذِهِ عَنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فَلَا يَتَأَدَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى، وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهَا حِينَ شَرَعَ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَكَذَا إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَدَّاهَا وَإِنْ نَوَى تَطَوُّعًا آخَرَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ، فَلَا يَنُوبُ هَذَا الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي الْمَرَّتَيْنِ إلَّا أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الشُّرُوعُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: الشُّرُوعُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْطَعَ وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، وَإِنْ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَغَيْرُ مُلْزِمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ وَعِنْدَهُمَا مُلْزِمٌ فَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَجَعَلَا الشُّرُوعَ فِيهِمَا مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ لِكَوْنِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَجَعَلَ الشُّرُوعَ فِيهِمَا غَيْرَ مُلْزِمٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ وَالْفَرْقُ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْكُلِّ فِيهِ عَلَى الْبَعْضِ كَالْمَاءِ، فَإِنَّ مَاءَ الْبَحْرِ يُسَمَّى مَاءً، وَقَطْرَةٌ مِنْهُ تُسَمَّى مَاءً، وَكَذَا الْخَلُّ وَالزَّيْتُ، وَكُلُّ مَائِعٍ، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ مِنْهُ اسْمُ الْكُلِّ كَالسَّكَنْجَبِينِ، لَا يُسَمَّى الْخَلَّ وَحْدَهُ وَلَا السُّكْرَ وَحْدَهُ سكنجيبا، وَكَذَا الْأَنْفُ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى وَجْهًا، وَلَا الْخَدُّ
فصل في بيان مقدار ما يلزم منه بالشروع في صلاة التطوع
وَحْدَهُ وَلَا الْعَظْمُ وَحْدَهُ يُسَمَّى آدَمِيًّا، ثُمَّ الصَّوْمُ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ اسْمُ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةُ تَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ: الْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ فَلَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ. وَمِنْ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ بَاشَرَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ، وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُبَاشِرْ مِنْهَا فِيمَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ قُرْبَةً خَالِصَةً غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، فَبَعْدَ هَذَا يَقُولُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ فِي الصَّوْمِ مَنْهِيٌّ فَفَسَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَصِرْ سَبَبَ الْوُجُوبِ، وَفِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ فَصَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَإِذَا تَحَقَّقَ هَذَا فَنَقُولُ: وُجُوبُ الْمُضِيِّ فِي التَّطَوُّعِ لِصِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ قُرْبَةً، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ مَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ مَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ وَالْمُضِيُّ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ وَالْمُضِيُّ لَوْ وَجَبَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ وَمَا انْعَقَدَ عِبَادَةٌ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَتَقْرِيرُ الْعِبَادَةِ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَصِيَانَتُهَا مَعْصِيَةٌ، فَالصِّيَانَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مَحْظُورَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ تَجِبْ الصِّيَانَةُ عِنْدَ الشَّكِّ، وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَبِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مُمْكِنٌ، وَإِيجَابُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، بَلْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ فَأَمَّا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَمَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ عِبَادَةً خَالِصَةً لَا حَظْرَ فِيهَا فَوَجَبَ تَقْرِيرُهَا وَصِيَانَتُهَا، ثُمَّ صِيَانَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ بِالْمُضِيِّ وَبِالْمُضِيِّ يَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ وَلَكِنْ لَوْ مَضَى تَقَرَّرَتْ الْعِبَادَةُ، وَتَقْرِيرُهَا وَاجِبٌ، وَمَا يَأْتِي بِهِ عِبَادَةٌ وَمَحْظُورٌ أَيْضًا فَكَانَ مُحَصِّلًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَمُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ مِنْ وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْعِبَادَةِ. وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ امْتَنَعَ عَنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ أَيْضًا عَنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ وَأَبْطَلَ الْعِبَادَةَ الْمُتَقَرِّرَةَ، وَإِبْطَالُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْمُضِيُّ لِلصِّيَانَةِ أَوْلَى مِنْ الِامْتِنَاعِ فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فَإِذَا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّتِهِ وَوُرُودِهِ فَكَانَ فِي ثُبُوتِهِ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ كَانَ قَبُولُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ بِالشُّرُوعِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَتَلَقَّتْهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بِالْقَبُولِ، فَكَانَ النَّهْيُ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ ذَكَرَ هَذِهِ الْفُرُوقَ، وَأَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ وُجُوبُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوُجُوبُهَا بِالتَّحْرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلٌ، وَلَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَهَا مَعَ هَذَا وَقَضَى فِي وَقْتٍ آخَرَ كَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلُ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا وَهَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى خَالِيًا عَنْ اقْتِرَانِ النَّهْيِ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ صَلَّى مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ إلَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ أَسَاءَ حَيْثُ أَدَّى مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ. وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَتَمَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ الشُّرُوعُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبَ الْوُجُوبِ إذَا صَحَّ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَصِحَّ فَلَا، حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَكَذَا الْقَارِئُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، أَوْ فِي صَلَاةِ امْرَأَةٍ، أَوْ جُنُبٍ، أَوْ مُحْدِثٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ حَيْثُ اقْتَدَى بِمِنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ، وَكَذَا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ. وَلَوْ أَفْسَدَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مَعْلُومًا كَانَ، أَوْ مَظْنُونًا وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ إنْ شَاءَ لَلَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا إلَّا بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا: قَضَى أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا: يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذَلِكَ الْعَدَدُ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَرَوَى غَسَّانُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ مَا تَنَاوَلَهُ، وَإِنْ كَثُرَ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ مَا تَنَاوَلَهُ وَكَذَا بِالشُّرُوعِ، وَجْهُ رِوَايَةِ غَسَّانَ عَنْهُ أَنَّ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَذَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ فَهَذَا أَوْلَى، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ الشُّرُوعِ مَا ثَبَتَ وَضْعًا بَلْ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْمُؤَدِّي عَنْ الْبُطْلَانِ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِتَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِخِلَافِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِصِيغَتِهِ وَضْعًا فَيَتَقَدَّرُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ مَا تَنَاوَلَهُ السَّبَبُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَنَقُولُ نَعَمْ لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ مَا وُجِدَ الشُّرُوعُ فِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَجِبُ، وَلِأَنَّهُ مَا وُضِعَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوُجُوبُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الشَّفْعِ الثَّانِي، بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا الْتَزَمَ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَضَى أَرْبَعًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقْضِي فِي التَّطَوُّعِ أَرْبَعًا وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَرْبَعِ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: لَوْ قَطَعَهَا يَقْضِي أَرْبَعًا. وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ فَانْتَقَلَ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ وَبَيَّنَهُمَا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ، وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ بِنَاءً، مِنْهُ الشَّفْعُ الثَّانِي عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأَوْلَى وَأَمْكَنَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ أَنَّهَا تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَلْزَمُهُ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ الْقِرَاءَةُ كَمَا فِي الْأُولَيَيْنِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمُتَنَفِّلَ إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثِ لِقَصْدِ الْأَدَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِحَ فَيَقُولَ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كَمَا يَسْتَفْتِحُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ الِافْتِتَاحِ، وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ النَّفْلِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ الْمَسْنُونِ فِيهِ. وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَوَقَعَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ حَيْثُ يَصِحُّ، وَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ سَهْوُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلَّلٌ فِي الشَّرْعِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ حَكَمَ بِعَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِهَا فَظَهَرَ بَقَاءُ التَّحْرِيمَةِ، أَوْ عَوْدُهَا فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَعْمَلُ التَّسْلِيمُ عَمَلَهُ فِي التَّحْلِيلِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْمُتَنَفِّلِ بِالْأَرْبَعِ إذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ لَمَّا كَانَ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ كَانَتْ الْقَعْدَةُ عَقِيبَهُ فَرْضًا كَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْفَرَائِضِ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ الْقَعْدَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا صَلَاةً وَاحِدَةً شَبِيهَةً بِالْفَرْضِ، وَاعْتِبَارُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَاصِلَةً بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ وَالْخَاتِمَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ فَأَمَّا الْفَاصِلَةُ فَوَاجِبَةٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ فِيهِمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ نَجْعَلْ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا صَارَتْ فَرْضًا لِغَيْرِهَا وَهُوَ الْخُرُوجُ فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَصَارَتْ الصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لَمْ يَأْتِ أَوَانُ الْخُرُوجِ فَلَمْ تَبْقَ الْقَعْدَةُ فَرْضًا، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ رُكْنٌ بِنَفْسِهَا فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَسَدَ فَلَمْ يَصِحَّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا صَلَّى التَّطَوُّعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ
وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اعْتِبَارًا لِلتَّطَوُّعِ بِالْفَرْضِ وَهُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ إذَا صَلَّاهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ مَا قَبْلَهَا. وَلَوْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الْأَرْبَعِ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْفَرِيضَةِ، وَلَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَعُودُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْمُفْسَدُ دُونَ الشَّفْعِ الَّذِي مَضَى عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا فَتَكَلَّمَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ قَضَى الشَّفْعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَفَسَادُ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَفَسَادُ الْبَعْضِ يُوجِبُ فَسَادَ الْكُلِّ. وَلَوْ اقْتَدَى الْمُتَطَوِّعُ بِمُصَلِّي الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا، أَوْ اقْتَدَى بِهِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. وَمَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ سِتًّا لَمْ يَلْزَمْهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي الظُّهْرِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُلْزِمُ شَيْئًا. ، وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الزِّيَادَةِ لَغْوًا. هَذَا إذَا أَفْسَدَ التَّطَوُّعَ بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِ الصَّلَاةِ فِي الْوَضْعِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إذَا أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ صَلَّى التَّطَوُّعَ أَرْبَعًا، وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهِنَّ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِثَمَانِ مَسَائِلَ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَتَى فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ، فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ، فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَإِنْ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَاهُمَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي كُلِّ شَفْعٍ مِنْ النَّفْلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَمَا يَفْسُدُ الشَّفْعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَاهُمَا لِفَوَاتِ مَا هُوَ رُكْنٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوْ السُّجُودَ أَنَّهُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ التَّرْكِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، كَذَا هَذَا وَصَارَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِفْسَادِ، وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ سَوَاءً فَإِذَا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَمْ تَبْقَ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِذَا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَا تَبْقَى هِيَ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي لِعَدَمِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسَادُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ رُكْنًا وَلَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا مَا عُقِدَتْ لِهَذَا الشَّفْعِ خَاصَّةً بَلْ لَهُ الشَّفْعُ الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ يَصِحُّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ التَّحْرِيمَةُ صَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، ثُمَّ يَفْسُدُ هُوَ أَيْضًا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلتَّحْرِيمَةِ مَعَ بُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كَمَا إذَا تَرَكَ رُكْنًا آخِرًا، وَتَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ عَمْدًا؛ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَجْعَلَهَا كُلَّهَا عِبَادَةً وَاحِدَةً فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا عَلِمَ فَسَادَ الشَّفْعِ بِيَقِينٍ لِتَرْكِ الرُّكْنِ بِيَقِينٍ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا بِفَسَادِ هَذَا الشَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يَقُولُ: بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنْ إنَّمَا عَرَفْنَا فَسَادَهُ بِدَلِيلٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ قَوْلَهُ غَيْرَ أَنَّا عَرَفْنَا صِحَّةَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَفَسَادَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَلَمْ نَحْكُمْ بِبُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْحُكْمِ بِفَسَادِهِ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَبِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِيَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِوُجُودِ مُفْسِدٍ فِي هَذَا الشَّفْعِ أَيْضًا إذَا عَرَفْت هَذَا الْأَصْلَ، فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِفَسَادِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَقِيَتْ وَإِنْ فَسَدَ الشَّفْعُ
فصل بيان أفضل التطوع
الْأَوَّلُ، فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا، فَيَجِبُ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ جَمِيعًا. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ، أَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَحَسْبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ هَذَا الشَّفْعِ فَبَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِعَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِ الْفَسَادِ غَيْرَ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَصَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، ثُمَّ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ؛ فَأَمَّا الشَّفْعُ الثَّانِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ صَلَاةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهِ قَدْ صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا فَصَحَّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَمَّا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ لَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً فَلَا يَجِبُ إلَّا قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ، وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ؛ فَلِأَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِانْعِدَامِ التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، وَأَنَّهَا انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ، وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ. وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، قَضَاءُ الْأَرْبَعِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ. وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ. وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْكُلِّ وَكَذَا، لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَعَدَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ وَلَا تَتَأَتَّى هَذِهِ التَّفْرِيعَاتُ عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ خَلْفَهُ رَجُلٌ اقْتَدَى بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إمَامِهِ يَقْضِي مَا يَقْضِي إمَامُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا. وَلَوْ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي وَمَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَرَأَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا، وَقَعَدَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ فَإِنْ تَكَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بِالْإِفْسَادِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا الْتَزَمَ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ. وَأَمَّا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هَذَا كُلَّهُ صَلَاةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَمْ يَحْكُمَا بِفَسَادِهَا بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَقِيَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ حَتَّى حُكِمَ بِافْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَانَ هَذَا الْمُقْتَدِي مُفْسِدًا لِلشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَا غَيْرُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لَا غَيْرُ. [فَصْلٌ بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا؛ وَلِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بْنِ رُوَيْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ. «، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: أَحْمَزُهَا أَيْ: أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ» . وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ
فصل بيان ما يكره من التطوع
وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ مُرَادًا بِهِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ فَظَهَرَ مَثْنَى مَثْنَى مِنْ لَدُنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَكَلِمَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَالْمُوَاظَبَةِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاظِبُ إلَّا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ كَمَا فِي صِفَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ أَيْ: فَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ: " السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ " وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالتَّسْلِيمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا جَازَ، أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَتُؤَدَّى عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ، فَالْمَكْرُوهُ مِنْهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا، وَإِنْ شِئْت سِتًّا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ، أَوْ إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَالثَّلَاثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ؛ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ. وَلَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ أَوْ عَلَى الثَّمَانِ فِي اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وَهُوَ الشُّرُوعُ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى عَلَى حَسَبِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَمْ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ؟ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ» أَيْ: الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] : إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ. أَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ: أَحَدُهَا مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ، وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَهُوَ احْمِرَارُهَا، وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ. فَفِي هَذِهِ
الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ لَهُ، أَوْ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ، وَعِنْدَ الزَّوَالِ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَقَالَ: لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ» وَرَوَى الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَالَ: إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُهَا حَتَّى يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا، فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ» فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، وَهُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَيَسْجُدُونَ لَهَا عِنْدَ الطُّلُوعِ تَحِيَّةً لَهَا، وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ وَدَاعًا لَهَا فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بَيْنَ قَرْنَيْهِ لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نَحْوَ الشَّمْسِ لَهُ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بِهَا. وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ الْمُبْتَدَإِ مَكْرُوهٌ فِيهَا. وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ» وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: عَزَمْت عَلَى مَنْ أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَقُمْ فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لَوْ تَوَضَّأْنَا جَمِيعًا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ لَهُ: كُنْت سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لَمْ يُحْدِثْ كَانَتْ نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: إنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ وَنَ حْنُ نَفْعَلُ مَا أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: شَغَلَنِي وَفْدٌ عَنْ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فَقَالَتْ وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا» أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ، لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عَلَيْهِ
فصل بيان ما يفارق التطوع الفرض فيه
السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ، وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ، وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ الْمَكْرِ لِمِثْلِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ إخْرَاجُ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ عَنْ كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ. وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الَّذِي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ مِنْ النَّذْرِ وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الَّذِي أَفْسَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ نَفْلٌ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عَنْ الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا فِي نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. (وَمِنْهَا) مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فِيهِ النَّفَلُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ، كَمَا تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السُّنَنِ. وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا، وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ وَالْكَلَامُ، وَجَمِيعُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. (وَمِنْهَا) مَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَوَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ فَقَالَ: لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرٌ. وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ لَا فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ، فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي أَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَكُونُ فِي إلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ آيَاتٍ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ» . وَكَذَا لَوْ افْتَتَحَ الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ: إنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ وَضْعًا، وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ عِبَادَةً عَنْ الْبُطْلَانِ، وَمَا انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً بِوُجُودِ أَصْلِ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ مَا بَقِيَ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ لُزُومَ مَا بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عَنْ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فَإِذَا أَوْجَبَ مَعَ الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ، لَا رِوَايَةَ فِيهِ فَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي
الشُّرُوعِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ قَائِمًا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَيُعْتَبَرُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ مُوجِبًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ عَلَى مَا مَرَّ. افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ، أَوْ نَحْوُهَا قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ، وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ» فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ. أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ، وَأَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي التَّطَوُّعِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ، وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فَقَطْ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَوْ يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأْوِيلُهُ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا مِنْ التَّطَوُّعِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْقِرَاءَةِ أَيْ: رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ: لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ أَرْبَعًا مِنْ التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، فَكَانَ هَذَا أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالظُّهْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، وَتَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْ: لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ؛ لِأَنَّهُ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، أَوْ اسْتَيْقَظَ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا» ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ فَسَادٍ فِيهِ بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ، وَالنَّهْيَ عَنْ اتِّبَاعِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ سَاهِيًا فِي الْفَرْضِ، فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ وَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا أَنَّهُ يَعُودُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هَلْ يَعُودُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يَعُودُ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَلَوْ كَانَ نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَيَعُودُ هَهُنَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ» وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً فِي التَّرَاوِيحِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى التَّرَاوِيحَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلَاتِهِ» وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ
فصل صلاة الجنازة
فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مُوَقَّتٍ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي مَوْضِعِهِ،. وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ. وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ فِي الْجَنَائِزِ يَقَعُ فِي الْأَصْلِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي فِي تَكْفِينِهِ، وَالثَّالِثُ فِي حَمْلِ جِنَازَتِهِ، وَالرَّابِعُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالْخَامِسُ فِي دَفْنِهِ، وَالسَّادِسُ فِي الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذَلِكَ نَبْدَأُ بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ: إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، كَمَا يُوَجَّهُ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كَمَا يُضْجَعُ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ، وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] . وَإِذَا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ، وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ كَالْمُثْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَغَمَّضَهُ» وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ النَّاسِ بِمَوْتِهِ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي» ؛ وَلِأَنَّ فِي الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالتَّسَبُّبِ إلَى الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ فِي جِهَازِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» نَدَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ. [فَصْلٌ الْغُسْلِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي الْغُسْلِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ. وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ لَمَّا كَانَ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ. وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً لَهُ فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ فِي
فصل بيان كيفية وجوب غسل الميت
الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْغُسْلُ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ، وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ الْكَرَامَةُ فِي امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا، وَقَوْلُ الْعَامَّةِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ: إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ، وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، وَكَذَا الْوَاجِبُ هُوَ الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى لَوْ اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَاءٍ جَارٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ - كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ - فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فِيهِ كَرَامَةً لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ - فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ غَرِقَ فِي الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كَانَ الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ كَمَا يُحَرَّكُ الشَّيْءُ فِي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ: يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ بِالْغُسَالَاتِ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ أَوْ حُصُولِهِ بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا غُسْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَمِيصِهِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ السِّنَةَ عَلَيْهِمْ فَمَا فِيهِمْ أَحَدٌ إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ، حَتَّى نُودُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا نَبِيَّكُمْ. وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ، وَلَا شِرْكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّجْرِيدِ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ طَاهِرًا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَوَلَّى غُسْلَهُ: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا. وَيُوضَعُ عَلَى التَّخْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا بِالْوَضْعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ عَلَى الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أَوْ عَرْضًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ. ، وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِرَامِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ: وَتُطْرَحُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا فِي نَوَادِرِهِ، ثُمَّ تُغَسَّلُ عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا ذَكَرَ الْبَلْخِيّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ النَّظَرِ، فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَنْجَى أَمْ لَا؟ وَذُكِرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَنْجَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُسْتَنْجَى هُمَا يَقُولَانِ قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهَا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إنَّ الْمُسْكَةَ تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ، فَكَانَ السَّبِيلُ فِيهِ هُوَ التَّرْكُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا رُجُوعَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا
بَعْدَ الْمَمَاتِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ الْمَيِّتُ، وَلَا يُسْتَنْشَقُ؛ لِأَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ فِي فَمِ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، ثُمَّ يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْفَمِ إلَّا بِالْكَبِّ، وَذَا مِثْلُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ لَوْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، وَكَذَا الْمَاءُ لَا يَدْخُلُ الْخَيَاشِيمَ إلَّا بِالْجَذْبِ بِالنَّفَسِ، وَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ الْمَيِّتِ. وَلَوْ كُلِّفَ الْغَاسِلُ ذَلِكَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ، وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُسَالَةُ تَجْتَمِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ عَلَى التَّخْتِ فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا، وَكَذَا لَا يُمْسَحُ رَأْسُهُ، وَيُمْسَحُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ هُنَاكَ سُنَّ تَعَبُّدًا لَا تَطْهِيرًا، وَهَهُنَا لَوْ سُنَّ لَسُنَّ تَطْهِيرًا لَا تَعَبُّدًا، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ. ثُمَّ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالصَّابُونِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكْفِيهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ وَلَا يُسَرَّحُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَأَتْ قَوْمًا يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ؟ ، أَيْ: تُسَرِّحُونَ شَعْرَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهَا، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهَا خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سُرِّحَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَشَارِبُهُ وَلِحْيَتُهُ، وَلَا يُخْتَنُ وَلَا يُنْتَفُ إبْطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ؛؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الزِّينَةِ، وَلِهَذَا لَا يُزَالُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُصُولُ زِينَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَرَّحُ وَيُزَالُ عَنْهُ شَعْرُ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ إذَا كَانَا طَوِيلَيْنِ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ يُزَالُ إنْ كَانَ يَتَزَيَّنُ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، وَلَا يُحْلَقُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَا يَحْلِقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَتَزَيَّنُ بِالشَّعْرِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ» ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ فَكَذَا بِالْمَيِّتِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ يَنْصَرِفُ إلَى زِينَةٍ لَيْسَ فِيهَا إزَالَةُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالطِّيبِ، وَالتَّنْظِيفِ مِنْ الدَّرَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا. ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَحْصُلَ الْبِدَايَةُ بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ عَلَى مَا مَرَّ، فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خَلَصَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ، ثُمَّ قَدْ كَانَ أُمِرَ الْغَاسِلُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَغْلِيَ الْمَاءَ بِالسِّدْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِدْرٌ فَحُرْضٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ، ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِمَاءِ السِّدْرِ، أَوْ الْحُرْضِ، أَوْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَى صَدْرِهِ أَوْ يَدِهِ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا، حَتَّى إنْ بَقِيَ شَيْءٌ عِنْدَ الْمَخْرَجِ يَسِيلُ مِنْهُ هَكَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُقْعِدُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ حَتَّى لَوْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ يَغْسِلْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهِ نَجَاسَةٌ مُنْعَقِدَةٌ لَا تَخْرُجُ بِالْمَسْحِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَتَخْرُجُ بَعْد مَا غُسِّلَ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِي الْمَسْحِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَوَلَّى غُسْلَهُ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَصَالِحُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ أَسْنَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى نَفْسِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا» وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ بَطْنَهُ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ فِي الْبَيْتِ، ثُمَّ إذَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ يَمْسَحْهُ كَيْ لَا يَتَلَوَّثَ الْكَفَنُ، وَيَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ تَطْهِيرًا لَهُ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سِوَى الْمَسْحِ وَلَا يُعِيدُ الْغُسْلَ وَلَا الْوُضُوءَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ هُوَ لَمْ يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَهَا الْخَارِجُ مَعَ أَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ أَوْلَى. ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ لِيَتِمَّ عَدَدُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِلَّائِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا» ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هُوَ الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ فِي الْغُسْلِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِيَبْتَلَّ الدَّرَنُ وَالنَّجَاسَةُ، ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِمَاءِ السِّدْرِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي التَّنْظِيفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ، ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَشَيْءٍ مِنْ الْكَافُورِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ اسْتِرْخَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُغَسِّلُهُ لِيَسْتَرْخِيَ فَيَزُولَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ كَمَا يُفْعَلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْغُسْلِ.
فصل شرائط وجوب الغسل
وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْلِ حُكْمُ الرَّجُلِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ فِي الْغُسْلِ كَالْبَالِغِ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ يُصَلَّى عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الصَّلَاةَ لَا يُوَضَّأُ عِنْدَ غُسْلِهِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْحَيَاةِ، وَفِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ وُضُوءُ مَنْ لَا يَعْقِلُ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْغُسْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ وُلِدَ مَيِّتًا لَمْ يُغَسَّلْ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ وَوُرِثَ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُسَمَّ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يَرِثْ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فِي السِّقْطِ الَّذِي اسْتَبَانَ خَلْقُهُ: أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُحَنَّطُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَالْخِلَافُ فِي الْغُسْلِ. وَجْهُ مَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِثْ» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالشَّرْعِ وَأَنَّهُ وَرَدَ بِاسْمِ الْمَيِّتِ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الْمَيِّتِ فِي الْعُرْفِ لَا يَقَعُ عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أُسْقِطَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَقَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ فَأَمَّا إذَا اسْتَهَلَّ بِأَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ، أَوْ طَرَفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَكَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ حَيًّا فَيُغَسَّلُ. وَلَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ، أَوْ الْأُمُّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ إذَا كَانَ عَدْلًا. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً لِجَرِّهَا الْمَغْنَمِ إلَى نَفْسِهَا، وَكَذَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ عَدْلَةٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ اسْمٌ لِكُلِّهِ وَلَوْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ غُسِّلَ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ مِنْهُ، أَوْ النِّصْفُ لَمْ يُغَسَّلْ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلِأَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يَزِدْ عَلَى النِّصْفِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَا يُغَسَّلُ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُغَسَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الرَّأْسُ لَا يُغْسَلُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ مَعَ الرَّأْسِ فِي حُكْمِ الْأَكْثَرِ؛ لِكَوْنِهِ مُعْظَمَ الْبَدَنِ. وَلَوْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا لَا يُغْسَلُ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ الْأَقَلُّ أَوْ النِّصْفُ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُوجَدَ الْبَاقِي فَيُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا، أَوْ يَكُونُ صَاحِبُ الطَّرَفِ حَيًّا فَيُصَلَّى عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ حَيٌّ وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ وُجِدَ عُضْوٌ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ زَمَنَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ فَغَسَّلَهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إنَّهَا يَدُ طَلْحَةَ، أَوْ يَدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رُءُوسٍ؛ وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَتْ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ، وَكَذَا الْغُسْلُ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مُحْتَرَمٌ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: " لَا يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَرْوِ أَنَّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَتَّى نَنْظُرَ أَهُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا، أَوْ نَحْمِلُ الصَّلَاةَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا حَتَّى لَا يَجِبَ غُسْلُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ، لَكِنْ إذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ
مِنْ الْمُسْلِمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَيَدْفِنَهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَا نُهِيَ عَنْ الْبِرِّ بِمَكَانِ أَبِيهِ الْكَافِرِ، بَلْ أُمِرَ بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَمِنْ الْبِرِّ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ، وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَقَالَ: اذْهَبْ وَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي قَالَ: فَفَعَلْت ذَلِكَ وَأَتَيْته فَأَخْبَرْته فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ» وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَقَالَ: اغْسِلْ هَا وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا، وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ثُمَّ إنَّمَا يَقُومُ ذُو الرَّحِمِ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ. وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِتَغْسِيلِهِ وَتَجْهِيزِهِ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُغَسِّلُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ» وَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ شُرِعَ كَرَامَةً لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَرَامَةِ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ غُسْلَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حَتَّى لَا يُغَسَّلَ الْبَاغِي إذَا قُتِلَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ يُؤْتَى بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْتَى بِهِ إهَانَةً، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْتَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَامَةٌ يُمْكِنُ الْفَصْلُ بِهَا يُفْصَلُ، وَعَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ، وَلُبْسُ السَّوَادِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ عَلَامَةٌ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ يُغَسَّلُوا وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا إذَا كَانُوا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الْوَاجِبِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ رَأْسًا، وَهَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ أَصْلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] وَتَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَكَانَ التَّرْكُ أَهْوَنَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَجَزُوا عَنْ تَعْيِينِ الْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْجَزُوا عَنْ تَمْيِيزِ الْقَصْدِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ. وَأَمَّا الدَّفْنُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَتُسَوَّى قُبُورُهُمْ، وَلَا تُسَنَّمُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَهُوَ أَحْوَطُ. وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَمَا فِي بَطْنِهَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُغَسَّلُ وَتُكَفَّنُ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الدَّفْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا أَحْوَطُ. وَلَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ
فصل بيان الكلام فيمن يغسل
الْمَكَانِ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ السِّيمَا وَدَلِيلِ الْمَكَانِ، بَلْ يُعْمَلُ بِالسِّيمَا وَحْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يُعْمَلُ بِدَلِيلِ الْمَكَانِ وَحْدَهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَلَا يُغَسَّلُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْمُكَاثِرُونَ وَالْخَنَّاقُونَ إذَا قُتِلُوا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُغَسَّلُ كَرَامَةً لَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْكَرَامَةَ بَلْ الْإِهَانَةَ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ صَاحِبِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ أَنَّ الْبَاغِيَ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ فَيُؤْتَى بِهِ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إهَانَةً لَهُ كَالْكَافِرِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَمَنْ قُتِلَ ظَالِمًا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْبَاغِي قُتِلَ ظَالِمًا فَيُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَمِنْهَا وُجُودُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ وَلَا وُسْعَ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ فَسَقَطَ الْغُسْلُ، وَلَكِنْ يُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ صَلُحَ بَدَلًا عَنْ الْغُسْلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، غَيْرَ أَنَّ الْجِنْسَ يُيَمِّمُ الْجِنْسَ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ مَسُّ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ يُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَسْتُرُ يَدَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُشْتَهَى كَالصَّغِيرِ، أَوْ الصَّغِيرَةِ فَيُيَمِّمُهُ مَنْ غَيْرِ خِرْقَة، وَإِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ، فَالْمَرْأَةُ تُيَمِّمُ زَوْجَهَا بِلَا خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى إذَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى مَا نَذْكُرُ؛ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى. وَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يُيَمِّمُ زَوْجَتَهُ بِلَا خِرْقَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ سَاقِطٌ عَنْ الشَّهِيدِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي فَصْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ فَنَقُولُ: الْجِنْسُ يُغَسِّلُ الْجِنْسَ، فَيُغَسِّلُ الذَّكَرُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ثَابِتٌ لِلْجِنْسِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْغَاسِلُ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّطْهِيرُ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إذَا غَسَّلَتْ، وَلَا يُغَسِّلُ الْجِنْسَ خِلَافُ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْفَحْلِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ إلَّا الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، أَوْ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ، فَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. أَمَّا الرَّجُلُ فَنَقُولُ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِسَاءٌ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَتَدْفِنُهُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُغَسِّلُ زَوْجَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا اسْتَدْبَرْنَا لَمَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا نِسَاؤُهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً وَقْتَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبَاحَةِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، ثُمَّ عَلِمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَهَكَذَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ؛ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْغُسْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالنِّكَاحِ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقٍ إلَى وَقْتِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَيْثُ لَا يُغَسِّلُهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْتَهَى مِلْكُ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ، فَصَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ غُسْلُهَا وَاعْتُبِرَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يُبَاحُ لَهَا غُسْلُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ بِالْإِبَانَةِ وَكَذَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَبَطَلَ مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةً. وَكَذَا لَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ - أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا
طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ. وَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُبَاحُ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَبَقِيَ حِلُّ الْغُسْلِ، كَمَا كَانَ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَلَنَا أَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فَيَرْتَفِعُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا فَقَدْ بَقِيَ فِي حَقِّ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ الْحِلِّ تَرْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، أَوْ قَبَّلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حِلُّ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمَجُوسِيَّةُ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاث، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ وَلَكِنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ، ثُمَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنَّهُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فِي الدِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَتْ الْغُسْلَ عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ، وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى تُغَسِّلَهُ وَتُكَفِّنَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُنَّ لَا يُغَسِّلْنَهُ، سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةَ سَوَاءٌ، فَكَمَا لَا تُغَسِّلُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَكَذَا ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ، وَلَكِنْ يُيَمِّمْنَهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فَأَشْبَهَتْ الْمَنْكُوحَةَ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِيهَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا كَانَ مِلْكَ يَمِينٍ وَهُوَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ، فَإِنَّ حُرِّيَّتَهَا لَا تُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ، كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتُهُ، أَوْ مُدَبَّرَتُهُ، أَمَّا الْأَمَةُ؛ فَلِأَنَّهَا زَالَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَا يُبَاحُ لِأَمَةِ الْغَيْرِ عَوْرَتُهُ غَيْرَ أَنَّهَا لَوْ يَمَّمَتْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجَارِيَةِ مَسُّ مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ وَتَلْتَحِقُ بِسَائِرِ الْحَرَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ؛ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُغَسِّلُهُ فَلَأَنْ لَا تُغَسِّلَهُ هَذِهِ أَوْلَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَمَةُ تُغَسِّلُ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ فَبَقِيَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهَا حُكْمًا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالتَّيَمُّمِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَقُولُ: إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ غَسَّلْنَهَا وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَارَأْسَاهْ فَقَالَ: وَأَنَا وَارَأْسَاهْ لَا عَلَيْكِ أَنَّكِ إذَا مِتِّ غَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ» وَمَا جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ، هُوَ الْأَصْلُ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ جُعِلَ قَائِمًا حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْغُسْلِ، كَمَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ فَقَالَ: تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا، أَوْ لَا يَكُونُ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِمَوْتِهَا فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا. وَإِذَا زَالَ النِّكَاحُ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَبَطَلَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَيَزُولُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ، كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُسْلِ تَسَبُّبًا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: «غَسَّلْتُكِ» قُمْتُ بِأَسْبَابِ غُسْلِك، كَمَا يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا حَمَلْنَاهُ عَلَى
فصل بيان وجوب التكفين
هَذَا صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُورِثُ شُبْهَةَ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» . وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا عَلِمْت «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ فَاطِمَةَ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَدَعْوَاهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ وَيُخَلُّونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى تُغَسِّلَهَا وَتُكَفِّنَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَيَدْفِنُوهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ لَا مُسْلِمَةٌ وَلَا كَافِرَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَ الْغُسْلَ عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ فَيُغَسِّلُهَا وَيُكَفِّنُهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ، وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَ لَهَا إنْ كَانَ مَحْرَمًا لَهَا يُيَمِّمُهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا فَمَعَ الْخِرْقَةِ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِمَا مَرَّ وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ. وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَهَى لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَهُ النِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إذَا مَاتَتْ لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرِّجَالُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، ثُمَّ إذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ يُكَفَّنُ. [فَصْلٌ بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي تَكْفِينِهِ فِي مَوَاضِعَ:. فِي بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّكْفِينِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وَجْهِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلَتْ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - كَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ؛ وَلِهَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ وَفَاةِ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ إنَّمَا وَجَبَ كَرَامَةً لَهُ، وَتَعْظِيمًا، وَمَعْنَى وَالْكَرَامَةِ التَّعْظِيمِ إنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّكْفِينِ فَكَانَ وَاجِبًا. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ التَّكْفِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ فَوُجُوبُهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَيِّتِ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا، كَمَا فِي الْغُسْلِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ. فَنَقُولُ: أَكْثَرُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَقَمِيصٌ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُسَنُّ الْقَمِيصُ فِي الْكَفَنِ، وَإِنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: أَحَدُهَا الْقَمِيصُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَضَرَ تَكْفِينَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَفْنَهُ وَعَائِشَةُ مَا حَضَرَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: لَيْسَ فِيهِ قَمِيصٌ أَيْ: لَمْ يَتَّخِذْ قَمِيصًا جَدِيدًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " كَفَنُ الْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ، وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ، " وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ "؛ وَلِأَنَّ حَالَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ حَيَاتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً: قَمِيصٌ، وَسَرَاوِيلُ، وَعِمَامَةٌ، فَالْإِزَارُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعِمَامَةَ فِي الْكَفَنِ، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنَى الزِّينَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كُفِّنَ فِي بُرْدٍ وَحُلَّةٍ» وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِلزَّوْجِ مِنْ الثِّيَابِ، وَالْبُرْدُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ مِنْهَا وَأَدْنَى مَا يُكَفَّنُ فِيهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ
فصل في صفة الكفن
ثَوْبَانِ: إزَارٌ وَرِدَاءٌ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ؛ وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَوْبَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا. وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاة تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ وَيُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ» . وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ» فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ: إزَارٍ، وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَكْثَرُ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَةٌ، وَخِرْقَةٌ هُوَ السُّنَّةُ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا» وَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهَا تَخْرُجُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً: دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَإِزَارٌ، وَمُلَاءَةٌ، وَنِقَابٌ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ، وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ عَلَيْهَا الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّرِيرِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا. ، وَأَدْنَى مَا تُكَفَّنُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَخِمَارٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ. وَالْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ. وَكَذَا مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، أَوْ وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ، أَوْ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا طُولًا أَوْ نِصْفُهُ مَقْطُوعًا عَرْضًا لَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ الرَّأْسُ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَفَّنُ وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ فِي الْغُسْلِ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْغُسْلِ، وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُهُ يُكَفَّنُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا مَاتَ وَلَهُ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ لَكِنْ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّ التَّكْفِينَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْمَيِّتِ. وَلَا يُكَفَّنُ الشَّهِيدُ كَفَنًا جَدِيدًا غَيْرَ ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَكُلُومِهِمْ» . [فَصْل فِي صِفَةُ الْكَفَنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْكَفَنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَسِّنُوا أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ» ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَيِّتًا فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» وَالْبُرُودُ وَالْكَتَّانُ وَالْقَصَبُ كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ، وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يُكْرَهَ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي الْحَرِيرِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِاللِّبَاسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَمَّرَ الْأَكْفَانُ أَوَّلًا وِتْرًا أَيْ: مَرَّةً، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا» ؛ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوْ الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ
فصل بيان من يجب عليه الكفن
الْوِتْرَ» ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا، ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ عَلَيْهَا طُولًا ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ إنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِرْوَالَهُ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ، إلَّا أَنَّ الْإِزَارَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَوْقَ الْقَمِيصِ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ تَحْتَ الْقَمِيصِ حَالَةَ الْحَيَاةِ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَنَّطُوهُ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: وَتُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ يَعْنِي بِالْكَافُورِ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَمِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُطَيَّبَ لِئَلَّا تَجِيءَ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ وَلِيُصَانَ عَنْ سُرْعَةِ الْفَسَادِ، وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالتَّعْظِيمِ مَوَاضِعُ السُّجُودِ، وَكَذَا الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ هُمَا مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الدِّمَاغِ، وَمَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَاللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ: يُذَرُّ الْكَافُورُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُذَرُّ عَلَيْهِ الْكَافُورُ فَخَصَّ هَذِهِ الْمَحَالَّ مِنْ بَدَنِهِ لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ غَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الْمُزَعْفَرِ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ هَلْ تُحْشَى مَحَارِقُهُ؟ وَقَالُوا: إنْ خُشِيَ خُرُوجَ شَيْءٍ يُلَوِّثُ الْأَكْفَانَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي أَنْفِهِ وَفَمِهِ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي دُبُرِهِ أَيْضًا، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مَشَايِخُنَا وَإِنْ لَمْ يُخْشَ جَازَ التَّرْكُ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ كَانَ الْإِزَارُ طَوِيلًا حَتَّى يُعْطَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى، ثُمَّ يُعْطَفُ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ فَوْقَ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ، وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِبَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ هَكَذَا يَفْعَلُ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعَطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ فَكَذَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَإِنْ خِيفَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ تُعْقَدُ، وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ تُحَلُّ الْعُقَدُ لِزَوَالِ مَا لِأَجْلِهِ عُقِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ بِاضْطِرَابِ ثَدْيَيْهَا عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى السَّرِيرِ، وَعَرْضُ الْخِرْقَةِ مَا بَيْنَ الثَّدْيِ وَالسُّرَّةِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْدَلُ خَلْفَ ظَهْرِهَا وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ فِي نَاصِيَتِهَا وَقَرْنَيْهَا وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا» فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا، وَلَنَا أَنَّ إلْقَاءَهَا إلَى ظَهْرِهَا مِنْ بَابِ الزِّينَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحَالِ زِينَةٍ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلَ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ ذَلِكَ. ثُمَّ الْمُحْرِمُ يُكَفَّنُ، كَمَا يُكَفَّنُ الْحَلَالُ عِنْدَنَا أَيْ: يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُقَرَّبُ مِنْهُ طِيبٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَانْدَقَّ عُنُقُهُ فَقَالَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبِهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ طِيبًا» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ: خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ» وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: إذَا مَاتَ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ» وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَمَا رُوِيَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَا فِي الْمُحْرِمِ فَبَقِيَ لَنَا الْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُنْقَطِعٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مُحْرِمٍ خَاصٍّ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِهِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ فَنَقُولُ: كَفَنُ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ كَفَنُهَا عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ
فصل بيان عدد من يحمل الجنازة وكيفية حملها
انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَنُهَا، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ كِسْوَتُهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى هَذَا إذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَفَسَّخْ بَعْدُ كُفِّنَ ثَانِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْكَفَنِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَإِنْ قُسِمَ الْمَالُ فَهُوَ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا؛ لِأَنَّ بِالْقَسْمِ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ فَيُكَفِّنُهُ وَارِثُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَإِنْ نُبِشَ بَعْدَمَا تَفَسَّخَ وَأُخِذَ كَفَنُهُ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَفَسَّخَ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآدَمِيِّينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَصَارَ كَالسَّقْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنَازَةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ عَدَد مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ، وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَتَشْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِمَّا يُسَنُّ وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا بَيَانُ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ الْجِنَازَةِ عَلَى كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَمْلِ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «السُّنَّةُ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ» وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ آمَنُ مِنْ سُقُوطِ الْجِنَازَةِ وَأَيْسَرُ عَلَى الْحَامِلِينَ الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا عَلَى الظَّهْرِ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِعَوَزِ الْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ إكْمَالَ السُّنَّةِ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَيَضَعُ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِهِ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِهِ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَإِذَا حَمَلَ هَكَذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْحَامِلِ وَيَمِينِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ، وَالْبِدَايَةُ بِالشَّيْءِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ يَضَعُ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْمَنَ عَلَى يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَاحْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ وَضَعَ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَقَدَّمَ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَضَعُ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَيَمْشِي خَلْفَهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ، كَذَلِكَ كَانَ الْحَمْلُ، وَلِكَمَالِ السُّنَّةِ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً» وَأَمَّا جِنَازَةُ الصَّبِيِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّجَالُ وَيُكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ جِنَازَتُهُ عَلَى دَابَّةٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُكَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ كَالْبَالِغِ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا يُصَلَّى عَلَى الْبَالِغِ، وَمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَيْدِي، فَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِهَانَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ، وَإِهَانَةُ الْمُحْتَرَمِ مَكْرُوهٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ حَاصِلٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضِيعِ وَالْفَطِيمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ فِي طَبَقٍ يَتَدَاوَلُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِبْطَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا أَلْقَيْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاعُ دُونَ الْخَبَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ» ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَبَ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِمُشَيِّعِي الْجِنَازَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّأْسُ فِي حَالِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ فِي التَّقْدِيمِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْيِيعِ فَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ " وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
فصل بيان فريضة صلاة الجنازة وكيفية فرضيتها
كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ» وَهَذَا حِكَايَةُ عَادَةٍ وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ اخْتِيَارَ الْأَفْضَلِ؛ وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ، وَالشَّفِيعُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحَرُّزِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَوْتِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَمْشِي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَا مَشَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَقْرَبُ إلَى الِاتِّعَاظِ؛ لِأَنَّهُ يُعَايِنُ الْجِنَازَةَ فَيَتَّعِظُ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَتَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَلِيٍّ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ أَمَامَهَا فَقُلْتُ: لِعَلِيٍّ مَا بَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: إنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا إلَّا أَنَّهُمَا يُسَهَّ لَانَ عَلَى النَّاسِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مُشَيِّعِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ النَّاسَ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ " فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَيُشْكِلُ هَذَا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ حَالَةُ الشَّفَاعَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُونَ الْمَيِّتَ بَلْ الْمَيِّتُ قُدَّامُهُمْ، وَقَوْلُهُ: " هَذَا أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ " قُلْنَا: عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْهَا بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ. وَلَوْ مَشَى قُدَّامَهَا كَانَ وَاسِعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مَتْبُوعِيَّةِ الْجِنَازَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ، وَأَلْيَقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيُكْرَهُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ. ، وَلَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي: الْإِجْمَارَ فِي قَبْرِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَثْ بِالْأَكَامِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا تَحْمِلُوا مَعِي مِجْمَرًا؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ الْعَذَابِ فَلَا تُتْبَعُ مَعَهُ تَفَاؤُلًا، قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا نَارًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ مَنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ كَانَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا يَرْجِعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «انْصَرِفْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ إذَا أُتِيَ بِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ اتِّبَاعَهَا. وَيُكْرَهُ النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ فِي الْجِنَازَةِ وَمَنْزِلِ الْمَيِّتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ: صَوْتِ النَّائِحَةِ، وَالْمُغَنِّيَةِ» . فَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ بَكَى عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ: الْعَيْنُ تَدْمَعُ وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» . وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ صَائِحَةٌ زُجِرَتْ فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ مَعَهَا وَيَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلَا يُتْرَكُ بِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَيُطِيلُ الصَّمْتَ إذَا اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ: عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَالذِّكْرِ؛ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا. ، وَيُكْرَهُ لِمُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْعُدُوا قَبْلَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْجِنَازَةِ، وَالتَّبَعُ لَا يَقْعُدُ قَبْلَ قُعُودِ الْأَصْلِ؛ وَلَأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ الْجُلُوسُ قَبْلَ الْوَضْعِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَجْلِسُ حَتَّى يُوضَعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ» «وَكَانَ قَائِمًا مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ فَقَالَ يَهُودِيٌّ: هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: خَالِفُوهُمْ» . وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَنَقُولُ: إنَّهَا تُوضَعُ عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ هَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ - وَاَللَّهَ أَعْلَمُ - ثُمَّ إذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ يُصَلَّى عَلَيْهَا. [فَصْلٌ بَيَانِ فَرِيضَةٌ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ وَمَا يُفْسِدُهَا وَمَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ. أَمَّا
الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ «يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ» وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْإِيجَابِ وَكَذَا مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَيْهَا، دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْفَرْضُ، وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ، لَكِنْ لَا يَسَعُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا كَالْجِهَادِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُصَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا إلَّا الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَقَوْلُهُ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَالْبُغَاةُ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ مَخْصُوصُونَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ. وَإِنْ مَاتَ فِي حَالِ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَكْثَرُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْأَغْلَبِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ نِصْفُهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى نِصْفِ الْمَيِّتِ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى بَعْضِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُوجَدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّا لَوْ صَلَّيْنَا عَلَى هَذَا الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا الصَّلَاةُ عَلَى الْبَاقِي إذَا وَجَدْنَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ يُصَلَّ عَلَى الْبَاقِي إذَا وُجِدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ فِي النِّصْفِ الْمَقْطُوعِ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا جَمَاعَةً وَلَا وُحْدَانًا عِنْدَنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عَلَيْهَا أَجَانِبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ، ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ» وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى عَلَيْهِ وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: قَبْرُ فُلَانَةَ فَقَالَ: هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقِيلَ: إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْكَ هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا مَاتَ إنْسَانٌ فَآذِنُونِي فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ، وَقَامَ وَجَعَلَ الْقَبْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ» . وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَلَّوْا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ وَإِنْ قُضِيَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي الصَّلَاةِ حَقٌّ؛ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ بِذَلِكَ، وَعَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِبَرَكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ كَرَامَةً لَهُ، وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الْحَقَّ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَقَّهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِيًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا تُعَادُ، وَلَكِنْ اُدْعُ لِلْمَيِّتِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَاتَتْهُمَا صَلَاةٌ عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا حَضَرَا مَا زَادَا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُمَّةَ تَوَارَثَتْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَوْ جَازَ لَمَا تَرَكَ مُسْلِمٌ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْرِهِ كَمَا وُضِعَ فَإِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ، بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَتَرْكُهُمْ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَانِيًا لَا يَأْثَمُ وَإِذًا سَقَطَ الْفَرْضُ، فَلَوْ صَلَّى ثَانِيًا كَانَ نَفْلًا. وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّى مَرَّةً لَا يُصَلِّي ثَانِيًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْوَلِيِّ فَصَلَّى إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ الْأَوَّلُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَدُّمِ كَانَ لَهُ، فَإِذَا تَقَدَّمَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي التَّقَدُّمِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ فَرْضًا، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَعَادَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي عَلَى مَوْتَاكُمْ غَيْرِي مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» فَلَمْ يَسْقُطْ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ
فصل بيان كيفية الصلاة على الجنازة
الْوَلَايَةَ كَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلَّ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ حَقًّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ، وَعَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " إنَّهَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ "؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَشْرُوعٌ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ غَائِبٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ طُوِيَتْ لَهُ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ الْمَيِّتُ خَلْفَهُ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كَانَ مُصَلِّيًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى صَبِيٍّ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ حَتَّى يُوضَعَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا وَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] الْآيَةَ فَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْ أَهْلَ نَهْرَوَانَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ هُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ إهَانَةً لَهُمْ لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ تُرِكَ عَلَى خَشَبَتِهِ إهَانَةً وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ ثَبَتَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُمْ إذْ هُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْبُغَاةِ فَكَانُوا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِهَانَةِ مِثْلَهُمْ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُغَاةَ وَمَنْ بِمِثْلِهِمْ مَخْصُوصُونَ عَنْ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُقْتَلُ بِالْخَنْقِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَكَذَلِكَ مَنْ يُقْتَلُ عَلَى مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ وَالْمُكَاثِرُونَ فِي الْمِصْرِ بِالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُلْحَقُونَ بِالْبُغَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي كِتَابِ صَلَاتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ: " يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا " وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمَرْأَةِ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هُوَ وَسَطُ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ مِنْ الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هُوَ الصَّدْرُ، وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى. وَلَا نَصَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: يَقُومُ بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ» قَالُوا: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، فَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَهُ وَإِنْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى عَلَى أُمِّ قِلَابَةَ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ، أَوْ نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ، وَفِي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُوِيَ عَنْهُ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كَانَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَقَالَ لَهُمْ: إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّا هَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فَوَجَدَهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ
فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ أَجْمَعُوا عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ لَمْ تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَدَلَّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ. إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا، وَهَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَاطِمَةَ أَبُو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَعُمَرُ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، فَإِذَا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فِيهِ وَلَكِنَّ النَّقْلَ وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، كَمَا يَسْتَفْتِحُونَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ، ثُمَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ، وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخِرِ هَذَا إذَا كَانَ بَالِغًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ صَبِيًّا فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ فِينَا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا يُخَالِفُ مَا يَقُولُهُ الْحَسَنُ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مَا يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلَخْ. فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي فِي الْخَامِسَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ هَذَا مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ، كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فِيهِ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْخَطَأِ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ فِي رِوَايَةٍ؟ قَالَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُتَابِعَهُ فِي التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِخَطَأٍ إنَّمَا الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا يُتَابِعُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ عَقِيبَهَا هُوَ الْمَشْرُوعُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْبَقَاءِ، كَمَا لَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ. وَلَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ، وَعِنْدَنَا لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لَمْ يُكْرَهْ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا، وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ عَلَى مَيِّتٍ أَرْبَعًا وَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَعَنْ» ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَجَهَرَ بِهَا وَقَالَ: إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ يُقْرَأُ فِيهَا؟ فَقَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً» ، وَفِي رِوَايَةٍ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت، وَفِي رِوَايَةٍ وَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ
وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ، وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الْقِرَاءَةُ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الْأَرْكَانُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهَا تُسَمَّى صَلَاةً لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ، وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ الِاسْمِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا. وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَكَانَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ اخْتَارَ الرَّفْعَ: أَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بِهَا فِي قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ، وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْأَصَمِّ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فِيهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ» وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِيهَا إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ. صَلَّيْنَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً عَلَى جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ. وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً، أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ، وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ مَعَهُ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حِينَ يَحْضُرُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مَسْبُوقٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حِينَ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِتَكْبِيرَةٍ: أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً مِنْهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا، وَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ، كَذَا هَهُنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بِهَا حِينَ حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَإِنْ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ جَاءَ بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ، وَقَدْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُكَبِّرْ شَيْئًا حَتَّى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ، الصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا: لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا: الْإِمَامُ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هَذَا لِتَتَابُعِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ، وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَهُنَا يُكَبِّرُ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامَ هَهُنَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فصل بيان ما تصح به صلاة الجنازة
[فَصْلٌ بَيَانُ مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَصِحُّ بِهِ، وَمَا تَفْسُدُ، وَمَا يُكْرَهُ. أَمَّا مَا تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْحُكْمِيَّةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَكَذَا صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَخْطَئُوا بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ، وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءُوا لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ. وَلَوْ تَحَرَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ فَأَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ تَعَمَّدُوا خِلَافَهَا لَمْ تَجُزْ، كَمَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَوْ صَلَّى رَاكِبًا أَوْ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَرْكَانُ فِيهَا التَّكْبِيرَاتُ وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الرُّكُوبِ، كَمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِهَا إلَّا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فَيُرَاعَى فِيهَا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ فِي شَرَائِطِهَا، فَكَذَا فِي الرُّكْنِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ مِنْ الشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَيِّتِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا تَسْقُطُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي، وَالْكَافِرِ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ مَا شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُجْزِئُ الْإِمَامَ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَأْمُومَ بِنَاءً عَلَى اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ. وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَنَّهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ ذَكَرُوا قَبْلَ الدَّفْنِ، أَوْ بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ، فَإِذَا فُقِدَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ الدَّفْنِ لَمْ يَنْبُشُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُخْرَجُ مَا لَمْ يُهِيلُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَبْشٍ، فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لَمْ يُخْرَجْ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ الطَّهَارَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ، أَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَأَنْ تَجُوزَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا أَوْلَى. وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلَّى؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى الْبَدَنُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ وَفِي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ، فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهَا جَمْعٌ وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ وَالْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ أَعْضَاؤُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فِيهِ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، وَالصَّلَاةُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقِيلَ: إنَّهُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ، كَمَا دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ. الصَّلَاةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى كُلِّ جِنَازَةٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً» ؛ وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ؟ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا
فصل بيان ما تفسد به صلاة الجنازة
أَنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا، كَمَا يَصْطَفُّونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ شَاءُوا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِيَقُومَ الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ يَحْصُلُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِذَا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» . ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ دُفِنُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: تُوضَعُ النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ؛ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا فِي وَضْعِ الْجَنَائِزِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ؛ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَقُومُونَ فِي الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى عَلَى الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى فَيُتِمُّهَا، فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عَنْ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مَعَ النِّيَّةِ، كَمَا إذَا كَانَ فِي الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا مِنْ الظُّهْرِ فَكَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَاهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى أَيْ: يَسْتَقْبِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَنَقُولُ: إنَّهَا تَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ، وَالْكَلَامِ، وَالْقَهْقَهَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ إلَّا الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً. وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا الْقَهْقَهَةَ حَدَثًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا، فِي غَيْرِهَا فَرْقٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ: فَإِنَّهُ لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَبْنِي، وَإِنْ عَرَفَ الْبِنَاءَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَقُبْحُهَا يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَوْقَ حُرْمَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ قُبْحُهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَوْقَ قُبْحِهَا فِي هَذِهِ فَجَعْلُهَا حَدَثًا هُنَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِهَا حَدَثًا هَهُنَا، وَكَذَا الْمُحَاذَاةُ جُعِلَتْ مُفْسِدَةً فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ تَعْظِيمًا لَهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ وَتَحَمُّلَ الْمَشْيِ فِي أَعْلَى الْعِبَادَتَيْنِ يُوجِبُ التَّحَمُّلَ وَالْجَوَازَ فِي أَدْنَاهُمَا دَلَالَةً، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هَهُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَفْرُغُونَ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ رُجُوعِهِ مِنْ التَّوَضُّؤِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِعَادَةِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هُنَاكَ لَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا فَلَمَّا جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هَهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ فِي صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ فِيهَا فَنَقُولُ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَنِصْفِ النَّهَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا» وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا " الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ إذْ لَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ فِي هَذِهِ
فصل بيان من له ولاية الصلاة على الميت
الْأَوْقَاتِ فَإِنْ صَلَّوْا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ صُلِّيَتْ وَقَعَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْقَضَاءِ فِيهَا دُونَ الْأَدَاءِ، كَمَا إذَا أَدَّى عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا عَلَى جِنَازَةٍ وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَءُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ آكَدُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْجِنَازَةِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ إمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ إنْ حَضَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَأَمِيرُ الْمِصْرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي قَرَابَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِمَامَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ أَحَدًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقَرِيبِ لِرِضَاهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِإِمَامِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْجَنَائِزَ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ عَصَبَتِهِ وَذَوِي قَرَابَاتِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ لَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَرِيبُ أَوْلَى مِنْ السُّلْطَانِ، لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَلَايَةِ، وَالْقَرِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ، كَمَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ، وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَرْجَى؛ لِأَنَّهُ يُبَالِغُ فِي إخْلَاصِ الدُّعَاءِ، وَإِحْضَارِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ شَفَقَتِهِ، وَتُوجَدُ مِنْهُ زِيَادَةُ رِقَّةٍ وَتَضَرُّعٍ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا مَاتَ قَدَّمَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ - وَكَانَ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ - وَقَالَ: لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُكَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ التَّقَدُّمِ لَمَا قَدَّمْتُكَ» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ يَتَّصِلُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالسُّلْطَانِ، فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْقَرِيبِ أَنْفَعَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَتِلْكَ وِلَايَةُ نَظَرٍ ثَبَتَتْ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ دُعَاءَ الْقَرِيبِ، وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى " فَنَقُولُ: بِتَقَدُّمِ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ دُعَاءُ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتُهُ مَعَ أَنَّ دُعَاءَ الْإِمَامِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُحْجَبُ دُعَاؤُهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ الْإِمَامَ» ، ثُمَّ تَقَدُّمُ إمَامِ الْحَيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّلْطَانِ فَوَاجِبٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ مَأْمُورٌ بِهِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِهِ لَا يَخْلُو عَنْ فَسَادِ التَّجَاذُبِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ فِي الصَّلَاةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا وَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ، فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُمَا إلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كَانَ الْآخَرُ أَوْلَى فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَصَلَّى يُنْظَرُ إنْ صَلَّى الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ فَلَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الْآخَرِ فَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ غَائِبًا بِمَكَانٍ تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِحُضُورِهِ بَطَلَتْ وَلَايَتُهُ وَتَحَوَّلَتْ الْوَلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ. وَلَوْ قَدَّمَ الْغَائِبُ غَيْرَهُ بِكِتَابٍ كَانَ لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَدْ سَقَطَتْ لِمَا أَنَّ فِي التَّوْقِيفِ عَلَى حُضُورِهِ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ، وَالْوِلَايَةُ تَسْقُطُ مَعَ ضَرَرِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَتُنْقَلُ إلَى الْأَبْعَدِ، وَالْمَرِيضُ فِي الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يُقَدِّمُ مَنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعَ مَرَضِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ التَّقْدِيمِ، وَلَا حَقَّ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ فِي التَّقْدِيمِ؛ لِانْعِدَامِ وَلَايَةِ التَّقَدُّمِ. وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَالْوِلَايَةُ لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَاتَتْ لَهُ امْرَأَةٌ
فصل بيان وجوب الدفن
فَقَالَ لِأَوْلِيَائِهَا: كُنَّا أَحَقَّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَلَهُ فِي حُكْمِ الْوَلَايَةِ أَنْ يُقَدِّمَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ لَهُ وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ التَّقَدُّمِ حَتَّى لَا يُسْتَخَفَّ بِأَبِيهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ وَلَايَتُهُ فِي التَّقْدِيمِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى هَذَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ وَكَذَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنُ الْمَوْلَى وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَرَكَتْ أَبًا وَزَوْجًا وَابْنًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ فَلَا وَلَايَةَ لِلزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالِابْنُ أَحَقُّ إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَبَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَلَايَةُ لِلْأَبِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ فَضِيلَةً عَلَى الِابْنِ وَزِيَادَةَ سِنٍّ، وَالْفَضِيلَةُ تُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَلَايَاتِ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَحَقُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْقَرِيبِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ. وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ أَبٌ وَأَبُ الْأَبِ فَالْوَلَايَةُ لِأَبِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ الَّذِي هُوَ جَدُّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا لَهُ. وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ ابْنُهُ أَوْ عَبْدُهُ وَمَوْلَاهُ حَاضِرًا فَالْوَلَايَةُ لِلْمُكَاتَبِ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلَاهُ احْتِرَامًا لَهُ، ثُمَّ إذَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ يُدْفَنُ. [فَصْلٌ بَيَانُ وُجُوبِ الدَّفْنِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي الدَّفْنِ فِي مَوَاضِعَ:. فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَّةِ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ: تَوَارُثُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. [فَصْلٌ سُنَّةُ الْحَفْرِ لِدَفْنِ الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَّةُ الْحَفْرِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ اللَّحْدُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الشَّقُّ، وَاحْتَجَّ أَنَّ تَوَارُثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقُّ دُونَ اللَّحْدِ، وَتَوَارُثُهُمْ حُجَّةٌ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» وَفِي رِوَايَةٍ «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ النَّاسُ أَنْ يُشَقَّ لَهُ، أَوْ يُلْحَدَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَحَّادًا، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ شَاقًّا فَبَعَثُوا رَجُلًا إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَجُلًا إلَى أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْك فَوَجَدَ أَبَا طَلْحَةَ مَنْ كَانَ بُعِثَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ أَبَا عُبَيْدَةَ مَنْ بُعِثَ إلَيْهِ، وَالْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إنَّمَا تَوَارَثُوا الشَّقَّ؛ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ وَلِهَذَا اخْتَارَ أَهْلُ بُخَارَى الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ؛ لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ لِرَخَاوَةِ أَرَاضِيهِمْ. وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ، ثُمَّ يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْهُ حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ، فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ عَلَى اللَّحْدِ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ وُضِعَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فُرْجَةً فِي قَبْرٍ فَأَخَذَ مُدَوَّرَةً وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وَقَالَ سُدَّ: بِهَا تِلْكَ الْفُرْجَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ كُلِّ صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ» وَالْمَدَرَةُ قِطْعَةٌ مِنْ اللَّبِنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ اجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ، كَمَا جُعِلَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرِ أَبِي بَكْرٍ وَقَبْرِ عُمَرَ؛ وَلِأَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِيَمْنَعَا مَا يُهَالُ مِنْ التُّرَابِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَيِّتِ. وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَدُفُوفُ الْخَشَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ عَلَى الْقُبُورِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تُشَبَّهَ الْقُبُورُ بِالْعُمْرَانِ، وَالْآجُرُّ وَالْخَشَبُ لِلْعُمْرَانِ» ، وَلِأَنَّ الْآجُرَّ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَيِّتِ تَفَاؤُلًا، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ قَبْرُهُ بِنَارٍ تَفَاؤُلًا، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالْآجُرِّ فِي دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرَاضِي، وَكَانَ أَيْضًا يُجَوِّزُ دُفُوفَ الْخَشَبِ وَاِتِّخَاذَ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حَتَّى قَالَ: لَوْ اتَّخَذُوا تَابُوتًا مِنْ حَدِيدٍ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ. [فَصْلٌ فِي سُنَّةُ الدَّفْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَّةُ الدَّفْنِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ، وَيُحْمَلُ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:. السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ وَصُورَةُ السَّلِّ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَتُجْعَلَ رِجْلَا الْمَيِّتِ إلَى الْقَبْرِ طُولًا، ثُمَّ تُؤْخَذُ رِجْلُهُ، وَتُدْخَلُ رِجْلَاهُ فِي الْقَبْرِ وَيُذْهَبُ
بِهِ إلَى أَنْ تَصِيرَ رِجْلَاهُ إلَى مَوْضِعِهِمَا، وَيُدْخَلُ رَأْسُهُ الْقَبْرَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ سَلًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ: وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ نَقَلَتْهُ الْعَامَّةُ عَنْ الْعَامَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ أَبَا دُجَانَةَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَصَارَ هَذَا مُعَارِضًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أُدْخِلَ إلَى الْقَبْرِ سَلًّا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ مِنْ قِبَلِ الْحَائِطِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قُبِضُوا فِيهِ فَكَانَ قَبْرُهُ لَزِيقَ الْحَائِطِ، وَاللَّحْدُ تَحْتَ الْحَائِطِ فَتَعَذَّرَ إدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَسُلَّ إلَى قَبْرِهِ سَلًّا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: يُدْخَلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ؛ وَلِأَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَكَانَ إدْخَالُهُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ، قُلْنَا: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا السَّلَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَرْضًا سَبْخَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَضُرُّ وِتْرٌ دَخَلَ قَبْرَهُ أَمْ شَفْعٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ هِيَ الْوِتْرُ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ وَالْإِجْمَارِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دُفِنَ أَدْخَلَهُ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٌّ وَصُهَيْبٌ وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ: إنَّهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَقِيلَ: إنَّهُ أَبُو رَافِعٍ فَدَلَّ أَنَّ الشَّفْعَ سُنَّةٌ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْوَضْعِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْوِتْرُ وَالشَّفْعُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ اثْنَانِ وَإِنْ كَانَ شَفْعًا فَكَذَا هَهُنَا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِانْتِقَاضِهِ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ تَرْكُ السُّنَّةِ، خُصُوصًا فِي دَفْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُ تَنْزِلُ فِيهِ السَّخْطَةُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ عَلَى سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُوا عِنْدَ وَضْعِهِ: بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَإِذَا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ قَالَ وَاضِعُهُ: بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ: " بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ " لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَدْخَلَ مَيِّتًا قَبْرَهُ أَوْ وَضَعَهُ فِي اللَّحْدِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ مَيِّتًا أَوْ نَامَ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ يَقُولُ: النَّوْمُ وَفَاةٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَعْنَى هَذَا بِاسْمِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ. وَلَيْسَ هَذَا بِدُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ عَلَيْهِ الْحَالَةُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّلْ إلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاتِهِ عَلَى الْمِلَّةِ وَعَلَى هَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ، وَيُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِنَازَةَ رَجُلٍ فَقَالَ يَا: عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جَمِيعًا بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تَكُبُّوهُ لِوَجْهِهِ وَلَا تُلْقُوهُ لِظَهْرِهِ» . وَتُحَلُّ عُقَدُ أَكْفَانِهِ إذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ. وَلَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَرَّحُوا اللَّبِنَ أَزَالُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبْشٍ، وَإِنْ أُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ تُرِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ. ، وَلَا يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ هَكَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنْ الصَّعِيدِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ وَكَانَ يُدْفَنُ فِي الْقَبْرِ رَجُلَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ وَخُنْثَى وَصَبِيَّةٌ دُفِنَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، ثُمَّ الصَّبِيُّ خَلْفَهُ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْأُنْثَى، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ، وَهَكَذَا تُوضَعُ جَنَائِزُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَكَذَا فِي الْقَبْرِ، وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سُجِّيَ
فصل أحكام الشهيد
قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ عَلَى جِنَازَتِهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السَّتْرِ، فَلَوْ لَمْ يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُوضَعُ النَّعْشُ عَلَى جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ. وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ. وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ، وَقَدْ سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حَتَّى لَا يَبْدُوَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِضَرُورَةٍ أُخْرَى مِنْ دَفْعِ مَطَرٍ أَوْ حَرٍّ عَنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ. وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَلَ لَهُ لَحْدًا وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا؛ وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا مِنْهُ بُدٌّ مَكْرُوهٌ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ فِي وَسَطِهِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا. وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ وَأَنْ يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ، وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ الْكِتَابَةَ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عَلَيْهَا وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهَا» ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا. وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ. بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّطْيِينَ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ يُوطَأَ عَلَى قَبْرٍ، أَوْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ، أَوْ يُنَامَ عَلَيْهِ أَوْ تُقْضَى عَلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ» قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ بَيْنَ الْقُبُورِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ بَيْنَ مَقَابِرِ الْبَقِيعِ، وَالْإِمَامُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» ، وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا. [فَصْلٌ أَحْكَامُ الشَّهِيدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ:. أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَنْ يَكُونُ شَهِيدًا فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ لَا يَكُونُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبُنِيَ عَلَى شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حَتَّى لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ، أَوْ احْتَرَقَ بِالنَّارِ، أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْتُولٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا قُتِلَ كُلُّهُمْ بِسِلَاحٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حَتَّى لَوْ قُتِلَ بِحَقٍّ فِي قِصَاصٍ أَوْ رُجِمَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جَاءَ عَمُّهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قُتِلَ مَاعِزٌ، كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ، وَكَفِّنْهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ» . وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ عَدَا عَلَى قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَكَذَا لَوْ
قَتَلَهُ سَبُعٌ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْلُفَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ حَتَّى لَوْ كَانَ مَقْتُولًا خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا بِعَصًا صَغِيرَةٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ وَكَزَهُ بِالْيَدِ، أَوْ لَكَزَهُ بِالرِّجْلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ، وَذَا دَلِيلُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ السِّلَاحِ مِمَّا يَلْبَثَ فَكَانَ بِحَالٍ لَوْ اسْتَغَاثَ لَحِقَهُ الْغَوْثُ فَإِذَا لَمْ يَسْتَغِثْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ فِي الْمَفَازَةِ بِغَيْرِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْقَتْلَ بِحُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَغَاثَ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَلَمْ يَصِرْ بِتَرْكِ الِاسْتِغَاثَةِ مُعِينًا عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ بِعَصًا كَبِيرَةٍ، أَوْ بِمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ، أَوْ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، أَوْ بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ خَنَقَهُ، أَوْ غَرَّقَهُ فِي الْمَاءِ، أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ فَكَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا. وَلَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ لَيْلًا فِي الْمِصْرِ فَقُتِلَ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لَمْ يَخْلُفْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ. وَلَوْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا بِسِلَاحٍ ظُلْمًا بِأَنْ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ مَا يُشْبِهُ الْحَدِيدَةَ كَالنُّحَاسِ، وَالصُّفْرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ مَا يَعْمَلُ عَمِلَ الْحَدِيدُ مِنْ جُرْحٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ طُعِنَ بِأَنْ قَتَلَهُ بِزُجَاجَةٍ، أَوْ بُلَيْطَةِ قَصَبٍ، أَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا زُجَّ لَهُ، أَوْ رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ لَا نَصْلَ لَهَا، أَوْ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فَالْقَتِيلُ شَهِيدٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يَكُونُ شَهِيدًا "، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، وَعَلِيًّا غُسِّلَا، وَلِأَنَّ هَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا، وَهُوَ الْمَالُ، أَوْ الْقِصَاصُ فَمَا هُوَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كَالْقَتْلِ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْبَدَلِ دَلِيلُ انْعِدَامِ الشُّبْهَةِ، وَتَحَقُّقِ الظُّلْمِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، إذْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَصَارَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا هُوَ مَالٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمَارَةُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَتْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمَقْتُولِ فَإِذَا، وَصَلَ إلَيْهِ الْبَدَلُ صَارَ الْمُبْدَلُ كَالْبَاقِي مِنْ، وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا غُسِّلَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّهُمَا اُرْتُثَّا، وَالِارْتِثَاثُ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا هُوَ مَالٌ. وَكَذَا الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ شَهَادَةُ الْمَقْتُولِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُرْتَثًّا فِي شَهَادَتِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَخْلَقَ شَهَادَتُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الرَّثِّ، وَهُوَ الْخَلَقُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ، وَكَانَ شَهِيدًا وَكَذَا عَلِيٌّ حُمِلَ حَيًّا بَعْد مَا طُعِنَ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ، وَكَانَ شَهِيدًا، وَعُثْمَانُ أُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ، وَلَمْ يَرْتَثِ فَلَمْ يُغَسَّلْ «، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ارْتَثَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَادِرُوا إلَى غُسْلِ صَاحِبِكُمْ سَعْدٍ كَيْ لَا تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ بِغُسْلِهِ، كَمَا سَبَقَتْنَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ» . وَلِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَاتُوا عَلَى مَصَارِعِهِمْ، وَلَمْ يُرْتَثُّوا، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ الْكَأْسَ كَانَ يُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَشْرَبُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا اُرْتُثَّ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُرْتُثَّ، وَنُقِلَ مِنْ مَكَانِهِ يَزِيدُهُ النَّقْلُ ضَعْفًا، وَيُوجِبُ حُدُوثَ آلَامٍ لَمْ تَحْدُثْ لَوْلَا النَّقْلُ، وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ عَقِيبَ تَرَادُفِ الْآلَامِ فَيَصِيرُ النَّقْلُ مُشَارِكًا لِلْجِرَاحَةِ فِي إثَارَةِ الْمَوْتِ. وَلَوْ تَمَّ الْمَوْتُ بِالنَّقْلِ لَسَقَطَ الْغُسْلُ. وَلَوْ تَمَّ بِإِيلَامٍ سِوَى الْجُرْحِ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَتَمَحَّضْ بِالْجُرْحِ بَلْ حَصَلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَهُوَ النَّقْلُ، وَالْجُرْحُ مَحْظُورٌ، وَالنَّقْلُ مُبَاحٌ فَلَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا فَلَمْ يَصِرْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، ثُمَّ الْمُرْتَثُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلَى، وَصَارَ إلَى حَالِ الدُّنْيَا بِأَنْ جَرَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا، أَوْ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ مَنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِي بَيْتِهِ، أَوْ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ، أَوْ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، أَوْ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ إلَى مَكَان آخَرَ، وَبَقِيَ عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا، أَوْ لَيْلَةً كَامِلَةً، وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا بَقِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ حَتَّى صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ، وَإِنْ بَقِيَ مَكَانَهُ لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِمُرْتَثٍّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " إنْ بَقِيَ يَوْمًا فَهُوَ مُرْتَثٌّ ". وَلَوْ أَوْصَى
كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ خَرَجَ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَمَصَالِحِهَا فَيَنْقُضُ ذَلِكَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ كَوَصِيَّةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ فَنَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى، وَبِهِ رَمَقٌ فَقَالَ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ، فِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ: أَنَا فِي الْأَمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ مَا يُجْزَى نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُمْ: إنَّ سَعْدًا يَقُولُ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُصَ إلَى نَبِيِّكُمْ، وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ قَالَ: ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مَاتَ فَلَمْ يُغَسَّلْ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ» ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إنْ، أَوْصَى بِمِثْلِ وَصِيَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَلَيْسَ بِارْتِثَاثٍ، وَالصَّلَاةُ ارْتِثَاثٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَوْ جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ حَتَّى تَطَؤُهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ مُرْتَثًّا؛ لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ رَاحَةِ الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ، أَوْ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَالَ الرَّاحَةَ بِسَبَبِ مَا مَرِضَ فَصَارَ مُرْتَثًّا، ثُمَّ الْمُرْتَثُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي حَقِّ الثَّوَابِ حَتَّى إنَّهُ يَنَالُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ، وَالْحَرِيقِ، وَالْمَبْطُونِ، وَالْغَرِيبِ إنَّهُمْ شُهَدَاءُ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَالذِّمِّيِّ إذَا خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عَنْ الْمُسْلِمِ إنَّمَا ثَبَتَ كَرَامَةً لَهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ. وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُكَلَّفًا، هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ شَهِيدَيْنِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا لَمَّا، أَوْجَبَ تَطْهِيرَ مَنْ لَيْسَ بِطَاهِرٍ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ فَلَأَنْ يُوجِبَ تَطْهِيرَ مَنْ هُوَ طَاهِرٌ، أَوْلَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّصَّ، وَرَدَ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ فِي حَقِّهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ فَلَا يُجْعَلُ، وَارِدًا فِيمَنْ لَا يُسَاوِيهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْنَى الطَّهَارَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - غُسِّلُوا، وَرَسُولُنَا - سَيِّدُ الْبَشَرِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسِّلَ، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْهَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا، وَجْهَ لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِالتَّطْهِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ يُطَهِّرُهُ السَّيْفُ فَكَانَ الْقَتْلُ فِي حَقِّهِ، وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ قُتِلَ جُنُبًا لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغُسْلِ كَالذَّكَاةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ غَسْلِ الْعُرُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا بَالُهُ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَيْعَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» أَشَارَ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ عِلَّةُ الْغُسْلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً مِنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا رَافِعَةً لِنَجَاسَتِهِ كَانَتْ كَالذَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فِيمَا كَانَ حَلَالًا إمَّا لَا تَرْفَعُ حُرْمَةً كَانَتْ ثَابِتَةً وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مَانِعَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا تَكُونُ رَافِعَةً؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَدْوَنُ مِنْ الرَّفْعِ فَأَمَّا الْحَدَثُ فَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ ضَرُورَةُ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَدَثِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ سَابِقًا عَلَى الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ الْحَدَثُ لَا مَحَالَةَ، وَالشَّهَادَةُ مَانِعَةٌ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فَلَوْ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ بِالشَّهَادَةِ لَاحْتِيجَ إلَى غَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ مَنْعِ الشَّهَادَةِ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فَقُلْنَا: إنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ ذَلِكَ الْحَدَثَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ لِيَنْعَدِمَ أَثَرُ الشَّهَادَةِ بَلْ تُوجَدُ فِي النُّدْرَةِ فَلَمْ يَرْفَعْ. وَأَمَّا الْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ إذَا اُسْتُشْهِدَتَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَطَهَارَتِهِمَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، فَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَفِي الْجُنُبِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُغَسَّلَانِ كَالْجُنُبِ
لِوُجُودِ شَرْطِ الِاغْتِسَالِ، وَهُوَ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَجَبَ بَعْدُ قَبْلَ الْمَوْتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَوْ، وَجَبَ وَجَبَ بِالْمَوْتِ، وَالِاغْتِسَالُ الَّذِي يَجِبُ بِالْمَوْتِ يَسْقُطُ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عُرِفَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ: إذَا قُتِلَ الرَّجُلُ فِي الْمَعْرَكَةِ، أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ يُقَاتِلُ أَهْلَ الْحَرْبِ، أَوْ قُتِلَ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ شَهِيدٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ فَالْتَحَقَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَقْتُولًا مِنْ جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا لَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ، وَهَذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا إذَا قُتِلَ فِي مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْبَاغِي فَهَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَهَذَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ بِصِفِّينَ تَحْتَ رَايَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةُ بِالْجَادَّةِ، وَكَانَ قَتِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» . وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَقَالَ: لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةَ مَنْ قَتَلَنِي، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُغَسِّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ قَتْلًا تَمَحَّضَ ظُلْمًا، وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْبَاغِي مَمْنُوعٌ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَتِيلُ غَيْرِ الْبَاغِي وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَكِنَّ ذَلِكَ أَمَارَةٌ تُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الدِّيَةِ. وَلَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ، أَوْ خَنْقٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ خُرُوجِ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ، بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ، وَقَدْ يُبْتَلَى الْجَبَانُ بِهَذَا فَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَدُوِّ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ مَحَارِقِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَوْضِعًا يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ، وَالذَّكَرِ، وَالدُّبُرِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ، وَقَدْ يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ، وَقَدْ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ الْغُسْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ أُذُنِهِ، أَوْ عَيْنِهِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا لِآفَةٍ فِي الْبَاطِنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ، أَوْ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ رَأْسِهِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ مَا يَنْزِلُ مِنْ الرَّأْسِ فَنُزُولُهُ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ يَعْلُو مِنْ جَوْفِهِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَصْعَدُ مِنْ الْجَوْفِ إلَّا لِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِلَوْنِ الدَّمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وُجِدَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا لَقَوْا الْعَدُوَّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ، وَلَا دِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْعَدُوِّ وَظَاهِرًا، كَمَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْقَوْا الْعَدُوَّ، لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَتِيلَ الْعَدُوِّ أَلَا تَرَى أَنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ. وَلَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ الْعَدُوِّ، وَهُمْ رَاكِبُوهَا، أَوْ سَائِقُوهَا، أَوْ قَائِدُوهَا فَمَاتَ، أَوْ نَفَّرَ الْعَدُوُّ دَابَّتَهُ، أَوْ نَخَسَهَا فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ، أَوْ رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَفِينَةٍ فَرَمَاهُمْ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقُوا، أَوْ تَعَدَّى هَذَا الْحَرِيقُ إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاحْتَرَقُوا، أَوْ سَيَّلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ حَتَّى غَرِقُوا، أَوْ أَلْقَوْهُمْ فِي الْخَنْدَقِ، أَوْ مِنْ السُّورِ بِالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ، وَالدَّفْعِ حَتَّى مَاتُوا، أَوْ أَلْقَوْا عَلَيْهِمْ الْجِدَارَ كَانُوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ فَيَلْحَقُهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ. وَلَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ مِنْ دَابَّةِ الْعَدُوِّ، أَوْ مِنْ سَوَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيرٍ مِنْهُمْ فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ، أَوْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْخَنْدَقِ، أَوْ مِنْ السُّورِ حَتَّى مَاتُوا لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ، وَكَذَلِكَ إذَا حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُبُونَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطَ فَسَقَطَ عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَأَصَّلَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي
فصل حكم الشهادة في الدنيا
هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَصْلًا فَقَالَ: إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى الْعَدُوِّ كَانَ شَهِيدًا، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ، وَالْقِتَالِ كَانَ شَهِيدًا، وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ، أَوْ لَا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ، بِحَيْثُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَتْلُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُوبِ قِصَاصٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ كَانَ شَهِيدًا، وَإِذَا صَارَ مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا، وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الزِّيَادَاتِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا فَنَقُولُ: إنَّ الشَّهِيدَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ، وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ فِي حَقِّهِ أَوْجَبَ، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ، وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ، وَجَبَ تَطْهِيرًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ، وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا عَلَى الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ النَّاسِ كَانَ مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ، وَتَمْحِيصٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى غُسْلِهِمْ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا، وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لَهُ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ مَانِعَةً عَنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ، كَمَا فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُمْ مِنْ الْحَفْرِ، وَالدَّفْنِ، كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً مِنْ الْغُسْلِ؟ وَهُوَ أَيْسَرُ مَنْ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لَوْ كَانَ لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يُيَمَّمُوا، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَخَيْبَرَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّعَذُّرِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ، وَلِذَا لَمْ يُغَسَّلْ عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَرْكِ الْغُسْلِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ غَيْرَ مَا فَهِمَ الْحَسَنُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ» وَرَوَيْنَا عَنْ عَمَّارٍ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجِلْدُ، وَالسِّلَاحُ، وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ، وَالْخُفُّ، وَالْمِنْطَقَةُ، وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» . وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ تَنْزِعُ عَنْهُ الْعِمَامَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يُتْرَكُ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا، وَالْكَفَنُ مَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ، وَالزِّينَةِ، أَوْ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، أَوْ لِدَفْعِ مَعَرَّةِ السِّلَاحِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَفَنًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا، وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَيَزِيدُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ مَا شَاءُوا، وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَلَيْهِ نَمِرَةٌ لَوْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بِهَا بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ، وَيُوضَعُ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ» . وَذَاكَ زِيَادَةٌ فِي الْكَفَنِ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُغَسَّلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ» ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ لَهُ، وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ، وَالشَّهِيدُ قَدْ تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْغُسْلِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ
الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي كِتَابِهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا عَلَى الْحَيِّ، وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ» حَتَّى رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَبَعْضُهُمْ أَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِوَاحِدٍ، وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَمْزَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ يَدَيْهِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى حَمْزَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَرَوَى أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَشْغُولًا فَإِنَّهُ قُتِلَ أَبُوهُ، وَأَخُوهُ، وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا رَوَى مَا رَوَى، وَمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَمِعَ جَابِرٌ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَفَرَةِ، وَالشَّهِيدُ، أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالشَّهَادَةِ، فَالْعَبْدُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَكَّ أَنَّ دَرَجَتَهُ كَانَتْ فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْحَيَاةِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، فَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ، وَتُنْكَحُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَيِّتًا فِيهِ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
كتاب الزكاة
[كِتَابُ الزَّكَاةِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالزَّكَاةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ فَالْفَرْضُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ زَكَاةُ الرَّأْسِ، وَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرُ وَزَكَاةُ الْمَالِ نَوْعَانِ:. زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ، وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهِيَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ، وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الْآيَةَ فَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَالٍ أُدِّيَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» فَقَدْ أُلْحِقَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَمْ يُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وقَوْله تَعَالَى {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وقَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ فِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبْهَتُهُ، وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ
فصل كيفية فرضية الزكاة
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَاحِبُ الْخَيْلِ؟ قَالَ: الْخَيْلُ ثَلَاثٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا مَنْ رَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ طُوِّلَ لَهَا فِي مَرْجٍ خِصْبٍ أَوْ فِي رَوْضَةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ وَعَدَدَ أَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَإِنْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ عَجَّاجٍ لَا يُرِيدُ مِنْهُ السَّقْيَ فَشَرِبَتْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا عِزًّا وَفَخْرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ لَهُ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا كَانَتْ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهَا بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَانِعِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ: «لَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ مَفْرُوضٌ وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ نَفْسَ الْمُؤَدِّي عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ. وَتُزَكِّي أَخْلَاقَهُ بِتَخَلُّقِ الْجُودُ وَالْكَرَمِ وَتَرْكِ الشُّحِّ وَالضَّنِّ إذْ الْأَنْفُسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الضَّنِّ بِالْمَالِ فَتَتَعَوَّدُ السَّمَاحَةَ، وَتَرْتَاضُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَفَضَّلَهُمْ بِصُنُوفِ النِّعْمَةِ وَالْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَخَصَّهُمْ بِهَا فَيَتَنَعَّمُونَ وَيَسْتَمْتِعُونَ بِلَذِيذِ الْعَيْشِ. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ فَرْضًا. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: " إذَا لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ حَتَّى مَضَى حَوْلَانِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا صَنَعَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ حَوْلٍ وَاحِدٍ " وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتَدَلَّ بِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْفَوْرِ لَضَمِنَ كَمَنْ أَخَّرَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَجِبُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ بِأَنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ يَمُوتُ فَيَفُوتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ حَتَّى مَاتَ يَأْثَمُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْوَقْتِ هَلْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْأَمْرِ بِقَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقَالَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ: " إنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ " وَهُوَ الْفِعْلُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْمُبْهَمِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى مَسْأَلَةُ هَلَاكِ النِّصَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَنَا لَمْ يَكُنْ بِتَأْخِيرِهِ الْأَدَاءَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطًا فَلَا يَضْمَنُ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ صَارَ مُفَرِّطًا لِتَأْخِيرِهِ فَيُضْمَنُ. وَيَجُوزُ
فصل سبب فرضية الزكاة
أَنْ تُبْنَى عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ سَبَبُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا فَالْمَالُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَلِذَا تُضَافُ إلَى الْمَالِ فَيُقَالُ: زَكَاةُ الْمَالِ وَالْإِضَافَةُ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهَا السَّبَبِيَّةُ كَمَا يُقَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ] [الشَّرَائِط الَّتِي ترجع عَلَى مِنْ عَلَيْهِ الْمَال] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا إسْلَامُهُ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا حَتَّى إذَا مَضَى عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذَا أَسْلَمَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَدَاءُ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَتَخْفِيفًا لَهُ. وَالْمُرْتَدُّ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَالْعِبَادَاتِ تَوَابِعُ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلُ عِبَادَةً بِدُونِهِ، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهِ. وَهَذِهِ آيَةُ التَّبَعِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْإِيمَانُ عَنْ الْخَلَائِقِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَكَانَ هُوَ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ وَغَيْرُهُ عِبَادَةً بِهِ فَكَانَ تَبَعًا لَهُ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ جَعَلَ التَّبَعَ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَتَغْيِيرُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ وَالطَّهَارَةَ تَابِعَةٌ لَهَا فَكَانَ إيجَابُ الْأَصْلِ إيجَابًا لِلتَّبَعِ وَهُوَ الْفَرْقُ. وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فَرِيضَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بَلْ السَّبَبَ الْمُوصِلَ إلَيْهِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَهُ سَوَائِمُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالشَّرَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِأَدَائِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا بَلَّغَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْعَدَدِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا الْبُلُوغُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا: " لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ " وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيَتِيمِ فَإِذَا بَلَغَ أَخْبَرَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَتَّى قَالَ: " لَوْ أَدَّاهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ ضُمِنَ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَقُّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ حَتَّى تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبُ الصَّبِيِّ فِيهَا فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي إقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا ابْتِدَاءً. أَمَّا الْكَلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: النَّصُّ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَقِيقَةُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وَالْإِضَافَةُ بِحَرْفِ اللَّامِ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَلِذَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ وَالِاسْتِحْلَافُ مِنْ السَّاعِي
وَإِنَّمَا يَجْرِيَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهَا هُوَ الْفَقِيرُ فَكَانَتْ حَقَّ الْفَقِيرِ وَالصِّبَا لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ الْعِبَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ تُقَدَّرُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مَحِلُّ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ الْمَالُ لَا نَفْسُ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّ الْفَقِيرِ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَالُ، وَذَا لَيْسَ بِزَكَاةٍ بَلْ هُوَ مَحِلُّ الزَّكَاةِ وَسُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ دَلَالَةٌ وَالْجَبْرُ عَلَى الْأَدَاءِ لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ حَتَّى لَوْ مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَجَرَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلسَّاعِي لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الزَّكَاةِ حَقَّ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُوَكِّلُ، وَالْخَرَاجُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ مِنْ وَجْهٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» فَتَجِبُ بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ لَا بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعُشْرِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَأْكُلُهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ» . وَرُوِيَ «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ» ، وَلِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْبَالِغِينَ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْبَالِغِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الزَّكَاةِ إيجَابُ الْفِعْلِ وَإِيجَابُ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْوَلِيِّ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْهِيٌّ عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ قُرْبَانُ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ أَوْ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُعَارِضَانِ الْكِتَابَ مَعَ مَا أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يُطْلَقُ عَلَى النَّفَقَةِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْجَمِيعَ لَا الزَّكَاةُ أَوْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى زَكَاةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ» أَيْ: لِيَتَصَرَّفْ فِي مَالِهِ كَيْ يَنْمُوَ مَالُهُ إذْ التَّزْكِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ أَوْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ فَتَخُصُّ الْمُتَنَازِعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْعَقْلُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ جُنُونًا أَصْلِيًّا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجُنُونَ نَوْعَانِ أَصْلِيٌّ وَطَارِئٌ. أَمَّا الْأَصْلِيُّ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُمْنَعُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ صَارَ أَهْلًا لَأَنْ يَنْعَقِدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِ الصِّبَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ عَلَى مَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا كَذَا هَذَا وَلِهَذَا مُنِعَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ كَذَا الزَّكَاةَ. وَأَمَّا الْجُنُونُ الطَّارِئُ فَإِنْ دَامَ سَنَةً كَامِلَةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ كَذَلِكَ كَذَا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ فِي الزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ، وَالْجُنُونُ الْمُسْتَوْعِبُ لِلشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَالْمُسْتَوْعِبُ لِلسَّنَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فَكَذَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ ثُمَّ أَفَاقَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً مِنْ الْحَوْلِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ تَجِبُ زَكَاةُ ذَلِكَ الْحَوْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَفَاقَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْثَرُ السَّنَةِ مُفِيقًا فَكَأَنَّهُ كَانَ مُفِيقًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ اعْتِبَارُ
الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ وَهُوَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ يَكْفِي لِوُجُوبِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَذَا الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ. وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالْمَمْلُوكُ لَا مِلْكَ لَهُ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكَهُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ. وَأَمَّا الْمُسْتَسْعَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ فَضَلَ عَنْ سِعَايَتِهِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَيْفَمَا كَانَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِلْإِسَامَةِ وَقَدْ وُجِدَ. أَمَّا الْمِلْكُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ. وَأَمَّا الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْإِسَامَةِ؛ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ خَطَبَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ خَارِجٌ عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْمَالِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى «، وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَشَرْطَهُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْغِنَى مَعَ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الدَّيْنِ مَعَ مَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي النِّصَابِ نَاقِصٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إرْضَاءٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ وَذَا آيَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فَيُمْنَعُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غِنَى الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَصْلُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ غِنَى الْمَالِكِ، وَالْغِنَى لَا يُجَامِعُ الدَّيْنَ، وَعَلَى هَذَا يُخْرَجُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا مُعَجَّلًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً، فَأَمَّا الْمُعَجَّلُ فَيُطَالَبُ بِهِ عَادَةً فَيَمْنَعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى عَزْمٍ مِنْ قَضَائِهِ يَمْنَعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَزْمِ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمَرْءُ بِمَا عِنْدَهُ فِي الْأَحْكَامِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي تَعَارَفَهَا أَهْلُ بُخَارَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ تَجِبُ عَلَى الْآجِرِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْلِ بِالْفَسْخِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّ ذَلِكَ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْآجِرِ، وَقَالُوا فِي الْبَيْعِ الَّذِي اعْتَادَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ بَيْعُ الْوَفَاءِ: إنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ فِي ثَمَنِهِ إنْ بَقِيَ حَوْلًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُلْزَمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّهُ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ، وَقَالُوا فِيمَنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ: إنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْحَوْلِ يَمْنَعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَارَنَ الْمُوجِبَ فَيُمْنَعُ الْوُجُوبُ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُقْتَصِرٌ عَلَى حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ سَبَبًا حَتَّى
اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا، وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نَحْوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فَتَصِيرُ دَيْنًا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَيْضًا، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا بِالتَّرَاضِي فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَقَالُوا: دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ. وَالطَّعَامُ لَيْسَ مَالَ التِّجَارَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ. وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي النِّصَابِ أَوْ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ أُتْلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: " لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ " هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هُوَ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ، وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ؟ فَقَالَ: مَا حُجَّتِي عَلَى مَنْ يُوجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِأَضْعَافِهِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أَوْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بِهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وَكَانَ يَأْخُذُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ فِي زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلْيَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ؟ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عَنْ الْأَخْذِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُمْ بِهَا، لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ مِنْ أَرْبَابِهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَا هَذَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَا فِي السَّوَائِمِ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى عَلَيْهَا سَنَتَانِ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَشْرًا وَحَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ
عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ. وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ هَلْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى إذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ. وَقَالَ زُفَرُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالدَّيْنِ يَنْعَدِمُ كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ فَكَانَ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَعِنْدَنَا نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْطَعُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَأَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لَا مَطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَاتِ كَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ، وَنَحْوِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ فَأَمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَا يُحْبَسُ؟ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إذَا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ مِنْ عَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَدُورِ السُّكْنَى فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ لَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ: " يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ فَدَيْنُ الْمَهْرِ يُصْرَفُ إلَى الْمِائَتَيْنِ دُونَ الْخَادِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَادِمِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْجِنْس أَيْسَرُ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَوْلَى، وَلَنَا أَنَّ عَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ مُسْتَحَقٌّ كَسَائِرِ الْحَوَائِجِ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عَنْهَا فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَيْسَرُ وَأَنْظُرُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى ثِيَابِ بَدَنِهِ وَقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ " أَرَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ؟ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ " وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ فَقِيرًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُؤَدِّيهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ، وَزَكَاةُ السَّوَائِمِ يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ. وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ فِي الصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ ضَنًّا بِمَا لَهُمْ فَكَانَ صَرْفُ الدَّيْنِ إلَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ لِيَأْخُذَ السُّلْطَانُ زَكَاةَ السَّوَائِمِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ. وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَهُ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَإِبِلٌ سَائِمَةٌ فَإِنَّ عِنْدَهُ يُصْرَفُ الْمَهْرُ إلَى الْإِبِلِ وَعِنْدَنَا يُصْرَفُ إلَى مَالِ التِّجَارَةِ لِمَا مَرَّ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْمُصْدِقِ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ السَّائِمَةِ دُونَ الدَّرَاهِمِ؛ فَلِهَذَا إذَا حَضَرَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ الزَّكَاةِ سِوَى السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَمْوَالِ الْبِذْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ لَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى يَجِبَ الْأَكْثَرُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ حَتَّى يَجِبَ التَّبِيعُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، وَهَذَا إذَا صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَغْرَقَ أَحَدُهُمَا وَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ. وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ وَامْتَنَعَ وُجُوبُ التَّبِيعِ تَجِبُ الشَّاتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الْغَنَمِ يَبْقَى نِصَابُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ كَامِلًا وَالتَّبِيعُ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ شَاتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ الدَّيْنَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الشَّاةُ. وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْمُصْدِقِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْإِبِلِ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ فَلَا يَنْتَقِصُ النِّصَابُ بِأَخْذِهَا. وَلَوْ صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ فَيَنْتَقِصُ النِّصَابُ فَكَانَ هَذَا أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ بَقَرًا
فصل الشرائط التي ترجع إلى المال
وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ زَكَاةً، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَقَلَّ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، وَتَبِيعٌ وَسْطٌ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَالْمَدَارُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى عُرُوضِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ إلَى الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِمَّا يُسْتَحْدَثُ فِي الْعُرُوضِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَأَمَّا الْعَقَارُ فَمِمَّا لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ الْمِلْكُ غَالِبًا فَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ فَمِنْهَا: الْمِلْكُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهُ بِدَرَاهِمَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ عِنْدَنَا فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ قَائِمٌ وَإِنْ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهُ، وَالزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ رَقَبَةً وَيَدًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: " الْيَدُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا. وَتَفْسِيرُ مَالِ الضِّمَارِ هُوَ كُلُّ مَالٍ غَيْرُ مَقْدُورٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ، وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ، وَالْمَالِ السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ صَارَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي الْمَدْفُونِ فِي الْكَرْمِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ احْتِجَاجًا بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ بِدَلِيلِ ابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ فَائِتَةً لِقِيَامِ مِلْكِهِ. وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ مَعَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَتَجِبُ فِي الْمَدْفُونِ فِي الْبَيْتِ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عَنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ كَمَا فِي ابْنِ السَّبِيلِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ» وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَعِيرِ الضَّامِرِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشِدَّةِ هُزَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ؛ لِعَدَمِ وُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا فَكَانَتْ ضِمَارًا؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا وَلَا زَكَاةَ عَلَى غَيْرِ الْغِنَى بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَمَالُ ابْنُ السَّبِيلِ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّهِ بِيَدِ نَائِبِهِ وَكَذَا الْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّبْشِ بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ نَبْشَ كُلِّ الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَلِيًّا فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَيْهِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ فَلَمْ يُعْذَرْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَفْسُقُ إلَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى بِعِلْمِهِ فَكَانَ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ يُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِإِقْرَارِهِ فِي السِّرِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً. وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ مُفْلِسٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمُعْسِرِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ ضِمَارًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاسْتِقْرَاضِ مَعَ أَنَّ الْإِفْلَاسَ مُحْتَمَلُ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِيهِ فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّفْلِيسَ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَجْزٍ؛ لِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُعَامِلُونَهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ يَرَى التَّفْلِيسَ لَكِنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ فِي الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ الدَّيْنُ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ وَدِيعَةً ثُمَّ نَسِيَ
الْمُودَعُ فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا تَذَكَّرَ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمَعْرُوفِ نَادِرٌ فَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ قَائِمًا؛ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ إذَا هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَمْ يَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى مُطْلَقًا بَلْ كَانَ نَاقِصًا، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِيهَا مُتَزَلْزِلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ لِلْإِنْسَانِ لَا بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ رَأْسًا كَالْمِيرَاثِ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالدِّينِ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْمَهْرِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ: دَيْنٌ قَوِيٌّ، وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ، وَدَيْنٌ وَسَطٌ كَذَا قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَمَّا الْقَوِيُّ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَرَضِ التِّجَارَةِ مِنْ ثِيَابِ التِّجَارَةِ، وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ، أَوْ غَلَّةِ مَالِ التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ مَا مَضَى مَا لَمْ يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَكُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى دِرْهَمًا وَاحِدًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ سَوَاءٌ وَجَبَ لَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْمِيرَاثِ، أَوْ بِصُنْعِهِ كَمَا لِوَصِيَّةٍ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ مَا لَمْ يُقْبَضْ كُلُّهُ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الْوَسَطُ فَمَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَبْدِ الْخِدْمَةِ، وَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكِنْ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا قَبَضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَّى لِمَا مَضَى، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمِائَتَيْنِ وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَالَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا أَصْلًا مَا لَمْ تُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَا سِوَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِلْكًا مُطْلَقًا رَقَبَةً وَيَدًا؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْعَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ مِلْكٌ نَاقِصٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ فِعْلٌ وَاجِبٌ وَهُوَ فِعْلُ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَدَلِيلُ كَوْنِ الدَّيْنِ فِعْلًا مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ فِي الْخِلَافِيَّاتِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي دَيْنٍ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَأَنَّهُ مَالُ التِّجَارَةِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ الدَّيْنُ مَالًا مَمْلُوكًا أَيْضًا لَكِنَّهُ مَالٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَالٌ حُكْمِيٌّ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مَمْلُوكًا رَقَبَةً، وَيَدًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَمَالِ الضِّمَارِ فَقِيَاسُ هَذَا أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ بِفَوَاتِ الْيَدِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ مَالِ التِّجَارَةِ الْتَحَقَ بِالْعَيْنِ فِي احْتِمَالِ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ مَالِ التِّجَارَةِ قَابِلٌ لِلْقَبْضِ، وَالْبَدَلُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَابِلَةٌ لِلْقَبْضِ فَكَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ رَأْسًا وَلَا فِيمَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا فِي بَدَلِ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يُقْبَضْ قَدْرُ النِّصَابِ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ. وَلَوْ كَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا فِي يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَذَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ مَالِ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إخْرَاجِ زَكَاةٍ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ
الزَّكَاةُ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ النِّصَابِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ هُنَاكَ مَا لَمْ يَكُنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا أَيْضًا لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ زَكَاةِ الْمَقْبُوضِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْمَقْبُوضُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَقْبِضُهَا دِرْهَمًا وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ قَدْرَ مَا قَبَضَ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ كَمَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى النِّصَابِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفَادِ فَيُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) كَوْنُ الْمَالِ نَامِيًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ وَهُوَ النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَالِ النَّامِي وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِالْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسَامَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالسِّمَنِ، وَالتِّجَارَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرِّبْحِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحِ مَعَ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْغِنَى وَمَعْنَى النَّعْمَةِ وَهُوَ التَّنَعُّمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ إذْ الْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ غَنِيًّا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ نَعْمَةً إذْ التَّنَعُّمُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهُ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَن. وَلَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَلَا يَقَعُ الْأَدَاءُ بِالْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ» فَلَا تَقَعُ زَكَاةٌ إذْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ عَنْ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلْإِسَامَةِ وَالتِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَالٍ سَوَاءٌ كَانَ نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ لَا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ، وَالْعَلُوفَةِ، وَالْحَمُولَةِ، وَالْعَمُولَةِ مِنْ الْمَوَاشِي، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَرَاكِبِ، وَكِسْوَةِ الْأَهْلِ وَطَعَامِهِمْ، وَمَا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ آنِيَةٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ أَوْ فُرُشٍ وَمَتَاعٍ لَمْ يُنْوَ بِهِ التِّجَارَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاحْتُجَّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وقَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَمَعْنَى النِّعْمَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَتَمُّ وَأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الْبَقَاءِ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الشُّكْرِ، وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ الْفَاضِلَةُ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّهَا نِعْمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ فِيهَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الضَّرُورِيَّةَ وَهِيَ حَاجَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْبَدَنِ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنْ الْمَالِ النَّامِي عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَذَلِكَ بِالْإِعْدَادِ لِلْإِسَامَةِ فِي الْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، إلَّا أَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فِي دَفْعِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْدَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ، إذْ النِّيَّةُ لِلتَّعْيِينِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا أَوْ نَوَى النَّفَقَةَ. وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الْأَثْمَانِ مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِعْدَادُ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ. وَكَذَا فِي الْمَوَاشِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَاللَّحْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أَمَتَى مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَفْعَلُوا» ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ قَدْ تَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَةً أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَقْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ بِأَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ أَوْ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ بِعَرَضٍ بِنِيَّةِ
التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ صَرِيحِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارِنًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ أَمَّا الشِّرَاءُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تِجَارَةٌ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ نَفْسُ التِّجَارَةِ؛ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ الْإِجَارَةَ. وَالنِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ دُونَ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ التِّجَارَةِ إنْ كَانَ دَلَالَةَ التِّجَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ صَرِيحُ نِيَّةِ الِابْتِذَالِ وَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِهَا. وَلَوْ مَلَكَ عُرُوضًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَصْلًا بِأَنْ وَرِثَهَا وَنَوَى التِّجَارَةَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ. وَلَوْ مَلَكهَا بِعَقْدٍ لَيْسَ مُبَادَلَةً أَصْلًا كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ بِعَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَنَوَى التِّجَارَةَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُقَارِنْ عَمَلًا هُوَ تِجَارَةٌ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ الْحَاصِلُ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ بِكَسْبِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ قِرَانُهَا بِالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَالِ بِبَدَلِ مَا هُوَ مَالٌ، وَالْقَبُولُ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلًا فَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً عَمَلَ التِّجَارَةِ. وَلَوْ اسْتَقْرَضَ عُرُوضًا وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَاسْتَقْرَضَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ مِنْ رَجُلٍ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ وَلَمْ تُسْتَهْلَكُ الْأَقْفِزَةُ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَيُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ الْجِنْسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ: اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَ لِلتِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا تِجَارَةٌ فَلَمْ تُوجَدْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُقَارِنَةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ. وَلَوْ اشْتَرَى عُرُوضًا لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَة ثُمَّ نَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَبِعْهَا فَيَكُونُ بَدَلُهَا لِلتِّجَارَةِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهُ مَالُ التِّجَارَةِ فَنَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْبِذْلَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فَعَلَ التِّجَارَةَ فَقَدْ عَزَبَتْ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلِ التِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ لِلْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِابْتِذَالَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فِي الْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلٍ هُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ فَاعْتُبِرَتْ. وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ السَّفَرُ مَعَ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا نَوَى السَّفَرَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ، وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ. وَنَظِيرُهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ الْكَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَ شَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِلْحَالِ، وَالْمُسْلِمُ إذَا قَصَدَ أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سِنِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِلْحَالِ. وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْعُرُوضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا لِلِابْتِذَالِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرُوضًا أُخَرَ تَصِيرُ بَدَلَهَا لِلتِّجَارَةِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَوَى لِلتِّجَارَةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ إذَا اشْتَرَى بِتِلْكَ الْعُرُوضِ عُرُوضًا أُخَرَ صَارَتْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَعْمَلُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ عَمَلَ التِّجَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ التِّجَارَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمِلَتْ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عَمَلهَا فَيَصِيرُ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ لِوُجُودِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مَعَ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ، أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ فَيَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَالِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ. وَأَمَّا الشِّرَاءُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا إجَارَةُ الدَّارِ فَلِأَنَّ بَدَلَ مَنَافِعَ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ كَبَدَلِ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَصْلِ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ لِلتِّجَارَةِ فَأَجَّرَ الْمُؤَجِّرُ دَارِهِ بِهَا وَهُوَ يُرِيدُ التِّجَارَةَ شَرْطُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ لِتَصِيرَ الْجَارِيَةُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ الدَّارَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ بَدَلَ مَنَافِعِ الدَّارِ
الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمَشَايِخُ بَلْخٍ كَانُوا يُصَحِّحُونَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ لَكِنْ قَدْ يُقْصَدُ بِبَدَلِ مَنَافِعِهَا الْمَنْفَعَةُ فَيُؤَاجِرُ الدَّابَّةَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَالدَّارَ لِلْعِمَارَةِ فَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَعَ التَّرَدُّدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانًا وَالْمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَثْمَانٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّهَا كَمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا لِمَالِ التِّجَارَةِ جُعِلَتْ ثَمَنًا لِشِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِابْتِذَالِ وَالْقُوتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الشِّرَاءُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبِيدًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ كِسْوَةً وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ كَانَ الْكُلُّ لِلتِّجَارَةِ. وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمُطْلَقُ تَصَرُّفِهِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُمْلَكُ دُونَ مَا لَا يُمْلَكُ حَتَّى لَا يَصِيرَ خَائِنًا وَعَاصِيًا عَمَلًا بِدِينِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى النَّفَقَةِ، وَبِمِثْلِهِ الْمَالِكُ إذَا اشْتَرَى عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ ثِيَابًا لِلْكِسْوَةِ وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ كَمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلتِّجَارَةِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلنَّفَقَةِ وَالْبِذْلَةِ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ. وَأَمَّا الْأُجَرَاءُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلنَّاسِ نَحْوَ الصَّبَّاغِينَ وَالْقَصَّارِينَ وَالدَّبَّاغِينَ إذَا اشْتَرَوْا الصَّبْغَ وَالصَّابُونَ وَالدُّهْنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَمَلِهِمْ وَنَوَوْا عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي عَمَلِهِمْ هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ؟ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصَّبَّاغَ إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لِيَصْبُغَ ثِيَابَ النَّاسِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ كَالصَّبْغِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالشَّحْمِ الَّذِي يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَذَلِكَ الْأَثَرُ مَالٌ قَائِمٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّبْغِ وَالشَّحْمِ لَكِنَّهُ لَطِيفٌ فَيَكُونُ هَذَا تِجَارَةً، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ مِثْلُ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ وَالْقِلْيِ وَالْكِبْرِيتِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَة؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا تَتْلَفُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ أَثَرُهَا إلَى الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْعِوَضِ بَلْ الْبَيَاضُ أَصْلِيٌّ لِلثَّوْبِ يَظْهَرُ عِنْدَ زَوَالِ الدَّرَنِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ عَمَلِهِ لَا بَدَلَ هَذِهِ الْآلَاتِ فَلَمْ يَكُنْ مَالَ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا آلَاتُ الصُّنَّاعِ وَظُرُوفُ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ مَعَ الْأَمْتِعَةِ عَادَةً وَقَالُوا فِي نَخَّاسِ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْمَقَاوِدَ وَالْجِلَالَ وَالْبَرَاذِعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُبَاعُ مَعَ الدَّوَابِّ عَادَةً يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ مَعَهَا وَلَكِنْ تُمْسَكُ وَتُحْفَظُ بِهَا الدَّوَابُّ فَهِيَ مِنْ آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ، إذَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدُفِعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالِ التِّجَارَةِ. وَكَذَا إذَا فَدَى بِالدِّيَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ لَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الْقِصَاصِ لَا عِوَضُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْحَوْلُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ وَهُوَ النِّصَابُ الْمَوْجُودُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ نَامِيًا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالنَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِنْمَاءِ وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يُسْتَنْمَى الْمَالُ فِيهَا بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً الْحَوْلُ فَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ؟ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُسْتَفَادِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا فِي الْحَوْلِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَالْمُسْتَفَادُ فِي الْحَوْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مَعَ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى نِصَابِ الْأَصْلِ بَلْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْوَلَدِ وَالرِّبْحِ، وَأَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْمُشْتَرَى وَالْمَوْرُوثِ وَالْمَوْهُوبِ وَالْمُوصَى بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ وَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ
وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُضَمُّ. احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَفَادُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَكُونُ أَصْلًا فِي شَرْطِ الْحَوْلِ كَالْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالرِّبْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمِلْكِ؛ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَبَعًا فِي الْحَوْلِ. وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ تَبَعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، إذْ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالتَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالسَّبَبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِحَوْلِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَزْدَادُ بِهِ وَلَا يَتَكَثَّرُ؟ وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ كَوْنَهُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ تَبَعًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ، فَكَانَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَتَبَعًا مِنْ وَجْهٍ، فَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ احْتِيَاطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَامٌّ خُصَّ مِنْهُ بَعْضُهُ وَهُوَ الْوَلَدُ وَالرِّبْحُ فَيَخُصُّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادَ عِنْدَنَا إلَى أَصْلِ الْمَالِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَامَلُ بِهِ النِّصَابُ وَيَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا حَالَ وُجُودِ الْمُسْتَفَادِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ عَلَى الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الْمَاضِي بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُضَمُّ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الَّذِي اُسْتُفِيدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُتَجَدِّدًا حُكْمًا كَأَنَّهُ انْعَدَمَ الْأَوَّلُ وَحَدَثَ آخَرُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّمَاءُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَصِيرُ النِّصَابُ كَالْمُتَجَدِّدِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كَالْعَدَمِ، وَالْمُسْتَفَادُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفَادُ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَمَّ حَوْلُ السَّائِمَةِ فَزَكَّاهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَتِمَّ حَوْلُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لِلثَّمَنِ حَوْلًا عِنْدَهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ، وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَلَوْ زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ ثَمَنَهَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُزَكَّى الْكُلُّ بِحَوْلِ الدَّرَاهِمِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لِلْخِدْمَةِ فَأَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ فَأَدَّى عُشْرَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ فَأَدَّى خَرَاجَهَا ثُمَّ بَاعَهَا يُضَمُّ ثَمَنُهَا إلَى أَصْلِ النِّصَابِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ، وَعَبْدُ الْخِدْمَةِ، وَالطَّعَامُ الْمَعْشُورُ، وَالْأَرْضُ الَّتِي أَدَّى خَرَاجَهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ الَّذِي لَيْسَ بِثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِ وَصَارَ مَخْصُوصًا عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ثِنَى فِي الصَّدَقَةِ» أَيْ: لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ حَالَ اخْتِلَافِ الْمَالِكِ، وَالْحَوْلُ وَالْمَالُ صُورَةٌ وَمَعْنًى صَارَ مَخْصُوصًا، وَهَهُنَا لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْمَالِكِ وَالْحَوْلِ وَلَا شَكَّ فِيهِ. وَكَذَا الْمَالُ لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانَتْ السَّائِمَةُ قَائِمَةً مَعْنًى وَمَا ذُكِرَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الضَّمَّ فَاعْتِبَارُ الْبِنَاءِ يُحَرِّمُ الضَّمَّ، وَالْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. وَأَمَّا إذَا زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضَمُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ وَصْفِ النَّمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ وَحَدَثَ عَيْنٌ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ بَدَلَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْبِنَاءِ. وَكَذَا فِي الْمَسَائِلِ الْأُخَرِ الثَّمَنُ لَيْسَ بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يَكُون الضَّمُّ بِنَاءً وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابَانِ أَحَدَهُمَا ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ وَالْآخَرَ
غَيْرُ ثَمَنِ الْإِبِلِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ حَوْلًا مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَفَادَ دَرَاهِمَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ يُضَمُّ إلَى أَقْرَبِهَا حَوْلًا أَيُّهُمَا كَانَ، وَلَوْ لَمْ يُوهَبْ لَهُ وَلَا وَرِثَ شَيْئًا وَلَا أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا أَدَّى زَكَاتَهُ وَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا وَلَمْ يَحُلْ حَوْلُ ثَمَنِ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يُضَمُّ إلَى النِّصَابِ الَّذِي رَبِحَ فِيهِ لَا إلَى ثَمَنِ الْإِبِلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَبْعَدَ حَوْلًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَقْرَبُ النِّصَابَيْنِ حَوْلًا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ بَلْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي الِاسْتِتْبَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعٌ لِأَحَدِهِمَا حَقِيقَةً؛ لِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا مِنْهُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فَلَا يُقْطَعُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ الْأَصْلِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ فَهَلَاكُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ اسْتَفَادَ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ نِصَابًا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، وَالْهَالِكُ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَكَذَا الْمُسْتَفَادُ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكْمِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ النِّصَابِ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ. وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ مَالُ التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الْمَالِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ فَكَانَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا عَلَى الْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَائِمٌ لَمْ يَفُتْ بِالِاسْتِبْدَالِ. وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّيَارِفَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِبْدَالِ مِنْهُمْ سَاعَةً فَسَاعَةً. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَلَا تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى إحْدَاهُمَا كَمَا إذَا بَاعَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا. وَلِّنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى أَيْضًا لَا بِالْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ فَبَطَلَ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى الْأَوَّلِ فَيُسْتَأْنَفُ لِلثَّانِي حَوْلًا. وَلَوْ اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ فَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْبَقَرِ أَوْ الْبَقَرَ بِالْغَنَمِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِجِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمَ بِالْغَنَمِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْقَطِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ كَمَا إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَا بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ عِجَافٍ هُزَالٍ لَا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِيهَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قَدْ اخْتَلَفَتْ فَيَخْتَلِفُ لَهُ الْحَوْلُ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعُرُوضٍ يَنْوِي بِهَا التِّجَارَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ فِي الْمَالَيْنِ قَدْ اخْتَلَفَ إذْ الْمُتَعَلِّقُ فِي أَحَدِهِمَا الْعَيْنُ، وَفِي الْآخَرِ الْمَعْنَى. وَلَوْ احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ هَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ. وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهَةٌ كَالْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا. وَمِنْهَا النِّصَابُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي النِّصَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ النِّصَابِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْغِنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ غَنِيًّا بِهِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرَ النِّعْمَةِ الْمَالِ. وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلشُّكْرِ لِلْمَالِ بَلْ يَكُونُ شُكْرُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَفِي آخِرِهِ لَا فِي خِلَالِهِ حَتَّى لَوْ انْتَقَصَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَهُوَ قَوْلُ
فصل الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضة
الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِر الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَوَسَطِهِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَالِ التِّجَارَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مِائَتَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَلَا نِصَابَ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ سَائِمَةً فَجَعَلَهَا عَلُوفَةً فِي وَسَطِ الْحَوْلِ بَطَلَ الْحَوْلُ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: تَرَكْتُ هَذَا الْقِيَاسَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ نِصَابَ التِّجَارَةِ يَكْمُلُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تَزْدَادُ وَتَنْتَقِصُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ لِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِكَثْرَةِ رَغْبَةِ النَّاسِ وَقِلَّتِهَا وَعِزَّةِ السِّلْعَةِ وَكَثْرَتِهَا، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَاعْتُبِرَ الْكَمَالُ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ آخِرُ الْحَوْلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ فِي السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ نِصَابَهَا لَا يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيُعْتَبَر وُجُودُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَوْلِ وَقْتُ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَآخِرَهُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا وَسَطُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ بِوَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لِيَضُمَّ الْمُسْتَفَادَ إلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ كُلُّهُ لَمْ يُتَصَوَّرُ الضَّمُّ فَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً فِي خِلَالِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ. وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كَمَا، لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَب وَالْفِضَّة] أَمَّا مِقْدَارُ النِّصَابِ وَصِفَتُهُ، وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ وَصِفَتُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمْوَالُ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَالثَّانِي: أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ، وَالثَّالِثُ: السَّوَائِمُ فَنُبَيِّنُ مِقْدَارَ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ، وَمَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ. (فَصْلٌ) : أَمَّا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَمَّا قَدْرُ النِّصَابِ فِيهِمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ أَوْ اجْتَمَعَ لَهُ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنَ سَبْعَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ذَكَرَ فِيهِ الْفِضَّةَ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ شَيْءٌ، وَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ» وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ فِي الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ مِنْ الْمَوْزُونِ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ مِنْ الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ، أَوْ قِيمَتُهَا لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا وَزْنَ سَبْعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَالْمِائَتَانِ مِمَّا يُوزَنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْقَالًا؛ لِأَنَّهُ الْوَزْنُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لِلدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ بَعْضُهَا ثَقِيلًا مِثْقَالًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا طَيْرِيًّا فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ فِي الْإِسْلَامِ جَمَعُوا الدِّرْهَمَ الثَّقِيلَ وَالدِّرْهَمَ الْخَفِيفَ فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ فَكَانَا دِرْهَمَيْنِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ نَقَصَ النِّصَابُ عَنْ الْمِائَتَيْنِ نُقْصَانًا يَسِيرًا يَدْخُلُ بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي كَمَالِ النِّصَابِ فَلَا نَحْكُمُ بِكَمَالِهِ مَعَ الشَّكِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَتْ الْفِضَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ النِّصَابِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَيُعْتَبَرُ فِي حَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَنَقُولُ: لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا النِّصَابِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ فِضَّةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا سَوَاءٌ
كَانَتْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً، أَوْ نُقْرَةً، أَوْ تِبْرًا، أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا، أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ، أَوْ مِنْطَقَةٍ أَوْ لِجَامٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ الْكَوَاكِبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوَانِي، وَغَيْرِهَا إذَا كَانَتْ تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ لِلتَّجَمُّلِ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلُبْسٍ مُبَاحٍ أَوْ لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ» ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مَحْظُورٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِابْتِذَالَ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَانَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا وَإِذَا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مَعَ ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هَذَا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ إنْفَاقِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَلَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْهَا لِلْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ شَيْءٌ فِي بَابِ الْحُلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، مَعَ مَا أَنَّ تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا مَغْمُورٌ مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ. قَالَ: لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا كُلِّهَا الْفِضَّةُ وَمَا تَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا. وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فِيهَا مَغْلُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كَانَتْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَالْفِضَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ كَمَعْرُوضِ التِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ. وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فُلُوسٌ أَوْ دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أَوْ نُحَاسٌ أَوْ مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ فِيهَا الْفِضَّةُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي دِيَارِنَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً فَإِنْ كَانَتْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا، أَوْ بِالضَّمِّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ. وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يُفْتَى بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْهَا عَدَدًا. وَكَانَ يَقُولُ: " هُوَ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا " وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ، وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفِقْهِ. وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَعَلَى هَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ
فصل مقدار الواجب في زكاة الفضة
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا يَجِبُ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَلَا خِلَافَ فِي السَّوَائِمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزَّوَائِدِ مِنْهَا عَلَى النِّصَابِ حَتَّى تَبْلُغَ نِصَابًا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ. وَمَعْنَى النِّعْمَةِ يُوجَدُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهُ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَصْلِ النِّصَابِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي السَّوَائِمِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ: «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا فَإِذَا كَانَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ شَيْئًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذَ مِنْهَا دِرْهَمًا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كُلِّ نِصَابٍ عَفْوٌ نَظَرًا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْكُسُورِ حَرْجًا وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بَلْ شَكُّوا فِي قَوْلِهِ: " وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ " أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَوْلُ عَلِيٍّ فَإِنْ كَانَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ شُكْرِ النَّعْمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّعْمَةِ هُوَ التَّنَعُّمُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالسَّوَائِمِ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الْفِضَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِيهَا فَرُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَا إذْ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا تَوْقِيفًا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ» وَخَمْسَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ] (فَصْلٌ) : هَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَالذَّهَبُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَلَا صَدَقَةَ فِيهِ فَإِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَكَانَ الدِّينَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَوَّمًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: «لَيْسَ عَلَيْك فِي الذَّهَبِ زَكَاةٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ» وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ لِوَاحِدٍ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَبْلُغْ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي نِصَابِ السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ الذَّهَبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ الذَّهَبِ فَنَقُولُ: لَا يُعْتَبَرُ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ أَيْضًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ ذَهَبًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَضْرُوبِ وَالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ وَالْحُلِيِّ إلَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي الْحُلِيِّ الَّذِي يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي مُطْلَقِ الذَّهَبِ. وَكَذَا حُكْمُ الدَّنَانِيرِ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الذَّهَبُ كَالْمَحْمُودِيَّةِ وَالصُّورِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا. وَحُكْمُ الذَّهَبِ الْخَالِصِ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْهَرَوِيَّةُ وَالْمَرْوِيَّةُ وَمَا لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الذَّهَبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَخْلُصُ بِالْإِذَابَةِ وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الذَّهَبِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ فَيَجِبُ فِيهَا قِيرَاطَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِيهِ فَرُبُعُ الْعُشْرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
لِأَنَّ نِصْفَ مِثْقَالٍ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا رُبُعُ عُشْرِهِ. وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كَانَ لَهُ عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بَلْ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا صُورَةً وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَصَارَ كَالْإِبِلِ مَعَ الْغَنَمِ بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَكْمُلُ النِّصَابُ مِنْ قِيمَتَهَا وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ مَالُ الزَّكَاةِ جِنْسًا وَاحِدًا وَهُوَ الذَّهَبُ أَوْ الْفِضَّةُ فَأَمَّا الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا دُونَ الْقِيمَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُكْمَلُ بِهِ الْقِيمَةُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَإِنَّمَا يُكْمَلُ بِالْوَزْنِ كَثُرَتْ الْقِيَامَةُ أَوْ قَلَّتْ بِأَنْ كَانَتْ رَدِيئَةً. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ إلَى الذَّهَبِ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ. وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَكَانَا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْوَاجِبُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِ. وَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وَإِذَا اتَّحَدَ الْمَالَانِ مَعْنًى فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يُكْمَلُ نِصَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَأَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ وَنَقْدُ الْبَلَدِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ فَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الْفِضَّةِ وَصَارَ كَالسُّودِ مَعَ الْبِيضِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَعَذَّرَ تَكْمِيلُ نِصَابِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يُؤَدَّى رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَدَّى مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَمِنْ عَشْرَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ رُبْعُ مِثْقَالٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ وَالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ نُصُوصِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ. وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَوِّمُ الدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ جِنْسِهَا دَرَاهِمَ وَتُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُكَمَّلُ نِصَابُ الدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ. وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ الذَّهَبِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النِّصَابِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَجِبُ فِيهَا سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ نِصْفَ نِصَابِ الذَّهَبِ وَنِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ فَيَكُونُ نِصَابًا تَامًّا فَيَجِبُ فِي نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ عُشْرِهِ أَمَّا إذَا كَانَ وَزْنُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةً أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ أَوْ خَمْسَةُ عَشْرَ مِثْقَالًا وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا لَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ بَلْ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ. وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَكْمُلْ بِالضَّمِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِصِنَاعَةٍ مِائَتَانِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ آنِيَةُ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةٌ وَقِيمَتُهَا لِصِنَاعَتِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ
فصل أموال التجارة
بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِمَا وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ . وَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ آنِيَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ. وَلَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ لَوَجَبَتْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلَا اتِّحَادَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ بِأَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ وَالْآنِيَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتَظْهَرُ لِلْجُودَةِ قِيمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ تَقُومُ بِخِلَافِ جِنْسِهَا؟ فَإِنْ اغْتَصَبَ قَلْبًا فَهَشَّمَهُ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ فِي التَّكْمِيلِ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ ضَرْبَ احْتِيَاطٍ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ فِي التَّقْوِيمِ مَنْفَعَةُ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوِّمَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كُلَّ خَمْسَةٍ مِنْهَا بِدِينَارٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلُّهُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمِّ إذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا تَامًّا وَلَمْ يَكُنْ زَائِدًا عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الضَّمُّ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ. وَلَوْ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ حَتَّى يُؤَدَّى كُلُّهُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ رَوَاجًا وَإِلَّا فَيُؤَدَّى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ عُشْرِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصَابَيْنِ زِيَادَةٌ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ بِحِسَابِ ذَلِكَ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُنْظَرُ إنْ بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ وَأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِيَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْكُسُورِ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَمْوَالُ التِّجَارَةِ فَتَقْدِيرُ النِّصَابِ فِيهَا بِقِيمَتِهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: وَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا نَضَّتْ زَكَّاهَا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِوُجُوبِهَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالسَّوَائِمِ فَلَوْ وَجَبَتْ فِي غَيْرِهَا لَوَجَبَتْ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ خُصُوصًا فِي بَابِ الْمَقَادِيرِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِي كُنَّا نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْبُرِّ صَدَقَةٌ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي نِصَابِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: " مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ". فَالْجَوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِهِ يُوجِبُ سَلْبَ عُمُومِ أَوَّلِهِ أَوْ نَحْمِلُ قَوْلَهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ عَلَى الْقِيمَةِ أَيْ: مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مِنْ قِيمَتِهَا دِرْهَمٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ كَالسَّوَائِمِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّا قَدْ رَوَيْنَا النَّصَّ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَهُوَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ بِإِعَانَةِ الْعَاجِزِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عُرِفَ بِالسَّمْعِ. وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَشَرْطُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَلَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْوُجُوبِ فِيهِ كَالسَّوَائِمِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ
فصل صفة نصاب التجارة
أَوْ يُوزَنُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكَذَا يُضَمُّ بَعْضُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا كَانَ تَقْدِيرُ النِّصَابِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ بِقِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِقْدَارَ نِصَابٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوِيمِ حَتَّى يُعْرَفَ مِقْدَارُ النِّصَابِ ثُمَّ بِمَاذَا تُقَوَّمُ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِأَوْفَى الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَتَّى إنَّهَا إذَا بَلَغَتْ بِالتَّقْوِيمِ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَلَمْ تَبْلُغْ بِالدَّنَانِيرِ قُوِّمَتْ بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّصَابَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ النَّقْدَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّنَانِيرِ قَوَّمَهَا بِالدَّنَانِيرِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ اشْتَرَاهَا بِأَنْ كَانَ وُهِبَ لَهُ فَقَبِلَهُ يَنْوِي بِهِ التِّجَارَةَ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا يَوْمَ حَالَ الْحَوْلُ إنْ شَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلْدَةِ كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرَى بَدَلٌ وَحُكْمُ الْبَدَلِ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ فَإِذَا كَانَ مُشْتَرًى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَتَقْوِيمُهُ بِمَا هُوَ أَصْلُهُ أَوْلَى. وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا دُونَ أَعْيَانِهَا، وَالتَّقْوِيمُ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّقْدَانِ فِي ذَلِكَ سِيَّانِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ يُقَوِّمُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي السَّوَائِمِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَهِيَ مَا إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ الْخِيَارَ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ؟ فَكَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَا فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ بِهِمَا سَوَاءٌ، لَكِنَّا رَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا بِمُرَجِّحٍ وَهُوَ النَّظَرُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالتَّقْوِيمِ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَاحْتِيَاطًا؟ كَذَا هَذَا. وَمَشَايِخُنَا حَمَلُوا رِوَايَةَ كِتَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَتَفَاوَتُ النَّفْعُ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِالتَّقْوِيمِ بِأَيِّهِمَا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَكَيْفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَعَ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ فَإِنَّهُ يَضُمُّهَا إلَى الْعُرُوضِ وَيُقَوِّمُهُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ يَشْمَلُ الْكُلَّ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ قَوَّمَ الْعُرُوضَ وَضَمَّهَا إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَضَمَّ قِيمَتَهُمَا إلَى قِيمَةِ أَعْيَانِ التِّجَارَةِ. وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتُقَوَّمُ الْعُرُوض فَيَضُمُّ قِيمَتَهَا إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَلَا يُقَوَّمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ. [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارَنَةً لِعَمَلِ التِّجَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْدَادِ الْعَبْدِ وَيُوجَدُ الْإِعْدَادُ مِنْهُ دَلَالَةً عَلَى مَا مَرَّ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ نِصَابِ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا النِّصَابِ فَمَا هُوَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ نِصَابَ مَالِ التِّجَارَةِ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. [فَصْلٌ صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَاجِبُ فِيهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ. أَمَّا الْعَيْنُ أَوْ الْقِيمَةُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَبَنَوْا عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى تَغَيَّرَ سِعْرُهَا إلَى النُّقْصَانِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ إلَى الزِّيَادَةِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَإِنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ
فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ يَوْمَ الْحَوْلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ يُؤَدِّي فِي النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَفِي الزِّيَادَةِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عِنْدَهُمَا هُوَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا لَهُ وِلَايَةُ النَّقْلِ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ. وَكَذَا لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ أَصْلًا سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ فِي النِّصَابِ عَيْنًا لَمَا سَقَطَتْ كَمَا إذَا وَهَبَ مِنْهُ غَيْرَ النِّصَابِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ مِنْ السَّوَائِمِ وَالسَّاعِي حَاضِرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ لَمَا مَلَكَ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي، فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ، وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَكِنْ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقُّ النَّقْلِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَمَسَائِلُ الْجَامِعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ مِنْ قَدْرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي النِّصَابِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَا إذَا هَلَكَ مَالُ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَسْقُطُ وَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا تَجِبُ أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ تَجِبُ ثُمَّ تَسْقُطُ لَا إلَى ضَمَانٍ وَلَا خِلَافٍ فِي أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ وَتَقَرَّرَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ كَمَا فِي دُيُونِ الْعِبَادِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُهُ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَالٍ لَا بِعَيْنِهِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» أَوْجَبَ خَمْسَةً وَشَاةً لَا بِعَيْنِهَا. وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا كَانَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا، وَلِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَمَنْ مَنَعَ الْحَقَّ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ يُضْمَنُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَلَبَهُ الْفَقِيرُ أَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِالْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ النِّصَابُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَالِكَ إمَّا أَنْ يُؤَاخَذَ بِأَصْلِ الْوَاجِبِ أَوْ بِضَمَانِهِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْد فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي، أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا هَلَكَ، وَالشِّقْصُ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ أَصْلِ الْوَاجِبِ هُوَ النِّصَابُ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذْ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ، وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ، وَمِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» الْحَدِيثَ. وَكَلِمَةُ مِنْ تَبْعِيضٌ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْضَ النِّصَابِ. وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» جَعَلَ الْوَاجِبَ مَظْرُوفًا فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّ فِي لِلظَّرْفِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا عَلَى طَرِيقِ الْيُسْرِ وَطِيبَةِ النَّفْسِ بِأَدَائِهَا وَلِهَذَا اُخْتُصَّ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَشُرِطَ لَهَا الْحَوْلُ وَكَمَالُ النِّصَابِ. وَمَعْنَى الْيُسْرِ فِي كَوْنِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ كَمَا فِي سَائِرِ الضَّمَانَاتِ، وَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يُضْمَنُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُنَاكَ ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ مَنَعَ حَقَّ الْفَقِيرِ بَعْدَ طَلَبِهِ فَنَقُولُ: إنَّ هَذَا الْفَقِيرَ مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْحَقِّ فَإِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى فَقِيرٍ آخَرَ، وَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي فَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ فَيَصِيرُ بِالِامْتِنَاعِ مُفَوِّتًا فَيُضَمَّنُ. وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءِ النَّهْرِ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إذَا حَبَسَ السَّائِمَةَ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا حَتَّى
تَوِيَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا الْحَبْسِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاتِهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَبْسَهَا بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي لَهَا. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ مَا فَوَّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ مِلْكًا وَلَا يَدًا عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا، وَلَهُ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ مِنْ السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا، هَذَا إذَا هَلَكَ كُلُّ النِّصَابِ فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي حِصَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ عَلَى النِّصَابِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، ثُمَّ إذَا هَلَكَ الْكُلُّ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بِقَدْرِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ عَفْوٌ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ النِّصَابُ وَالْعَفْوُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَعْضُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ إلَّا النِّصَابُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْكُلِّ شَائِعًا حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ تِسْعَةٌ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ. وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جَمِيعًا وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ» أَخْبَرَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي، وَالْعَفْوُ مَالٌ نَامٍ. وَمَعَ هَذَا لَا تَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ نَظِيرُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانَ قَضَاؤُهُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ إلَى الثَّالِثِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ فَمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا» وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ» وَهَذَا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ وَالْعَفْوَ تَبَعٌ لَلنِّصَاب؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْوَقْصِ وَالْوَقْصُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ النِّصَابِ. وَالْمَالُ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ فَإِذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ كَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى ثَمَانِينَ شَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ مِنْهَا وَبَقِيَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا عِنْدَهُمَا فَجُعِلَ كَأَنَّ الْغَنَمَ أَرْبَعُونَ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي نِصْفُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُمَا وَقَدْ هَلَكَ النِّصْفُ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ، وَلَوْ هَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ وَبَقِيَ سِتُّونَ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ فِي الْجَامِعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَاجِبُ هُوَ الْجُزْءُ مِنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا فِي زَكَاةِ السَّوَائِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاجِبُ هُنَاكَ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ النِّصَاب لِلتَّقْدِيرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاجِبُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لَا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى، لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ الْجَامِعِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَإِنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا هِيَ رُبُعُ عُشْرِ النِّصَابِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْحَوْلِ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ فِي النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَفِي الزِّيَادَةِ عَشْرَةً هُمَا يَقُولَانِ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ وَغَيْرُ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ وِلَايَةَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ إمَّا تَيْسِيرًا عَلَيْهِ وَإِمَّا نَقْلًا لِلْحَقِّ. وَالتَّيْسِيرُ لَهُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْوَاجِبِ. وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ وَقْتَ الْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَجُزْءُ النِّصَابِ، ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُنْقَلُ ذَلِكَ إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ النَّقْلِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ يُضَمَّنُ الْمَغْرُورُ قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ يَوْمَ التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ عُلِّقَ حُرُّ الْأَصْلِ فَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ جُعِلَ مَمْلُوكًا لَهُ لِحُصُولِهِ عَنْ مَمْلُوكَتِهِ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ فَكَذَا هَهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْوَاجِبُ هُوَ الْجُزْءُ مِنْ النِّصَاب، غَيْرَ أَنَّ وُجُوبَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُطْلَقُ الْمَالِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الشَّاةِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنْهَا، وَالتَّعَلُّقُ بِكَوْنِهِ جُزْءٌ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلتَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُ أَيْسَرُ فِي الْأَغْلَبِ حَتَّى أَنَّ الْأَدَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجُزْءِ لَوْ كَانَ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ وَعِنْدَ مَيْلِهِ إلَيْهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ مُطْلَقُ الْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهِ لِلتَّيْسِيرِ بِدَلِيلِ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاحِدِ مِنْ الْخَمْسِ، وَالنَّاقَةِ الْكَوْمَاءِ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ بِسَبَبِ نُقْصَانِ السِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا فِي السَّوَائِمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ كَمَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمَ الْأَدَاءِ كَمَا قَالَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ثَمَّةَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي مَالِ الزَّكَاةِ إذَا كَانَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَغَيُّرِ السِّعْرِ إلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْجَامِعِ هَذَا إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ. فَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ؟ عِنْدَنَا يَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا جَائِزٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ عِنْدَنَا. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ. وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا يَقُولُ أَوْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا حَقَّ فِي الْمَالِ حَتَّى يَمْنَعَ نَفَاذَ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَنْفُذُ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ فِعْلُ الدَّفْعِ فَكَانَ الْمَحَلُّ خَالِيًا عَنْ الْحَقِّ قَبْلَ الْفِعْلِ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِيهِ كَذَا هَذَا. وَإِذَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَنَا فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَالِكُ فِيهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِمِثْلِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِهْلَاكًا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ. بَيَانُ ذَلِكَ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَخْرَجَهُ الْمَالِكُ عَنْ مِلْكِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ الْوَاجِبَ بَلْ نَقَلَهُ مِنْ مَحَلِّ إلَى مَحَلِّ مِثْلِهِ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا مَعْنًى فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ وَحَابَى بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ عَفْوًا وَلِهَذَا جُعِلَ عَفْوًا فِي بَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَإِنْ حَابَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ يَضْمَنُ قَدْرَ زَكَاةِ الْمُحَابَاةِ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَزَكَاةُ مَا بَقِيَ يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَيْنِ يَبْقَى بِبَقَائِهَا وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا. وَلَوْ أَخْرَجَ مَالَ الزَّكَاةِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِ الْفَقِيرِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً، أَوْ صَالَحَ بِهِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ، أَوْ اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ يَضْمَنُ الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إتْلَافٌ لَهُ. وَكَذَا بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ. وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِأَنْ بَاعَهُ بِعَبْدِ الْخِدْمَةِ أَوْ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْعِوَضُ فِي يَدِهِ أَوْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الْمَالُ بِهِ مَالَ الزَّكَاةِ فَكَانَ اسْتِهْلَاكُهُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ. وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ بِهِ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ، وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا وَكَذَا لَوْ صَرَفَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى حَوَائِجِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الِاسْتِهْلَاكِ
وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ بِالسَّوَائِمِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَهَا سَائِمَةً يَضْمَنُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ خِلَافَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا. وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ سَائِمَةً فَبَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثْمَانِ أَوْ بِجِنْسِهَا يَضْمَنُ وَيَصِيرُ قَدْرُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الْعِوَضِ؛ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَبَيْعُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهَا لَا اسْتِبْدَالًا، وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَقْرَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَثَوَى الْمَالُ عِنْدَهُ ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ ثَوْبًا فَأَعَارَهُ فَهَلَكَ لِمَا قُلْنَا وَقَالُوا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدَفَعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَصَالَحَهُ الْمَوْلَى مِنْ الدَّمِ عَلَى عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَقَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا لِلتِّجَارَةِ فَصَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا: إنَّهُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ هُوَ التَّخَمُّرُ وَأَثَرُ التَّخَمُّرِ فِي زَوَالِ صِفَةِ التَّقَوُّمِ وَلَا غَيْرَ، وَقَدْ عَادَتْ الصِّفَةُ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا كَانَ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الشَّاةِ إذَا مَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا أَنَّ جِلْدَهَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمُصْدِقُ حَاضِرًا يَنْظُرُ إلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَحَضَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّفَرُّقِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا اسْتِهْلَاكٌ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْهُ لِحُصُولِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ إذْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ. وَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ الزَّوَالِ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي كَمَا قُبِلَ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ كَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَبِيعِ فَأَمَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَدْ تَأَكَّدَ زَوَالُ الْمِلْكِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَأَكَّدَ الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ الْمَاشِيَةِ مِنْ مَوْضِعِهَا مَعَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا؟ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ إنْ حَضَرَ الْمُصْدِقُ قَبْلَ النَّقْلِ فَلَهُ الْخِيَارُ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ فَالْمُصَدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حَضَرَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعُشْرِ بِالْعَيْنِ آكِدٌ مِنْ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَالِكُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؟ وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ قَبْلَ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. وَالْمَعْنَى مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْوَاجِبُ أَدَاءُ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ أَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْخَمْسِ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» ، وَقَوْلُهُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . وَكُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الزَّكَاةِ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْتَحَقَ الْبَيَانُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ " وَآتُوا الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ " فَصَارَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً لِلْأَدَاءِ بِالنَّصِّ. وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ النَّصِّ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهِ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَصَارَ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» إلَّا أَنَّ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ بَعِيرٍ مِنْ الْخَمْسِ فَقَدْ تَرَكَ هَذَا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ. وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ
زكاة السوائم
وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مِثْلُ أَدَاءِ الْجُزْءِ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ. وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَدَاءَ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّفْرِيطِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ النِّصَابِ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ أَنَّ تَعَلُّقَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ مِنْ النِّصَابِ لِلتَّيْسِيرِ لِيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ. وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لَوْ تَعَيَّنَ الْجُزْءُ مِنْ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ، إذْ لَوْ تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِغَيْرِ الْجُزْءِ لَبَقِيَتْ الشَّرِكَةُ فِي النِّصَابِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَا لَا يَخْفَى خُصُوصًا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ نَحْوَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَالْأَفْرَاسِ الْفَارِهَةِ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا كَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّعَلُّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ الِاخْتِيَارُ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ رَأَى الْجُزْءَ إلَيْهِ أَيْسَرَ أَدَّى الْجُزْءَ، وَإِنْ رَأَى أَدَاءَ غَيْرِهِ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيُسْرِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الشَّاةِ فِي الْحَدِيثِ لِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ لَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى الْمُصْدِقِ وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «ارْتَجَعْتُهَا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَأَخْذُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا. وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ أَدَاءُ رُبُعِ الْعُشْرِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ وَأَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي السَّوَائِمِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ حَتَّى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ أَمَرَنَا بِإِتْلَافِهِ حَقًّا لَهُ أَوْ سَبْيِهِ لَفَعَلْنَا وَلَمْ نَعْدِلْ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصَرْفِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُحْتَاجِينَ كِفَايَةً لَهُمْ وَكِفَايَتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ صَارَ وُجُوبُ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْكِفَايَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْمَالِ فَصَارَ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ، وَكَانَ أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ إعْلَامًا لَهُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ بِنَقْلِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ، كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةٌ وَلِرَجُلِ آخَرَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ مَنْ لَهُ الْحِنْطَةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحِنْطَةُ بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الدَّرَاهِمِ مِنْ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا مِنْهُ إيَّاهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِأَنْ يَسْتَبْدِلَ الْحِنْطَةَ بِالدَّرَاهِمِ وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ بِالْأَدَاءِ كَأَنَّهُ أَدَّى عَيْنَ الْحَقِّ إلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ ثُمَّ اسْتَبْدَلَ ذَلِكَ وَصَرَفَ إلَى الْآخَرِ مَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَصَارَ مَا وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ أَدَاءُ مَالٍ مُطْلَقٍ مُقَدَّرٍ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ أَدَّى وَاحِدًا مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ بِخِلَافِ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَاتَتْ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَا يُنْتَقَلُ بِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ وَبِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَقُومُ الْمَالُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [زَكَاة السَّوَائِم] وَأَمَّا السَّوَائِمُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَمَّا نِصَابُ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ زَكَاةٌ، وَفِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ، وَفِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ، وَهِيَ أَقْصَى سِنٍّ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الزَّكَاةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَسٍ وَكَانَ فِيهِ وَفِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ فَإِذَا كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ» . وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ، وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا مَا رَوَيْنَا مِنْ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ فِي السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مِنْ مُوَالَاةٍ بَيْنَ وَاجِبَيْنِ لَا وَقَصَ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ وَقَصٌ
وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ. قَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَفْقَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا هُوَ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ رِجَالِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ مِنْ الْغَنَمِ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ وَيُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْخَمْسِينَانِ فِي النِّصَابِ وَعَلَى الْحِقَاقِ فِي الْوَاجِبِ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْأَوْقَاصِ بِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فِيهَا شَاةٌ وَحِقَّتَانِ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَحِقَّتَانِ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَحِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فِيهَا شَاةٌ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ. فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسًا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ إلَى مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ أَدَّى مِنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ أَبَدًا فِي كُلِّ خَمْسِينَ كَمَا اُسْتُؤْنِفَتْ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى مِائَتَيْنِ فَيَدْخُلُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ مَعَ الشِّيَاهِ. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً لَا تَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى تِسْعَةٍ بَلْ يُجْعَلُ تِسْعَةً عَفْوًا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ. وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَيُجْعَلُ كُلُّ تِسْعَةٍ عَفْوًا وَتَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ فَيُدَارُ النِّصَابُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ لَبُونٍ فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ؛ لِأَنَّهَا مَرَّةً خَمْسُونَ وَمَرَّتَيْنِ أَرْبَعُونَ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ: إنَّهُ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات فِي النُّصُبِ، وَعَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ فِي الْوَاجِبِ. وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَقَرَنَهُ بِقِرَابِ سَيْفِهِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَتَّى قُبِضَا وَكَانَ فِيهِ «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَفْظُ الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ زِيَادَةً يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ هَذَا الْحُكْمَ بِنَفْسِ الزِّيَادَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعِنْدَهُمَا يُوجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ. وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ لِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا حَظٌّ مِنْ الْوَاجِبِ، ثُمَّ أَعْدَلُ الْأَسْنَانِ بِنْتُ لَبُونٍ وَالْحِقَّةُ، فَإِنَّ أَدْنَاهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَأَعْلَاهَا الْجَذَعَةُ فَالْأَعْدَلُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْرِجْ إلَيَّ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ «فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ» . وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَيَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقْرَأُهُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَنْ نُخَا لِفَهَا وَرُوِيَ أَنَّهُ أَنْفَذَهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: مُرْ سُعَاتُكَ فَلْيَعْمَلُوا بِهَا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا مَعَنَا مِثْلُهَا، وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فَقَدْ وَافَقَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحِقَّتَيْنِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ
فصل نصاب البقر
ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ. وَبَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآثَارِ بَلْ يُعْمَلُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ مَالٍ مِنْ جِنْسِهِ فَنَعَمْ إذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الزِّيَادَةَ تَحْتَمِلُ الْوَاجِبَ مِنْ الْجِنْسِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِالْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لِبَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا كَمَا كَانَتْ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا عَلَى حَالِهِمَا لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدُ مُحْتَمِلَةً لِلْإِيجَابِ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْقِيمَةِ فِيهَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْكَنَ الْبِنَاءُ مَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدَ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَنَيْنَا فَنَقْلنَا مِنْ بَنَاتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلِأَنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ خَمْسِينَ فَيُوجِبُ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ نِصَابُ الْبَقَرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نِصَابُ الْبَقَرِ فَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرًا زَكَاةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: «فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ» . فَأَمَّا إذَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَسَّرْ هَذَا الْكَلَامُ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا كَانَ لَهُ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ بَقَرَةً قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِصَابَ عِنْدَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِحِسَابِ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ. وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ سِتِّينَ فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الثَّلَاثِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات فِي النُّصُبِ وَعَلَى الْأَتْبِعَةِ وَالْمُسِنَّاتِ فِي الْوَاجِبِ، وَيُجْعَلُ تِسْعَةٌ بَيْنَهُمَا عَفْوًا بِلَا خِلَافٍ فَيَجِبُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي مِائَةٍ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَعَشْرَةَ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ وَأَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ فَإِنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثَلَاثِينَ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يُدَارُ الْحِسَابِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَقَصِ وَالنِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَا نَصَّ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَلَا سَبِيلَ إلَى إخْلَاءِ مَالِ الزَّكَاةِ عَنْ الزَّكَاةِ، فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِسَابِ مَا سَبَقَ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَوْقَاصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَمَا بَعْدَ السِّتِّينَ، فَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ فَتُجْعَلُ التِّسْعَةُ عَفْوًا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثٌ وَثَلَاثِينَ وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو وَهِيَ أَعْدَلُ الرِّوَايَاتِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا» وَفَسَّرَ مُعَاذٌ الْوَقَصَ بِمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ حَتَّى قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ؟ فَقَالَ: تِلْكَ الْأَوْقَاصُ لَا شَيْءَ فِيهَا وَلِأَنَّ مَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْأَشْقَاصُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي الْإِبِلِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَحَرُّزًا عَنْ إيجَابِ الشِّقْصِ، فَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الشِّقْصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ نِصَابُ الْغَنَمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نِصَابُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُ شِيَاهٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ فِي
حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ لَهُ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ «وَفِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ شَاتَانِ، وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ» . وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّصُبِ التَّوْقِيفُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَتْ السَّوَائِمُ لِوَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَهُوَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ أَسْبَابُ الْإِسَامَةِ مُتَّحِدَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّاعِي وَالْمَرْعَى وَالْمَاءُ وَالْمُرَاحُ وَالْكَلْبُ وَاحِدًا، وَالشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا يُجْعَلُ مَالُهُمَا كَمَالٍ وَاحِدٍ، وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» فَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَمْعَ وَالتَّفْرِيقَ حَيْثُ نَهَى عَنْ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ، وَفِي اعْتِبَارِ حَالِ الْجَمْعِ بِحَالِ الِانْفِرَادِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ إبْطَالُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمَعِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي سَائِمَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» نَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا عَنْ حَالِ الشَّرِكَةِ وَالِانْفِرَادِ، فَدَلَّ أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّفَرُّقُ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْمَكَانِ؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ النِّصَابَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ فِي مَكَانَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفَرُّقُ فِي الْمِلْكِ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْمِلْكُ مُتَفَرِّقًا لَا يُجْمَعُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لِوَاحِدٍ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ كَخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ وَأَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الصَّدَقَةَ وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا كَمِلْكٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَكَثَمَانِينَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا شَاتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ. وَلَوْ أَرَادَا أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ فَيَجْعَلَاهُمَا مِلْكًا وَاحِدًا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَيُعْطِيَا الْمُصْدِقَ شَاةً وَاحِدَةً لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فَلَا يَمْلِكَانِ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ " أَيْ فِي الْمِلْكِ كَرَجُلٍ لَهُ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ فِي مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يُفَرِّقَ الْمُجْتَمِعَ فَيَجْعَلَهَا كَأَنَّهَا لِرَجُلَيْنِ فَيَأْخُذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَهُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فِي مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَفَرِّقِينَ فِي الْمِلْكِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، أَوْ يَحْتَمِلُ مَا قُلْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ نَاقِصٌ وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ عَشْرًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ لِكَمَالِ نِصَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَوْ كَانَتْ عِشْرِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ؛ لِأَنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ، وَلَوْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ فِيهَا تَبِيعٌ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبِيعٌ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَلِكَ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ ثَمَانِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَاةٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ تَمَامُ ثَمَانِينَ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ شَاةً ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ، وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يَجِبُ أَنَّهُ لَوْ قَسَمَ لَا يُصِيبُهُ نِصَابٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ شَاةٍ
فصل صفة نصاب السائمة
وَاحِدَةٍ إلَّا نِصْفَهَا فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ. وَكَذَلِكَ سِتُّونَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ، وَكَذَلِكَ الزُّرُوعُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْمُصْدِقُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْهُ إذَا وَجَدَ فِيهِ وَاجِبًا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا عَلَى عِلْمِهِمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَإِنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ الْمَالُ فَيَكُونُ إذْنٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ دَلَالَةً، ثُمَّ إذَا أَخَذَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا غَيْرَ بِأَنْ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَأَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا زِيَادَةً لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَلَا تَرَاجُعَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَهُوَ شَاةٌ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا قَدْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَتْ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ لِكَمَالِ نِصَابِهِ وَزِيَادَةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ لِنُقْصَانِ نِصَابِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ وَأَخَذَ مِنْ عَرَضِهَا شَاةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَانَتْ الشَّاةُ الْمَأْخُوذَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَقَدْ أَخَذَ الْمُصْدِقُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الثُّلُثِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ فَجَاءَ الْمُصْدِقُ وَأَخَذَ مِنْ عَرَضِهَا شَاتَيْنِ كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الثَّمَانِينَ. وَالثُّلُثُ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ فَكَانَتْ الشَّاتَانِ الْمَأْخُوذَتَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةٌ وَثُلُثُ شَاةٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا شَاةٍ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةً وَثُلُثَ شَاةٍ وَمِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَيْ شَاةٍ فَقَدْ صَارَ آخِذًا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ زَكَاةِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» . [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلْإِسَامَةِ وَهُوَ أَنْ يُسِيمَهَا لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَهُوَ الْمُعَدُّ لِلِاسْتِنْمَاءِ، وَالنَّمَاءُ فِي الْحَيَوَانِ بِالْإِسَامَةِ إذْ بِهَا يَحْصُلُ النَّسْلُ فَيَزْدَادُ الْمَالُ فَإِنْ أُسِيمَتْ لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ أَوْ اللَّحْمِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ أُسِيمَتْ لِلْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ فَفِيهَا زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الرَّاعِيَةُ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ عَنْ الْعَلَفِ وَيُمَوِّنُهَا ذَلِكَ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْلَفَ، فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَتُعْلَفُ وَتُمَانُ فِي الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السَّائِمَةِ عَلَى مَا تُعْلَفُ زَمَانًا قَلِيلًا مِنْ السَّنَةِ؟ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا لِحُصُولِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ فَيَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ إذَا أُسْيِمَتْ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّوْعُ وَالصِّفَةُ أَوْ اخْتَلَفَا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ السَّوَائِمِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْعِرَابِ وَالْبَخَاتَى فِي الْإِبِلِ، وَالْجَوَامِيسِ فِي الْبَقَرِ، وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ فِي الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِنِصَابِهَا بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعَ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ كَاسْمِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْأَهْلِيِّ أَوْ مِنْ أَهْلِيٍّ وَوَحْشِيٍّ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأُمُّ أَهْلِيًّا كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الشَّاةِ وَالظَّبْيِ إذَا كَانَ أُمُّهُ شَاةً وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْبَقَرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ إذَا كَانَ أُمُّهُ أَهْلِيَّةً فَتَجِب فِيهِ الزَّكَاةُ وَيَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ بِقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ فَلَيْسَ بِشَاةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَحْلِ فَلَا يَكُونُ شَاةً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ. (وَلَنَا) أَنَّ جَانِبَ الْأُمِّ رَاجِحٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَلِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا السِّنُّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَسَانَّ أَوْ بَعْضُهَا فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا صِغَارًا فُصْلَانًا أَوْ حُمْلَانًا أَوْ عَجَاجِيلَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَمَالِكٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي زَكَاةِ الْفُصْلَانِ، فِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا تَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي الْخَمْسِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي الْعَشْرِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسَيْ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي خَمْسَةِ عَشْرَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي عِشْرِينَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَعَلَى رِوَايَاتِهِ كُلِّهَا قَالَ: لَا تَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الَّذِي لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا اثْنَانِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ، ثُمَّ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الَّذِي لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا ثَلَاثَةٌ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ. وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ» ، وَقَوْلِهِ: «فِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» ، وَفِي قَوْلِهِ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» هُوَ الْكَبِيرَةُ لَا الصَّغِيرَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ فِي الصِّغَارِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْمُسِنَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسُّعَاةِ: «إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ» ، وَقَوْلُهُ: «لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ الْأَمْوَالِ وَلَكِنْ خُذُوا مِنْ حَوَاشِيهَا» وَأَخْذُ الْكِبَارِ مِنْ الصِّغَارِ أَخْذٌ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ وَحَزَرَاتِهَا وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُلَّاكِ وَجَانِبِ الْفُقَرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ؟ وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مُرَاعَاتِهِ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي إيجَابِ الْمُسِنَّةِ إضْرَارٌ بِالْمُلَّاكِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا قَدْ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ النِّصَابِ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسًا إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ الْعَدْلُ فِي إيجَابِ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ، وَالْعَنَاقُ هِيَ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ، فَدَلَّ أَنَّ أَخْذَ الصِّغَارِ زَكَاةً كَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَنْصِيبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَهَذِهِ الْأَسَامِي لَا تَتَنَاوَلُ الْفُصْلَانَ وَالْحُمْلَانَ وَالْعَجَاجِيلَ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا نِصَابًا وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ وَكَانَ مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنِ شَيْئًا. وَأَمَّا قَوْلُ الصِّدِّيقِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا " فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا وَهُوَ صَدَقَةُ عَامٍ أَوْ الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الصَّدَقَةُ. فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ كَلَامُ تَمْثِيلٍ لَا تَحْقِيقٍ أَيْ: لَوْ وَجَبَتْ هَذِهِ وَمَنَعُوهَا لَقَاتَلْتُهُمْ. وَأَمَّا صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مُشْكِلَةٌ إذْ الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَبْقَى اسْمُ الْفَصِيلِ وَالْحَمَلِ وَالْعُجُولِ بَلْ تَصِيرُ مُسِنَّةً. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْحَوْلَ هَلْ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا وَهِيَ صِغَارًا؟ وَيُعْتَبَرُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَيْهَا إذَا كَبِرَتْ وَزَالَتْ صِفَةُ الصِّغَرِ عَنْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ النُّوقِ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَهِيَ صِغَارٌ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْأَوْلَادِ أَمْ لَا؟ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّاتٌ فَاسْتَفَادَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ صِغَارًا ثُمَّ هَلَكَتْ الْمُسِنَّاتُ وَبَقِيَ الْمُسْتَفَادُ أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُسْتَفَادِ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ فِيمَنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ حَمَلًا وَوَاحِدَةٌ مُسِنَّةً
فصل مقدار الواجب في السوائم
فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْحُمْلَانِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ صِغَارًا فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَبِيرًا فَإِنَّ الصِّغَارَ تُعَدُّ وَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ وَهُوَ الْمُسِنَّةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَتُعَدُّ صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا» . وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إلَى عُمَرَ عَامِلَهُ وَقَالُوا: إنَّهُ يَعُدُّ عَلَيْنَا السَّخْلَةَ وَلَا يَأْخُذُهَا مِنَّا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَيْسَ يَتْرُكُ لَكُمْ الرُّبَّى وَالْمَاخِضَ وَالْأَكِيلَةَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ؟ ثُمَّ قَالَ: عُدَّهَا وَلَوْ رَاحَ بِهَا الرَّاعِي عَلَى كَفِّهِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِطَةً بِالْكِبَارِ أَوْ كَانَ فِيهَا كَبِيرٌ دَخَلَتْ تَحْتَ اسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ النُّصُوصِ فَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا مُسِنَّةٌ كَانَتْ تَبَعًا لِلْمُسِنَّةِ فَيُعْتَبَرُ الْأَصْلُ دُونَ التَّبَعِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهَا مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ فِي الصِّغَارِ وَزَكَاتُهَا بِقَدْرِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ حُمْلَانًا يَجِبُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْحَمَلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الصِّغَارِ لِأَجْلِ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا فَكَانَتْ أَصْلًا فِي الزَّكَاةِ فَهَلَاكُهَا كَهَلَاكِ الْجَمِيعِ، وَعِنْدَهُ الصِّغَارُ أَصْلٌ فِي النِّصَابِ. وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْفَصْلُ عَلَى الْحَمَلِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ الْمُسِنَّةِ فَهَلَاكُهَا يُسْقِطُ الْفَصْلَ لَا أَصْلَ الْوَاجِبِ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ يُؤْخَذُ قِسْطُهَا مِنْ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْمُسِنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسِنَّةَ كَانَتْ سَبَبَ زَكَاةِ نَفْسِهَا وَزَكَاةُ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سِوَاهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ فِيهَا لَكِنْ أَعْطَى الصِّغَارَ حُكْمَ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا فَصَارَتْ الصِّغَارُ كَأَنَّهَا كِبَارٌ فَإِذَا هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ هَلَكَتْ بِقِسْطِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ بِقِسْطِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ الْأَصْلُ حَالُ اخْتِلَاطِ الصِّغَارِ بِالْكِبَارِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الصِّغَارِ تَبَعًا لِلْكِبَارِ إذَا كَانَ الْعَدَدُ الْوَاجِبُ فِي الْكِبَارِ مَوْجُودًا فِي الصِّغَارِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَدَدُ الْوَاجِبِ فِي الْكِبَارِ كُلُّهُ مَوْجُودًا فِي الصِّغَارِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشْرَ حَمَلًا يَجِبُ فِيهَا مُسِنَّتَانِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْوَاجِبِ مَوْجُودٌ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا أُخِذَتْ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ لَا غَيْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ الْمُسِنَّةُ وَحَمَلٌ وَكَذَلِكَ سِتُّونَ مِنْ الْعَجَاجِيلُ فِيهَا تَبِيعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ لَا غَيْرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ وَعُجُولٌ وَكَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ مِنْ الْفُصْلَانِ فِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أَنَّهَا تُؤْخَذُ فَحَسْبُ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ بِنْتُ لَبُونٍ وَفَصِيلٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّغَارِ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ مِقْدَارِ نِصَابِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهُوَ الْأَسْنَانُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ، وَالْحِقَّةُ وَالْجَذَعَةُ، وَالتَّبِيعُ، وَالْمُسِنَّةُ، وَالشَّاةُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَبِنْتُ الْمَخَاضِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَهَا، وَالْمَاخِضُ اسْمٌ لِلْحَامِلِ مِنْ النُّوقِ وَبِنْتُ اللَّبُونِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَهَا وَوَلَدَتْ فَصَارَتْ ذَاتِ لَبَنٍ وَاللَّبُونُ هِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ. وَالْحِقَّةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إمَّا لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحَمْلَ وَالرُّكُوبَ أَوْ لِاسْتِحْقَاقِهَا الضِّرَابَ. وَالْجَذَعَةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَلَا اشْتِقَاقَ لِاسْمِهَا، وَالذُّكُورُ مِنْهَا ابْنُ مَخَاضٍ وَابْنُ لَبُونٍ وَحِقٌّ وَجَذَعٌ وَوَرَاءَ هَذِهِ أَسْنَانٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ الثَّنِيِّ وَالسَّدِيسِ وَالْبَازِلِ لَكِنْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ مَعَانِيهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّبِيعُ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلٌ وَدَخَلَ فِي الثَّانِي وَالْأُنْثَى مِنْهُ التَّبِيعَةُ. وَالْمُسِنَّةُ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَالذَّكَرُ مِنْهُ الْمُسِنُّ. وَأَمَّا الشَّاةُ فَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الثَّنِيَّ فَصَاعِدًا وَالثَّنِيُّ مِنْ الشَّاةِ هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْحَسَنِ، وَالْجَذَعُ
فصل صفة الواجب في السوائم
مِنْ الْغَنَمِ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّنَةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ؛» وَلِأَنَّ الْجَذَعَ يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَكْثَرُ شُرُوطًا مِنْ الزَّكَاةِ فَالْجَوَازُ هُنَاكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ هَذَا مَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا صِفَاتٌ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا مِنْهَا الْأُنُوثَةُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْإِبِلِ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ مِنْهَا وَهُوَ ابْنُ الْمَخَاضِ وَابْنُ اللَّبُونِ وَالْحِقُّ وَالْجَذَعُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِيهَا بِالْإِنَاثِ فَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَأَمَّا فِي الْبَقَرِ فَيَجُوزُ فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» . وَكَذَا فِي الْإِبِلِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ وَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَكَذَا فِي الْغَنَمِ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي زَكَاتِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِيهَا بِاسْمِ الشَّاةِ. قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلسُّعَاةِ: «إيَّاكُمْ وَحَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَخُذُوا مِنْ أَوْسَاطِهَا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّاعِي: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَخُذْ مِنْ حَوَاشِيهَا، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» وَفِي الْخَبَرِ الْمَعْرُوفِ «أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى السَّاعِي وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ؟ حَتَّى قَالَ السَّاعِي: أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ لِمَا فِي أَخْذِ الْخِيَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي أَخْذِ الْأَرْذَالِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ نَظَرُ الْجَانِبَيْنِ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْ الْأَرْفَعِ، وَأَرْفَعَ مِنْ الْأَدْوَنِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى. وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ الرُّبَّى بِضَمِّ الرَّاءِ، وَلَا الْمَاخِضُ، وَلَا الْأَكِيلَةُ، وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: الرُّبَّى الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا، وَالْأَكِيلَةُ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ، وَالْمَاخِضُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ الرُّبَّى وَالْأَكِيلَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الرُّبَّى الْمُرَبَّاةُ وَالْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ وَطَعْنُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ تَقْلِيدُ مُحَمَّدٍ إذْ هُوَ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ وَاجِبُ التَّقْلِيدِ فِيهَا كَتَقْلِيدِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَالْخَلِيلِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَلَّدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ، وَسَأَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ عَنْ الْغَزَالَةِ فَقَالَ: هِيَ عَيْنُ الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِغُلَامِهِ يَوْمًا: اُنْظُرْ هَلْ دَلَكَتْ الْغَزَالَةُ يَعْنِي الشَّمْسَ؟ ، وَكَانَ ثَعْلَبُ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عِنْدَنَا مِنْ أَقْرَانِ سِيبَوَيْهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ فَكَانَ عَلَى الطَّاعِنِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا، كَيْفَ؟ وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ وَمُجْمَلِ اللُّغَةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي الرُّبَّى قَالَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ: الرُّبَّى الَّتِي وَضَعَتْ حَدِيثًا أَيْ: هِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجْمَلِ: الرُّبَّى الشَّاةُ الَّتِي تُحْبَسُ فِي الْبَيْتِ لِلَّبَنِ فَهِيَ مُرَبِّيَةٌ لَا مُرَبَّاةٌ. وَالْأَكِيلَةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ بِمَا قَالَهُ الطَّاعِنُ لَكِنَّ تَفْسِيرَ مُحَمَّدٍ أَوْلَى وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَفْعُولَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ فَعِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ مِنْ غَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ فَلَوْ كَانَتْ الْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ لَمَا أُدْخِلَ فِيهَا الْهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَمَّا أُدْخِلَ الْهَاءُ دَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ الْمَأْكُولَةِ بَلْ لَمَّا أُعِدَّ لِلْأَكْلِ كَالْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا أُعِدَّ لِلتَّضْحِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ وَالْبُخْتِ أَنَّ الْمُصْدِقَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَاحِدَةً وَسَطًا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَأْخُذُ مِنْ الْغَالِبِ وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ قِيمَةِ شَاةٍ مِنْ الضَّأْنِ وَشَاةٍ مِنْ الْمَعْزِ وَيُنْظَرُ فِي
فصل حكم الخيل
نِصْفِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ شَاةٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ كَانَتْ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَحَزَرَاتِهَا» وَأَمَرَ بِأَخْذِ أَوْسَاطِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ نَوْعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ كُلُّهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ أَوْ كُلُّهَا بَنَاتُ لَبُونٍ أَوْ حِقَاقٌ أَوْ جِذَاعٌ فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَإِنْ كَانَتْ عِجَافًا فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَوْ أَعْلَى سِنًّا مِنْهَا فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ وَسَطٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَتُؤْخَذُ تِلْكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ» وَإِنْ كَانَتْ جَيِّدَةً لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْجَيِّدَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَيِّدَةَ يَرُدُّ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عِجَافًا لَيْسَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا مَا يُسَاوِي قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ بَلْ قِيمَتُهَا دُونَ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْسَاطٍ فَفِيهَا شَاةٌ بِقَدْرِهَا. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطًا حَكَمًا فِي الْبَابِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهَا مِنْ النِّصَابِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسِينَ تَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ أَوْ أَقَلَّ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى قَدْرِهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الزِّيَادَاتِ تُعْرَفُ هُنَاكَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْوَسَطُ فِي النِّصَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الْوَسَطُ وَوُجِدَ سِنٌّ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إنَّ الْمُصْدِقَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَدْوَنَ وَأَخَذَ تَمَامَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ السَّائِمَةِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَفْضَلَ وَاسْتَرَدَّ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَدْوَنَ وَدَفَعَ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْمَالِ دُونَ الْمُصْدِقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُصَّدِّقِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْوَاجِبِ فَالْمُصْدِقُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذْ وَبَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْحِقَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ، أَوْ كَانَ الْوَاجِبُ حِقَّةً فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْجَذَعَةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْقِيصِ الْعَيْنِ وَالشِّقْصُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ، فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْخَيْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخَيْلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخَيْلَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلُوفَةً أَوْ سَائِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ عَلُوفَةً بِأَنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلرُّكُوبِ، أَوْ لِلْحَمْلِ، أَوْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ وَمَالُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مَالًا نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أَوْ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَدَّى مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَإِنْ كَانَتْ إنَاثًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ أَيْضًا ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ فِي الْآثَارِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِيهَا كَيْفَمَا كَانَتْ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» ، وَكُلُّ ذَلِكَ نُصَّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِصَابٍ مُقَدَّرٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِتَقْدِيرِ النِّصَابِ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا فَلَا يَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْحَمِيرِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ، وَلَيْسَ فِي الرَّابِطَةِ شَيْءٌ» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ أَنْ خَيِّرْ أَرْبَابَهَا فَإِنْ شَاءُوا أَدَّوْا مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِلَّا قَوِّمْهَا وَخُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ
فصل بيان من له المطالبة بأداء الواجب في السوائم والأموال الظاهرة
عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إلَى الْبَحْرَيْنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلرُّكُوبِ وَالْغَزْوِ لَا لِلْإِسَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا عَبِيدُ الْخِدْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ؟ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ فِي عَبِيدِ الْخِدْمَةِ أَوْ يُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكُلُّ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّهَا إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا كَذَا هَهُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ فِيهَا بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَلَا لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا مَأْكُولٌ فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فِيهَا بِالسَّمْنِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ عَادَةً لَا الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لَكِنَّهَا قَدْ تُسَامُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ مُؤْنَةِ الْعَلَفِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْآخِذِ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمَوَاشِي وَالْمَالُ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ فِي مَوَاضِعِهَا أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ وَهُمْ الْمُصْدِقُونَ مِنْ السُّعَاةِ وَالْعَشَّارِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَالسَّاعِي هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي الْقَبَائِلِ لِيَأْخُذَ صَدَقَةَ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا، وَالْعَاشِرُ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالْمُصْدِقُ اسْمُ جِنْسٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ فِي الْمَوَاشِي وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الزَّكَاةِ، عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ وَالْأَخْذَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا حَيْثُ جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَقًّا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ فِي أَمَاكِنِهَا وَكَانَ أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَكُنْ لِذَكَرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ. وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ إلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا» وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا امْتَنَعَتْ الْعَرَبُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحَارَبْتُهُمْ عَلَيْهِ وَظَهَرَ الْعُمَّالُ بِذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَكَذَا الْمَالُ الْبَاطِنُ إذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ فِي الْبَرَارِي لَا تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إلَّا بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّبَ الْعَشَارَ وَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ وَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْمَالُ الْبَاطِنُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَالَبَ بِزَكَاتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ طَالَبَا، وَعُثْمَانُ طَالَبَ زَمَانًا وَلَمَّا كَثُرَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَرَأَى أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا حَرَجًا عَلَى الْأُمَّةِ وَفِي تَفْتِيشِهَا ضَرَرًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا. وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ فِي مُطَالَبَةِ
فصل شرط ولاية الآخذ مال الزكاة
الْمُسْلِمِينَ بِزَكَاةِ الْوَرِقِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُعْطُونَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ إلَى الْأَئِمَّةِ فَيَقْبَلُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا عَنْ مَبْلَغِ مَالِهِ وَلَا يُطَالِبُونَهُ بِذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ تَوْجِيهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَشَارَ إلَى الْأَطْرَافِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَّنْ بَعُدَ دَارُهُ وَشُقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ صَدَقَتَهُ إلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنْ الْأَطْرَافِ عَاشِرَ التُّجَّارِ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالذِّمَةِ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مُطَالَبَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنَ وَأَمْوَالَ التِّجَارَةِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ سِوَى الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ وَأَنَّ مُطَالَبَةَ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الْإِمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَقْبَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالسُّنَّةُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ إذَا أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنَّا بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ وَلَا أُسْقِطُ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ يُصْرَفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُعْطِي ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا. وَلَوْ نَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ قِيلَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظَالِمِ صَارُوا فُقَرَاءَ؟ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ هَامَانَ وَكَانَ وَالِيَ خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَحُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ سَأَلَ وَاحِدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَزِمَتْهُ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ فَبَكَى الْأَمِيرُ وَعَرَفَ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظْلِمَةِ لَمْ يَبْقَ لَك شَيْءٌ، وَقِيلَ: إنَّ السُّلْطَانَ لَوْ أَخَذَ مَالًا مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُصَادَرَةً فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَعُشْرِ أَرْضِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ مَالَ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا وُجُودُ الْحِمَايَةِ مِنْ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ وَغَلَبُوا عَلَيْهَا فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ سَوَائِمِهِمْ وَعُشُورِ أَرَاضِيهمْ وَخَرَاجِهَا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ الْعَدْلِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ ثَانِيًا: لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ يُفْتَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَالْعُشُورَ ثَانِيًا، وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ عَنْ ذِكْرِ الْخَرَاجِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الْخَرَاجَ كَالزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْوُجُوبِ فَتُرَاعَى لَهُ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَكَمَالِ النِّصَابِ وَكَوْنِهِ مُعَدًّا لِلنَّمَاءِ، وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ، وَعَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا ظُهُورُ الْمَالِ وَحُضُورُ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَلَمْ يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حِمَايَةِ السُّلْطَانِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَالُ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ وَلَا الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَنَحْوِهِ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا جَاءَ السَّاعِي إلَى صَاحِبِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا يُرِيدُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَيْسَتْ هِيَ مَالِي أَوْ قَالَ: لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَيُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ السَّاعِي فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَدَّيْتُ إلَى مُصْدِقٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصْدِقٌ آخَرُ لَا يُصَدَّقُ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِيَقِينٍ. وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ سَوَاءٌ أَتَى بِخَطٍّ وَبَرَاءَةٍ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَرَاءَةِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ وَالْبَرَاءَةُ أَمَارَةُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّجْحَانَ ثَابِتٌ بِدُونِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ إذْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُصْدِقِ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ الدَّفْعِ إلَى مَنْ جُعِلَ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْمُودَعِ إذَا قَالَ دَفَعْتُ
الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ، وَالْبَرَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ صَادِقَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَعَلَى هَذَا إذَا أَتَى بِالْبَرَاءَةِ عَلَى خِلَافِ اسْمِ ذَلِكَ الْمُصْدِقِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى رِوَايَة الْحَسَنِ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ شَرْطٌ فَلَا تُقْبَلُ بِدُونِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَا يُصَدَّقُ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْخَذُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِيُوصِلَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَهُوَ الْفَقِيرُ وَقَدْ أَوْصَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ: أَدَّيْتُ بِنَفْسِي أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ السُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعُشْرُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالسَّوَائِمِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ بِأَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إلَّا فِي قَوْلِهِ: أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِيمَا سِوَى السَّوَائِمِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُؤْخَذُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضٌ إلَى أَرْبَابِهَا إذَا كَانُوا يَتَّجِرُونَ بِهَا فِي الْمِصْرِ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الدَّفْعُ بِنَفْسِهِ إبْطَالَ حَقِّ أَحَدٍ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَ الْعَاشِرُ أَنَّ لَهُ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ يَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاةَ هَذِهِ الْمِائَةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ قَلِيلٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ وَالْقَدْرُ الَّذِي فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْحِمَايَةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ. وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِ بِالْعُرُوضِ فَقَالَ: هَذِهِ لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ قَالَ: هَذِهِ بِضَاعَةٌ، أَوْ قَالَ: أَنَا أَجِيرٌ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يُوجَدْ ظَاهِرٌ يُكَذِّبُهُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ يُصَدَّقُ فِيهِ الذِّمِّيُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي قَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَهُوَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا فِي التَّغْلِبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَبِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقِيَّةً. وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ إلَّا فِي جَوَارٍ يَقُولُ: هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، أَوْ فِي غِلْمَانٍ يَقُولُ: هُمْ أَوْلَادِي؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَالْعِصْمَةِ لِمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ فَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبَ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: الْحَرْبِيُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ صَارَتْ بِإِقْرَارِهِ فِي الْحَالِ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا عُشْرَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ. وَلَوْ قَالَ: هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمَالٍ وَقَالَ: هُوَ عِنْدِي بِضَاعَةً، أَوْ قَالَ: أَنَا أَجِيرٌ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَعْشُرُهُ وَلَوْ قَالَ: هُوَ عِنْدِي مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا وَهَلْ يَعْشُرُهُ؟ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَعْشُرُهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يَعْشُرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَلَوْ مَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَالٍ مِنْ كَسْبِهِ وَتِجَارَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ عَشَرَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ يَعْشُرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَعْشُرُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ رُجُوعَهُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمُضَارِبِ أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَأْمُرهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ لَكِنْ فِي وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَبْضِعِ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي مَعْنَى الْمُضَارِبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الرُّجُوعُ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقَةً كَالتَّغْلِبِيِّ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الْحَوْلِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إلَّا إذَا عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِمَكَانِ حِمَايَةِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَلِأَمْوَالِ، وَمَا دَامَ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْحِمَايَةُ مُتَّحِدَةٌ مَا دَامَ الْحَوْلُ بَاقِيًا فَيَتَّحِدُ حَقُّ الْأَخْذِ. وَعِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَتَجَدَّدُ الْحِمَايَةُ فَيَتَجَدَّدُ حَقُّ الْأَخْذِ وَإِذَا مَرَّ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْعَاشِرِ فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ ثَانِيًا
فصل القدر المأخوذ مما يمر به التاجر على العاشر
فَعَلِمَ بِهِ لَمْ يَعْشُرْهُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ مَا مَضَى سَقَطَ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلَايَةِ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ اجْتَازَ الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا الْعَاشِرُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِمَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ ثَبَتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُسْقِطُهُ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْخَضْرَاوَاتِ وَبِمَا لَا يَبْقَى حَوْلًا كَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَعْشُرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَعْشُرُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا مَالُ التِّجَارَةِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لَا عَيْنُهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ إذَا كَانَ يَتَّجِرُ فِيهِ فِي الْمِصْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالصَّدَقَةُ إذَا أُطْلِقَتْ يُرَادُ بِهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّ مَا يُتَّجَرُ بِهَا فِي الْمِصْرِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَلْ صَاحِبُهَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهَا لَا تَبْقَى حَوْلًا وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحِمَايَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَهْلِكُ فِي يَدِ الْعَاشِرِ فِي الْمَفَازَةِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهَا مُفِيدًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ لِلْعَاشِرِ حَقُّ الْأَخْذِ؟ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُعْشَرُ مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا عِنْدَهُمَا. وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى الْعَاشِرِ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الصَّدَقَاتِ لَا يُفَارِقُهَا إلَّا فِي التَّضْعِيفِ. وَالصَّدَقَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الصَّبِيِّ وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَرَاجِ فِي أَرْضٍ غُلِبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ بِالْمُرُورِ عَلَى عَاشِرِهِمْ ضَيَّعَ حَقَّ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَحَقَّ فُقَرَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بَعْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ حِمَايَةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُضْمَنُ. وَلَوْ مَرَّ ذِمِّيٌّ عَلَى الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ خَنَازِيرَ يَأْخُذُ عُشْرَ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَلَا يَعْشُرُ الْخَنَازِيرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْشُرُهُمَا. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعُشْرُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَقَوِّمَانِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَالْخَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ عِنْدَنَا وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا كَانَا مَضْمُونَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْإِتْلَافِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ قِيمَةِ الْخَمْرِ كَأَخْذِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ وَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ حَقٌّ لِلْعَاشِرِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَلِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ الْخَمْرَ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَتِهَا عَنْ غَيْرِهِ بِالْغَصْبِ؟ وَلَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ وَيَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ لِلتَّخْلِيلِ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خَمْرِ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ. وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ رَأْسًا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَلَهُ خَنَازِيرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَهَا بَلْ يُسَيِّبَهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرٍ غَيْرَهُ. [فَصْلٌ الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ فَالْمَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا يَأْخُذُ مِنْهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ فَيُؤْخَذُ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الزَّكَاةِ وَيُسْقَطُ عَنْ مَالِهِ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا يُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ وَيُؤْخَذُ عَلَى شَرَائِطِ الزَّكَاةِ لَكِنْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ جِزْيَةُ رَأْسِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ غَيْرَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ فَإِذَا أَخَذَ الْعَاشِرُ مِنْهُمْ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبُعَ الْعُشْرِ أُخِذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَنِصْفٌ وَإِنْ كَانَ عُشْرًا فَعُشْرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ، وَأَصْلُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى الْعَشَارِ فِي الْأَطْرَافِ أَنْ خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ
فصل ركن الزكاة
الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا فَقِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ نَعْلَمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا؟ فَقَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَالْمُؤْنَةُ تُوضَعُ مَوَاضِعَ الْجِزْيَةِ وَتُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِهَا. [فَصْلٌ رُكْنُ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الزَّكَاةِ فَرُكْنُ الزَّكَاةِ هُوَ إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَسْلِيمُ ذَلِكَ إلَيْهِ يَقْطَعُ الْمَالِكُ يَدَهُ عَنْهُ بِتَمْلِيكِهِ مِنْ الْفَقِيرِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى يَدِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ وَهُوَ الْمُصْدِقُ وَالْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ يَثْبُتُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْفَقِيرِ» وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُلَّاكَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ عَزْو جَلَّ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَيَصِيرُ الْمَالِكُ مُخْرِجًا قَدْرَ الزَّكَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُقْتَضَى التَّمْلِيكِ سَابِقًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عَلَى أَصْلِنَا وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا: إنَّ عِنْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْإِخْرَاجِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ لَا فِي التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ بَلْ التَّمْلِيكِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّكْنُ هُوَ إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ وَعِنْدَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي السَّوَائِمِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالسِّقَايَاتِ، وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ أَصْلًا. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالزَّكَاةِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ الْفُقَرَاءَ غَدَاءً وَعَشَاءً وَلَمْ يَدْفَعْ عَيْنَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ. وَكَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ مَيِّتٍ فَقِيرٍ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ مِنْ الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ، وَلَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ فَقِيرٍ إنْ قَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ مِنْ الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهِ صَارَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّ الْفَقِيرَ قَبَضَ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ وَمِلْكِهِ مِنْ الْغَرِيمِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ إذْ الْإِعْتَاقُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ. وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بِقَدْرِ الزَّكَاةِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ لَا يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ وَبِهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالزَّكَاةِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ، وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّمْلِيكُ، وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ بِالزَّكَاةِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَلَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ إلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْفَقِيرِ فِي الْقَبْضِ فَكَانَ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْفَقِيرِ. وَكَذَا لَوْ دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى صَبِيٍّ فَقِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ فَقِيرٍ وَقَبَضَ لَهُ وَلِيُّهُ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ قَبْضَ الصَّدَقَةِ عَنْهُ. وَكَذَا لَوْ قَبَضَ عَنْهُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ أَقْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ يَجُوزُ، وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَلِيِّ فِي قَبْضِ الصَّدَقَةِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ لَهُ؟ ، وَكَذَا الْمُلْتَقِطُ إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ عَنْ اللَّقِيطِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ لَهُ فَقَدْ وَجَدَ تَمْلِيكَ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ عَالَ يَتِيمًا فَجَعَلَ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ وَيَنْوِي بِهِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ يَجُوزُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا كَانَ مِنْ كِسْوَةٍ يَجُوزُ وَفِي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ إلَّا مَا دُفِعَ إلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مُرَادَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ هُوَ الْإِطْعَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْيَتِيمُ عَاقِلًا يُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا يُقْبَضُ عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ثُمَّ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ كَقَبْضِهِ لَوْ كَانَ عَاقِلًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْفَقِيرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ كَمَا فِي قَبْضِ الْهِبَةِ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ الدَّفْعُ إلَى عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ إذْ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَلِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَرَدِّدٌ
فصل شرائط ركن الزكاة
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِمَوْلَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَقَعُ تَمْلِيكًا مُطْلَقًا؛ لِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَلَا يَدْفَعُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ زَكَاتَهُ إلَى الْآخَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَدْفَعُ الزَّوْجَةُ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ نَفْسِهِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ كَذَا الزَّوْجَةُ وَتُخَرَّجُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ سَنَذْكُرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ رُكْنِ الزَّكَاةِ] [الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي] وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ أَمَّا. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَنِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَقَوْلُهُ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى فَقِيرٍ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ النِّيَّةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيَغْفُلُ عَنْ نِيَّةِ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً، وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ شَيْئًا فَشَيْئًا أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ضَمِنَ الزَّكَاة؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ بَقِيَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِبَعْضِ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْبَاقِي. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ حَتَّى لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ زَكَاةِ الْكُلِّ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ الْقَدْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْجَمِيعَ، وَقَالَ: مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى خَمْسَةً مِنْ مِائَتَيْنِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْخَمْسَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْكُلِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْخَمْسَةِ وَهُوَ ثُمُنُ دِرْهَمٍ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي. وَكَذَا لَوْ أَدَّى مِائَةً لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ وَنَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا تَصَدَّقَ وَهُوَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَجَازَ عَنْ زَكَاةِ الْكُلِّ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ يَجُوزُ عَنْ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ النِّصَابِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ سُقُوطَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِالْبَعْضِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةٍ يَنْوِي بِجَمِيعِهَا الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ كَانَتْ مِنْ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ مِنْ التَّطَوُّعِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ لِلتَّعَارُضِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ التَّصَدُّقُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ يُعْمَلُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الْفَرْضُ كَمَا فِي تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِأَقْوَاهُمَا، وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ يُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ فَلَغَا تَعْيِينُهُ وَبَقِيَتْ الزَّكَاةُ مُتَعَيِّنَةً؟ فَيَقَعُ عَنْ الزَّكَاةِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ نِيَّةُ الْآمِرِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ خَمْسَةً إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَدَفَعَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الدَّفْعِ جَازَ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ الْمُؤَدِّي وَالْمُؤَدِّي هُوَ الْآمِرُ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُسْلِمُ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَ عَنْ زَكَاةِ مَالِ الْآمِرِ. وَكَذَا
فصل الذي يرجع إلى المؤدي
لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الْمُؤَدِّي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَوَى وَقْتَ الدُّخُولِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ لَا تَكُونُ زَكَاةً؛ لِأَنَّ عِنْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِالنَّذْرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ نَفْسِهِ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ وَرَضِيَ بِهِ أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ غَيْرِهِ فَلِعَدَمِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُؤَدَّى وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِجَازَةِ فَلَا تَقَعُ الصَّدَقَةُ عَنْهُ وَتَقَعُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وُجِدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ الْمُتَصَدَّقِ عَنْهُ وُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ وَالْمَالُ قَائِمٌ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا جَازَ عَنْ التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَلَكَ الْمَالُ صَارَ بَدَلُهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ عَنْ الزَّكَاةِ كَانَ أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَمَّنْ أَخْرَجَهَا إلَّا بِنِيَّةٍ مُخَالِطَةٍ لِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا كَمَا قَالَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ وَقْتَ التَّصَدُّقِ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَاذَا يَتَصَدَّقُ؟ أَمْكَنَهُ الْجَوَابُ مِنْ غَيْرِ فِكْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نِيَّةً مِنْهُ وَتُجْزِئُهُ كَمَا قَالَ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ إمَّا عِنْدَ الدَّفْعِ وَإِمَّا عِنْدَ التَّمْيِيزِ هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ نَوَى أَنَّ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ فَهُوَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ قَالَ: لَا تُجْزِئُهُ وَإِنْ مَيَّزَ زَكَاةَ مَالِهِ فَصَرَّهَا فِي كُمِّهِ وَقَالَ: هَذِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ تُجْزِئَهُ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ فِي الْوَقْتَيْنِ وَفِي الثَّانِي وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ وَقْتُ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا لَمْ تُشْتَرَطْ فِي وَقْتِ الدَّفْعِ عَيْنًا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ قَدْ يَقَعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ يَقَعُ مُتَفَرِّقًا، وَفِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ دَفْعٍ مَعَ تَفْرِيقِ الدَّفْعِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ تَطَوُّعًا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَتْ الْمَسْأَلَةُ غَيْرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ وَالصِّفَةُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَفِي بَعْضِهَا الْقَدْرُ دُونَ الصِّفَةِ وَفِي بَعْضِهَا الصِّفَةُ دُونَ الْقَدْرِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّفَاقٌ وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَالْعَيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنْ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَا يَجُوزُ الرَّدِيءُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ فَبِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَدَّى الْجَيِّدَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً. وَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ أَدَّى قِيمَةَ الْوَسَطِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ الرَّدِيءِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ. وَلَوْ أَدَّى شَاةً وَاحِدَةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ تَعْدِلُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا وَالْجُودَةُ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاتَيْنِ؟ فَبِقَدْرِ الْوَسَطِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَبِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ يَقَعُ عَنْ شَاةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ رُبُعَ عُشْرِهِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ النِّصَابُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ مِنْ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ وَلَوْ أَدَّى الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِقَدْرِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهَا مُتَقَوِّمَةً؛ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى ثَوْبًا جَيِّدًا عَنْ ثَوْبَيْنِ رَدِيئَيْنِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ قِيمَةُ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ فَإِنْ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِ النِّصَابِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بِأَنْ أَدَّى الذَّهَبَ عَنْ الْفِضَّةِ أَوْ
الْحِنْطَةَ عَنْ الشَّعِيرِ يُرَاعَى قِيمَةُ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ الْوَاجِبِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقَدْرُ لَا الْقِيمَةُ، وَقَالَ زُفَرُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ لَا الْقَدْرُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقَدْرِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقَدْرُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا قَالَ زُفَرُ. وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ، إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ قَفِيزٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا وَأَدَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ يَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ لَا قِيمَةُ الْجَوْدَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ اعْتِبَارًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِلْقِيمَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: إنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَقَوُّمِهَا شَرْعًا لِجَرَيَانِ الرِّبَا، وَالرِّبَا اسْمٌ لِمَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْقِطَ لِاعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَهُوَ النَّصُّ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي سُقُوطَ تَقَوُّمِهَا مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ حِنْطَةً رَدِيئَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَأَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قَفِيزًا آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا لِلْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ وَالْأَنْفَعِ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ وَالْقَدْرُ نَاقِصٌ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِاعْتِبَارِ الْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْقَدْرُ هَهُنَا أَنْفَعُ لَهُمْ، وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ قَلْبُ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٌ مَصْنُوعٍ مِنْ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ دِرْهَمٍ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ جِنْسَةِ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوْ أَدَّى عَنْهَا خَمْسَةً زُيُوفًا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ جَازَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا النَّذْرِ إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَأَدَّى قَفِيزًا رَدِيئًا يَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْفَضْلِ وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ قَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى النِّصْفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ آخَرَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَهَذَا وَالزَّكَاةَ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً بِشَاتَيْنِ فَتَصَدَّقَ مَكَانَهُمَا بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ جَازَ وَيَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى مَكَانَهُمَا شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ فِي نَفْسِ الْإِرَاقَةِ لَا فِي التَّمْلِيكِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ. وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عِتْقَ رَقَبَتَيْنِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ ثَمَّةَ لَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ بَلْ فِي إزَالَةِ الرِّقِّ، وَإِزَالَةُ رِقٍّ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إزَالَةِ رِقَّيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ سَمِينَةً إلَّا عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَدَاءُ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ جَائِزٌ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ الْكَامِلِ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ. وَكَذَا إذَا أَدَّى الْعَيْنَ عَنْ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ
فصل الذي يرجع إلى المؤدى إليه
فَأَدَّى خَمْسَةً عَيْنًا عَنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ النَّاقِصِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِيَّةُ الدَّيْنِ لِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِهِ فِي الْعَاقِبَةِ. وَكَذَا الْعَيْنُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الْفَقِيرِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَلَا يَخْرُجُ عَمَّا عَلَيْهِ، وَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَيْنٍ يَنْوِي عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ قَضَاءً عَنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ يَصِيرُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٍ وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ تَصِيرُ عَيْنًا بِالِاسْتِيفَاءِ فَتَبَيَّنَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ لَا يَصِيرُ عَيْنًا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَوَهَبَ مِنْهُ الْمِائَتَيْنِ يَنْوِي عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَا يَنْقَلِبُ عَيْنًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَيَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَقِيرًا فَوَهَبَ الْمِائَتَيْنِ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَوَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ زَكَاتُهَا دَيْنًا عَلَيْهِ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ قَدْرُ الزَّكَاةِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْغَنِيِّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْجَوَازَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ بَلْ عَلَى امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا فِي الْعَاقِبَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالًا وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ بِحَرْفِ اللَّامِ وَأَنَّهُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَوْ جَازَ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْآيَةُ خُرِّجَتْ لِبَيَانِ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا وَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِمْ فَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَّا الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ مَعَ غِنَاهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِمَالَةَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِمْ الْعِمَالَةَ لِمَا نَذْكُرُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسٌ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَفِي أَنَّ أَيَّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْحَسَنُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ. وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ وَقَالَ قَتَادَةَ: الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَلَهُ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ وَقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا يَقُوتُهُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ سُمِّيَ مِسْكِينًا لَمَّا أَسْكَنَتْهُ حَاجَتُهُ عَنْ التَّحَرُّكِ فَلَا يَقْدِرُ يَبْرَحُ عَنْ مَكَانِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقَاوِيلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: أَيْ اسْتَتَرَ بِالتُّرَابِ وَحَفَرَ الْأَرْضَ إلَى عَانَتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ سَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ أَنَّ لَهُ حَلُوبَةً هِيَ وَفْقُ الْعِيَالِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ حَاجَةَ الْمِسْكِينِ أَشَدُّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ مَا كَانَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَيَتَعَفَّفُ وَلَا يَخْرُجُ فَيَسْأَلُ وَلَهُ حِيلَةٌ فَسُؤَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَالِهِ. وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قِيلَ: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ
وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْأَلُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ مِسْكِينًا فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْ هَذَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا مَكْسَبَ لَهُ أَيْ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ لَهُ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ. وَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدُ فِي كَوْنِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ فِي الْوَصَايَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا غَيْرَ سَدِيدٍ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْعَطْفُ دَلِيلُ الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى آخَرَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ وَالْوَصِيَّةُ مَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُوصِي أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ نَصِّ كَلَامِهِ فَتَجْرِي عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّا عَقَلْنَا الْمَعْنَى فِيهَا وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَإِزَالَةُ الْمَسْكَنَةِ وَجَمِيعُ الْأَصْنَافِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ افْتَرَقَا لَا لِمَا قَالُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمْ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُعْطَوْنَ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ كِفَايَتَهُمْ مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطِيهِمْ الثَّمَنَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مِنْهُمْ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا الثَّمَنُ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِطَرِيقِ الْعِمَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنْهَا شَيْئًا وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا فِي يَدِهِ سَقَطَ حَقُّهُ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ أَنَّهَا تَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ كَذَا هَذَا دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَكَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الصَّدَقَاتِ بِجِبَايَتِهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا مَحَالَةَ، وَجَهَالَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِجَارَةِ فَجَهَالَةُ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا أَوْلَى، فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ قَسَمَ بَلْ بَيَّنَ فِيهَا مَوَاضِعَ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفَهَا لِمَا نَذْكُرُ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا لَا يَحِلُّ لَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ مُصَدِّقًا وَفَرَضَ لَهُ» وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ لَمَا فَرَضَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْعِمَالَةَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بَعَثَ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَحِلُّ لَكُمْ الصَّدَقَةُ وَلَا غُسَالَةُ النَّاسِ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُجَبَّى صَدَقَةٌ وَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِ الْإِمَامِ حُصِّلَتْ الصَّدَقَةُ مُؤَدَّاةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِهَا وَإِذَا حُصِّلَتْ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ مَطْهَرَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِي الْمَالِ فَلَا يُبَاحُ لِلْهَاشِمِيِّ لِشَرَفِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ تَنَاوُلِ الْخَبَثِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَقُولُ لِلْعِمَالَةِ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَيَجِبُ صِيَانَةُ الْهَاشِمِيِّ عَنْ ذَلِكَ كَرَامَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَنِيِّ وَقَدْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْغِنَى لَا يَمْنَعُ مِنْ تَنَاوُلِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَابْنِ السَّبِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مِلْكًا فَكَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ إنَّ الَّذِي يُعْطِي لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ فَرْضٌ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمَفْرُوضِ أَنَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فُرِضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مَرَادِس السُّلَمِيُّ وَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ
وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَأَتْبَاعٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهُمْ أَسْلَمَ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُمْ أَسْلَمَ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً. وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ مِنْ الْمُسَالِمِينَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيضًا لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِمَنْ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ، وَقَدْ حَسُنَ إسْلَامُ عَامَّتِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِحُسْنِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ وَجَمِيلِ سِيرَتِهِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ. وَاخْتُلِفَ فِي سِهَامِهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ اُنْتُسِخَ سَهْمُهُمْ وَذَهَبَ وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُعْطَى الْآنَ لِمِثْلِ حَالِهِمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ حَقَّهُمْ بَقِيَ وَقَدْ أُعْطِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآنَ يُعْطَى لِمَنْ حَدَثَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَتَقْرِيرًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُعْطِي الرُّؤَسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ لَهُمْ غَلَبَةٌ يُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ كَانَ يُعْطِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُولَئِكَ مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا أَعْطَيَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ مِنْهُ لِسِهَامِهِمْ فَبَدَّلَ لَهُمْ الْخَطَّ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ الْخَطَّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَمَزَّقَهُ وَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِيكُمْ لِيُؤَلِّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزّ اللَّهُ دِينَهُ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا السَّيْفُ فَانْصَرَفُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالُوا: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ هُوَ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو بَكْرٍ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَبَلَغَ ذَلِكَ الصَّحَابَةَ فَلَمْ يُنْكِرُوا فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَالْإِسْلَامُ يَوْمئِذٍ فِي ضَعْفٍ وَأَهْلُهُ فِي قِلَّةٍ وَأُولَئِكَ كَثِيرٌ ذُو قُوَّةٍ وَعَدَدٍ وَالْيَوْمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَزَّ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ وَاشْتَدَّتْ دَعَائِمُهُ وَرَسَخَ بُنْيَانُهُ وَصَارَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَذِلَّاءَ، وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنًى خَاصٍّ يَنْتَهِي بِذَهَابِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ عَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِحَاجَتِهِ إلَى مُعَاهَدَتِهِمْ وَمُدَارَاتِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَضَعْفِهِمْ فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ إلَى أَهْلِ الْعُهُودِ عُهُودَهُمْ وَأَنْ يُحَارِبَ الْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَاهُ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: الرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] أَيْ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ وَهُوَ أَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يَدْخُلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ: لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا» وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ كِتَابَتِهِ فَيُعْتِقُ. وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً الْإِعْتَاقُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ وَالدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ تَمْلِيكٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ فَكَانَ حَقُّهُ فِيهِ بَاقِيًا وَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَأَمَّا الَّذِي يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْمُؤَدِّي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْعٌ فَيَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] قِيلَ: الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ لَكِنْ مَا وَرَاءَهُ لَيْسَ بِنِصَابٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ» ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَازِي وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ اعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ، وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا لَهُ» ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا لِخَمْسٍ الْعَامِلِ عَلَيْهَا، وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا، وَغَارِمٍ، وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفَقِيرٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى غَنِيٍّ» نَفَى حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ وَاسْتَثْنَى الْغَازِيَ مِنْهُمْ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَيَقْتَضِي حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْغَازِي الْغَنِيِّ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ» جَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ قِسْمًا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَقِسْمًا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ فَلَوْ جَازَ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْغَنِيِّ لَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْغَازِي فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَسَمَّاهُ غَنِيًّا عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا ثُمَّ تَحْدُثُ لَهُ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَمَتَاعٌ يَمْتَهِنُهُ وَثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى لَا تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَعْزِمُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي سَفَرِ غَزْوٍ فَيَحْتَاجُ إلَى آلَاتِ سَفَرِهِ وَسِلَاحٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِي غَزْوِهِ وَمَرْكَبٍ يَغْزُو عَلَيْهِ وَخَادِمٍ يَسْتَعِينُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَاتِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ فِي سَفَرِهِ وَهُوَ فِي مَقَامِهِ غَنِيٌّ بِمَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَحْتَاجُ فِي حَالِ سَفَرِهِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» عَلَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي حَالِ مُقَامِهِ فَيُعْطَى بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَفَرِهِ لِمَا أَحْدَثَ السَّفَرُ لَهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْطَى حِينَ يُعْطَى وَهُوَ غَنِيٌّ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْغَارِمِ غَنِيًّا فِي الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْغُرْمِ بِهِ وَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْغُرْمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ اسْمٌ لِمَنْ يُسْتَغْنَى عَمَّا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] فَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي وَطَنِهِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ صُرِفَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ فَيَجِبُ إيصَالُ كُلِّ صَدَقَةٍ إلَى كُلِّ صِنْفٍ إلَّا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصْرَفُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إذْ الثَّلَاثَةُ أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ وَلَنَا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَعَمَلُ الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «فَإِنْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَصْنَافَ الْأُخَرَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُذْهَبَةً فِي تُرَابِهَا فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا: تُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» وَلَوْ كَانَ كُلُّ صَدَقَةٍ مَقْسُومَةً عَلَى الثَّمَانِيَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا دَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُذْهَبَةَ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قَلُوبُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا إجْمَاع الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي أَوْ كَلَامٌ نَحْوَ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتَى بِصَدَقَةٍ فَبَعَثَهَا إلَى أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُهَا فَفِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا عَمَلُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ تَكَلَّفَ طَلَبَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ الْإِمَامُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ مَا قَدَرَ عَلَى
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ فَرَّقَ صَدَقَةً وَاحِدَةٍ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِسْمَةُ عَلَى السَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْسِمُوهَا كَذَلِكَ وَيُضَيِّعُوا حُقُوقَهُمْ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ الصَّدَقَاتِ إلَى هَؤُلَاءِ بِأَسَامِيَ مُنْبِئَةٍ عَنْ الْحَاجَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ وَالْحَاجَةُ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي. وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا بَيَانُ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذَا الْحَقِّ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا لِلتَّسْوِيَةِ لُغَةً إنَّمَا الصِّيغَةُ لِلشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةُ لُغَةً حَرْفٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْخِلَافَةُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ؟ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ بِالسَّوِيَّةِ. وَلَوْ قِيلَ الْخِلَافَةُ بَيْنَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ كَانَ خَطَأً؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْتَى أَنَّهُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ الْمَوْتَى كَانَ لِفُلَانٍ نِصْفُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ لَقَالَ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ الْآيَةَ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ: ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ هُنَاكَ لَيْسَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ إذْ الصِّيغَةُ لَا تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَلْ مُوجَبُ الصِّيغَةِ مَا قِلْنَا، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا جُعِلَ الثُّلُثُ حَقًّا لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وَهُوَ شَيْءٌ مَعْلُومٌ لَا يَزِيدُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يُتَوَهَّمُ لَهُ عَدَدٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَقَسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ نَظَرًا لَهُمَا جَمِيعًا فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَعَيِّنَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالْمَدَدَ حَتَّى يُحَرَّمَ الْبَعْضُ بِصَرْفِهَا إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُرْدِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذَا فَنِيَ مَالٌ يَجِيءُ مَالٌ آخَرُ وَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ تَجِيءُ سَنَةٌ أُخْرَى بِمَالٍ جَدِيدٍ وَلَا انْقِطَاعَ لِلصَّدَقَاتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا صَرَفَ الْإِمَامُ صَدَقَةً يَأْخُذُهَا مِنْ قَوْمٍ إلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ لَمْ يَثْبُتْ الْحِرْمَانُ لِلْبَاقِينَ بَلْ يُحْمَلُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى فَيَصْرِفُ إلَى فَرِيقٍ آخَرَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ مَالٍ يُحْمَلُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ لَا يَجُوزُ صَرْفُ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَةِ إلَيْهِ كَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَالٌ تَمَكَّنَ فِيهِ الْخَبَثُ لِكَوْنِهِ غُسَالَةُ النَّاسِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لَهُمْ بِهِ مِنْ الذُّنُوبِ، وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْخَبِيثِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ لِلْفَقِيرِ لَا لِلْغَنِيِّ. وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى عَبْدِ الْغَنِيِّ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَدْفُوعِ نَفْعٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَنِيٌّ فَكَانَ دَفْعًا إلَى الْغَنِيِّ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَالدَّفْعُ يَقَعُ إلَى الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ فَكَانَ كَسْبُهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَدَيْنِ التِّجَارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا ظَاهِرًا فِي حَقِّهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا. وَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ كَسْب الْمَالِكِ الْمُكَاتَبِ مِلْكُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا وَلَدُ الْغَنِيِّ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُعَدُّ غَنِيًّا بِغِنَى أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ دُفِعَ إلَى امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَزَوْجُهَا غَنِيٌّ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُعْطِي إذَا قُضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا فَتَصِيرُ غَنِيَّةً بِغِنَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا شَرْطُ الْقَضَاءِ لَهَا بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَقِيرَةَ لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِغِنَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا إلَّا مِقْدَارَ النَّفَقَةِ فَلَا تُعَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ غَنِيَّةً. وَكَذَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لِمَا قُلْنَا: إنْ تُقَدَّرَ النَّفَقَةُ لَا يَصِيرُ غَنِيًّا فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ. وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَقْفِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ إنْ سَمَّاهُمْ الْوَاقِفُ فِي الْوَقْفِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغِنَى فَنَقُولُ الْغِنَى أَنْوَاعٌ
ثَلَاثَةٌ: غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا وَلَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الْأَخْذُ أَمَّا الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ نِصَابًا مِنْ الْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا فَهُوَ الَّذِي تَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَبْلُغُ قِيمَةُ الْفَاضِلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالدَّوَابِّ وَالْخَدَمِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلِابْتِذَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ، فَإِذَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ قَدْرُ الْحَاجَةِ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ فِي مَنْزِلِهِ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ وَثِيَابُ الْبَدَنِ وَكُتُبُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يُعْطُونَ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ وَالدَّارِ. وَقَوْلُهُ: كَانُوا، كِنَايَةً عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهَا فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ. وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى فِيمَنْ لَهُ حَوَانِيتُ وَدُورُ الْغَلَّةِ لَكِنْ غَلَّتُهَا لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَيَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحِلُّ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ وَكَرْمٌ لَكِنْ غَلَّتُهُ لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لِلْقُوتِ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ شَهْرٍ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ سَنَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَحِلُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحِلُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْمُسْتَحِقُّ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ» . وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ شِتَاءٍ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي الْفَتَاوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا يُبَاحُ أَنْ يُعْطَى، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَلَنَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» قَسَّمَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ: الْأَغْنِيَاءُ، وَالْفُقَرَاءُ فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءَ يُرَدُّ فِيهِمْ فَكُلُّ مَنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ يَكُونُ مَرْدُودًا فِيهِ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ السُّؤَالِ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهُمَا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ سَدَادٌ مِنْ الْعَيْشِ فَالتَّعَفُّفُ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ وَلَا كَسْبَ لَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْحَاجَةَ وَيَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا وَخَوْفُ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فِي الثَّانِي لَا يَجْعَلُهُ فَقِيرًا فِي الْحَالِ أَلَا تَرَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَذَا فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «حُمِلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا كُلُّهُمْ زَمْنَى بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْطِيَهُمَا الْحَرَامَ، وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ السُّؤَالِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ كَذَا هَذَا. وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ أَعْطَى جَازَ وَسَقَطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْقُطُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا نِصَابٌ كَامِلٌ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بِهَذَا الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى الْغَنِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ غَنِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ كَانَ فَقِيرًا فَالصَّدَقَةُ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَجَازَتْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغِنَى يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَيَقْبِضُ ثُمَّ يَمْلِكُ الْمَقْبُوضَ ثُمَّ يَصِيرُ غَنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ
يَصِيرُ هُوَ الْغَنِيُّ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ يُغْنِي بِهِ إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ. وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِغْنَاءَ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ أَنَّهُ يُغْنِيهِ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وُضِعَتْ لِمِثْلِ هَذَا الْإِغْنَاءِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» هَذَا إذَا أُعْطِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ عِيَالٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَصَدَّق عَلَيْهِ قَدْرَ دَيْنِهِ وَزِيَادَةً مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عِيَالٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ. وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَدَادُ عَيْشٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ظَهْرُ الْغِنَى؟ قَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ مَا يُعَشِّيهِمْ» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَا مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وَتَرْكُ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْحَالِ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَافِرِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» أَمْرٌ بِوَضْعِ الزَّكَاةِ فِي فُقَرَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهَا فِي غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ صَرْفَهَا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ يَقَعُ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ الِاعْتِبَارُ بِالزَّكَاةِ وَبِالصَّرْفِ إلَى الْحَرْبِيِّ وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ وَعُمُومُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الزَّكَاةَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقَوْله تَعَالَى فِي الْكَفَّارَاتِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مِسْكِينٍ وَمِسْكِينٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ إيصَالِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ بِرٌّ بِهِمْ إلَّا أَنَّ الْبِرَّ بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُرَادٍ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الذِّمِّيِّ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ رَأَى فِي الطَّرِيقِ تَمْرَةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ» وَالْمَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَنَّهَا مِنْ غُسَالَةِ النَّاسِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهَا الْخَبَثُ فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِيهمْ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْقَمَ بْنَ أَبِي أَرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أَيْ: فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُمْ؟ . وَكَذَا مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ كَافِرًا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيَّ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمُضَاعَفَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ خَاصَّةً وَبَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَاتُ آلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ مُتَّصِلَةً بَيْنَ الْمُؤَدِّي وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْأَدَاءِ تَمْلِيكًا مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ يَكُونُ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الدَّفْعُ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي دَفْعِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ
فصل حولان الحول هل هو من شرائط أداء الزكاة
أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى هَؤُلَاءِ وَالدَّفْعُ إلَيْهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْرَيْنِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ وَكَوْنُهُ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَمْنَعُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ الْأَقَارِبِ وَمِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِانْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا دَفَعَ الصَّدَقَةَ إلَى إنْسَانٍ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِحَالِهِ أَنَّهُ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ صَوَابُهُ وَفِي وَجْهٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ أَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى رَجُلٍ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ وَقْتَ الدَّفْعِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ بَعْدَ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَيْثُ نَوَى الزَّكَاةَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالظَّاهِرُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالْيَقِينِ فَإِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلِّ الصَّدَقَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دُفِعَ إلَيْهِ وَيَقَعُ تَطَوُّعًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ خَطَر بِبَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ جَوَازُهُ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَا طَلَبَ الدَّلِيلَ أَوْ تَحَرَّى بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ الدَّلِيلَ فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ بِيَقِينٍ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَالصَّرْفُ إلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ تَحَرِّيهِ، فَإِذَا تُرِكَ لَمْ يُوجَدْ الصَّرْفُ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَيَجُوزُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فَهُوَ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ وَتَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الصَّدَقَةِ فَدَفَعَ إلَيْهِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَدَفَعَ أَوَرَآهُ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى زِيِّ الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحِلًّا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ مَوْلَى لِهَاشِمِيٍّ كَافِرٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ مَوْلُودٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَسْعَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُجْتَهِدٌ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَبَطَلَ اجْتِهَادُهُ وَكَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ أَوْ أَوَانِيَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ فِيهَا وَكَمَا لَوْ صَرَفَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَمَا إذَا صَرَفَ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ بِخِلَافِهِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ هُوَ مَحَلٌّ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ صَرَفَ إلَى مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْمَاءِ الطَّاهِرِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى صَرْفِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ قُلْنَا أَنَّهُ صَارَ مَحِلَّ الصَّدَقَةِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا نَقُولُ كَذَلِكَ بَلْ الْمَحَلُّ الْمَأْمُورُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ شَرْعًا حَالَةُ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ خَطَؤُهُ وَلَهُمَا فِي الصَّرْفِ إلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مَعْنٍ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ لَيْلًا فَيَتَصَدَّقَ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ مَعْنٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَآهَا فِي يَدِهِ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أُرِدْك بِهَا فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مَعْنٌ لَك مَا أَخَذْتَ وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْتَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حَوَلَانُ الْحَوْلِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِط أَدَاء الزَّكَاة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حَوَلَانُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالْكَلَامُ فِي التَّعْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْجَوَازِ وَفِي بَيَانِ
فصل شرائط جواز النصاب
شَرَائِطِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحَوْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ زَكَاةَ سَنَتَيْنِ» وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَازُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بَلْ الْوُجُوبُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ كَامِلٍ نَامٍ أَوْ فَاضِلٍ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِحُصُولِ الْغِنَى بِهِ وَلِوُجُوبِ شُكْرِ نِعْمَةِ الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ تَوَسُّعًا وَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ إلَى مُدَّةِ الْحَوْلِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِذَا عُجِّلَ فَلَمْ يَتَرَفَّهْ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَهُوَ أَنْ يَجِبْ أَوَّلًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى أَوَّلِهِ لِاسْتِنَادِ سَبَبِهِ وَهُوَ كَوْنُ النِّصَابِ حَوْلِيًّا فَيَكُونُ التَّعْجِيلُ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ لَكِنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فَيَقَعُ زَكَاةً الثَّانِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَكِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ عَجَّلَ عَنْ نِصَابٍ وَاحِدٍ، أَوْ اثْنَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ فِي السَّنَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ النِّصَابِ الْمَوْجُودِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْأَلْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا، أَوْ رَبِحَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى صَارَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ جَازَ عَنْ الْكُلِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ الْمِائَتَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّعْجِيلَ عَمَّا سِوَى الْمِائَتَيْنِ تَعْجِيلٌ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ مِلْكِ الْمِائَتَيْنِ، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَالْمُسْتَفَادُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَتْ الْأَلْفُ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَصِيرَ مُؤَدِّيًا بَعْدَ وُجُودِ الْأَلْفِ تَقْدِيرًا فَجَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ النِّصَابِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمَا كَمَالُ النِّصَابِ فِي أَوَّلَ الْحَوْلِ، وَالثَّانِي كَمَالُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ النِّصَابُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ عُجِّلَ وَلَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ أَقَلُّ مِنْ النِّصَابِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ لَمْ يَكُنْ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا. وَكَذَا لَوْ عُجِّلَ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ مَثَلًا فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ غَيْرُ كَامِلٍ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ النِّصَابُ فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ حَالَ الْوُجُوبِ، أَوْ حَالَ تَأَكُّدِ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَالِ الِانْعِقَادِ وَلَا حَالِ الْوُجُوبِ إذْ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ عِنْدَهُ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَرَجًا؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ سَاعَةٍ وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَلَا حَرَجَ فِي مُرَاعَاةِ الْكَمَالِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَكَذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِتَعَرُّفِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِيُضَمَّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ كُلُّهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً فَيَقَعُ تَطَوُّعًا. وَلَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَانْتَقَصَ النِّصَابُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَيَقَعُ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُعَجَّلُ فِي تَمَامِ النِّصَابِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْمَلُ النِّصَابُ بِمَا عُجِّلَ وَيَقَعُ زَكَاةً، وَصُورَتُهُ إذَا عَجَّلَ خَمْسَةً عَنْ مِائَتَيْنِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ، أَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ جَائِزٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَجَّلَ وَقَعَ زَكَاةً عَنْ كُلِّ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي إتْمَامِ النِّصَابِ وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى مَالٌ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ كَمَا لَوْ
فصل حكم المعجل إذا لم يقع زكاة
هَلَكَ فِي يَدِ الْإِمَامِ. وَلَوْ اسْتَفَادَ خَمْسَةً فِي آخِرِ الْحَوْلِ جَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةً فَانْتَقَصَ النِّصَابُ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكَمِّلُ بِهِ النِّصَابَ بَعْدَ الْحَوْلِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ الثَّانِي وَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الثَّانِي وَمَا عُجِّلَ يَكُونُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ عُجِّلَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ خَمْسَةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ وَدَخَلَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ نَاقِصٌ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ كَامِلٌ لَا تُجْزِي الْخَمْسَةُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى وَلَا عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى كَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي آخِرِهَا وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي أَوَّلِهَا فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي السَّنَتَيْنِ فَلَا يَقَعُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً عَنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا حَتَّى انْتَقَصَ مِنْهَا خَمْسَةً ثُمَّ إنَّهُ عَجَّلَ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَةً حَتَّى انْتَقَصَ مِنْهَا خَمْسَةً أُخْرَى فَصَارَ الْمَالُ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَقَدْ اسْتَفَادَ عَشْرَةً حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْخَمْسَةَ الَّتِي عَجَّلَ لِلْحَوْلِ الثَّانِي جَائِزَةٌ طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْزِئَهُ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا تَمَّ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَصَارَتْ خَمْسَةٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَاجِبَةً وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَانْعَقَدَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ فَكَانَ تَعْجِيلُ الْخَمْسَةِ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَعْجِيلًا حَالَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى وَتَمَامُ السَّنَةِ الْأُولَى يَتَعَقَّبُهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالْوُجُوبُ ثَبَتَ مُقَارِنًا لِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَالنِّصَابُ كَانَ كَامِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ انْتَقَصَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْكَمَالِ فِي طَرَفَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَجَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ حَالِ كَمَالِ النِّصَابِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي صِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إلَى يَدِ الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلُ فِي يَدِ الْإِمَامِ قَائِمًا لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ لَمْ يَتِمَّ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُصَدِّقِ فِي الصَّدَقَةِ الْمُعَجَّلَةِ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي دَفْعِ الْمُعَجَّلِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَدَ الْفَقِيرِ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْبِضُ لَهُ فَلَمْ يَتِمَّ الصَّرْفُ فَلَمْ تَقَعْ صَدَقَةً أَصْلًا. وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اسْتَسْلَفَ الْإِمَامُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا أَهْلِ السُّهْمَانِ يُضْمَنُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ الْأَخْذُ وَأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي مَصْنُوعَهُ. وَلَوْ دَفَعَ الْإِمَامُ الْمُعَجَّلَ إلَى فَقِيرٍ فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَسْتَرِدُّهُ الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَوْنَ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَهُوَ لَيْسَ مَحَلَّ الصَّرْفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَقَعُ زَكَاةً إلَّا إذَا كَانَ يَسَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَصْلًا فَلَا يُقْطَعُ التَّبَعُ عَنْ أَصْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْغِنَى الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ ثُمَّ أَيْسَرَ. وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْفَقِيرِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَالَ لَهُ إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْفَقِيرُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَمَا إذَا لَمْ يَقُلْ إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَلَوْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَعَجَّلَ زَكَاةَ جِنْسٍ مِنْهَا ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ جَازَ الْمُعَجَّلُ عَنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ مَالٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضُمُّ الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي التَّعْجِيلِ لَغْوًا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ. وَهَذَا بِخِلَافِ السَّوَائِمِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ شَاةً عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْإِبِلُ أَنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يَجُوزُ عَنْ زَكَاةِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ صَحِيحَةً فَالتَّعْجِيلُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَقَعُ عَنْ الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْقِطُ وُجُوبَ النِّصَابِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: مِنْهَا هَلَاكُ
فصل زكاة الزروع والثمار
النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ. وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الرِّدَّةُ لَا تُسْقِطُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَإِذَا أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ أَنَّهُمَا قَادِرَانِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْأَدَاءُ كَذَا هَذَا، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا فَتَسْقُطُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ كَلَامٌ فَاسِدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا لِتَبَعِهِ وَجَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا مَوْتُ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ، أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُوصِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُوصِ تَسْقُطُ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، أَوْ النَّذْرُ، أَوْ الْكَفَّارَاتُ، أَوْ الصَّوْمُ، أَوْ الصَّلَاةُ، أَوْ النَّفَقَاتُ، أَوْ الْخَرَاجُ، أَوْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ. وَإِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ حَتَّى صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ، أَوْصَى بِالْأَدَاءِ لَا يَسْقُطُ وَيُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِاخْتِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ إمَّا بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأَمْرِهِ، أَوْ إنَابَتِهِ غَيْرَهُ فَيَقُومُ النَّائِبُ مَقَامَهُ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا بِيَدِ النَّائِبِ، وَإِذَا، أَوْصَى فَقَدْ أَنَابَ وَإِذَا لَمْ يُوصِ فَلَمْ يُنِبْ، فَلَوْ جَعَلَ الْوَارِثُ نَائِبًا عَنْهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ إنَابَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ إنَابَةً جَبْرِيَّةً وَالْجَبْرُ يُنَافِي الْعِبَادَةَ إذْ الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ جَبْرًا، وَلَوْ أَخَذَ لَا تَسْقُط عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَكَمَا ثَبَتَ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ جَمِيعًا فَإِذَا ثَبَتَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَعِنْدَهُ الزَّكَاةُ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفَقِيرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ وَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَيْهِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ أَدَّى الزَّكَاةَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْمُؤَدِّي وَهُوَ الْمَالِكُ وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ فَيَنْقَطِعُ حَوْلُهُ، وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ بَلْ هِيَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ نَفْسِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ إذْ الْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُورَثَ فِي عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمُورَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ فَرْضِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْفَرْضِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعُشْرُ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَكَاةَ الْحُبُوبِ لَا تُخْرَجُ يَوْمَ الْحَصَادِ بَلْ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ وَالْكَيْلِ لِيَظْهَرَ مِقْدَارُهَا فَيُخْرَجُ عُشْرُهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْعُشْرِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَآتُوا حَقَّهُ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ يَوْمَ حَصَادِهِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ فَكَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْحَقِّ لَا لِلْإِيتَاءِ. عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْخَضْرَاوَاتِ وَإِنَّمَا يُخْرَجُ الْحَقُّ مِنْهَا يَوْمَ الْحَصَادِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَلَا يُنْتَظَرُ شَيْءٌ آخَرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ
فصل كيفية فرضية زكاة الزروع والثمار
هَذَا الْحَقِّ غَيْرُ مُبَيَّنٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ ثُمَّ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» فَصَارَ مُفَسَّرًا كَذَا هَذَا. وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ لِلْأَغْنِيَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعُشْرِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ عُرِفَ مِقْدَارُ الْحَقِّ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُشْرِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْعُشْرِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْفَرَائِضِ وَمِنْ بَابِ تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ الذُّنُوبِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ فَعَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. [فَصْلٌ سَبَبُ فَرْضِيَّتِهِ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهِ فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ لِلْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، أَوْ تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ أَصَابَ الْخَارِجَ آفَةٌ فَهَلَكَ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَا الْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا. وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَتَمَكَّنَ مِنْ زِرَاعَتِهَا فَلَمْ تُزْرَعْ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ لِعَدَمِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ يَجِبُ الْخَرَاجُ لِوُجُودِ الْخَارِجِ تَقْدِيرًا وَلَوْ كَانَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ نَزَّةً، أَوْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الزِّرَاعَةُ، أَوْ سَبْخَةً، أَوْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا الْمَاءُ فَلَا خَرَاجَ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ فِيهِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ وَإِنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ، أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي وَجْهٍ فِيهِ خِلَافٌ أَمَّا الَّذِي يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجَّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ وَبَعْدَ النَّبَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَصَلَهُ هَكَذَا يَجِبُ الْعُشْرُ؟ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَأَمَّا الَّذِي فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ النَّبَاتِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ لَا الْخَارِجُ فَكَانَ تَعْجِيلًا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ سَبَبَ الْخُرُوجِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الزِّرَاعَةُ فَكَانَ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَيَجُوزُ. وَأَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الثِّمَارِ فَإِنْ عَجَّلَ بَعْدَ طُلُوعِهَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ عَجَّلَ قَبْلَ الطُّلُوعِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجَعَلَ الْأَشْجَارَ لِلثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِ لِلْحُبُوبِ وَهُنَاكَ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَذَا هَهُنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّجَرَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُ حَطَبٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ؟ فَأَمَّا سَاقُ الزَّرْعِ فَمَحَلٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ السَّاقَ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ يَجِبُ الْعُشْرُ. وَيَجُوز تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ لَا تَحْقِيقًا وَقَدْ وُجِدَ التَّمَكُّنُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ كَوْنُهُ ذِمِّيًّا وَقَدْ وُجِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّةِ زَكَاةِ الزُّرُوعِ] [الشَّرَائِط الْأَهْلِيَّة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَبَعْضُهَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ أَمَّا. شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ فَنَوْعَانِ:. أَحَدُهُمَا الْإِسْلَامُ وَأَنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ هَذَا الْحَقِّ فَلَا يُبْتَدَأُ بِهَذَا الْحَقِّ إلَّا عَلَى مُسْلِمٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا ابْتِدَاءً فَلَا يُبْتَدَأُ بِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَحَوَّلَ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ حَتَّى إنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ عُشْرَانِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَتَبَدَّلَ الْحَقُّ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَمَّا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْكَافِرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ يَكُونُ مُضَاعَفًا كَالْوَاجِبِ عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ الذِّمِّيُّ بِأَرْضِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يُضْرَبُ عَلَيْهَا فَضَرَبْنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَالْخَرَاجُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ كَمَا لَوْ جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ كَمَا اشْتَرَى صَارَتْ خَرَاجِيَّةً وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا سَوَاءٌ زَرَعَ، أَوْ لَمْ يَزْرَعْ كَذَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ رَجُلٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي عَلَى زَرْعِهَا فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعِ هَذَا الْعُشْرِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْوَاجِبِ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَةِ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَالًا مَأْخُوذًا مِنْ الْكَافِرِ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ. وَلَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَلَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ إذَا اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّغْيِيرِ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُسْلِمُ مِنْ ذِمِّيٍّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَأَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ فَفِيهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ فَكَانَ انْتِقَالًا مِنْ مُسْلِمٍ إلَى مُسْلِمٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَاسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ مِنْهُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ عَادَتْ إلَى الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ إذَا فُسِخَ يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَصْلِ وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَرْتَفِعُ بِأَحْكَامِهِ وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَعَلَى رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَحَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ زَائِدٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا فَمُنِعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ لِعَدَمِ حُدُوثِ الْعَيْبِ فَإِنْ رَدَّهَا بِرِضَا الْبَائِعِ لَا تَعُودُ عُشْرِيَّةً بَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِرِضَا الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ، وَالْأَرْضُ إذَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً لَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ. وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ مُؤْنَةٍ ضُرِبَتْ عَلَى أَرْضٍ أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِ الْمَالِكِ، وَفِقْهُهُ مَا ذَكَرْنَا وَهُمَا يَقُولَانِ الْأَصْلُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ إذَا وُجِدَ الْمُغَيِّرُ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا وَهُوَ قَضِيَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ، أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْعُشْرَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَغَيَّرُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا لِكَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا تَغْلِبِيًّا إذْ التَّضْعِيفُ يَخْتَصُّ بِهِمْ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ التَّضْعِيفُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا خَرَاجًا عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَتَفَرَّعُ التَّغَيُّرُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْبَيْعِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيَجِبُ عُشْرٌ وَاحِدٌ كَمَا كَانَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَشْرٌ وَاحِدٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي التَّغْلِبِيِّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ مِنْ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرَانِ فِي قَوْلِهِمْ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضَ عُشْرٍ فَبَاعَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ عَلَى التَّغْلِبِيِّ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ يَخْتَصُّ بِالتَّغْلَبِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَفْرُوضًا
وَنَعْنِي بِهِ سَبَبَ الْعِلْمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى يَجِبَ الْعُشْرُ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ؛ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ جَبْرًا وَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا لَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ يَقَعُ عِبَادَةً فَيَنَالُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ. وَإِذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ فِعْلِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَوَابُ ذَهَابِ مَالِهِ فِي وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ ثَوَابِ الْمَصَائِبِ كُرْهًا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ جَبْرًا وَإِنْ أُخِذَ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَالطَّعَامُ قَائِمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ. وَكَذَا مِلْكُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مِلْكُ الْخَارِجِ فَيَجِبُ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا وَهِيَ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ؛ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ لَا فِي الْأَرْضِ فَكَانَ مِلْكُ الْأَرْضِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَيَجِبُ فِي أَرْضِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ آجَرَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ فَعُشْرُ الْخَارِجِ عَلَى الْمُؤَاجَرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخَارِجَ لِلْمُؤَاجِرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ بَدَلَهُ وَهُوَ الْأُجْرَةُ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ بِنَفْسِهِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ قَابِلٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا الْخَارِجِ، وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُمَا وَالْخَارِجُ يُسَلَّمُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَارِجَ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ إنْ كَانَ عَيْنًا حَقِيقِيَّةً فَلَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ فَيُقَابِلُهُ الْأَجْرُ فَكَانَ الْخَارِجُ لِلْآجِرِ مَعْنًى فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ هَلَكَ الْخَارِجُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَصَادِ فَلَا عُشْرَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ وَيَجِبُ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُؤَاجِرِ عُشْرُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعُشْرُ بِهَلَاكِهِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَجْرُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ الْخَارِجُ وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ، أَوْ قَبْلَهُ هَلَكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُشْرِ. وَلَوْ أَعَارَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَالْعَشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَى الْمُعِيرِ وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُعِيرِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَ هِبَةَ الزَّرْعِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ صُورَةً وَمَعْنًى إذْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُعِيرِ فِي مُقَابِلَتِهَا عِوَضٌ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَلَوْ أَعَارَهَا مِنْ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُمَا فِي الْخَارِجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ دَفَعَهَا مُزَارِعَةً فَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَالْمُزَارِعَةُ جَائِزَةٌ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعُشْرُ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ وَلَوْ كَانَ يُجِيزُهَا كَانَ يَجِبُ عَلَى مَذْهَبِهِ جَمِيعُ الْعُشْرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ فِي حِصَّتِهِ جَمِيعَ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي عَيْنِهِ وَفِي حِصَّةِ الْمُزَارِعِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ غَصَبَ غَاصِبٌ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْعُشْرُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْخَارِجِ لَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ مَنْفَعَةٌ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ وَإِنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنْهُ وَعُشْرُ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا فِي الْخَارِجِ. وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَخَرَاجُهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا فِي الْغَصْبِ إذَا لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِب وَإِنْ نَقَصَتْهَا فَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: اُنْظُرْ إلَى نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ فَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى الْغَاصِبِ وَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ. وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ وَفِيهَا زَرْعٌ
فصل الشرائط المحلية
قَدْ أَدْرَكَ مَعَ زَرْعِهَا أَوْ بَاعَ الزَّرْعَ خَاصَّةً فَعُشْرُهُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْإِدْرَاكِ. وَلَوْ بَاعَهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَإِنْ قَصَلَهُ الْمُشْتَرِي لِلْحَالِ فَعُشْرُهُ عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فِي الْبَقْلِ بِالْقَصْلِ. وَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى أَدْرَكَ فَعُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِتَحَوُّلِ الْوُجُوبِ مِنْ السَّاقِ إلَى الْحَبِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: عُشْرُ قَدْرِ الْبَقْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَعُشْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الثِّمَارِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَكَذَا عَدَمُ الدَّيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ الشَّرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا الْعُشْرُ فَالْعُشْرُ مَعَ الْخَرَاجِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْتَمِعَانِ فَيَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ حَتَّى قَالَ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَلَا يَتَدَافَعَانِ أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْخَارِجُ حَتَّى لَا يَجِبُ بِدُونِهِ وَالْخَرَاجُ يَجِبُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ» ؛ وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَوُلَاةِ الْجَوْرِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَهِيَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا الْأَرْضُ النَّامِيَةُ أَنَّهُمَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ، يُقَالُ: خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِيهِمَا هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا وَعَطَّلَهَا يَجِبُ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ النَّمَاءِ كَانَ لِتَقْصِيرٍ مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَوَاتُ لَا بِتَقْصِيرِهِ بِأَنْ هَلَكَ لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْعُشْرُ بِدُونِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ، أَوْ الْخَرَاجَ وَلَا تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ، أَوْ الْخَرَاجُ وَالزَّكَاةُ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْحَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُضَافُ الْكُلُّ إلَيْهَا؟ يُقَالُ: عُشْرِ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَزَكَاةُ الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ لَا يَجِبُ فِيهَا حَقَّانِ مِنْهَا بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ مَعَ التِّجَارَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ فَإِيجَابُ الْعُشْرِ، أَوْ الْخَرَاجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَعَمُّ وُجُوبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِعُذْرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ، وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهِ فَكَانَ إيجَابُهُمَا أَوْلَى. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ عُشْرِيَّةً مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعُشْرِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ نَوْعَانِ: عُشْرِيَّةٌ وَخَرَاجِيَّةٌ، أَمَّا الْعُشْرِيَّةُ فَمِنْهَا أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَرْضُ الْعَرَبِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَعَدَنَ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حِجْرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْبَرِّيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَرْضَ عُشْرٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ خَرَاجًا فَدَلَّ أَنَّهَا عُشْرِيَّةٌ إذْ الْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ إحْدَى الْمُؤْنَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يُشْبِهُ الْفَيْءَ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي رِقَابِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ لَا تَخْلُوَ عَنْ مُؤْنَةٍ إمَّا الْعُشْرُ وَإِمَّا الْخَرَاجُ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْعُشْرِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ وَمِنْهَا دَارُ الْمُسْلِمِ إذَا اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْعُشْرِ
فَإِنْ كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهُوَ خَرَاجِيٌّ. وَأَمَّا مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عَشْرِيَّة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ بِبِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا، أَوْ بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْأَعَاجِمِ مِثْلَ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخَرَاجَ لَا يُبْتَدَأُ بِأَرْضِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الصَّغَارِ كَالْفَيْءِ إلَّا إذَا الْتَزَمَهُ فَإِذَا اسْتَنْبَطَ عَيْنًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَلَمْ يَلْتَزِمْ الْخَرَاجَ فَلَا يُوضَعُ عَلَيْهِ وَإِذَا أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَيْءِ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ الْخَرَاجِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ كَحَرِيمِ الدَّارِ مِنْ تَوَابِعِ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا فِي حَيِّزِ الْقَرْيَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْقَرْيَةِ فَكَانَ حَقًّا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْبَصْرَةُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَيْثُ وَضَعُوا عَلَيْهِ الْعُشْرَ. وَأَمَّا الْخَرَاجِيَّةُ فَمِنْهَا الْأَرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَمَنَّ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهَا فِي يَدِ أَرْبَابِهَا فَإِنَّهُ يَضَعُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ أَسْلَمُوا، أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَأَرْضُ السَّوَادِ كُلُّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ وَاحِدٍ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانِ وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا فَتَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَأَنْفَذَ عَلَيْهَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَمَسَحَاهَا وَوَضَعَا عَلَيْهِ الْخَرَاجَ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْخَرَاجِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنْ الْعُشْرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَتُرِكَتْ عَلَى أَهْلِهَا وَلَمْ تُقْسَمْ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ لَمْ يَضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَصَارَتْ مَكَّةُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ. وَكَذَا إذَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ مِنْ جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ عَلَى وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّنَانِيرِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ نَصَارَى بَنِي نَجْرَانَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرَاضِيِهِمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ» وَفِي رِوَايَةِ «عَلَى أَلْفَيْ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ» تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي وَقْتَيْنِ لِكُلِّ سَنَةٍ نِصْفُهَا فِي رَجَبَ وَنِصْفُهَا فِي الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا إذَا أَجْلَاهُمْ وَنَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِينَ. وَمِنْهَا أَرْضُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا وَذَلِكَ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغْيِيرِ حَالِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِيِّ وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الَّتِي أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُ وَهِيَ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَمَاءُ الْخَرَاجِ هُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ الَّتِي حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي، وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْقَنَوَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَاءُ الْعُشْرِ هُوَ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي كَسَيْحُونٍ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِيَاهَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ خَرَاجِيَّةٌ لَإِمْكَانِ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَدِّ السُّفُنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ شِبْهَ الْقَنْطَرَةِ. وَمِنْهَا أَرْضُ الْمَوَاتِ الَّتِي أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ وَأَرْضُ الْغَنِيمَةِ الَّتِي رَضَخَهَا الْإِمَامُ لِذِمِّيٍّ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَارُ الذِّمِّيِّ الَّتِي اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا، أَوْ كَرْمًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ابْتِدَاءِ ضَرْبِ الْمُؤْنَةِ عَلَى أَرْضِ الْكَافِرِ الْخَرَاجُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا. وَمِنْهَا أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْمَحَلِّيَّةِ وُجُودُ الْخَارِجِ حَتَّى أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَلَا خَارِجَ مُحَالٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ وَتُسْتَغَلُّ الْأَرْضُ بِهِ عَادَةً فَلَا عُشْرَ فِي الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسْتَنْمَى بِهَا الْأَرْضِ وَلَا تُسْتَغَلُّ بِهَا عَادَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْمُو بِهَا بَلْ تَفْسُدُ فَلَمْ تَكُنْ نَمَاءَ الْأَرْضِ حَتَّى قَالُوا فِي الْأَرْضِ: إذَا اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً وَفِي شَجَرِهِ الْخِلَافُ، الَّتِي تُقْطَعُ فِي كُلِّ ثَلَاثِ سِنِينَ، أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَّةٌ وَافِرَةٌ وَيَجِبُ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَقَصَبِ الذَّرِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بِهِمَا نَمَاءُ الْأَرْضِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ فَأَمَّا كَوْنُ
الْخَارِجِ مِمَّا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْخَضْرَاوَاتُ كَالْبُقُولِ وَالرِّطَابِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَنَحْوِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْحُبُوبِ وَمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» . وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَأَحَقُّ مَا تَتَنَاوَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْخَضْرَاوَاتِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْرَجَةُ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُخْرَجَةٍ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أَيْ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي أَخْرَجْنَا لَكُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] أَيْ أَنْزَلْنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ وَهُوَ الْمَاءُ لَا عَيْنَ اللِّبَاسِ إذْ اللِّبَاسُ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] أَيْ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا هَذَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ قَامَ دَلِيلُ الْعُدُولِ هُنَاكَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْأَرْضِ وَالْإِنْبَاتَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] ؟ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبَاتِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحُبُوبِ وقَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْحَصَادُ الْقَطْعُ وَأَحَقُّ مَا يُحْمَلُ الْحَقُّ عَلَيْهِ الْخَضْرَاوَاتُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَجِبُ إيتَاءُ الْحَقِّ مِنْهَا يَوْمَ الْقَطْعِ. وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيَتَأَخَّرُ الْإِيتَاءُ فِيهَا إلَى وَقْتِ التَّنْقِيَةِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ وَالنَّمَاءُ بِالْخُضَرِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ رِيعَهَا، أَوْفَرُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَغَرِيبٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِمِثْلِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ بَلْ أَرْبَابُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَ هَذَا نَفْيَ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَا النِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كَثِيرِ الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ إذَا كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ جُمْلَتُهَا نِصْفُ مَنٍّ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْنَانٍ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ مَنٍّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَاحْتَجَّا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَإِنْ قِيلَ مَا تَلَوْتُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْتُمْ مِنْ السُّنَّةِ يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمِقْدَارِ الْمُوجَبِ مِنْهُ وَمَا رَوَيْنَا يَقْتَضِي الْمِقْدَارَ فَكَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، وَالْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَمَا لَا يَدْخُلُ وَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ خَبَرِ الْمِقْدَارِ خَاصٌّ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَلَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِلْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِي الْبَيَانُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْبَيَانِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الصَّدَقَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَنَّ مَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ تَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ يَحْتَمِلُ الزَّكَاةَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ نَذْكُرُ فُرُوعَ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي فَصْلَيْ الْخِلَافِ وَمَا فِيهِ
مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَالْوِفَاقِ فَنَقُولُ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعِنَبِ؛ لِأَنَّ الْمُجَفَّفَ مِنْهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ وَهُوَ الزَّبِيبُ فَيُخْرَصُ الْعِنَبُ جَافًّا، فَإِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ مَا يَجِيءُ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ، أَوْسُقٍ يَجِبُ فِي عِنَبِهِ الْعُشْرُ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِنَبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا يَصْلُحُ لِلْمَاءِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْجَفَافِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ إذَا كَانَ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بِالتَّجْفِيفِ أَنَّهُ يُخْرَصُ ذَلِكَ جَافًّا فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا كَالتِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُفِّفَتْ تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَكَانَتْ كَالزَّبِيبِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا عُشْرَ فِي التِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالْخَرُّوبِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْضُهَا بِالتَّجْفِيفِ وَبَعْضُهَا بِالتَّشْقِيقِ وَالتَّجْفِيفِ فَالِانْتِفَاعُ بِهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً وَيَجِبُ الْعُشْرَ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ وَيَغْلِبُ الِانْتِفَاعُ بِالْجَافِّ مِنْهَا فَأَشْبَهَتْ الزَّبِيبَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْبَصَلِ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى السَّنَةِ وَيَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ وَلَا عُشْرَ فِي الْآسِ وَالْوَرْدِ وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرَّيَاحِينِ وَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا. وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ الْعُشْرُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا عُشْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ فَأَشْبَهَ الْآسَ وَالْوَرْدَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً بِخِلَافِ الْآسِ وَالْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ إذَا بَلَغَ الْقُرْطُمُ وَالْحَبُّ خَمْسَةَ، أَوْسُقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ زِرَاعَتِهَا الْحَبُّ، وَالْحَبُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ الْعُشْرُ، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَقَالَا فِي بِزْرِ الْقُنْبِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُقْصَدُ بِالزِّرَاعَةِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ عَامٌّ وَلَا شَيْءَ فِي الْقُنْبِ؛ لِأَنَّهُ لِحَاءُ الشَّجَرِ فَأَشْبَهَ لِحَاءَ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا عُشْرَ فِيهِ فَكَذَا فِيهِ. وَقَالَا فِي حَبِّ الصَّنَوْبَرِ إذَا بَلَغَ الْأَوْسُقَ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الِادِّخَارَ وَلَا شَيْءَ فِي خَشَبِهِ كَمَا لَا شَيْءَ فِي خَشَبِ سَائِرِ الشَّجَرِ، وَيَجِبُ فِي الْكَرَوْيَا وَالْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْخَرْدَلِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجِبُ فِي السَّعْتَرِ وَالشُّونِيزِ وَالْحُلْبَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ فَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَقَصَبُ السُّكَّرِ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ فَإِذَا بَلَغَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا، وَلَا شَيْءَ فِي الْبَلُّوطِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ بِهِ، وَلَا عُشْرَ فِي بِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالرُّطَبَةِ وَكُلِّ بِزْرٍ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهَا نَفْسُهَا بَلْ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَذَا لَا عُشْرَ فِيهِ عِنْدَهُمَا. وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِهِمَا مَا إذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، أَوْ يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ جِنْسٍ بِانْفِرَادِهِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مَا إذَا أَخْرَجَتْ نَوْعَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ نَوْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَالْحَمْرَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخِرِ سَوَاءٌ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَيُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ، وَإِنْ كَانَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ، وَإِنْ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَتَعَيَّنَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ الْغَلَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تُضَمُّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا لَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تُضَمُّ وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْإِدْرَاكِ أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي مَكَان وَاحِدٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُمَا وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْخَارِجِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ. وَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُمَا فِي، أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَنْفَعَتُهُمَا فَكَانَا كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا كَالدَّرَاهِمِ السُّودِ وَالْبِيضِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ النَّوْعُ مُخْتَلِفًا. فَأَمَّا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّفَاضُلُ فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الضَّمِّ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُوسُف إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ فِي رَسَاتِيقَ مُخْتَلِفَةٍ وَالْعَامِلُ وَاحِدٌ ضَمَّ الْخَارِجَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ
وَكَمَّلَ الْأَوْسُقَ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْعَامِلِينَ مُطَالَبَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي فِي عَمَلِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا اتَّفَقَ الْمَالِكُ ضُمَّ الْخَارِجُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَرْضُونَ وَالْعُمَّالُ وَهَذَا لَا يُحَقِّقُ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَابَ فِي غَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْمَالِكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى الْمَالِكِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُخَاطَبٌ بِالْأَدَاءِ لِاجْتِمَاعِ النِّصَابِ فِي مِلْكِهِ وَإِنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُطَالَبَةِ الْعَامِلِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِهِمَا الْأَرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا أَخْرَجَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَأَرْضِ الْمَأْذُونِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَمَالُ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَقَدْ وُجِدَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْأَوْسُقِ عِنْدَهُمَا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةُ الْخَارِجِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَالْقُطْنُ يُعْتَبَرُ بِالْأَحْمَالِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَحْمَالٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَيُعْتَبَرُ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَثَمِائَةِ مَنٍّ فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ مَنٍّ، وَالزَّعْفَرَانُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْنَانِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَمْنَانٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ فِي السُّكَّرِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ فِي الْمَوْسُوقَاتِ لِكَوْنِ الْوَسْقِ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي بَابِهِ وَأَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْسُوقِ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اعْتِبَارُ الْوَسْقِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ صُورَةً وَمَعْنًى يُعْتَبَرُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَعْنًى وَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْسُوقِ. وَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأَوْسُقِ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قَدْرَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ الْعَسَلَ لَا يُكَالُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِعَشْرَةِ أَرْطَالٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ خَمْسَ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسُونَ مَنًّا، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرْقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنًّا فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ تِسْعِينَ مَنًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ خَمْسَةِ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ فِي نِصَابِ الْعَسَلِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَ قِرَبٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَةَ أَمْنَانٍ فِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا عُشْرَ فِيهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ لَمْ يَثْبُتْ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ فَلَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ نَامِيَةً بِهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي نَحْلًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَدِّ عُشْرَهَا فَقَالَ أَبُو سَيَّارَةَ احْمِهَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَاهَا لَهُ؟» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ بَطْنًا مِنْ فِهْرٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَخْلٍ لَهُمْ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يُحْمَى لَهُمْ وَادِيَيْنِ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا: إنَّمَا كَانَ شَيْئًا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَتَبَ ذَلِكَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا النَّخْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحْمِ لَهُ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَأَدَّوْا إلَيْهِ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ
فصل بيان مقدار الواجب من العشر
يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فَنَقُولُ هُوَ مُلْحَقٌ بِنَمَائِهَا لِاعْتِبَارِ النَّاسِ إعْدَادَ الْأَرْضِ لَهَا وَلِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ أَنْوَارِ الشَّجَرِ فَكَانَ كَالثَّمَرِ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ أَزْهَارِ الشَّجَرِ وَلَا شَيْءَ فِي ثِمَارِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَلِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ فَلَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ لَاجْتَمَعَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا، وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنَّمَاءِ وَيَجْرِي مَجْرَى الثِّمَارِ، وَالنِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ الْعُشْرَ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومَاتُ الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْخَارِجِ شَرْطٌ وَلَمَّا أَخَذَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَرْضِهِ. وَالْحَوْلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ الْعُشْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ حَقِيقَةً فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ. وَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَارِجِ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ بَلْ فِي الذِّمَّةِ عُرِفَ ذَلِكَ بِتَوْظِيفِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا وَظَّفَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. [فَصْلٌ بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الْعَشْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْعُشْرِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ عُشْرٌ كَامِلٌ، وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، أَوْ الْعَيْنُ، أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتِهَا وَلَوْ سُقِيَ الزَّرْعُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ سَيْحًا وَفِي بَعْضِهَا بِآلَةٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي السَّوْمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْغَلَّةِ مِنْ سَقْيٍ، أَوْ عِمَارَةٍ، أَوْ أَجْرِ الْحَافِظِ، أَوْ أَجْرِ الْعُمَّالِ، أَوْ نَفَقَةِ الْبَقَرِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، أَوْجَبَ الْعُشْرَ وَنِصْفَ الْعُشْرِ مُطْلَقًا عَنْ احْتِسَابِ هَذِهِ الْمُؤَنِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ الْحَقَّ عَلَى التَّفَاوُتِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤَنِ وَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤَنُ لَارْتَفَعَ التَّفَاوُتُ. [بَيَان المقدار الواجب مِنْ الخراج] وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ نَوْعَانِ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ أَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَمَا وَظَّفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِي كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا وَدِرْهَمُ الْقَفِيزِ صَاعٌ وَالدِّرْهَمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَالْجَرِيبُ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ كِسْرَى يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَصَبَةٍ وَفِي جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ هَكَذَا وَظَّفَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا. وَأَمَّا جَرِيبُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ النَّخِيلُ مُلْتَفَّةً جَعَلْت عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْأَرْضِ الَّتِي يُتَّخَذُ فِيهَا الزَّعْفَرَانُ قَدْرُ مَا تُطِيقُ فَيُنْظَرُ إلَى غَلَّتِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الرُّطَبَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا مَسَحَا سَوَادَ الْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَضَعَا عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا: بَلْ حَمَّلْنَا مَا تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ؟ فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَبْنَى
فصل صفة الواجب
الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ فَيُقَدَّرُ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ فَيُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَقَالُوا: نِهَايَةُ الطَّاقَةِ قَدْرُ نِصْفِ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ أَرْضُ زَعْفَرَانٍ فَزَرَعَ مَكَانَهُ الْحُبُوبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ: إنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَ حَيْثُ لَمْ يَزْرَعْ الزَّعْفَرَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطَّلَ الْأَرْضَ فَلَمْ يَزْرَعْ فِيهَا شَيْئًا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ كَذَا هَذَا. وَكَذَا إذَا قَطَعَ كَرْمَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَزَرَعَ فِيهِ الْحُبُوبَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الْكَرْمِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ قَدْرَ الْخَرَاجِ لَا غَيْرَ يُؤْخَذُ نِصْفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَخْرَجَتْ مِثْلَيْ الْخَرَاجِ فَصَاعِدًا يُؤْخَذُ جَمِيعُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُطِيقُ قَدْرَ خَرَاجِهَا الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا يَنْقُضُ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا تُطِيقُ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَوْضُوعِ أَنَّهُ هَلْ تُزَادُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُزَادُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُزَادُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُوَظَّفِ إذَا كَانَتْ تُطِيقُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الطَّاقَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْقَدْرُ الْمَوْضُوعُ مِنْ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ مَنْصُوصٌ وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ. وَأَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَفْتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً فَيَمُنَّ عَلَى أَهْلِهَا وَيَجْعَلَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْخَارِجِ، أَوْ ثُلُثُهُ، أَوْ رُبُعُهُ وَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فَعَلَ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْخَرَاجِ حُكْمَ الْعُشْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ إلَّا أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صِفَةُ الْوَاجِبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَالْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ عُشْرُ الْخَارِجِ، أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ وَذَلِكَ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ قِيمَتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْجُزْءِ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَفْعِ الْقِيَمِ وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ وَقْتُ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَوَقْتُ الْوُجُوبِ وَقْتُ خُرُوجِ الزَّرْعِ وَظُهُورِ الثَّمَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتُ الْإِدْرَاكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتُ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الثَّمَرُ قَدْ حُصِدَ فِي الْحَظِيرَةِ وَذُرِّيَ الْبُرُّ وَكَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ثُمَّ ذَهَبَ بَعْضُهُ كَانَ فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ الْعُشْرُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ هُوَ وَقْتُ التَّصْفِيَةِ فِي الزَّرْعِ وَوَقْتُ الْجُذَاذِ فِي الثَّمَرِ، هُوَ يَقُولُ: تِلْكَ الْحَالُ هِيَ حَالُ تَنَاهِي عِظَمِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهَا فَكَانَتْ هِيَ حَالَ الْوُجُوبِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَيَوْمُ حَصَادِهِ هُوَ يَوْمُ إدْرَاكِهِ فَكَانَ هُوَ وَقْتَ الْوُجُوبِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهُ كَمَا خَرَجَ حُصِّلَ مُشْتَرَكًا كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] جَعَلَ الْخَارِجَ لِلْكُلِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَإِذَا عَرَفْتَ وَقْتَ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ فَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُضْمَنُ عُشْرُهُ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُضْمَنُ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ وَفِي الْهَلَاكِ أَيْضًا فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِالْهَالِكِ فَمَا هَلَكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَمَا هَلَكَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُعْتَبَرُ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ الزَّرْعَ أَوْ الثَّمَرَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ حَتَّى ضُمِّنَ أَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الْمُتْلِفِ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ وَأَدَّى عُشْرَهُ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَدَّى قَدْرَ عُشْرِ الْمُتْلَفِ مِنْ ضَمَانِهِ وَمَا بَقِيَ فَعُشْرُهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ أَكَلَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ قُدِّرَ عُشْرُ مَا أَتْلَفَ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ الْبَاقِي يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ وَالظُّهُورِ فَكَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ عُشْرَ الْمُتْلَفِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَلَا عُشْرَ فِي الْهَالِكِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ هَلَكَ كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ لَا يُضْمَنُ
بِالْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا لَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي عِنْدَهُمَا بَلْ إنْ بَلَغَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا هَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ، أَوْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ، فَإِنْ هَلَكَ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَبَقِيَ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ، قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ نِصَابُ الْبَاقِي بِالْهَالِكِ، وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِي تَمَامِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ بَلْ يُعْتَبَرُ التَّمَامُ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَا فَلَا، وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ: فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَقَدْرُ عُشْرِ الْمُسْتَهْلَكِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَعُشْرُ الْبَاقِي فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أُخِذَ الضَّمَانُ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أُخِذَ ضَمَانُهُ وَأَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ وَعُشْرَ الْبَاقِي مِنْهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَكَلَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الثَّمَرِ، أَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَعُشْرُ مَا بَقِيَ يَكُونُ فِيهِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا أَكَلَ، أَوْ أَطْعَمَ بِالْمَعْرُوفِ لَا يَضْمَنُ عُشْرَهُ لَكِنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ الْكُلُّ نِصَابًا أَدَّى عُشْرَ مَا بَقِيَ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبُعَ» . وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعَثَ أَبَا خَيْثَمَةَ خَارِصًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ زَادَ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ زِدْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَمَا يُصِيبُ الرِّيحُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَرِيَّةِ الصَّدَقَةُ أَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْخَرْصِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِي الْمَالِ عَرِيَّةً وَوَصِيَّةً فَلَوْ ضَمِنَ عُشْرَ مَا تَصَدَّقَ، أَوْ أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّخْفِيفُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ الْعُشْرِ وَفِيهِ حَرَجٌ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَفِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ ضَرَرٌ بِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي كُلِّ خَارِجٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]
فصل بيان ركن إخراج العشر وشرائط الركن
أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَأْكُولِ أَفْضَلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُؤْكَلُ وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَازِمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الْقَطْعُ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ وَأُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مَأْكُولًا أَوَبَاقِيًا عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ إيتَاءُ حَقِّهِ يَوْمَ حَصَادِهِ لَكِنْ مَا حَقُّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ عَنْ الْبَاقِي فَحَسْبُ أَمْ عَنْ الْبَاقِي وَالْمَأْكُولِ؟ وَالْآيَةُ لَا تَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] فَائِدَةٌ، فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى مَا قُلْتُمْ وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ الْكَفَرَةِ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِجَعْلِهَا لِلْأَصْنَامِ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] أَيْ انْتَفِعُوا بِهَا وَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالصَّرْفِ إلَى الْأَصْنَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهَا وَرَدَتْ قَبْلَ حَدِيثِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ رُكْنِ إخْرَاجِ الْعُشْرِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ هَذَا النَّوْعِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ، أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَلَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ رَأْسًا مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَإِنَّنَا ذَكَرْنَاهَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَلَا مَعْنًى لِلْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا هَلَاكُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِمَا فِيهِ كَهَلَاكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَيُؤَدَّى عُشْرُ الْبَاقِي قَلَّ الْبَاقِي، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ قَدْرِ النِّصَابِ إنْ بَلَغَ نِصَابًا يُؤَدَّى وَإِلَّا فَلَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ قَدْرِ الْهَالِكِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أَخَذَ الضَّمَانَ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الضَّمَانِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ الْبَعْضُ بِأَنْ أَكَلَهُ ضِمْنَ عُشْرِ الْهَالِكِ وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ. وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهَا مَوْتُ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ إذَا كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤَدَّى الْعُشْرُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ] (فَصْلٌ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ مَا فِيهِ الْخُمُسُ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا لَا خُمُسَ فِيهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ أَخْذِ الْخُمُسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى كَنْزًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي يُسَمَّى مَعْدِنًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلْمَعْدِنِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِلْكَنْزِ مَجَازًا. أَمَّا الْكَنْزُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَارِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَالْمُصْحَفِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَامَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهَا الصَّنَمُ، أَوْ الصَّلِيبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ لَا عَلَامَةَ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ كَالْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُغْنَمُ إلَّا أَنَّهُ مَالٌ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ كَالْمَعْدِنِ عَلَى مَا بُيِّنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ فِي زَمَانِنَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ مَالِ الْكَفَرَةِ بَلْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا بِوَضْعِ الْكَفَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَنْزِ فَقَالَ: فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَهُوَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا، أَوْ صَغِيرًا؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَاجِدٍ وَوَاجِدٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ؟ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَاَلَّذِي مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ
فَقَدْ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مَالُ الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ فَيُخَمَّسُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هِيَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ إنْ كَانَ حَيًّا وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إنْ عُرِفُوا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ وَلَا وَرَثَتُهُ تَكُون لِأَقْصَى مَالِكٍ لِلْأَرْضِ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ مَا وَصَلَتْ إلَيْهَا يَدُ الْغَانِمِينَ وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُ الْوَاجِدِ لَا غَيْرُ فَيَكُونُ غَنِيمَةً يُوجِبُ الْخُمُسَ، وَاخْتِصَاصُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ إنَّمَا مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا وُجِدَ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْغَانِمِينَ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ كَمَا وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَرَدَ عَلَى مَا فِيهَا فَمَلَكَ مَا فِيهَا وَبِالْبَيْعِ لَا يَزُولُ مَا فِيهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ زَوَالَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، وَالْبَيْعُ وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ لَا عَلَى مَا فِيهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا تَبَعًا لَهَا فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْخُطَّةِ وَكَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ وَصَارَ هَذَا كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً كَانَتْ ابْتَلَعَتْ لُؤْلُؤَةً، أَوْ اصْطَادَ طَائِرًا كَانَ قَدْ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً أَنَّهُ يَمْلِكُ الْكُلَّ، وَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ، أَوْ الطَّائِرَ لَا تَزُولُ اللُّؤْلُؤَةُ وَالْجَوْهَرَةُ عَنْ مِلْكِهِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى السَّمَكَةِ وَالطَّيْرِ دُونَ اللُّؤْلُؤَةِ وَالْجَوْهَرَةِ كَذَا هَذَا فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ إيَّاهُ الْأَرْضَ؟ وَالْإِمَامُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ جَوْرًا فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ الْجَوْرَ فِي الْقِسْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا الْأَرْضَ فَبَقِيَ الْكَنْزُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا رَقَبَةَ الْأَرْضِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْأَرْضَ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وُجُوبِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ حَتَّى يَسْقُطَ الْخُمُسُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَالثَّانِي أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُسَاوَاةِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْقِسْمَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ هَذَا إذَا وَجَدَ الْكَنْزَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلَا خُمُسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَخَذَهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِانْعِدَامِ غَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ الْكُلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ، أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ يَظْهَرُ فِي الْمَمْلُوكِ لَا فِي الْمُبَاحِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِبَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ لِتَمَكُّنِ خُبْثِ الْخِيَانَةِ فِيهِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْ كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَلِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُولِ الْأَخْذِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، أَوْ فِي دَارِ نَفْسِهِ فَفِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ وَجَدَ فِيهِ الْمُؤْنَةَ وَهُوَ الْخُمُسُ لَمْ يَصِرْ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ إلَيْهِ يَدُ الْخُصُوصِ وَهِيَ يَدُ الْمُخْتَطِّ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ كَالْمَعْدِنِ إلَّا أَنَّ الْمَعْدِنَ انْتَقَلَ بِالْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَالْكَنْزُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَالدُّرَّةَ لِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا فَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ الدُّرَّةُ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَالْمُخْتَطُّ لَهُ مَنْ
خَصَّهُ الْإِمَامُ بِتَمْلِيكِ الْبُقْعَةِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ لَهُ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْمَعْدِنُ فَالْخَارِجُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: مُسْتَجْسِدٌ وَمَائِعٌ، وَالْمُسْتَجْسِدُ مِنْهُ نَوْعَانِ أَيْضًا: نَوْعٌ يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَوْعٌ لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْكُحْلِ وَالْمَغْرَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَائِعُ نَوْعٌ آخَرُ كَالنَّفْطِ وَالْقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَالْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إلَّا الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فَإِنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ الْكُلُّ إلَّا إذَا قَاطَعَهُ الْإِمَامُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ حَتَّى شَرَطَ فِيهِ النِّصَابَ فَلَمْ يُوجِبْ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَشَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْحَوْلَ أَيْضًا. وَأَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوَاجِبُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ فِي الْكُلِّ لَا يُشْتَرَطُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَرَائِطُ الزَّكَاةِ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا فِي الْغَنَائِمِ. وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَلَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَلِيلَةَ وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا رُبُعَ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا الْعُشْرُ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِرُبُعِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْكَنْزِ مَجَازًا لِدَلَائِلَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَمَا فِي الْمَعْدِنِ هُوَ الْمُثَبَّتُ فِي الْأَرْضِ لَا الْكَنْزُ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مُجَاوِرًا لِلْأَرْضِ، وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ الْكَنْزِ الْعَادِيِّ، فَقَالَ: فِيهِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» عَطَفَ الرِّكَازَ عَلَى الْكَنْزِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَعْدِنُ، وَالثَّالِثُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ «الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْقَلِيبُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قِيلَ: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً فَقَدْ، أَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمُسَ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْخُمُسُ فِي الْكُلِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ زَالَتْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْجِبَالِ، وَالْمَفَاوِزِ فَبَقِيَ مَا تِحَتَهَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ كَمَا فِي الْكَنْزِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى رُبُعِ الْعُشْرِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَاجَتِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ. وَأَمَّا مَا لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّ الزِّرْنِيخَ، وَالْجِصَّ، وَالنُّورَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَكَانَ كَالتُّرَابِ، وَالْيَاقُوتَ، وَالْفُصُوصَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهَا أَحْجَارٌ مُضِيئَةٌ وَلَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ. وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ، وَالنَّفْطِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيَكُونُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. وَأَمَّا الزِّئْبَقُ فَفِيهِ الْخُمُسُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا خُمُسَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الزِّئْبَقِ فَقَالَ: لَا خُمُسَ فِيهِ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ مِثْلُ الرَّصَاصِ، وَالْحَدِيدِ ثُمَّ بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِيرِ، وَالنَّفْطِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْمَاءَ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ إنْ كَانَ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْفِضَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ بِنَفْسِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ تَنْطَبِعُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ يُخَالِطُهَا مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ آنُكِ وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَذَا هَذَا إذَا وُجِدَ الْمَعْدِنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ دَارٍ، أَوْ مَنْزِلٍ، أَوْ حَانُوتٍ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ
فصل أما بيان ما يوضع في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها
الْأَخْمَاسِ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ وَحْدَهُ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ تَوَابِعِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ فِيهَا وَمِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؟ فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُخْتَطُّ لَهُ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ مَلَكَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَتَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِتَوَابِعِهَا أَيْضًا بِخِلَافِ الْكَنْزِ عَلَى مَا مَرَّ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا خُمُسَ فِيهِ فِي الدَّارِ وَفِي الْأَرْضِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ وَذَكَرَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ فِي الْأَرْضِ، وَالدَّارِ جَمِيعًا إذَا كَانَ الْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَلَكَ الْأَرْضَ مِنْ مِلْكِهِ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَعْدِنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ، وَالْإِمَامُ مَلَكَهُ مُطْلَقًا عَنْ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ كَذَلِكَ وَلِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ الْكُلُّ لِلْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ مَعَ الْخُمُسِ إذَا عُلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْدَفِعُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ جَازَ؟ وَإِذَا مَلَكَهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ مُطْلَقًا عَنْ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ. وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّارِ، وَالْأَرْضِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ تَمْلِيكَ الْإِمَامِ الدَّارَ جُعِلَ مُطْلَقًا عَنْ الْحُقُوقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَلَا الْخَرَاجُ؟ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ تَمْلِيكَهَا وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِهَا الْعُشْرُ، أَوْ الْخَرَاجُ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْخُمُسُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، هَذَا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ رُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ كَمَا فِي الْكَنْزِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ. فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُلِّ حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ لِلْوَاجِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ وُجِدَتْ، مَا فِيهَا قَالَ: فِيهَا الْخُمُسُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعْدِنِ فَكَذَا فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِجَمْعِهِمَا وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ مَالًا مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ إذْ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ انْتَزَعْنَاهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَلِأَنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ، وَالْعَنْبَرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إنْ اسْتَخْرَجَ مِنْ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا. وَقِيلَ فِي الْعَنْبَرِ: إنَّهُ مَائِعٌ نَبَعَ فَأَشْبَهَ الْقِيرَ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَوْثٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَرْوَاثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي اللُّؤْلُؤِ، وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ مَالًا مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ، وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَبَيَانُ مَصَارِفِ الْخُمُسِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ السِّيَرِ وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ بِأَنْ كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ الْخُمُسِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْخُمُسَ لِلْوَاجِدِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ جَازَ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَانِيًا بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ، وَالْعُشْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَمَّا بَيَانُ مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا زَكَاةُ السَّوَائِمِ، وَالْعُشُورِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي خُمُسُ الْغَنَائِمِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالرِّكَازِ، وَالثَّالِثِ خَرَاجُ الْأَرَاضِي وَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ وَمَا صُولِحَ عَلَيْهِ بَنُو نَجْرَانَ مِنْ الْحُلَلِ وَبَنُو تَغْلِبَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالرَّابِعُ مَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلًا، أَوْ تَرَكَ زَوْجًا، أَوْ زَوْجَةً. وَأَمَّا مَصَارِفُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ
فصل الزكاة الواجبة
فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ خُمُسُ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ فَنَذْكُرُ مَصْرِفَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْدُ الطُّرُقِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا. وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَيُصْرَفُ إلَى دَوَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَرْضَى وَعِلَاجِهِمْ، وَإِلَى أَكْفَانِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَإِلَى نَفَقَةِ اللَّقِيطِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ، وَإِلَى نَفَقَةِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الْإِمَامِ صَرْفُ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَهِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَنْهُ، وَفِي بَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَهِيَ شَرَائِطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا مَا رُوِيَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: فِي خُطْبَتِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» أَمَرَ بِالْأَدَاءِ وَمُطْلَقِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا سَمَّيْنَا هَذَا النَّوْعَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلُزُومُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا رُوِيَ فِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَرَضَ أَيْ قَدَّرَ أَدَاءَ الْفِطْرِ، وَالْفَرْضُ فِي اللُّغَة التَّقْدِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَيْ قَدَّرْتُمْ، وَيُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِمَعْنَى قَدَّرَهَا فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِالْمَذْكُورِ لَا الْإِيجَابِ قَطْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ وُجُوب صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجِبُ وُجُوبًا مُضَيَّقًا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي الْعُمُرِ كَالزَّكَاةِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَلَا يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ. [فَصْلٌ شَرَائِطِ وُجُوبِ صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَإِنَّهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَلَا تَجِبُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى أَدَائِهِ فِي الْحَالِ، وَفِي الثَّانِي تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهَا الْمُوَلَّى عَنْهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْأَدَاءِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُكَلَّفُ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا سَبِيلَ إلَى أَدَائِهِ رَأْسًا مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْغَنِيِّ إذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلِيُّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ؟ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ. وَمِنْهَا الْغِنَى فَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا الْغِنَى وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ مَطْهَرَةً لِلصَّائِمِ وَمَعْنَى الْمَطْهَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى، وَالْفَقْرِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» . وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْغِنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ، ثُمَّ الْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ بَقَاءِ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْمَالِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ بَقَاءُ الْمَالِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَجِبَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ إذَا كَانَ
فصل بيان من تجب عليه صدقة الفطر
لَهُمَا مَالٌ وَيُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى لَوْ أَدَّى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِمَا لَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَضْمَنَانِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتْ الْعُشْرَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفِطْرَةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ يَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الصَّوْمُ وَهُوَ الصَّغِيرُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ أَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا السَّبَبُ فَرَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً تَكُونُ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فِي الذَّبِّ، وَالنُّصْرَةِ فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ هُمْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ لُزُومُ الْمُؤْنَةِ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَسَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ، أَوْ كُفَّارًا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُؤَدَّى إلَّا عَنْ مُسْلِمٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِالْأَدَاءِ عَنْ الْعَبْدِ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى، وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ الْأَدَاءُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: " الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّحَمُّلُ، وَقَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْأَدَاءُ عَنْهُ بِالنَّصِّ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِالْأَدَاءِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ رَأْسُهُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَمَّنْ يُؤَدِّي عَنْهُ لَا الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ وُجِدَتْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَيُخْرِجُ عَنْ مُدَبَّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ، أَوْلَادِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَهَؤُلَاءِ عَبِيدٌ لِقِيَامِ الرِّقِّ، وَالْمِلْكِ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؟ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُكَاتَبِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَفِي وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ قُصُورٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَهُ فَكَانَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَتَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَلَنَا أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا ضَرُورَةً. وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَضْلًا عَنْ دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤَاجَرِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ، وَعَبْدِهِ الَّذِي فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ لِعُمُومِ النَّصِّ وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِ الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ وَفَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَوْلَى. وَأَمَّا عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَلَا يُخْرِجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَخْرُجُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ عَبْدُ التِّجَارَةِ وَلَا فِطْرَةَ فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْآبِقِ وَلَا عَنْ الْمَغْصُوبِ
الْمَجْحُودِ وَلَا عَنْ عَبْدِهِ الْمَأْسُورِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ فِي رَقِيقِ الْأَخْمَاسِ وَرَقِيقِ الْقُوَّامِ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى مَرَافِقِ الْعَوَامّ مِثْلِ زَمْزَمَ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَرَقِيقِ الْفَيْءِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ إذْ هُمْ لَيْسَ لَهُمْ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَكَذَلِكَ السَّبْيُ وَرَقِيقُ الْغَنِيمَةِ، وَالْأَسْرَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى أَصْلِهِ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» ، وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَأَنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنَافِعِ فَكَانَ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبِيدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخْرِجُ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ وَلَنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الرَّأْسِ يَكُونُ ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ» ، وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَيْهِمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِالْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ؟ وَإِنْ كَانَ عَدَدٌ مِنْ الْعَبِيدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ قَسَمُوا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ كَامِلٌ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا كَامِلًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا تَامًّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا وَإِنْ كَانَ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ بَعْضُ أَوْصَافِ السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمَا فَلَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْجَارِيَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ تَامَّةً، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَجِبُ عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا تَجِبُ عَنْهُ إلَّا فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْأَشْخَاصِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنٌ تَامٌّ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَوْقُوفَةٌ إنْ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ بِالْإِجَازَةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الْبَائِعِ تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ انْفَسَخَ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ انْفَسَخَ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ ثَانٍ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَقِّدْ تَقَرَّرَ بِالْقَبْضِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا جَانِبُ الْبَائِعِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ. وَوَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْفَسَخَ قَبْلَ تَمَامِهِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْلِ. وَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ عَيْبٍ إنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ رَدَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ كَانَ مَرَّ وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَمَرَّ عَلَيْهِ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ صَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ مَوْقُوفَةٌ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ فَإِنْ رَدَّهُ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ. وَيُخْرِجُ عَنْ، أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَإِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَبِ
فصل بيان جنس الواجب وقدره وصفة في صدقة الفطر
وَوِلَايَةُ الْأَبِ عَلَيْهِمْ تَامَّةٌ، وَهَلْ يُخْرِجُ الْجَدُّ عَنْ ابْنِ ابْنِهِ الْفَقِيرِ الصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُخْرِجُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ لَيْسَتْ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ قَاصِرَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَبِ؟ فَأَشْبَهَتْ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ، وَالْوَصِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ فَكَذَا الْجَدُّ. وَأَمَّا الْكِبَارُ الْعُقَلَاءُ فَلَا يُخْرَجُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ بِأَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ مِمَّنْ تُمَوِّنُونَ» فَإِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُمَوِّنُهُمْ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ. وَلَنَا أَنَّ أَحَدَ شَطْرَيْ السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُنْعَدِمٌ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ الْأَدَاءِ عَنْهُمْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ الْحَمْلِ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْوِلَايَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ صَدَقَةُ فِطْرِ زَوْجَتِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الزَّوْجِ وَوِلَايَتُهُ فَوُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ. (وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ تَمَامِ السَّبَبِ كَمَالُ الْوِلَايَةِ وَوِلَايَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ سِوَى الرَّقِيقِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ إمَّا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عَنْ الرَّفَثِ وَمَعْنَى الطُّهْرَةِ لَا يَتَقَرَّرُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَا تَجِبُ عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَةِ فِي صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ أَمَّا جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ الْحِنْطَةِ صَاعٌ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ بُرٍّ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ عَشْرَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَاحْتَجَّ بِرِوَايَتِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ بَلْ هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نِصْفَ صَاعٍ وَمَا زَادَ يَكُونُ تَطَوُّعًا عَلَى أَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ لَفْظِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت أُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبُرِّ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» ، وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقُهَا كَالْحِنْطَةِ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ كَالشَّعِيرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا نَذْكُرُ وَذِكْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِلتَّيْسِيرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَدُّوا قَبْلَ الْخُرُوجِ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ، أَوْ دَقِيقٍ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّقِيقُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَالدَّرَاهِمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدَّقِيقِ، وَالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نِصْفُ صَاعٍ وَرَوَى الْحَسَنُ وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرُ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي التَّغَذِّي بَلْ يَكُونُ أَنْقَصَ مِنْهَا كَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالصَّاعِ كَمَا فِي الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ فِي الْعَادَةِ ثُمَّ اُكْتُفِيَ مِنْ الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فَمِنْ الزَّبِيبِ أَوْلَى. وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ فِي عَصْرِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَفِي عَصْرِهِمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْأَقِطُ
فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ وَجَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُحِبُّ أَنْ يُخْرِجَ الْأَقِطَ فَإِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ صَاعَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ» وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ هَذَا صَاعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَنَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَالِكًا مِنْ فُقَهَائِهِمْ يَقُولُ: صَاعُ الْمَدِينَةِ ثَبَتَ بِتَحَرِّي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ صَاعَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فَالْعَمَلُ بِصَاعِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِصَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَزْنًا وَكَيْلًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزْنًا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ كَيْلًا حَتَّى لَوْ وَزَنَ وَأَدَّى جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِيمَا يَسْتَوِي كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وَهُوَ الْعَدَسُ، وَالْمَاشُّ، وَالزَّبِيبُ، وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ الْعَدَسِ، وَالْمَاشُ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ كَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِّ وَمَا سِوَاهُمَا يَخْتَلِفُ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُهُ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِهِ كَالشَّعِيرِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كَيْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ كَالْمِلْحِ فَيَجِبُ تَقْدِيرُ الْمَكَايِيلِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ وَكَيْلُهُ كَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِّ فَإِذَا كَانَ الْمِكْيَالُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الصَّاعِ وَأَنَّهُ مِكْيَالٌ لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ خِفَّةً وَثِقَلًا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ النَّاسَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي صَاعٍ يُقَدِّرُونَهُ بِالْوَزْنِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَزْنُ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ فُلُوسًا، أَوْ عُرُوضًا، أَوْ مَا شَاءَ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، وَفِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ بَلْ أَتَمَّ وَأَوْفَرَ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْإِغْنَاءِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْحَقِيقَةِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَدَّى عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَطٍ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ غَيْرِ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بَلْ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْبَاقِي وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِعَيْنِ النَّصِّ لَا بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ وَأَمَّا فِي الْجِنْسِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجِنْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَهِيَ الْجَوْدَةُ، وَالْجَوْدَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْجَوْدَةِ،، وَالسَّاقِطُ شَرْعًا مُلْحَقٌ بِالسَّاقِطِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا فِي خِلَافِ الْجِنْسِ فَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِمَّا الْقِيمَةُ وَمَنْ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْعَيْنَ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَلِأَيِّهِمَا اخْتَارَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ وَاجِبًا
فصل وقت وجوب صدقة الفطر
مِنْ الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهُ وَهَذَا التَّخْرِيجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَهُنَا فِي الذِّمَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ النِّصَابِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. [فَصْلٌ وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا فَاسْتَغْنَى إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل غُرُوب الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ وَكَذَا إنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ تَجِبْ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ هُوَ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إلَى، أَوْقَاتِهَا وَإِضَافَةِ الصَّوْمِ إلَى الشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ وَقْتُ الْفِطْرِ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» . أَيْ وَقْتُ فِطْرِكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ خَصَّ وَقْتَ الْفِطْرِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَى الْيَوْمِ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْوَقْتِ بِالْفِطْرِ يَظْهَرُ بِالْيَوْمِ وَإِلَّا فَاللَّيَالِي كُلُّهَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ سَوَاءٌ فَلَا يَظْهَرُ الِاخْتِصَاصُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ أَيْ صَدَقَةُ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُضَافَةً إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا. وَلَوْ عَجَّلَ الصَّدَقَةَ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَن عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وَقْتَ وُجُوبِ هَذَا الْحَقِّ هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ كَتَعْجِيلِ الْأُضْحِيَّةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَجْهُ قَوْلِ خَلَفٍ هَذِهِ فِطْرَةٌ عَنْ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّوْمِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْيَوْمِ، أَوْ الْيَوْمَيْنِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَوَجْهُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّعْجِيلِ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ يَبْقَى إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَيَحْصُلُ الْإِغْنَاءُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَبْقَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا وَذِكْرُ السَّنَةَ، وَالسَّنَتَيْنِ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِكْثَارِ الْمُدَّةِ أَيْ يَجُوزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْمُدَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشُورِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَقْتُ أَدَاء صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ. وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ إنَّ هَذَا حَقٌّ مَعْرُوفٌ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ. وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَيَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، أَوْ بِآخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» فَإِذَا أَخْرَجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فَارِغَ الْقَلْبِ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ. [فَصْلٌ رُكْن صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالتَّمْلِيكُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدَّوْا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ، وَالْأَدَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ فَلَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ أَصْلًا وَلَا بِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مُطْلَقٍ، وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هَهُنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْحَرْبِيِّ
فصل مكان أداء صدقة الفطر
الْمُسْتَأْمَنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْر عَنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ جَمَاعَةً مَسَاكِينَ وَيُعْطَى مَا يَجِبُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِسْكِينًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةٌ فَجَازَ جَمْعُهَا وَتَفْرِيقُهَا كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلَا يَبْعَثُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا سَاعِيًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْعَثْ وَلَنَا فِيهِ قُدْوَةٌ. [فَصْلٌ مَكَانُ أَدَاء صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُ الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ حَيْثُ هُوَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ عَبِيدِهِ حَيْثُ هُمْ حَكَى الْحَاكِمُ رُجُوعَهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةِ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَحَيْثُ الْمَالِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهَا إلَى أَهْلِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى قَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَيَبْعَثَهَا إلَيْهِمْ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ ثُمَّ زَكَاةُ الْمَالِ تُؤَدَّى حَيْثُ الْمَالُ فَكَذَا زَكَاةُ الرَّأْسِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي لَا بِمَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مَالُهُ لَا تَسْقُطُ الصَّدَقَةُ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ تَسْقُطُ؟ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ الصَّدَقَةُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمُؤَدِّي وَلَمَّا تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْمَالِ اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمَالِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يُؤَدَّى عَنْ الْعَبْدِ الْحَيِّ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ الْمَيِّتِ حَيْثُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَبْدِ الْحَيِّ عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُهُ وَفِي الْمَيِّتِ لَا فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْقِطُ صَدَقَة الْفِطْر بَعْدَ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَا يُسْقِطُ زَكَاةَ الْمَالِ يُسْقِطُهَا إلَّا هَلَاكُ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهِ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ قَائِمَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَائِمًا، وَالزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الصَّوْمِ] [فَصْل أَنْوَاعِ الصِّيَامِ] (كِتَابُ الصَّوْمِ) . الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، وَصِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهَا، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَا يُفْسِدُهَا وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالصَّوْمُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى وَيَنْقَسِمُ إلَى: لُغَوِيٍّ، وَشَرْعِيٍّ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَيُسَمَّى الْمُمْسِكُ عَنْ الْكَلَامِ وَهُوَ الصَّامِتُ صَائِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أَيْ صَمْتًا وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْمُمْسِكُ عَنْ الْعَلَفِ صَائِمًا قَالَ الشَّاعِرُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنْ الْعَلَفِ، وَغَيْرُ مُمْسِكَةٍ. وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْجِمَاعُ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى: فَرْضٍ، وَوَاجِبٍ، وَتَطَوُّعٍ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إلَى: عَيْنٍ، وَدَيْنٍ، فَالْعَيْنُ: مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، إمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا، وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وَقَوْلُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 183] أَيْ: فُرِضَ، وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَا يَجْحَدُهَا إلَّا كَافِرٌ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَإِنَّهَا
مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا، إذْ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّقْوَى لِأَنَّهُ إذَا انْقَادَتْ نَفْسُهُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَلَالِ طَمَعًا فِي مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَرَامِ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِلِاتِّقَاءِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ فَرْضٌ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ، وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتْ الشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَاعَتْ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَشِيَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمَعَاصِي وَإِنَّهُ فَرْضٌ. وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ: فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْإِفْطَارِ، وَصَوْمِ الْمُتْعَةِ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا، ثُمَّ بَعْضُ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنِ مُتَتَابِعٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، بَلْ صَاحِبُهَا فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ: فَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا، أَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ: فَلِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . وَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: فَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: التَّتَابُعُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ: فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ، يَكُونُ مُتَتَابِعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ: فَصَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَصَوْمُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ: فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ. وَكَذَا النَّاذِرُ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ، ذُكِرَ الصَّوْمُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ، لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَتَابِعًا، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَةَ " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ " فَيُزَادُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَصْفُ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا زِيدَ وَصْفُ التَّتَابُعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا فَكَذَا الْقَضَاءُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَحْوِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ غَيْرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّهُ يُتَابِعُ لَكِنَّهُ إنْ فَرَّقَ جَازَ وَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّتَابُعَ أَفْضَلُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لَمَا احْتَمَلَ الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمَا احْتَمَلَ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ لَوْ عَرَفُوهُ. وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لَوْ ثَبَتَتْ فَهِيَ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ، إذْ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً وَصَارَتْ كَالْمَتْلُوِّ وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الِاشْتِرَاطَ لَمَا احْتَمَلَ الْخِلَافَ مِنْ هَؤُلَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بِخِلَافِ ذِكْرِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْمَتْلُوِّ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا، فَنَقُولُ: التَّتَابُعُ فِي الْأَدَاءِ مَا وَجَبَ
فصل شرائط أنواع الصيام
لِمَكَانِ الصَّوْمِ، لِيُقَالَ: أَيْنَمَا كَانَ الصَّوْمُ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ صَوْمُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ إلَّا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، فَكَانَ لُزُومُ التَّتَابُعِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ: أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْفِعْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَيَكُونُ التَّتَابُعُ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ دَارَ الْفِعْلُ، وَكُلُّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَفَوْتُ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُسْقِطُ التَّتَابُعَ وَإِنْ بَقِيَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَعْبَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا، لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْهُ يَقْضِي إنْ شَاءَ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقًا، لِأَنَّ التَّتَابُعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْوَقْتِ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ مُتَتَابِعًا، لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إلَّا بِهِ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ ذُكِرَ لِلصَّوْمِ فَكَانَ الشَّرْطُ هُوَ وَصْلَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا إلَّا بِالْأَدَاءِ مُتَتَابِعًا، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّتَابُعُ لِأَجْلِ نَفْسِ الصَّوْمِ فَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى وَصْفِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَإِذَا وَجَبَ لِضَرُورَةِ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ، أَوْ شَرْطِ التَّتَابُعِ لَوَجَبَ الِاسْتِقْبَالُ، فَيَقَعُ جَمِيعُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَوَقَعَ عَامَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ، وَبَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ: أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لِلصَّوْمِ لَوَجَبَ كَمَا فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَكَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْقَتْلِ، وَكَذَا لَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ بَرِئَ فِي الشَّهْرِ وَصَامَ الْبَاقِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَصْلُ الْبَاقِي بِشَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالْإِفْطَارِ، إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ شَهْرٍ عَنْهُ، إنَّهَا كَمَا طَهُرَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَصِلَ، وَتُتَابِعَ، حَتَّى لَوْ تَرَكَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَوَّالًا مُتَّصِلًا وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا آخَرَ. فَدَلَّ أَنَّ التَّتَابُعَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِأَجْلِ الصَّوْمِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ: فَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَصَوْمُ قَضَائِهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ، وَصَوْمُ الِاعْتِكَافِ عِنْدَنَا، أَمَّا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِالشُّرُوعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ: فَقَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ: فَنَذْكُرُهُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ: فَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَقْسَامِ الصِّيَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَنْوَاع الصِّيَام] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا: وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ، وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ: وَهُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ وَهُوَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ: وَهُوَ شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ: فَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْجِمَاعَ، وَالْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ فِي اللَّيَالِي إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ هُمَا: بَيَاضُ النَّهَارِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ» ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَكَانَ هَذَا تَعْيِينًا: لِلَّيَالِيِ الْفِطْرُ، وَالنَّهَارُ لِلصَّوْمِ، فَكَانَ مَحَلُّ الصَّوْمِ هُوَ الْيَوْمُ لَا اللَّيْلُ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الصَّوْمُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا: مِنْ التَّقْوَى، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعَمِ، الْحَامِلُ عَلَى شُكْرِهَا لَا يَحْصُلُ بِالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ لَانَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ شَاقٍّ عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِمْسَاكِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ فَلَا يَكُونُ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ: فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ
صَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا» فَقَدْ جَعَلَ السَّنَةَ كُلَّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَوْلُهُ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» جَعَلَ الدَّهْرَ كُلَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ» وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَهَا كَانَ الصَّوْمُ حَسَنًا وَعِبَادَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي بَعْضِهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِي الْبَعْضِ. أَمَّا الصِّيَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهَةِ فَمِنْهَا: صَوْمُ يَوْمَيْ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» . وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ عَيَّنَ هَذِهِ الْأَيَّامَ لِأَضْدَادِ الصَّوْمِ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ، وَالْمَعْقُولِ يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيُحْمَلُ التَّعْيِينُ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَنَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْإِفْطَارُ. وَمِنْهَا إتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ رَمَضَانُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، وَالْعِلْمِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَالْإِتْبَاعُ الْمَكْرُوهُ هُوَ: أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ. فَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ: فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ. وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ، أَمَّا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي رَمَضَانَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مَنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ: بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَكُونُ تَطَوُّعًا فَلِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَرَدِّدَةَ لَا تَكُونُ نِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْيِينٌ لِلْعَمَلِ، وَالتَّرَدُّدُ يَمْنَعُ التَّعْيِينَ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ: فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» ، اسْتَثْنَى التَّطَوُّعَ، وَالْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ وَقَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» أَيْ: صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا، أَوْ يُفْطِرَ، أَوْ يَنْتَظِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَيَقُولَانِ لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ صَامَا وَنَبَّهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَوْ صَامَ لَدَارَ الصَّوْمُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَوْ أَفْطَرَ لَدَارَ الْفِطْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي شَعْبَانَ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الصَّوْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَكَانَ يَضَعُ كُوزًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الشَّكِّ، فَإِذَا جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَفْتَاهُ بِالْإِفْطَارِ وَشَرِبَ مِنْ الْكُوزِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُسْتَفْتِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْتَى بِالصَّوْمِ لَاعْتَادَهُ النَّاسُ فَيَخَافُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْفَرِيضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَامُ سِرًّا وَلَا يُفْتَى بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلَّا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَأَفْتَى بِالْفِطْرِ ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْتَفْتِي: تَعَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخْبَرَهُ سِرًّا فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْتَظِرُ فَلَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ
قَبْلَ الزَّوَالِ، أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَفْطَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَصْبِحُوا يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرِينَ مُتَلَوِّمِينَ أَيْ: غَيْرَ آكِلِينَ وَلَا عَازِمِينَ عَلَى الصَّوْمِ، إلَّا إذَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ» فَوَصَلَ يَوْمَ الشَّكِّ بِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ، أَوْ بِيَوْمَيْنِ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الشَّهْرَ وَلَيْسَ فِيهِ وَهْمُ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ» . وَمِنْهَا صَوْمُ الْوِصَالِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ» فَسَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوِصَالَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ لَا يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْفِطْرَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ زَمَانِ الْفِطْرِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْوِصَالِ: أَنْ يَصُومَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ دُونَ لَيْلَتِهِ، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِيهِ: أَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ وَقِيلَ لَهُ: إنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» أَشَارَ إلَى الْمُخَصِّصِ وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ بِفَضْلِ قُوَّةِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ صَامَ سَائِرَ الْأَيَّامِ وَأَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي، كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا قَدْ صَامَ الدَّهْرَ كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ لَيْسَ لِمَكَانِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بَلْ لِمَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ وَيُؤَدِّي إلَى التَّبَتُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ: فَفِي حَقِّ غَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ، لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّدْبِ إلَى صَوْمِهِ، وَلِأَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إنْ كَانَ لَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ، وَالدُّعَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ فَضِيلَةَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُسْتَدْرَكُ عَادَةً، فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ، وَالدُّعَاءِ فِيهِ لَا يُسْتَدْرَكُ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ عَادَةً إلَّا فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ فَكَانَ تَعْظِيمُهَا بِالصَّوْمِ مُسْتَحَبًّا، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ بِانْفِرَادِهِ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ، وَالْمِهْرَجَانِ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ، وَكَذَا صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ الطَّعَامِ، وَالْكَلَامِ جَمِيعًا، لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ» وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحْدَهُ لِمَكَانِ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ عَامَّتُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ، فَيُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَتِهَا بِالصَّوْمِ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ: فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ صَوْمُ سَيِّدِنَا دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، إذْ الطَّبْعُ أَلُوفٌ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أَيْ: أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ، وَكَذَا صَوْمُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، مِنْهَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا» . " وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ: فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ إلَّا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَوْمَيْ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمَ الشَّكِّ " أَمَّا مَا سِوَى صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَلِوُرُدِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يُوجَدُ بِوُجُودِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ كَامِلٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ، إنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا، فَيُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عَنْهُ. وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ قَضَاءً، فَلَا يَكُونُ قَضَاءً مَعَ الشَّكِّ وَهَلْ يَصِحُّ النَّذْرُ بِصَوْمِ يَوْمَيْ
الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا وَيَصُومَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَكُونُ مُسِيئًا، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ النَّذْرُ لِأَنَّهُ، أَوْجَبَ نَاقِصًا وَأَدَّاهُ نَاقِصًا، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَضْعًا، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ يَثْبُتُ ضَرُورَةً صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ، وَالْمُؤَدَّى هَهُنَا لَا يَجِبُ صِيَانَتُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ، فَلَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ، فَلَا يُضْمَنُ بِالْإِفْسَادِ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَكْرُوهَةٍ فَأَفْسَدَهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ الْفَرْقِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ،. وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ: فَوَقْتُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرُهُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ وَقْتِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ، أَمَّا الْأُوَلُ: فَوَقْتُ صَوْمِ رَمَضَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أَيْ: فَلْيَصُمْ فِي الشَّهْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَصُومُوا شَهْرَكُمْ» أَيْ: فِي شَهْرِكُمْ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُصَامُ وَإِنَّمَا يُصَامُ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً يُعْرَفُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً يُعْرَفُ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا» . وَكَذَلِكَ إنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ أَكْمَلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ وَكَمَالُهُ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا بِيَقِينٍ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ، أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَرَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ صَامُوا وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ جَمَاعَةٌ يَقَعُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَدَدَ الْجَمَاعَةِ بِعَدَدِ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: خَمْسُمِائَةٍ، بِبَلْخٍ قَلِيلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ، أَوْ اثْنَانِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا قُبِلَ، لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِذَا كَانَ إخْبَارًا لَا شَهَادَةً فَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فَقَطْ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ وَهَهُنَا الظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ جَمَاعَةٍ لَا يُحْصَوْنَ إيَّاهُ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ دَلِيلُ كَذِبِهِ، أَوْ غَلَطِهِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ التَّسَاوِيَ فِي الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ قِطْعَةً مِنْ الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهْرَ الْهِلَالُ فَرَآهُ وَاحِدٌ ثُمَّ اسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ الْمِصْرِ، أَوْ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ، وَجْهُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَطَالِعَ تَخْتَلِفُ بِالْمِصْرِ وَخَارِجَ الْمِصْرِ فِي الظُّهُورِ، وَالْخَفَاءِ لِصَفَاءِ الْهَوَاءِ خَارِجَ الْمِصْرِ فَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَة أَنَّ الْمَطَالِعَ لَا تَخْتَلِفُ إلَّا عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الْفَاحِشَةِ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنْ يَصُومَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ شَهِدَ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ يَقْضِي لِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي زَعْمِهِ فَيُعَامَلُ بِمَا عِنْدَهُ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَلْزَمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِهِ لَا يَقْدَحُ فِي عِلْمِهِ
فَيُؤَاخَذُ بِعِلْمِهِ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَلِهَذَا، أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمَ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالرُّؤْيَةِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ تَثْبُتْ رُؤْيَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا: أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ عَامَّةِ النَّاسِ إيَّاهُ فِي التَّفَقُّدِ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ دَلِيلُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَبْقَى مِنْ شَعْبَانَ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا رِوَايَةَ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ يَصُومُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ احْتِيَاطًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَلَوْ صَامَ هَذَا الرَّجُلُ وَأَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يُرَ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ زَادَ صَوْمُهُ عَلَى ثَلَاثِينَ لِأَنَّا إنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ احْتِيَاطًا،، وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا أَنْ لَا يُفْطِرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَا رَآهُ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا بَلْ كَانَ خَيَالًا فَلَا يُفْطِرُ مَعَ الشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ لَلَحِقَهُ التُّهْمَةُ لِمُخَالِفَتِهِ الْجَمَاعَةَ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُفْطِرَ وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا، رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، أَوْ مَحْدُودًا تَائِبًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا عَدْلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا» ، فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ وَهُوَ الصَّوْمُ وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ، إلَّا أَنَّهُ إخْبَارٌ فِي بَابِ الدِّينِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَدَالَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، فَيَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَحَّتْ رِوَايَتُهُمَا؟ . وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلُوا إخْبَارَ أَبِي بَكْرَةَ وَكَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَدْلٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ إخْبَارُ رَجُلٍ عَدْلٍ عَنْ رَجُلٍ عَدْلٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ، وَلَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، حُرَّيْنِ، عَاقِلَيْنِ، بَالِغَيْنِ، غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ، فِي قَذْفٍ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَالْأَمْوَالِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ الْإِفْطَارَ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ» وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ شَيْءٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ مُتَّهَمًا، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ هُنَاكَ لَا تُهْمَةَ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الصَّوْمِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ صَامُوا رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَفْطَرُوا
بِتَمَامِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْفِطْرِ يُقْبَلُ وَإِنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ بِشَهَادَتِهِ فَثَبَتَتْ الرَّمَضَانِيَّةُ بِشَهَادَتِهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ، لَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْفِطْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَحْدَهُ مَقْصُودًا لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا شَهَادَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا. أَلَا تَرَى لَوْ شَهِدَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ،، وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا فِي أَنْ لَا يُفْطِرُوا بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُطْلَقٍ، فَيَظْهَرُ فِي الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الْعَدَدِ، فَأَوْرَدَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ إشْكَالًا فَقَالَ: إذَا قَبِلْتَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ تُفْطِرُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَمَتَى أَفْطَرْتَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى شَهَادَتِهِ فَقَدْ أَفْطَرْتَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَأَجَابَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَتَعَجَّلَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي شَهَادَتِهِ فَالصَّوْمُ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَيُخْتَمُ بِكَمَالِ الْعَدَدِ، وَقِيلَ فِيهِ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جِوَازَ الْفِطْرِ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِ مَقْصُودًا بَلْ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ. وَقَدْ يَثْبُتُ بِمُقْتَضَى الشَّيْءِ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ مَقْصُودًا كَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَتِهَا مَقْصُودًا، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُ. (وَأَمَّا) هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا مَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهِلَالُ شَوَّالٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى النَّاسِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ بَلْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ. وَلَوْ رَأَوْا يَوْمَ الشَّكِّ الْهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ هِلَالُ شَوَّالٍ إذَا رَأَوْهُ يَوْمَ الشَّكِّ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَهُمَا، وَيَكُونُ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَعِنْدَهُ إنْ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ يَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ عَادَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ، وَلَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» أَمَرَ بِالصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ يَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ فَأَكْمَلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ عَشِيَّةَ التَّاسِعِ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَصَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَهْلُ الْمِصْرِ قَدْ أَصَابُوا وَأَحْسَنُوا وَأَسَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَخْطَأَ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَامَ رَمَضَانُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، أَوْ بَعْدَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَدْ عَمِلَ أَهْلُ الْمِصْرِ بِذَلِكَ وَخَالَفَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَصَابَ أَهْلُ الْمِصْرِ وَأَخْطَأَ الرَّجُلُ وَلَا قَضَاءَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ إلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثًا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلَوْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ قَاضِيهمْ، أَوْ عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا رَمَضَانَ فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَعَدَمُ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا يَقْدَحُ فِي رُؤْيَةِ أُولَئِكَ، إذْ الْعَدَمُ لَا يُعَارِضُ الْوُجُودَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ قَاضِيهمْ وَلَا عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَدْ أَسَاءُوا حَيْثُ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ. وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَطَالِعُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْبَلَدَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ لِأَنَّ مَطَالِعَ الْبِلَادِ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْفَاحِشَةِ تَخْتَلِفُ فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَطَالِعُ بَلَدِهِمْ دُونَ الْبَلَدِ الْآخَرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ فِي أَهْلِ إسْكَنْدَرِيَّةَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بِهَا وَمَنْ عَلَى مَنَارَتِهَا يَرَى الشَّمْسَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ. فَقَالَ: يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الْفِطْرُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلَى رَأْسِ الْمَنَارَةِ إذَا كَانَ يَرَى غُرُوبَ الشَّمْسِ لِأَنَّ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ مَطْلَعُهَا فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ مَوْضِعٍ مَغْرِبُهُ وَلَوْ صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَفْطَرُوا لِلرُّؤْيَةِ وَفِيهِمْ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنْ عَلِمَ مَا صَامَ أَهْلُ مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ هَذَا الْقَدْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الرَّجُلُ مَا صَنَعَ أَهْلُ مِصْرِهِ، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالنُّقْصَانُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ، وَقَالُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ شَهْرًا لِعُذْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَضَى شَهْرًا بِالْهِلَالِ فَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، إنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا دُونَ الْهِلَالِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَيَقْضِي يَوْمًا آخَرَ تَكْمِلَةَ الثَّلَاثِينَ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ فَيَصِحُّ أَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ. وَكَذَا الْعَقْلُ، وَالْإِفَاقَةُ لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ فِي النَّهَارِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، لَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ لِعَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا تُتَصَوَّرُ، وَفِي كَوْنِهِمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْهَا النِّيَّةُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَصْلِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ وَقْتِهِ. أَمَّا الْأُوَلُ: فَأَصْلُ النِّيَّةِ شَرْطُ جَوَازِ الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ جَائِزٌ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ. وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلتَّعْيِينِ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَا مُزَاحَمَةَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا صَوْمًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَقَوْلُهُ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ، وَالِاخْتِيَارُ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَتَحَقَّقَانِ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْإِمْسَاكُ لَا يَصِيرُ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ، لِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ وَزَمَانُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ، فَنَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْوَصْفِ، لَكِنْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْأَصْلِ، بَيَانُهُ أَنَّ أَصْلَ الْإِمْسَاكِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَادَةً، أَوْ حَمِيَّةً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ فَاعِلٍ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إذَا صَارَ أَصْلُ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ بِأَصْلِ النِّيَّةِ، وَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِفَرْضِهِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ. وَأَمَّا الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ: فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ
رَمَضَانَ، وَصَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: صَوْمُ النَّفْلِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، فَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ: فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهَا زِيَادَةُ الثَّوَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ شُرِطَتْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ إمَّا لِيَصِيرَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَلَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ كَانَ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَكْفِي لِقَطْعِ التَّرَدُّدِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَقَدْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ مَا نَوَى، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ لَا يَتَنَوَّعُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْيِيزِ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَهُوَ خَارِجُ رَمَضَانَ مُتَنَوِّعٌ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَقَوْلُهُ: هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ لَا تَتَأَدَّى نِيَّةُ الْفَرْضِ بِدُونِ نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَقَوْلُهُ: " الْفَرْضِيَّةُ صِفَةٌ لِلصَّوْمِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ فَتَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ زَائِدَةٍ " مَمْنُوعٌ أَنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ لَا تَحْتَمِلُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَيْهَا قَائِمَةً بِهَا بَلْ هُوَ وَصْفٌ إضَافِيٌّ فَيُسَمَّى الصَّوْمُ مَفْرُوضًا وَفَرِيضَةً لِدُخُولِهِ تَحْتَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِفَرْضِيَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صِفَةً قَائِمَةً بِالصَّوْمِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَزِيَادَةُ الثَّوَابِ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ لَا لِزِيَادَةِ صِفَةِ الْعَمَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ صَامَ الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَعَنْ الْمَنْذُورِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَقَعُ وَكَذَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ هُوَ يَقُولُ: لَمَّا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْمُعْرِضُ عَنْ فِعْلٍ لَا يَكُونُ آتِيًا بِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ نَوَى الْأَصْلَ، وَالْوَصْفَ، وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَصْفِ فَبَطَلَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ، وَإِنَّهَا كَافِيَةٌ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ تَعَيَّنَ لِصَوْمِهِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُعَيَّنٌ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ التَّعْيِينُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ فَسْخِ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَالْآخَرُ تَعَيَّنَ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ وَهُوَ الْعَبْدُ فَيَظْهَرُ تَعْيِينُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ لَهُ وَهُوَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَبَقِيَتْ الْأَوْقَاتُ مَحَلًّا لَهَا فَإِذَا نَوَاهَا صَحَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُ: فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعْ عَمَّا نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْإِفْطَارُ لَهُ رُخْصَةٌ فَإِذَا اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ صَارَ هُوَ، وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ كَالْمُقِيمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ نَظَرًا لَهُ، فَلَأَنْ يُرَخَّصَ لَهُ إسْقَاطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِيهِ أَكْثَرُ أَوْلَى. وَأَمَّا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ خَارِجَ رَمَضَانَ وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ خَارِجَ رَمَضَانَ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ كُلِّهِ كَذَا فِي رَمَضَانَ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ نِيَّةِ الْمُتَطَوِّعِ بَلْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ كَافِيَةٌ فَتَلْغُو نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ فَيَصِيرُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ فَمَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ يُتَرَخَّصُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُتَرَخَّصْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ: فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ صَارَ كَالصَّحِيحِ
، وَالْكَرْخِيُّ سَوَّى بَيْنَ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ صَوْمُ الشَّهْرِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْوَاجِبَ صَوْمُ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَنَا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ، فَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ. وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا مَحَلٌّ لِلصَّوْمِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُ وَهُوَ اللَّيَالِي، فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُمَا فَصَارَ صَوْمُ كُلِّ يَوْمَيْنِ عِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَصَلَاتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ صَامَ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لَا يَقَعُ عَمَّا عَلَيْهِ لِأَنَّ زَمَانَ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَعَيَّنَ لَهُ الْوَقْتُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ وَقْتٌ لِلصِّيَامَاتِ كُلِّهَا عَلَى الْإِبْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلْبَعْضِ بِالنِّيَّةِ لِتَتَعَيَّنَ لَهُ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيَقَعُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى بِصَوْمِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ عَيَّنَ الْوَقْتَ لِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ فَسَقَطَتَا لِلتَّعَارُضِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَيَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي التَّطَوُّعِ لَغْوٌ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالصَّوْمُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ جِهَتَيْ التَّعْيِينِ تَعَارَضَتَا لِلتَّنَافِي فَسَقَطَتَا بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَخَلَفُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى الصِّيَامَاتِ حَتَّى تَنْدَفِعَ بِهِ نِيَّةُ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ صَوْمٍ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَبَ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ أَقْوَى فَلَا يُزَاحِمُهُ الْأَضْعَفُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَصَامَهُ يَنْوِي النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ: فَهُوَ عَنْ النَّذْرِ لِتَعَارُضِ النِّيَّتَيْنِ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ نِيَّةُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَيَقَعُ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ وَقْتُ النِّيَّةِ: فَالْأَفْضَلُ فِي الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا أَنْ يَنْوِيَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ اللَّيْلِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُقَارِنُ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ حَقِيقَةً وَمِنْ اللَّيْلِ تُقَارِنُهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يَجُوزُ، وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إلَّا التَّطَوُّعُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّطَوُّعَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَكَذَا التَّطَوُّعُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ» وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي طَلْحَةَ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ: فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ كَصَوْمِ الْفَرْضِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مُتَجَزِّئٌ حَتَّى قَالَ: يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ فَرْضًا كَانَ، أَوْ نَفْلًا وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ لِمَا نَذْكُرُ، فَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الرُّكْنِ عَنْ الشَّرْطِ، فَلَا يَصِيرُ صَائِمًا شَرْعًا، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ
الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ» ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ رُكْنٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ انْعَدَمَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَمْ يَقَعْ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِلَّهِ تَعَالَى لِفَقْدِ شَرْطِهِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. وَكَذَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] إلَى قَوْله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالصَّوْمِ مُتَرَاخِيًا عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ أَمْرٌ بِالنِّيَّةِ إذْ لَا صِحَّةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ، فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَقَعُ صَوْمًا وُجِدَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ لِأَنَّ إتْمَامَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ بَعْضٍ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ شَرْعًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ مَعَ شَرَائِطِهِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَحَلِّيَّةِ، وَلَا كَلَامَ فِي سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ وَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الْعِبَادَةِ مَا يَكُونُ شَاقًّا عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ، فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ: فَمُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا بَلْ يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسِيلَةً لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَنْوِيَ وَقْتَ الرُّكْنِ فَإِذَا نَوَى ظَهَرَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالنِّيَّةُ تُشْتَرَطُ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ عِبَادَةٍ لَا لِمَا يَصِيرُ عِبَادَةً بِطَرِيقِ الْوَسِيلَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا صِيَامُ الْقَضَاءِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ: فَمَا صَامَهَا فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ لَهَا شَرْعًا لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ مَوْضُوعٌ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ صَوْمًا آخَرَ بَقِيَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِلتَّطَوُّعِ شَرْعًا، فَلَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ، فَأَمَّا هَهُنَا فَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَقَدْ صَامَهُ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَشَرَائِطِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ حَتْمًا. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَالْوَقْتُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فَأَشْبَه صَوْمَ الْقَضَاءِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَذَا لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ كَذَا هَذَا. وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُتَرَخَّصَ بِالْإِفْطَارِ، وَلَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَالتَّيْسِيرِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَقَدْ صَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَالْمُقِيمِ سَوَاءٌ. وَيَتَّصِلُ بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَهُمَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ وَوَقْتِ النِّيَّةِ مَسْأَلَةُ الْأَسِيرِ فِي يَدِ الْعَدُوِّ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّهُ إذَا صَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَافَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ بِأَنْ تَقَدَّمَ، أَوْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ جَازَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ شَوَّالٌ يَجُوزُ لَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ مُوَافَقَةُ الشَّهْرَيْنِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ. وَأَمَّا مُوَافَقَةُ الْعَدَدِ فَلِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَا بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّهُ نَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعْيِينُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرَ شَوَّالٍ يَنْظُرُ إنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ كَامِلًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا
وَشَوَّالُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمَيْنِ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَشَوَّالُ كَامِلًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلَ عَدَدَ الْفَائِتِ، وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ نَاقِصًا قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِلنُّقْصَانِ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا آخَرَ سِوَى هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الشَّهْرَانِ كَامِلَيْنِ، أَوْ نَاقِصَيْنِ، أَوْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ كَامِلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْفَائِتَ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ صَامَ بِالتَّحَرِّي سِنِينَ كَثِيرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَفِي الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّابِعَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ صَامَ صَوْمَ رَمَضَانَ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ فَيَقَعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ لِأَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ رَمَضَانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَفَصَّلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجُوزُ. وَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ صَامَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَا قَضَاهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الرَّابِعَةِ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ كُلِّهَا، أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَا نَوَى عَنْهُ، وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّهُ صَامَ قَبْلَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ. وَكَذَا الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا: وَهُوَ رَجُلٌ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَلَوْ اقْتَدَى بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ زَيْدٌ فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ، فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِالْإِمَامِ، وَفِي الثَّانِي نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِأَحَدٍ كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا نَوَى فِي صَوْمِ كُلِّ سَنَةٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ نِيَّتُهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ الثَّانِي فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ فَيَقَعُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا عَمَّا ظَنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الصِّيَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ: شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يُخَاطَبُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا مَضَى فَلَمْ يُتَصَوَّرْ قَضَاءُ الْوَاجِبِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ سَابِقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مِنْ مَشَايِخِنَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِمَكَانِ الْحَرَجِ إذْ لَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَلَزِمَهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا مَضَى مِنْ الرَّمَضَانَاتِ فِي حَالِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى. وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ، أَوْ لِمَا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَمِنْهَا الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَهُّمُ الْخِطَابِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتِ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي حَالِ الصِّبَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَكَانِ الْحَرَجِ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ فَكَانَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَرَجٌ. وَكَذَا إذَا بَلَغَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُجْزِئُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ نَوَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِيهِ، وَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَجَوَازًا وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا أَدْرَكَا وَقْتَ النِّيَّةِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا أَدْرَكَا مِنْ اللَّيْلِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا الْبَعْضُ لَمْ يَجِبْ الْبَاقِي، أَوْ لِمَا فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الْإِفَاقَةُ، وَالْيَقَظَةُ؟ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ لَكِنْ أَصْلُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ الْوُجُوبُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَسْبَابِ لَا بِالْخِطَابِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ لِثُبُوتِهِ بَلْ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ، أَوْ أَبَى، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَهُوَ إسْقَاطُ مَا فِي الذِّمَّةِ وَتَفْرِيغُهَا مِنْ الْوَاجِبِ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَتُشْتَرَطُ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَلَى أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى الْعَاجِزِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَا إلَى الْعَاجِز عَنْ فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَجْنُونُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ، أَوْ لِاسْتِتَارِهِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ لِعَجْزِهِمَا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِمَا عَاجِزُونَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَنْ أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِمْ وَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ بَلْ يَثْبُتُ جَبْرًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أُسْتَاذِي الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدِّينِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمَعْقُولَ هُوَ وُجُوبُ الْفِعْلِ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ، وَالْقَادِرُ عَلَى فِعْلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ضَرُورَةً، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ عَاجِزُونَ عَنْ فِعْلِ الْخِطَابِ بِالصَّوْمِ وَعَنْ أَدَائِهِ إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَاَلَّذِي دَعَا الْأَوَّلِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، وَالِانْتِبَاهِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ، أَوْ كُلِّهِ، وَمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، فَقَالُوا: إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي فَوَاتَ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ فَوَاتِهِ حَتَّى يُمْكِنَ إيجَابُ الْقَضَاءِ فَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ، وَالْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي فَوْتَ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُسْتَوْعِبًا بِأَنْ جُنَّ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْضِي، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَتَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فِي الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ شَهْرًا، وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ: فَاتَهُ الْوَاجِبُ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ لَهُمْ وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الشَّهْرُ إذْ الصَّوْمُ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا، يُقَالُ صَوْمُ الشَّهْرِ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. وَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ حَرَجٌ. وَأَمَّا مَنْ أَبَى الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ: هَذَا شَخْصٌ فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْ: لَمْ يَصُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَرَج فِي قَضَاءِ نِصْفِ الشَّهْرِ، وَتَأْثِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي
الْخِلَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ السَّنَةِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ فَبَقِيَ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْهُ وَقْتًا لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ فَاتَهُ الثَّوَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالصَّوْمِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَقُومَ الصَّوْمُ فِيهَا مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُسْتَوْعِبَ قَلَّمَا يَزُولُ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ إذَا اسْتَوْعَبَ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهُ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ اسْتِيعَابَهُ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ مَا مَضَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ مَا إذَا أَفَاقَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَلَوْ جُنَّ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بُعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ كُلِّ الشَّهْرِ إلَّا قَضَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي جُنَّ فِيهِ إنْ كَانَ نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ قَضَى جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلَوْ جُنَّ فِي طَرَفَيْ الشَّهْرِ وَأَفَاقَ فِي وَسَطِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الطَّرَفَيْنِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: لَا يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صَبِيٍّ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ جُنَّ فَلَمْ يَزَلْ مَجْنُونًا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، أَوْ أَكْثَرُ ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَمَانَ الْإِفَاقَةِ فِي حَيِّزِ زَمَانِ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْعَارِضِ فَإِنَّ هُنَاكَ زَمَانَ التَّكْلِيفِ سَبَقَ الْجُنُونَ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ. وَجْهُ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا عَارِضًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ فِي الْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَعَلَى هَذَا الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ إنَّهَا شَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَائِضَ فِي السُّنَّةِ إلَّا قَضَاءُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِلسَّائِلَةِ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ هَكَذَا كُنَّ النِّسَاءُ يَفْعَلْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . أَشَارَتْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ تَعَبُّدًا مَحْضًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَتَوَاهَا بَلَغَتْ الصَّحَابَةَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا عَنْ فَرْضٍ وَلَا عَنْ نَفْلٍ، لِعَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا، وَوُجُودِهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُوجَدُ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي، وَعَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ مَعَ الْأَيَّامِ الْأُخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ طَهُرَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْحَيْضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَالنِّفَاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَيَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ عَنْ رَمَضَانَ إذَا نَوَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالنِّفَاسُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلِاغْتِسَالِ وَمِقْدَارُ مَا يَسَعُ النِّيَّةَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ دُونَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَلَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ، وَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا لَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحَيْضِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُهُ النِّيَّةَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وَإِلَّا فَلَا،
فصل أركان الصيام
وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا أَصْلِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا عِنْدَهُ. [فَصْلٌ أَرْكَان الصِّيَام] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ: فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] إلَى قَوْله {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ ضَوْءُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي النَّهَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَدَلَّ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ مَا قُلْنَا فَلَا يُوجَدُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَنْقُضُهُ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الشَّيْءِ عِنْدَ فَوَاتِ رُكْنِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ بِعُذْرٍ وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً طَوْعًا، أَوْ كَرْهًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا نَاسِيًا وَلَا فِي مَعْنَى النَّاسِي،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ ضِدِّ الرُّكْنِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ يَقْضِي أَيْ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْأَمْرَ لَقُلْتُ: يَقْضِي لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ» حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِهِ وَعَلَّلَ بِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ فِعْلِهِ عَنْهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ أَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَطْعَنٌ. وَكَذَا انْتَقَدَهُ أَبُو يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ حَدِيثًا شَاذًّا نَجْتَرِئُ عَلَى رَدِّهِ، وَكَانَ مِنْ صَيَارِفَةَ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي بَاب الصَّوْمِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَبَيْنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا، فَقَالَا: يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي الْجِمَاعِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ فِي الْكُلِّ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَبَقِيَ الْجِمَاعُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّا نَقُولُ: نَعَمْ الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمْحِيصِ بِقَوْلِهِ " فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " قَطَعَ إضَافَتَهُ عَنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ،، وَالْعِلَّةُ إذَا كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِمَعْمُومِ الْعِلَّةِ وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ يُوجَدُ فِي الْكُلِّ. وَلَوْ أَكَلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّك صَائِمٌ وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا فَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ. وَلَوْ دَخَلَ الذُّبَابُ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَمَا لَوْ أَكَلَ التُّرَابَ. وَلَوْ دَخَلَ الْغُبَارُ أَوْ الدُّخَانُ أَوْ الرَّائِحَةُ فِي حَلْقَةِ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ ابْتَلَعَ الْبَلَلَ الَّذِي بَقِيَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فِي فَمِهِ مَعَ الْبُزَاقِ أَوْ ابْتَلَعَ الْبُزَاقَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ حَلْقَهُ مُتَعَمِّدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ، أَوْ أَكْثَرَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ يَسِيرٌ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّيقِ، فَيُشْبِهُ النَّاسِي وَلَا كَذَلِكَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنَّاسِي. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ أَكَلَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إذْ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْغِذَاءُ وَلَا الدَّوَاءُ. فَإِنْ تَثَاءَبَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ أَوْ مَاءٌ صُبَّ فِي مِيزَابٍ فَطَّرَهُ
لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مُمْكِنٌ. وَقَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ: لَا يَفْسُدُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ هَذَا أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ نِسْبَتُهُ عَنْهُ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْفِعْلُ أَصْلًا، فَكَانَ أَعْذَرَ مِنْ النَّاسِي، ثُمَّ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُ النَّاسِي فَهَذَا أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ بِسَبَبٍ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَبْقَى الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّوْمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الشُّكْرِ، وَالتَّقْوَى وَقَهْرِ الطَّبْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْغِذَاءُ إلَى جَوْفِهِ. وَكَذَا النَّائِمَةُ الصَّائِمَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْتَبِهْ أَوْ الْمَجْنُونَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا فَسَدَ صَوْمُهَا عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ،، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَدَخَلَ جَوْفَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْسُدْ، فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ كَانَ وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ كَانَ لِلتَّطَوُّعِ فَسَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسِدُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ تَمَضْمَضَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَسَدَ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضٌ، فَكَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ، وَالِاسْتِنْشَاقَ مِنْ ضَرُورَاتِ إكْمَالِ الْفَرْضِ، فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا عُذْرًا بِخِلَافِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِمَا، وَالثَّلَاثُ فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا مِنْ ضَرُورَاتِ إقَامَةِ السُّنَّةِ فَكَانَ عَفْوًا. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَمِنْ بَابِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» فَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ، وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْبِقُ الْحَلْقَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ عَادَةً إلَّا عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا، وَالْمُبَالَغَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ الصَّائِمِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: «بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» فَكَانَ فِي الْمُبَالَغَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ يُعْذَرْ بِخِلَافِ النَّاسِي. وَلَوْ احْتَلَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَيَكُونُ كَالنَّاسِي. وَلَوْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ وَتَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَتَابَعَ نَظَرُهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي النَّظَرِ كَالْمُبَاشَرَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ. وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ أَوْ قَطَعَ الْمَاءَ، أَوْ كَانَ يَتَسَحَّرُ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَقَطَعَهُ، أَوْ يَأْكُلُ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِعَدَمِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ، وَالطُّلُوعِ. وَلَوْ كَانَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَتَذَكَّرَ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ، أَوْ كَانَ يُجَامِعُ فِي اللَّيْلِ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُخَالِطٌ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ. وَقَالَ زُفَرُ: فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ جُزْءًا مِنْ الْجِمَاعِ حَصَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَإِنَّهُ يَكْفِي لِفَسَادِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، وَإِنْ قَلَّ وَلَنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ هُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ اشْتِغَالًا بِضِدِّهِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجِمَاعُ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ رَأْسًا، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْسُدْ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ كَذَا فِي الْجِمَاعِ، وَهَذَا إذَا نَزَعَ بَعْدَ مَا تَذَكَّرَ، أَوْ بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْزِعْ وَبَقِيَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ فَقَالَ: فِي الطُّلُوعِ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي التَّذَكُّرِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ وُجِدَ الْجِمَاعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا لِوُجُودِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّذَكُّرِ فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ أَنَّ فِي الطُّلُوعِ ابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ عَمْدًا، وَالْجِمَاعُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، وَالْجِمَاعُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَأَمَّا فِي التَّذَكُّرِ: فَابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ نَاسِيًا وَجِمَاعُ النَّاسِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَبَقَاؤُهُ فِي الْجِمَاعِ يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّوْمِ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ اسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لِانْعِدَامِ صَوْمِهِ الْيَوْمَ لَا لِإِفْسَادِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا جِمَاعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِابْتِدَائِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُلَّ فِعْلٌ وَاحِدٌ
وَلَهُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ. وَلَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا صَوْمَ لَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِذَا كَانَ الْجِمَاعُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُبْقِي الرَّجُلَ جُنُبًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ فَدَلَّ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَضُرُّ الصَّوْمَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ» وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ قِرَافٍ» أَيْ: جِمَاعٍ مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ. وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا آخَرَ سِوَى النِّيَّةِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَطَلَ صَوْمُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الصَّوْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ وَقَدْ نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ فَبَطَلَ صَوْمُهُ لِبُطْلَانِ شَرْطِهِ، وَلَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْفِعْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، أَوْ يَفْعَلُوا» وَنِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ نِيَّةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ فَلَا تَبْطُلُ بِنِيَّةٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ، عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لَا شَرْطُ بَقَائِهِ مُنْعَقِدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ النَّوْمِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْغَفْلَةِ؟ . وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلُّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، أَوْ كَانَ مِلْءُ الْفَمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَقَوْلُهُ: «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ ذَرْعَ الْقَيْءِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بَلْ يَأْتِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِالْقَيْءِ سَوَاءٌ ذَرَعَهُ، أَوْ تَقَيَّأَ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّخُولِ شَرْعًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ» عَلَّقَ كُلَّ جِنْسِ الْفِطْرِ بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ، وَلَوْ حَصَلَ لَا بِالدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْفِطْرِ مُعَلَّقًا بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ لِأَنَّ الْفِطْرَ الَّذِي يَحْصُلُ بِمَا يَخْرُجُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِطْرُ حَاصِلًا بِمَا يَدْخُلُ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْفَسَادَ بِالِاسْتِقَاءِ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي الذَّرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الذَّرْعِ وَهُوَ سَبْقُ الْقَيْءِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، فَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ النَّاسِي بِفَسَادِ الصَّوْمِ، فَكَذَا هَذَا لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا بِخِلَافِ النَّاسِي عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُفْسِدُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُفْسِدُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْعَكْسِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدِ يُفْسِدُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يُفْسِدُ أَنَّهُ وُجِدَ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْجَوْفِ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِلْءَ الْفَمِ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَالطَّهَارَةُ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ» . وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يُفْسِدُ أَنَّ الْعَوْدَ لَيْسَ صُنْعَهُ بَلْ هُوَ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمَحُّضِ يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ رَأْسًا، فَأَشْبَهَ ذَرْعَ الْقَيْءِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا عَوْدُ الْقَيْءِ فَإِنْ أَعَادَهُ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ مُتَعَمَّدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْقَيْءِ مِلْءِ الْفَمِ حُكْمَ الْخُرُوجِ حَتَّى يُوجِبَ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، فَإِذَا أَعَادَهُ فَقَدْ أَدْخَلَهُ فِي الْجَوْفِ عَنْ قَصْدٍ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ إلَى الْجَوْفِ بِصُنْعِهِ فَيُفْسِدُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدُّخُولَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَقَلِيلُ الْقَيْءِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ عَدَمِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ فَلَا يُفْسِدُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَأَمَّا إذَا اسْتَقَاءَ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَلَا يُفْسَدُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ كَثِيرُ الْمُسْتَقَاءِ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ، وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَسَدَ بِالِاسْتِقَاءِ وَكَذَا قَلِيلُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَسَدَ الصَّوْمُ بِنَفْسِ الِاسْتِقَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ عَادَ لَا يُفْسِدُ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ: يُفْسِدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُفْسِدُ. وَمَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالدُّبُرِ بِأَنْ اسْتَعَطَ أَوْ احْتَقَنَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ فَسَدَ صَوْمُهُ، أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. وَكَذَا إذَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ لِأَنَّهُ لَهُ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْجَوْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ حَالَةَ الصَّوْمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ فَسَادِ الصَّوْمِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى، وَلَوْ وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُفْسِدُ بِأَنْ اسْتَعَطَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ، أَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ. وَأَمَّا مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ غَيْرِ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ دَاوَى الْجَائِفَةَ، وَالْآمَةَ، فَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَا يُفْسِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ يُفْسِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُفْسِدُ هُمَا اعْتَبَرَا الْمَخَارِقَ الْأَصْلِيَّةَ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نَحْكُمُ بِالْفَسَادِ مَعَ الشَّكِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الدَّوَاءَ إذَا كَانَ رَطْبًا فَالظَّاهِرُ هُوَ الْوُصُولُ لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إلَى الْجَوْفِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ. وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ فَلَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ، قِيلَ: إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِنَاءٌ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِ الْبَوْلِ مِنْ الْإِحْلِيلِ فَعِنْدَهُمَا أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ مَنْفَذًا فَإِذَا قَطَرَ فِيهِ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ التَّرَشُّحِ كَتَرَشُّحِ الْمَاءِ مِنْ الْخَزَفِ الْجَدِيدِ فَلَا يَصِلُ بِالْإِقْطَارِ فِيهِ إلَى الْجَوْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجَ الشَّيْءِ مِنْ مَنْفَذِهِ كَمَا قَالَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَمَدَ أُسْتَاذِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ لِمَثَانَتِهَا مَنْفَذًا فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ. وَلَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ إلَى دِمَاغِهِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَعَ النَّصْلِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ بَقِيَ النَّصْلُ فِيهِ يُفْسِدُ. وَكَذَا قَالُوا فِيمَنْ ابْتَلَعَ لَحْمًا مَرْبُوطًا عَلَى خَيْطٍ ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَسَدَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الصَّائِمِ إذَا أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي الْمَقْعَدَةِ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ إلَّا إذَا غَابَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّاخِلِ فِي الْجَوْفِ شَرْطُ فَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُفْسِدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْجِمَاعِ فَصَارَتْ كَالْخَشَبِ. وَلَوْ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَفْسُدُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَمَّا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ كُحْلًا كَحَّلَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ» وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَذَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَمَا وَجَدَ مِنْ طَعْمِهِ فَذَاكَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ كَالْغُبَارِ، وَالدُّخَانِ. وَكَذَا لَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ أَعْضَاءَهُ فَتَشَرَّبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الْأَثَرُ لَا الْعَيْنُ. وَلَوْ أَكَلَ حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ خَشَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ قِوَامُ الْبَدَنِ يَفْسُدُ صَوْمَهُ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً. وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَأَنْزَلَ يَفْسُدُ صَوْمَهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ الْمَرْأَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَسُّ بِخِلَافِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِمَاعٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِلشَّهْوَةِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ «إيَّاكُمْ، وَالنَّظْرَةَ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ
فصل حكم فساد الصوم
الشَّهْوَةَ» . وَلَوْ عَالَجَ ذَكَرَهُ فَأَمْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَفْسُدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، وَالْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِوُجُودِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ جِمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي امْرَأَتِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ ثُمَّ خَشِيَ الصُّبْحَ فَانْتَزَعَ مِنْهَا فَأَمْنَى بَعْدَ الصُّبْحِ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِلَامِ. وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْقُصُورِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ جَامَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ. وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَنَفِسَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَدَ صَوْمُهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ مُنَافِيَانِ لِلصَّوْمِ لِمُنَافَاتِهِمَا أَهْلِيَّةَ الصَّوْمِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ إنْسَانٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ إنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجُنُونَ، وَالْإِغْمَاءَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا يُنَافِيَانِ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ: فَفَسَادُ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ: فَالْإِثْمُ إذَا أَفْسَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَذَلِكَ إلَّا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ،، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا يَأْثَمُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْعُذْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ. الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْإِثْمِ، وَالْمُؤَاخِذَةِ فَنُبَيِّنُهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: هِيَ الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالْحَبَلُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْجُوعُ، وَالْعَطَشُ، وَكِبَرُ السِّنِّ، لَكِنْ بَعْضُهَا مُرَخِّصٌ، وَبَعْضُهَا مُبِيحٌ مُطْلَقٌ لَا مُوجِبٌ، كَمَا فِيهِ خَوْفُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ دُونَ خَوْفِ الْهَلَاكِ، فَهُوَ مُرَخِّصٌ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ فَهُوَ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ بَلْ مُوجِبٌ فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يَزْدَادَ بِالصَّوْمِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ خَافَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنَاهُ وَجَعًا، أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي يُبِيحُ الْإِفْطَارَ هُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، أَوْ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ كَائِنًا مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ يُبَاحُ لَهُ أَدَاءُ صَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرَ، وَالْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لَا لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَالْوُجُوبُ لَا يَبْقَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْإِفْطَارُ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا وَأَمَّا السَّفَرُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ مُطْلَقُ السَّفَرِ الْمُقَدَّرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، دَلَّ أَنَّ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ سَبَبَا الرُّخْصَةِ ثُمَّ السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَهُمَا فِي الْآيَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمُقَيَّدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ السَّفَرِ لَيْسَ بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّفَرِ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ، أَوْ الظُّهُورِ، وَذَا يَحْصُلُ بِالْخُرُوجِ إلَى الضَّيْعَةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَخِّصَ سَفَرٌ مُقَدَّرٌ بِتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ عَلَى قَصْدِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَقْدِيرِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا مُطْلَقُ الْمَرَضِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا لَهُمَا وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَمِنْ الْأَمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيُخِفُّهُ وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ أَسْهَلَ مِنْ الْأَكْلِ، بَلْ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَمِنْ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ، وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ مَعَ أَنَّهُمَا أَفْطَرَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى غَيْرِ ذِي الْعُذْرِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ سَفَرَ طَاعَةٍ، أَوْ مُبَاحًا، أَوْ مَعْصِيَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ،، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَسَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ بَعْدَهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فَيُفْطِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَهَلَّ فِي الْحَضَرِ
لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] جَعَلَ اللَّهُ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ وَإِنَّهَا تُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ بِالْإِهْلَالِ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، فَنَقُولُ: نَعَمْ إذَا أَقَامَ، أَمَّا إذَا سَافَرَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ السَّفَرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْآيَتَيْنِ. فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَخَلَ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ حَتْمًا. فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ فَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ الْإِقَامَةِ. وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ لَمْ يَتَرَخَّصْ الْمُسَافِرُ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَجُوزُ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَامَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ إذْ الْإِفْطَارُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ وَقْتَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيَّامًا أُخَرَ وَإِذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْقَضَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ، وَالْمَعْصِيَةُ مُضَادَّةٌ لِلْعِبَادَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» فَقَدْ حَقَّقَ لَهُ حُكْمَ الْإِفْطَارِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْطَرَ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَامُوا فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهُوَ يَسِيرُ إلَى نَهْرَوَانَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ لِلْإِفْطَارِ تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا عَلَى أَرْبَابِهَا وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فَلَوْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَلَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِيهِ تَعْسِيرٌ وَتَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يُضَادُّ مَوْضُوعَ الرُّخْصَةِ وَيُنَافِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ لَصَارَ مَا هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ سَبَبَ زِيَادَةِ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ غَيْرِ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فَيَتَنَاقَضُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي، بَلْ الْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَتَقْدِيرُهَا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي ذِكْرُ الرُّخْصِ عَلَى أَنَّهُ ذِكْرُ الْحَظْرِ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] أَيْ: مَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ لِأَنَّهُ لَا إثْمَ يَلْحَقُهُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ وَقَالَ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أَيْ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَأَحْلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى النُّسُكِ مِنْ الْحَجِّ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْلَالُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ وَدَفَعَ الْأَذَى عَنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيُضْعِفُهُ فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَ كَاَلَّذِي أَفْطَرَ فِي الْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَا فِي الصَّوْمِ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ، ثُمَّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ عِنْدَنَا، إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ، وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامًّا أَيْ: مَفْرُوضٌ إذْ الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ لُغَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ فِي الْآدَابِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] أَيْ: يُرِيدُ الْإِذْنَ لَكُمْ بِالْإِفْطَارِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ لِلِامْتِنَانِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ فِي صَوْمِ النَّفْلِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] شَرَطَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ دَلِيلُ لُزُومِ حِفْظِ الْمَتْرُوكِ لِئَلَّا يَدْخُلَ التَّقْصِيرُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ» أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِفْطَارُ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَكَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسَافِرُ إنْ أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ يَصُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَا يَجِبُ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى حَالِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ صَامَ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا وُجُوبَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ، وَالسُّهُولَةُ فِي الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ أَكْمَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَظْرِ، وَالْمُؤَاخَذَةِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَاشْتَغَلَ بِالْعَزِيمَةِ يَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لَكِنْ مَعَ هَذَا؛ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَّا الْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ مِنْ السَّفَرِ فَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، وَالْإِفْطَارُ فِي مِثْلِهِ وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَضِ. وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى إفْطَارِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَمُرَخَّصٌ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِفْطَارُ حَرَامًا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْإِكْرَاهُ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّهِمَا بَلْ مُوجِبٌ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَقُتِلَ يَأْثَمُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْوُجُوبُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا فَإِذَا جَاءَ بِالْإِكْرَاهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ أَثَرُهُ فِي إثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ قَائِمًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَكَانَ بِالِامْتِنَاعِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا إسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ
الْأَكْلُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَبَلُ الْمَرْأَةِ وَإِرْضَاعُهَا: إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ بِوَلَدِهِمَا فَمُرَخَّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عَنْ أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ مَعَهُ. وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُفْطِرُ الْمَرِيضُ، وَالْحُبْلَى إذَا خَافَتْ أَنْ تَضَعَ وَلَدَهَا، وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتْ الْفَسَادَ عَلَى وَلَدِهَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحُبْلَى، وَالْمُرْضِعِ الصِّيَامَ» وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَالْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحَسَنِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَلَا يَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُجَاهِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ إنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ، وَالْحَامِلُ، وَالْمُرْضِعُ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَدَخَلَتَا تَحْتَ الْآيَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الْآيَةُ، أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءَ فَمَنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْفِدْيَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ غَيْرَهُ دَلَّ أَنَّهُ كُلُّ حُكْمٍ لِحَادِثَةٍ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ صُورَةَ الْمَرَضِ بَلْ مَعْنَاهُ. وَقَدْ وُجِدَ فِي الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ الْآيَةِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِهِ مَعْنًى يَضُرُّهُ الصَّوْمُ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ لَا مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ " وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أَيْ: لَا تَضِلُّوا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ فِيهَا شَرْعُ الْفِدَاءِ مَعَ الصَّوْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ دُونَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَعِنْدَهُ يَجِبُ الصَّوْمُ، وَالْفِدَاءُ جَمِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ. وَأَمَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ: فَمُبِيحٌ مُطْلَقٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا كِبَرُ السِّنِّ حَتَّى يُبَاحَ لِلشَّيْخِ الْفَانِي أَنْ يُفْطِرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُطِيقِ لِلصَّوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وَهُوَ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الشَّيْخُ الْفَانِي إمَّا عَلَى إضْمَارِ حَرْفِ لَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِمَّا عَلَى إضْمَارِ كَانُوا أَيْ: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ " أَيْ: الصَّوْمَ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا فَاتَهُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ بِالصَّوْمِ فَيُجْبَرُ بِالْفِدْيَةِ، وَتُجْعَلُ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ كَالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِقْدَارُ الْفِدْيَةِ مِقْدَارُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْذَارُ كَمَا تُرَخِّصُ، أَوْ تُبِيحُ الْفِطْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُرَخِّصُ، أَوْ تُبِيحُ فِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ وَقْتُ الصَّوْمِ وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ، أَوْ يَسْتَطِيعُ مَعَ ضَرَرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ. فَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَسَادِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، أَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ: فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غَيْرَ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ، لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ مَعْنًى. وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ
مُبِيحٍ وَلَا مُرَخِّصٍ وَلَا شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ، وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهُمَا: إيصَالَ مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْفَمِ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَاهُ: إيلَاجَ الْفَرْجِ فِي الْقُبُلِ لِأَنَّ كَمَالَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ بِالْجِمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلَكْتُ، وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ لَهُ: مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً» . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ عَلَيْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عُرِفَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ. وَكَذَا وَرَدَ بِالْوُجُوبِ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِسَبَبِ فِعْلِ الرَّجُلِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَمُّلُ كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ، وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِيهِمَا، وَهُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمِّدًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ الْقَضَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ: إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوْمَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ يَجِبُ تَكْفِيرًا زَجْرًا عَنْ جِنَايَةٍ الْإِفْسَادِ، أَوْ رَفْعًا لِذَنْبِ الْإِفْسَادِ، وَصَوْمُ الْقَضَاءِ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْآخَرُ، فَلَا يَسْقُطُ صَوْمُ الْقَضَاءِ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْتَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا» . وَلَوْ جَامَعَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَأَنْ تَجِبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَوْلَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ إذَا تَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ،، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا يَنْدُرُ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَكْرُوهٌ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْمَيْتَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَعْتَمِدُ إفْسَادَ الصَّوْمِ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى. وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْبَدَنُ، أَمَّا عَلَى وَجْهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَالتَّوْبَةُ كَافِيَةٌ لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَهْتَدِي إلَى تَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ لَيْسَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ دُونَهُمَا، فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْجِمَاعِ لَا يَكُونُ وَارِدًا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» ، وَعَلَى الْمُظَاهِرِ الْكَفَّارَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ، فَكَذَا عَلَى الْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا. وَلَنَا أَيْضًا الِاسْتِدْلَال بِالْمُوَاقَعَةِ،، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا، أَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهَا فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْمُوَاقَعَةِ وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا إفْسَادًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ إفْسَادٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ فَكَانَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ إيجَابًا هَهُنَا دَلَالَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمُوَاقَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُجْمَلٌ، وَالْآخَرُ: مُفَسَّرٌ، أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ: فَلِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ رَمَضَانَ ذَنْبٌ وَرَفْعُ الذَّنْبِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا لِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَالْكَفَّارَةُ تَصْلُحُ رَافِعَةً لَهُ لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ. وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِكَوْنِ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَانُ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ رَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، إلَّا أَنَّ الذُّنُوبَ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ. وَكَذَا الرَّوَافِعَ لَهَا لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا الشَّارِعُ لِلْأَحْكَامِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَتَى وَرَدَ
الشَّرْعُ فِي ذَنْبٍ خَاصٍّ بِإِيجَابِ رَافِعٍ خَاصٍّ وَوُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ إيجَابًا لِذَلِكَ الرَّافِعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ، وَالْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَاقَعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ هُنَاكَ وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ عَنْ إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ صِيَانَةً لَهُ فِي الْوَقْتِ الشَّرِيفِ، لِأَنَّهَا تَصْلُحُ زَاجِرَةً، وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الزَّاجِرِ. أَمَّا الصَّلَاحِيَّةُ فَلِأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَلِوُجُودِ الدَّاعِي الطَّبِيعِيِّ إلَى الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَهَذَا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْجُوعَ، وَالْعَطَشَ يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرَ، فَكَانَ شَرْعُ الزَّاجِرِ هُنَاكَ شَرْعًا هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْنَعُ عَدَمُ جَوَازِ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُقْتَضِيَةَ لِكَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ أَكَلَ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى: كَالْحَصَاةِ، وَالنَّوَاةِ، وَالتُّرَابِ، وَغَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إفْطَارٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ وَهُوَ: الْكَفُّ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صُورَةُ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّا أَلْحَقْنَا الصُّورَةَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّوْمِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ بَلَعَ جَوْزَةً صَحِيحَةً يَابِسَةً، أَوْ لَوْزَةً يَابِسَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً لَا مَعْنًى، لِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَشْبَهَ أَكْلَ الْحَصَا. وَلَوْ مَضَغَ الْجَوْزَةَ أَوْ اللَّوْزَةَ الْيَابِسَةَ حَتَّى يَصِلَ الْمَضْغُ إلَى جَوْفِهَا حَتَّى ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَكَلَ لُبَّهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ لَوْزَةً صَغِيرَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَقَوْلُهُ فِي اللَّوْزَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ كُلُّهَا كَالْخَوْخَةِ، وَلَوْ أَكَلَ جَوْزَةً رَطْبَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، وَالتَّدَاوِي. وَلَوْ أَكَلَ عَجِينًا أَوْ دَقِيقًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا التَّغَذِّي وَلَا التَّدَاوِي، فَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الصَّوْمِ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّقِيقِ، وَالْعَجِينِ فَقَالَ: فِي الدَّقِيقِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ وَفِي الْعَجِينِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ قَضَمَ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ. وَلَوْ ابْتَلَعَ إهْلِيلَجَةً، رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَرَوَى هِشَام عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهَذَا أَقْيَسُ عِنْدِي، لِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَلَوْ أَكَلَ طِينًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْمَنِيًّا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِيقُونَ أَيْ: يُتَدَاوَى بِهِ، قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: فَقُلْتُ لَهُ هَذَا الطِّينُ الَّذِي يُقْلَى يَأْكُلُهُ النَّاسُ؟ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هَذَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ، أَوْ لَا. وَلَوْ أَكَلَ وَرَقَ الشَّجَرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَكَلَ مِسْكًا أَوْ غَالِيَةً أَوْ زَعْفَرَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ هَذَا يُؤْكَلُ وَيُتَدَاوَى بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَنَاوَلَ سِمْسِمَةً؟ قَالَ: فَطَّرَتْهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، أَوْ لَا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السِّمْسِمَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ امْتَصَّ سُكَّرَةً بِفِيهِ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى دَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ السُّكَّرَ هَكَذَا يُؤْكَلُ. وَلَوْ مَصَّ إهْلِيلَجَةً فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ؟ قَالَ: لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى. وَلَوْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ دَمٌ فَدَخَلَ حَلْقَهُ أَوْ ابْتَلَعَهُ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَفْسُدَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْسُدُ احْتِيَاطًا، وَلَوْ أَخْرَجَ الْبُزَاقَ مِنْ فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا ابْتَلَعَ بُزَاقَ غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعَافُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ لُعَابَ حَبِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَبِيبَ لَا يَعَافُ رِيقَ حَبِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ. وَلَوْ أَكَلَ
لَحْمًا قَدِيدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ أَكَلَ شَحْمًا قَدِيدًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ كَمَا فِي اللَّحْمِ، لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّحْمِ الْقَدِيدِ. وَلَوْ أَكَلَ مَيْتَةً فَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَنْتَنَتْ وَدَوَّدَتْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَلَوْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى، إذْ الْجِمَاعُ: هُوَ الْإِيلَاجُ، فَأَمَّا الْإِنْزَالُ: فَفَرَاغٌ مِنْ الْجِمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ أَنْزَلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورٍ فِي الْجِمَاعِ لِوُجُودِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ لِقُصُورٍ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ وَنَبْوَةِ الطَّمَعِ. وَلَوْ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْ الْخُبْزِ لِيَأْكُلَهَا وَهُوَ نَاسٍ فَلَمَّا مَضَغَهَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَابْتَلَعَهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ ذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَابْتَلَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا صَارَ بِحَالٍ يُعَافُ مِنْهَا وَمَا دَامَتْ فِي فِيهِ فَإِنَّهُ يَتَلَذَّذُ بِهَا. وَلَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ خَاطِئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي سَفَرِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ قَائِمٌ وَهُوَ السَّفَرُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا اسْتَنَدَتْ إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ اُعْتُبِرَتْ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ وُجِدَتْ هَهُنَا، وَهِيَ صُورَةُ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مُرَخِّصٌ أَوْ مُبِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هَهُنَا اسْتَنَدَتْ إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ لِوُجُودِ الْمُضَادِّ لِلصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ لَهُ يَقْضِي. وَكَذَا الْقَيْءُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ عَوْدِ بَعْضِهِ مِنْ الْفَمِ إلَى الْجَوْفِ، فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَاعْتُبِرَتْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ، أَيْ: بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي وَالْقَيْءَ لَا يُفْطِرَانِ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ ظَنَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَعَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ. فَإِنْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، إنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ، وَإِنْ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحِجَامَةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاسْتِفْتَاءُ مِنْ الْمُفْتِي لَا الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكًا، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى دَلِيلٍ أَصْلًا. وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ ظَنُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْطَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى يَصِيرُ شُبْهَةً. وَلَوْ اغْتَابَ إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هَهُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ «الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً. وَكَذَا لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ
لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ مَرِضَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مَرَضًا يُرَخِّصُ الْإِفْطَارَ أَوْ يُبِيحُهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمَرَضِ مَعْنًى يُوجِبُ تَغْيِيرَ الطَّبِيعَةِ عَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْدُثُ فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ فَكَانَ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ، فَمَنَعَ انْعِقَادَ الْإِفْطَارِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، أَوْ وُجُودُ أَصْلِهِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَإِنَّهُ يُوجَدُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ وُجُودِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ حَاضَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ نَفِسَتْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ مُجْتَمِعٌ فِي الرَّحِمِ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْرُزْ فَمَنَعَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْقُطُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَخِّصَ أَوْ الْمُبِيحَ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي. وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا مُرَخِّصًا لِلْإِفْطَارِ أَوْ مُبِيحًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْقُطُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَرَضَ هُنَا حَدَثَ مِنْ الْجُرْحِ وَإِنَّهَا وُجِدَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ فَكَانَ الْمَرَضُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ حُدُوثِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَوُجِدَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِشَرَائِطِهِ، وَعِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فَلَمْ يُوجَدْ الصَّوْمُ فَاسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا قَبْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْوِيَ فَإِذَا أَكَلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الْفَرْضِيَّةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا فَكَانَ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ مَعْنًى بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَقَعْ إبْطَالًا لِلْفَرْضِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا قَبْلَ الْأَكْلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي صَوْمًا ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ؟ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ سَوَاءً، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا جَامَعَ فِي آخِرِهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّا لِلصَّوْمِ وَلَا يَتَجَزَّأُ أَوْ يُوجِبُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي آخِرِ الْيَوْمِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْكَلَامُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِرَارًا بِأَنْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ فِي الثَّالِثِ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ جِمَاعٍ كَفَّارَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْجِمَاعُ عِنْدَهُ، وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فِيهِ ضَرُورَةٌ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الْحُدُودُ لِمَا فِي التَّكَرُّرِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَالْيَمِينِ، وَالظِّهَارِ. وَلَنَا حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ وَاقَعْتُ يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ لَازِمٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَعْنِي كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْجِنَايَةِ الْخَالِصَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ
فصل حكم الصوم المؤقت إذا فات عن وقته
الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَامَعَ بَعْدَ مَا كَفَّرَ عُلِمَ أَنَّ الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ. وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُجْزِئُ عَنْ الْأُولَى. وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ تُجْزِئُ عَنْ الثَّانِيَةِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِئُ عَمَّا تَأَخَّرَ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِشَيْءٍ مِنْهَا فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَجْزَأَتْ عَنْ الْأُولَى، وَالْأَصْلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ الثَّانِي يُجْزِئُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَلَا يُجْزِئُ عَمَّا بَعْدَهُ. وَأَمَّا صِيَامُ غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْهُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ، وَأَنَّهُ صَوْمٌ شَرِيفٌ فِي وَقْتٍ شَرِيفٍ لَا يُوَازِيهِمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصِّيَامِ وَالْأَوْقَاتِ فِي الشَّرَفِ وَالْحُرْمَةِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الصِّيَامُ الْمَفْرُوضُ: فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ لِفَوَاتِ الشَّرَائِطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ وَالنَّذْرِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهِ عَمَّا عَلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، وَعَلَيْهِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَفِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَسَدَ. وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ: فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إلَيْنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي وُجُوبِ الْمُضِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّوْمِ الْمَظْنُونِ إذَا أَفْسَدَهُ بِأَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي خِلَالِهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي النَّفْلِ وَلِهَذَا نُدِبَ إلَى الْمُضِيِّ فِيهِ، وَالشُّرُوعُ فِي النَّفْلِ مُلْزَمٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا كَانَ الشُّرُوعُ فِي الْحَجِّ الْمَظْنُونِ مُلْزَمًا كَذَا الصَّوْمُ وَلَنَا أَنَّهُ شَرَعَ مُسْقِطًا لَا مُوجِبًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالشُّرُوعِ إسْقَاطَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَصْدًا، وَالشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعِبَادَةِ فِي زَعْمِهِ وَتَشَبُّهِهِ بِالشَّارِعِ فِي الْعِبَادَةِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ كَمَا يُثَابُ الْمُتَشَبِّهُ بِالصَّائِمِينَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إذَا أَفْطَرَ بِعُذْرٍ، وَالِاشْتِبَاهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، فَإِنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ فِي بَابِ الْحَجِّ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَكُونُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ فَالصَّوْمُ الْمُؤَقَّتُ نَوْعَانِ: صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ. أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: وُجُوبُ إمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فِي حَالٍ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي حَالٍ وَوُجُوبُ الْفِدَاءِ فِي حَالٍ. أَمَّا وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَصَارَ بِحَالٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَقَدِمَ الْمُسَافِرُ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى
ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ طَلَعَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا وَمَنْ لَا فَلَا، فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ، وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا يَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ فَلَمْ يَجِبْ الْإِمْسَاكُ خَلَفًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ النَّاذِرُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: إلَّا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا يَوْمئِذٍ، وَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ وَقْتٌ شَرِيفٌ فَيَجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِتَحْقِيقِ الصَّوْمِ فِيهِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّائِمِينَ قَضَاءً لِحَقِّهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّشَبُّهِ وَنَفْيًا لِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَفِي حَقِّ هَذَا الْمَعْنَى الْوُجُوبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ التَّشَبُّهُ وَجَبَ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجِبُ قَضَاءً لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَا خَلَفًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ حَتَّى يَجِبَ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَالْكَلَامُ فِي قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَكَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، أَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنْ تُقْضَى لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَسَوَاءٌ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُقَصِّرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ الْفَائِتِ بَلْ حَاجَةُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَشَدُّ. وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ وَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَيُطْعَمُ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَذَا هَذَا فَإِنْ بَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَأَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا أَدْرَكَ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ وَهِيَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فَيَتَحَوَّلُ الْوُجُوبُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ شَدِيدُ الْمَرَضِ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَمَاتَ هَلْ يُقْضَى عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ فَلَا يُقْضَى عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَقَدْ أَطَاقَ الصِّيَامَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ» . وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَضَاءُ بِالْفِدْيَةِ لَا بِالصَّوْمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» وَلِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَحْتَمِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَسَّرًا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى أَوْ عَلَى النَّدْبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَمْ يَلْزَمْهُمْ، وَتَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ. وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ عَنْهَا، وَالْأَصْلُ لَا يَتَأَدَّى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا الْبَدَلُ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا وَالْجَبْرُ يُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ هَذَا إذَا أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، فَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي فِيهِ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِأَنْ صَحَّ الْمَرِيضُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ حَتَّى لَوْ مَاتَ
لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ بَلْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يَصُمْهُ وَإِنْ صَامَهُ فَلَا وَصِيَّةَ عَلَيْهِ رَأْسًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْجَمِيعِ إذَا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ لَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَإِنْ صَامَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ وَمَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَمَا أَثْبَتَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ. وَإِنْ كَانَ مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ الْإِيجَابُ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَوْضُوعٌ شَرْعًا وَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ، فَإِنْ صَامَ ذَلِكَ الْقَدْرَ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فَقَدْ قَصَّرَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ إلَّا قَدْرُ أَيَّامِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ فِيهِمَا إلَّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَهُوَ أَنَّ قَدْرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ يَصْلُحُ لَهُ الْأَيَّامَ كُلَّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَمْ يَصُمْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ، وَإِذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ وَصَارَ قَدْرُ مَا صَامَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْتِ فَلَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِوَقْتٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ عَلَى الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَهَلْ هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ خَارِجَ الْوَقْتِ؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجْنَا مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا فِيهِ اتِّفَاقٌ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ فَوَقْتُ أَدَائِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ سَائِرُ الْأَيَّامِ خَارِجَ رَمَضَانَ سِوَى الْأَيَّامِ السِّتَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا عَنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ أَصْلًا، كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيِّنٍ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُكَلَّفِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: إنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ. وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ بَلْ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ لَكُرِهَ لَهُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَضِيقِ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَأَنَّهُ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ مَعَ رُخْصَةِ التَّأْخِيرِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْأَمْرِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَحَكُّمًا عَلَى الدَّلِيلِ وَالْقَوْلُ بِالْفِدْيَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِهِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَادَةً كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَمَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ قَضَائِهِ إلَّا الْوَقْتَ وَتَعْيِينَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ
فصل بيان ما يسن وما يستحب للصائم وما يكره له أن يفعله
فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَثْنَاةَ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ اللَّيْلِ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِدَاءِ: فَشَرْطُهُ الْعَجْزُ عَنْ الْقَضَاءِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَا فِدَاءَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلَا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ مَنْ يُفْطِرُ لِعُذْرٍ تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ خَلَفٌ عَنْ الْقَضَاءِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الشَّيْخَ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ بَطَلَ الْفِدَاءُ. وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ: فَهُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ لَا غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مَمَرِّ الْوَقْتِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُضَافٌ إلَى زَمَانٍ مُتَعَيَّنٍ فَإِذَا مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ الْوَقْتَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ بَرِئَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَوْ نَذَرَ وَهُوَ صَحِيحٌ وَصَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِمَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَوْ نَذَرَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِقَدْرِ مَا صَحَّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَنَقُولُ: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ السُّحُورُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ» وَلِأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّدْبِ إلَى السُّحُورِ فَقَالَ: «اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلِ السُّحُورِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ» وَالسُّنَّةُ فِيهَا هُوَ التَّأْخِيرُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ فِيهِ أَبْلَغُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: تَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ» . وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَكُونُ الْأَكْلُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ. وَهَلْ يُكْرَهُ الْأَكْلُ مَعَ الشَّكِّ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فَلَا يَأْكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَاَلَّذِي يَأْكُلُ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَكَانَ بِالْأَكْلِ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَى أَمَارَةِ الطُّلُوعِ مِنْ ضَرْبِ الدِّبْدَابِ وَالْأَذَانِ يُكْرَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ هَذَا إذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا إذَا تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: إنَّ الْأَحَبَّ إلَيْنَا أَنْ يَقْضِيَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ دَلِيلٌ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ بَلْ هُوَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيْنَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَنْتَظِرُوا لِلْإِفْطَارِ طُلُوعَ النُّجُومِ» وَلِتَأْخِيرٍ يُؤَدِّي إلَيْهِ، وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ لِجَوَازِ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ فَكَانَ الْإِفْطَارُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا غَرَبَتْ أَمْ لَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَلَا الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَحُّرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ اللَّيْلَ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ فَلَا يَبْطُلُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَهَهُنَا النَّهَارُ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ اللَّيْلُ بِالشَّكِّ، فَكَانَ الْإِفْطَارُ حَاصِلًا فِيمَا لَهُ حُكْمُ النَّهَارِ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ احْتِيَاطًا. فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ الْمَارِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ حُكْمٌ حَادِثٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ التَّسَحُّرِ بِأَنْ تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ وَلَوْ أَفْطَرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّهُ فِي الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَقَاءُ النَّهَارِ فَوَقَعَ إفْطَارُهُ فِي النَّهَارِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، كَيْفَ وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغُرُوبِ قَائِمٌ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَ لَا يُفْطِرُهُ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكْتَحَلَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَيْنِ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ، وَإِنْ وَجَدَ فِي حَلْقِهِ فَهْوَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْهُنَ لِمَا قُلْنَا، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَمْضُغَ الصَّائِمُ الْعِلْكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفَصِلَ شَيْءٌ مِنْهُ فَيَدْخُلُ حَلْقَهُ، فَكَانَ الْمَضْغُ تَعْرِيضًا لِصَوْمِهِ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ فَعَلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْجَوْفِ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَعْجُونًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يُفْطِرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ فَيَصِلُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى جَوْفِهِ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا، وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيَّتِهَا طَعَامًا وَهِيَ صَائِمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى جَوْفِهَا إلَّا إذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُكْرَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ الْعَسَلَ أَوْ السَّمْنَ أَوْ الزَّيْتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ لِيَعْرِفَ أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ ذَلِكَ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ لِتَعْرِفَ طَعْمَهَا لِأَنَّهُ يُخَافُ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْحَلْقِ فَتُفْطِرُ. وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ سَوَاءٌ كَانَ السِّوَاكُ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ مَبْلُولًا يُكْرَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ السِّوَاكُ فِي آخِرِ النَّهَارِ كَيْفَمَا كَانَ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» وَالِاسْتِيَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ فَيُكْرَهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِيَاكَ بِالْمَبْلُولِ مِنْ السِّوَاكِ إدْخَالُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ وَصَفَ الِاسْتِيَاكَ بِالْخَيْرِيَّةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَبْلُولِ وَغَيْرِ الْمَبْلُولِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَطْهِيرُ الْفَمِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَبْلُولُ وَغَيْرُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، كَالْمَضْمَضَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الصَّائِمِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الصَّوْمِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِهِ مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُرْضِيهِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ الصَّائِمِ لِتَغَيُّرِ فَمِهِ بِالصَّوْمِ فَمَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْكَلَامِ. وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُقَبِّلَ وَيُبَاشِرَ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ. أَمَّا الْقُبْلَةُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصُمْ إذًا» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَشَشْتُ إلَى أَهْلِي ثُمَّ أُتِيتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: إنِّي عَمِلْتُ الْيَوْمَ عَمَلًا عَظِيمًا إنِّي قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ أَكَانَ يَضُرُّكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَصُمْ إذًا» . وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ
وَهُوَ صَائِمٌ» . وَرُوِيَ «أَنَّ شَابًّا وَشَيْخًا سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَنَهَى الشَّابَّ وَرَخَّصَ لِلشَّيْخِ وَقَالَ: الشَّيْخُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ وَأَنَا أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِي» وَفِي رِوَايَةٍ «الشَّيْخُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ» وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مَا سِوَى ذَلِكَ ظَاهِرًا وَغَالِبًا بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ وَفِي حَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَتْ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَمَضْمَضَ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لِلْوُضُوءِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الِاسْتِنْشَاقُ وَالِاغْتِسَالُ وَصَبُّ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفُ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً مِنْ شِدَّةٍ الْحَرِّ وَهُوَ صَائِمٌ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَبُلُّ الثَّوْبَ وَيَتَلَفَّفُ بِهِ وَهُوَ صَائِمٌ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا دَفْعُ أَذَى الْحَرِّ فَلَا يُكْرَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَظَلَّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الضَّجَرِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهَا، وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ حَالُ خَوْفِ الْإِفْطَارِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَكَذَا فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَلَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ» . وَلَوْ احْتَجَمَ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُفْطِرهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَامُ يُفْطِرُ لَمَا فَعَلَهُ. وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رُخِّصَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إثْبَاتُ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمَا مَا يُوجِبُ الْفِطْرَ وَهُوَ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْجِمُ رَجُلًا وَهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ: بِسَبَبِ الْغِيبَةِ مِنْهُمَا عَلَى مَا رُوِيَ «الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» وَلِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَيْسَتْ إلَّا إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ كَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» وَلِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّوْمِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا إنْ كَانَ يَضُرُّهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مَعَ الصَّوْمِ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا. فَإِنْ كَانَ صِيَامُهَا لَا يَضُرُّهُ بِأَنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَلَيْسَ لِعَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ وَلَا مُدَبَّرٍ وَلَا مُدَبَّرَةٍ وَأُمِّ وَلَدٍ أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْفَرَائِضُ فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَهَا إلَى التَّطَوُّعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ الْمَوْلَى أَوْ لَا يَضُرُّهُ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْمِلْكِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الضَّرَرِ. وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُفَطِّرَ الْمَرْأَةَ إذَا صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَا لِلْمَوْلَى، وَتَقْضِي الْمَرْأَةُ إذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا أَوْ بَانَتْ مِنْهُ، وَيَقْضِي الْعَبْدُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ أُعْتِقَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ قَدْ صَحَّ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُمَا مُنِعَا فِي الْمُضِيِّ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَإِذَا أَفْطَرَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ الرَّجُلُ لِيَخْدِمَهُ فَلَا يَصُومُ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ صَوْمَهُ يَضُرُّ الْمُسْتَأْجِرَ أَمَّا لَوْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَنَافِعِهِ بِقَدْرِ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ، وَالْخِدْمَةَ حَاصِلَةٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ مِلْكُ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ سِوَى الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَهَهُنَا الْمَانِعُ مِلْكُ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ. وَأَمَّا بِنْتُ الرَّجُلِ وَأُمُّهُ وَأُخْتُهُ فَلَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِغَيْرِ
كتاب الاعتكاف
إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَنَافِعِهَا، فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا كَمَا لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ دُخُولَ مِصْرِهِ أَوْ مِصْرًا آخَرَ يَنْوِي فِيهِ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ لِلْفِطْرِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ وَالْمُرَخِّصُ وَالْمُبِيحُ وَهُوَ السَّفَرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ احْتِيَاطًا فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنْ لَا يَتَّفِقَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْفِطْرِ فِيهِ وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَّا شَيْئًا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُكْرَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ» الصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا وَقْتٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّوْمُ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِيهَا أَوْلَى مِنْ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِهَا، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَرِيبٌ فِي حَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى النَّدْبِ فِي حَقِّ مَنْ اعْتَادَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَقْضِيَ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي صَوْمَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الِاعْتِكَافِ] [فَصْلٌ صِفَةُ الِاعْتِكَافِ] (كِتَابُ الِاعْتِكَافِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاعْتِكَافِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وَفِي بَيَان رُكْنِهِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاعْتِكَافُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلٌ وَهُوَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ، بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، بِأَنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي فِعْلٌ، وَهُوَ الشُّرُوعُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعَ مُلْزِمٌ عِنْدَنَا كَالنَّذْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ، مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ وَلَمْ يَتْرُكْ الِاعْتِكَافَ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ» . وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ دَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ بَيْتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى خِدْمَتِهِ لِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَطَمَعِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ مَثَلُ الَّذِي أَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي؛ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ. وَالْعَزِيمَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْقِيَامُ بِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَإِنَّمَا رُخِّصَ تَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالِاعْتِكَافِ اشْتِغَالًا بِالْعَزِيمَةِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهِ يَلْتَحِقُ بِالْعَزَائِمِ الْمُوَظَّفَةِ الَّتِي لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ. أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّهَا شَرْطُ الْجَوَازِ فِي نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَكَذَا الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ. وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مَمْنُوعُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ. وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَإِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهُ، فَإِذَا أُعْتِقَ قَضَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فَإِذَا بَانَتْ قَضَتْ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا، وَلِلْوَلِيِّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَفِي الِاعْتِكَافِ تَأْخِيرُ
حَقِّهِمَا فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مَا دَامَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَإِذَا بَانَتْ الْمَرْأَةُ وَأُعْتِقَ الْمَمْلُوكُ؛ لَزِمَهُمَا قَضَاؤُهُ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ مِنْهُمَا قَدْ صَحَّ لِوُجُودِهِ مِنْ الْأَهْلِ لَكِنَّهُمَا مُنِعَا لِحَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُمَا بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُكَاتَبِهِ؛ فَكَانَ كَالْحُرِّ فِي حَقِّ مَنَافِعِهِ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ بِالِاعْتِكَافِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا بِالِاعْتِكَافِ فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالِاعْتِكَافِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا مَلَّكَهُ الْمَوْلَى مَنَافِعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا أَعَارَهُ مَنَافِعَهُ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي الْوَعْدِ وَغُرُورٌ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: النِّيَّةُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَمِنْهَا: الصَّوْمُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَيْسَ إلَّا اللُّبْثَ وَالْإِقَامَةَ، وَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الصَّوْمِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَفِيهِ جَعْلُ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا وَأَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ. وَكَذَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِدُونِهِ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَكَمَا رَأَى الْهِلَالَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي الِاعْتِكَافِ وَلَا صَوْمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلَوْ كَانَ شَرْطًا؛ لَمَا جَازَ بِدُونِهِ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ إذْ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ بِدُونِ شَرْطِهَا لَا يَصِحُّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفَ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِالِاعْتِكَافِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ثُمَّ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، فَكَذَا الرُّكْنُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِاسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لِلصَّوْمِ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ شَرْطًا كَانَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ بِمُلَازَمَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ تَرْكِ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الْقِوَامِ وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيَالِي، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْجِمَاعِ. وَقَوْلُهُ الِاعْتِكَافُ لَيْسَ إلَّا اللُّبْثَ وَالْمُقَامَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ، وَالنِّيَّةُ وَكَذَا كَوْنُ الصَّوْمِ عِبَادَةً مَقْصُودَةً بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ جُعِلَ شَرْطًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كَذَا هَهُنَا وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَصْلًا، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِيَوْمٍ؛ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ؛ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ فِي الِاعْتِكَافِ فِي اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ دَخَلَتْ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ اسْمِ الشَّهْرِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي دَخَلَتْ تَبَعًا لَا أَصْلًا وَمَقْصُودًا؛ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي وَيَكُونُ أَوَّلُ دُخُولِهِ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَأَمَّا النَّذْرُ بِاعْتِكَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَالصَّوْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ عَيْنًا وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]
فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي اعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ أَوْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَلَوْ سَاعَةً. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ إذْ صَوْمُ بَعْضِ الْيَوْمِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا لَيْسَ مُقَدَّرًا. وَلَمَّا كَانَ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَالصَّوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لَهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا بِصَوْمٍ وَالتَّعْيِينِ إلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَطْلُعُ الْفَجْرُ وَهُوَ فِيهِ فَيَعْتَكِفُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا كَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْيَوْمَ فِي النَّذْرِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً؛ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، فَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي الِاعْتِكَافِ تَبَعًا؛ فَالنَّذْرُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الْأَصْلِ. فَإِمَّا أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَحْمِلَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: اعْتِبَارُ الْفَرْدِ بِالْجَمْعِ وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَكُونُ ذِكْرًا لِلْأَيَّامِ كَذَا ذِكْرُ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ يَكُونُ ذِكْرًا لِيَوْمٍ وَاحِدٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ فَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّبَعِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ؛ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَلَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ؛ لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِكَافُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَتَيْهِمَا وَتَعْيِينُ ذَلِكَ إلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ؛ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَمْكُثُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَوْمَهَا، ثُمَّ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَيَوْمَهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لَا تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ. فَعَلَى قَوْلِهِ يَدْخُلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَوْ دَخَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ التَّتَابُعِ وَالدَّوَامِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي دُخُولِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ حَيْثُ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: كُنَّا عِنْدَ فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُرِيدُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، وَمِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ لَمْ يُوجَدْ فِي التَّثْنِيَةِ وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا الْعُرْفَ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي الْجَمْعِ؛ يَقُولُ الرَّجُلُ: كُنَّا عِنْدَ فُلَانٍ يَوْمَيْنِ وَيُرِيدُ بِهِ يَوْمَيْنِ وَمَا بِإِزَائِهِمَا مِنْ اللَّيَالِي. وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَكِنْ تَعْيِينُ الْيَوْمَيْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي النَّذْرِ، وَلَوْ نَوَى يَوْمَيْنِ خَاصَّةً دُونَ لَيْلَتَيْهِمَا؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّتَابُعِ وَالْيَوْمَانِ مُتَفَرِّقَانِ لِتَخَلُّلِ اللَّيْلَةِ بَيْنَهُمَا؛ فَصَارَ الِاعْتِكَافُ هَهُنَا كَالصَّوْمِ فَيَدْخُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَيَّامُ مَعَ لَيَالِيهِنَّ وَتَعْيِينُهَا إلَيْهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ. وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِمَا قُلْنَا وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ وَلَهُ خِيَارُ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْأَيَّامِ. وَالْأَيَّامُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَيَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَتَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ لَيْلَتَيْنِ مَعَ يَوْمَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ اللَّيَالِي وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَلَوْ نَوَى اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي. وَكَذَا اللَّيَالِي إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا عَبَّرَ فِي مَوْضِعٍ بِاسْمِ الْأَيَّامِ وَفِي مَوْضِعٍ بِاسْمِ اللَّيَالِي؛ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هُوَ وَمَا بِإِزَاءِ صَاحِبِهِ، حَتَّى أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الْأَيَّامُ فِيهِ عَلَى عَدَدِ اللَّيَالِي أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] وَلِلْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَهُنَا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ فِيهِ كَمَا فِي اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ فَهُوَ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ دُونَ مَا نُقِلَ عَنْهُ بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بَاقٍ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ. ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَكَذَا ذَاتُ الْأَيَّامِ لَا تَقْتَضِي التَّتَابُعَ لِتَخَلُّلِ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاعْتِكَافِ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ؛ لَمْ يُعْمَلْ بِنِيَّتِهِ وَلَزِمَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ لِأَنَّهُ لَمَا نَصَّ عَلَى الْأَيَّامِ، فَإِذَا قَالَ: نَوَيْت بِهَا اللَّيَالِيَ دُونَ الْأَيَّامِ؛ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ؛ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَقَالَ: عَنَيْت بِهِ اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيَالِي فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي كَانَتْ الشَّمْسُ فِيهِ غَائِبَةً إلَّا أَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ بِالْعُرْفِ فَإِذَا عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بَاقٍ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ، أَيَّ شَهْرٍ كَانَ، مُتَتَابِعًا فِي النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا، سَوَاءٌ ذَكَرَ التَّتَابُعَ أَوْ لَا. وَتَعْيِينُ ذَلِكَ الشَّهْرِ إلَيْهِ، فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ وَهُوَ فِيهِ فَيَعْتَكِفُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّتَابُعَ وَلَا نَوَاهُ؛ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ التَّتَابُعِ أَوْ بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَمْ يُنْوَ التَّتَابُعُ أَيْضًا فَيُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ. وَلَنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ دَائِمَةٌ وَمَبْنَاهَا عَلَى الِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّهُ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ، وَاللَّيَالِيَ قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّتَابُعِ. وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ لَكِنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِيهِ وَفِي ذَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا غَيْرَ مُعَيِّنٍ؛ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا؛ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَيْسَ مَبْنَى حُصُولِهِ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ كُلِّ عِبَادَتَيْنِ مِنْهُ وَقْتًا لَا يَصْلُحُ لَهَا وَهُوَ اللَّيْلُ؛ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَيْدُ التَّتَابُعِ وَلَا اقْتِضَاءُ لَفْظُهُ وَتَعْيِينُهُ؛ فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ التَّتَابُعُ فِيمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالتَّتَابُعِ مِنْ الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ نَوَى فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ كَالْبَلَقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدَهُمَا؛ فَقَدْ أَرَادَ بِالِاسْمِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَلَا احْتَمَلَهُ فَبَطَلَ، كَمَنْ ذَكَرَ الْبَلَقَ وَعَنَى بِهِ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ. وَهَذَا بِخِلَافِ اسْمِ الْخَاتَمِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَالْفَصُّ كَالتَّابِعِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِيهَا زِينَةً لَهَا؛ فَكَانَ كَالْوَصْفِ لَهَا فَجَازَ أَنْ يُذْكَرَ الْخَاتَمُ وَيُرَادَ بِهِ الْحَلْقَةُ. فَأَمَّا هَهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّمَانَيْنِ أَصْلٌ فَلَمْ يَنْطَلِقْ الِاسْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا حَيْثُ انْصَرَفَ إلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا لَا نَقُولُ: إنَّ اسْمَ الشَّهْرِ تَنَاوَلَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، بَلْ تَنَاوَلَ النَّهَارَ وَاللَّيَالِيَ جَمِيعًا؛ فَكَانَ مُضِيفًا النَّذْرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيَالِي وَالنَّهَارِ جَمِيعًا مَعًا غَيْرَ أَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَيْهَا فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَا ذِكْرُ اللَّيَالِي وَالنَّهَارُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ؛ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُصَادِفَ لِمَحَلِّهِ يَصِحُّ، وَالْمُصَادِفَ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ يَلْغُو، فَأَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلٌّ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ يَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ. وَهُوَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ فَقَدْ لَغَا ذِكْرُ الشَّهْرِ بِنَصِّ كَلَامِهِ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْت فَرَسًا أَبْلَقَ لِلْبَيَاضِ مِنْهُ دُونَ السَّوَادِ؛ وَكَانَ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالنَّهَارِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِيِ؛ فَصَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَكُلُّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا: يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا. وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ؛ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ رَجَبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَجَبٍ حَتَّى مَضَى؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى رَجَبٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِكَافٍ؛ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا. وَلَوْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ عَنْ نَذْرِهِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبًا فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ؛ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ قَبْلَهُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ؛ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ فَإِنْ صَامَ وَاعْتَكَفَ فِيهِ؛ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِهِ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، إنَّمَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ مَعَهُ كَمَنْ لَزِمَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ؛ يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ، وَلَوْ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الطَّهَارَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ كَذَا هَذَا. وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ؛ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ بِصَوْمٍ آخَرَ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا، كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ، بَلْ يَسْقُطُ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلصَّوْمِ. وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ كَمَا انْعَقَدَ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّذْرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ قَدْ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ؛ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. كَمَا إذَا نَذَرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي شَهْرٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَإِذًا بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا يَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بِوُجُوبِ شَرْطِ صِحَّةِ أَدَائِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَيَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ نَذْرَهُ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ؛ فَنَعَمْ لَكِنْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فِي غَيْرِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَقَدْ فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا كَمَا إذَا أَوْجَبَ اعْتِكَافَ رَجَبٍ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ؛ أَنَّهُ يَقْضِيهِ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا، كَذَا هَذَا. وَلَوْ لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ؛ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فَإِنْ قَضَى صَوْمَ الشَّهْرِ مُتَتَابِعًا وَقَرَنَ بِهِ الِاعْتِكَافَ؛ جَازَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الِاعْتِكَافُ بَاقٍ فَيَقْضِيهِمَا جَمِيعًا يَصُومُ شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ بَاقِيًا لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبُ الِاعْتِكَافِ فِيهَا صَوْمًا آخَرَ؛ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الصَّوْمِ كَمَا انْعَقَدَ. وَلَوْ صَامَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ قَاضِيًا لِمَا فَاتَهُ بِصَوْمِ هَذَا الشَّهْرِ؛ لَمْ يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ صَوْمٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِأَدَائِهِ فَوَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الصَّوْمِ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الصَّوْمِ وَأَنَّ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: اقْضِ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَيُكَفِّرُ الْيَمِينَ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ، وَإِنْ اعْتَكَفَ فِيهَا؛ جَازَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَكَانَ مُسِيئًا وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ لَوَازِمِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الِاعْتِكَافِ كَالْجَوَابِ فِي الصَّوْمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ: فَالْمَسْجِدُ وَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي
فصل ركن الاعتكاف
نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ: الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عَاكِفِينَ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَاشِرُوا الْجِمَاعَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لِيُنْهَوْا عَنْ الْجِمَاعِ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّ مَكَانَ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمَسْجِدُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجُلَ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَسْجِدِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ» وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: إنْ ثَبَتَ فَهُوَ عَلَى التَّنَاسُخِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِدَلَالَةِ فِعْلِهِ؛ إذْ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْلُحُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ كَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» أَوْ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَكْرَهُهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَارَةِ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَأَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا وَعَظُمَ. أَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَا خَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» ؛ وَلِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، مِنْ كَوْنِ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَلُزُومِ الطَّوَافِ بِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدٌ أَفْضَلُ مِنْهُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَجْمَعِ الْمُسْلِمِينَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَسَاجِدُ الْكِبَارُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجَوَامِعِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَا تَعْتَكِفُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَاءَتْ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ مَسْجِدِ حَيِّهَا وَمَسْجِدُ حَيِّهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لَا عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسَاجِدِ بِالنَّصِّ، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ هَذِهِ الْقُرْبَةِ فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ: بَلْ هَذِهِ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسْجِدِ لَكِنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِحَاجَتِهَا إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى كَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا» وَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي بَيْتِهَا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ بَيْتِهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَم. [فَصْلٌ رُكْنُ الِاعْتِكَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ فَرُكْنُ الِاعْتِكَافِ: هُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ يُقَالُ: اعْتَكَفَ وَعَكَفَ أَيْ: أَقَامَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] أَيْ: لَنْ نَزَالَ عَلَيْهِ مُقِيمِينَ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُعْتَكِفٌ عَلَى
حَرَامٍ أَيْ: مُقِيمٌ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ مَنْ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ: مُعْتَكِفًا وَعَاكِفًا. وَإِذَا عُرِفَ فَنَقُولُ: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ لَيْلًا وَلَا وَنَهَارًا إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ لُبْثًا وَإِقَامَةً؛ فَالْخُرُوجُ يُضَادُّهُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ مَا يُضَادُّهُ فَكَانَ إبْطَالًا لَهُ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا لَهُ الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إذْ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَعَذَّرَ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْخُرُوجِ وَلِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ تَحْقِيقَ هَذِهِ الْقُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ إلَّا بِالْبَقَاءِ، وَلَا بَقَاءَ بِدُونِ الْقُوتِ عَادَةً وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَجْرَى الْعَادَةِ فَكَانَ الْخُرُوجُ لَهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَوَسَائِلِهِ وَمَا كَانَ مِنْ وَسَائِلِ الشَّيْءِ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَانَ الْمُعْتَكِفُ فِي حَالِ خُرُوجِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَكَذَا فِي الْخُرُوجِ فِي الْجُمُعَةِ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ فَيُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا كَمَا يُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ؛ فَلَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُبْطِلًا لِاعْتِكَافِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ؛ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي الْأَصْلِ مُضَادٌّ لِلِاعْتِكَافِ وَمُنَافٍ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَرَارٌ وَإِقَامَةٌ وَالْخُرُوجُ انْتِقَالٌ وَزَوَالٌ؛ فَكَانَ مُبْطِلًا لَهُ إلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَنَا أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمُعْتَكَفِ. وَلَوْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُبْطِلًا لِلِاعْتِكَافِ؛ لَمَا أُمِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ لَيْسَتْ هِيَ عَلَيْهِ فَمَتَى أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ؛ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فِي إبْطَالِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانَ نَذْرُهُ عَدَمًا فِي إبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ دُونَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُؤْذَنُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِأَجْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَالْخُرُوجَ يُبْطِلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يُبْطِلُهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا وَقْتُ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَمِقْدَارُ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ فَيَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا. وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهَا أَنَّهَا أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: سِتَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا يَخْرُجُ حِينَ يَرَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْمَسْجِدَ عِنْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ وَبُعْدِهِ فَيَخْرُجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَرَى أَنَّهُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ وَيُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ إبَاحَةٌ لَهَا بِتَوَابِعِهَا، وَسُنَنَهَا مِنْ تَوَابِعِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فِيهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَوْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَا يُنْتَقَضُ اعْتِكَافُهُ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَلِأَنَّ الْجَامِعَ لَمَّا صَلُحَ لِابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ؛ فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِلِاعْتِكَافِ فِيهِ، فَيُكْرَهُ لَهُ التَّحَوُّلُ عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْمَامِ فِيهِ وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ لَيْسَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ، بَلْ مِنْ الْفَضَائِلِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ فَرْضُ كِفَايَةٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بِقِيَامِ الْبَاقِينَ بِهَا؛ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الرُّخْصَةِ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الِاعْتِكَافِ الَّذِي يَتَطَوَّعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى مَا إذَا كَانَ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِوَجْهٍ مُبَاحٍ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ لِلْجُمُعَةِ، ثُمَّ عَادَ مَرِيضًا أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِذَلِكَ قَصْدًا وَذَلِكَ جَائِزٌ. أَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَى مَنْزِلِهَا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَعْتَكِفُ فِيهِ لِعُذْرٍ بِأَنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرُ السُّلْطَانِ
فَدَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ غَيْرَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ ضِدُّ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْإِقَامَةِ فَيَبْطُلُ كَمَا لَوْ خَرَجَ عَنْ اخْتِيَارٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمَّا عِنْدَ انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ؛ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْخُرُوجِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مَشْيًا رَفِيقًا. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخُرُوجَ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مُتَأَنِّيًا؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وَمَا دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ؛ فَهُوَ قَلِيلٌ فَكَانَ عَفْوًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَبُطْلَانُ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ رُكْنِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ وَفِي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةٌ. وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَشْيِ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَشْيِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ مُكْثُهُ أَوْ كَثُرَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. وَلَوْ صَعَدَ الْمِئْذَنَةَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمِئْذَنَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَشْبَهَ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ دَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ إلَى دَارِهِ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ» وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَلَوَّثُ الْمَسْجِدُ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَهَلْ يَفْسُدُ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَا يَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَفْسُدُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ يَخْرُجُ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ تَارِكًا مَا خَرَجَ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ بِدُونِ الصَّوْمِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ قُرْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةٍ، وَذَلِكَ بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِيَوْمٍ كَامِلٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ: اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ اعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ. وَكُلُّ لُبْثٍ وَإِقَامَةٍ تُوجَدُ فَهُوَ فِعْلٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ اعْتِكَافًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ أَمْثَالِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ إلَّا إذَا جَاءَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ فَتُجْعَلُ الْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَغَايِرَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا؛ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَمَنْ ادَّعَى التَّغْيِيرَ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ: الشُّرُوعُ فِيهِ مُوجِبٌ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ بِقَدْرِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَلَمَّا خَرَجَ فَمَا أَوْجَبَ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ جَامَعَ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قِيلَ: الْمُبَاشَرَةُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالرَّفَثِ وَالْغَشَيَانِ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا شَاءَ؛ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ فِي الِاعْتِكَافِ؛ فَإِنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ بَلْ لِمَكَانِ الِاعْتِكَافِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ النَّهْيِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَامِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَسَاجِدُ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَتْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَكَانًا لِوَطْءِ نِسَائِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ؛ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ سَوَاءٌ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالنِّسْيَانُ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرٌ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ وَجُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ. وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ الْوُقُوعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ وَلِهَذَا كَانَ النِّسْيَانُ جَابِرَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ عَيْنُ الْجِمَاعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ. وَالْمُحَرَّمُ فِي بَابِ الصَّوْمِ هُوَ الْإِفْطَارُ لَا عَيْنُ الْجِمَاعِ، أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا لَا لِكَوْنِهِ جِمَاعًا؛ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ، وَالْإِفْطَارُ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي النَّهَارِ عَامِدًا؛ فَسَدَ صَوْمُهُ وَفَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِفَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ لَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَهُوَ مَا مُنِعَ عَنْهُ لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَالْفِقْهُ مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَكَذَا لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ؛ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا وَكَذَا التَّقْبِيلُ وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ أَنَّهُ إنْ أَنْزَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَإِلَّا فَلَا يَفْسُدُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ فِي بَابِ الصَّوْمِ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَيْنَ الْجِمَاعِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِدَوَاعِيهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَيْهِ فَلَوْ لَمْ تَحْرُمْ؛ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الصَّوْمِ فَعَيْنُ الْجِمَاعِ لَيْسَ مُحَرَّمًا، إنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ الْإِفْطَارُ أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا، وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فَهُوَ الْفَرْقُ. وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلَا يَأْتِي الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ إذَا كَانَتْ اعْتَكَفَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ اعْتِكَافَهَا إذَا كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ عِبَادَتِهَا. وَيَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ أَيْضًا وَنَفْسُ الْإِغْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ إذَا أَفَاقَ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا وَقَدْ فَاتَتْ صِفَةُ التَّتَابُعِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ وَبَقِيَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قِيَاسٌ، وَاسْتِحْسَانٌ نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَكِرَ لَيْلًا؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّكْرَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالْجُنُونُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فَكَذَا السُّكْرُ. (وَلَنَا) أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَقْلِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَالْإِغْمَاءِ. وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافِهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهَا الصَّوْمَ وَلِهَذَا مُنِعَتْ مِنْ انْعِقَادِ الِاعْتِكَافِ فَتُمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ وَلَوْ احْتَلَمَ الْمُعْتَكِفُ؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ جِمَاعًا وَلَا فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَيَخْرُجَ فَيَغْتَسِلَ وَيَعُودَ إلَى الْمَسْجِدِ. وَلَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَزَوَّجَ وَيُرَاجِعَ وَيَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَتَحَدَّثَ مَا بَدَا لَهُ بَعْدَ
فصل بيان حكم الاعتكاف إذا فسد
أَنْ لَا يَكُونَ صَائِمًا وَيَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هُوَ كَلَامُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَتْجَرًا لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ» . (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ: هَلَّا اشْتَرَيْت خَادِمًا؟ قَالَ: كُنْت مُعْتَكِفًا قَالَ: وَمَاذَا عَلَيْك لَوْ اشْتَرَيْت. أَشَارَ إلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَتَاجِرَ كَالسُّوقِ يُبَاعُ فِيهَا وَتُنْقَلُ الْأَمْتِعَةُ إلَيْهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ فَلِأَنَّ نُصُوصَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنَّوْمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] وقَوْله تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وقَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنَّوْمَ فِي الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ؛ لَمُنِعَ مِنْ الِاعْتِكَافِ إذْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ صِدْقًا وَصَوَابًا لَا كَذِبًا وَلَا فُحْشًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا فِيهِ مَأْثَمٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى. وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي اعْتِكَافِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِذَا فَعَلَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَأَقَامَ فِي اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَمْضِي فِي إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَدَعَ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجَّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ. أَمَّا صِحَّةُ الْإِحْرَامِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْإِحْرَامِ فَيَبْقَى مَعَهُ أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ إحْرَامُهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الِاعْتِكَافَ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ وَالِاعْتِكَافُ لَا يَفُوتُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِاَلَّذِي يَفُوتُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ وَأَهَمُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى وَإِذَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ يَقْضِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الِاعْتِكَاف إذَا فَسَدَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَاَلَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَعْنِي بِهِ الْمَنْذُورَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الرِّدَّةُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَا غَيْرَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. وَإِذَا كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعِي فِيهِ صِفَةَ التَّتَابُعِ وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ إلَّا الرِّدَّةُ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ. وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إذَا قَطَعَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ لِلرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا
كتاب الحج
فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ بِأَنْ نَذْرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِأَجْلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا؛ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى؛ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يُقْتَضَى عَلَيْهِ الْوُجُوبَ إذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ. فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ؛ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [كِتَابُ الْحَجِّ] [فَصْل فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ] كِتَابُ الْحَجِّ الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: فَصْلٌ فِي الْحَجِّ، وَفَصْلٌ فِي الْعُمْرَةِ أَمَّا فَصْلُ الْحَجِّ: فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ عُمْرِهِ أَصْلًا، وَرَأْسًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، فِي الْآيَةِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: وَمَنْ كَفَرَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا وقَوْله تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أَيْ: اُدْعُ النَّاسَ وَنَادِهِمْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: أَيْ أَعْلِمْ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ عَدُوٌّ ظَاهِرٌ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ، أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ، وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ، وَالِارْتِفَاقِ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ، وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ، وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ، وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ. وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ؛ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ، وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُهَا
فصل كيفية فرض الحج
فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِ الْحَجّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ فَمِنْهَا: أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ عَيْنًا لَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَعْضِ عَنْ الْبَاقِينَ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ عَيْنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، كَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَجِّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالزَّكَاةَ، وَالصَّوْمَ يَجِبَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِمَا عُرِفَ فِي (أُصُولِ الْفِقْهِ) ، وَالتَّكْرَارُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لَا بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ سَأَلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لِلْأَبَدِ» ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَلَوْ، وَجَبَ فِي كُلِّ عَامٍ؛ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِحَرَجٍ لَا يُؤَدَّى فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ، وَالْعِقَابُ إلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَالَ: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَ، وَلَوْ وَجَبَ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ» . وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ بَيَّنَ، وَقْتَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ (عَزَّ وَجَلَّ) : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَصَارَ الْمَفْرُوضُ هُوَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا مِنْ الْعُمْرِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْفَوْرِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَرُوِيَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ لِسَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَنَةِ الْعَشْرِ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا احْتَمَلَ التَّأْخِيرَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، وَلَوْ كَانَ، وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ. وَقَدْ فَاتَ الْفَوْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا كَمَا لَوْ فَاتَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهَا، وَصَوْمُ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ يَأْتِي بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَأَمِنَ الضَّرَرَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي لَا يَضُرُّهُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ يَنْفَعُهُ؛ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى الْخَيْرِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ إنَّ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ حَمْلًا عَلَى أَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْفَوْرُ أَوْ التَّرَاخِي بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا، وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَكَ كَذَا فَلَمْ يَحُجَّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ أَيْ لَمْ يَحُجَّ عَقِيبَ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَأَمَّا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مُعَيَّنًا مِنْ السَّنَةِ يَفُوتُ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ بِفَوَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى. وَقَدْ يَعِيشُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ لَا يَعِيشُ فَكَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى تَفْوِيتًا لَهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ لِلْحَالِ إلَى أَنْ يَجِيءَ، وَقْتُ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي إدْرَاكِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ شَكٌّ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْفَوَاتُ الثَّابِتُ لِلْحَالِ بِالشَّكِّ، وَالتَّفْوِيتُ
فصل شرائط فرضية الحج
حَرَامٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَقْتِ ثَبَتَ مُطْلَقًا عَنْ الْفَوْرِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ لَهُ، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ الْعُذْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا لِعُذْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ هُوَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ فَوَاتٌ لِعِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يَحُجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . وَالثُّنْيَا لِلتَّيَمُّنِ، وَالتَّبَرُّكِ أَوْ لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْجَمَاعَةَ. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ عَمَلًا فِي احْتِمَالِ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي إخْرَاجِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ، وَقْتًا لِلْوَاجِبِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّعْجِيلِ إنَّمَا كَانَ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَوَاتِ فَإِذَا عَاشَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَالَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ فِي وَقْتِهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّة الْحَجِّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ فَرْضِيَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّسَاءَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ فَمِنْهَا: الْبُلُوغُ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا حَجَّ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ حَتَّى لَوْ حَجَّا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَكُونُ تَطَوُّعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» . وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا حَجَّ فِي حَالِ الْكُفْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ، وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ» يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَجَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَكَذَا لَا حَجَّ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِالتَّرْكِ وَعِنْد الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ حَتَّى يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ: عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، وَبِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَشْمَلُ الْحَجَّ، وَغَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا، وَالتَّبَعِ مَتْبُوعًا، وَأَنَّهُ قَلَبَ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي (كِتَابِ الزَّكَاةِ) وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ جَائِزٌ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أُعْتِقَ» ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْحَجِّ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا حَجَّ فِي حَالِ الرِّقِّ تَطَوُّعًا، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِذْنِ، وَعَدَمِ الْإِذْنِ، فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا حَجَّ بِالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَيْسَرَ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمَنَافِعِ الْبَدَنِ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ، وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً، وَالْفَقِيرُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ وَإِنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا بَلَغَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِالْمَشْيِ، وَقَلِيلِ زَادٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِذَا أَدَّى وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَنَافِعُ بَدَنِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً مَا دَامَ عَبْدًا فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ كَامِلٍ كَسَائِرِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ الْجِهَادُ ابْتِدَاءً، وَالْعَبْدُ إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ لَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ الْحُرِّ بَلْ يُرْضَخُ لَهُ، وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ الْجُمُعَةَ، وَصَلَّى أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ نَظَرًا لِلْمَوْلَى إلَّا قَدْرَ مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُ مُبْقًى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَنَافِعِ الْبَدَنِ فِي سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَيَكُونُ فِيهِ نَفْعُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى، فَإِذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ، وَفَاتَتْ الْمَنَافِعُ بِسَبَبِ السَّعْيِ فَيُعَدُّ ذَلِكَ الظُّهْرُ، وَالْجُمُعَةُ سَوَاءٌ، فَنَظَرُ الْمَالِكِ فِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ ثَانِيًا فَيَزِيدُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالْجِهَادِ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤَدَّيَانِ إلَّا بِالْمَالِ، وَالنَّفْسِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى بِفَوَاتِ مَالِهِ، وَتَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنْ مَنَافِعِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَنْ الْفَرْضِ إذَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ يَتَبَادَرُ الْعَبِيدُ إلَى الْأَدَاءِ لِكَوْنِ الْحَجِّ عِبَادَةً مَرْغُوبَةً. وَكَذَا الْجِهَادُ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى، فَالشَّرْعُ حَجَرَ عَلَيْهِمْ، وَسَدَّ هَذَا الْبَابَ نَظَرًا بِالْمَوْلَى حَتَّى لَا يَجِبَ إلَّا بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمِلْكِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ. وَلَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ مَضَى عَلَى إحْرَامِهِ، يَكُونُ حَجُّهُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ بَالِغٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَبَّى أَوْ نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَطَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ، وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ، وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْكَافِرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إحْرَامَ الْكَافِرِ، وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، وَإِحْرَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَاطَبٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِانْتِقَاضِ فَإِذَا جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ فَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ وَقَعَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ الثَّانِي إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ. وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَرِيضِ وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَمْنُوعِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا اسْتِطَاعَةُ التَّكْلِيفِ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ سَلَامَةُ الْبَدَنِ عَنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَلَا سَلَامَةَ مَعَ الْمَانِعِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] أَنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْجَبَ، وَلِأَنَّ الْقُرَبَ، وَالْعِبَادَاتِ، وَجَبَتْ بِحَقِّ الشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَإِذَا مُنِعَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ أَوْ الْمَالِ كَيْفَ يُكَلَّفُ بِالشُّكْرِ، وَلَا نِعْمَةَ. وَأَمَّا الْأَعْمَى فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ وَجَدَ زَادًا، وَرَاحِلَةً، وَقَائِدًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَعْمَى، وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ زَادًا، وَرَاحِلَةً، وَمَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَقْطُوعِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: هِيَ الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ» فَسَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلِلْأَعْمَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ، وَيَهْتَدِي بِالْقَائِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ: أَنَّهُمَا يَقْدِرَانِ بِغَيْرِهِمَا إنْ كَانَا لَا يَقْدِرَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَالْقُدْرَةُ بِالْغَيْرِ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ كَالْقُدْرَةِ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ. وَكَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَقَدْ وُجِدَا، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ
بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا الزَّمِنُ، وَالْمُقْعَدُ فَلَمْ يَكُونَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ، وَالْقَادِرُ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُخْتَارِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ تَثْبُتْ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ غَيْرُهُ يُمْسِكُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْحَجِّ لَا لِاقْتِصَارِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِمَا. (أَلَا تَرَى) : أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَكَّةَ بَحْرٌ زَاخِرٌ لَا سَفِينَةَ ثَمَّةَ، أَوْ عَدُوٌّ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَعَ وُجُودِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لَيْسَ لِاقْتِصَارِ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ يَدْخُلُ تَحْتَ تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالْمَرِيضِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِأَنْفُسِهِمْ حَرَجًا بَيِّنًا، وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَمِنْهَا مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ النَّائِي عَنْ مَكَّةَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ شَرْطٌ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَهُ مِنَّةٌ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، كَالْوَالِدِ بَذَلَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ لِابْنِهِ، وَلَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ قَوْلَانِ، وَلَوْ، وَهَبَهُ إنْسَانٌ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّاحِلَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَصْلًا لَا مِلْكًا وَلَا إبَاحَةً، وَمِلْكُ الزَّادِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاحِلَةٌ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ، وَلَهُ زَادٌ، فَقَدْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ. (وَلَنَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا فَلَا تَثْبُتُ الِاسْتِطَاعَةُ بِأَحَدِهِمَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لَا تَكْفِي لِاسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ ثُمَّ شَرْطُ الرَّاحِلَةِ إنَّمَا يُرَاعَى لِوُجُوبِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ نَأَى عَنْ مَكَّةَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ فَإِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْقَوِيِّ مِنْهُمْ الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ رَاحِلَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ يَلْحَقُهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ، وَالْقُدْرَةُ تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ إذْ الْمِلْكُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ أَكْلًا، وَرُكُوبًا، وَلِذَا ثَبَتَتْ بِالْإِبَاحَةِ، وَلِهَذَا اسْتَوَى الْمِلْكُ، وَالْإِبَاحَةُ فِي (بَابِ الطَّهَارَةِ) فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً. أَلَا تَرَى: أَنَّ لِلْمُبِيحِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُبَاحِ، وَمَعَ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنْعِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ، وَالْعَدَمُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْبَذْلِ، وَالْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ مِقْدَارَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا رَاكِبًا لَا مَاشِيًا بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فِيهَا، وَلَا تَقْتِيرَ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ، وَخَادِمِهِ، وَفَرَسِهِ، وَسِلَاحِهِ، وَثِيَابِهِ، وَأَثَاثِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَخَدَمِهِ، وَكُسْوَتِهِمْ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: وَنَفَقَةُ شَهْرٍ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَيْضًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ الرَّاحِلَةَ فَقَالَ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَمَّا ذَكَرْنَا مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ، أَوْ زَامِلَةً، أَوْ رَأْسَ رَاحِلَةٍ، وَيُنْفِقُ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَمْشِيَ أَوْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا عُقْبَةً، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْفَضْلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَوَائِجِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْعِيَالِ سَنَةً، وَالْبَعْضُ شَهْرًا، فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فِي الْقُرْبِ، وَالْبُعْدِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يَذْهَبُ، وَيَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَكْفِ مَالُهُ إلَّا لِلْعُقْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا، وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لَا يَرْكَبُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ بَلْ يَرْكَبُ فِي الْبَعْضِ، وَيَمْشِي فِي الْبَعْضِ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا، وَلَا يُؤَاجِرُهَا، وَمَتَاعٌ لَا يَمْتَهِنُهُ، وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَحُجَّ بِهِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ مُسْتَطِيعًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُ مَنْزِلِهِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَنْزِلًا دُونَهُ، وَيَحُجَّ بِالْفَضْلِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَاجَةِ قَدْرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْمَنْزِلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السُّكْنَى، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ، وَلَا خَادِمٌ، وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ تُبَلِّغُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يُعْذَرُ فِي التَّرْكِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِبَيْعِهِمَا، وَقَوْلُهُ: " وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ " مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ: وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الذَّهَابِ، وَالرُّجُوعِ. فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ فَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا. (وَمِنْهَا) أَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إذَا خَافَ الْفَوْتَ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَقُولُ إنَّهُ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا لَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ لَمْ يَذْكُرْ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ، وَزَوَالَ سَائِرِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا زَادَ لَهُ، وَلَا رَاحِلَةَ مَعَهُ فَكَانَ شَرْطُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ شَرْطًا لِأَمْنِ الطَّرِيقِ ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) . الَّذِي يَخُصُّ النِّسَاءَ فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ لَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْزَمُهَا الْحَجُّ، وَالْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَلَا مَحْرَمٍ إذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ فِي الرُّفْقَةِ ثِقَاتٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَخِطَابُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ بِلَا خِلَافٍ فَإِذَا كَانَ لَهَا زَادٌ، وَرَاحِلَةٌ كَانَتْ مُسْتَطِيعَةً، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: أَلَا «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» ، وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ» وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ، وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إذْ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَحْدَهَا. وَالْخَوْفُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ بِنَفْسِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا يُجْبَرَانِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ لِإِرَادَةِ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ هَلْ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ بِنَفْسِهَا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَحْرَمَ أَوْ الزَّوْجَ مِنْ ضَرُورَاتِ حَجِّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذْ لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ ذَلِكَ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهَا الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْسِهَا، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ
الْوُجُوبِ بَلْ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا مَحْرَمَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ يَحُجُّ بِهَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ الْمَحْرَمِ فِي الْحَجَّةِ الْفَرِيضَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا وَهُوَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَا تَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. (وَلَنَا) : أَنَّهَا إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَقَدْ اسْتَطَاعَتْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهَا قَدَرَتْ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ وَأَمِنَتْ الْمَخَاوِفَ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَصُونُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ يَفُوتُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ "، فَنَقُولُ: مَنَافِعُهَا مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ فِي الْفَرَائِضِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى حَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا كَمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ إلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ. وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا بَلْ حَاجَةُ الْعَجُوزِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهَا أَعْجَزُ. وَكَذَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ. وَكَذَا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ حَالَ رُكُوبِهَا، وَنُزُولِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الْمَحْرَمِ لِيَصُونَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ صِفَةُ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ إمَّا بِالْقَرَابَةِ، أَوْ الرَّضَاعِ، أَوْ الصِّهْرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُزِيلُ التُّهْمَةَ فِي الْخَلْوَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمَحْرَمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي الْمَحْرَمِيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُشْرِكًا؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ، وَالْمُشْرِكَ يَحْفَظَانِ مَحَارِمَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فَلَا تُسَافِرُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَقَالُوا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ: إنَّهُمَا لَيْسَا بِمَحْرَمَيْنِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا حِفْظُهَا، وَقَالُوا فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا: إنَّهَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا فَإِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ثُمَّ الْمَحْرَمُ أَوْ الزَّوْجُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَجَّتْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يُشْتَرَطُ لِلسَّفَرِ، وَمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ بِسَفَرٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَحِلَةٍ إلَى مَحِلَةٍ، ثُمَّ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَمْ شَرْطُ الْجَوَازِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّهُنَّ مِنْ الْجُحْفَةِ. وَلِأَنَّ الْحَجَّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا إنَّمَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ خَاصَّةً فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى، وَإِنْ لَزِمَتْهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى السَّفَرِ، وَهِيَ مُسَافِرَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ، فَإِنْ كَانَ إلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ، وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ إلَى مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ، وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَلِّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا، وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ ثُمَّ لَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَوْ لَا، وَعِنْدَهُمَا: تَخْرُجُ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ (كِتَابِ الطَّلَاقِ) وَنَذْكُرُهَا بِدَلَائِلِهَا فِي فُصُولِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ، وَنَحْوِهِ، وَلَهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْهُ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ شَرَائِطَ جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْ تَكَلَّفَ وَاحِدٌ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ فَحَجَّ بِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ
فصل ركن الحج
عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِحَرَجٍ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الْحَرَجَ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ، وَالْعَبْدِ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ فَأَدَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ صَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ الْعَبْدَ، وَالصَّبِيَّ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ، وُجُودُهَا، وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِ ذَلِكَ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَهُ، وَمَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِذَا صَرَفَ مَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَأَمَّا إذَا جَاءَ، وَقْتُ الْخُرُوجِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ. وَقَدْ قَرُبَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِهْلَاكُهُ فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْحَجِّ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ رُكْنُ الْحَجِّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْحَجِّ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا. الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ لِلْحَجِّ، وَالثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ. أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذْ الْحَجُّ فِعْلٌ، وَعَرَفَةُ مَكَانٌ فَلَا يَكُونُ حَجًّا فَكَانَ الْوُقُوفُ مُضْمَرًا فِيهِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ التَّفْسِيرُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، وَالْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّكْنُ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِدَلِيلٍ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِيَاقِ التَّفْسِيرِ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ اسْمًا لِلْحَجِّ فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بِهِ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ التَّمَامُ لَا الْفَرْضُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَّ حَجُّهُ لَيْسَ هُوَ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ بَلْ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ فَقَوْلُهُ: " فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ " أَيْ: خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسَادِ بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ: بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَصَارَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرْضًا، وَهُوَ رُكْنٌ فَلَوْ حُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْحَجُّ بِدُونِهِ فَيَتَنَاقَضُ، فَحُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ لَا نُفِيضُ كَغَيْرِنَا مِمَّنْ قَصَدَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَالنَّاسُ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَإِفَاضَتُهُمْ مِنْهَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ حُصُولِهِمْ فِيهَا فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا أَمْرًا بِالْوُقُوفِ بِهَا ضَرُورَةً. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] . وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِ الْوُقُوفِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا مَكَانُ الْوُقُوفِ فَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ» . وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَادِي الشَّيْطَانِ. وَأَمَّا زَمَانُهُ فَزَمَانُ الْوُقُوفِ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ
النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ وُقُوفُهُ، وَعَدَمُ وُقُوفِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَقَّتَةِ إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ حَالُ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَا الْوُقُوفُ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ، كَذَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ بِنَهَارٍ وَلَا بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَكَانَ بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَقْتَ يَبْقَى بِبَقَاءِ اللَّيْلِ، وَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَقْتُ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْلُ فَمَنْ لَمْ يَقِفْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» عَلَّقَ إدْرَاكَ الْحَجِّ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوُقُوفَ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ وَقْتُ الرُّكْنِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ، وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَكَانَ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» . أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَقْتُ الْوُقُوفِ غَيْرُ عَيْنٍ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ مُرَادًا، وَلِأَنَّ هَذَا نَوْعُ نُسُكٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَنَاسِكِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ: مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهَا بِلَيْلٍ مَاذَا حُكْمُهُ فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقَعْدَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ يَوْمَ كَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ، وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَصِحَّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ، وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ، وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ» . وَرُوِيَ: «وَحَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ» . فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ الْوُقُوفِ أَوْ الْحَجِّ، وَقْتَ تَقِفُ أَوْ تَحُجُّ فِيهِ النَّاسُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ، وَهِيَ نَفْيُ جَوَازِ الْحَجِّ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ، وَالثَّانِي أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ مَقْبُولَةٌ لَكِنَّ وُقُوفَهُمْ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِمَّا يَغْلِبُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِالْجَوَازِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلِأَنَّهُمْ بِهَذَا التَّأْخِيرِ بَنَوْا عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ وُجُوبُ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَعُذِرُوا فِي الْخَطَأِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ رَأْسًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ، نَظِيرُهُ إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى، وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَحَرَّ، وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَهَلْ يَجُوزُ وُقُوفُ الشُّهُودِ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ، وَحَجُّهُمْ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ شَاهِدَانِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةَ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَوَقَفَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْوُقُوفُ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنْ كَانَ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ عَامَّةُ النَّاسِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، جَازَ وُقُوفُهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ فَاتَ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ فِي وَقْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فَوَقَفَ الْإِمَامُ، وَالنَّاسُ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَدْ كَانَ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ وُقُوفُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُقُوفَ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ صَارَ يَوْمَ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ بِانْفِرَادِهِ. وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الْإِمَامُ الْوُقُوفَ لِمَعْنًى يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُ مَنْ وَقَفَ قَبْلَهُ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ بِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُ
فصل طواف الزيارة
لَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ، فَوَقَفَ بِشَهَادَتِهِمَا قَوْمٌ قَبْلَ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَخَّرَ الْوُقُوفَ بِسَبَبٍ يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ بِالِاشْتِبَاهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَدْرُهُ فَنُبَيِّنُ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ، وَالْوَاجِبَ أَمَّا الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْوُقُوفِ: فَهُوَ كَيْنُونَتُهُ بِعَرَفَةَ فِي سَاعَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ فَمَتَى حَصَلَ إتْيَانُهَا فِي سَاعَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ تَأَدَّى فَرْضُ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهَا، أَوْ جَاهِلًا نَائِمًا، أَوْ يَقْظَانَ مُفِيقًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، وَقَفَ بِهَا أَوْ مَرَّ، وَهُوَ يَمْشِي أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ مَحْمُولًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَهُوَ حُصُولُهُ كَائِنًا بِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . وَالْمَشْيُ، وَالسَّيْرُ لَا يَخْلُو عَنْ وَقْفَةٍ، وَسَوَاءٌ نَوَى الْوُقُوفَ أَوْ لَمْ يَنْوِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ فِي (فَصْلِ الطَّوَافِ) إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْوُقُوفِ مُطْلَقٌ عَنْ شَرْطِ الطَّهَارَةِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ حَاضَتْ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ أَوْ لَمْ يُصَلِّ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاتَيْنِ، وَهُمَا: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ لَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالْوُقُوفِ فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُمَا مَانِعًا مِنْ الْوُقُوفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ الْوُقُوفِ: فَمِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوُقُوفِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالْوَاجِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالْوَاجِبِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ وَهُوَ أَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالْوَاجِبَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَصْلُ الْوُقُوفِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ: النَّصُّ الْمُفَسِّرُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَالْمَشْهُورَةُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْوُقُوفُ إلَى جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ: فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ بَلْ مَعَ شُبْهَةِ الْعَدَمِ أَعْنِي: خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» . أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْآحَادِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا الْفَرَائِضُ فَضْلًا عَنْ الْأَرْكَانِ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْوُقُوفَ مِنْ حِينِ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا وَاجِبٌ، فَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ جَاوَزَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ كَمَا لَوْ تَرَكَ غَيْرَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ إذْ الْوُقُوفُ الْمُقَدَّرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُ، وَلَوْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الْإِمَامُ ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْمَتْرُوكَ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهَا، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بَعْدَ مَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ عَرَفَةَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ أَيْضًا. وَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْمَتْرُوكَ إذْ الْمَتْرُوكُ هُوَ الدَّفْعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَقَدْ اسْتَدْرَكَهُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ قَالَ مَشَايِخُنَا: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لِأَجْلِهِ يَجِبُ الدَّمُ فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ الدَّمُ يَجِبُ لِأَجْلِ دَفْعِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ذَلِكَ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ يَجِبُ لِأَجْلِ دَفْعِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَدْ اسْتَدْرَكَهُ بِالْعَوْدِ، وَالْقُدُورِيُّ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ: هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مُضْطَرِبٌ، وَلَوْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَوْدِ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّمُ الْوَاجِبُ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْعَوْدِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَفُوتُ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ذَاتُهُ، وَبَقَاءَ الشَّيْءِ مَعَ فَوَاتِ ذَاتِهِ مُحَالٌ. [فَصْلٌ طَوَافُ الزِّيَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ، وَوَاجِبَاتِهِ، وَسُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَالْمُرَادُ مِنْهُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكُلَّ بِالطَّوَافِ
فصل ركن طواف الزيارة
فَيَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ لَا يَجِبُ أَصْلًا، وَطَوَافُ الصَّدْرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَيَتَعَيَّنُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْقَصْدُ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ: زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَالزِّيَارَةُ هِيَ الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ لِلتَّقَرُّبِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ سَعْدٍ بِأَنَّمَا ... تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لِأَكْثُرَا وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ بَيْتَ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا ، وَقَوْلُهُ: " يَحُجُّونَ " أَيْ يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الْبَيْتَ لِلتَّقَرُّبِ فَكَانَ حَجُّ الْبَيْتِ هُوَ الْقَصْدَ إلَيْهِ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْبَيْتُ لِلتَّقَرُّبِ بِالطَّوَافِ بِهِ فَكَانَ الطَّوَافُ بِهِ رُكْنًا، وَالْمُرَادُ بِهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: طَوَافَ الرُّكْنِ فَكَانَ رُكْنًا. وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا، وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ، وَغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] [فَصْلٌ رُكْنُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَحُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَطَافَ بِهِ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا أَجْزَأَهُ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْفَرْضَ حُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ. وَقَدْ حَصَلَ. وَأَمَّا لُزُومُ الدَّمِ فَلِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَهُوَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَدَخَلَهُ نَقْصٌ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ كَمَا إذَا طَافَ رَاكِبًا أَوْ زَحْفًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ، وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ إذْ لَا وُجُوبَ مَعَ الْعَجْزِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ الْحَامِلِ، وَالْمَحْمُولِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ حُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ وَقَدْ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ كَائِنًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَشْيَ الْحَامِلِ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَقَعُ عَنْ شَخْصَيْنِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَيْسَ هُوَ الْفِعْلَ فِي الْبَابِ بَلْ حُصُولُ الشَّخْصِ حَوْلَ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْهُ حُصُولُهُ كَائِنًا بِعَرَفَةَ لَا فِعْلُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي أَنَّ مَشْيَ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَقَعَ عَنْ اثْنَيْنِ فِي بَابِ الْحَجِّ كَالْبَعِيرِ الْوَاحِدِ إذَا رَكِبَهُ اثْنَانِ فَطَافَا عَلَيْهِ. وَكَذَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً كَفِعْلَيْنِ مَعْنًى كَالْأَبِ الْوَصِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا. [فَصْلٌ شَرْطُ وَوَاجِبَاتُ طَوَافُ الزِّيَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُهُ وَوَاجِبَاتُهُ فَشَرْطُهُ النِّيَّةُ، وَهُوَ أَصْلُ النِّيَّةِ دُونَ التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا بِأَنْ طَافَ هَارِبًا مِنْ سَبُعٍ أَوْ طَالِبًا لِغَرِيمٍ لَمْ يَجُزْ. فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الطَّوَافِ، وَبَيْنَ الْوُقُوفِ: أَنَّ الْوُقُوفَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْوُقُوفِ، وَالطَّوَافَ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّوَافِ عِنْدَ الطَّوَافِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ، وَأَشَارَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إلَى أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَأَنَّ نِيَّةَ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَافِيَةٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ كَمَا فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَكَمَا فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ يَقَعُ فِي حَالِ قِيَامِ نَفْسِ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ مَا يُضَادُّهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ بَلْ تَكْفِيهِ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ، وَهِيَ نِيَّةُ الْحَجِّ كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إفْرَادِهِمَا بِالنِّيَّةِ لِاشْتِمَالِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا كَذَا الْوُقُوفُ، فَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالِ قِيَامِ نَفْسِ الْإِحْرَامِ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَحْلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ، وَلَا إحْرَامَ حَالَ وُجُودِ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَالَ وُجُودِهِ مَوْجُودٌ، وَوُجُودُهُ يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ مِنْ الْوُجُودِ فَلَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْحَجِّ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِفْرَادِ بِالنِّيَّةِ كَالتَّسْلِيمِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إذْ التَّسْلِيمُ تَحْلِيلٌ أَوْ نَقُولُ إنَّ الْوُقُوفَ يُوجَدُ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لِبَقَائِهِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَيَتَنَاوَلُهُ نِيَّةُ الْحَجِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ الطَّوَافُ. فَإِنَّهُ يُوجَدُ حَالَ زَوَالِ الْإِحْرَامِ مِنْ وَجْهٍ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نِيَّةٍ عَلَى حِدَةٍ فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ حَالَ وُجُودِهِ فِي وَقْتِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ نَفَرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَطَافَ، وَهُوَ لَا يُعَيِّنُ طَوَافًا يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا عَنْ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ مُتَعَيِّنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ
فَلَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ كَمَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلِقٍ لِنِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ لِكَوْنِ الْوَقْتِ مُتَعَيَّنًا لِصَوْمِهِ كَذَا هَذَا. وَكَذَا لَوْ نَوَى تَطَوُّعًا يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ كَمَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَوَافٍ وَاجِبٍ، أَوْ سُنَّةٍ يَقَعُ فِي وَقْتِهِ مِنْ طَوَافِ اللِّقَاءِ، وَطَوَافِ الصَّدْرِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْوَقْتُ، وَهُوَ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ دُونَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ عَيَّنَ ذَلِكَ بِالنِّيَّةِ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ فَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى إنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ، وَطَافَ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ يَقَعُ طَوَافُهُ لِلْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةٍ يَقَعُ طَوَافُهُ لِلْقُدُومِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْقَارِنُ إذَا طَافَ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ كَانَ ذَلِكَ لِلْعُمْرَةِ، فَإِنْ طَافَ طَوَافًا آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْعَى لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا، أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ، وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدنَا بَلْ وَاجِبَةٌ حَتَّى يَجُوزَ الطَّوَافُ بِدُونِهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ» . وَإِذَا كَانَ صَلَاةً فَالصَّلَاةُ لَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الطَّهَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّشْبِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أَيْ: كَأُمَّهَاتِهِمْ وَمَعْنَاهُ الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ إمَّا فِي الثَّوَابِ أَوْ فِي أَصْلِ الْفَرْضِيَّةِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ التَّشْبِيهِ لَا عُمُومَ لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُشَابَهَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ عَمَلًا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ أَوْ نَقُولُ: الطَّوَافُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ، وَلَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ لَا تُفْتَرَضُ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ فَإِذَا طَافَ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ جَبْرٌ لَهُ بِجِنْسِهِ، وَجَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَهُوَ التَّلَافِي فِيهِ أَتَمُّ ثُمَّ إنْ أَعَادَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُوجِبُ نُقْصَانًا يَسِيرًا فَتَكْفِيهِ الشَّاةُ لِجَبْرِهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ شَوْطًا فَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ نُقْصَانًا مُتَفَاحِشًا؛ لِأَنَّهَا أَكْبَرُ الْحَدَثَيْنِ فَيَجِبُ لَهَا أَعْظَمُ الْجَابِرَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الْبَدَنَةُ: " تَجِبُ فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: إذَا طَافَ جُنُبًا، وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ". وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَإِذَا طَافَ، وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ الْإِحْرَامَ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ هَذَا إذَا طَافَ بَعْدَ أَنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَأَمَّا إذَا طَافَ، وَلَمْ يَكُنْ حَلَقَ، وَلَا قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فَالْإِحْرَامُ بَاقٍ، وَالْوَطْءُ إذَا صَادَفَ الْإِحْرَامَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الشَّاةُ لَا الْبَدَنَةُ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ صَارَ مُؤَدًّى فَارْتَفَعَتْ الْحُرْمَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَمْ يَبْقَ الْوَطْءُ جَنَابَةً مَحْضَةً بَلْ خَفَّ مَعْنَى الْجَنَابَةِ فِيهِ فَيَكْفِيهِ أَخَفُّ الْجَابِرَيْنِ. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَسِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُفْتَرَضُ تَحْصِيلُهَا، وَلَا تَجِبُ أَيْضًا لَكِنَّهُ سُنَّةٌ حَتَّى لَوْ طَافَ، وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ جَازَ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَهُوَ مِثْلُ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ أَيْ إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ، وَاجِبٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ طَافَ عُرْيَانًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطُ الْجَوَازِ كَالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ» وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ السَّتْرِ فَيُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّهَارَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَبَيْنَ الطَّهَارَةِ عَنْ النَّجَاسَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ لَيْسَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ بَلْ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ صِيَانَتُهُ عَنْ إدْخَالِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَصِيَانَتُهُ عَنْ تَلْوِيثِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي الطَّوَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَبْرِ. فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ عُرْيَانًا فَلِأَجْلِ الطَّوَافِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطَّوَافِ عُرْيَانًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بَعْدَ
عَامِي هَذَا مُشْرِكٌ، وَلَا عُرْيَانٌ» وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ لِمَكَانِ الطَّوَافِ تَمَكَّنَ فِيهِ النَّقْصُ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ لَكِنْ بِالشَّاةِ لَا بِالْبَدَنَةِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ فِيهِ كَالنَّقْصِ بِالْحَدَثِ لَا كَالنَّقْصِ بِالْجَنَابَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ طَافَ تَطَوُّعًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَأَحَبُّ إلَيْنَا إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ سِوَى الَّذِي طَافَ، وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ دُونَ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ النَّقْصُ فِيهِ أَقَلَّ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِي الطَّوَافِ لَا تُفْسِدُ عَلَيْهِ طَوَافَهُ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عُرِفَتْ مُفْسِدَةً فِي الشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً، وَلَا اشْتِرَاكَ أَيْضًا، وَالْمُوَالَاةُ فِي الطَّوَافِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الطَّائِفُ مِنْ طَوَافِهِ لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ أَوْ مَكْتُوبَةٍ أَوْ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ ثُمَّ عَادَ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْمُوَالَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «خَرَجَ مِنْ الطَّوَافِ، وَدَخَلَ السِّقَايَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَى فَشَرِبَ ثُمَّ عَادَ، وَبَنَى عَلَى طَوَافِهِ» ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا إلَّا مِنْ عُذْرٍ حَتَّى لَوْ طَافَ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِذَا طَافَ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا» . (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالرَّاكِبُ لَيْسَ بِطَائِفٍ حَقِيقَةً فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيهِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ بِالدَّمِ. وَأَمَّا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِعُذْرٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد مَا أَسَنَّ، وَبَدَنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّعْلِيمُ كَذَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ رَاكِبًا لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَسْأَلُوهُ، وَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ، وَهَذَا عُذْرٌ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجَ مَا إذَا طَافَ زَحْفًا أَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَالدَّمُ إنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ مَشْيًا، وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ زَحْفًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ إيقَاعَ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ الْجِهَةُ، وَبَقِيَ النَّذْرُ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ لِلْحَجِّ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَإِنْ طَافَ زَحْفًا أَعَادَ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا طَافَ زَحْفًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُجْزِئُهُ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَصُومَ يَوْمًا آخَرَ، وَلَوْ صَلَّى فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَصَامَ يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ مَا إذَا طَافَ مَحْمُولًا أَنَّهُ إنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ مَاشِيًا، وَاجِبٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُوجِبُ الدَّمَ. فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِهِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَّا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْدَأْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرُّقَيَّاتِ إذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى الْحَجَرِ فَيَبْدَأَ مِنْهُ الطَّوَافَ فَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ مِنْهُ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ مِنْ الْحَجَرِ إمَّا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرْضِ مَا رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا انْتَهَى فِي الْبِنَاءِ إلَى مَكَانِ الْحَجَرِ قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَجْعَلْهُ عَلَامَةً لِابْتِدَاءِ الطَّوَافِ فَخَرَجَ، وَجَاءَ بِحَجَرٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِغَيْرِهِ فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ آخَرَ فَقَالَ ائْتِنِي بِغَيْرِهِ فَأَتَاهُ بِثَالِثٍ فَأَلْقَاهُ، وَقَالَ جَاءَنِي بِحَجَرٍ مَنْ أَغْنَانِي عَنْ حَجَرِكَ فَرَأَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ مِنْ يَمِينِ الْحَجَرِ لَا مِنْ يَسَارِهِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى يَجُوزَ الطَّوَافُ مَنْكُوسًا بِأَنْ افْتَتَحَ الطَّوَافَ عَنْ يَسَارِ الْحَجَرِ، وَيُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ يَمِينِ الْحَجَرِ لَا مِنْ يَسَارِهِ» ، وَذَلِكَ تَعْلِيمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَاسِكَ الْحَجِّ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
فصل مكان الطواف
«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَتَجِبُ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبِدَايَةِ بِالْيَمِينِ أَوْ بِالْيَسَارِ. وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِجِنْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَلَافِيًا لِلتَّقْصِيرِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ اسْتِدْرَاكِهِ الْفَائِتَ بِجِنْسِهِ فَيَسْتَدْرِكُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَبْرًا لِلْفَائِتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْفَوَائِتِ فِي الشَّرْعِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فَإِنَّهُ قَالَ أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ، وَيُكْرَهُ، وَهَذَا أَمَارَةُ السُّنَّةِ. وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَلَا رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ إذَا كَانَ الطَّوَافُ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أَوْ كَانَ قَدْ طَافَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ عَقِيبَهُ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سَعْيٌ، وَكُلُّ طَوَافٍ يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَكُونُ فِيهِ رَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ أَفْعَالِهِ. وَيُكْرَهُ إنْشَادُ الشَّعْرِ، وَالتَّحَدُّثُ فِي الطَّوَافِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلَا يَنْطِقُ إلَّا بِخَيْرٍ» ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ لِمَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ الدُّعَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ، وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ التَّسْبِيحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ لَفْظَةَ " لَا بَأْسَ " وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الرُّخَصِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ، وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ أَوْ نَعْلَاهُ إذَا كَانَا طَاهِرَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ طَافَ مَعَ نَعْلَيْهِ» ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْخُفَّيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ أَضْيَقُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الطَّوَافُ أَوْلَى، وَلَا يَرْمُلُ فِي هَذَا الطَّوَافِ إذَا كَانَ طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أَوْ كَانَ قَدْ طَافَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ عَقِيبَهُ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سَعْيٌ، فَكُلُّ طَوَافٍ بَعْدَ سَعْيٍ يَكُونُ فِيهِ رَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ مَكَانُ الطَّوَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُ الطَّوَافِ فَمَكَانُهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الطَّوَافُ حَوْلَهُ فَيَجُوزُ الطَّوَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَرِيبًا مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ طَافَ مِنْ، وَرَاءِ زَمْزَمَ قَرِيبًا مِنْ حَائِطِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِحُصُولِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلَوْ طَافَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حِيطَانُ الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حِيطَانَ الْمَسْجِدِ حَاجِزَةٌ فَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لِعَدَمِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ بَلْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ لَا حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّوَافُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ مَعَ حَيْلُولَةِ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ لَجَازَ حَوْلَ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ، وَذَا لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا. وَيَطُوفُ مِنْ خَارِجِ الْحَطِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا «إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَقَصَرُوا الْبَيْتَ عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَرَدَدْتُهُ إلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا» وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَذَرَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ، وَلَيْسَ فِي الطَّوَافِ مِنْ، وَرَاءِ الْحَطِيمِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
فصل زمان طواف الزيارة
بَلْ فِيهِ عَمَلٌ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ طَافَ فِي دَاخِلِ الْحِجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ لَمَّا كَانَ مِنْ الْبَيْتِ فَإِذَا طَافَ فِي دَاخِلِ الْحَطِيمِ فَقَدْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الطَّوَافُ بِكُلِّ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ كُلَّهُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ خَاصَّةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ لَا غَيْرُ فَاسْتَدْرَكَهُ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ رُبْعُ الْبَيْتِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِهِ رُبْعَهُ. [فَصْلٌ زَمَانُ طَوَاف الزِّيَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا زَمَانُ هَذَا الطَّوَافِ، وَهُوَ، وَقْتُهُ فَأَوَّلُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَوَّلُ، وَقْتِهِ مُنْتَصَفُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَقْتُ رُكْنٍ آخَرَ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَلَا يَكُونُ، وَقْتًا لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِرُكْنَيْنِ، وَلَيْسَ لِآخِرِهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ بِهِ فَرْضًا بَلْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي، وَقْتُهُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ غَيْرُ مُوَقَّتٍ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ، وَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ قُدِّمَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ. فَهَذَا يَنْفِي تَوْقِيتَ آخِرِهِ، وَيَنْفِي وُجُوبَ الدَّمِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّتَ آخِرُهُ لَسَقَطَ بِمُضِيِّ آخِرِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَأْخِيرُ الشَّكِّ، وَكَذَا تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ، وَهُوَ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَكَانَ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ، وَاجِبٌ فَمُرَاعَاةُ مَحَلِّ الْوَاجِبِ، وَاجِبٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ تَرْكًا لِلْمُرَاعَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَالتَّرْكُ تَرْكًا لِوَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْوَاجِبَ يَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ وَإِذَا تَوَقَّتْ هَذَا الطَّوَافُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا عِنْدَهُ فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْهَا فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّتْ عِنْدَهُمَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نَقْصٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ الْحَرَجِ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِثْمِ، وَانْتِفَاءُ الْإِثْمِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ كَذَا هَهُنَا، وَقَوْلُهُمَا إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ آخِرِ الْوَقْتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُوَقَّتًا، وَوَاجِبًا فِي الْوَقْتِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِخُرُوجِ أَوْقَاتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُوَقَّتَةً حَتَّى تُقْضَى كَذَا هَذَا، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الطَّوَافُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا» . وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْعِبَادَاتِ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ يَقَعُ بِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ فِي تَعْجِيلِهِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ، وَلُزُومِ الْبَدَنَةِ فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الطَّوَاف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ مِنْهُ هُوَ أَكْثَرُ الْأَشْوَاطِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ، وَأَكْثَرُ الشَّوْطِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا الْإِكْمَالُ فَوَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ قَبْلَ الْإِتْمَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الشَّاةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْضُ هُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا يَتَحَلَّلُ بِمَا دُونَهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ «، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا إجْمَاعَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِيمَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فِي بَابِ الْحَجِّ كَالذَّبْحِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ قَطْعَ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَفْرُوضُ هَذَا الْقَدْرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ السَّبْعَةِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الشَّاةَ دُونَ الْبَدَنَةِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فصل حكم الطواف إذا فات عن أيام النحر
[فَصْلٌ حُكْمُ الطَّوَاف إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ، وَقْتُهُ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ عَنْ، وَقْتِهِ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ يَأْتِي بِهِ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ؛ إذْ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَعُودَ فَيَطُوفَ، وَعَلَيْهِ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَا يُجْزِئُ عَنْ هَذَا الطَّوَافِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لَا يُجْزِئُ عَنْهَا الْبَدَلُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا بَلْ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِعَيْنِهَا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ وَاَلَّذِي لَمْ يَطُفْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ طَافَ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، أَمَّا إذَا طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ لَا مَحَالَةَ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَبِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ حَتَّى يُعِيدَ الطَّوَافَ، أَمَّا وُجُوبُ الْعَوْدِ بِطَرِيقِ الْعَزِيمَةِ فَلِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ بِالْجَنَابَةِ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ كَمَا لَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ. وَأَمَّا تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ مَعَ الْجَنَابَةِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ فَإِذَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ صَارَ حَلَالًا، وَالْحَلَالُ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مَكَّةَ لَكِنَّهُ بَعَثَ بَدَنَةً جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ بِالْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ هُوَ الْعَوْدُ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ فَاحِشٌ فَكَانَ الْعَوْدُ أَجْبَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ بِالْجِنْسِ. وَأَمَّا إذَا طَافَ مُحْدِثًا أَوْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَإِنْ، عَادَ وَطَافَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَبَرَ النَّقْصَ بِجِنْسِهِ، وَإِنْ بَعَثَ شَاةً جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ يَسِيرٌ فَيَنْجَبِرُ بِالشَّاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْعَثَ بِالشَّاةِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ، وَتَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ مَشَقَّةَ الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَالرُّجُوعُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَاجِبَاتُ الْحَجِّ] [السَّعْي بَيْن الصفا وَالْمَرْوَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا، وَاجِبَاتُ الْحَجِّ فَخَمْسَةٌ:. السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَطَوَافُ الصَّدْرِ، أَمَّا السَّعْيُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي. بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ، وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْحَاجُّ خُطْوَةً مِنْهُ، وَأَتَى أَقْصَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَعُودَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ، وَيَخْطُو تِلْكَ الْخُطْوَةَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا، وَاجِبٍ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ، وَكَلِمَةُ لَا جُنَاحَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ فُلَانٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ» أَيْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ؛ إذْ الْكِتَابَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَحِجُّ الْبَيْتِ هُوَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ هُوَ الرُّكْنَ لَا غَيْرُ، إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِدَلِيلٍ، فَمَنْ ادَّعَى زِيَارَةَ السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ كُلَّ الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ مَا تَمَّ حَجُّ امْرِئٍ قَطُّ إلَّا بِالسَّعْيِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ، وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهَا، وَصَفَتْ الْحَجَّ بِدُونِهِ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالْفَسَادِ، وَفَوْتُ الْوَاجِبِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ النُّقْصَانَ، فَأَمَّا فَوْتُ الْفَرْضِ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ، وَالْبُطْلَانَ، وَلِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا رَفْعَ الْجُنَاحِ عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا مُطْلَقًا بَلْ عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ هُنَالِكَ، لِمَا قِيلَ إنَّهُ كَانَ بِالصَّفَا صَنَمٌ، وَبِالْمَرْوَةِ صَنَمٌ، وَقِيلَ كَانَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ أَصْنَامٌ فَتَحَرَّجُوا عَنْ الصُّعُودِ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا احْتِرَازًا عَنْ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّشَبُّهِ بِأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْجُنَاحَ بِالطَّوَافِ بِهِمَا أَوْ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ الْأَصْنَامِ هُنَالِكَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " لَا " صِلَةً زَائِدَةً، مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ " لَا " قَدْ
فصل قدر السعي
تُزَادُ فِي الْكَلَامِ صِلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ فَكَانَ كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الشَّافِعِيِّ بِهِ عَلَى زَعْمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ فُلَانٍ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً لَا نَدْرِي مَنْ هِيَ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْبَى مَرَّةً قَبُولَ الْمَرَاسِيلِ لِتَوَهُّمِ الْغَلَطِ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تُعْرَفُ، وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ قَدْ تُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهَا الْحُكْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَّلُ تَكُونُ حُجَّةً، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّانِي لَا تَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ الْوُجُوبُ، وَالِانْتِدَابُ وَالْإِبَاحَةُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ نَحْمِلُهَا عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَإِذَا كَانَ، وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» ، وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ذَاتُهُ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّيْءُ أَصْلًا كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ فِي أَكْثَرِهِ دَمٌ، أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ يُبْلِغَهُ ذَلِكَ دَمًا فَلَهُ الْخِيَارُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَكُونُ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ تَرَكَ الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصُّعُودَ عَلَيْهِمَا سُنَّةٌ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ. [فَصْلٌ قَدْرُ السَّعْي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُهُ فَسَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعُدُّ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطًا، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطًا آخَرَ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ وَاحِدٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاو