السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

الشوكاني

المقدمات

المقدمات مقدمة المؤلف ... مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأشكرك شكرا يليق بنعمك التي لا تحصى بلسان ولا تحصر بقلم تجرى به البنان ويبلغ إليه البيان والصلاة والسلام على رسولك الذي بين الناس ما نزل إليهم وعلى آله الكرام الذين أمرنا بالصلاة عليه وعليهم وعلى أصحابه الهداة الأعلام صلاة وسلأما يتكرران بتكرار لحظات الأيام وبعد. فإن مختصر الأزهار لما كان مدرس طلبة هذه الديار في هذه الأعصار ومعتمدهم الذي عليه في عباداتهم ومعاملاتهم المدار وكان قد وقع في كثير من مسائله الاختلاف بين المختلفين من علماء الدين والمحققين من المجتهدين أحببت أن أكون حكما بينه وبينهم ثم بينهم أنفسهم عند اختلافهم في ذات بينهم فمن كان أهلا للترجيح ومتأهلا للتسقيم والتصحيح فهو إن شاء الله سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعا ولما ينوبه ذخرا وأما من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له مإذا بعشك يا حمامة فادرجي. لا تعذر المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا هويت فعند ذلك عنف فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا وسنقف يا طالب الحق بمعونة الله سبحانه في هذا المصنف على مباحث تشد إليها الرحال وتحقيقات تنشرح لها صدور فحول الرجال لما اشتمل عليه من إعطاء المسائل حقها من التحقيق والسلوك فيما لها وعليها في أوضح طريق مع كل فريق. وقد طولت الكلام في مسائل المعاملات وأبرزت مع الحجج والنكات ما لم يسبق إليه

سابق لخفاء بعض دلائلها على كثير من المصنفين كما ستقف عليه إن شاء الله تعالي واختصرت الكلام في مسائل العبادات لأنها صارت أدلة مباحثها نصب الأعين ولم أترك ما يتميز به الحق في كل مقام. وأرجو من الملك العلام الإعانة على التمام وأن ينفع به المصنفين من الأعلام وينفعني به في هذه الدار وفي دار السلام. وسميته "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار".

مقدمة لا يسع المقلد جهلها

[مقدمة لا يسع المقلد جهلها فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة] . قوله: "مقدمة لا يسع المقلد جهلها". أقول: المقدمة بفتح الدال وكسرها كما صرح به جماعة من المحققين وليس الفتح بخلف كما قيل وهي تصدق على ما ذكره أهل الاصطلاح من جعل المقدمة منقسمة إلي قسمين مقدمة علم ومقدمة كتاب. فمقدمة العلم ما يتوقف الشروع على بصيرة عليها لأنها تكون مشتملة على الحد والموضوع والغاية والفائدة. ومقدمة الكتاب ما يوجب الشروع بها زيادة في البصيرة ولا ريب أن شروع طالب علم الفقه بهذه المقدمة يوجب له زيادة في البصيرة لأنه يعرف بمعرفتها حقيقة التقليد وما يجوز التقليد فيه وما لا يجوز ومن يجوز تقليده ومن لا يجوز ونحو ذلك. ومعلوم أن من عرف هذه الأمور يكون له زيادة في البصيرة لا يكون لمن لا يعرفها فلا يرد الاعتراض على المصنف بما قيل إن هذه المقدمة لم تشتمل على الحد والموضوع والغاية والفائدة فلا تكون مقدمة اصطلاحا لأنا نقول المقدمة تصدق على مقدمة الكتاب كما تصدق على مقدمة العلم وهذه مقدمة كتاب لما ذكرنا. وقد ذكر أئمة اللغة أن المقدمة ما يتقدم أمام المقصود ومنه مقدمة الجيش فمقدمة الكتاب مقدمة لغة واصطلاحا أما اللغة فلما ذكرنا وأما الاصطلاح فلأن أهل العلم قد ذكروا انقسام المقدمة إلي القسمين كما تقدم وكما لم يرد الاعتراض على المصنف بما تقدم لا يرد عليه الاعتراض بما قيل إن هذه المقدمة ليست مقدمة علم ولا مقدمة كتاب لما عرفناك به. إذا تقرر لك اندفاع ما اعترض به على المصنف في تسميته لما ذكره ها هنا أمام المقصود

مقدمة فاعلم أن محل الإشكال وموضع المناقشة هو قوله: "لا يسع المقلد جهلها". ووجهه أنه قد ذكر المصنف رحمه الله فيما سيأتي بعد هذا ان التقليد يختص بالمسائل الفرعية وهي التي لم تكن من أصول الدين ولا من أصول الفقه وأكثر هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة ليست بفرعية لا في اصطلاح المصنف ولا في اصطلاح غيره فهي مما لا يجوز التقليد فيه عنده وعندهم فكيف يصنع المقلد الطالب لمعرفة ما اشتمل عليه هذا الكتاب؟ إن قال المصنف يأخذها تقليدا فقد خالف ما رسم له من كون التقليد إنما هو في المسائل الفرعية فإنه قد ناقض نفسه قبل أن يجف قلمه ولم يتخلل بين قوله لا يسع المقلد جهلها وبين قوله التقليد في المسائل الفرعية إلا لفظة واحدة وهي قوله: " فصل ". وإن قال يأخذها اجتهادا فالمفروض أنه مقلد ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر ولو كلف بالاجتهاد قبل التقليد لكان بلوغه إلي مرتبة الاجتهاد موجبا لتحريم التقليد عليه لا سيما على القول الراجح من كون الاجتهاد لا يتبعض لمعرفته لما اشتملت عليه هذه المقدمة لأنه لا يعرفها اجتهادا إلا وقد صار الواجب عليه العمل بما يؤدي إليه اجتهاده فهو مستغن عن معرفة هذا الكتاب الذي جعلت هذه المقدمة مقدمة له لأنه موضوع للمقلدين لا للمجتهدين ولا واسطة بين التقليد والاجتهاد ولا بين المجتهد والمقلد اصطلاحا والمصنف وكثير من أهل الأصول قائلون بنفي الواسطة. وأما من قال إن الاجتهاد متعين وإنه لا يجوز التقليد على كل حال فهو يوجب الاجتهاد في مثل هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة وفي جميع مسائل هذا الكتاب ولم يكن المصنف من القائلين بتعيين الاجتهاد حتى يصح حمل كلامه هنا على ذلك على أن ثم مانعا من حمله على ذلك وهو أنه لو كان قائلا بذلك لكان تصنيفه لهذا الكتاب ضائعا ليس تحته فائدة لأنه لا ينتفع به إلا المقلدون وليس للمجتهد إليه حاجة بل يكون تصنيفه لهذا الكتاب مع قوله بتعيين الاجتهاد إيهأما للمقلدة بجواز ما لا يجوز عنده وتحليلا لما هو غير حلال في اعتقاده وحاشاه من ذلك. وما قيل من أن المراد بوضعها تعريف المقلد كراهية جهل ما ذكر فيها وبيان حسن معرفته لها بالدليل لا وجوب تعين الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا لا يدفع الاعتراض على المصنف لأنه لم يثبت الواسطة بين الاجتهاد والتقليد حتى يحمل كلامه على هذا. على أنه لو كان من القائلين بذلك لكان للمقصرين مندوحة عن الاحتياج إلي كتابه هذا وأمثاله لأنهم إذا قدروا على معرفة الحق في مسائل هذه المقدمة بالدليل من دون اجتهاد كانوا على معرفة الحق في المسائل المذكورة بعد هذه المقدمة أقدر لصعوبة هذه وسهولة تلك. قوله: "فصل. التقليد في المسائل الفرعية القطعية والظنية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه".

أقول: الكلام على هذا من وجوه: الأول: حقيقة التقليد اعلم أنه مأخوذ عند أهل اللغة من القلادة التي يقلد الإنسان غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد يجعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق المجتهد. وأما في الاصطلاح فهو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالإجماع والعمل من العامي بقول المفتي والعمل من القاضي بشهادة الشهود العدول فإنها قد قامت الحجة في جميع ذلك. أما العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإجماع عند القائلين بحجبته فظاهر وأما عمل العامي بقول المفتي فلوقوع الإجماع على ذلك وأما عمل القاضي بشهادة الشهود العدول فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة وقد وقع الاجماع على ذلك ويخرج عن ذلك أيضا قبول رواية الرواة فإنه قد دل الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضا ليست قول الرأوي بل قول المروي عنه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد أحسن من الأول. وقال القفال: "هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من اين قاله". وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور: "هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة". الوجه الثاني: أورد الجلال في شرحه هنا بحثا فقال وربما يتوهم أن أحكام الشرع متعلقة بالعامي وأكثرها استدلال مظنون وليس من أهل الاستدلال فيجب عليه التقليد بدلا عن الاجتهاد كالتراب بدل الماء إذ هو الممكن وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه. والجواب منع تعلق الظنيات بالعامي للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف فهو شرط للوجوب وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب فإذن لا يتعلق بها إلا ما فهمه وليس ذلك إلا ضروريات الشرع والعمل بالضروري ليس بتقليد لأن الضرورة أعظم الأدلة ولهذا وقع الاتفاق على أن العامي يقر ما فعله ولا ينكر عليه ما لم يخرق الإجماع انتهى. ولا يخفى عليك أن هذا الكلام ساقط فاسد فإن قوله للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف إن أراد فهم التركيب الذي وقع الخطاب به من الشارع فهذا يفهمه كل عاقل ولا يتعذر فهمه إلا على المجنون أو صبي صغير وهذا المعنى هو الذي أراده أهل العلم بقولهم الفهم شرط التكليف. وإن أراد بالفهم فهم النفع المرتب على التكليف فهذا لم يقل به أحد قط ولو فرضنا أنه قال به قائل لكان ذلك مستلزما لعدم تكليف كل كافر وجاحد وزنديق واللازم باطل بإجماع المسلمين أجمعين فالملزوم مثله.

وإن أراد غير هذين المعنيين فلا ندري ما هو ولم يقل به أحد بالجملة فهذه فاقرة عظمى ومقالة عمياء صماء بكماء فليكن هذا منك على ذكر فإنه قد كرره في مواضع من كتابه. وما ذكره الجلال رحمه الله في آخر بحثه هذا جعله كالنتيجة له من كون العامي إنما كلف بالضروريات فهو من أغرب ما يقرع الأسماع لأنه خرق للإجماع وباطل لا يقع في مثله بين أهل العلم نزاع وكل من له نصيب من علم وحظ من فهم يعلم أن هذه التكاليف الثابتة في الكتاب والسنة لازمة لكل بالغ عاقل لا يخرج عن ذلك منهم أحد كائنا من كان إلا من خصه الدليل والضروريات منها هي بالنسبة إلي جميعها أقل قليل وأندر نادر والواقعون في معاصي الله المتعدون لحدوده الهاتكون لمحارمه من العامة لو علموا بهذا البحث من هذا المحقق لقرت به أعينهم واطمأنت إليه أنفسهم وأقاموا به الحجة على من أراد إقامة حدود الله عليهم وطلب منهم القيام بشرائعه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فإن غالب الواجبات الشرعية والمحرمات الدينية ثابتة بالعمومات وهي ظنية الدلالة وما كان ثابتا بما هو ظني التمن أو ظن الدلالة فهو ظني لا قطعي فضلا عن أن يكون ضروريا. وإذا كانت العامة في راحة من هذه التكاليف وهم السواد الأعظم فإن الخاصة بالنسبة إليهم أقل قليل قد يوجد واحد منهم في الألف والألفين والثلاثة وقد لا يوجد فهذا هو تعطيل الشريعة. الوجه الثالث: أن قوله الفرعية يخرج الأصلية أي مسائل أصول الدين وأصول الفقه وإلي هذا ذهب الجمهور لا سيما في أصول الدين فقد حكي الأستاذ أبو إسحق في شرح الترتيب: "إن المنع من التقليد فيها هو إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف". قال أبو الحسين بن القطان "لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد". وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء. وقال إمام الحرمين في الشامل: "لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة". وقال الإسفراييني: "لم يخالف فيه إلا أهل الظاهر". ولم يحك ابن الحاجب الخلاف في ذلك إلا عن العنبرى وحكاه في المحصول عن كثير من الفقهاء واستدل الجمهور على منع التقليد في ذلك بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله سبحانه وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا والأخذ بقول من يقلده ولا يدرى أهو صواب أم خطأ؟. واعلم أن ذكر الفرعية يغنى عن ذكر العملية وما قيل من أن قيد العملية لإخراج الفرعية العلمية كمسألة الشفاعة وفسق من خالف الإجماع فذلك غير جيد لأن هاتين المسألتين ليستا بفرعيتين فقد خرجتا من قيد الفرعية. ودعوى أنهما فرعيتان علميتان باطلة وإن زعم ذلك بعض شراح الأزهار والأثمار وارتضاه

الأمير في حاشيته على ضوء النهار بل هما أصليتان من مسائل أصول الدين ولا خلاف في ذلك بين علماء هذين العلمين. وهذه القيود مبنية على الاصطلاح والاعتبار بما وقع عليه التواضع بين أهله. والمراد بالفرعية ما كان موضعها الفعل أو الوصف فلا يرد ما أورده الجلال على قيد العملية وكان الأولى له أن يذكر ما ذكرناه من كونه مستدركا. وهكذا قوله الظنية والقطعية فإنه قد أغنى عن ذلك قوله الفرعية لأن إطلاق الفرعية بتنأول قطعيها وظنيها. وهكذا قوله لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم له فإن عدم تجويز التقليد للمجتهد يفيد أنه لا يجوز له بحال لا لمن هو مثله ولا لمن هو فوقه لكونه قد حصل له باجتهاده ما هو المانع من التقليد على كل حال ولكل أحد. وهكذا قوله ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة فإن هذا العملي هو من مسائل الأصول لا من مسائل الفروع فقد خرج بقيد الفرعية فلو قال المصنف هكذا: "فصل: التقليد في الفروع جائز لغير المجتهد" لكان أخصر وأظهر وأوضح معنى فإن ما زاد على هذا من القيود التي ذكرها ليس فيه إلا مجرد التكرار مع إيهام التناقض في البعض من ذلك. الوجه الرابع: في الكلام على جواز التقليد. اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلي أنه غير جائز قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد ورواه مالك وأبو حنيفة والشافعي وروى المروزي عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره. وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد لهم في الرسالة التي سميتها "القول المفيد في حكم التقليد". والحاصل أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور ومن اقتصر في حكاية المنع من التقليد على المعتزلة فهو لم يبحث عن اقوال أهل العلم في هذه المسألة كما ينبغي. وقد حكي عن بعض الحشوية أنهم يوجبون التقليد مطلقا ويحرمون النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم. وذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأربعة ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول من أتباع الأئمة يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون والمعتبر في الخلاف إنما هو قول المجتهدين لا قول المقلدين. والعجب من بعض المصنفين في الأصول فإنه نسب هذا القول المشتمل على التفصيل إلي

الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين. فإن أراد إجماع الصحابة فهم لم يسمعوا بالتقليد فضلا عن أن يقولوا بجوازه وكذلك التابعون لم يسمعوا بالتقليد ولا ظهر فيهم بل كان المقصر في زمان الصحابة والتابعين يسأل العالم منهم عن المسألة التي تعرض له فيروى له النص فيها من الكتاب أو السنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية. وقد عرفت مما قدمنا أن المقلد إنما يعمل بالرأي لا بالرواية من غير مطالبة بحجة وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم مصرحون بالمنع من التقليد لهم ولغيرهم ولم يزل من كان في عصرهم منكرا لذلك أشد إنكار وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة فقد عرفت أنه لا يعتبر خلاف المقلد فكيف ينعقد بقولهم الإجماع وإن أراد غيرهم فمن هم فإنه لم يزل أهل العلم في كل عصر منكرين للتقليد وهذا معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم. والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد فصلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط وقد أوضحنا هذا في رسالتنا المسماة بالقول المفيد في حكم التقليد وفي كتابنا الموسوم "بأدب الطلب ونهاية الأرب". وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ظنوه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجأهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم. ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء الذين هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة على ما بعدها فلا وسع الله عليه. وما أحسن ما قاله الزركشي في البحر عن المزني فإنه قال يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال بغير علم قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة!! فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلي تقليد معلم معلمه وكذلك حتى ينتهي إلي العالم من الصحابة. فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر واقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال: "لا

يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن أمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر" انتهى وأقول: متمما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلي العالم من الصحابة يقال له هذا الصحأبي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلي عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله فتقليده أولى من تقليد الصحأبي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس. واعلم أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له بلا خلاف في هذا ولا يجوز لغيره العمل به بحال من الأحوال فمن ادعى جواز ذلك فليأتنا بالدليل وهو لا محالة يعجز عنه وعند عجزه عن البرهان يبطل التقليد لأنه كما عرفت العمل برأي الغير من غير حجة. الوجه الخامس: قال الجلال في شرحه "إن تجويز التقليد لغير المجتهد لا له تحكم لأن العامي كالمجتهد". ولا أدري ما أصل هذه الدعوى ولا ما هو الموجب للوقوع فيها فإن هذه التسوية بين من بلغ في العلم إلي أعلى مكان وبين من هو بجهله في أسفل سافلين كالتسوية بين النور والظلمة وبين الجماد والحيوان ولعله أراد إلزام من يجرى على لسانه ذلك من مقصري المقلدة. وأورد الجلال أيضا على قوله في الأزهار ولا في عملي يترتب على علمي بحثين. الأول قد أجاب عنه والثاني أن الفقه كله عملي يترتب على علمي وهو أصول الفقه. وأجاب عنه الأمير في حاشيته بأن المراد بالعلمي المذكور هو العلم بالمعنى الأخص وليس كل مسائل أصول الفقه كذلك بل المترتب منها على العلم بالمعنى الأعم أكثر وأنه شامل للظن هكذا قال. وأقول: إن الفقه مترتب على علمي بالمعنى الأخص وهو إثبات النبوة بالدليل العقلي والنقلي وكل واحد منهما علمى بلا خلاف فالمقلد في جميع ما قلد فيه قد قلد إمامة في عملي مترتب على علمي وهذا يبطل التقليد من أصله ويجتثه من عرقه. ثم أن الأمير رحمه الله في حاشيته ها هنا رجح التفصيل في جواز التقليد لمن كان بليد الفهم جامد الفكرة بعيد النظر دون من كان فيه أهلية للنظر وإدراك للمباحث ولا يخفاك أن هذا التفصيل عليل ودليله كليل فإن ذلك البليد إن بقي له من الفهم ما يفهم ما به من كلام من أراد تقليده فهذه البقية الثابتة له يقوى بها على فهم كلام من يروى له الدليل ويوضح له معناه فليس به إلي التقليد حاجة وليس فهم رأي عالم من العلماء بأظهر من فهم معنى ما جاد به الشرع فما الملجىء له إلي رأي الغير البحث وهو يجد من يروى له ما هو الشرع الذي شرعه الله لعباده؟. وإن قدرنا أنه قد بلغ من البلادة إلي حد لا يفهم معه رأى من يقلده فقد انسد عليه الباب من الجهتين وهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وليس عليه إلا العمل بما بلغ إليه فهمه ولا يكلفه الله فوق طاقته.

[فصل وإنما يقلد مجتهد عدل تصريحا وتأويلا ويكفى المغرب انتصابه للفتيا في بلد شوكته لإمام حق لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل] قوله: "فصل: وإنما يقلد مجتهد" أقول: الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه. قال الرازي في المحصول هو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ ووسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ فيه. وهذا سبيل مسائل الفروع وكذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هكذا حال الأصول انتهى. وقد ذكرت في كتأبي الموسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول ما ذكره أهل الأصول وغيرهم في تحقيق الاجتهاد وشروط المجتهد وعقبت ذلك بما هو الراجح عندي وقد أطلت الكلام على ذلك في كتأبي الموسوم بأدب الطلب ومنتهى الأرب وذكرت فيه مراتب للمجتهدين ولما يحتاج كل واحد منهم إليه وهو تحقيق لم أسبق إليه. وقد اختلف في رسم العدالة وأحسن ما قيل في ذلك أنها ملكة للنفس تمنعها عن اقتراف الكباشر والرذائل فمن كان كذلك فهو عدل ومن لم يكن كذلك فليس بعدل لأن الإقدام على كبائر الذنوب يجعل صاحبه مظنة للتهمة فهو غير مأمون على علم الشرع وأيضا مرتكب ذلك مسلوب الأهلية فليس من المتأهلين للاقتداء به في مسائل الدين. وهكذا الإقدام على الرذائل فإنه يدل على سقوط النفس وانحطاط رتبة فاعله عن رتبة حملة العلم الذين جعلهم الله أمناء على دينه وأمر عباده بسؤالهم عند الحاجة. وقد أورد الجلال هاهنا بحثا فقال إن العدالة والاجتهاد ملكة نفسية ولا سبيل إلي الاطلاع عليها إلا بقرائن نظرية إلي أن قال فلا بد من التقليد فيهما وهما عمليان وما يترتب عليهما عملي يترتب على علمي. ويجاب عنه بأن هذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية ممن له قدرة على معرفة هذه الملكة الاجتهادية. وأما ملكة العدالة فهي معروفة للمقصر والكامل والاعتبار إنما هو بما يدل عليها من الأفعال والأقوال ومن ترك ما ينافيها وذلك قبول رواية لا قبول رأي ثم إن مسائل الدين بأسرها مترتبة على علمي فتخصيص بعضها بإيراد الإلزام بها ليس كما ينبغي. قوله: "تصريحا وتأويلا".

أقول: هذا تفصيل لمفهوم قوله عدل وهو مستعنى عنه لأن إطلاق قوله عدل يخرج من لم يكن عدلا سواء كان ملتبسا بما ينافي العدالة على جهة التصريح أو على جهة التأويل. والحق أنه لا كفر تأويل ولا فسق تأويل ولا يدل على ذلك دليل. والكلام على المقام مبسوط في غير هذا الموضع وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي قوله ويكفي المغرب إلي آخر الفصل عند من لا يثبت التأويل وذلك ظاهر وأيضا لا حاجة له عند من يثبته لأنه قد أغنى عنه إطلاق العدالة فإنها لا تكون عنده إلا لمن ليس من كفار التأويل ولا من فساق التأويل فلا بد من تحقيق عدم هذا المانع من ثبوت العدالة وكون الولاية لمن لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل هو مجرد قرينة ضعيفة ولا تثبت ملكة العدالة بمثل ذلك فلو اقتصر على قوله في هذا الفصل إنما يقلد مجتهد عدل لكان أخصر وأظهر لأن التفصيل إنما أخرج فاسق التصريح وفاسق التأويل والعدالة تنتفي بمجرد ارتكاب محرم وإن لم يبلغ بصاحبه إلي الفسق بالمعنيين. وفي هذا الفصل ابحاث في ضوء النهار إذا تأملت ما ذكرناه هنا عرفت الجواب عنها. [فصل وكل مجتهد مصيب في الأصح والحي أولى من الميت والأعلم من الأورع والأئمة المشهورون من أهل البيت أولى من غيرهم لتواتر صحة اعتقادهم وتنزههم عما رواه البويطي وغيره عن غيرهم من إيجاب القدرة وتجويز الرؤية وغيرهما ولخبري السفينة وإني تارك فيكم] [مسلم "2408"] . قوله: "فصل: وكل مجتهد مصيب". أقول: اعلم أن الخلاف في هذه المسألة تختص بالمسائل الشرعية لا العقلية فلا مدخل لها في هذا وقد ذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم إلي أن المسائل الشرعية تنقسم إلي قسمين الأول منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها مصيبا بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطىء غير معذور بل آثم. وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل مخطىء آثم وقيل مخطىء غير آثم. القسم الثاني المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها فذهب كثيرون إلي أن كل مجتهد مصيب وحكاه المأوردي والروياني عن الأكثرين وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأكثر

الفقهاء إلي أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد للشخص الواحد حلالا وحراما. والكلام في هذه المسألة طويل وقد ذكرنا في مؤلفنا المرسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول أقوال المختلفين في هذه المسألة وذكرنا أن كل طائفة استدلت لقولها بما لا تقوم به الحجة. وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق أيضاحا لا يبقى بعده تردد وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". [البخاري "7352"، ومسلم "1716"، وأحمد "4/198، 204"] . فهذا الحديث قد دل دلالة بينة أن للمجتهد المصيب أجرين وللمجتهد المخطىء أجرا فسماه مخطئا وجعل له أجرا فالمخالف للحق بعد أن اجتهد مخطىء مأجور وهو يرد على من قال إنه مصيب ويرد على من قال إنه آثم ردا بينا ويدفعه دفعا ظاهرا. وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني والحاكم من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وبلفظ: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور" قال الحاكم صحيح الاسناد فيه فرج بن فضالة وهو ضعيف وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه وأخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة"، وإسناده ضعيف. وما ذكره المصنف رحمه الله من أولوية تقليد الحي إلي آخر الفصل هو مبني على جواز التقليد وقد قدمنا أنه غير جائز. [فصل والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب ولا يجمع مستفت بين قولين في حكم واحد على صورة لا يقول بها إمام منفرد كنكاح خلا عن ولي وشهود لخروجه عن تقليد كل من الإمامين] . قوله: فصل: "والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب". أقول: الأولوية مغنية عن قوله ولا يجب لأن كون الشيء أولى من غيره ما يفيد أن ذلك الغير جائز مرجوح كما أن الأولى جائز راجح فلو يأت قوله ولا يجب بفائدة بل هو مستدرك. وقد أوجب جماعة تقليد إمام معين ورجح هذا القول الكيا الهراسي وقال جماعة ليس بواجب ورجح هذا القول ابن برهان والنووي.

ويالله العجب من عالم ينسب إلي العلم يحكم بأولوية التقليد لمعين جزافا فلا برهان من عقل ولا شرع. وأعجب من هذا من يوجب ذلك فإنه من التقول على الله بما لم يقل ومن إيجاب البدع التي لم تكن في عصر الصحابة ولا عصر التابعين ولا تابعيهم. وأعجب من هذا كله قول ابن المنير إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم فليت شعري ما هو هذا الدليل وقد صان الله أدلة الشرع أن تدل على هذا بل وصان علماء الدين من المجتهدين أن يقولوا بمثل هذا التفصيل العليل. ولعله قول لبعض المقلدة فظنه هذا القائل دليلا. [فصل ويصير ملتزما بالنية في الأصح وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلي ترجيح نفسه بعد استيفاء طرق الحكم فالاجتهاد يتبعض في الأصح أو لإنكشاف نقصان الأول فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد وإن فسق رفضه فيما تعقب الفسق فقط وإن رجع فلا حكم له فيما قد نفد ولا ثمرة له كالحج وأما ما لم يفعله ووقته باق أو فعل ولما يفعل المقصود به فبالثاني. فأما ما لم يفعله وعليه قضاؤه أو فعله وله ثمرة مستدامة كالطلاق فخلاف] . قوله: فصل: "ويصير ملتزما بالنية في الأصح". أقول: لو كان هذا التقليد المشئوم قربة من القرب الشرعية وطاعة من طاعات الله لم يكن مجرد النية قبل العمل موجبا للزومه للنأوي ومقتضيا لتحريم انتقاله عنه. والحاصل أن هذه المسائل هي بأسرها من التخبط فب البدع والتجرؤ على الشريعة المطهرة بنسبة ما لم يكن منها إليها بل بنسبة ما هو معاند لها ومضاد لما فيها إليها. وقد ذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين الجويني. وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي. وقيل إن كان الذي انتقل إليه ما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام.

وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وألا يكون قاصدا للتلاعب وألا يكون ناقضا لما قد حكم به عليه واختاره ابن دقيق العيد. وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق. وكل هذه الأقوال على فرض جواز التقليد لا دليل عليها لكنها أقل مفسدة ومخالفة للحق من إيجاب التقليد وتحريم الانتقال بمجرد النية. وفي الشر خيار. قوله: "ولاجتهاد يتبعض في الأصح" أقول: اختلف أهل العلم في ذلك فذهب جماعة إلي أنه يتجزأ وعزاه الصفي الهندي إلي الأكثرين قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد يمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد. وذهب آخرون إلي المنع واحتج الأولون بأنه لو لم يجز تجزؤ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل واللازم منتف فإن كثيرا من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثيرا منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف. واحتج آخرون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع. وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلي ثبوت الملكة فإنها إذا تمت حصلت القدرة على الاجتهاد في جميع المسائل وإن نقصت لم يقتدر على الاجتهاد في شيء ولا يثق في نفسه لتقصيره ولا يثق به الغير لذلك. فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله. قوله: "أو لانكشاف نقصان الأول". أقول: المقلد لا يعرف الكامل من المجتهدين ولا الناقص منهم وإنما يستروى ذلك ممن له إدراك يعرف به الكمال والنقص فهذا المقلد إن انكشف له نقص من قلده بإخبار من أخبره باجتهاده وكماله فقد أقر على نفسه أن خبره الأول المتضمن لكماله غير صحيح وإن كان انكشاف النقص بخبر غير من أخبره بالكمال فقد وقع هذا المقلد المسكين في حيرة لأنه غير متأهل للترجيح في الأخبار المتعارضة عن مثل هذا الأمر الذي لا يعرفه إلا المتأهلون. والمنهج الواضح والمهيع الآمن أن يقطع عن عنقه علائق التقليد وقد جعل الله له في الأمر

سعة بسؤال أهل العلم عن حكم الله سبحانه فيما يفرض له وتدعو حاجته إليه من عبادة أو معاملة. قوله: "فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد". أقول: لا تردد بل ينبغي أن يعمل بمزية الأعلمية والأفضلية ولا شك أنه يوجد في معاصري إمامه وفيمن قبله من هو أعلم منه وأفضل منه ثم كذلك حتى ينتهي الأمر إلي الإمام الأول الذي بعثه الله سبحانه برسالته وأنزل عليه كتابه وأمره بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإنه منتهى الكمالات ومنشأ الفضائل ومعدن الفواضل فيأخذ دينه عنه من الكتاب الذي أنزل عليه أو السنة المطهرة التي جاء بها. قوله: "فإن فسق رفضه" إلي آخر الفصل. أقول: إن كان قد عمل عملا وهو عند نفسه مقلد لعالم من العلماء فليس انتسابه إلي ذلك العالم مسوغا به ما لم يسوغه له الشرع فإن كان موافقا للدليل فقد أجزأه وتقبله الله منه وإن كان مخالفا للدليل فلا اعتبار به ولا حكم له سواء فسق المجتهد أم لم يفسق رجع أم لم يرجع وسواء كان للفعل ثمرة مستدامة أم لا. فإن قيل قد يلحق المقلد في ذلك مشقة قلنا هو أدخل نفسه فيما لا يجوز له الدخول فيه فعلى نفسها براقش تجني. [فصل ويقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل طلب الناسخ والمخصص من نصوصه وإن لزم المجتهد ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين فإن التبس فالمختار رفضهما والرجوع إلي غيره كما لو لم يجد له نصا ولا احتمالا ظاهرا. ولا يقبل تخريجا إلا من عارف دلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به ولا قياسا لمسألة على أخرى إلا من عارف بكيفية رد الفرع إلي الأصل وطرف العلة وكيفية العمل عند تعارضها ووجوه ترجيحها لا خواصها وشروطها كون إمامه ممن يرى تخصيصها أو يمنعه. وفي جواز تقليد إمامين فيصير حيث يختلفان مخيرا بين قوليهما فقط خلاف. وبتمام هذه الجملة تمت المقدمة] .

قوله: فصل: "وتقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها". أقول: قبول الرواية ثابت في كل شيء مع كمال ما يعتبر فيها وهي أمور قد استوفيناها في إرشاد الفحول. وسواء كانت عن حي أو ميت وعن مجتهد أو مقلد في رواية أو رأي ولم يقل أحد من أهل العلم إن المقلد لا يقبل الرواية عن الميت والغائب حتى يحتاج إلي ذكر ذلك. قوله: "ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل" الخ. أقول: إذا كان هذا غير لازم له فليعدل إلي النص الصريح والعموم الشامل من كتاب الله وسنة رسوله ويعمل بهما ولا يلزم معه طلب الناسخ والمخصص كما لم يلزمه ذلك في رأي من قلده من المجتهدين وليس في محض الرأي الذي يأخذ به المقلد زيادة سهولة أو ظهور على ما في نصوص الرواية حتى يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. قوله: "ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين". أقول: أما آخر القولين فيمكن المقلد أن يعرفه بأن يكون في كتاب لإمامه متأخرا عن الكتاب المشتمل على القول الأول أو بالتصريح من إمامه بأن أحد القولين متأخر والآخر متقدم. وأما أقوى الاحتمالين فلا سبيل للمقلد إلي معرفة الأقوى منهما لأن القوة للقول أو الاحتمال يحتاج إلي علم لا يكون عند المقلد. نعم إذا صرح إمامه بأن أحد الاحتمالين اقوى وأرجح من الآخر أو أخبر المقلد من له قدرة على معرفة الأقوى استقام ما ذكره هنا. ولا وجه لما ذكره الأمير رحمه الله في حاشيته من أن المقلد قد يتمكن من ذلك بأسباب يعرفها لمعرفته لقوة بعض المفاهيم على بعض لأنا نقول لو عرف ذلك كما ينبغي لم يكن مقلدا في هذا الحكم الذي توصل إلي تقويته بذلك السبب. قوله: "ولا يقبل تخريجا" الخ. أقول: إن كان التخريج هو ما ذكره من كون المقلد يعرف أنه لا فرق بين مسألتين نص المجتهد على إحداهما دون الأخرى فيجعل المقلد حكم تلك المسألة الأخرى حكم هذه التي نص عليها المجتهد فيقال أولا من أين لهذا المقلد المسكين معرفة عدم الفرق بين هاتين المسألتين فإن ذلك يرجع إلي علم ليس هو من علمه. وعلى تقدير أنه عارف بدلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به وأنه بهذه المعرفة ألحق مسألة أخرى فهذا القياس بعينه وإن زعم زاعم أنه غير القياس فما هو والحاصل أن جعل التخريج نوعا مستقلا مغايرا للقياس هو مجرد دعوى لا برهان عليها أصلا ثم قد عرفت عدم جواز التقليد فيما هو مسائل صريحة واضحة فعدم جوازه في مثل هذه المسائل التي هي كما قيل ليست من قول المخرج ولا من قول المخرج له أولى.

وعلى تقدير احتمال أن يكون من قول أحدهما لا على التعيين فقد علمت أن أحدهما مقلد وتقليد المقلد لا يجوز بالإجماع. وبالجملة فهذه ظلمات بعضها فوق بعض وتوسيع لدائرة التقليد المنهي عنه بالكتاب والسنة. قوله: "ولا قياسا لمسألة" الخ. أقول: إنما يعرف الأصل والفرع والعلة والحكم كما ينبغي المجتهد المطلق وأما من كان مقلدا فمعرفته لذلك مجرد دعوى لأن أصالة الأصل وفرعية الفرع وعلية العلة تستمرى من علوم لا يدري المقلد ما هي فضلا عن أن يفهمها بوجه من الوجوه. من أين له الوقوف على محل التعارض حتى يصير إلي الجمع عند إمكانه أو الترجيح عند عدمه فإنه إنما يقتدر على هذا على وجه الصحة من يقتدر على الجمع أو الترجيح عند تعارض الأدلة. وعلى تقدير أنه قد بلغ إلي هذه الرتبة ووصل إلي هذه المنزلة فهو مجتهد لا مقلد فما له وللاشتغال بكلام مجتهد مثله؟! قوله: "وفي جواز تقليد إمامين" الخ. أقول: هذا قد أغنى عنه قوله فيما تقدم والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب فإن هذا يفيد جواز تقليد إمامين وأكثر ومن لازم الجواز أن يكون مخيرا بين أقوالهم مع الاختلاف فتصريحه هنا بأن في الجواز خلاف مخالف لقوله فيما تقدم ولا يجب لأن نفي الوجوب يوجب الجواز وهذا ظاهر لا يخفى.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب النجاسات ... [باب النجاسات هي عشر: ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل أو جلال قبل الاستحالة والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما والكلب والخنزير والكافر وبائن حي ذي دم حلته حياة غالبا والميتة إلا السمك وما لا دم له وما لا تحله الحياة من غير نجس الذات وهذه مغلظة. وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح وهذه مخففة إلا من نجس الذات وسبيلي ما لا يؤكل. وفي ماء المكوة والجرح الطري خلاف وما كره أكله كره بوله كالأرنب] .

قوله: "ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل" أقول: حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة. وبهذا تعرف أن الاستدلال بمفهوم حديث جابر والبراء بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لا تقوم به الحجة فإن في إسناد حديث جابر عمرو بن الحصين العقبلي قال أبو حاتم ذاهب الحديث ليس بشيء وقال أبو زرعة واهي الحديث وقال الأزدي ضعيف جدا يتكلمون فيه وقال الدارقطني متروك. وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمرو البجلي الرازي قال أحمد كذاب يضع الحديث وقال يحيى ليس بثقة وقال ابن عدي أحاديثه موضوعات. وأما حديث البراء ففي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل وقال ابن حزم في المحلي خبر باطل موضوع. على أنه قد اختلف على سوار فيه فرواه الدارقطني عنه عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء مرفوعا بلفظ: "ما أكل لحمه فلا بأس بسؤره". فهو بهذا اللفظ لا يدل على محل النزاع وتعرف أيضا انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة الأبوال والأزبال على العموم لأن غاية ما عولوا عليه حديث: "إنه كان لا يستنزه من بوله" [البخاري "216‘ 218، 1361، 1378، 6052"، مسلم "111/292"، أبو دأود "20"، النسائي "31"، الترمذي "70"، ابن ماجة "347"، أحمد "1/225"] ، وحديث "اسنتزهوا من البول". والأول في الصحيح والثاني صححه ابن خزيمة. وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا بلفظ: "اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون. قالوا والبول في هذه الأحاديث عام ويجاب عنه بأنه مخصص على تقدير العموم ومقيد على تقدير الإطلاق بما ثبت في الصحيح بلفظ "من بوله". ثم هذا الدليل هو أخص من الدعوى فإنه في البول لا في الزبل. وبالجملة فكل ما استدل به القائلون بطهارة ما خرج من سبيلي ما يؤكل لحمه يدل على الأصل الذي ذكرناه ولا ينفي طهارة ما خرج من سبيلي غير المأكول. وتعرف أيضا عدم انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة مني الآدمي فإن حديث "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني" لا تقوم به الحجة أصلا لبلوغه في الضعف إلي حد لا يصلح معه للاحتجاج به وكذا حديث أنه صلى الله عليه وسلم "كان يغسل ثوبه من المني" [البخاري "229"، مسلم "108/286"] . ليس فيه أن ذلك لأجل كونه نجسا فإن مجرد الاستقذار بل مجرد درن الثوب مما يكون سببا لغسله وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك

المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم وهو يصلي ولو كان نجسا لنزل عليه الوحي بذلك كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلى فيه. وأما المذى والودى فقد قام الدليل الصحيح على غسلهما فأفاد ذلك بنجاستهما ولكنه أخرج أبو دأوود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وقال الترمذي حسن صحيح عن سهل ابن حنيف قال كنت ألقي من المذى شدة وكنت أكثر الاغتسال منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء" قلت يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه قال: "يكفيك بأن تأخذ كفا من ماء فتنضخ بها ثوبك حيث ترى أنه أصابه". فدل هذا الحديث على أن مجرد النضخ يكفي في رفع نجاسة المذى ولا يصح أن يقال هنا ما قيل في المني إن سبب غسله كونه مستقذرا لأن مجرد النضخ لا يزيل عين المذى كما يزيله الغسل فظهر بهذا أن نضخه واجب وأنه نجس خفف تطهيره. قوله: "أو جلال قبل الاستحالة". أقول: لم يرد دليل يدل على نجاسة بول الجلالة ورجيعها بل الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم هو النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس كما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح. والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها لا يستلزم نجاسة رجيعها وبولها ولا يصح إلحاق ذلك بالقياس على الأكل والشرب لأن الحكم في الأصل تحريم الأكل والشرب وفي الفرع النجاسة وهما مختلفان وليس القياس إلا إثبات مثل حكم الأصل في الفرع. نعم إن خرج ما جلته بعينه فله حكمه الأصلي لبقاء العين وإن خرج بعد استحالة تلك العين إلي صفة أخرى حتى لم يبق لون ولا ريح ولا طعم فلا وجه للحكم بالنجاسة لا من نص ولا من قياس ولا من رأي صحيح. قوله: "والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما". أقول: ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به أما الآية وهو قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90" فليس المراد بالرجس هنا النجس بل الحرام كما يفيده السياق وهكذا في قوله تعالي: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، أي حرام. وقد أنكر بعض أهل العلم ورود لفظ الرجس بمعنى النجس وجعل ما ورد منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" [البخاري"156"] . والركس الرجس مجازا على أن في الآية الأولى ما يمنع من حملها على أن المراد بالرجس النجس وذلك اقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام فإنها طاهرة بالإجماع. وأما الاستدلال على نجاسة الخمر بحديث أبي ثعلبة الخشنى عند أبي دأود والترمذي

والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برحض آنية أهل الكتاب لما قال له إنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها لحم الخنزير فإن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالغسل أن يزيلوا منها أثر ما يحرم أكله وشربه ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة كما عرفت. ولفظ الحديث "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا" وفي لفظ الترمذي "أنقوها غسلا وأطبخوا فيها" [الترمذي "1857"] . فهذا يدلك على أن الكلام في الأكل والشرب فيها والطبخ لما يطبخونه فيها تحذير من اختلاط مأكولهم ومشروبهم بمأكول أهل الكتاب ومشروبهم للقطع بتحريم الخمر والخنزير ومما يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه أحمد وأبو دأود عن جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم. وأخرج أحمد عن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. [أحمد "3/210 – 211"] . قوله: "والكلب" أقول: استدلوا على ذلك بحديث "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" [مسلم "280"، أحمد "4/86"، أبو دأود "74"، النسائي "1/177"، ابن ماجة "365"] الحديث. وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحما وعظما ودما وشعرا وعرقا وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جدا ولا سيما مع حديث ابن عمر عند أبي دأود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي بلفظ كانت الكلاب تبول في المسجد وتقبل وتدبر زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا وأخرجه البخاري بدون لفظ تبول ولكن ذكره الأصيلي في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري بزيادة لفظ تبول وهذا مما يقوي الاقتصار على إفادة حديث الولوغ وذلك لحكمة للشارع لا نعقلها والواجب علينا العمل بما دلت عليه النصوص وإن لم نعقل الحكمة التي وردت لها. ومما يدل على ما ذكرناه إيجاب التسبيع والتتريب فإنه مخالف لما ورد في غسل سائر النجاسات ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص لحكمة لا نعقلها. قوله: "والخنزير". أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ويجاب عنه بما قدمنا من أن المراد بالرجس هنا الحرام كما يفيده سياق الآية والمقصود منها فإنها وردت فيما يحرم أكله لا فيما هو نجس فإن الله سبحانه قال: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . أي حرام. ولا تلازم بين التحريم والنجاسة فقد يكون الشيء حرأما وهو طاهر كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النسائ: 23] ، ونحو ذلك واستدلوا أيضا بحديث أبي ثعلبة الخشني

المتقدم وفيه الآمر بغسل آنية أهل الكتاب معللا ذلك بأنهم يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر وقد قدمنا أن إيجاب الغسل لإزالة ما يحرم أكله وشربه لا لكونه نجسا فإن ذلك حكم آخر غير مقصود للشارع وعلى تقدير الاحتمال تنزلا فلا ينتهض المحتمل للاحتجاج به على محل النزاع. قوله: "والكافر" أقول: استدلوا بقوله تعالي: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهذا الدليل فيه التصريح بأنهم نجس ولكنه ورد ما يدل على أن هذه النجاسة ليست النجاسة الحسية بل النجاسة الحكمية ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل ثقيف المسجد قيل يا رسول الله أتنزلهم المسجد وهم أنجاس فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم". ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يشربوا وتوضؤا من مزادة المشركة. ومن ذلك أكله صلى الله عليه وسلم لطعام المشركين وتسويغه لوطء المشركات المسبيات قبل إسلامهن وغير ذلك. وورد في أهل الكتاب خاصة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ونزل القرآن بحل نكاح نسائهم. وأما الاستدلال بحديث أبي ثعلبة من أمره صلى الله عليه وسلم بغسل آنيتهم فقد تقدم أن ذلك لأجل أنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها الخنازير وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم وقد أخرج أحمد وابو دأود من حديث جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم. قوله: "وبائن من حي ذي دم حلته حياة غالبا". أقول: استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة". أخرجه أحمد وأبوا دأود والترمذي [أحمد "5/218"، أبودأود "2858"، الترمذي "1480"] ، والدارمي والحاكم من حديث أبي واقد مرفوعا وأخرجه ابن ماجه والبزار والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من طرق أخرى عن ابن عمر وفيها عاصم بن عمر وهو ضعيف وأخرجه ابن ماجه والطبراني وابن عدي من حديث تميم الداري وإسناده ضعيف وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد قال في البدر المنير هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام وهو مروي من طرق أربع انتهى. أقول: وبمجموعها ينتهض الحديث للاحتجاج ولكن غاية ما فيه أن ذلك البائن من الحي هو ميتة أي محرم أكله وأما أنه نجس فليس في الحديث ما يدل على ذلك وسيأتي الحديث على نجاسة الميتة. واحترز بقوله: "غالبا" عما أبين من السمك والجراد لحديث "أحل لكم ميتتان السمك والجراد" [أحمد "2/97"، ابن ماجة "3314"] ، وإذا حلت ميتتهما بجميع أجزائها حل ميتة بعضهما.

قوله: "والميتة" أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ويجاب عنه بأن التحريم لا يستلزم النجاسة كما تقدم واستدلوا أيضا بقوله: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 45] وقد قدمنا أن سياق الآية والمقصود منها هو تحريم الأكل وأن الرجس هنا ليس المراد به النجس بل الخبيث الذي لا يحل أكله واستدلوا أيضا بحديث عبد الله بن عكيم عند أحمد وأهل السنن والبخاري في التاريخ والدارقطني والبيهقي وابن حبان مرفوعا: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [أحمد "4/310، 311"، أبو دأود "4127‘ 4128"، الترمذي "1729"، النسائي "7/174"، ابن ماجة "3623"] ، وهو حديث حسن ولم يعل بما يوجب سقوط الاحتجاج به وله شاهد من حديث جابر قال الشيخ الموفق إسناده حسن وشاهد آخر من حديث ابن عمر وفي إسناده عدي بن الفضل وهو ضعيف. والمنع من الانتفاع بشيء من إهاب الميتة وعصبها يدل على نجاستها ولا ينافي ذلك تخصيص أحاديث طهارة الإهاب بالدبغ فإنه يبني العام على الخاص وهي أحاديث صحيحة وهي تقوي نجاسة مطلق الميتة لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" أبو دأود "2143"، الترمذي "1728"، النسائي "7/173"، ابن ماجة "3609"] ، يفيد أنه كان نجسا. وأما المناقشة من الجلال وغيره بأن نجس العين لا يطهر بالغسل ولا بالدباغ وإنما يطهر بذلك المتنجس والمدعي أن الميتة نجس عين لا متنجسة فهي مناقشة فروعية لم تستند إلا إلي ما قد تقرر في أذهاب بعض المتفقهة من ذلك. وأي مانع من ذهاب النجاسة العينية بالغسل والدبغ وقد قال صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة: "هلا انتفعتم بإهابها" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة فقال: "أليس في القرظ ما يطهرها" أو قال: "يطهرها الماء والقرظ" [أبو دأود "4126"، النسائي "7/174 – 175"، أحمد "6/334"] ، الحديث. ومما يؤيد نجاسة الميتة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا" [البخاري "3/125"] ، هو حديث صحيح فإنه يفيد أن ميتة غير المسلم تنجس. قوله: "إلا السمك وما لا دم له". أقول: أما السمك فلحديث "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" [أبو دأود "83"، أحمد "2/237، 361"، الترمذي "69"، النسائي "1/50"، ابن ماجة 386، 3246"] ، وهو حديث صالح للاحتجاج به وله طرق كثيرة قد صحح الحفاظ بعضها وقد استوفينا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي. ولو كانت ميتة السمك نجسة لكانت حرأما لا حلالا. ومثل هذا الحديث حديث: "أحل لكم ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وله طرق في أسانيدها مقال وقد روى موقوفا على ابن عمر بإسناد صحيح. وبالجملة فلا خلاف في أن ميتة السمك حلال طاهرة.

وأما ما لا دم له فقد استدلوا على ذلك بحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" [البخاري "3142، 5335"، أبو دأود "3844"، ابن ماجة "3505"، أحمد "2/229 – 230"] ، وهو في اصحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد وأخرجه الدرامي من حديث أنس وأخرجه أيضا البزاز والطبراني في الأوسط من حديثه. ولكن لا يخفاك أنه لا ملازمة بين جواز شرب ما وقع فيه الذباب وبين طهارته فقد يكون ذلك لعدم الاستقذار وقد يكون لتعذر الاحتراز من وقوعه في الأشربة لكثرة وجوده فالظاهر أن له حكم سائر الحيوانات في ميتته ولا ينافي ذلك تخصيصه بالتخفيف في شرب ما وقع فيه فإن ذلك تخصيص لما ورد في عموم الميتة على تقدير ورود أنه لا يحل شرب ما وقعت فيه الميتة على العموم ولكنه لم يرد ذلك إلا خصوصا لا عموما. قوله: "وما لا تحله الحياة" أقول: إذا تقرر بالدليل نجاسة مجموع الميتة فتخصيص بعض ما هو منها والحكم عليه بالطهارة محتاج إلي دليل ومجرد كونها لا تحله الحياة لا يصلح لذلك لأن الحكم بنجاسة الميتة يشمله وقد استدل في ضوء النهار على طهارته بالاتفاق فإن صح ذلك كان دليلا مخصصا عند من يرى حجية الإجماع ولكن الخلاف في المسألة معروف. وممن قال بنجاسة ما لا تحله الحياة المرتضى وأبو العباس. قوله: "وهذه مغلظة" أقول: الوصف لبعض النجاسات بالتغليظ ولبعضها بالتخفيف هو مجرد اصطلاح لا يرجع إلي دليل والواجب اتباع الدليل في إزالة عين النجاسة فما ورد فيه الغسل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم كان ذلك هو تطهيره وما ورد فيه الصب أو الرش أو الحت أو المسح على الأرض أو مجرد المشي في أرض طاهرة كان ذلك هو تطهيره. وقد ثبت في السنة أن النعل الذي يصيبه القذر يطهر بالمسح وهو من المغلظة اصطلاحا وكذلك ورد في الثوب إذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنه يطهره المرور على أرض طاهرة. والحاصل أن الشارع الذي عرفنا كيفية تطهير النجاسات هو الذي عرفنا كون هذه العين نجسة أو متنجسة والواجب علينا اتباع قوله: وامتثال أمره وطرح الشكوك الشيطانية والتوهمات الفاسدة فإن ذلك مع كونه مخالفة للشريعة السمحة السهلة هو أيضا غلو في الدين وقد ورد النهي عنه وهو أيضا إفراط ودين الله إنما يؤخذ عن الله وعن رسوله. فليكن هذا منك على ذكر فإنه يخلصك من أمور شديدة وقعت في كتب الفروع. قوله: "وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة". أقول: قد عرفناك في أول كتاب الطهارة أن الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة وأنه لا

ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به 1 غير معارض بما يرجح عليه أو يسأويه فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع ونقول لمدعي النجاسة هذه الدعوى تتضمن أن الله سبحانه أوجب على عباده واجبا هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها فهات الدليل على ذلك. فإن قال حديث عمار: "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني". قلنا هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن ولا بلغ إلي أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد؟. فإن قال: قد ورد أنه ينقض الوضوء كما سيأتي. قلنا: فهل ورد أنه لا ينقض الوضوء إلا ما هو نجس؟. فإن قلت: نعم فأنت لا تجد إليه سبيلا وإن قلت قد قال بعض أهل الفروع إن النقض فرع التنجيس. قلنا فهل هذا القول من هذا البعض حجة على أحد من عباد الله؟. فإن قلت نعم فقد جئت بما لم يقل به أحد من أهل الإسلام وإن قلت لا قلنا فما لك والاحتجاج بما لم يحتج به أحد على أحد؟. قوله: "ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية" أقول: الكلام على هذا كالكلام على الذي قبله وليس في الحكم بنجاسة اللبن على العموم ولا على الخصوص أثارة من علم ولا هو مما تستقذره الطباع لا من المأكول ولا من غيره ولا قام إجماع على نجاسته. وبالجملة فالتسرع إلي تشريع الأحكام وإلزام عباد الله بها هو من التقول على الله بما لم يقل وقد ورد أنه من أشد الناس عذابا. وقد قدمنا الكلام على تلك الأشياء التي زعموا أنها نجس ذات فارجع إليه. قوله: "والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح" إلي آخر الفصل: أقول: لم يصح في كون كل الدم نجسا شيء من السنة وأما الاستدلال بما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، فقد قدمنا أن الآية مسوقة للتحريم كما هو مصرح به فيها والحكم بالرجسية هو باعتبار التحريم والحرام رجس ولا يكون بمعنى النجس إلا بدليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" فإن الركس والرجس معناهما واحد. ومن زعم بأن الرجس بمعنى النجس لغة متمسكا بما في الصحاح وغيرها من كتب اللغة

أن الرجس القذر فقد استدل بما هو أعم من المتنازع فيه فإن القذر يشمل كل ما يستقذر والحرام مستقذر شرعا والأعيان الطاهرة إذا كانت منتنة أو متغيرة مستقذرة طبعا. وعلى كل حال فالآية لم تسق لبيان الطهارة والنجاسة بل لبيان ما يحل ويحرم {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] . وإذا تقرر لك هذا وعلمت به أن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله وبقرصه وبحته وبحكه وتشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له اثر فأفاد ذلك أنه نجس فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجسا ولا يصح قياس غيره عليه لأنه من قياس المخفف على المغلظ. وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي الكلام عن استثناء ما استثناه المصنف رحمه الله من تلك الدماء. [فصل: والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس وأما ممكنه فتطهير الخفية بالماء ثلاثا ولو صقيلا والمرئية حتى تزول واثنتين بعدها أو بعد استعمال الحاد المعتاد. وأما شاقة فالبهائم ونحوها والأطفال بالجفاف ما لم تبق عين. والأفواه بالريق ليلة والأجواف بالإستحالة والآبار بالنضوب وبنزح الكثير حتى يزول تغيره إن كان وإلا فطاهر في الأصح والقليل إلي القرار والملتبس إليه أو إلي أن يغلب الماء النازح مع زوال التغير فيهما فتطهر الجوانب المداخلة وما صاده الماء من الأرشية والأرض الرخوة كالبئر] . قوله: "فصل والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس". أقول: كان الأولى أن يقال فنجس لأن الرجس يطلق على معاني الحرام والقذر والعذاب والنجس وليس مقصود المصنف هنا إلا النجس والمراد من الكلام أن ما تعذر تطهيره فحكمه حكم نجس العين في تحريمه وعدم جواز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الفأرة: "وإن كان مائعا فلا تقربوه" [البخاري "5538"، أحمد "6/329"، أبو دأود "3841"، الترمذي 1798"، النسائي "7/178"] ، فإن النهي عن قربانه يدل على عدم جواز الانتفاع به بوجه من وجوه الانتفاع. وغير الفأرة مما هو في حكمها من الحيوانات مثلها وغير السمن من المائعات مما لا

يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به. وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة. قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا". أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"] . فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح. وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما. ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع

يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به. وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة. قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا". أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"] . فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح. وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما. ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع

الصحابة في عصر النبوة وبعده أنهم تعرضوا لتطهير ذلك مما يقع فيه من النجاسة أو تحرزوا من المباشرة لذلك. وقد كان الصبيان يتصلون بهم وهم في صلاتهم كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل الصبية على ظهره وهو يصلي فإذا سجد وضعها وكذلك كان يحمل الحسن والحسين حال الصلاة وهما في سن الصغر. وبالجملة فالشريعة سمحة سهلة وليس لنا أن نفتح على أنفسنا ابوابا قد سكت عنها الشارع فإن ذلك عفو كما ثبت ذلك بالشرع. ومن هذا التعرض لطهارة الأفواه والأجواف فإن ذلك من التنطع والغلو في دين الله والتقول على الشرع بما ليس فيه. نعم إن أراد بطهارة الأجواف طهارة الجلالة فقد ثبت ذلك في الشريعة أخرج أحمد وأهل السنن والحاكم وابن حيان من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس. قوله: "والآبار بالنضوب وبنزع الكثير" الخ. أقول: أرض الابار لها حكم سائر الأرض في طهارتها ونجاستها فلا وجه للتنصيص عليها فمن قال إنها تطهر بالنضوب قال به في أرض البئر ومن قال لا بد من صب الماء عليها قال به في أرض البئر ومن فرق بين الأرض الرخوة والصلبة كما سيأتي قال به في أرض البئر. وإن كان التنصيص على أرض البئر لكونه يتعذر تطهيرها ويشق فإن كان ذلك لأجل ما فيها من الماء فطهارة الماء بكونه مستبحرا أو غير متغير اللون والريح والطعم يوجب طهارة أرض البئر وإن كان التعذر لغير ذلك فقد تقدم حكم متعذر الغسل. وأما قوله: "وبنزح الكثير حتى يزول تغيره" فإن كان كلأما مستأنفا في طهارة ما ينجس من ماء الآبار فكان الأولى أن يأتي بعباة مشعرة بذلك فإنه لا يفهم من عبارته إلا العطف على النضوب. ثم اعلم أنه لا وجه لقوله بنزح الكثير وكان حذف لفظ الكثير أولى لأن الماء لا ينجس إلا إذا وقع فيه ما يغير ريحه أو لونه أو طعمه كما في الحديث الوارد من طرق بلفظ: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء" أخرجه أحمد وأهل السنن وغيرهم من حديث أبي سعيد وأخرجه غيرهم من حديث غيره وقد صححه جماعة من الأئمة ومجموع ما ورد في ذلك صالح للاحتجاج به ولا شك ولا شبهة ولا يقدح في مجموع الطرق ما قيل في بعضها من الكلام الذي لا يوجب سقوط الاحتجاج. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وتكلمنا على كل طريق على انفرادها وذكرنا ما قاله الحفاظ في ذلك.

وقد زيد في بعض الطرق زيادة بلفظ: "إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وهذه الزيادة وإن كان قد ضعفها كثير من الحفاظ لكنه قد وقع الاجماع على العمل بما دلت عليه فصارت من المتلقي بالقبول. وإذا تقرر لك هذا فالماء الذي في البئر ونحوها إن لم يتغير بوقوع النجاسة فيه فهو طاهر لا يحتاج إلي نزح أصلا وإن كان قد تغير لبعض أوصافه أو كلها فالواجب النزح حتى يزول تغيره سواء كان حصول زوال التغير بنزح القليل أو الكثير بل لو زال التغير بغير نزح لكان ذلك موجبا لطهارته لأنه عند ذلك يصير طهورا ويعود عليه الحكم الذي كان له قبل تغيره وسواء كان الماء الذي في البئر قليلا أو كثيرا فإنه إذا زال تغيره صار طاهرا. وأما الحكم بأنه ينزح القليل والملتبس إلي القرار أو إلي أن يغلب الماء النازح فليس ذلك إلا مجرد رأي ليس عليه اثارة من علم. [فصل ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلا ما يحكم بطهارته كالخمر خلا والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها حتى كثرت وزال تغيرها إن كان قبل وبالمكاثرة وهي ورود أربعة أضعافها عليها أو ورودها عليها فيصير مجأورا ثالثا إن زال التغير وإلا فأول وبجريها حال المجأورة وفي الراكد الفائض وجهان] . قوله: فصل "ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلي ما يحكم بطهارته كالخمر خلا". أقول: إذا استحال ما هو محكوم بنجاسته إلي شيء غير الشيء الذي كان محكوما عليه بالنجاسة كالعذرة تستحيل ترابا أو الخمر يستحيل خلا فقد ذهب ما كان محكوما بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكوما عليه بالنجاسة ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر. وبهذا تعرف أن الحق قول من قال بان الاستحالة مطهرة ولا حكم لما وقع من المناقشة في ذلك كما في ضوء النهار وغيره. أما حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها فذلك يقيد التحريم للأكل والشرب ولا يعترض به على كون الاستحالة مطهرة بأن يقال إن النجاسة التي أكلتها الجلالة إذا صارت لبنا فقد استحالت فكيف وقع النهي عن شرب اللبن لأنا نقول هذا حكم وارد في تحريم الشرب للبن الجلالة لا في نجاسة لبنها ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة فليست النجاسة فرع التحريم كما يقوله بعض أهل الفروع. قوله: "والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها" الخ.

أقول: قد قدمنا لك أن الماء طاهر مطهر لا ينجسه إلا ما غير بعض أوصافه من غير فرق بين قليل وكثير. فهذه المياه القليلة لا تنجس بمجرد وقوع النجاسة فيها إلا أن يتغير بعض أوصافها على ما هو المذهب الحق والقول الراجح فإن تغيرت حال قلتها صارت متنجسة فإن زال ذلك التغير عند اجتماعها صارت طاهرة بزوال التغير وسواء كانت حال اجتماعها مستبحرة أم لا فليس المقصود الذي هو مناط الطهارة إلا زوال التغير فاحفظ هذا فإن أردت مزيد التحقيق فارجع إلي ما حررناه في سائر مصنفاتنا فإنك تقف فيها على ما لا تحتاج إلي غيره. وأما تحديد المكاثرة لورود أربعة اضعافها عليها أو ورودها عليها فليس ذلك إلا مجرد رأي بحت ليس عليه إثارة من علم. قوله: "ويجريها حال المجأورة" أقول: لم يثبت ما يدل على أن جري الماء يوجب طهارته بل إن كان مع جريه قد تغير بعض أوصافه فهو متنجس لبقاء ما هو سبب النجاسة كما تقدم. وأما النهي عن البول في الماء الدائم فليس تخصيص الدائم إلا لكون تأثير ما وقع فيه من النجاسات أكثر من تأثيرها فيما ليس بدائم. وهذا الكلام في الراكد أسفله الفائض أعلاه الاعتبار بزوال التغير ولا اعتبار بفيض أعلاه كما أنه لا اعتبار بمجرد الجري مع بقاء التغير.

باب المياه

[باب المياه فصل إنما ينجس منها مجأور النجاسة وما غيرته مطلقا أو وقعت فيه قليلا وهو ما ظن استعمالها باستعماله أو التبس أو متغيرا بطاهر وإن كثر حتى يصلح وما عدا هذه فطاهر] . قوله: باب المياه فصل "إنما ينجس منها مجأور النجاسة" أقول: هذا رأي بحت ليس عليه أثارة من علم وما ورد في حديث الفأرة إذا وقعت في السمن فإنها تلقى وما حولها إذا كان جامدا فليس ذلك لأجل النجاسة بل لأجل الاستخباث وعدم جواز الأكل. ثم هذا الحكم فيما كان جامد إلا فيما كان مائعا وقد عرفناك غير مرة أنه لا ينجس من المياه إلا ما غيرته النجاسة بنص "خلق الماء طهورا إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه".

وهذه الزيادة قد اتفق الحفاظ على ضعفها وإن وردت من طريق ولكنهم اتفقوا على العمل بها كما نقل ذلك غير واحد من الأئمة والفقهاء وكان العمل بها متعينا من الإجماع على العمل بها لأنها تصير بذلك من المتلقى بالقبول وما كان كذلك فهو مما يجب العمل به كما تقرر في الأصول. فالحاصل أنه لا اعتبار بالمجأورة ولا هي مما يوجب الحكم بالنجاسة إلا إذا غيرت فما تغيرت أحد أوصافه كان نجسا سواء كان قريبا من النجاسة أو بعيدا. قوله: "أووقعت فيه قليلا" أقول: ليس مجرد وقوع النجاسة في القليل مقتضيا لصيرورته نجسا ولا ثبت ما يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام بل المعتبر أن تؤثر فيه النجاسة تغيرا فإن حصل ذلك فقد ضعف عن حمل النجاسة وصار متنجسا وإن لم يحصل ذلك فلا تؤثر النجاسة الواقعة فيه شيئا ويكون حكمه الحكم الذي كان له قبل وقوعها فيه وهو الطهارة فاعرف هذا. قوله: "وهو ما ظن استعمالها باستعماله" أقول: إن كان الظن هو ظن العقلاء المتشرعين فهو لا يكون إلا عند تأثير النجاسة في الماء بجرمها أو لونها أو طعمها أو ريحها وهذا لا يخالف ما قررناه بأنه لا ينجس إلا ما غيرته النجاسة. وإن كان هذا الظن هو ظن أهل الشكوك والوسوسة في الطهارة فلم يقل بذلك أحد من المسلمين أجمعين فلا مخالفة بين هذا القول والقول بأنه لا ينجس من الماء إلا ما غيرته النجاسة. وأما حديث القلتين فغاية ما فيه أن ما بلغ مقدار القلتين لا يحمل الخبث فكان هذا المقدار لا يؤثر فيه الخبث في غالب الحالات فإن تغير بعض أوصافه كان نجسا بالإجماع الثابت من طرق متعددة. وبتلك الزيادة التي وقع الإجماع على العمل بها في حديث: "خلق الماء طهورا" فيكون إطلاق حديث القلتين مقيدا بذلك حملا للمطلق على المقيد. وأما ما كان دون القلتين فلم يقل الشارع إنه يحمل الخبث قطعا وبتا بل مفهوم حديث القلتين يدل على أن ما دونهما قد يحمل الخبث وقد لا يحمله فإذا حمله فلا يكون ذلك إلا بتغير بعض أوصافه فيقيد مفهوم حديث القلتين بحديث التغير المجمع على قبوله والعمل به كما قيد منطوقه بذلك: وبهذا تعرف أنه لا مخالفة بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة وأن الجمع بينها بما ذكرناه. وأما الاستدلال بمثل حديث "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" [النسائي "8/327"] ، "واستفت قلبك" [أحمد "4/227 – 228"] ، فليس فيهما إلا الإرشاد إلي الورع والتوقف عند الاشتباه وتوقي

المشتبهات وليس ما نحن بصدده من ذلك القبيل لورود الشريعة الواضحة الطاهرة في شأنه وليس في مخالفتها بمجرد الشكوك والوسوسة إلا الإثم على فاعل ذلك. قوله: "أو متغيرا بطاهر". أقول: تغير الماء بالطاهر لا تأثير له في أن وقوع النجاسة فيه وهو كذلك يصيره متنجسا ولا ورد ما يدل على هذا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فلا يخرج عن كونه طاهرا إلا بتغير بعض أوصافه كما قررنا ذلك في كثير من هذه المسائل المتقدمة نعم إذا تغير بذلك الطاهر حتى خرج عن اسم الماء المطلق بأن يطلق عليه اسم خاص كماء الورد ونحوه فهو طاهر في نفسه غير مطهر كما سيأتي. [فصل وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل لقربة مثله فصاعدا فإن التبس الأغلب غلب الأصل ثم الحظر ولا غير بعض أوصافه مما زج إلا مطهر أو سمك متوالد فيه لا دم له أو أصله أو مقره أو ممره. ويرفع النجس ولو مغصوبا والأصل فيما التبس مغيره الطهارة ويترك ما التبس بغصب أو متنجس إلا أن تزيد آنية الطاهر فيتحرى ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا] . قوله: "فصل: وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل" أقول: أما اشتراط كونه مباحا فلأن ملك الغير الذي لم يأذن الشرع باستعماله يكون مغصوبا وذلك ينافي التقرب به لأن بتلك القربة وهي الوضوء وما يترتب عليه يؤجر عليها الفاعل وغصب مال الغير يعاقب عليه الغاصب له والطاعة والمعصية لا يجتمعان. وقد يقال إنه يؤجر عليه من وجه ويعاقب عليه من وجه آخر. ويجاب عن ذلك بان الوجه الذي استحق به الأجر هو استعمال ذلك الماء وبهذا الاستعمال كان استهلاك ما هو ملك للغير. وعلى كل حال فقد ثبت النهي عن أكل مال الغير واستهلأكله والانتفاع به والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق إذا كان النهي لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا الخارج عنه. وأما المنع من التطهر بالماء الذي شيب بمستعمل فلا وجه له إذا لم يخرج بالاستعمال عن الماء المطلق.

والحاصل أن الماء طاهر مطهر فمن ادعى خروجه عن كونه طاهرا أو مطهرا لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وهذا الأصل هو مجمع عليه فالرجوع إليه متحتم حتى ينقل عنه ناقل صحيح صالح للاحتجاج به ولا يصلح للاحتجاج ما ورد في أمور خاصة لم يصرح فيها بأن السبب هو الاستعمال كحديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم فإنه لم يرد البيان من الشارع بأن سبب النهي أن يصير مستعملا والمستعمل غير مطهر. وغاية ما يمكن أن يستخرج منه أن علة النهي هي أنه يفسد الماء بذلك لكونه دائما غير جار ويؤيد ذلك أنه ورد النهي عن البول في الماء الدائم كما ورد النهي عن الاغتسال فيه بل ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث واحد فلا يصلح ذلك دليلا بمحل النزاع. وهكذا حديث "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده"، فإنه لا دلالة فيه على محل النزاع لأن النهي عن إدخال اليد في الإناء والأمر بغسلها قبل ذلك إنما هو لخشية أن تكون قد تلوثت بنجاسة حال النوم. والكلام هنا إنما هو في المستعمل لقربة لا في تطهير النجاسات. ولو قدرنا ورود دليل فيه رائحة دلالة لكان غاية ما فيه هو تخصيص ذلك الأصل المصحوب بالبراءة فيجب الاقتصار على محل النص ولكنه لم يرد ما هو بهذه المنزلة قط. وأما ما ذكره من قوله: "ولا غير بعض أوصافه مما زج" فالتحقيق أن ذلك الممازج إن خرج به اسم الماء المطلق كما يقال ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء هو الماء الذي خلقه الله طهورا وإن لم يخرج عن اسم الماء المطلق فهو طهور وإن تغير بعض أوصافه فإن ذلك لا يضره ولا يخرجه عن كونه طهورا ولا فرق بين أن يكون ما تغير به مطهرا أو غير مطهر أو بما هو من حيواناته أو بمفرده أو بممره أو بغير ذلك. هذا يغنيك عن هذه المسائل التي ذكرها المصنف يرحمه الله وذكرها غيره من المفرعين فإنها مبنية على غير أساس. قوله: "ويترك ما التبس بغصب أو متنجس". أقول: هذا صواب فإنه بعد أن يعلم أن أحد المائين متنجس ثم يلتبس بالطاهر أو يعلم أن أحدهما مغصوب ثم يلتبس بالمباح لا يجوز له أن يتطهر بأحدهما قبل أن يرتفع اللبس لأنه متعبد برفع حدثه بما هو صالح للرفع مجزىء للرافع ومع اللبس لم يفعل ما هو مأمور به لجواز أن يتطهر بما يجزىء التطهر به والتحري إذا أمكن به أن يتعين ما يجزىء مما لا يجزىء فهو مقدم على الترك وليس من شرطه زيادة آنية الطاهر بل يجب عليه أن يقدم التحري مطلقا وإلا وجب عليه ترك الجميع وعدل إلي التيمم إذا لم يجد ماء آخر محكوما بطهارته غير ملتبس بنجس أو غصب. ووما يرشد إلي ما ذكرناه قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". [البخاري "6858"، مسلم "1337"] .

قوله: "ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا". أقول: لا يسقط ما أوجبه الله على العبد أو جعله شرطا لما أوجبه عليه إلا باليقين فإذا انكشف أنه فعل ما لا يجزىء أو ما لا يصلح لتأدية ما هو شرط فالاعتبار بذلك ولا اعتبار بما ظنه مجزئا في الابتداء فانكشف أنه غير مجزئ. ثم إذا تعمد مثلا الإقدام على ما لا يجزئ فانكشف أنه مجزئ فالاعتبار بذلك الانكشاف ولا ينافي ذلك كونه قد صار عاصيا بالإقدام على ما لا يجزئ فإنه عصى بنفس الاعتقاد وأطاع باستعمال ما هو صالح لتأدية تلك الطاعة. وبهذا يظهر لك أن الحق ما قاله صاحب هذا القيل ولا فرق بين هذه المسألة وبين سائر المسائل الشرعية فالاعتبار فيها جميعا بالانتهاء ولا اعتبار بالابتداء. [فصل ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة بيقين أو خبر عدل أو ظن مقارب. قيل والأحكام ضروب ضرب لا يعمل فيه إلا بالعلم وضرب به أو المقارب له وضرب بأيها أو الغالب وضرب بأيها والمطلق وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه وستأتي [. قوله: فصل: "ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة إلا بيقين". أقول: لا شك أن تيقن طهارة شيء أو نجاسته كان الواجب البقاء على ما قد تيقنه وعدم الانتقال عنه إلا بناقل صحيح واليقين هو أعظم موجبات الانتقال من اليقين الأول لأنه قد ارتفع بمثله ثم إذا ورد في الشرع ما يدل على أنه يجوز الانتقال عن ذلك اليقين بما لا يفيد إلا الظن كخبر العدل والعدلين كان ذلك ناقلا بدليله وإن كان دون اليقين الحاصل لذلك الشخص وقد دلت الأدلة على وجوب قبول خبر العدل فيما هو أعظم من هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين انحرفوا في صلاتهم إلي جهة القبلة لما سمعوا قائلا يقول وهم في صلاتهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى إلي جهة القبلة وترك استقبال بيت المقدس وقد كان استقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس معلوما عندهم بيقين وهذا الحديث صحيح. وينبغي أن يقال هنا ولا يرتفع أصالة الطهارة إلا بناقل شرعي قد دل الدليل على صلاحيته للنقل وكون الأصل الطهارة مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ثم ليس من الورع أن يسأل من عرف أن الأصل الطهارة عن وجود ما ينقل عنها بل يقف على ذلك الأصل حتى يبلغ إليه الناقل. ومما يقوي لك هذا الذي ذكرناه ويؤيده ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

سأل صاحب المقراة قائلا يا صاحب المقراة هل ترد السباع هذه المقراة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره فإنه متكلف". قوله: "قيل والأحكام ضروب" أقول: أراد المصنف رحمه الله أن يتعرض ها هنا لاختلاف الأحكام باعتبار المسوغات للعمل بها وجعلها ضروبا أربعة كما تراه قاصدا لتعريف طالب هذا العلم بهذه الجملة التي ستأتي مفصلة في أبوابها من هذا الكتاب. وسنتكلم إن شاء الله على كل فرد من أفرادها في بابه الخاص فإن الكلام عليها هنا يحتاج إلي بسط طويل يخرجنا عن المقصود ولكنا نعرفك ها هنا بقضية كلية تفيدك في كل باب وهي أن الشيء إذا كان حكمه معلوما بالرجوع إلي ما هو الأصل فيه فلا يجوز الانتقال عن ذلك الأصل إلا بسموغ جعله الشارع صالحا للانتقال فإن اعتبر الشارع في ذلك المسوغ العلم فلا يصلح للنقل إلا العلم وإن اعتبر الظن كان الظن صالحا لذلك والاعتبار بما يصدق عليه مسمى الظن وأما تقسيم الظن إلي هذه الأقسام فهو مما لا يدل عليه دليل ولا ثبت في شأنه ما يصلح للتعويل عليه والرجوع إليه. ولا شك أن الظن في نفسه يكون قويا في بعض الأحوال وضعيفا في بعض آخر بحسب قوة ما أفاده وضعفه ولكن المصير في كونه ظنا أن يكون تجويزا راجحا على مقابله وبذلك يمتاز عن الشك. فما ورد فيه تجويز العمل بالظن أو إيجابه كفى فيه ما يصدق عليه أنه ظن. وأما كونه لا يجوز العمل به في بعض المواضع إلا بشرط أن يكون مقاربا للعلم ويجوز العمل به في بعض آخر وإن لم يكن كذلك فهذا لم يرد ما يدل عليه. ثم وصفه للظن بالغالب إن أراد أنه غالب بما قابله فهو لا يكون ظنا إلا بذلك لأنه إذا سأواه ولم يغلبه فهو الشك وإن أراد بالغالب مرتبة من مراتب الظن فلم يكن ذلك إلا مجرد اصطلاح لم تدل عليه لغة العرب ولا وافق اصطلاح أهل الأصول وإن كان معلوما بالدليل كان الدليل الوارد على خلاف ما دل عليه ذلك الدليل أما ناسخا إن تأخر عنه تاريخا أو مقيدا لاطلاقه أو مخصصا لعمومه إن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيدا أو أحدهما عأما والآخر خاصا ولا يصار إلي التعارض مع إمكان الجمع بوجه مقبول معتبر. فهكذا ينبغي ان يكون الكلام في هذا المقام وأما قوله: "وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه" فاستصحاب الحال متعين عند من قال بدليل الاستصحاب والكلام في ذلك معروف في الأصول. ولا ريب أنا إذا علمنا وجود الشيء مثلا أو وجود صفة من صفاته قائمة به فليس لنا أن ننتقل عن ذلك إلا بما يفيد أنه قد صار ذلك الشيء غير موجود أو صارت تلك الصفة التي كانت قائمة به غير قائمة به. لكنه إذا ورد الدليل الدال على عدم العمل بالاستصحاب كما في حديث: "لا حتى يختلف

الصاعان" [ابن ماجة "2228"، أي صاع البائع وصاع المشتري فإن هذا الحديث قد دل على أنه لا يجوز لنا أن نبيع شيئا علمنا مقدار كيله أو وزنه حتى نعيد كيله أو وزنه ولا يعمل باستصحاب الحال وأنه باق على ذلك الكيل أو الوزن الذي وقع عند أن اشتراه من أراد أن يبيعه الآن.

باب ندب لقاضي الحاجة التواري

[باب ندب لقاضي الحاجة التواري والبعد عن الناس مطلقا وعن المسجد إلا في الملك والمتخذ لذلك والتعوذ وتنحية ما فيه ذكر الله تعالي وتقديم اليسرى دخولا واعتمادها واليمنى خروجا والاستتار حتى يهوي مطلقا واتقاء الملاعن والحجر والصلب والتهوية والكلام ونظر الفرج والأذى وبصقة والأكل والشرب واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما وإطالة القعود. ويجوز في خراب لا مالك له أو عرف ورضاه ويعمل في المجهول بالعري. وبعده الحمد والاستجمار ويلزم التيمم إن لم يستنج ويجزيه جماد طاهر منق لا حرمة له ويحرم ضدها غالبا مباح لا يضر ولا بعد استعماله ويجزي ضدها] . قوله: "باب ندب لقاضي الحاجة التواري". أقول: إطلاق ندبية بعض هذه الأمور مع ورود بعضها بلفظ الأمر بفعله وبعضها بلفظ النهي عن تركه ليس كما ينبغي إلا أن يوجد ما يصرف عن لمعنى الحقيقي للأمر والنهي وهو وجوب الفعل للمأمور به وتحريم الفعل للمنهي عنه. فالتواري عن الناس حال قضاء الحاجة ورد فيه الأمر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى الغائط فليستتر" [أبو دأود "35"، أحمد "2/371"] ، أخرجه أبو دأود وغيره وقال في البدر المنير بعد أن ساق اختلاف الحفاظ فيه والحق أنه حديث صحيح وقد صححه جماعة منهم ابن حبان والحاكم والنووي في شرح مسلم انتهى وحسنه الحافظ في الفتح ولفظه في سنن أبي دأود "من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أكل فما تخلل فليلفظ ومن لاك بلسانه فليبتلع من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم". [أبو دأود "35"] ، انتهى. واقتران الثلاثة الأمور بقوله "من فعل فقد أحسن" إلخ دليل واضح على الندب فقط وعدم اقتران الرابع منها يدل على أن الأمر بذلك فيه على حقيقته وأنه لم يرد ما يصرفه عن الوجوب. قوله: "والبعد عن الناس".

أقول: لم يصح في هذا إلا مجرد الفعل منه صلى الله عليه وسلم فكان للقول بندبيته فقط وجه وأما ما ورد في حديث جابر عن أبي دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. [أبو دأود "2"، ابن ماجة "335"] . وفي لفظ ابن ماجه لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى وهذا ليس إلا حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم وليس فيه ما يفيد أنه من قوله صلى الله عليه وسلم كما وهم صاحب ضوء النهار. وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل مكة وهو صدوق كثير الوهم وقال البخاري يكتب حديثه وقال أبو حاتم ليس بالقوي. قوله: "واعتمادها". أقول: لم يرد في هذا شيء يثبت به حكم الندب وما ورد في ذلك فليس بصحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به الحجة لا يجوز. وأما تقديم اليسرى دخولا واليمنى خروجا فله وجه لكون التيامن فيما هو شريف والتياسر فيما هو غير شريف وقد ورد ما يدل عليه في الجملة. قوله: "والاستتار حتى يهوي مطلقا". أقول: أصل ستر العورة الوجوب فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة كما يكون عند خروج الحاجة فالاستتار قبل حالة الخروج واجب فيكشف عورته حال الانحطاط لخروج الخارج لا حال كونه قائما ولا حال كونه ماشيا إلي قضاء الحاجة. قوله: "واتقاء الملاعن". أقول: الحق أن اتقاء الملاعن واجب وقضاء الحاجة فيها حرام لحديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وغيره بلفظ: "اتقوا اللاعنين" قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طرق الناس أو في ظلهم". [مسلم "269"، أحمد "2/372"، أبو دأود "25"] . ولحديث معاذ مرفوعا عند أبي دأود وابن ماجه "اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل". [أبو دأود "26"، ابن ماجة "328"] . وقد حسن إسناده ابن حجر وزارد ابن حبان في حديث أبي هريرة "وأفنيتهم" وزاد ابن الجارود "ومجالسهم" وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط: "من سل سخيمته على طريق عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وفي إسناده محمد بن عمر الأنصاري ضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد وهو من مشايخ عبد الرحمن بن مهدي. وأخرج ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: "إياكم والتعريس على جواد الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن" [ابن ماجة "329"] ، وإسناده حسن.

وأخرج الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" وإسناده حسن. وهذه الأحاديث تفيد وجوب الترك وتحريم الفعل لا شك في ذلك فلا وجه للقول بأنه متدوب. قوله: "والجحر" أقول: قد ثبت النهي عن البول فيها كما في حديث عبد الله بن سرجس عند أبي دأود والنسائي والحاكم والبيهقي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في جحر" [أبو دأود "29"، النسائي "1/33"] ، وإسناده صحيح وكل رجاله ثقات. وأما قول الصحأبي لما سئل عن سبب ذلك فقال كان يقال إنها مساكن الجن فهذا لم يرفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم ولو قدرنا رفعه لم يصلح ذلك لصرف النهي عن حقيقته لأن كونها مساكن الجن مما يؤكد التحريم. قوله: "والصلب والتهوية به". أقول: إن كان البول في الصلب أو التهوية به مما يتأثر عنه عود شيء منه إلي البائل فتجنب ذلك واجب لأن التلوث به حرام وما يتسبب عنه الحرام حرام. قوله: "وقائما" أقول: المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبول قاعدا كما في حديث عائشة عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول إلا قاعدا" [الترمذي "12"، النسائي "29"] ، وفي رواية عنها عند أبي عوانة في صحيحه والحاكم قالت: "ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن". وأخرج ابن ماجه والحاكم وعبد الرزاق وصححه السيوطي عن عمر قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال: "يا عمر لا تبل قائما" فما بلت قائما بعد. [ابن ماجة "305"] . وأخرج ابن ماجه والبيهقي من حديث جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما. [ابن ماجة 309"] وفي إسناده عدي بن الفضل وفيه ضعف. وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مال إلي سباطة قومه فبال عليها قائما وعلل ذلك أنه كان لجرح مأبضه. ولم يثبت ذلك من وجه يصلح للعمل به وقد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لما نهى عنه نهيا عأما يكون مخصصا له وإن كان النهي خاصا بالأمة فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وسلم بل يكون خاصا به والحاصل أن البول من قيام إذا لم يكن محرما فهو مكروه كراهة شديدة وأما إذا كان يتأثر منه ترشرش البائل بشيء من بوله فهو حرام لأنه يتسبب عنه الحرام كما تقدم. قوله: "والكلام".

أقول: حديث أبي سعيد عند أبي دأود مرفوعا "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان" [أبو دأود "15"، أحمد "3/36"، ابن ماجة "342"] ، فهذا النهي يدل على تحريم كشف العورة والتحدث حال قضاء الحاجة ولا سيما مع زيادة الحديث وهي قوله: "فإن الله يمقت على ذلك". فإن المقت من الله عز وجل من أعظم الأدلة على التحريم وكون في إسناده هلال بن عياض أو عياض بن هلال وقد ضعفه بعضهم لا يقدح في الاستدلال به على التحريم فإنه قد ذكره ابن حبان في الثقات. قوله: "ونظر الفرج والأذى وبصقه". أقول: نظر الفرج داخل تحت الأحاديث المانعة من نظر العورة كحديث عوراتنا يا رسول الله ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: "إن استطعت ألا يراها أحد فافعل" فقال: الرجل يكون خاليا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحيا منه" [البخاري "1/385"، أحمد "3/87"، أبو دأود "4017"، ابن ماجة "1920"، الترمذي "2769"] ، وهو حديث صحيح. وقوله: ألا يراها أحد يشمل نظر الرجل إلي عورة نفسه ولا يخص من ذلك ما دعت إليه الحاجة. وأما كراهة نظر الأذى وبصقه فهذا من أعجب ما يسمعه السامع من تسأهل أهل الفروع في إثبات الأحكام الشرعية بما لا دليل عليه فإن كان سبب ذكر ذلك هنا لكون النفس تستكرهه وتنفر عنه فليس موضوع الكتاب المكروهات النفسية بل المكروهات الشرعية ومثل ذلك الحكم بكراهة الأكل والشرب. قوله: "والانتفاع باليمنى". أقول: الأحاديث مصرحة بالنهي عن ذلك والنهي حقيقة في التحريم كما عرفت ولم يرد ما يقتضي صرف ذلك عن معناه الحقيقي. قوله: "واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما" أقول: أما استقبال القبلة واستدبارها فالنهي عن ذلك ثابت عن جماعة من الصحابة رووا النهي عن استقبالها واستدبارها مرفوعا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هذه الأحاديث في الصحيحين وبعضها في غيرهما. وحقيقة النهي التحريم ولا يصرف ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فقد عرفناك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا أن يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصا به وهذه المسألة مقررة في الأصول محررة أبلغ تحرير وذلك هو الحق كما لا يخفى على منصف ولو قدرنا أن مثل هذا الفعل قد قام ما يدل على التأسي به فيه لكان ذلك خاصا بالعمران فإنه رآه وهو في بيت حفصة كذلك بين لبنتين. وأما بيت المقدس فلم يكن فيه إلا حديث معقل بن أبي معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط أخرجه أبو دأود وفي إسناده أبو زيد الرأوي له عن معقل وهو

مجهول فلا تقوم به حجة ولم يرد في بيت المقدس غيره وقد نقل الخطأبي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس وقيل إنه خاص بأهل المدينة ومن هو على سمتهم لأن استقبال بيت المقدس يستلزم استدبارهم للكعبة. وأما ما قيل من أن بيت المقدس يكون له حكم الكعبة بالقياس فهذا القياس من أبطل الباطلات لأنه إن كان الجامع الشرف لزم ذلك في كل محل شريف وإن تفأوت الشرف ويدخل في ذلك دخولا أوليا مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء ونحوهما وإن كان ذلك بجامع أن بيت المقدس قد كان قبلة قبل استقبال الكعبة فقد نسخ ذلك وإن كان ذلك لكونه تستقبله اليهود فقد تقرر في الشريعة الأمر بمخالفتهم وأن ذلك شريعة ثابتة وسنة قائمة. وأما استقبال القمرين فهذا من غرائب أهل الفروع فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف وما روي في ذلك فهو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رواية الكذأبين وإن كان ذلك بالقياس على القبلة فقد اتسع الخرق على الراقع ويقال لهذا القائس ما هكذا تورد يا سعد الإبل وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين فإن الأصل باطل فكيف بالفرع وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء فإن لها شرفا عظيما لكونها مستقر الملائكة ثم يلحق الأرض لأنها مكان العبادات والطاعات ومستقر عباد الله الصالحين فحينئذ يضيق على قاضي الحاجة الأرض بما رحبت ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة. وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكي لها تارة ويضحك منها أخرى. قوله: "وإطالة القعود". أقول: هذا إن كان مرجعه الشرع كما هو شأن من يتكلم في الأحكام الشرعية فلا شرع وإن كان مرجعه الطب فليس هذا الكتاب مدونا لذلك ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم أنه يورث الباسور. فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية. ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم. قوله: "ويجوز في خراب لا مالك له". أقول: إذا لم يكن له مالك فلا حاجة إلي بيان الجواز فإنه جائز بلا شك ولا شبهة. ولو أردنا أن نعدد الأمكنة التي يجوز قضاء الحاجة فيها لطال ذلك وإنما ينبغي الاقتصار على ذكر ما لا يجوز فيه فيعرف بذلك أنه جائز فيما عداه كما يفعله المصنفون في مثل هذه الفنون. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ومن بعدهم يقضون الحاجة في المواطن المملوكة للغير من غير استئذان إذا كانت خالية ولم يكن وقت سقوط ثمارها وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وقضى حاجته فيه. قوله: "وندب بعده الحمد".

أقول: هذا مندوب كما قال ووجهه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بإسناد صالح قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى" [ابن ماجة "301"، وأخرج نحوه النسائي وابن السني من حديث أبي ذر وإسناده صحيح. وينبغي أن يضم إلي الحمد الاستغفار لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" [أحمد "6/155"، أبو دأود "30"، الترمذي "7"، ابن ماجة "300"] ، وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم. قوله: "والاستجمار". أقول: ظاهر الأحاديث أنه واجب لاجتماع الأمر به والنهي عن تركه وظاهرها أنه يكفي ولا يحتاج بعد ذلك إلي أن يستنجي بالماء بل مجرد فعل الاستجمار بالأحجار مطهر وإن لم يذهب الأثر إذ قد فعل ما أمر به من استعمال ثلاثة أحجار. فإن عدل عن الاستجمار إلي الاستنجاء بالماء فهو أطيب وأطهر وإن جمع بينهما فقد فعل الأتم الأكمل وأما الأيتار بأحجار الاستجمار فليس ذلك إلا سنة لما في حديث "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج". قوله: "ويلزم المتيم إن لم يستنج" أقول: وكذلك يلزم غير المتيم لأن رفع أثر النجاسة واجب وهي نجاسة معلومة بالضرورة الدينية وقد جعل الشارع الاستجمار بالأحجار كافيا في رفعها فإذا لم ترتفع بالأحجار وجب رفعها بالماء وإذا لم ترتفع بالماء وجب رفعها بالأحجار. قوله: "ويجزئه جماد جامد" إلي آخر الباب. أقول: المعنى الذي وقع لأجله الأمر بالاستجمار هو قطع أثر النجاسة ورفع عينها باستعمال ما أمر به الشارع فما نهى الشارع عن الاستجمار به كان غير مجزىء وما لم ينه عنه إن كان لا حرمة له ولا يضر استعماله فهو مجزئ. وأما الحكم على بعض أضداد هذه الأمور بالإجزاء وعلى بعضها بعدمه والحكم علي بعض أضدادها بالتحريم وعلي بعضها بعدمه، فليس كما ينبغي.

باب الوضوء

[باب الوضوء شروطه التكليف والإسلام وطهارة البدن عن موجب الغسل ونجاسة توجبه] قوله: "شروطه التكليف والإسلام".

أقول: الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط كما صرح به أهل أصول الفقه وقد يكون شرطا للطلب وهو المعبر عنه في الفروع شرط الأداء. وقد يكون شرطا للمطلوب وهو المعبر عنه في الفروع بشرط الصحة وشرط الوجوب والشرط الأول هو الذي يقولون فيه تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب والثاني هو الذي يقولون فيه ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهو الذي يعبر عنه أهل الأصول بمقدمة الواجب. إذا عرفت هذا فالتكليف شرط الطلب أي لا يطلب فعل الوضوء إلا من مكلف وتحصيل هذا الشرط لا يجب لأنه ليس في وسع العبد ذلك والإسلام شرط للصحة أي لا يصلح الوضوء إلا من مسلم ويجب على من لم يكن مسلما تحصيل هذا الشرط بالإسلام ولا يصح منه قبل ذلك وإن كان مكلفا به بمعنى انه يعاقب على تركه لتفريطه في تحصيل شرط ما هو واجب عليه فاعرف هذا فهو واضح ظاهر ومجرد التشكيك في مثله على المقصرين والقعقعة عليهم وصوغ عبارات تبعد عن أذهانهم ليس من دأب من قصد نشر العلم ونفع عباد الله بما يؤلفه لهم ويدونه لقصد إرشادهم. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن رفع قلم التكليف عن غيرالمكلفين لا ينافي ثبوت الأجر لهم بما عملوه من خير لأن معنى رفع التكليف أنهم غير مكلفين بالأمور الشرعية وليس معناه أنهم لا يؤجرون في شيء مما يفعلونه من القربات وهكذا لا ينافي أمرهم بالصلاة وضربهم على تركها رفع التكليف عنهم فإن ذلك من باب التأديب لهم والتعويد لطبائعهم والتمرين لما يشق عليهم إذا تركوا فعله قبل وجوبه عليهم. فإن قلت قد زعمت أن الكفار مخاطبون بتحصيل شرط صحة ما شرعه الله لعباده مكلفون بذلك معاقبون على تركه فهل من دليل يدل على ذلك؟. قلت الكثير الطيب من الكتاب والسنة ولو لم يكن من ذلك إلا قوله سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42 – 45] ، وقوله سبحانه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] . وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33، 34] . قوله: "وطهارة البدن عن موجب الغسل". أقول: لم يدل على هذا الاشتراط دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح بل الثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقدم الوضوء حتى لا يبقى منه إلا غسل الرجلين ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه بعد الفراغ من غسل بدنه ثم يصلي ولا يحدث بعد ذلك وضوءا. هذا معلوم من فعله صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ولم يثبت ما روي أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم تقديم الغسل على الوضوء لا من وجه صحيح ولا من وجه حسن. قوله: "ونجاسة توجبه" أقول: لا وجه لهذا الاشتراط لأن خروج النجاسة التي توجب الوضوء لا يلزم منه وجوب

غسلها أو شرطيته قبل الوضوء فإن الناقض للوضوء إنما هو مجرد خروجها وقد خرجت قبل أن يشرع في هذا الوضوء الذي جعل غسلها شرطا لصحته نعم إذا كانت النجاسة في الفرجين أو أحدهما فتقديم غسلها متعين لأن لمس الفرج من نواقض الوضوء إذا كان باليد أما إذا كان غسلها بشيء غير اليد فلا بأس بأن يتوضأ ثم يزيل النجاسة من فرجيه أو أحدهما. ولا شك أن رفع هذه النجاسة واجب ولكن النزاع في وجوب تقديم رفعها على الوضوء في كون رفعها شرطا للوضوء لا يصح إلا به وهذا وإن لم تقبله أذهان أهل التقليد فليس علينا إلا أيضاح الحق وإبطال ما لم يقم عليه دليل. [فصل: "وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير ومقارنة أوله بنيته للصلاة أما عموما فيصلي ما يشاء أو خصوصا فلا يتعداه ولو رفع الحدث إلا النفل فيتبع الفرض والنفل ويدخلها الشرط والتفريق وتشريك النجس أو غيره والصرف لا الرفض والتخيير والمضمضة والاستنشاق بالدلك والمج مع إزالة الخلالة والاستنثار وغسل الوجه مستكملا مع تخليل اصول الشعر ثم غسل اليدين مع المرفقين وما حإذاهما من يد زائدة وما بقي من المقطوع إلي العضد ثم مسح كل الرأس والأذنين فلا يجزىء الغسل ثم غسل القدمين مع الكعبين والترتيب وتخليل الأصابع والأظفار والشجج] ". قوله: "فصل وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة". أقول: جعل الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء لم يثبت عن عالم من علماء الإسلام قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم ولا من أهل المذاهب الأربعة ولا من الأئمة من أهل البيت. وذكر المصنف له في كتابه هذا قد تبع فيه من تقدمه من المصنفين في الفروع من أهل هذه الديار وكلهم يجعل ذلك مذهبا للهادي وهو أجل قدرا من أن يقول به وليس في كتبه حرف من ذلك قط. ولا أظن هذه المقالة إلا صادرة من بعض الموسوسين في الطهارة وأهل العلم بأسرهم بريئون عنها كما أن الشريعة المطهرة بريئة عنها وليس في الكتاب ولا في السنة حرف يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن استدل لهما بما ورد في الاستنجاء بالماء فهو لا يدري كيف الاستدلال فإن النزاع ليس هو في رفع النجاسة من الفرجين بل في غسلهما للوضوء بعد زالة النجاسة كما ذكره المصنف هنا وذكره غيره.

وقد قدمنا لك أن الاستجمار بالأحجار يكفي كما دلت عليه الأدلة ودين الله غير محتاج إلي أن يبلغ شكوك أهل الشكوك في الطهارة إلي إثبات عضو زائد للوضوء الذي شرعه الله. وقد كان شكهم مرتفعا بما جزموا به من إيجاب رفع نجاستيهما بالماء وعدم الاكتفاء بالأحجار فما بالهم لم يقنعوا بذلك بل أوجبوا غسلا آخر بعد رفع النجاسة وجعلوا هذا الغسل فرضا على عباد الله وجزموا بأن الفرجين عضوين من أعضاء الوضوء وأن من ترك غسلهما للوضوء بعد غسل النجاسة فهو كمن ترك غسل أحد أعضاء الوضوء المذكورة في القرآن فيا لله العجب. قوله: "والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير" أقول: حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" [أحمد "2/418"، أبو دأود "101"، ابن ماجة "399"] ، وقد روي من طرق عن جماعة من الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد وسعيد بن زيد وعائشة وسهل بن سعد وأبي عبيدة وأم سبرة وكذلك روي من طريق علي وأنس وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها. قال أبو بكر بن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقال ابن كثير في الأرشاد طرقه يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح. وقال ابن حجر الظاهر أن مجموع الأحاديث تحدث منها قوة فتدل على أن له أصلا وهذه الصيغة أعني قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" - إن كان النفي فيها متوجها إلي الذات كما هو الحقيقة دل ذلك على انتفاء الوضوء بانتفاء التسمية والمراد انتفاء الذات الشرعية. وإن كان متوجها إلي الصحة كما هو المجاز الأقرب إلي الحقيقة لأن نفي الصحة يستلزم نفي الذات دل على عدم صحة وضوء من لم يسم. وإن كان متوجها إلي الكمال الذي هو أبعد المجازين من الحقيقة لأنه لا يدل على نفي الذات ولا على نفي صحتها دل ذلك على صحة الوضوء لكن لا على جهة الكمال. فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي فإن قامت قرينة تصرف عنه وجب الحمل على المجاز القريب من الذات وهو الصحة فإن وجدت قرينة تدل على الصحة كان النفي متوجها إلي الكمال. فاعرف هذا واستعمله فيما يرد عليك تنتفع به. وقد جعل صاحب ضوء النهار هذا النفي متوجها إلي الكمال قال قالوا حديث: "من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله ومن لم يذكره لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء" أخرجه رزين من حديث أبي هريرة انتهى. ولا يخفاك أن هذه النسبة في التخريج إلي رزين ليست كما ينبغي فرزين رجل أراد أن يجمع بين الأمهات الست في مصنف مستقل ثم وجدت في مصنفه أحاديث لم يكن لها في الأمهات أصل ولا وجدت في شيء منها ثم تصدى للجمع بين الأمهات ابن الأثير في كتابه الذي

سماه جامع الأصول وذكر تلك الأحاديث التي زادها رزين معزوة إليه فأجاد وأفاد. فما هو معزو إليه فالمراد أنه ليس في الأمهات التي تعرض رزين للجمع بينها. وقد قدح فيه بعض أهل العلم ولعمري إن ذلك قادح فادح وهو وإن كان من علماء الإسلام ولكنه فعل ما لا يفعله الثقات. إذا عرفت هذا فاعلم أن عزو الجلال للحديث إليه لا طائل تحته فليس رزين ممن يخرج الأحاديث وفي الأحاديث التي زادها تهمة ظاهرة فليس فيما ينقل عنه وينسب إليه حجة أصلا. فإن قلت فهل أخرج هذا الحديث الذي عزاه إلي رزين أحد من المخرجين للأحاديث قلت أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعيفان مرداس بن محمد ومحمد بن ابان وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هاشم السمسار وهو متروك وأخرجاه أيضا من حديث ابن عمر وفيه أبو بكر الداهري وهو متروك. قال البيهقي بعد إخراجه وهذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث ولا يخفاك أن هذه الطرق لا تقوم بها حجة اصلا ولا يصح أن يكون من الحسن لغيره لأنها من طريق المتروكين والضعفاء بمرة فلا يقوى بعضها بعضا. وقد استدل البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه" الحديث. واستدل النسائي في المجتبي وابن خزيمة والبيهقي عن استحباب التسمية بحديث أنس قال طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فلم يجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم ماء؟ " فوضع يده في الإناء وقال: "توضؤوا باسم الله". وأصله في الصحيحين بدون هذه الزيادة وأنت خبير بأنه لا دلالة في هذين الحديثين على ما استدلوا بهما عليه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام. ومما يؤيد دلالة أحاديث التسمية على الوجوب بل على عدم صحة الوضوء بدونها حديث "كل أمر ذي بال لا يذكر على أوله اسم الله فهو أجذم" لا كما زعم بعضهم أن هذا الحديث يدل على عدم وجوب التسمية في الوضوء. قوله: "ومقارنة أوله بنيته للصلاة". أقول: ظاهر حديث "إنما الأعمال بالنيات" [البخاري "6689"، مسلم "155/1907"، أبو دأود "2201"، الترمذي "1647"، النسائي "75" و "3437"] ، وحديث "لا عمل إلا بنية" ونحوهما أن النية إذا عدمت عدم الوضوء وما كان هكذا فهو شرط فقول من قال إن النية شرط هو الظاهر. وأما قولهم: إن الشرط يجب استصحابه في جميع المشروط فالمراد أنه يستمر عليه ولا

يجيء بما يبطله كالوضوء فإنه شرط في الصلاة وليس معنى استصحابه فيها إلا أنه لا يقع منه حدث قبل فراغها فيبطل وضوءه. وهكذا النية في الوضوء والصلاة وغيرهما ليس المراد باستصحابها في المشروط وهو المنوي إلا مجرد البقاء عليها وعدم صرفها إلي غيره. فهذا معنى استصحاب الشرط في جميع المشروط. فإن قلت ما الدليل على أن النية إذا عدمت عدم الوضوء ونحوه من المنويات؟. قلت لأن هذا التركيب هو الذي يسميه أهل الأصول المقتضي وهو ما لا يتم معناه إلا بتقدير محذوف يتم به الكلام والمقدم تقدير المعنى الحقيقي أي إنما وجود الأعمال أو ثبوتها بالنية أو لا صلاة موجودة أو ثابتة إلا بالنية. وهذا التقدير يدل على انتفاء ذات الصلاة بانتفاء النية. لا يقال إن الذات قد وجدت فلا يصح توجه النفي إليها لأنا نقول إن المراد الذات الشرعية وتلك الذات التي وجدت غير شرعية. وعلى تقدير أن ثم مانعا يمنع من تقدير ما يدل على انتفاء الذات فالواجب تقدير أقرب المجازين إلي الذات كما قدمنا في البحث الذي قبل هذا. فيقال إنما صحة الأعمال بالنيات أو لا صحة لعمل إلا بنية. هذا يدل على أن العمل لا يصح بدون نية فقد أثر عدمها في عدم المنوي وذلك هو معنى الشرط ولا يصح ها هنا تقدير الكمال لعدم وجود دليل يدل عليه لكونه مجازا بعيدا. وأما قوله: "بنيته للصلاة" فاعلم أن الحدث مانع من فعل الصلاة فإذا نوى رفعه فقد ارتفع المانع فيصلي ما شاء من فرض ونفل فلا وجه لقوله بنيته للصلاة ولا لما بعده فإنه إذا قد ارتفع المانع لم يزل المتوضىء متوضئا حتى يعود عليه حكم الحدث فيعود المانع. وقبل عوده يصلي ما شاء عموما وخصوصا فرضا ونفلا. ولا وجه أيضا لما ذكره من قوله يدخلها الشرط فإنه إذا ارتفع المانع لم يزل مرتفعا حتى يعود ولا يصح أن يقيده بشرط لأن الوضوء إذا وقع على الصفة المشروعة مع أرادة ذلك الفعل وقصده فقد وقع مطابقا لما وقع به الأمر وذلك هو الوضوء الشرعي الرافع للحدث المانع من الصلاة. وأما ما ذكره من أنه يدخل النية التفريق أي إيقاعها عند كل عضو فإن كل ذلك بمعنى استحضار العزم الذي وقع منه عند الشروع وهو رفع المانع من الصلاة فلا بأس بذلك وإن كان المراد تكرير العزم عند كل عضو فلا يبعد أن ذلك بدعة. وأما تشريك النجس فالنجاسة إذا كانت في أعضاء الوضوء وجب تقديم غسلها حتى تزول عينها ولونها وطعمها وعرفها فإذا فرغ من ذلك غسل العضو غسل الوضوء ولا يصح أن يكون الغسل لرفع الحدث والنجس جميعا وبعد زوال النجاسة لا معنى لتشريكها. وما ذكره من الصرف والرفض والتخيير فهو مبني على ما ذكره من أنه لا بد أن ينوي

الوضوء للصلاة وقد عرفت أنه يكفي مجرد رفع المانع وهو الحدث ولا يصح صرف نفس رفع المانع ولا رفضه ولا التخيير بينه وبين شيء آخر. قوله: "والمضمضة والاستنشاق" أقول: القول بالوجوب هو الحق لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه. وقد ثبت مدأومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ورواه جميع من روى وضوءه صلى الله عليه وسلم وبين صفته فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق. وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث لقيط بن صبرة بلفظ "إذا توضأت فمضمض" [أبو دأود "2366"، النسائي "87"، ابن ماجة "407"، الترمذي "788"] ، وإسناده صحيح وقد صححه الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه. قوله: "مع تخليل أصول الشعر". أقول: الأحاديث في تخليل اللحية وقد وردت من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيها الصحيح والحسن والضعيف وقد صحح بعضها الترمذي في جامعه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والدارقطني والحاكم وابن دقيق العبد وابن الصلاح وحسن بعضها البخاري وما دون ذلك ينتهض للاحتجاج به وفي بعضها الحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادة وهي قوله: "بهذا أمرني ربي" ومجرد الفعل المستمر يدل على أنه بيان لما في القرآن من قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية لأن اللحية والحاجبين والشارب كلها نابتة في الوجه ولم يأت من ضعف أحاديث تخليل اللحية بما يقدح في الاحتجاج وليس ذلك إلا باعتبار بعض الطرق وأما باعتبار الكل فلا وقد قامت الحجة بتصحيح من صححها وتحسين من حسنها كما ذكرنا ومن علم حجة على من لا يعلم وبهذا تعرف أن ما روي عن أحمد بن حنبل من أنه لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح وأن أحسن شيء فيه حديث شقيق عن عثمان وروي مثله عن ابن أبي حاتم عن أبيه لا يعارض ما ذكرنا عن أولئك الأئمة. قوله: "ثم غسل اليدين مع المرفقين". أقول: كلام أهل اللغة والنحو في كون إلي للغاية أو بمعنى مع معروف وقد ذهب إلي كل قول طائفة وذهب قوم إلي التفصيل فقالوا إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها كما في هذه المسألة كانت بمعنى مع وإن لم يكن من جنسه كما في قوله تعالي: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلي اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، كانت للغاية فلا يدخل ما بعدها فيما هو قبلها. والحق احتمالها للأمرين فإذا ورد ما يدل على أحدهما تعين وإن لم يرد ما يدل على أحدهما كان الكلام في ذلك كالكلام في اللفظ المشترك بين معنيين وقد ورد ها هنا ما يدل على أحد المعنيين وهو أنها بمعنى "مع".

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل وفيه كلام معروف. وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضوين وأخرج البزار من حديث وائل بن حجر قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم يديه فغسل حتى جأوز المرفق. قوله: "وما حإذاهما من يد زائدة" أقول: لا وجه لاعتبار المحإذاة وليس مجرد المحإذاة للمرفقين مما يوجب أن يكون للمحإذاة من ذلك العضو الزائد حكم الأصل ولا يجب غير غسل اليد الأصلية إلا إذا كان العضو الزائد نابتا في المحل الذي يجب غسله فإنه داخل في مسمى اليد وأما النابت في غير ذلك المحل فليس بداخل في مسمى اليد التي ورد الشرع بغسلها. وأما ما ذكره من وجوب غسل ما بقي من العضو الذي يجب غسله بعد قطع بعضه فلا شك في ذلك لأن الوجوب الذي كان قبل القطع لا يرتفع بالقطع وإن كان الباقي يسيرا مهما كان مما يجب غسله. قوله: "ثم مسح كل الرأس" أقول: وجه إيجاب مسح الكل أن مسمى الرأس حقيقة هو جميعه ولكن محل الحجة ها هنا هو ما يفيده إيقاع المسح على الرأس وهو يوجب المعنى الحقيقي جزءا من أجزائه كما تقول ضربت رأسه وضربت برأسه فإنه يوجد المعنى بهذا التركيب بلإيقاع الضرب على جزء من أجزاء الرأس. ومن قال إنه لا يكون ضاربا لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على كل جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه ومثل هذا إذا قال القائل مسحت الحائط ومسحت بالحائط فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط ولا ينكر هذا إلا مكابر وبهذا تعرف معنى قوله تعالي: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، ودع عنك ما أطال الناس القول فيه من الكلام في معاني الباء وفي معنى الرأس حقيقة ومجازا فإن ذلك تطويل بلا طائل. وإذا عرفت الآية الكريمة فاعلم أن السنة المطهرة تعضد ذلك وتقويه فإنه صلى الله عليه وسلم مسح جميع رأسه واقتصر في بعض الأحوال على مسح بعضه مكملا على العمامة تارة وغير مكمل عليها أخرى فكان ذلك مطابقا لما افاده القرآن ولا شك أن الأحسن والأحوط مسح كل الرأس على الهيئة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكر ذلك أئمة الحديث في كتبهم التي هي دوأوين الإسلام ولكن لم يقم دليل على أن ذلك واجب متعين. وكيف يقال ذلك وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ودلت الآية على ما هو أوسع منه.

قوله: "والأذنين". أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسحهما مع مسح رأسه وثبت أنه مسح ظاهرهما وباطنهما كما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن منده. وأخرج أبو دأود والبزار من حديث تعليم علي بن أبي طالب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح ظهور أذنيه وإسناده حسن. ومن ذلك حديث: "الأذنان من الرأس" [أبو دأود "134"، الترمذي "37"، ابن ماجة "444"، أحمد "5/268"] ، وهو مروي من طريق ثمانية من الصحابة وفي بعض أسانيدها مقال وهي يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها. والحاصل أن مسح ظاهرهما وباطنهما هو الهيئة الكاملة كما ذكرنا في مسح كل الرأس. وأما أن ذلك واجب متعين فلا بل يجزىء ما يصدق عليه مسمى المسح كما قلنا في الرأس. قوله: "ثم غسل القدمين مع الكعبين" أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على القراءتين في قوله سبحانه: {وَأَرْجُلَكُمْ} ولا شك أن ظاهرهما أنه يجزئ الغسل وحده والمسح وحده وهما قراءتان صحيحتان لكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح للرجلين قط بل الثابت عنه في جميع الروايات أنه كان يغسل رجليه وثبت عنه ما يدل على أن الغسل لهما متعين كما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال بعد فراغه من الوضوء: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" [ابن ماجة "419"، وكان ذلك الوضوء مع غسل الرجلين وقال للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" [ابن ماجة 665] ، ثم ذكر له صفة الوضوء وفيه غسل الرجلين وثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" [أحمد "6/81 و 84"، ابن ماجة "451"، مسلم "240] ، قال ذلك لما رأى جماعة وأعقابهم تلوح. ولهذا وقع الإجماع على الغسل قال النووي ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به. وقال ابن حجر في الفتح إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك. وبالجملة فاستمراره صلى الله عليه وسلم على الغسل وعدم فعله للمسح أصلا إلا في المسح على الخفين وصدور الوعيد منه على من لم يغسل وتعليمه لمن علمه أنه يغسل رجليه وقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" يدل على أن قراءة الجر منسوخة أو محمولة على وجه من وجوه الإعراب كالجر على الجواز أو محمولة على المسح على الخفين الثابت ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى قيل إنه روي من طريق أربعين من الصحابة وقيل من طريق سبعين منهم وقيل من طريق ثمانين منهم. والكلام في غسل الكعبين هنا كالكلام في غسل المرفقين وقد تقدم فلا نعيده.

قوله: "والترتيب" أقول: هذه هيئة واجبة ولا يحسن جعلها من جملة فرائض الوضوء وكذلك قوله فيما بعد "وتخليل الأصابع والأظفار والشجج"، فإن جعل ذلك من جملة الفرائض فيه نوع تسأهل وقد ثبت عن الشارع فعلا وتعليما أنه غسل أعضاء الوضوء مقدما لما قدمه القرآن ومؤخرا لما أخره كذلك ثبت عن الحاكين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم والمعلمين لهم فهذا هو الوضوء الذي شرعه الله لعباده في كتاب. ومن زعم أنه يجزئ وضوء غير مرتب على ذلك الترتيب فقد خالف الجادة البيضاء والطريقة الواضحة التي لا يزيغ عنها إلا زائغ. وأما كون الوأو لا تفيد الترتيب فهذا لو لم يرد البيان النبوي وأما بعد وروده دائما مستمرا فلا. ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءا مرتبا: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وقوله للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" ثم علمه الوضوء مرتبا على ما في القرآن يدلان دلالة بينة واضحة أن ذلك واجب متعين لا يجوز المخالفة له بحال ولم يصب من قال إن الإشارة بقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" إلي نفس الفعل لا إلى هيئته فإن ذلك دعوى بلا دليل بل الإشارة أي إشارة كانت إلي فعل أي فعل كان إلي الفعل الذي له تلك الهيئة لا إلي الفعل مجردا عنها فإن ذلك مما لا يدل عليه عقل ولا نقل. [فصل "وسننه غسل اليدين أولا والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة وتقديمهما على الوجه والتثليث ومسح الرقبة وندب السواك قبله عرضا والترتيب بين الفرجين والولاء والدعاء وتوليه بنفسه وتجديده بعد كل مباح وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضاء] ". قوله: فصل: "وسننه غسل اليدين أولا". أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وحكاه من حكاه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمهم لوضوئه ومن ذلك ما هو في الصحيحين ومنه ما هو في غيرهما ولا شك في مشروعيته وأما قول من قال بالوجوب فلا وجه له لأن غسل اليدين قبل الوضوء لم يكن مما في القرآن الكريم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرأبي "توضأ كما أمرك الله" يعني في القرآن. أما حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" فهو خاص بمن قام من النوم فعلى تقدير دلالته على الوجوب لا يدل

على وجوب غسلها عند كل وضوء بل في هذه الحالة الخاصة بمن قام من النوم. واعلم أن المشروع غسلهما ثلاثا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان في حكايته لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرغ الماء على كفيه ثلاث مرات يغسلها وأخرج أحمد والنسائي من حديث أوس بن أوس الثقفي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه ثلاثا. قوله: "والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة". أقول: كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يزيد لفظ ثلاثا فيقول والجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما كان ينبغي له أن يقول وسننه غسل اليدين ثلاثا أولا لما تقدم في غسل اليدين وكذلك هنا لأن الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم هو الجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما في اصحيح البخاري من حديث عبد الله بن زيد في تعليمه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة. والروايات المطلقة عن لفظ ثلاثا ينبغي أن تحمل على هذه الرواية المقيدة بالثلاث فإن قلت قد لا يتسع الكف للجميع بين المضمضة والاستنشاق منه ثلاث مرات. قلت إذا لم يتمكن المتوضىء من ذلك أما لضيق كفه أو لعدم حفظها لما فيها فذلك مما يسوغ له أن يكرر الغرفات جامعا بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة. وقد ورد الفصل بين المضمضة والاستنشاق كما في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق وقد أعلوا هذا الحديث بجهالة مصرف والد طلحة ولكنه قد حسن إسناده ابن الصلاح في كلامه على المهذب وقد وثق ابنه طلحة ابن معين وأبو حاتم وكانوا يسمونه سيد القراء. قوله: "وتقديمها على الوجه". أقول: هذا هو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم ومن حكاية الحاكين لوضوئه في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد أخرج أحمد وأبو دأود والضياء في المختارة عن المقدام بن معد يكرب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا ثم مسح برأسه وأذنيه. [أحمد "4/132"، أبو دأود "121"] ، الحديث. وأخرج الدارقطني عن الربيع وفيه: "ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا" الخ الحديث وهو من طريق شيخ الدارقطني إبراهيم بن حمادة عن العباس ابن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ والكلام في عبد الله بن محمد بن عقيل معروف وللحديث طرق وألفاظ مدارها عليه وقد أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة. وطريقة الجمع بين هذه الأحاديث أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم أخر المضمضة في هذين الحديثين لبيان الجواز فيكون هذا في حكم المخصص لما تقدم في الترتيب بين أعضاء الوضوء.

قوله: "والتثليث". أقول: قد ورد في مشروعية التثليث أحاديث كثيرة وورد في إجزاء الوضوء مرة مرة ما أفاد أن الزيادة على المرة مسنونة غير واجبة ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن المسح بالرأس مرة واحدة ولم يثبت في تثليثه ما يصلح للإحتجاج به فالتثليث سنة إلا في مسح الرأس وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقى وذكرت جميع ما ورد في أفراد مسحه وفي تثليثه وتعقبت كل رواية من روايات التثليث فمن أراد الاستيفاء فليرجع إليه. قوله: "ومسح الرقبة". أقول: لم يثبت في ذلك شيء يوصف بالصحة أو الحسن وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أحاديث وهي وإن لم تبلغ درجة الاحتجاج بها فقد أفادت أن لذلك أصلا لا كما قال النووي إن مسح الرقبة بدعة وإن حديثه موضوع وقال ابن القيم في الهدى لم يصح عنه في مسح العنق حديث ألبتة انتهى. وهذا مسلم ولكن لا تشترط الصحة في كل ما يصلح للحجية فإن الحسن مما يصلح للحجية وكذلك الأحاديث التي كل حديث فيها ضعيف وكثرة طرقها يوجب لها القوة فتكون من قسم الحسن لغيره. قوله: "وندب السواك". أقول: جعل السواك مندوبا مع جعل ما قبله سننا من غرائب التصنيف وعجائب التأليف فإن الأحاديث الثابتة في السواك قولا وفعلا أوضح من شمس النهار مع كونها في غاية الكثرة والصحة فكيف كان السواك مندوبا وتلك الأمور المتقدمة من أول الفصل إلي هنا مسنونة وما المقتضى لحط رتبة السواك عن رتبتها وهي دونه بمراحل وأكثرها لم يرد فيه إلا مجرد الفعل فقط وسيأتي للمصنف في كتاب الصلاة أن المسنون ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب والمستحب في اصطلاحه يرادف المندوب فكان عليه أن يحكم للسواك بأنه مسنون فقد لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به ولولا قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" [البخاري "2/887"، مسلم "252"، أبو دأود "46"، الترمذي "22"، النسائي "7"، ابن ماجة "287"] لكانت الأوامر الواردة فيه باقية على حقيقتها وأن يحكم لمثل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة بأنه مندوب فقط. قوله: "والترتيب بين الفرجين". أقول: قد قدمنا أن عد الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء من غرائب هذه الديار وأهلها ولم يكتف المصنف رحمه الله بذلك حتى أبان لهما هذه الهيئة الترتيبية وحكم لها بالندب. ويالله العجب من هذه الأباطيل الموضوعة من المصنفات التي يقصد بها مصنوفها إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم وتسهيل حفظها عليهم فإن هذا من التقول على هذه الشريعة المطهرة بما لم يكن فيها ومن تكليف الأمة المرحومة بما لم يكلفها الله به ولا يحمل القائل بذلك

على تعمد الإتيان بالباطل بل أحسن المحامل له ولأمثاله من المشتغلين بالفروع المصنفين فيها أن يقال إنه لا إلمام لهم بالأدلة الشرعية ولا شغلوا أنفسهم بشيء منها ولهذا نفقت عندهم هذه الأباطيل وراجت على عقولهم هذه الأضاليل ولكن ما لمن كان بهذه المنزلة والتعرض للتصنيف في الأمور الدينية التي لا تؤخذ إلا عن الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة. قوله: "والولاء". أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في وضوئه ولا عمن حكى وضوءه من الصحابة أنهم فرقوا بين أعضاء الوضوء وترك الموالاة بينها بل كانوا يغسلون الأول فالأول غير مشتغلين بعمل آخر فيما بين أعضاء الوضوء ولا واقفين بين غسل الأعضاء فالتفريق بدعة مخالفة لما كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهي رد على فاعليها ولا يخلص فاعلها عن كونه مبتدعا ما يتمسك به من فعل صحأبي قد روي عنه ذلك كما أخرجه البيهقي عن ابن عمر أنه توضأ في السوق فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم دخل المسجد فمسح خفيه بعد أن جف وضوؤه وصلى. قال البيهقي وهذا صحيح عن ابن عمر وقد علقه البخاري في الغسل ولا يخفاك أن فعل الصحأبي لا يقوم به الحجة في أقل حكم من أحكام الشرع فكيف بمثل هذا؟. وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك" قال البيهقي رواه مسلم [مسلم "31/243"] . وهذا ليس فيه ما يدل على جواز التفريق بل ظاهر قوله ارجع فأحسن وضوءك أنه يعيد الوضوء من أوله. وعلى تسليم أنه أراد بقوله فأحسن وضوءك غسل موضع ذلك المتروك من ظهر القدم فليس تكميل غسل العضو كترك غسله كله بعد غسل ما قبله حتى يمضي وقت فإن التفريق إنما يكون هكذا. ومثل هذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن مسعود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يغتسل من الجنابة فيخطيء بعض جسده الماء قال: "ليغسل ذلك المكان ثم ليصل" وفي اسناده عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي كما قال النسائي والدارقطني وقال البخاري فيه نظر. وقد استدل صاحب فتح الباري على جواز التفريق بأن الله أوجب غسل أعضاء الوضوء فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه ويجاب عنه بأن هذا الغسل الذي أوجبه الله قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ولم يثبت عنه التفريق من فعله الدائم المستمر طول عمره ولا جاء في قوله ما يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة. قوله: "والدعاء" أقول: لم يثبت في ذلك شيء وما روى فهو أما موضوع أو في إسناده كذاب أو متروك

والذي ثبت في الوضوء من الأذكار هو التسمية في أوله وفي آخره "أشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" [مسلم "17/234"، الترمذي 55"، أحمد "4/145" – 146 – 153"، أبو دأود "169"، النسائي "148"، ابن ماجة "470"] ، ولم يثبت غير هذا لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف. قوله: "وتوليه بنفسه" أقول: الأمر القرآني لكل قائم إلي الصلاة أن يغسل أعضاء وضوئه يدل على أنه يجب على المتوضىء أن يغسل أعضاء وضوئه بنفسه والبيان الواقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وضوئه وفي تعليمه لغيره يؤيد ذلك ويقويه فمن زعم أنه يجزىء العبد وضوء وضاه غيره فعليه الدليل ولا دليل يدل على ذلك أصلا. وإذا ألجأت الضرورة فلها حكمها وذلك كالمريض الذي يعجز عن غسل أعضائه أو بعضها والأشل والأقطع ونحو ذلك. وأما الصب من الغير على يد المتوضىء فذلك ثابت في السنة في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة. قوله: "وتجديده بعد كل مباح" أقول: الأولى مشروعية فعله لكل صلاة من غير نظر إلي فعل المباح أو عدمه فإنه لم يدل دليل على ربط المشروعيه بأن يفعل بعد وضوئه الأول مباحا وقد كان صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يتوضأ لكل صلاة. ويدل على هذا ما أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال صحيح حسن قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء ومسح على خفيه فقال عمر إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: "عمدا فعلته" وأخرجه أيضا مسلم وأبو دأود والنسائي بنحوه وقال فيه خمس صلوات بوضوء [الترمذي "61"، مسلم "277"، أبو دأود "172"، النسائي "133"] . وأخرج البخاري والترمذي والنسائي من حديث عمر وأنس أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة وأخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر: "من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات" [الترمذي "59"، ابن ماجة "512"] ، وفي إسناده عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف الحفظ عن أبي غطيف وهو مجهول. وتأديته صلى الله عليه وسلم للصلوات بوضوء واحد وترغيبه في الوضوء على طهر يدلان على أن الأمر بالوضوء عند القيام إلي الصلاة محمول على الندب أو هو أمر للمحدثين. وهكذا حديث أبي هريرة عند الدرامي والترمذي وابن ماجة مرفوعا: "لا وضوء إلا من حدث" [الترمذي "74"، ابنماجة 515"] ، وفي بعض ألفاظه "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" قال الترمذي حسن صحيح يحمل على أن معناه لا وضوء واجب جمعا بين الأدلة.

ومثله ما أخرجه أحمد وابن ماجة والطبراني وابن نافع عن السائب بن خباب مرفوعا: "لا وضوء إلا من ريح أو سماع" بأحمد "3/426"، ابن ماجة "56"] . قوله: "وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضائه". أقول: لا مستند لهذا التشريع العجيب إلا مجرد خيالات مختلة وآراء معتلة فالحكم بالندب لا يجوز إلا بدليل وإلا كان من التقول عن الشارع بما لم يقله. [فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين وإن قل أو ندر أو رجع وزوال العقل بأي وجه إلا خفقتى نوم ولو توالتا أو خفقات متفرقات وفيء نجس ودم أو نحوه سال تحقيقا أو تقديرا من موضع واحد في وقت واحد إلي ما يمكن تطهيره ولو مع الريق وقدر بقطرة والتقاء الختانين ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها وكل معصية كبيرة غير الأصرار أو ورد الأثر بنقضها كالكذب والنميمة وغيبة المسلم وإذاه] . قوله: "فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين". أقول: أما انتفاضه بالبول والغائط فبالضرورة الدينية وأما ما عداهما فما وقع النص عليه كما في حديث "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"، النسائي "160"، ابن ماجة "513"] ، وهو في الصحيح من رواية جماعة من الصحابة فهو ناقض بالنص وما لم يقع النص عليه فهو لاحق بالريح أما بفحوى الخطاب أو بلحن الخطاب ولا يحتاج مع هذا إلي الاستدلال على تعميم نقض الخارج بما لم يثبت ففي هذا كفاية وهو يشمل ما قل أو ندر أو رجع. قوله: "وزوال العقل بأي وجه". أقول: وجه النقض أن من زوال عقله بنوم أو جنون أو إغماء لم يكن على يقين من بقاء طهارته التي تعتبر في صحة الصلاة ولا سيما وتلك الحالة مظنة لاسترخاء الأعضاء وعدم القدرة على دفع ما ينتقض به الوضوء وقد ثبت في النوم حديث "العين وكاء السه" [أبو دأود "203"، ابن ماجة "477"، أحمد "1/111"] ، من رواية علي ومعأوية مرفوعا وقد حسنه جماعة من الحفاظ. فجعل النوم مظنة للنقض لأنه إذا نامت العين استطلق الوكاء كما في بعض الروايات ثم رتب صلى الله عليه وسلم على هذه المظنة الجزم على من نام بأن يتوضأ فقال: "فمن نام فليتوضأ" كما في بعض الروايات الخارجة من مخرج معمول به. ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا وهي تقوى

بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي المنتقى فتكون مفيدة لما ورد في نقض مطلق النوم فلا ينقض إلا نوم المضطجع. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجنون والإغماء أولى بوجود هذه المظنة فيهما فأقل أحوالهما أن يكونا مثل النوم فلا يحتاج إلي إيراد دليل عليهما بخصوصهما. ومعلوم أنه إذا استطلق الوكاء بالنوم أستطلق بما هو مثله في زوال العقل وذهاب الإحساس فكيف بما هو فوقه. وبهذا تعرف أنه لا ينقض نوم القاعدة ونحوه ممن لم يكن مضطجعا لا بخفقتين ولا بخفقات متواليات أو متفرقات. وعلى هذا يحمل ما ورد أن جماعة من الصحابة كانوا ينامون فيوقظون للصلاة فيصلون ولا يتوضئون. وأما ما ورد في بعض الروايات أنهم كانوا يضعون جنوبهم فهو لا يصلح للتمسك به في معارضة إيجاب الوضوء على نوم من نام مضطجعا ثم الاضطجاع لا يستلزم النوم فقد يضطجع منتظرا للصلاة للاستراحة فيظن من رآه كذلك أنه نائم. على ان هذا اللفظ أعنى قوله كانوا يضعون جنوبهم لم يثبت من وجه يصلح للاحتجاج به. قوله: "وقيء نجس" أقول: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم "قاء فتوضأ" [أحمد "6/443"، أبو دأود "2381"، الترمذي "87"] ، كما أخرج ذلك أحمد وأهل السنن وهو حديث حسن ويؤيده حديث: "من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف فليتوضأ" وإعلاله بإسماعيل بن عياش لا يوجب ترك العمل به فإسماعيل إمام قد وثقه جماعة وضعفه آخرون بما لا يوجب سقوط حديثه وترك العمل به ولحديثه هذا شواهد تقوية. قوله: "ودم أو نحوه" الخ. أقول: قد عرفناك فيما سلف أن الأصل في الأشياء الطهارة فمن ادعى نجاسة شيء من الأشياء فعليه الدليل فإن جاء بما يصلح للنقل عن هذا الأصل المصحوب بالبراءة الأصلية فذاك وإلا فلا قبول لقوله. وهكذا من ادعى أنه ينقض الطهارة الصحيحة ناقض فعليه الدليل فإن نهض به فذاك وإلا فقوله رد عليه. وعرفناك أن الحدث مانع من الصلاة فإذا ارتفع بالوضوء كان مرتفعا حتى يعود ذلك المانع بما يوجب بطلان تلك الطهارة التي ارتفع بها ذلك المانع ولم يأت من قال بأن خروج الدم ناقض بشيء يصلح للتمسك به فإن حديث سلمان أنه رعف فقال له صلى الله عليه وسلم: "أحدث لك وضوءا" وإن أخرجه الطبراني في الكبير ففي إسناده كذاب وضاع وحديث تميم الداري بلفظ:

"الوضوء من كل دم سائل" وإن عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلي الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وحديث أبي هريرة: "ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا" وإن أخرجه الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وأما حديث إسماعيل بن عياش فقد قدمنا في البحث الذي قيل هذا الكلام فيه وذكرنا أنه يؤيد ما ذكرناه من أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلا يصلح للاحتجاج به منفردا فكيف إذا عورض بمثل أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل محاجمه أخرجه الدارقطني وفي إسناده صالح بن مقاتل ووالده وسليمان بن دأود وصالح ووالده ضعيفان وسليمان بن دأود مجهول ولكنه رواه المنذري في تخريج المهذب من هذه الطريق وقال إسناده حسن وقال ابن العربي في خلافياته إن الدارقطني رواه بإسناد صحيح هكذا حكى ذلك في البدر المنير وبما أخرجه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته وأخرجه أحمد وأبو دأود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وقد ثبت في روايات صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب فقال: "من يحرسنا الليلة؟ " فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليلة للحراسة وقام الأنصاري يصلي فجاء رجل من العدو فرمى الأنصاري بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته ثم رماه بثان فصنع كذلك ثم رماه بثالث فنزعه وركع وسجد وقضى صلاته ثم أيقظ رفيقه فلما رأى ما به من الدماء قال له لم لا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم ولو كان الدم ناقضا لبين له ولمن معه في تلك الغزوة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يخوضون المعارك حتى تتلوث أبدانهم وثيابهم بالدم ولم ينقل أنهم كانوا يتوضئون لذلك ولا سمع عنهم أنه ينقض الوضوء. قوله: "والتقاء الختانين" أقول: قد ثبت أن هذا من موجبات الغسل بالأدلة الصحيحة كما سيأتي ومعلوم أن موجبات الطهارة الكبرى موجبات للطهارة الصغرى فذكر هذا هنا غفلة شديدة. قوله: "ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها". أقول: ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلي التطويل في رده وبيان بطلانه. قوله: "وكل معصية كبيرة غير الإصرار". أقول: لم يتمسك القائلون بهذا سوى حديث أبي هريرة عند أبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مسبلا إزاره في الصلاة فأمره بإعادة الوضوء والصلاة وفي إسناده مجهول قيل هو يحيى بن أبي كثير المدني وقيل هو كثير بن جهمان السلمي وقيل غيرهما فلا تقوم به حجة ولا يصح الاستدلال به على نقض وضوء المسبل إزاره فكيف يستدل به على هذه القضية الكلية التي تعم بها البلوى.

فيالله العجب من التسرع إلي إثبات أحكام الله سبحانه بمجرد الخيالات المختلة والشبه المعتلة. وأما الاستدلال بأن الكبائر محبطة فلا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه ولو سلم لكانت محبطة لكل عمل فعل قبلها من أعمال الخير كائنا ما كان فلا ينعقد لفاعل الكبيرة عمل ولا تثبت له طاعة وهذا باطل بالإجماع وليس مراد القائلين بالإحباط إلا إحباط ثواب الطاعات المترتب على فعلها لا شك في هذا. قوله: "أو ورد الأثر بنقضها كتعمد الكذب والنميمة". أقول: لم يرد شيء قط في ذلك لا من وجه صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف فإثبات مثل هذا الحكم الذي تعم به البلوى بلا شيء من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا وجه من وجوه الاستدلال ليس من دأب المتورعين فضلا عن العلماء العاملين. ومع هذا فإقرار هاتين المعصيتين بالذكر بعد ذكر كل معصية كبيرة ليس على ما ينبغي فإنهما من الكبائر كما دلت على ذلك الأدلة وانطباق حد الكبائر عليهما على اختلاف الاصطلاحات ومثلهما غيبة المسلم. وأما القهقهة في الصلاة فأشف ما استدلوا به قصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذا دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو جعفر الواسطي الدقيقي قد اختلف فيه حتى قال أبو دأود إنه لم يكن بمحكم العقل ورواه البيهقي عن أبي العالية مرسلا وقال أما هذا فحديث مرسل ومراسيل أبي العالية ليست بشيء كان لا يبالي عمن أخذ حديثه ورواه البيهقي أيضا من طرق ثم قال وهذه الروايات كلها راجعة إلي أبي العالية الرياحي قال الشافعي حديث أبي العالية الرياحي رياح وقال ابن عدي وأكثر ما نقم على أبي العالية هذا الحديث وكل ما رواه غيره فإن مدارهم ورجوعهم إلي أبي العالية والحديث له وبه يعرف ومن أجل هذا الحديث تكلموا في أبي العالية وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة انتهى. وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك ينقض الوضوء شيء فليس ها هنا ما يصلح لإثبات أقل حكم من أحكام الشرع. وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق الدارقطني عن أبي موسى أنه كان يصلي بالناس فرأوا شيئا فضحك بعض من كان معه فقال أبو موسى من كان ضحك منكم فليعد الصلاة. قال البيهقي وكذلك رواه أبو نعيم عن سليمان بن المغيرة وليس في شيء منه أنه أمر بالوضوء. ثم أخرج عن أبي الزناد قال كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إليهم منهم

سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون فيمن رعف غسل عنه الدم ولم يتوضأ وفيمن ضحك في الصلاة أعاد صلاته ولم يعد منه وضوءه انتهى. وهؤلاء الذين ذكرهم هم الفقهاء السبعة المشهورون. ثم قال وروينا نحو قولهم في الضحك عن الشعبي وعطاء والزهري. قوله: "قيل ولبس الذكر الحرير". أقول: هذا قول لم يدل عليه دليل ولا مستند له إلا مجرد القال والقيل والعجب من قائله كيف استحل الجزم به وهكذا مطل الغنى والوديع ثم جعل النصاب لذلك أن يكون فيما يفسق غاصبه فإن كان هذا التقدير لأجل يكون فاعله فاعلا لكبيره فلا وجه لذكره مستقلا فإنه قد دخل في قوله: "وكل معصية كبيرة" فإن كان لأجل كون الفسق من نواقض الوضوء فهو لا يكون إلا بسبب التفسيق وهو فعل الكبيرة عند البعض أو المخالفة لما هو معلوم من ضرورة الدين عند آخرين مع أنه قد وقع الإجماع على أن صلاة الفاسق ووضوءه وسائر عباداته ومعاملاته صحيحة والحكم بانتقاض وضوئه بفسقه مخالف للإجماع ومن قواعد المصنف وأمثاله أنه يفسق من خالف الإجماع. وإن كان المراد تكثير المسائل على أي صفة رقع وكيفما اتفق فهذا لا يعجز عنه أحد وليس هذا بعلم بل محض إثم. والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض ومسكين مسكين المقلد مإذا جرى عليه من هذه الآراء التي تشعبت طرائقها وخفيت دقائقها وحقائقها اللهم غفرا. [فصل: "ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين فمن لم يتيقن غسل قطعي أعاد في الوقت مطلقا وبعده إن ظن تركه وكذا إن ظن فعله أو شك إلا للأيام الماضية. فأما الظني ففي الوقت إن ظن تركه ولمستقبله ليس فيها إن شك"] . قوله: "فصل: ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين". أقول: إذا كان أحد الأمرين متيقنا فكونه لا ينتقل عنه إلا بيقين لا يتم على ما هو الحق من التعبد بأخبار الآحاد المفيدة للظن فإذا كان الرجل مثلا متيقنا أنه قد توضأ فاستصحاب هذا اليقين والعمل عليه هو مجرد دليل ظني لا يقيني فإذا أخبره عدل بأنه شاهده يبول بعد ذلك الوقت الذي تيقن إيقاع الوضوء فيه فهذا الخبر من العدل صالح للانتقال عن ذلك الاستصحاب والعمل

به واجب وهو في الحقيقة انتقال من ظني وهو الاستصحاب بما تيقن وقوعه إلي ظني وهو خبر العدل. ولم يقع خبر هذا العدل معارضا لنفس ذلك اليقين لإيقاع الوضوء فإنه لم يقل العدل للمتوضىء المتيقن لإيقاع الوضوء أنت لم تتوضأ بل قال قد فعلت بعد الوضوء الذي تيقنته ما يبطله. وبهذا يظهر لك أن اشتراط اليقين في رفع ما تيقنه أولا ليس على ما ينبغي والاتفاق كائن بالتعبد بالظن في العبادات والمعاملات إلا ما خصه دليل وقد استدلوا على إثبات هذه القاعدة بمثل حديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره فأشكل عليه أحدث أم لم يحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"] ، وليس في هذا ما يدل على هذه الكلية وغايته أن المصلي عند الشك لا يعمل بما لا يفيد ظنا ولا علما كالحركة التي يحسها في دبره. فالحاصل أن من يتقن الحدث وجب عليه استصحاب ذلك حتى يحصل ما يوجب الانتقال عنه وهو العلم بأنه قد رفعه أو الظن بأنه قد رفعه وذلك بخبر من يجب قبول خبره ونحوه ومن حصل له تيقن إيقاع الوضوء وجب عليه استصحاب ذلك حتى يتيقن أنه قد احدث أو يظن ذلك بخبر عدل أو نحوه. وإن شكل عليك هذا الذي قررناه فافرض المسألة في رجل يكثر شكه ويضطرب حاله ويتسارع إليه النسيان فيما يفعله فإنك عند ذلك تستوضح ما استشكلته وتستقرب ما استبعدته. وإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه التفريعات الواقعة في هذا الفصل لم تستند إلا إلي مجرد الرأي المحض الذي لا يحل العمل به في شيء من أمور الدين وإنما رخص فيه للمجتهد عند عدم الدليل من الكتاب والسنة وذلك رخصة خاصة به لا يجوز لغيره أن يعمل بذلك الرأي الذي حصل له فلا نطول برد ما أورده من هذه التفاصيل المبنية على شفا جرف هار.

باب الغسل

[باب الغسل فصل: يوجبه الحيض والنفاس والإمناء لشهوة تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس وتوارى الحشفة في أي فرج] . قوله: "فصل يوجبه الحيض".

أقول: هذا صواب وقد أخطأ من قال يوجبه الطهر فإن السبب الذي لأجله وجب الغسل هو الحيض لا الطهر ومعلوم أن الطهر لا يكون سببا للتطهر ولا يكون للاغتسال من السبب إلا بعد الفراغ منه وكذلك الوضوء سببه الحدث الموجب له ولا يكون إلا بعد وقوعه وهذا ظاهر لا يخفى. فما وقع في ضوء النهار من التصويب والاستدلال له ليس على الصواب وهكذا تقرير الأمير في حاشيته على ضوء النهار للتصويب والجزم بأنه الحق ليس كما ينبغي فالسبب الذي أوجب الغسل هو الحيض ولكنه لا يمكن التطهر منه إلا بعد انقضائه كسائر الأسباب. والحاصل أن الحيض إذا حدث فقد وجد المانع ولا يرتفع إلا بالغسل وهكذا النفاس والوطء فالمانع قد وجد بوجود هذه الاسباب كما أن البول والغائط ونحوهما قد وجد بوجودها المانع من الصلاة ولا يرتفع هذا المانع إلا بالضوء. وسيأتي الكلام على الحيض والنفاس في باب الحيض إن شاء الله تعالي. قوله: "والإمناء لشهوة إن تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس". أقول: لا خلاف في وجوب الغسل بالاحتلام وما يروى عن النخعي من المخالفة في ذلك فما أظنها تصح عنه الرواية ولو صحت لكان قوله مخالفا لإجماع من قبله من المسلمين ومن بعده ولكن الاعتبار هو بوجود الماء أعنى المنى فإذا استيقظ المحتلم ووجد منيا في بدنه أو ثوبه فقد وجب عليه الغسل سواء ذكر أنه حصل ذلك لشهوة أم لا وأما إذا ذكر أنه احتلم لشهوة ولم يجد أثرا للمنى فلا اعتبار بذلك ووجهه ما أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: "يغتسل" وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: "لا غسل عليه" [أحد "6/256"، أبو دأود "236"، الترمذي "113"، ابن ماجة 612] ، وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال خفيف وحديثه يصلح للاحتجاج به. ويؤيده ما أخرج أحمد والنسائي من حديث خولة بنت حكيم بنحوه وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة أن أم سليم قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت قال: "نعم إذا رأت الماء" [البخاري "282"، مسلم "313"] ، فأدار صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل على رؤية الماء. قوله: "وتواري الحسفة في أي فرج". أقول: للحديث الصحيح "إذا قعد بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" [البخاري "291"، النسائي "191"، ابن ماجة "610"] ، وهو ثابت من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغرهما وإليه ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم ولا يعارضه ما ورد من الأحاديث المصرحة بأن "الماء من الماء" [مسلم "81/343"، أبو دأود "217"] ، فإن هذا أعني أنه لا يوجب الغسل إلا الإنزال للماء كان رخصه في أول الإسلام ثم نسخ بما ورد في إيجاب الغسل

بالتقاء الختانين كما صرح بذلك أبي بن كعب أخرجه أبو دأود ورجاله ثقات وكما في صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". [مسلم "88/349"، أحمد "6/47"، الترمذي "108 – 109"] . وأيضا لو قدرنا عدم النسخ لكان الجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن نقال حديث: "الماء من الماء" دل بمفهومه على عدم إيجاب الغسل على من جامع ولم ينزل وحديث التقاء الختانين دل بمنطوقه على وجوبه ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم. [فصل: ويحرم بذلك القراءة باللسان والكتابة ولو بعض آية ولمس ما فيه ذلك غير مستهلك إلا بغير متصل به ودخول المسجد فإن كان فيه فعل الأقل من الخروج أو التيمم ثم يخرج ويمنع الصغيران ذلك حتى يغتسلا ومتى بلغا أعاد ككافر أسلم". قوله: فصل: "ويحرم بذلك القراءة باللسان". أقول: حديث علي عند أحمد وأهل السنن وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم "لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة" [أحمد "1/83، 84، 107، 124، 134"، أبو دأود "229" الترمذي "146"، النسائي "265 – 266"، ابن ماجة "594"] ، قد صححه جماعة من الحفاظ ولم يأت من تكلم عليه بشيء يصلح لأدنى قدح ومن جملة من صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن السكن والبغوي وعبد الحق. وفي لفظ منه للنسائي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه من القرآن شيء ليس الجنابة. [النسائي "265"] . وفي بعض ألفاظ الحديث "كان يقرأ القرآن في كل حال إلا الجنابة". ولهذا الحديث شواهد تقوية وتشد من عضده وإن كان صالحا للاحتجاج به بدونها ولكن غاية ما يفيده الحديث كراهة القراءة للقرآن من الجنب ولا يفيد التحريم. نعم أخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر مرفوعا: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" [الترمذي "131"، ابن ماجة "595"] ، يدل على التحريم وتضعيفه بإسماعيل بن عياش مندفع لو روده من طريق غيره وهو أيضا لم يقدح فيه بما يوجب عدم صلاحية حديثه للاحتجاج به قال المنذري في تخريجه لأحاديث المهذب هذا الحديث حسن وإسماعيل تكلم فيه وأثنى عليه جماعة من الأئمة انتهى. ويؤيده ما أخرجه أبو يعلى من حديث علي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا

من القرآن ثم قال: "هكذا من ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون انتهى. وأما ما روى بلفظ: "لا ولا حرفا" فلم يصح رفع ذلك. إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يرد ما يدل على المنع من الكتابة ولا ما يدل على المنع من مس المصحف إلا ما أخرجه الطبراني في الكبير والصغير من حديث عبد الله بن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون وذكر له شاهدين من حديث حكيم بن حزام وحديث عثمان بن أبي العاص. قلت حديث حكيم بن حزام أخرجه الدارقطني والطبراني والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" وفي إسناده سويد بن إبراهيم العطار وأبو حاتم وهو ضعيف كما قاله بعض الحفاظ وقال ابن معين لا بأس به وقد صحح الحاكم إسناد هذا الحديث وحسنه الحازمي ووثق رواته الدارقطني. وأخرج مالك في الموطأ والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن حزم بلفظ: "لا يمس القرآن إلا طاهر" وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص بلفظ كان فيما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمس المصحف وأنت غير طاهر". قوله: "ودخول المسجد". أقول: حديث عائشة أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه أصحابه وبيوتهم شارعة إلي المسجد: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" [أبو دأود "332"] ، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وهو حديث صحيح ولا وجه لتضعيف ابن حزم له بأفلت بن خليفة الكوفى فهو معروف مشهور صدوق كما صرح بذلك أئمة الحديث وليس بمجهول كما قال وأيضا قد أخرج هذا الحديث من غير طريقه ابن ماجة والطبراني عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض" [ابن ماجة "645"] . وروى هذا الحديث من طرق وله شواهد فالحجة قائمة بذلك وهو يقتضى تحريم المسجد على الجنب والحائض ولا ينافيه جواز المرور فيه لعابر السبيل وهو المجتاز فيه للحاجة كما فسر الآية جماعة من الصحابة منهم أنس وابن مسعود وجابر وابن عباس وقد قيل إنه المسافر. وعلى كل حال فهذه رخصة لا تنافى مطلق التحريم وأما الحكم بمنع الصغار من دخول المسجد فلا وجه له لأن رفع قلم التكليف عنهم يقتضي أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يجب عليهم غسل فدخولهم المسجد لا يتنأوله دليل المنع ولا هو محظور في نفسه حتى يجب على المكلفين أن يمنعوهم منه وهذا ظاهر واضح لا يخفى.

وأما ما قيل من التعويد والتمرين لهم كما في أمرهم بالصلاة قبل بلوغهم فذلك باب آخر ومن غرائب الأقوال إيجاب الغسل عليهم إذا بلغوا فإن هذا الإيجاب لم يكن له سبب يقتضيه لما قدمنا من أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يتصفون بوصف الاجتناب ما داموا قبل البلوغ والاتفاق كائن على انها لا تتنأولهم الخطابات المشتملة على الأحكام التعبدية فكيف يجب عليهم عند التكليف الغسل لغير سبب شرعي وأما إلزامهم بخطابات الوضع كالجنابات ونحوها فليس ذلك من هذا القبيل فإن ما نحن بصدده لا يقول قائل بأنه من أحكام الوضع ثم يقال لهم إن كان الغسل الأول صحيحا فما وجه إيجاب الغسل عند البلوغ وإن كان غير صحيح فكيف يؤمرون بما لا يصح. وبالجملة فالتسأهل في إثبات الأحكام الشرعية يأتي بمثل هذه الخرافات ثم قياسهم على كافر أسلم غفلة عظيمة فإن الكافر مخاطب بالشرعيات فأين خطاب الصغار بها ثم لا وجه لإيجاب الغسل على الكافر لأجل اجتنابه حال الكفر فإن الإسلام يجب ما قبله وقد أوجب الشرع عليه الغسل بمجرد الإسلام وذلك تكليف وجب بالإسلام لا بالاجتناب حال الكفر. [فصل: "وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل فإن تعذر اغتسل آخر الوقت فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة". "وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر أو فعل ما يترتب عليه فإن تعدد موجبه كفت نية واحدة مطلقا عكس النفلين والفرض والنفل وتصح مشروطة والمضمضة والاستنشاق وعم البدن بإجراء الماء والدلك فإن تعذر فالصب ثم المسح وعلى الرجل نقض الشعر وعلى المرأة في الدمين". "وندبت هيئته وفعله للجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي وإلا أعاده قبلها ويوم عرفة وليالي القدر ولدخول الحرم ومكة والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الحجامة والحمام وغسل الميت والإسلام"] . قوله: "وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل". أقول: هذا تشريع بغير شرع وإيجاب لما لم يوجبه الله ولا رسوله ولا دل عليه دليل صحيح ولا حسن ولا ضعيف والذي رواه بلفظ: "إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول" لم يكن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من قول أصحابه بل هو كلام مكذوب وباطل موضوع وقياسهم لهذا على بقاء شيء في الرحم من الحيضة إلحاق باطل بباطل وقياس ما لا أصل له على ما لا أصل له.

مع اختلاف السبب فإن إيجاب الغسل في الحيض سببه نفس الحيض مع انقطاعه وظهور الطهر وسبب الغسل من الجماع إنزال المنى ثم دعوى بقاء شيء في الرحم من الحيض بعد ظهور الطهر دعوى باطلة ثم لو سلمنا ذلك لكان الباقي بعد ظهور الطهر عفوا كما أن الباقي في الذكر من المنى بعد الإنزال والدفق عفو. وبالجملة فما هذه بأول غفلة وقعت من المتمسكين بمحض الرأي التاركين للتمسك بأدلة الشرع بل ما هي بأول جرأة اجترؤوا عليها وكلفوا عباد الله بها والدين يسر والشريعة سمحة سهلة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور في الليلة الواحدة على جميع نسائه وهن تسع ويغتسل بعد إتيانه لكل واحدة منهن كما أخرج ذلك عنه الحفاظ الموثوق بهم وبما يروونه ومعلوم أنه لا يتيسر البول بعد كل غسل حتى يبول تسع مرات في الليلة الواحدة وقد ترتب على هذا التشريع البديع ما هو من غرائب التفريع فقال: "فإن تعذر اغتسل آخر الوقت وصلى فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة" فيا لله العجب من جري قلم التصنيف بمثل هذه الأمور التي يعرف سقوطها وعدم وجود الدليل عليها اصغر الطلبة لعلم الشرع. قوله: "وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر". أقول: أما جعل النية من الفروض فخلاف ما هو الظاهر من دليلها فإنه يدل على أنها شرط كما قدمنا ذلك في نية الوضوء وأما جعل النية لرفع الحدث الأكبر فذلك صواب وقد قدمنا في الوضوء ما يوضح هذا ويقرره. ولا يعتبر غير نية رفع الحدث فإذا ارتفع فعلى ما شاء ومن العبادات التي يكون الحدث مانعا عنها لأنه قد ارتفع المانع ولا فرق بين فريضة ونافلة لكن إذا كان هذا المانع مرتفعا وأراد أن يفعل الغسل لا لرفع المانع بل لقربة من القرب كغسل الجمعة ونحوه فها هنا لا حدث أكبر تتوجه النية إلي رفعه بل ذلك الغسل لمجرد فعل تلك القربة فلا بد أن ينويها بالغسل وإلا لم يكتب له ثوابها لحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى". قوله: "والمضمضة والاستنشاق" أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متفقا عليه وهو بيان لما أجمله الله سبحانه في كتابه وقد ورد الوعيد على ترك شيء من البدن وورد الأمر ببل كل الشعر وإنقاء البشر وهما حديثان حسنان ولهما شواهد قوية ومجموع ذلك ينتهض للوجوب ومحل المضمضة والاستنشاق وإن لم يكن من ظاهر البدن ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما في الوضوء والغسل يدل على أن لهما حكم ظاهر البدن. قوله: "وعم البدن بإجراء الماء والدلك". أقول: أما تعميم البدن فلا يتم مفهوم الغسل إلا به وأما الدلك فإن ثبت لغة أو شرعا انه داخل في مفهوم الغسل بحيث لا يسمى غسلا إلا به كان ذلك واجبا وفاء بما أوجبه الله من الغسل وقد ذكر نشوان في كتابه شمس العلوم ما يفيد ذلك وهو من أئمة اللغة ويؤيده

حديث وأنقوا البشر فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك وأخرج مسلم من حديث عائشة بلفظ أن اسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء" [مسلم "4/16"] ، فهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر بالدلك للرأس وهو جزء من أجزاء البدن وإن كان يستحق مزيد العناية في غسله لما فيه من الشعر. قوله: "وعلى الرجل نقض الشعر". أقول: ليس في هذا دليل صحيح يدل على وجوب ذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا كما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس ورجاله رجال الصحيح. وأخرج أحمد والبزار عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب بيده على رأسه ثلاثا فقال رجل شعري كثير قال كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأطيب. [أحمد "2/251"] ، ورجاله رجال الصحيح. وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه وأخرج البخاري في صحيحه من حديث جبير ابن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا" [أحمد "2/132 – 133"، البخاري "254"، ابن ماجة "276"] ، وأشار بيديه كليتهما. وأخرج البخاري أيضا عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيض على رأسه ثلاثا" [البخاري "255"] ، وقد ورد أنه كان يفيض الماء على رأسه بعد أن يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة والأحاديث بنحو هذا كثيرة ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك على النساء كما في الصحيح من حديث أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني امرأة شديدة عقص الرأس أفأحله إذا اغتسلت؟ قال: "إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات" [مسلم "58/330"، أحمد "6/315"، أبو دأود "251"، الترمذي 105، ابن ماجة "603"، النسائي "1/131"] ، والنساء شقائق الرجال فهذا التعليم لأم سلمة يدل على أن حكم الرجال في ذلك حكم النساء ولم ينتهض دليل صحيح يدل على التفرقة بين الرجال والنساء. وأما ما أخرجه أبو دأود عن ثويان أنه حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله" [أبو دأود "255"] ، ففي إسناده محمد بن إسماعيل بن أبي عياش وفيه مقال وقيل إنه لم يسمع من أبيه وفي أبيه المقال المشهور ومع ذلك فلا يدل النشر على النقض لما كان مضفورا بل غايته نشر الضفائر أو نشر ما لم يكن مضفورا ولا ملبدا وقد كان الضفر والتلبيد قليلين في الصحابة وكما أنه لا دليل صحيح يدل على وجوب نقض شعر الرجل والمرأة في الجنابة لا دليل صحيح أيضا يدل على أنه يجب على المرأة نقضه في غسل الدمين وغاية ما يجب عليها ما تقدم من حديث عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء: "ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء".

وأما ما أخرجه الدارقطني في الأفراد والخطيب في التلخيص والطبراني في الكبير البيهقي من حديث أنس مرفوعا: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها فقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان وإن غسلت من الجنابة صبت الماء على رأسها صبا وعصرته" ففي إسناده مسلم بن صبح اليحمدي وهو مجهول وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبح المعروف فإنه أخرج له الجماعة كلهم وأيضا اقترانه بالغسل بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم يقل أحد بوجوب الخطمي والأشنان. ثم قد وقع في رواية مسلم من حديث أم سلمة أأنقضه للحيض والجنابة؟ فقال: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين". والحاصل أنه لا يجب على الرجل ولا على المرأة نقص الشعر لا في الجنابة ولا في الحيض والنفاس فإيجابه في الجنابة على الرجل دون المرأة ثم إيجابه على المرأة في غسل الحيض والنفاس لم يستند كل ذلك إلي ما يعول عليه كما عرفت. وأشف ما استدلوا به على وجوب نقض المرأة لرأسها في الحيض هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" [وَأَرْجُلَكُمْ بخاري "317"، مسلم "115/1211"، ابن ماجة "614"] ، واختصاص هذا بالحج لا يقتضي بثبوته غيره لا سيما وللحج مدخلية في مزيد التنظيف ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه أحد يدل على عدم وجوبه ثم لا يقوم على معارضة ما تقدم. ومما يدل على اختصاص هذا بالحج ما أخرجه مسلم عن عائشة أنه بلغها أن عبد الله ابن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت يا عجبا لابن عمرو بهذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن أفلا أمرهن أن يحلقن رءوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. وقد جمع بعضهم بين الأحاديث بأن النقض مندوب فقط وجمع بعضهم بأن النقض يتعين إذا لم يصل الماء إلي أصول الشعر إلا بالنقض. قوله: "وندب هيأته". أقول: الواجب غسل البدن من قمة الرأس إلي قرار القدم فإذا قد فعل من وجب عليه الغسل ذلك فقد أتى بما عليه لأن ما فعله يصدق عليه مسمى الغسل لغة وشرعا سواء قدم غسل أسفل البدن على أعلاه أو العكس وسواء قدم الميامن على المياسر أو العكس. ولكنه ينبغي للمغتسل أن يكون اغتساله على الصفة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الهيئة المروية عنه في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما المتضمنة تقديم أعضاء الوضوء ثم إفاضة الماء على الرأس ثم على الميامن ثم على المياسر وذلك سنة ثابتة غير واجبة. قوله: "وللجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم".

أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قاضية بالوجوب كحديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" [البخاري "2/858"، مسلم "5/846"، أبو دأود "341"، النسائي "3/93"، ابن ماجة "1089"] ، وحديث "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" [البخاري "877"، مسلم "844"، الترمذي "492"، النسائي"] ، ونحوهما كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام" [البخاري "898"، مسلم "849"] . ولكنه ورد ما يدل على عدم الوجوب وهو ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجه وابن خزيمة من حديث الحسن البصري عن سمرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" [أحمد "5/8، 11، 16، 22"، أبو دأود "354"، النسائي "1380"، الترمذي "497"] ، فإن دلالة الحديث على عدم الوجوب ظاهرة واضحة وقد أعل بما وقع من الخلاف في سماع الحسن من سمرة ولكنه قد حسنه الترمذي. ويقوي هذا الحديث أنه قد روي من حديث أبي هريرة وأنس وأبي سعيد وابن عباس وجابر كما حكى ذلك الدارقطني قال الترمذي وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأخرجه البيهقي من حديث ابن عباس وأنس وأبي سعيد وجابر. ويقويه أيضا ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى في الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلي الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" [مسلم "27/857"، ابن ماجة "1090"، أبو دأود "1050"، الترمذي "498"، أحمد "2/424"] ، فإن اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الوضوء في هذا الحديث يدل على عدم وجوب الغسل فوجب تأويل حديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" بحمله على أن المراد بالوجوب تأكيد المشروعية جمعا بين الأحاديث وإن كان لفظ واجب لا يصرف عن معناه إلا إذا ورد ما يدل على صرفه كما فيما نحن بصدده لكن الجمع مقدم على الترجيح ولو كان بوجه بعيد. قال الترمذي في جامعه بعد أن أخرج حديث سمرة المذكور والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة ورأوا أنه يجزىء الوضوء عن الغسل انتهى. واعلم أن حديث: "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية سواء فعله في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا "من أتى إلي الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل" زاد ابن خزيمة "ومن لم يأتها فليس عليه غسل" قوله: "وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي به وإلا أعاده قبلها". أقول: ليس في ذلك إلا حديث الفاكه بن سعد عند أحمد وابن ماجه والبزار "أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر" [أحمد "4/78"، ابن ماجة "1316"] ، وأخرج نحوه ابن

ماجه من حديث ابن عباس وأخرج نحوه أيضا البزار من حديث أبي رافع وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضها بعضا إلا أن جعل غسل العيدين للصلاة وغسل الجمعة لليوم من الرأي الجاري على عكس ما ينبغي وعلى خلاف ما يقتضيه الدليل. قوله: "ويوم عرفة". أقول: قد استدل على ذلك بما أخرجه ابن ماجه قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا يوسف بن خالد حدثنا أبو جعفر الخطمي عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكهه بن سعد عن جده الفاكهه ابن سعد وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويم النحر ويوم عرفة وكان الفاكهه يأمر أهله بالغسل هذه الأيام انتهى. وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو كذاب وضاع ونسبه ابن معين إلي الزندقة فالعجب من ابن ماجه كيف يروي في سننه عن مثل هذا. وأخرج في مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعا: "الغسل في هذه الأيام واجب يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة" وإسناده مظلم. وذكر في جامع الأصول عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه ولطوافه بالبيت ولوقوفه بعرفة وقال ذكره رزين انتهى. وهذه الأحاديث التي ذكرها لا يعرف أصلها ولا من خرجها فلا عمل عليها ولا تقوم بها الحجة. وأخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه بعرفة انتهى وهذا فعل صحأبي لا تقوم به حجة. قوله: "وليالي القدر". أقول: ليس على هذا أثارة من علم لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس صحيح ولا من قول صحأبي وما قيل من قياسه على الجمعة إن كان لمجرد الشرف لزم القول باستحباب الغسل لكل ماله شرف من الأيام والليالي والأقوال والأفعال وهذا خرق للأجماع بل خرق للقواعد الشرعية بل تلاعب بالأحكام الدينية. وإن كان لجماع غير الشرف فلا ندري ما هو وقد استدل لذلك بعض من لا يفرق بين الغث والسمين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتزل النساء في ليالي القدر ويغتسل وهذا لايصح بوجه من الوجوه. قوله: "ولدخول الحرم". أقول: لم يثبت مشروعية ذلك أصلا ولعل المصنف رحمه الله يريد بقوله لدخول الحرم فعل الإحرام فقد أخرج الترمذي وحسنه والدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث زيد بن ثابت "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لأهلاله واغتسل" [الترمذي "830"] ،وفي إسناد الترمذي عبد الله بن يعقوب المدني لم يتكلم فيه بجرح ولا تعديل ولكن تحسين الترمذي له يدل على أنه قد عرف حاله

وقد تابعه الأسود بن عامر شإذان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه مثله والأسود ثقة من رجال الصحيحين. ويؤيد هذا الحديث ما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى على البيداء أحرم بالحج وفي إسناده يعقوب بن عطاء بن أبي رياح المكي وقد ضعفه أحمد وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال ابن معين ضعيف لكنه وثقة ابن حيان. قوله: "ومكة" أقول: وجهه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" [البخاري "1573"، مسلم "227/ 1259"] . قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية وقال أكثرهم يجزئ عنه الوضوء. قوله: "والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم" أقول: لا يخفاك أن الحكم بكون الشيء مندوبا هو حكم شرعي لا يستفاد من غير الشرع فإذا لم يكن في الشرع ما يفيد ذلك فهو من التقول على الله سبحانه بما لم يقل ومن التشريع للعباد بما لم يشرعه الله لهم ومن توسيع دائرة الشريعة المطهرة بمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة وليت شعري ما الحامل على هذا وما المقتضى له فإن القول بذلك ليس من الخطأ في الاجتهاد فإن هذا إنما يكون عند تعارض الأدلة وتخالف القرائن المقبولة ثم مجرد دعأوى القياس على ما في إثبات الأحكام الشرعية بغالب مسالكه من عوج لا يتم إلا بوجود أصل وفرع بعد تسليم الأصالة والفرعية ثم أمر جامع بينهما جمعا لا يدخله دفع ولا نقض ولا معارضة وما كان بدون ذلك فلا يعجز أحد أن يدعيه ويقول به ولو كان مثل ذلك سائغا لقال من شاء بما شاء وكيف شاء. ثم كان على المصنف أن يذكر من هذه التي ذكرها دخول بيت المقدس ودخول مسجد قباء ودخول قبور الأنبياء ودخول كل ما له شرف. وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية من الفواقر التي يبكى لها تارة ويضحك لها أخرى. قوله: "وبعد الحجامة والحمام". أقول: أما بعد الحجامة فقد استدل لذلك بما أخرجه أحمد وابو دأود والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت" [أحمد "6/52"، أبو دأود "3160"، ولفظ أبي دأود "كان يغتسل" الخ وصححه ابن خزيمة وقال الدارقطني في إسناده مصعب بن شيبة وليس بالقوي ولا بالحافظ وقال النسائي

منكر الحديث ووثقه ابن معين وأخرج له مسلم وأهل السنن. وقد عورض هذا الحديث بما أخرجه الدارقطني من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يزد على غسل محاجمه وفي إسناده صالح بن مقاتل وليس بالقوي. والجمع ممكن بحمل الغسل على الندب ولا ينافي الندب الترك في بعض الأحوال. وأما الغسل بعد الحمام فليس عليه أثارة من علم ولا وجه لذكره في الأغسال المشروعة. قوله: "وغسل الميت". أقول: استدلوا على ذلك بما أخرجه أحمد وأهل السنن والبيهقي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" [أحمد "3/433، 454، 472"، أبو دأود "3162"، ابن ماجة "1413"، الترمذي "993"] . وفي إسناده صالح مولى التوأمة وفيه مقال ولكنه قد روي من طريق غيره فأخرجه البزار عن أبي هريرة من ثلاث طرق ولهذا حسنه الترمذي وصححه اب حبان وابن حزم وقال ابن دقيق العيد رجاله رجال مسلم وقال ابن حجر هو لكثرة طرقه اسوأ أحواله أن يكون حسنا وذكر المأوردي أن بعض أهل الحديث ذكر له مائة وعشرين طريقا. ويؤيد هذا الحديث الذي تقدم قبله أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع". وقد ورد ما يدل على أن هذا الأمر محمول على الندب كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، وقد حسنه ابن حجر. وكما أخرجه الخطيب من حديث عمر كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل وقد صحح ابن حجر إسناده. وكما أخرجه الموطأ والبيهقي أن اسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه غسلته ثم قالت لمن حضر من المهاجرين إن هذا يوم شديد البرد فهل على من غسل فقالوا لا. قوله: "والإسلام". أقول: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن ووقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر لثمامة بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال ولكن فيهما أنه اغتسل والظاهر الوجوب ولا وجه لما تمسك به من قال بعدم الوجوب من أنه لو كان واجبا لأمر به صلى الله عليه وسلم من اسلم لأنا نقول قد كان هذا في حكم المعلوم عندهم ولهذا أن ثمامة لما أراد الإسلام ذهب فاغتسل كما في الصحيحين والحكم يثبت على الكل بأمر البعض ومن لم يعلم الأمر بذلك لكل من اسلم لا يكون عدم علمه حجة له.

باب التيمم

[باب التيمم فصل سببه تعذر استعمال الماء أو خوف سبيله أو تنجيسه أو ضرره أو ضرر المتوضيء من العطش أو غيره محترما أو مجحفا به أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت إن جوز إدراكه والصلاة قبل خروجه وأمن على نفسه وماله المجحف مع السؤال وإلا أعاد إن انكشف وجوده. ويجب شراؤه بما لا يجحف وقبول هبته وطلبها حيث لا منة لا ثمنه. والناسي للماء كالعادم] قوله: فصل: "سببه تعذر استعمال الماء". أقول: تعذر استعمال الماء كعدمه لأن وجوده مع تعذر استعماله لا يفيد شيئا فالواجد له مع تعذر استعماله غير واجد لماء يمكنه التطهر به فهو داخل تحت قوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة 6] ، إذ ليس المراد وجود مجرد ذات الماء ولو في قعر بئر لا يمكن الوصول إليه فإنه لا يقول بذلك أحد. ولا فرق بين أن يكون تعذر استعمال الماء لمانع في نفس الماء أو لمانع في المكلف فإن ذلك بمنزلة عدم الماء. قوله: "أو خوف سبيله". أقول: إذا خشي الضرر على نفسه أو ماله فقد جعل الله له من استعمال ذلك الماء فرجا ومخرجا فالدين يسر والشريعة سمحة سهلة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، و "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [مسلم "1337"، النسائي "5/110، 111"] . قوله: "أو تنجيسه". أقول: إذا كان استعماله للماء على تقدير يوجب تنجيسه حتى يخرج بذلك عن كونه طهورا فليست هذه صورة مستقلة ولا هذا سببا من أسباب التيمم مستقلا بل هو داخل تحت قوله تعذر استعمال الماء لأن هذا قد تعذر عليه استعمال الماء على الوجه المجزيء فوجود ذلك الماء كعدمه. قوله: "أو ضرره" أقول: إذا كان استعمال الماء يحدث للمتوضيء علة يحصل بها الضرر عليه كان ذلك موجبا لترك استعمال الماء والعدول إلي التيمم. أخرج أبو دأود وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر قال خرجنا في سفر وأصاب رجلا

منا حجر فشجه في رأسه ثم أحتلم فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" [أبو دأود "336"، ابن ماجة "3"] ، وقد تفرد به الزبير بن حريق وليس بالقوي وقد صححه ابن السكن وله طريق أخرى من حديث ابن عباس. ومما يدل على جواز التيمم لخوف الضرر حديث عمرو بن العاص أنه احتلم في ليله باردة فتيمم ثم بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال ذكرت قول الله عزوجل {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، فضحك صلى الله عليه وسلم ولم يقل له شيئا وهو حديث صحيح [أحمد"4/203". قوله: "أو ضرر المتوضيء من العطش". أقول: لا وجه لأفراد هذا بالذكر فإن خشية الضرر يشمل قوله أو ضرره وقوله أو ضرر المتوضيء وإذا عرفت أن تعذر استعمال الماء أو خوف تنجيسه يدخلان تحت قوله أو عدمه فكان يغنيه عن ذكر هذين السببين ما سيذكره من سببية عدم الماء لما قدمنا وعرفت أن خشية الضرر يغنى عن الضررين اللذين جعلهما سببين بل ويغني عن قوله أو خوف سبيله لأنه إذا كأن يحصل بالخوف ضرر كان مسوغا للتيمم وإلا فلا فكان يكفيه أن يقول وسببه عدم الماء أو خشية الضرر فإن الاقتصار على هذين السببين يقوم مقام الستة الأسباب. وإذا أراد زيادة الأيضاح قال سببه عدم الماء أو نحوه أو خشية الضرر. ويدخل أيضا تحت خشية الضرر قوله أو مجحفا به فإن الإحجاف ضرر عظيم ويدخل أيضا تحت عدم الماء قوله: أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها لأن وجود الماء في تلك الحال كعدمه لعدم الانتفاع به فرجعت هذه الاسباب التي ذكرها كلها إلي سببين. واعلم أن كون فوت الصلاة المذكورة سببا من أسباب التيمم لا دليل عليه بخصوصه لكن إذا نظرنا إلي قوله تعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" كان ذلك مسوغا للتيميم عند خشية فوت الصلاة بخروج وقتها سواء كانت تقضى أو لا تقضى وسواء كان لها بدل أو لا بدل لها ولا سيما مع قوله سبحانه: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6] . ويمكن أن يقال إن الله سبحانه لم يتعبد المكلف بالإتيان بالصلاة المفروضة إلا بشرطها المعتد وإذا فاته الأداء وجب عليه القضاء ولا سيما إذا لم يتركها إلي ذلك الوقت الذي خشى قوتها فيه باستعمال الماء اختيارا وتعمدا كالنائم والساهي وأما إذا كانت تلك الصلاة لا تقضى ولا بدل لها فيقال لا يجب عليه الدخول فيها مع وجود الماء إلا بعد أن يأتى بالوضوء فإذا ضاق الوقت عن ذلك فلا وجوب عليه في الصلاة الواجبة كصلاة الجنازة ولا استحباب له في

غير تلك الصلاة بالوضوء فهو لا يستطيع فقد عمل بقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". قوله: "أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت". أقول: ظاهر الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو عَلَى سَفَرٍ أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ، أن عدم وجود الماء قيد للمرض والسفر والمجىء من الغائط والملامسة على ما هو الراجح من أن القيد الواقع بعد جمل يعود إلي جميعها ولا يختص ببعضها إلا بدليل ولكن لما كان السبب الموجب للطهارة الصغرى هو المجىء من الغائط وما في معناه والموجب للطهارة الكبرى هو الملامسة للنساء وما في معناه من غير فرق بين مريض ومسافر وحائض كان ذلك دليلا على أن حرف التخيير في قوله: {أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بمعنى الوأو وقد ورد ذلك كثيرا في لغة العرب وذهب إليه جماعة من أئمة العربية. فيكون معنى الآية على هذا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاد أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فكان الحاصل من هذا أن المريض الذي حصل له أحد سببي الطهارة وهي المجىء من الغائط أو الملامسة لا يتيمم إلا عند عدم الماء وكذلك المسافر. لكنه قد ورد ما يدل على أن المرض سبب مستقل لجواز التيمم وإن كان الماء موجودا لما في حديث صاحب الشجة المتقدم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم" الخ ونحوه فيكون قيد عدم وجود الماء راجعا إلي المسافر وهو مجمع عليه أعني كون المسافر لا يتيمم إلا إذا لم يجد الماء ويدل عليه قصة عمرو بن العاص المتقدمة فإنه لما لم يغتسل مع وجود الماء أنكر عليه أصحابه ولم يقرره صلى الله عليه وسلم إلا حيث ذكر ما يدل على أنه خشى الضرر على نفسه واستدل بقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . ويدل على ذلك أن رخصة التيمم نزلت في السفر لما أقاموا لطلب عقد عائشة كما في الصحيحين وغيرهما وفيه أنها قالت: "وليسوا على ماء وليس معهم ماء" [البخاري "1/334"، مسلم "367"، أبي دأود "317"، النسائي "310"] ، الحديث. فإن قلت إذا كان القيد المذكور في الآية راجعا إلي المسافر فمإذا يكون في الصحيح الحاضر؟. قلت لم يكن في الآية تعرض لذلك لما قررناه لكنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم في الحضر كما في الصحيحين وغيرهما ووردت الأدلة الدالة على مشروعية التيمم سواء كان حاضرا أو مسافرا صحيحا أو مريضا كما في حديث "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو إلي عشر سنين" [أبو دأود "332 و 333"، النسائي 1/171"، الترمذي "124"، أحمد "5/146، 155"] ، أخرجه

أأهل السنن وغيرهم من حديث أبي ذر وصححه أبو حاتم والحاكم وابن حيان وابن السكن وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقد أخرجه مسلم أيضا وروي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح. وكما في حديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" [البخاري "335، 438، 3124"، مسلم "521"] ، وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ لمسلم "وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"، أحمد "5/383"] ، وقد ثبت اعتبار عدم الماء في السفر بالآية المذكورة فاعتباره في الحضر ثابت بفحوى الخطاب فإن السفر مطنة المشقة والتعب ولهذا شرع الله له قصر الصلاة وترك الصيام مع كون المسافر في الغالب غير عارف بمواطن الماء كما يعرفها الحاضر في وطنه وبلد إقامته. وأما إيجاب الطلب إلي آخر الوقت فلم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع. فإن قلت فما المعتبر في عدم وجود الماء؟. قلت إذا قام المصلى إلي الصلاة ولم يكن عنده ماء ولا كان قريبا منه يمكنه إدراكه ويصلي الصلاة لوقتها جاز له التيمم لأن الله سبحانه وتعالي ذكر القيام إلي الصلاة فقال: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} [المائد: 6] ثم ذكر بعد ذلك رخصة التيمم مع عدم وجود الماء فالمعتبر عدم حضور الماء عند القيام للصلاة وعدم علم المصلي بوجوده في المواضع القريبة منه وحد القرب أن يمكنه الوصول إلي الماء والتطهر به ويصلي الصلاة لوقتها فمن كان هكذا فهو واجد ومن لم يكن هكذا فهو عادم. ويدل لهذا حديث أبي سعيد قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعادا أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال الذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" [أبو دأود "338"، النسائي "433 – 434"] ، أخرجه أبو دأود والنسائي. وهذا الحديث يرد على أن من أوجب الإعادة إذا وجد الماء في الوقت وما ذكره من أنه يجب عليه شراء الماء وقبول هبته فلا بأس بذلك لم أراد أكمل الطهارتين وأما أنه يجب وجوبا شرعيا فلا دليل عليه وإذا لم يجب قبول الهبة فكيف يجب الطلب لها فإن الظاهر تحريم السؤال على كل حال ولهذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا حتى كان يسقط سوط أحدهم وهو على راحلته فينزل له ولا يسأل غيره أن ينأوله وذلك ثابت في الصحيح. وما ذكره المصنف رحمه الله من أن الناسي للماء كالعادم فهو صواب لرفع الخطاب عن الناسي وعدم المؤاخذة له بنسيانه ولا يكلف الإنسان بما لا يعلمه فإذا ذكر بعد فعل الصلاة بالتيمم فقد أجزأته صلاته ولا إعادة عليه كما تقدم في العادم.

[فصل وإنما يتيمم بتراب مباح طاهر منبت يعلق باليد لم يشبه مستعمل أو نحوه كما مر. وفروضه التسمية كالوضوء ومقارنة أولة بنية معينة فلا يتبع الفرض إلا نفله أو ما يترتب على أدائه كالوتر أو شرطه كالخطبة وضرب التراب باليدين ثم مسح الوجه مستكملا كالوضوء ثم أخرى لليدين ثم مسحهما مرتبا كالوضوء ويكفي الراحة الضرب. وندب ثلاثا وهيأته] . قوله: "فصل وإنما يتيمم بتراب" أقول: استدلوا لذلك بقوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قالوا الصعيد الطيب هو التراب وهذا هو مسلم فإنه قال في المصباح إن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره قال الزجاج لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في ذلك انتهى وحكى في الكشاف عن الزجاج مثل ذلك. واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"] ، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره. ويجاب عنه بأنه من التخصيص بموافق العام فإن مفهوم اللقب لا يخصص به على ما ذهب إليه الجمهور ولكنه يقوى هذا قوله تعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، فإنه لا يتيسر المسح ببعض الحجر ولا ببعض الشجر فتعين أن يكون الممسوح به ترابا. ولا يعارض هذا تيممه صلى الله عليه وسلم من الحائط فإنه لم يرو أنه كان معمورا من الحجر بل الظاهر أنه معمور من الطين وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد ان يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به ولا سيما وقد أخرج الشافعي أنه حته أي الحائط الذي تيمم منه بعصا وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي ثم قال وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي عن أبي الحويرث وهو متكلم فيهما عن الأعرج عن أبي الصمة وهو يعني الأعرج لم يسمع منه. ومما يعين التراب ويفيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب أو بما صعد على وجه الأرض فجعلوا التراب أحد معنيي الصعيد. والروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنيي الصعيد. ثم قد ورد ذكر التراب في غير حديث فأخرج أحمد والبيهقي من حديث على مرفوعا بلفظ "وجعل التراب لي طهورا" [أحمد "1/98"] ، وقد حسن إسناده في مجمع الزوائد وكذلك الحافظ ابن حجر في الفتح وصححه السيوطي. وقد كان التيمم في زمن النبوة بالتراب لا يعرف غير ذلك فالتعويل على ما هو محتمل من اللفظ لا ينبغي لمصنف.

قوله: "مباح" أقول: استدلوا على ذلك بقوله سبحانه: {صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ، وأجيب بأن الطيب المذكور مشترك بين معنيي الطهارة عن النجاسة والحل والأليق بالمقام المعنى الأول لا الثاني وأولى من هذا الجواب أن يقال المعنى الحقيقي للطيب هو الطاهر وأما الحلال فمجاز له لا حقيقة كما يفيد ذلك ما ذكره الزمخشري في أساسه. ولكنه يغني عن الاستدلال بالآية ما ورد في الكتاب والسنة من تحريم ما ليس بحلال فلا يحتاج إلي الاستدلال بدليل آخر فالآية قد دلت على اعتبار كون التراب طاهرا وأدلة تحريم ما للغير قد دلت على اعتبار كون التراب مباحا حلالا. قوله: "منبت يعلق باليد". أقول: أما كونه منبتا فلم يدل على ذلك دليل أصلا بل المراد ما يصدق عليه اسم التراب وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم من الحائط وصح عنه أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا". فكل تراب يحصل به مقصود التيمم يرفع الحدث وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال أطيب الصعيد تراب الحرث كما أخرجه عنه البيهقي وغيره فلم يشترط القرآن ولا السنة أطيب الصعيد ولا يستلزم كون أطيب الصعيد تراب الحرث أنه لا يجزىء في التيمم إلا هو وغايته أن التيمم به أحب من غيره لكونه الأطيب وقد دل أفعل التفضيل أن غيره طيب فحصل به مقصود التيمم وقد ثبت أن المدينة سبخة وقد كانوا يتيممون منها ولم ينقل أنهم طلبوا ترابا للتيمم وهكذا كانوا يتيممون عند حضور وقت الصلاة مع عدم الماء بما يجدونه من التراب. وأما اشتراط كون التراب يعلق باليد فوجهه قوله سبحانه وتعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، وقد قدمنا ذلك. وأما اشتراط كونه لم يشبه مستعمل فليس على عدم كون المستعمل طهورا دليل صحيح لا في الماء ولا في التراب وقد أوضحنا ذلك في الوضوء فليرجع إليه. قوله: "وفروضه التسمية ومقارنة أوله بنية معينة". أقول: الكلام في التسمية والنية هنا كالكلام في الوضوء وأما كون النية هنا لا بد أن تكون معينة وأنه لا يتبع الفرض إلا نفله أو شرطه فمبنى على أنه لا يجوز بالتيمم إلا فريضة واحدة وأنه يبطل بالفراغ منها واستدلوا على ذلك بما روى عن ابن عباس أنه قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة ثم يتيمم للأخرى كما أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك مجمع على تركه وقد روى عن غيره نحو ذلك من قوله غير مرفوع منها عن علي وفي إسناده ضعيفان وهما الحارث الأعور والحاج ابن أرطأة ومنها عن عمرو بن العاص وابن عمر ولا يقوم شيء من ذلك حجة. والعجب ممن قال إنه ينجبر ما فيها بالإجماع فإن المرفوع باطل والموقوف لا حجة فيه.

فالحق أن يستباح بالتيمم ما يستباح بالوضوء وأنه طهارة جعلها الله سبحانه بدلا عن الوضوء عند عدم الماء وللبدل حكم المبدل إلا ما خصه الدليل ولم يكن هذا مما خصه الدليل. قوله: "وضرب التراب باليدين". أقول: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وعلمه غيره كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما يكفيك" وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. [البخاري "338"، مسلم "112/368"، أبودأود "322"، النسائي "312و316"، ابن ماجة "569"] . والحاصل أن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط وجميع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلي المرفقين لا يخلو من ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار ولا يصلح للعمل عليه حتى يقال إنه مشتمل على زيادة والزيادة يجب قبولها. فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وما ذكره المصنف رحمه الله من انه يجب مسح الوجه مستكملا كالوضوء إن أراد أنه يجب تمييم الوجه بالمسح فذلك متعين وإن أراد أنه يجب تخليل الشعر فليس ذلك من شأن المسح ولا لتخليل الشعر مدخلية فيه بل المراد التعبد بمسح الشعر ما كان يجب غسله بالماء ويصيب ما أصاب ويخطىء ما أخطأ. وكذا ما ذكره في مسح اليدين إن أراد به مجرد إيقاع المسح عليهما فلا بد من ذلك ولكن إلي الرسغين إلي المرفقين وإن أراد التخليل ونحوه فليس ذلك من شأن المسح ولا هو داخل في مفهومه. وأما ما ذكره من أنها بندب هيأة التيمم فلا هيئة له إلا ما اشتمل عليه حديث عمار الذي ذكرناه. [فصل: وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها فيتحرى للظهر بقية تسع العصر وتيممها وكذلك سائرها وللمقضية بقية تسع المؤداة ولا يضر المتحري بقاء الوقت. وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى] . قوله: فصل: "وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها". أقول: الأوقات المضروبة للصلاة لا تختص بطهارة دون طهارة فطهارة التراب كطهارة الماء في أن كل واحدة منهما تؤدى بها الصلاة في الوقت المضروب لها ومن زعم أن ذلك يختص بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا. ثم قد ورد الترغيب في تأدية الصلاة لأول وقتها بأحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما حتى وقع التصريح منه صلى الله عليه وسلم "بأن أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" فمن زعم أن ذلك يختص

بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا ثم قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتيمم الذي وجد الماء بعد أن فرغ من صلاته ولم يعد الطهارة ولا الصلاة إنه قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة فلو كان التيمم آخر الوقت واجبا مفترضا لم يكن مصيبا للسنة لأنه صلى بالتيمم تلك الصلاة لوقتها ولم يؤخرها إلي آخر الوقت وقد وجد الماء في الوقت ولم يعد. والحاصل أنه لا دليل على ما ذكره في هذا الفصل بل هو خلاف الدليل وأعجب من هذا قوله في آخر الفصل وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى فإن الأحاديث الصحيحة ناطقة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها فأي دليل دل على أن هذه الصلاة المؤداة بالتيمم لا تدرك بإدراك ركعة منها ولكن المصنف رحمه الله لما ظن أن خروج الوقت من نواقض التيمم وقع في هذا المضيق وليس على ذلك أثارة من علم بل ليس عليه أثارة من رأي مستقيم فلا رواية ولا رأي يوقعان عباد الله في مثل هذه التكاليف الشديدة وهذا الحرج العظيم اللهم غفرا. [فصل: ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه ثم ثوبه ثم الحدث الأكبر أينما بلغ في غير أعضاء التيمم وتيمم للصلاة ثم الحدث الأصغر. فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء وإلا أثرها ويمم الباقي وهو متيمم وكذا لو لم يكف النجس ولا غسل عليه. ومن يضر الماء جميع بدنه تيمم للصلاة مرة ولو جنبا فإن سلمت كل أعضاء التيمم وضأها مرتين بنيتهما. وهو كالمتوضىء حتى يزول عذره وإلا غسل ما أمكن منها بنية الجنابة ووضأه للصلاة ويمم الباقي وهو متيمم فيعيد غسل ما بعد الميمم معه ولا يمسح ولا يحل جبيرة خشي من حلها ضررا أو سيلان دم] . قوله: فصل: "ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه". أقول: لعل وجه ذلك تحريم التلوث بالنجاسة وورود الوعيد الشديد على ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في غسله بإزالة النجاسة من فرجيه وكذلك جادت الشريعة بإزالة أثر الخارج من الفرجين بالماء أو الأحجار قبل الوضوء. ولعل الوجه في تقديم غسل متنجس الثوب على رفع الحدثين أن لهما بدلا وهو التيمم ولا بدل لستر العورة. ولعل وجه تقديم الحدث الأكبر عند من يقول إن الطهارة الصغرى تدخل تحت الطهارة

الكبرى أن الغسل يغني عن الوضوء وأما من يقول بذلك فوجهه أن الحدث الأكبر مانع من رفع الحدث الأصغر ولكن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يقدم الوضوء على الغسل إلا غسل الرجلين فيؤخره إلي بعد الفراغ من الغسل وقد تقدم ذلك. ويمكن أن يقال إن هذا لا يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن النزاع إنما هو حيث وجد من الماء ما لا يكفي لرفع الحدثين وفعله صلى الله عليه وسلم إنما كان مع وجود ما يكفي لرفع الحدثين وقد يقال إن التأثير مع السعة ووجود ما يكفي لرفع الحدثين يدل على تأثير ما أثره مع عدم وجود ما يكفي لهما وفيه ما فيه قوله: "فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء" الخ. أقول: قد جعل الله عز وجل رخصة التيمم ثابتة لمن لم يجد ماء يتوضأ به فمن وجد ماء يتوضأ به الوضوء الذي ورد به الشرع ويستوفى غسل أعضاء الوضوء فلا يحل له العدول إلي رخصة التيمم وإذا وجد من الماء ما يكفي بعض أعضاء الوضوء دون البعض فهو في حكم العادم لما يكفي للوضوء ولا حكم لوجود ما يكفي لبعض الوضوء فإن فاعل ذلك لا يسمى متوضأ ولا يصدق عليه أنه قد فعل ما أمره الله من الوضوء فالواجب عليه ترك غسل ذلك البعض الذي لم يجد من الماء إلا ما يكفيه ويعدل إلي التيمم ولم يرد ما يدل على خلاف هذا وهكذا من وجد ما يكفيه لغسل بعض بدنه عدل إلي التيمم وتيمم مرة واحدة وصلى ما شاء حتى يجد الماء أو يحدث ولا يغسل بعض بدنه ويترك بعضا. وهكذا من يضر الماء بدنه إذا غسل به فإنه يترك الغسل بالماء ولا يغسل شيئا منه ويعدل إلي التيمم فيتيمم مرة واحدة ويصلي ما شاء حتى يحدث أو يجد الماء وإذا وجد الماء في الوقت فليس عليه إعادة ولا غسل لأن الجنابة قد ارتفعت وكذا إذا وجده بعد الوقت فلا يغتسل لهذه الجنابة التي قد تيمم لها لأنها قد ارتفعت بالتيمم. والدليل يدل على ما ذكرناه كحديث "والتراب كافيك ولو إلي عشر حجج" وحديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وأما ما ورد في بعض الروايات بلفظ: "إذا وجد الماء فليمسه بشرته" فليس المراد به إلا أنه إذا وجد الماء اغتسل لما يتجدد عليه من الموجبات بعد وجوده لا لما مضى فإنه قد ارتفع ولو سلمنا الاحتمال فهو لا يصلح للاستدلال. وأيضا قد ورد في هذه الرواية "فإن ذلك خير لك" يدل وهذا يدل على عدم وجوب الغسل للحدث الماضي حيث قد فعل التيمم المشروع. فإن قيل قد أخرج البخاري في صحيحه في باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء من حديث عمران بن حصين ما حاصله أنه نودي بالصلاة فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم فقال: "ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم" فقال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما

وجد الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: "اذهب فأفرغه عليك" وهذا ظاهر في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها. وأخرجه البيهقي عن عمران بن حصين بلفظ: فقال للرجل: "ما منعك أن تصلي؟ " قال: يا رسول الله أصابتني جنابة قال: "فتيمم بالصعيد فإذا فرغت فصل فإذا أدركت الماء فاغتسل" وهذا أأصرح من الحديث الذي قبله في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها. وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار العطاردي قد ضعفه جماعة ولكنه قال الذهبي في المغني حديثة مستقيم انتهى والحديث الأول يشهد له ويقويه. وأخرج الطبراني في الكبير حديث أسلع خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابته جنابة فأمره صلى الله عليه وسلم بالتيمم فتيمم ثم مروا بماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسلع! هذا أمس هذا جلدك" وهو كالحديث الأول في الدلالة على أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها. قلت ليس في الحدثين ما يفيد ان الأمر بالغسل للجنابة التي قد تيمم لها كما ذكرت ولو كان كذلك لأمره بإعادة الصلاة التي قد فعلها بالتيمم ولم يثبت ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولو سلمنا ما ذكرت لكان معارضا لحديث عمرو بن العاص الصحيح أنه احتلم فصلى بأصحابه بالتيمم فشكوه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فقال سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، فقره على ذلك ولم يأمره بالغسل. وأيضا قياس الجنابة على الوضوء يدل على عدم وجوب غسل الجنابة بعد التيمم لها لما تقدم في حديث الرجلين وقوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: "أصبت السنة" فإذا قوي التيمم على رفع الحدث الأصغر قوي على رفع الحدث الأكبر لاشتراكهما في منع كل واحد منهما من الصلاة. ويؤيد هذا ما تقدم من العمومات الصحيحة ومع التعارض يرجع إلي الأصل وهو أن التيمم طهارة شرعها الله عوضا عن الماء فيرتفع بها ما يرتفع بالماء. وقد يجمع بين الأدلة بأن أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بأن يغتسل عند وجود الماء ليس لرفع الجنابة فإنها قد ارتفعت بالتيمم بل لغسل ما يتلوث به البدن من آثار الجنابة لا سيما المحتلم فإنه لا بد أن يصيب المني بعض بدنه في الغالب. [فصل: ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين ونفل كذلك وإن كثر قيل ويقرأ بينهما ولذي السبب عند وجوده والحائض للوطء وتكرره للتكرار] . قوله: فصل: "ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين".

أقول: قد عرفناك أن التيمم يرفع الحدث أما مطلقا أو إلي وقت وجود الماء فإذا تيمم لصلاة جاز له أن يفعل ما يفعله المتوضىء حتى يحدث وهكذا إذا تيمم لغير صلاة فإنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم تيمم لرد السلام وهو مجرد ذكر من الأذكار فالتيمم للقراءة ولدخول المسجد أولى وأحق فإذا تيمم لشيء من ذلك بعينه فقد ارتفع الحدث بذلك التيمم فيجوز له أن يفعل غير ما سماه حتى يحدث لأنه قد صار في حكم المتوضىء وقد قدمنا في الوضوء ما يزيدك في هذا بصيرة وليس هذا الحكم مختصا بعادم الماء بل هو ثابت لكل من يجوز له التيمم. وأما تقيدد الجواز بالعدم في الميل فهو مبني على ما تقدم من وجوب الطلب في الميل وقد قدمنا دفعه وهكذا لا وجه لقوله مقدرين لما عرفت من أن الحدث قد ارتفع ولا فائدة لذكره هنا للنفل ولذوات الأسباب فإنها صلوات يشرع لها التيمم كما شرع للصلوات الخمس. وما ذكره من أن الحائض تتيمم للوطء فذلك صواب لأن الله سبحانه يقول: {فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، والتطهر يصدق على طهارة التراب عند عدم الماء كما يصدق على طهارة الماء. [فصل: وينتقض بالفراغ مما فعل له وبالاشتغال بغيره وبزوال العذر ووجود الماء قبل كمال الصلاة وبعده يعيد الصلاتين إن أدرك الأولى وركعة بعد الوضوء وإلا فالأخرى إن أدرك ركعة وبخروج الوقت ونواقض الوضوء] . قوله: فصل: "وينتقض بالفراغ مما فعل له" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أن الطهارة بالتراب كالطهارة بالماء يفعل بها المتيمم ما يفعل بها المتطهر بالماء ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك لا من كتاب ولا من سنة ولا من رأي صحيح فلا ينتقض إلا بما تنتقض به الطهارة بالماء فدعوى انتقاضه بالفراغ مما فعل له ليس بشيء وكذلك دعوى انتقاضه بالاشتغال بغيره ليس عليه أثارة من علم. وأما دعوى انتقاضه بوجود الماء وإيجاب الأعادة للصلاة فدفع في وجه الدليل ورد لما هو الحق بالصدر والنحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الذي لم يعد عند وجوب الماء قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة وليس وراء ذلك إلا البدعة. وأما قوله للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" فذلك لكون الله سبحانه لا يضيع عمل عامل وقد تيمم وتوضأ وصلى مرتين ولا يستلزم ثبوت الأجر له إصابته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت لمن أخطأ في اجتهاده أجرا فقال فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله

أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" [البخاري "7352"، مسلم "1716"، أبو دأود "3574"، أبو دأود "3574"، ابن ماجة "2314"] ، فصرح بثبوت الأجر مع الخطأ في الاجتهاد. وهذا الذي أعاد الوضوء والصلاة قد أخطأ في اجتهاده وثبت له الأجر كما ثبت للحاكم المخطىء في اجتهاده. وأما دعوى انتقاض التيمم بخروج الوقت فلا أصل له يرجع إليه ولا دليل يدل عليه والصواب الاقتصار في هذا الفصل على قوله: "ونواقض الوضوء" وفيه ما يغني عن تكليف عباد الله ما لم يشرعه لهم بلا خلاف شرعه لهم فان هذا الكتاب وضعه المصنف رحمه الله لبيان ما ورد به الدليل لا لبيان القال والقيل.

باب الحيض

[باب الحيض هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص والنقاء المتوسط بينه جعل دلالة على أحكام وعلة في أخر. وأقله ثلاث وأكثره عشر وهي أقل الطهر ولا حد لأكثره ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة وقبل أقل الطهر وبعد أكثر الحيض وبعد الستين وحال الحمل. وتثبت العادة لمتغيرتها والمبتدأة بقرئين فإن اختلفا فيحكم بالأقل ويغيرها الثالث المخالف وتثبت بالرابع ثم كذلك] . قوله: باب الحيض: "هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص". أقول: قد نظر المصنف رحمه الله في هذا الحد إلي ما وقع في القرآن من قوله عز وجل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، وإلي ما ذكره أهل اللغة. قال الأزهري والهروي وغيرهما الحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة من رحمها بعد بلوغها. وقد نوقش المصنف في هذا الحد بما يرد عليه فإن المراد التعريف بالوجه لا بالكنه. قوله: "وأقله ثلاث وأكثره عشر". أقول: لم يأت في تقدير أقل الحيض وأكثره ما يصلح للتمسك به بل جميع الوارد في ذلك أما موضوع أو ضعيف لمرة والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تمكث إحداهن الليالي ذوات العدد لا تصلي"، وغاية ما ثبت في ذلك العدد ما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن صحيح وقال الترمذي عن أحمد والبخاري أنهما صححاه وكذلك نقل ابن المنذر عنهما من حديث حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء". فلو قيل إن أكثر الحيض سبعة أيام لكان لذلك وجه. قوله: "ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة". أقول: قد استدل على تعذره قبل دخول المرأة في التاسعة بالإجماع وكذلك استدل بالإجماع على تعذره قبل أقل الطهر بعد أكثر الحيض. وأما تعذره بعد الستين فاستدل عليه بأنه أكثر ما قيل في مدة الإياس فكان إجماعا. والحاصل أنه لا دليل على هذه الثلاث الحالات التي يتعذر عندها الحيض لا من كتاب ولا سنة وليس إلا مجرد الاستقراء وذلك أنه لم ينقل أن امرأة حاضت حيضا شرعيا قبل تسع سنين ولا بعد ستين سنة. وأما أقل الطهر بعد أكثر الحيض فلا خلاف في ذلك بين القائلين بتقدير مدة أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر وكل على أصله. وأما من لم يقل بذلك التقدير وجعل الاعتبار بصفات الدم لمن لم تتقرر عادتها فهو خارج عن هذا الإجماع المدعي. وأما الحالة الرابعة وهي حالة الحمل فهي محل الخلاف وقد استدل كل قائل لقوله بما لا يلزم خصمه وقد يقع لبعض النساء الحيض في أيام حملها ولكن القائل بأنها حالة تعذر لا يقول بأن ذلك حيض بل يجعله لفساد عرض للحامل في طبيعتها ولا يخفاك أنه إذا كان متصفا بصفات دم الحيض التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في دم الحيض "إنه أسود يعرف" [أبو دأود "286و304"، النسائي "1/123" و "1/185"] ، كان الظاهر مع من يقول إنه دم حيض وقد سمعنا في عصرنا بوقوع ذلك لكثير من النساء ولا يلزم من القول بأنه دم حيض أن تعتد بالحيض فإن الدليل الخاص قد دل على أن عدة الحامل بوضع الحمل ولا يلزم من ذلك أيضا أن لا يكون الحيض معرفا لخلو الرحم عن الحمل في الاستبراء لأنا نقول هو معرف إذا لم تظهر قرائن الحمل فإن ظهرت لم يكن معرفا لأن كونه معرفا قد عورض بشيء آخر. وهذه المسألة من المضائق لما يترتب عليها من ترك صلاة المرأة وصيامها على القول بأن ذلك حيض أو فعل الصلاة والصيام واعتدادها بذلك وعدم قضاء الصيام على القول بأنه ليس بحيض وليس في المقام من الأدلة الشرعية ما تسكن إليه النفس سكونا تاما. قوله: "وتثبت العادة لمتغيرتها" إلي آخره. أقول: استدلوا على ثبوت العادة بالقرائن بما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها" [أبو دأود "297"، الترمذي "126"، ابن ماجة"] . وقد تكلم في إسناد الحديث بما لا يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار وله شواهد تقويه

قالوا فأمرها بالرجوع في العادة إلي أقرائها والثلاثة الأقراء وإن كانت أقل الجمع عند الجمهور لكن قالوا إن الثلاثة الأقراء غير معتبرة إجماعا فبقي قرآن. قلت ومما يدل على اعتبار العادة ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة أن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قالت عائشة فرأيت مركنها ملآن دما فقال لها رسول الله: "امكني قدر ما كانت حيضتك تحبسك ثم اغتسلي" [مسلم "65/334"، أحمد "6/187"، النسائي "1/121"، أبو دأود "279"] ، فهذا وما قبله يدلان على رجوع المستحاضة إلي العادة وأنها معتبرة وأما أنهما يدلان على أن العادة تثبت بقرائن فلا. لكن قد تقرر في كتب اللغة أن العادة مأخوذة من عاد إليه يعود إذا رجع فدل ذلك على أنه لا يقال عادة إلا لما تكرر وأقل التكرر يحصل بمرتين. [فصل: ولا حكم لما جاء وقت تعذره فأما وقت إمكانه فتحيض فإن انقطع لدون ثلاث صلت فإن تم طهرا قضت الفائت وإلا تحيضت ثم كذلك غالبا إلي العاشر فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها ثم أمها فإن اختلفن فبأقلهن طهرا وأكثرهن حيضا فإن عدمن أو كن مستحاضات فبأقل الطهر وأكثر الحيض. وأما معتادة فتجعل قدر عادتها حيضا والزائد طهرا إن أتاها لعادتها أو في غيرها وقد مطلها فيه أو لم يمطل وعادتها تتنقل وإلا فاستحاضه كله] . قوله: فصل: "ولا حكم لما جاء وقت تعذره" الخ. أقول: قد تقدم ما يفيد هذا وهو قوله ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة إلخ وإذا كان الحيض متعذرا في تلك الحالات كان الخارج غير حيض وما كان غير حيض فلا تثبت له أحكام الحيض وهكذا لا فائدة لقوله فأما وقت إمكانه فتحيض لأن هذا الباب أعني باب الحيض إنما يراد منه ذكر أحكام ما جاء من الحيض في وقت إمكانه وذلك معلوم أنه حيض وله أحكام الحيض وهكذا لا يحتاج إلي قوله فإن انقطع لدون ثلاث صلت وما بعده لأن هذا قد عرف من قوله فيما سبق فصل وأقله ثلاث. قوله: "فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها" الخ. أقول: استدلوا على ذلك بحديث حمنة الذي قدمنا ذكره وهو حديث صحيح وفيه "فتحيضي ستة ايام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء". قالوا وقرابتها أحق من غيرهن برجوعها إلي عادتهن واعلم أنه قد ورد ما يدل على

الرجوع إلي عادة النساء كهذا الحديث وورد ما يدل على الرجوع إلي صفة الدم كحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان دم حيض فإنه أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" أخرجه أبو دأود والنسائي [أبو دأود "304" و "286"، النسائي "1/123" و "1/185"] ، وصححه ابن حبان والحاكم وورد ما يدل على رجوع المرأة إلي عادة نفسها كحديث أم حبيبة المتقدم قريبا وفيه "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي". والجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن يقال إن كانت المرأة مبتدأة أو ناسية لوقتها وعددها فإنها ترجع إلي صفة الدم فإن كان بتلك الصفة التي وصفها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دم حيض وإن كان على غير تلك الصفة فليس بحيض فإن لم يتميز لها وذلك بأن يخرج على صفات مختلفة أو على صفة ملتبسة رجعت إلي عادة النساء القرائب فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن فإن لم يوجد غالب تحيضت ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما إذا كانت غير مبتدأة بل معتادة عارفة لوقتها وعددها رجعت إلي عادتها المعروفة فإن جأوز عادتها رجعت إلي التمييز بصفة الدم فإن التبس عليها قدر عادتها لعارض عرض لها والتبس عليها التمييز بصفة الدم رجعت إلي عادة النساء من قرائبها فإن اختلفن فكما تقدم في المبتدأة. وبهذا يرتفع الاشكال ويندفع ما كثر وطال من القيل والقال. [فصل: ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة والوطء في الفرج حتى تطهر وتغتسل أو تيمم للعذر وندب أو تعاهد نفسها بالتنظيف وفي أوقات الصلاة أو توضأ وتوجه وتذكر الله وعليها قضاء الصيام لا الصلاة] . قوله: فصل: "ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة". أقول: قد تقدم في باب الغسل بيان ما يحرم بالجنابة فينبغي الرجوع إليه وقد يحرم بالحيض ما لم يحرم بالجنابة كالصيام فإنه يجوز للجنب أن يصبح صائما ويستمر على ذلك حتى يتطهر وسيأتي تحقيق البحث في الصيام بخلاف الحائض فإنه لا يصح صومها بحال. قوله: "والوطء في الفرج" الخ. أقول: هذا معلوم بنص القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ولا خلاف في تحريم وطء الحائض وقوله: "حتى تطهر" دل عليه قوله تعالي: {حَتَّى

يَطْهُرْنَ} وقوله: "وتغتسل" دل عليه قوله تعالي: {فَإذا تَطَهَّرْنَ} وقوله: "أو تيمم للعذر" قد قدمنا الكلام عليه. قوله: "وندب أن تتعاهد نفسها بالتنظيف". أقول: غسل النجاسة من البدن والثوب بعمومات القرآن كقوله تعالي: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4 – 5] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، وورد في السنة ما يؤيد ذلك ويؤكده والحائض من جملة من يشمله الخطاب وأما كونه يندب لها أن تتوضأ فليس على ذلك دليل والوضوء عبادة شرعية فلا يشرع لغير ذلك وأما كونها تذكر الله تعالي فذلك داخل تحت العمومات من الكتاب والسنة القاضية بمشروعية الذكر والحائض داخله تحت عمومات الخطاب ولكنها لا تقرأ القرآن كما تقدم الكلام على ذلك. قوله: "وعليها قضاء الصيام لا الصلاة" أقول: هذا معلوم بالأدلة الصحيحة وعليه كان العمل في عصر النبوة وما بعده وأجمع عليه سلف هذه الأمة وخلفها سابقها ولاحقها ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف وأما الخوارج الذين هم كلاب النار فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع. [فصل: والمستحاضة كالحائض فيما علمته حيضا وكالطاهر فيما علمته طهرا ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا ولا تصلي بل تصوم أو جوزته انتهاء حيض وابتداء طهر لكن تغتسل لكل صلاة إن صلت وحيث تصلي توضأ لوقت كل صلاة كسلس البول ونحوه ولهما جمع التقديم والتأخير والمشاركة بوضوء واحد وينتقض بما عدا المطبق من النواقض وبدخول كل وقت اختيار أو مشاركة] . قوله: فصل: "والمستحاضة كالحائض" الخ. أقول: قد قدمنا لك قريبا ما يدفع تحير المستحاضة ويقطع عرق شكها ويدفع جميع وسوستها. وإذا عرفت ذلك حق معرفته علمت أنها لا تكون في بعض أحوالها مجوزة لكون دمها حيضا لكونه غير حيض لأنها إذا لم يحصل لها التمييز لصفة الدم رجعت إلي عادتها إن

كانت قد استقرت لها عادة أو إلي عادة النساء من قرائبها إن لم تكن قد استقرت لها عادة ومع الاختلاف ترجع إلي غالبهن ومع عدم الغالب تحيض ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فلا تكون متحيرة أبدا بل هي في استحاضتها على بيان من أمرها ووضوح من حالها. وبهذا تعرف الكلام على قوله: "ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا" إلخ وإذا تقرر لك هذا علمت أن إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة مبني على ثبوت اللبس عليها ولا لبس. وقد وردت أحاديث أكثرها في سنن أبي دأود في غسل المستحاضة وقد صرح جماعة من الحفاظ بانها لا تقوم بها الحجة وعلى فرض أن بعضها يشهد لبعض فهي لا تقوى على معارضة ما في الصحيحين وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم لها بالغسل إذا أدبرت الحيضة فقط. والحاصل أن مثل هذا التكليف الشاق لا يجوز الثباته بغير حجة أوضح من الشمس فكيف يجوز إثباته بما هو ضعيف لا تقوم به حجة هذا على تقدير عدم وجود ما يعارضه فكيف وقد عارضه ما هو في الصحة في أعلى المراتب مع مطابقته لما بنيت عليه هذه الشريعة المباركة من التيسير وعدم التعسير والتبشير وعدم التنفير كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" [البخاري "4344 – 4345"، مسلم "71/1773"، أحمد "4/409"] ، وقال: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة" [البخاري "39"، النسائي "8/121"و "8/122"] ، وقال: "بعثت بالشريعة السمحة السهلة". ومع هذا فإثبات الغسل عليها لكل صلاة أو للصلاتين مبني على التباس الأمر عليها وقد أرشدها الشارع إلي ما يرفعه ويدفعه كما قدمنا فإن أرادت أن تعذب نفسها بالشك والوسوسة فعلى نفسها براقش تجني لأنها مع تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة لا تكون إلا حائضا أو غير حائض وعليها ما تستطيع ويدخل في وسعها من تطهير بدنها وثوبها من دم الاستحاضة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة كذلك لا دليل تقوم به الحجة في إيجاب الوضوء عليها لكل صلاة. وأما الحكم عليها بأنه ينتقض وضوءها بدخول كل وقت اختيار أو مشاركة فمن التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية لمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة. [فصل: والنفاس كالحيض في جميع ما مر وإنما يكون بوضع كل الحمل متخلقا عقيبه دم ولا حد لأقله وأكثره أربعون فإن جأوزها فكالحيض جأوز العشر ولا يعتبر الدم في انقضاء العدة به] .

قوله: "فصل والنفاس كالحيض" الخ. أقول: هذا صحيح وأما اشتراك أن يكون متخلقا عقيبه دم فإن كان النفاس معنى شرعي يفيد هذا الاشتراط فذاك وإن لم يكن له معنى شرعي فالمرجع لغة العرب فإن ثبت فيها ما يدل على ذلك كان لهذا الاشتراط وجه وإلا فلا. قوله: "وأكثره أربعون يوما" أقول: قد تعاضدت الأحاديث الواردة بالأربعين وفي بعضها "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للنساء في نفاسهن أربعين يوما" أخرجه الحاكم وصححه وأخرجه البيهقي من طريق أخرى. وقد ذكرنا في شرح المنتقى ما ورد في الباب وأما تضعيف من ضعف حديث أم سلمة بمسة الأزدية والقول بأنها مجهولة فلا نسلم جهالة عينها فقد روي عنها كثير بن زياد والحكم بن عتيبة وزيد بن علي بن الحسين بن علي وغيرهم وقد أثنى على حديثها البخاري وصحح الحاكم إسناده فالقول بأن أكثر أيام النفاس أربعون يوما هو أعدل الأقوال وأحسنها فإذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت وإن لم تره فهي نفساء حتى تنقضي الأربعون ثم لا حكم لما خرج من الدم بعد ذلك.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة مدخل ... كتاب الصلاة [فصل يشرط في وجوبها عقل وإسلام وبلوغ باحتلام أو إنبات أو مضي خمس عشرة سنة أو حبل أو حيض والحكم لأولهما. ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب كالتأديب] . قوله: فصل: "يشترط في وجوبها عقل". أقول: للإجماع على أن الصلاة وغيرها من الحكام التكليفية لا تجب على المجنون وحديث "رفع القلم عن ثلاث" [أبو دأود "4398"، النسائي "3432"، ابن ماجة "2041"] ، قد روى من طرق يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فمن لا يكون عاقلا لا يتوجه إليه خطاب الشرع ما دام غير عاقل فلا يجب عليه الصلاة فجعل العقل شرطا للوجوب صحيح وهو مطابق لما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط أنه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده لأن الصلاة لا توجد بوجود نفس العقل وإن وجد مجرد طلبها منه وإيجابها عليه وهي تنتفي

بانتفاء العقل أعني الصلاة الشرعية فلا تجب على غير عاقل ولا تطلب منه. وأما جعله للإسلام شرطا للوجوب فمخالف لما هو متقرر عنده وعنده من يقول بخطاب الكفار بالشرعيات وقد حكى بعض أهل الأصول أن ذلك إجماع أعني كونها واجبة عليهم وأنهم يعاقبون على تركها في الآخرة. وأما جعله البلوغ شرطا للوجوب فحق للأدلة الدالة على رفع قلم التكليف عن الصبيان وللإجماع على ذلك وكونه يحصل باحد الأسباب التي ذكرها صواب أيضا. واعلم أن الجلال رحمه الله قد جاء في شرحه في هذه الشروط والعلامات بمناقشات للمصنف خرجت به إلي خلاف الإجماع في غير موضع بل إلي خلاف ما هو معلوم بضرورة الشرع فلا نطيل الكلام معه في ذلك فإن بطلان ما ذكره لا يخفى على عارف وقد اعترضه الأمير رحمه الله في حاشيته بما يكشف بعض قناع ما لفقه من الهذيان الذي لم يجر على شرع ولا عقل. قوله: "ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب كالتأديب". أقول: أما الرق المحكوم له بالإسلام فإجباره على فعل الصلاة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيده أخص الناس بإجباره على ذلك وقد ورد الشرع بأنه يحده سيده إذا ارتكب ما يوجب حدا فهكذا يجبره سيده إذا ترك واجبا من غير فرق بين الصلاة وغيرها. وأما ابن العشر فقد ورد النص بذلك وأما الاستشكال بانه كيف يضرب وهو غير مكلف فنقول المكلف بذلك وليه والشرع قد أباح ضربه لذلك كما يباح ضربه إذا أراد الإقدام على قتل من لا يجوز قتله أو أخذ ماله. وأما قوله: "وكالتأديب" فإن أراد أن التأديب أصل وإجباره على الصلاة فرع فباطل وإن أراد تنظير أحد الأمرين بالآخر فلم يرد ما يدل على كون هذا التأديب مندوبا فضلا عن كونه واجبا. [فصل "وفي صحتها ستة: الأول: الوقت وطهارة البدن من حدث ونجس ممكني الإزالة من غير ضرر. الثاني: ستر جميع العورة في جميعها حتى لا ترى إلا بتكلف وبما لا يصف ولا تنفذه الشعرة بنفسها. وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت السرة ومن الحرة غير الوجه والكفين وندب للظهر والهبرية والمنكب. الثالث: طهارة كل محمولة وملبوسة وإباحة ملبوسة وخيطه وثمنه المعين وفي

الحرير الخلاف فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه فإن خشي ضررا أو تعذر الإحتراز صحت بالنجس لا الغصب إلا لخشية تلف وإذا التبس الطاهر بغيره صلاها فيهما وكذا ماءان مستعمل أو نحوه فإن ضاقت تحرى وتكره في كثير الدرن وفي المشبع صفرة وحمرة وفي السرأويل والفرو وحده وفي جلد الخز. الرابع: إباحة ما يقل مساجده ويستعمله فلا يجزىء قبر وسابله عامره ومنزل غصب إلا لملجىء أحدهما ولا ارض هو غاصبها وتجوز فيما ظن إذن مالكه وتكره على تمثال حيوان كامل إلا تحت القدم أو فوق القامة وبين المقابر ومزاحمة نجس لا يتحرك بتحركه وفي الحمامات وعلى اللبود ونحوها. الخامس: طهارة ما يباشره أو شيئا من محموله حاملا لا مزاحما وما يتحرك بتحركه مطلقا وإلا أومأ لسجوده السادس تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها وإن طلب إلي آخر الوقت وهو على المعاين ومن في حكمه وعلى غيره في غير محراب الرسول صلى الله عليه وسلم الباقي التحري لجهتها ثم تقليد الحي ثم المحراب ثم حيث يشاء آخر الوقت. ويعفى لمتنفل راكب في غير المحمل ويكفي مقدم التحري على التكبيرة إن شك بعدها أن يتحرى أمامه وينحرف ويبني ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في الوقت إن تيقن الخطأ كمخالفة جهة إمامه جأهلا. ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث وفاسق وسراج ونجس في القامة ولو منخفضة. وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة ثم عود ثم خط"] . قوله: "وفي صحتها ستة الأول الوقت". أقول: اعلم أن الأسباب والشروط والموانع من أحكام الوضع والمرجع في حقائقها إلي ما دونه أئمة الأصول لأن البحث أصولي وقد ذكر أهل الأصول في ذلك ما اصطلحوا عليه فقالوا الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوه كالوضوء فإنه شرط للصلاة يؤثر عدمه في عدمها فلا تصح بغير وضوء ولا يؤثر وجوده في وجودها فإنه لا يؤثر مجرد فعل الوضوء في وجود الصلاة. وأما السبب فهو ما يؤثر وجوده في وجود المسبب وعدمه في عدمه. وإذا عرفت هذا علمت أن الوقت سبب لا شرط لأنه يؤثر وجوده في وجود المسبب وهو إيجاب فعل الصلاة ويؤثر عدمه في عدمه فإنها لا تجب الصلاة قبل دخول وقتها.

وذكر بعض أهل الأصول في حقيقة السبب أنه ما يؤثر وجوده في وجود المسبب ولا يؤثر عدمه في عدمه. قوله: "وطهارة البدن من حدث ونجس ممكن الإزالة". أقول: قد عرفناك ان الشرط هو ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوده فلا يثبت إلا بدليل يدل على أن المشروط يعدم بعدمه وذلك أما بعبارة مفيدة لنفي الذات والصحة مثل أن تقول لا صلاة لمن لا يفعل كذا أو لمن فعل كذا أو تقول لا تقبل صلاة من فعل كذا أو من لا يفعل كذا ولا تصلح صلاة من فعل كذا أو من لم يفعل كذا وأما مجرد الأوامر فغاية ما يدل عليه الوجوب والواجب ما يستحق فاعله الثواب بفعله والعقاب بتركه وذلك لا يستلزم أن يكون ذلك الواجب شرطا بل يكون التارك له آثما وأما أنه يلزم من عدمه العدم فلا. وهكذا يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد المرادف للبطلان إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته أو لجزئه لا لأمر خارج عنه. إذا عرفت هذا علمت أن طهارة البدن من الحدثين شرط الصلاة لوجود الدليل المفيد للشرطية وأما طهارته من النجس فإن وجد دليل يدل على أنه لا صلاة لمن صلى وفي بدنه نجاسة أو لا تقبل صلاة من صلى وفي بدنه نجاسة أو وجد نهى لمن في بدنه نجاسة أن يقرب الصلاة وكان ذلك النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان صح الاستدلال بذلك على كون طهارة البدن عن النجاسة شرطا لصحة الصلاة وإلا فلا وليس في المقام ما يدل على ذلك فإن حديث الأمر بالإستنزاه من البول وأن عامة عذاب القبر منه ليس فيه إلا الدلالة على وجوب الاستنزاه فيكون المصلي مع وجود النجاسة في بدنه آثما ولا تبطل صلاته. قوله: "الثاني ستر جميع العورة". أقول: الأدلة الصحيحة قد دلت على وجوب ستر العورة في الصلاة وفي غيرها ولكن هذا الدليل الدال على الوجوب لا يدل على الشرطية كما عرفناك وأما ما ورد من "أن الله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار" [أبو دأود "641"، الترمذي "377"، أحمد "6/150، 218، 259"، ابن ماجة"655"] ، ونحوه قد عورض بما ورد من نفي قبول صلاة شارب الخمر وصلاة الآبق مع أنها تصح صلاتهما ولا وجه لهذه المعارضة لأن نفي القبول يستلزم نفي الصحة فإن ورد دليل يدل على صحة صلاة من ورد الدليل بأن الله لا يقبل صلاته كان ذلك مخصصا له فيكون نفي القبول في حقه مجازا عن عدم توفير الثواب. قوله: "وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت السرة". أقول: العورة ينبغي الرجوع في تحقيقها وتقديرها إلي ما ورد في الشرع فإن ثبت ذلك في الشرع وجب تقديمه والرجوع إليه لأن الحقيقة الشرعية مقدمة على غيرها. وإن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية وجب الرجوع إلي معناها وتقديرها عند أهل اللغة

لوجوب حمل كلام الشارع على اللغة إذا لم يتقرر في ذلك عرف شرعي. وقد اتفق الشرع واللغة على أن القبل والدبر عورة من الرجل وزاد الشرع على الفخد فأخرج أبو دأود وابن ماجة والحاكم والبزاز من حديث علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلي فخذ حي ولا ميت" وفي إسناده ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت ولم يسمع منه قال أبو حاتم في العلل إن الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان وفيه علة أخرى وهي أن حبيبا رواه عن عاصم ولم يسمع منه. وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه عن محمد بن جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" ورجاله رجال الصحيح غير أبي كثير وقد روي عنه جماعة وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه تعليقا. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" [الترمذي "2796"] ، وفي إسناده يحيى القتات وفيه ضعيف. وأخرج أحمد وأبو دأود والترمذي عن جرهد الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "غط فخذك فإن الفخذ عورة" [أحمد "3/478"، أبو دأود "4014"، الترمذي "2798"] ، وصححه ابن حبان وعلقه البخاري في صحيحه. فهذه الأحاديث قد دلت على أن الفخذ عورة وإليه ذهب الجمهور وذهب أحمد ومالك في رواية عنه أهل الظاهر وابن جرير والإصطخري إلي أن العورة القبل والدبر وتمسكوا بأحاديث فيها دلالة على أن الفخذ ليس بعورة وذلك كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كشف فخذه في خيبر وحديث أنه كان كاشفا لفخذه ثم لما دخل عثمان غطاها ولا يصلح مثل ذلك لمعارضة هذه الأحاديث. أما الأول فقد اختلفت فيه الروايات هل هو الذي حسر الثوب عن فخذه أو انحسر الثوب بنفسه وأيضا تلك الحالة حالة حرب يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها. وأما الحديث الثاني فيمكن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد كشفه ولهذا غطاه وليس بعد التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الفخذ عورة شيء. ولم يثبت ما يدل على أن الركبة عورة بل ورد ما يدل على انها ليست بعورة كما في حديث "إذا زوج أحدكم خادمته عبده أو أجيره فلا ينظرن إلي ما دون السرة وفوق الركبة" [أبو دأود "4113 و 4114"] ، أخرجه أبو دأود وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قوله: "ومن الحرة غير الوجه والكفين". أقول: قد دل الدليل على أن هذا يجب عليها ستره من الرجال ولا يجوز لهم النظر إليه وأما كون صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع النساء أو مع زوجها أو محارمها فغير مسلم وغاية ما ورد في ذلك حديث "إن الله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار" كما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث عائشة فقد أعل بالوقف قال الدارقطني الوقف أشبه

وأعل أيضا بالإرسال كما قال الحاكم وغايته أنها لا تصح صلاتها إلا بستر رأسها لأن الخمار هو ما يستر به الرأس وليس فيه زيادة على ذلك. وأما حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصل المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار فقال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" [أبو دأود "640"] ، أخرجه أبو دأود والحاكم وقد أعل بالوقف قال ابن حجر وهو الصواب قال أبو دأود روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة ولم يذكر واحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم يروونه عن أم سلمة انتهى. فهذا الحديث لا تقوم به حجة لكونه من قول أم سلمة ولو سلمنا أن العمل على رواية من رفعه كما يقوله أهل الأصول فلا أقل من ان يكون هذا التفرد علة تمنع من انتهاضه للحجية. قوله: "وندب للظهر والهبربة والمنكب". أقول: لا دليل على ذلك فإن الندب حكم شرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل وقد استدل على ندب ستر الظهر والمنكب بحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" [البخاري "359"، مسلم "516"، أبودأود "626"، النسائي 770"] . وهو في الصحيحين وغيرهما والعاتق هو ما بين المنكبين إلي أصل العنق فليس فيه دليل على ستر الظهر وأيضا ليس المقصود من الحديث ستر المنكبين بل المراد منه أن يأمن من استرخاء الثوب وسقوطه وقد ثبت ما يفيد هذا المعنى من حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بطرفيه" [البخاري "360"، أبو دأود "628"] ، فليس المراد بالمخالفة إلا ما ذكرنا لا الستر للمنكب. وأيضا قد ثبت من حديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به" [البخاري "1/472"، مسلم "3010"، أب دأود "634"] . ويالله العجب من جعل ستر الهبريتين مندوبا فإنه لم يكن ذلك من رأي مستقيم فضلا عن أن يكون عن دليل. قوله: "الثالث طهارة محموله وملبوسه" أقول: قد قدمنا لك أن الشرطية التي يستلزم انتفاؤها انتفاء المشروط لا تثبت إلا بدليل خاص وهو ما قدمنا في طهارة البدن ولم يأت في طهارة الثياب حال الصلاة إلا ما غايته الأمر بالطهارة وذلك لا يستلزم الشرطية أصلا فجعل طهارة المحمول والملبوس شرطا من شروط الصحة ليس كما ينبغي. وأشف ما استدلوا به حديث "أنه صلى الله عليه وسلم خلع نعله في الصلاة لما أخبره جبريل بأن فيها قذرا" [أحمد 3/20، 90"، أبو دأود "650"] ، ولا يخفاك أن هذا مجرد فعل يقصر عن الدلالة على الوجوب فضلا عن الدلالة على الشرطية.

ثم القائل بأن طهارة الثياب ليست بشرط هو أحق بالإستدلال بهذا الحديث لأنه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعله وبنى على ما قد فعله من الصلاة قبل خلعه فلو كان وجود النجاسة والملبوس والمحمول يوجب بطلان الصلاة لما بنى صلى الله عليه وسلم على ما قد كان صلى. قوله: "وإباحة ملبوسه وخيطه وثمنه المعين" أقول: تخصيص الملبوس باشتراط الحل والإباحة دون المحمول مبني على اصطلاح وقع للمشتغلين بالفقه في هذه الديار وهو خطأ وقد بني عليه الخطأ. ولا بد من ان يكون ما دخل به المصلى في صلاته مما يجعله على بدنه كائنا ما كان حلالا فإن كان مغصوبا أو بعضه فعليه إثم الغصب وأما أنها لا تصح الصلاة فيه فمبني على ورود دليل يدل على ذلك نعم قد انضم إلي إثم النصب إثم دخوله في الصلاة بما هو مأمور بخلافه وإذا صح حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد بلفظ "من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاته ما دام عليه" [أحمد "98"] ، ثم أدخل إصبعه في أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على عدم صحة صلاة من كان عليه شيء غير حلال وأما ما قيل إن ذلك تشديد كسائر ما ورد فيه الوعيد بنفي القبول من العاصي فمردود بل الواجب علينا تفسير نفي القبول بالمعنى الظاهر العربي. وإذا ورد ما يدل على صحة صلاة من ورد النص بنفي قبولها منه كان ذلك مخصصا له من العموم كما تقدم. قول: "وفي الحرير خلافة". أقول: من قال بتحريم لبسه مطلقا كان لبسه في حال الصلاة أحق بالتحريم لأنه دخل في عبادة الرب سبحانه لابسا ما حرمه وتوعد على لبسه فعليه إثم فاعل المحرم وعقوبته وأما أن صلاته تبطل فهذا يحتاج إلي دليل يدل على ذلك ولا يدل على ذلك إلا ما كان مفيدا لنفي صحة صلاة من صلى لابسا للحرير كما قدمنا بيان ذلك في أول هذا الفصل. قوله: "فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه". أقول: قد جعل الله في الأمر سعة وفي الشريعة الواردة باليسر ما يخفف الخطب على هذا الذي لم يجد ما يستر به عورته إلا ما كان متنجسا فيدخل في الصلاة على تلك الهيئة المنكرة كاشفا سوءته ثم يترك بعض أركانها ولا شك أن الصلاة بالثوب المتنجس أهون من ذلك فتكون الصلاة في هذه الحالة في الثوب المتنجس عفوا للضرورة وللوقوع فيما هو أشد مما فر منه وقد جاز أكل الميتة عند عدم وجود ما يسد الرمق والشريعة مهيمنة على رعاية المصالح ودفع المفاسد والمعأدلة بين المفاسد إذا كان ولا بد من الوقوع في واحد منها. وهكذا تجوز الصلاة في الثوب المغصوب إذا كان لا يجد غيره من ثياب ولا شجر يستر عورته وقد اجاز الله مال الغير لسد الرمق وهذا مع عدم خشية الضرر فأما مع خشية التلف فالأمر أوضح ولا وجه للتقيد بخشية التلف وهكذا.

ولا وجه لقوله: "وإذا التبس الطاهر بغيره صلى فيهما" بل يكون اللبس مع عدم وجود غيرهما مسوغا للصلاة بأحدهما للضرورة وأما الصلاة فيهما فذلك يستلزم مفسدة عظيمة ورد النهي عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" [أحمد "2/19 و 41"، النسائي "2/114"، أبو دأود "579"] ، وقوله: "لا ظهران في يوم" والحديثان صحيحان. وأما التباس الماء الطاهر بالمتنجس فيعدل إلي التيمم لأن عدم تميز الطاهر كعدمه فهو غير واجد لماء يرفع به الحدث. قوله: "وفي المشبع صفرة وحمرة". أقول: هذا المقام من المعارك والحق أنه يتوجه النهي عن المعصفر إلي نوع خاص من الأحمر وهو المصبوغ بالعصفر لأن العصفر يصبغ صباغا أحمر فما كان من الأحمر مصبوغا بالعصفر فالنهي متوجه إليه وما كان من الأحيمر غير مصبوغ بالعصفر فليس جائزا وعليه يحمل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لبس الحلة الحمراء وقد أطلنا الكلام في شرحنا للمنتفى على هذا البحث وذكرنا الأحاديث المختلفة والكلام عليها والجمع بينها فليرجع إليه. وأما المشبع صفرة فلا يستدل على المنع عن لبسه بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن لبس المعصفر لما قدمنا لك من أن المصبوغ بالعصفر يكون أحمر لا أصفر وهذا معلوم لا شك فيه ولم يرد ما يدل على تحريم الأصفر دلالة يجب المصير إليها ولا سيما وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صبغ بالصفرة ووقع التصريح في بعض الروايات بأنه صبغ بها لحيته وثيابه وكان ابن عمر يفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم. قوله: "وفي السرأويل والفرو وحده" أقول: أما السرأويل فقد أخرج أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات من حديث أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال رسول الله: "تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب" [أحمد (5/264) ] وفي هذا الأذن بلبس السرأويل وهو يستر العورة سترا فوق ستر المئزر وقد وقع الخلاف هل لبسه النبي صلى الله عليه وسلم أم لا مع ثبوت أنه اشتراه وقد ذكرت ما ورد في ذلك في شرحي للمنتقى وقد استدلوا على الكراهة في الصلاة فيه وحده بما رواه أبو دأود عن بريدة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف يتوشح به وأن يصلي في سرأويل ليس عليه رداء" [أبو دأود "636"، وفي إسناده أبو نميلة يحيى بن واضح الأنصاري المروزي وأبو المسيب عبيد الله بن عبد الله العتكي المروزي وفيهما مقال خفيف جدا وقد وثقا وأخرجه أيضا الحاكم ورمز السيوطي لصحته فكان هذا الحديث صالحا للاحتجاج به على الكراهة في السرأويل وحده. وأما الكراهة في الفرو وحده فاستدلوا على ذلك بأنه مظنة لانكشاف العورة ولكن هذه المظنة ترتفع بأن يربطه بخيط أو يزره بشوكة ولعلهم لا يخالفون في زوال الكراهة بهذا.

قوله: "وفي جلد الخز" أقول: قد أنكر بعض المتكلمين على هذا الكتاب وجود دابة تسمى الخز وقال إنه بحث في القاموس وغيره من كتب اللغة وبحث حياة الحيوان فلم يجد ذلك وفيه نظر فإنه قال في المصباح ما لفظه الخز اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها وقال الشيخ دأود في التذكرة في الطب ما لفظه الخز ليس هو الحرير كما ذكره ما لا يسع بل هو دابة بحرية ذات قوائم أربع في حجم السنانير ولونها إلي الخضرة يعمل من جلدها ملابس نفيسة يتدأوى بها ملوك الصين حارة يابسة في الشاتيه ينفع من النقرس والفالج وضعف الباءة والأمراض البلغمية ووبرها يبرىء الجراح ويقطع الدم وضعا ويسد الفتوق أكلا ولبسها يبرىء الجذام والحكة انتهى. فعرفت بهذا اندفاع الاعتراض على المصنف ولكن لا وجه للقول بالكراهة لأن الأصل الحل على ما هو الحق ولا سيما إذا كان هذا الحيوان بحريا لما ورد في خصوص حيوانات البحر من كون ميتها حلالا. قوله: "الرابع إباحة ما يقل مساجده ويستعمله" أقول: لا شك أن من صلى في مكان مغصوب أو استعمل شيئا مغصوبا فقد فعل محرما ولزمه إثم الحرام وأما كون ذلك يمنع من صحة الصلاة فلا بد فيه من دليل خاص كما قدمنا تحقيقه وما قيل من انه عصي بنفس ما به أطاع فغير مسلم ولو سلم لم يكن دليلا على عدم صحة الصلاة المفعولة في المكان الغصب. قوله: "فلا يجزىء قبر وسابلة". أقول: استدلوا على هذا بحديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله" رواه عبد بن حميد في مسنده والترمذي ["346"] ، وابن ماجة ["746"] قال الترمذي وإسناده ليس بذاك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظة وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد والعمري ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى كلام الترمذي. قال البخاري وابن معين زيد بن جبيرة متروك وقال أبو حاتم لا يكتب حديثه وقال النسائي ليس بثقة وصحح الحديث ابن السكن وإمام الحرمين. فأما إمام الحرمين فليس من أهل هذا الشأن وأما ابن السكن فكيف يصحح ما كان في إسناده متروك. ولكنه قد ورد في القبر ما تقوم به الحجة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما [مسلم "98/972"، أبو دأود "3229"، الترمذي "1050"] ، من حديث أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلي القبور ولا تجلسوا عليها" وأخرج أحمد ["3/183" و96"] ، وأبو

دأود ["492"] ، والترمذي ["317"] ، وابن ماجة ["745"] ، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وأخرج مسلم ["23/532"] ، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وورد في الحمام غير حديث ابن عمر المشتمل على السبعة المواطن وهو حديث أبي سعيد المذكور قبل هذا. وورد في أعطان الإبل ما أخرجه أحمد ["2/491"] ، والترمذي ["348"] ، وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". وكان على المصنف ومن تابعه أن يذكروا مع القبر والطريق بقية تلك المواطن السبعة. قوله: "ومنزل غصب إلا لملجىء ولا أرض هو غاصبها". أقول: قد أغنى عن هذا قوله: "وإباحة ما يقل مساجده" فإنه يفيد المنع من الصلاة في المنزل الغصب وفي الأرض الغصب ولا وجه لتقييد أرض الغصب بكون المصلي هو غاصبها فلا فرق أن يغصبها هو أو يغصبها غيره لأن جميع ذلك غير مباح للمصلي ولا حلال له. وأما جواز الصلاة في الأرض التي يظن إذن مالكها فليس بصحيح لأن الظن لا يحلل مال الغير ولا يجوز به استعماله. قوله: "وتكره على تمثال حيوان كامل". أقول: قد وردت الأدلة الصحيحة القاضية بتحريم التصوير والنهي عنه وشدة الوعيد عليه وورد ما يدل على تغييره وعدم تركه في البيوت ومن ترك ذلك فقد ترك ما عليه من إنكار المنكر ولزمه من الإثم ما يلزم تارك المنكر وأما الصلاة عليه أو في المكان الذي هو فيه فلم يأتنا الشارع في ذلك بشيء ولعله وجه استثناء ما تحت القدم ما أخرجه أبو دأود والترمذي من حديث أبي هريرة "أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من القرام الذي في بيت عائشة وسادتين توطآن" [أحمد "2/305" و 478"،أبو دأود "4158"، الترمذي "2807"] . قوله: "وبين المقابر" أقول: قد قدمنا الأدلة الصحيحة القاضية بالنهي عن الصلاة إلي القبر والنهي عن الصلاة في المقبرة وهي طية بين المقابر ولا وجه للفرق بين الصلاة على القبر والصلاة بين المقابر وجعل الأول مما لا يجزىء الصلاة وجعل الثاني مكروها فقط بل الكل منهي عنه ممنوع منه وإن كان في الصلاة على نفس القبر زيادة على الصلاة إليه والصلاة بين المقابر ولكن هذه الزيادة لم يعتبرها الشارع بل نهى عن الصلاة في المقبرة وذلك أعم من أن تكون الصلاة على نفس القبر أو بينه وبين قبر آخر أو إلي قبر إذ يصدق على الجميع أنه فعل الصلاة في المقبرة. وإذا عرفت هذا علمت أنه كان يغني المصنف أن يقول: "ولا يجزىء في مقبرة" ويحذف ذكر بين المقابر.

قوله: "ومزاحمة نجس لا يتحرك بتحركه" أقول: لا وجه للحكم بكراهة ذلك حيث لم يكن مما يتحرك بتحرك المصلي فإنه منفصل عنه فلا تحريم ولا كراهة وإن كان متصلا به أو يتحرك بتحركه فلا وجه لجعله مكروها فقط على مذهب المصنف بل هو محرم ولا تجزىء الصلاة معه فعرفت بهذا أنه لا وجه لذكر هذا ولا حاجة إليه على كل تقدير. قوله: "وفي الحمام". أقول: قد تقدم أن الحمام أحد السبعة المواطن التي ورد النهي عن الصلاة فيها وورد أيضا ذكر الحمام في حديث آخر كما سلف فلا وجه لجعل الصلاة على القبر وفي الطريق مما لا تجزىء الصلاة فيه وجعل الحمام مما تكره الصلاة فيه فقط فإن هذا تلاعب بالأدلة على غير صواب ولم يرد ما يصرف النهي عن الصلاة في الحمام إلي مجرد الكراهة حتى يكون ذلك وجها لكلام المصنف. وينبغي النظر فيما يصدق عليه مسمى الحمام فالظاهر أنه الذي يغتسل فيه ويوقد عليه فلا يدخل في ذلك الصلاة في مكان منفرد عنه كالمكان الذي يسميه الناس المخلع. قوله: "وعلى اللبود ونحوها". أقول: ليس على هذا أثارة من علم أصلا ولا يحتاج إلي التبرع بالأدلة الدالة على خلافه فإن ذلك إنما يكوى عند أن يكون في المسألة اشتباه وأما هذه فليست بهذه المنزلة وما هذه بأولة مسألة لم يدل عليها دليل ومن غرائب الأكابر من أهل العلم أنه روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا الصلاة على الطنفسة وهي البساط الذي تحته خمل محدثة وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض وهذه المقالة من هؤلاء لا مستند لها إلا مجرد الوسوسة والشكوك الخالية عن الدليل. وأما الإمامية وإن كانوا ليسوا بأهل للكلام معهم فمنعوا من صحة الصلاة على ما لم يكن أصله من الأرض قوله: "الخامس طهارة ما يباشره". الخ. أقول: جعل المصنف رحمه الله طهارة ملبوس المصلي ومحموله شرطا مستقلا كما سبق وجعل طهارة المكان الذي يصلي فيه شرطا آخر كما هنا وجعل طهارة البدن شرطا مستقلا كما تقدم وهذا تطويل وتكثير وشغلة للحيز فإنه جعل شروط الصحة ستة ثم جعل طهارة البدن والملبوس والمكان ثلاثة منها وكان يغنيه عن هذا كله أن يقول طهارة بدن المصلى وثيابه ومكانه ويجعل ذلك شرطا واحدا. وإذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام هنا كالكلام على طهارة البدن والثياب فإنهم لم يستدلوا

على طهارة المكان إلا بمثل قوله تعالي: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] الآية وبقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] وقد عرفناك أن الشرط لا يثبت إلا بدليل خاص وأن دليل الوجوب لا يثبت به الشرطية وفيما أسلفناه كفاية فارجع إليه. قوله: "السادس: تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها". أقول: قال الله تعالي: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وشطره سواء كان جهته أو نحوه أو تلقاءه أو قبله على اختلاف تفاسير السلف للشطر يدل على أن استقبال الجهة يكفي من الحاضر والغائب إلا إذا كان حال قيامه إلي الصلاة معاينا للبيت لم يحل بينه وبينه حائل إلا إذا كان في بعض بيوت مكة أو شعابها أو فيما يقرب منها وكان بينه وبين البيت حائل حال القيام إلي الصلاة فإنه لا يجب عليه أن يصعد إلي مكان آخر يشاهد منه البيت بل عليه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام وليس عليه غير ذلك ولم يأت دليل يدل على غير هذا. وأما ما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس مرفوعا "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" فمع كونه ضعيف الا ينتهض للاحتجاج به هو أيضا دليل على ما ذكرنا لأن من كان في المسجد فهو معاين المبيت ولا حائل بينه وبينه وقد جعل البيت قبلة لأهل الحرم وذلك يدل على أنه لا يجب على أهل الحرم إلا استقبال الجهة وأما غيرهم فذلك ظاهر. والمراد ما بين المشرق والمغرب فإذا توجه إلى جهة التي بينهما فقد فعل ما عليه لحديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة" أخرجه الترمذي [342,343] وابن ماجه [1011] من حديث أبي هريرة وأخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر ولا يحتاج المصلي أن يرجع في أمر القبلة إلي تقليد أحد من الأحياء ولا إلي المحاريب المنصوبة في المساجد فمحرابه ما بين المشرق والمغرب. وكل عاقل يعرف جهة المشرق والمغرب ولا يخفى ذلك إلا على مجنون أو طفل. قوله: "ويعفى لمتنفل راكب" أقول: قد دلت على هذا الأدلة الصحيحة الثابتة في الصححيحين وغيرهما إلا أن قوله: "في غير المحمل" إن كان وقوفا مع النص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الاستقبال لراكب الدابة إذا أراد أن يتنفل فلا شك أن الأمر كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر من كان راكبا في محمل وإن كان يصدق عليه أنه راكب للدابة وإن كان لكون من في المحمل يمكنهم الاستقبال فهذا مسلم وغيره مثله فإنه إذا تمكن الراكب من الاستقبال استقبل سواء كان في محمل أو في غير محمل وإن كان لا يتمكن من الاستقبال كان له أن يتنفل إلي غير القبلة سواء كان في محمل أو في غيره فلا وجه لهذا الاستثناء. قوله: "ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في الوقت". أقول: حديث السرية يرد ذلك وهو ما أخرجه أبو دأود الطيالسي وعبد بن حميد

والترمذي وضعفه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم والعقيلي وضعفه أيضا الدارقطني وابو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما اصبحنا إذا نحن قد صلينا إلي غير القبلة فقلنا يا رسول الله صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله سبحانه {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، فقال: "مضت صلاتكم". وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم تعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة ها هنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا وقال بعضنا القبلة ها هنا من الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا فلما اصبحوا وطلعت االشمس اصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس بسند ضعيف نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء نحوه فهذه الأحاديث تدل على عدم وجوب الإعادة على المخطىء لا في الوقت ولا بعده وحديث أهل قباء المتفق عليه [البخاري "403 و 4491 و 4494 و 7151"، النسائي "2/61"، أحمد "2/16، 26، 105"، الترمذي "341"] ، أنهم كانوا في حال الصلاة مستقبلين بيت المقدس فلما سمعوا خبر المخبر لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقبل الكعبة استداروا إلي الكعبة وقررهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يأمرهم بالإعادة مع أنهم قد صلوا بعض الصلاة إلي غير القبلة. قوله: "ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث". أقول: استدلوا على ذلك بما رواه في جامع الأصول عن كتاب رزين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا خلف النيام ولا المتحلقين ولا المتحدثين"، وقد عرفناك أن ما تفرد به رزين لا يجوز العمل به ولا يصلح للاحتجاج لأنه جعل كتابه لجمع ما في الست الأمهات ثم ذكر أحاديث ليست فيها ولا يعرف من خرجها من غيرهم وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث أخرجه أبو دأود في سننه ["694"] ، ولم يوجد في السنن فينظر ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيت أن أصلي خلف المتحدثين والنيام" وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وفيه مقال وهو ثقة من رجال الصحيح. وأخرج ابن عدي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة خلف النائم قال ابن حجر في فتح الباري وإسناده واه. وأخرج البزار من حديث على بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي إلي رجل فأمره أن يعيد الصلاة وفي إسناده عبد الأعلى التغلبي وهو ضعيف. هذا حاصل ما في الباب والعلة في الكراهة اشتغال قلب المصلي إذا كان أمامه شيء مما

في الحديث وفي النائم قد يخرج منه شيء يؤذي المصلي وقد عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنبجانية التي بعث بها إلي بعض الصحابة "إنها ألهته في صلاته" "البخاري "373"، مسلم "61، 36/556"] ، وهو حديث صحيح وقال في قرام عائشة "أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصأويره تعرض لي في صلاتي" وهو في الصحيح [البخاري "1/374" [، ولا جامع بين هذا وبين الأحاديث الواردة فيما يقطع الصلاة كالكلب والمرأة الحائض فإن هذا الذي نحن بصدده في كراهة استقبال الشيء المستقر في قبلة المصلي وأحاديث القطع في الشيء الذي يمر بين يديه. ويعارض ما ورد في المنع من استقبال النائم ما ثبت في الصحيح [البخاري "382"، مسلم "512" أحمد "6/126"، أبو دأود "712، 714"، النسائي "1/101 – 102"، ابن ماجة "956"] ،من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة في قبلته والظاهر من كونها معترضة أنها كانت نائمة. ولهذا أورد في لفظ في الصحيحين [البخاري "512"، مسلم "268/512"] : "فإذا أراد أن يوتر أيقظني". ولا شك أن اشتغال قلب المصلي باستقبال المرأة أكثر من اشتغاله باستقبال الرجل وأما توسيع دائرة الكلام إلي كراهة استقبال الفاسق والسراج والنجس فليس كما ينبغي ولو قال المصنف رحمه الله ويكره استقبال ما يلهي لكان ذلك أخصر وأشمل وأوفق بالأدلة. قوله: "وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة" الخ. أقول: هذه السنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة الكثيرة ولا وجه لتخصيص مشروعيتها بالقضاء فالأدلة أعم من ذلك والكلام على مقدار السترة ومقدار ما يكون بينها وبين المصلي مستوفى في كتب الحديث وشرحه وأكثر الأحاديث مشتملة على الأمر بها وظاهر الأمر الوجوب فإن وجد ما يصرف هذه الأوامر عن الوجوب إلي الندب فذاك ولا يصلح للصرف قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يضره ما مر بين يديه" [أحمد "2/249"، ابن ماجة "943"] ، لأن تجنب المصلي لما يضره في صلاته ويذهب بعض أجرها واجب عليه. [فصل وأفضل أمكنتها المساجد وافضلها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله ثم مسجد بيت المقدس ثم الكوفة ثم الجوامع ثم ما شرف عامره. ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات غالبا ويحرم البصق فيها وفي هوائها واستعماله ما علا. وندب توقي مظان الرياء إلا من أمنه وبه يقتدى] . قوله: فصل: "وأفضل أمكنتها المساجد" الخ.

أقول: أما المساجد الثلاثة فقد ورد النص على أن الصلاة فيها أفضل من غيرها مع تفاضلها في أنفسها فأخرج أحمد ["4/5"] ، من حديث ابن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فصلاة فيه أفضل من مائة صلاة في هذا". وأخرج أيضا ابن حبان بلفظ "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة" قال ابن عبد البر اختلفوا على ابن الزبير في رفعه ووقفه ومن رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي. وأخرج ابن ماجه ["1406"] ،من حديث جابر مرفوعا صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ورجال إسناده ثقات ورواه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة". قال البزار إسناده حسن. وفي الصحيحين [البخاري"1132"، مسلم "506/94"] من حديث أبي هريرة "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة". والظاهر أن الصلاة في هذه الثلاثة المساجد تكون أفضل من الصلاة في غيرها بذلك المقدار الذي بينه صلى الله عليه وسلم ولا فرق بين الفرائض والنوافل كما يدل عليه تنكير الصلاة في هذه الأحاديث فلا يرد ما أورده الجلال في شرحه من البحث الذي بحثه ولم يثبت زيادة وأفضل من ذلك كله صلاة الرجل في بيت مظلم حيث لا يراه أحد إلا الله يطلب بها وجه الله ولكنه ثبت في الصحيحين [البخاري"731، 6113، 7290"، مسلم "213/781"] وغيرهما [الترمذي "450"، أبو دأود "1044"، النسائي "3/197 – 198"، أحمد "5/182 و 184 و 186"] ، من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال الترمذي وفي الباب عن عمر وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وعبد الله بن سعد وزيد ابن خالد وأما سائر المساجد فقد ورد ما يدل على فضل الصلاة فيها في الجملة كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ الرجل فأحسن الوضوء ثم خرج إلي الصلاة لا يخرجه" أو قال "لا ينهزه إلا إياها لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" أخرجه الترمذي ["103"] ، وقال حسن صحيح. وأخرج مسلم ["41/251" [، وغيره ["الترمذي "51"، النسائي "1/89"، ابن ماجة "428"] ، من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلي المساجد وانتظار الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط".

وأخرج أبو دأود ["561"] ،والترمذي ["223"] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام يوم القيامة". وورد أيضا "من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى لها" [مسلم "257/654"، أبو دأود "550"، النسائي "2/108"، ابن ماجة "777"] ، الحديث. وورد أيضا "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". وورد أيضا "أن منتظر الصلاة في المساجد في صلاة" [البخاري "659، 3229"، مسلم "5/166 – 167"، أبو دأود "470"] . وورد أيضا عدم الترخيص لمن سمع النداء في حضور المسجد الذي ينادى للصلاة فيه وثبت الحث على بناء المساجد والترغيب في ذلك. وحديث "أحب البلاد إلي الله مساجدها" [مسلم "671"] . وهذه أحاديث معروفة مشهورة وهي تدل على مزيد خصوصية في الفضيلة للمساجد التي يجتمع الناس إليها وينادى للصلاة فيها وهي أخص من كون كل بقاع الأرض مسجدا لحديث "جعلت لي الأرض مسجدا" فهذا هو الوجه لقول المصنف رحمه: "وأفضل أمكنتها المساجد". وأما جعل مسجد الكوفة في الشرف بعد الثلاثة المساجد فلم يثبت ذلك بدليل ولا كان للكوفة مسجد في أيام النبوة وكان الأولى أن يجعل مكان مسجد الكوفة مسجد قباء ومسجد عبد القيس بعد أن يذكر شرف البقاع التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها. وأما شرف الجوامع فإن كان لكثرة الجماعات فيها فليس ذلك بمختص بالمساجد بل صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ثم صلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ثم كذلك كلما كثر الجمع في الجماعة كانت أزكى كما وردت السنة بذلك. وأما قوله: "ثم ما شرف عامره" فليس ذلك بمزية توجب كون المسجد أفضل من غيره فضلا عن كون الصلاة فيه أفضل منها في غيره وما اسمج ما قال الجلال رحمه الله ها هنا من أن الأرض قد جعلها الله مسجدا على السواء وهو أعظم من كل عظيم فترجيح وضع العبد على وضع الرب مما لا ينبغي أن ينسب إلي ذي فهم انتهى. ولا يخفاك أن المساجد التي جعلها العباد هي أحد بقاع الأرض التي جعلها الله مسجدا وليست غيرها ولا خارجة عنها حتى يتم ما قاله وكان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يجعل مكان ما شرف عامره الصلاة في فلاة من الأرض فإنه قد ورد أنها بخمسين صلاة وقد ذكرنا في شرح المنتقي عند ذكر مصنفه لهذا الحديث ما ينبغي الرجوع إليه لما اشتمل عليه من الفائدة. قوله: "ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات". أقول: هي التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما هي لذكر الله والصلاة" [البخاري"6025"، مسلم "100/284"، الترمذي "147"، النسائي "1/175"، ابن ماجة "528"، أحمد "3/110 – 111"] وفي

لفظ: "إنما بنيت لذكر الله والصلاة" والحديث في الصحيح فإن هذا الحصر يدل أنه لا يجوز غير الصلاة والذكر في المسجد إلا بدليل كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في مسجده قبل إسلامهم وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد الحبشة في مسجده ولعبوا فيه بحرابهم وهو ينظر إليهم وفي كلا الفعلين مصلحة ظاهرة عائدة إلي الإسلام أما إنزال وفد ثقيف فلأجل يشاهدون عبادة المسلمين وتواضعهم لله وكثرة ذكرهم له فتلين قلوبهم وأما إنزال وفد الحبشة فلو لم يكن من ذلك إلا المكافأة لملكهم الصالح الذي هاجر إليه المسلمون فأحسن جوارهم وفعل بهم تلك الأفعال الحسنة وقد ثبت أنهم كانوا يتناشدون فيه الأشعار ولهذا قال حسان لعمر قد كنت أنشد وفيه يعني المسجد من هو خير منك. وكان غالب ما يتناشدونه ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد الإسلام وأهله وذم الكفر وأهله وفي ذلك مصلحة ظاهرة وبهذه الخصوصية يمتنع إلحاق غيره من الأشعار به. ومما يدل على جواز تعلم العلم في المساجد وتعليمه ما أخرجه أحمد ["2/350، 418، 527"] ، وأبوا دأود وإسناد رجاله ثقات عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلي ما ليس له". ومما ورد المنع منه في المساجد الحد والقصاص لما أخرجه أحمد ["3/343"] ، وأبو دأود ["4490"] ، والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي من حديث حكيم بن حزام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يستفاد فيها" وإسناده لا بأس به. ومما ورد النهي عنه في المساجد ما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أن يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا لا رد الله عليك". والنهي عن إنشاء الضالة ثابت في الصحيح ومن ذلك حديث واثلة الذي أخرجه ابن ماجه مرفوعا: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر" وإسناده ضعيف ولكن له شاهد عند الطبراني وغيره بسند فيه العلاء بن كثير الشامي وهو ضعيف من حديث مكحول عن أبي الورد وأبي أمامة وواثلة من حديث مكحول عن معاذ وهو منقطع ولابن عدي من حديث أبي هريرة وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف. وأخرج ابن ماجة ["748"] ، من حديث ابن عمر مرفوعا قال: "خصال لا ينبغين في المسجد لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا يقيض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه من أحد ولا يتخذ سوقا" وفي إسناده زيد ابن جبير الأنصاري وهو متروك. ومن جملة ما ثبت المنع منه في المساجد البصق فيها كحديث "البصاق في المسجد

خطيئة وكفارتها دفنها" وهو ثابت في الصحيح ولفظ البخاري ["415"] ، ومسلم ["55/552"] : "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" هكذا لفظ حديث أنس فيهما وفي لفظ لمسلم ["56/552": "التفل" مكان "البزاق" وفي لفظ النسائي ["2/51"] : "البصاق". وأخرج مسلم ["57/553"] ، من حديث أبي ذر مرفوعا: "وجدت في مسأوىء أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". وأخرج مسلم ["59/552"، عن عبد الله بن الشخير قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته تنخع فدلكها بنعله اليسرى وهكذا إذا كان المسجد غير مفروش فإن كان مفروشا بالحصر أو نحوها فلا يتيسر الدفن الذي هو كفارة البصق فيكون خطيئة غير مكفرة. وقد وردت أحاديث في منع البصق في قبلة المسجد ووردت أحاديث في أنه يبصق في ثوبه إذا احتاج إلي ذلك فمن دعت حاجته إلي البصق بصق في ثوبه. قوله: "وندب توقي مظان الرياء". أقول: الرياء من معاصي الله العظيمة وهو الشرك الأصغر فإذا كان له ذريعة وإليه وسيلة فالواجب قطع تلك الذريعة ودفع تلك الوسيلة فالذريعة إلي الحرام حرام والوسيلة إلي الحرام حرام فتوقي مظان الرياء واجب والوقوع فيها حرام ومدافعة النفس عن مثل هذه المعصية من أوجب الواجبات الشرعية وتجنب الأسباب التي تفضي إليها لازم لكل مسلم فلا وجه لجعل ذلك مندوبا كما قال المصنف رحمه الله.

باب الأوقات

[باب الأوقات اختيار الظهر من الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله وهو أول العصر وآخره المثلان والمغرب من رؤية كوكب الليل أو ما في حكمها وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول العشاء وآخره ذهاب ثلث الليل. وللفجر من طلوع المنتشر إلي بقية تسع ركعة كاملة. واضطرار الظهر من آخر اختياره إلي بقية تسع العصر وللعصر اختيار الظهر إلي ما يسعه عقيب الزوال ومن آخر اختياره حتى لا يبقى ما يسع ركعة وكذلك المغرب والعشاء وللفجر إدراك ركعة ورواتبها في أوقاتها بعد فعلها إلا الفجر غالبا. وكل وقت يصلح للفرض قضاء وتكره الجنازة والنقل في الثلاثة وأفضل الوقت أوله"] .

قوله: "اختيار الظهر من الزوال" الخ. أقول: الأحاديث المبينة للأوقات كثيرة جدا اقوالا وأفعالا وتعليما وحاصلها أن أول وقت الظهر الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال وهو أول وقت العصر وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية وأول وقت المغرب غروب الشمس وغروبها يستلزم إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب ويستلزم ظهور النجم الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهدا" فلا مخالفة بين هذه العلامات لدخول وقت المغرب فإنها متلازمة وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول وقت العشاء وآخره نصف الليل ولا وجه لقول المصنف "وآخره ذهاب ثلث الليل" فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم امتداده إلي نصف الليل كما هو ثابت في الصحيحين [البخاري"2/51"، [مسلم "222/640"] ، وهي زيادة يجب قبولها ويتعين المصير إليها. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه لولا أن يشق على أمته لأخرها إلي نصف الليل فدل ذلك على أنها في ذلك الوقت أفضل وأنه وقت لها بل ورد ما يدل على أنه وقتها إلي أن يذهب عامة الليل أي أكثره. وأول وقت الفجر طلوع الفجر وهو يعرفه كل ذي بصر وآخره طلوع الشمس فهذه الأوقات لا ينبغي أن يقع في مثلها خلاف لأن الأدلة عليها أوضح من كل واضح وأظهر من كل ظاهر وقد كرر صلى الله عليه وسلم الأيضاح وعلمهم ما لا يحتاجون بعده إلي شيء وجعل هذه الأوقات منوطة بعلامات حسية يعرفها كل من له بصر صحيح فلا نطيل الكلام في هذا فإن الإطالة لا تأتي بطائل. قوله: "واضطرار الظهر". أقول: الشارع قد بين أول وقت كل صلاة من الصلوات الخمس وبين آخره حسب ما عرفناك ثم بين بأقواله الصحيحة ان الوقت لكل صلاة من تلك الصلوات هو ما بين الوقتين فهذه الأوقات هي التي عينها الشارع للصلوات الخمس ولم يأت عنه أن الأوقات منقسمة إلي قسمين وقت اختبار ووقت اضطرار بل غاية ما ورد عنه في بيان حالة الاضطرار أن من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها فمن كان نائما أو ناسيا أو مغشيا عليه أو نحو ذلك وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أداء لا قضاء وأما من تركها من غير عذر حتى خرج وقتها الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم فهو تارك للصلاة وإن فعلها في وقت صلاة أخرى فكيف إذا تركها حتى خرج وقت الصلاة الأخرى كمن يصلي الظهر وقت اصفرار الشمس فإنه لم يصل أصلا ولا فعل ما فرض الله عليه بل جاء بصلاته في غير وقتها بل في الوقت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وقت صلاة المنافق. ولقد ابتلى زمننا هذا من بين الأزمنة وديارنا هذه من بين ديار الأرض بقوم جهلوا الشرع وشاركوا في بعض فروع الفقة فوسعوا دائرة الأوقات وسوغوا للعامة أن يصلوا في غير أوقات الصلاة فظنوا أن فعل الصلاة في غير أوقاتها شعبة من شعب التشيع وخصلة من خصال المحبة لأهل

البيت فضلوا وأضلوا وأهل البيت رحمهم الله براء من هذه المقالة مصونون عن القول بشيء منها. ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء للعصر بعد الفراغ من صلاة الظهر وللعشاء في وقت المغرب وصار غالب العوام لا يصلي الظهر والعصر إلا عند اصفرار الشمس فيا لله وللمسلمين من هذه الفواقر في الدين. وسيأتيك الكلام في الجمع الذي جعله هؤلاء ذريعة إلي هذه المفاسد السارية إلي ترك الصلوات التي صرح الشارع بأنه "ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها" [أحمد "3/370، 389"، مسلم "82"، أبو دأود "4678"، النسائي "1/232"، الترمذي "2622"، ابن ماجة "1078"] . قوله: "ورواتبها في أوقاتها يعد فعلها إلا الفجر" أقول: رواتب الفرائض كثيرة جدا ومنها ما هو قبل فعل الفريضة ومنها ما هو بعد فعلها فإن أراد الرواتب التي وردت في الأحاديث الصحيحة فهي كما عرفناك وإن أراد ما ورد في حديث ابن عمر المتفق عليه [البخاري "1180 و "1172" و "1165" و "937"، مسلم "729"، أنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة فهذا الحديث قد دل على أنه يصلي قبل الظهر ركعتين فلا يتم قوله إلا الفجر. وإن أراد حديث أم حبيبة الثابت عند الجماعة [مسلم ""103/728"، أبو دأود "1250"، الترمذي "415"، النسائي "1796"، ابن ماجة "1141"] ، إلا البخاري قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة". ثم بينها صلى الله عليه وسلم كما في رواية بعض الجماعة فقال: "أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر". فهذه فيها أربع قبل الظهر [أبو دأود "1251"، النسائي "1795"، ابن ماجة "1161"، الترمذي "424"] . وإن أراد غير هذين الحديثين فمنها ما فيه أربع قبل الظهر وأربع بعدها ومنها ما فيه أربع قبل العصر ومنها ما فيه "أن بين كل إذانين صلاة" [مسلم "838", الترمذي "185", ابن ماجه "1162"] أي بين الإذان والإقامة في جميع الصلوات. وورد في خصوص صلاة المغرب بلفظ: "بين أذاني المغرب صلاة" وورد: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" [البخاري "1183,7368"] وهو في الصحيح. وبالجملة فالمصنفون في الفروع في هذه الديار جعلوا رواتب الفرائض ركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين قبل الفجر ولا راتبة عندهم سوى هذه ولا موجب إلا عدم الإشراف على كتب السنة وهجرها بالمرة وجعلها من كتب الخصوم وليسوا بخصوم لأحد من أهل الإسلام بل هم الجامعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كانوا خصوما بهذا العمل فالويل لمن كانوا خصومه.

وأعجب من هذا أنهم جعلوا الوتر ثلاث ركعات لا يزاد عليها ولا ينقص منها ولا وتر عندهم إلا ذلك لأنهم لم يعرفوا ان الوتر إنما هو إيتار صلاة الليل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يوتر بركعة والمراد اشتمال آخر صلاة الليل على وتر أما بركعة منفردة أو ثلاث أو خمس أو سبع ولكنه قد ورد النهي عن الإيتار بثلاث كما أوضحته في شرح المنتقي. وأما اعتقاد أن الله شرع صلاة ثلاث ركعات متصلة بعد صلاة العشاء من دون أن يتقدمها صلاة فليس هذا إلا من الجهل البالغ بما جاءت به السنة وأقل ما يفعله من كان عاجزا غير راغب في الأجر أن يصلي ركعتين ويسلم فيهما ثو يوتر بركعة منفردة فإن هذا يصدق عليه أنه لم يصل من النافلة في الليل إلا ركعتين ثم أوترها بركعة وقد كانت صلاته في الليل صلى الله عليه وسلم تبلغ إلي ثلاث عشرة ركعة بوترها وقد يقتصر على اقل منها. قوله: "وكل وقت يصلح للفرض قضاء". أقول: استدلوا على ذلك بحديث أنس عند الشيخين [البخاري "597"، مسلم "684"] ، وغيرهما [أوب دأود "442"، أحمد "3/269" و "3/100"، ابن ماجة "696"، الترمذي "178"، النسائي "1/293، 294"] ، مرفوعا: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وفي رواية لغيرهما "فوقتها حين يذكرها" وقد عورض ذلك بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ثابت في أحاديث الصحيحين وغيرهما [مسلم "293/831"، أحمد "4/152"، أبو دأود\ "3192"، الترمذي "1030"، النسائي "1/375"، ابن ماجة "1519"] ، وقد قيل إن حديث "من نام عن صلاته" مطلق مقيد بأحاديث النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ممنوع فإنا إذا سلمنا شمول أحاديث النهي للفرائض المقضية كان بين هذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فأحاديث النهي هي أعم من أن تكون الصلاة نافلة أو فريضة مقضية أو مؤداة. وحديث: "من نام عن صلاته" هو أعم من أن يكون قيام النائم وذكر الناسي في هذه الثلاثة الأوقات أو غيرها إلا أنه لا يخفاك أن الصلاة التي تركت لنوم أو نسيان هي مفعولة في وقت القيام من النوم أو الذكر بعد النسيان في الوقت الذي لا وقت لها سواه فهي أداء لا قضاء فيتوجه النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات إلي النوافل لا إلي الفرائض المؤداة وقد ثبت أن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك فمن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدركه ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر وهذه الأحاديث المصرحة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أخص مطلقا من أحاديث النهي عن الثلاثة الأوقات وصلاة النائم والساهي لأن ذلك الوقت وقت الأداء لها فهي كسائر الفرائض المؤداة ومن زعم أنها مقضية لا مؤداة فالدليل عليه فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقتها حين يذكرها لا وقت لها سواه. قوله: "وتكره الجنازة والنفل في الثلاثة" أقول: الأحاديث الصحيحة قد وردت مصرحة بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وعن

قبر الموتى فيها ووردت أحاديث صحيحة مصرحة بالنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس وبعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وظاهر النهي التحريم ولم يرد ما يدل على صرفة عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلي معناه المجازي وهو كراهة التنزيه ولم يرد ما يدل على تخصيص ذوات الأسباب من هذا العموم نعم ما ورد فيه دليل يدل على فعله من غير فرق بين وقت الكراهة وغيره كتحية المسجد فبينه وبين أحاديث النهي عموم وخصوص من وجه فيرجع إلي مرجح لأحدهما على الآخر خارج عنهما فإن كان ترجيح الحظر على الإباحة من المرجحات المعمول بها كما يدل عليه حديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" كان المتعين ترك تحية المسجد في الأوقات المكروهة وينبغي للمتحري لدينه تجنب دخول المساجد فيها فإن دخل لحاجة فلا يقعد. قوله: "وأفضل الوقت أوله" أقول: قد كان استمرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل الصلوات في أول أوقاتها وكان ذلك ديدنه وهجيراه ولا يخالف في ذلك أحد ممن له اطلاع على السنة المطهرة وورد من أقواله ما يدل على ذلك كحديث "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" [البخاري "527، 2782، 5970، 7534"، مسلم "137، 138"، و "139" و "140/85"، أحمد "1/451، 1/409 – 410" و "1/439"، النسائي "1/292"، ابن ماجة "173"] . وما ورد في معناه وجعل قوم الإسفار بالفجر أفضل ولكن كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم التغليس بها وورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تأخير صلاة العشاء إلي ثلث الليل أو إلي نصف الليل أفضل وأنه إنما ترك ذلك لئلا يشق على أمته وورد عنه صلى الله عليه وسلم رخصة الإبراد بالظهر وعلل ذلك بأن "شدة الحر من فيح جهنم" [البخارس "536"، مسلم "615"، النسائي "501"، ابن ماجة "677"، الترمذي "157"، أبو دأود "402"] . والحاصل أن أفضل الوقت أوله إلا ما خصه دليل مع بيان أنه أفضل كتأخير العشاء لا مجرد الترخيص لعذر فإنه لا يعارض أفضلية أول الوقت. والعجب من استدلال الجلال للرافضة في قولهم بتأخير صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم لحديث "لا حتى يطلع الشاهد" [مسلم "292/830"، النسائي "521"، والشاهد النجم ثم تكميل هذا الاحتجاج الساقط بقوله ولام النجم للاستغراق فيا لله العجب من وقوع هذا المحقق في مثل هذه المضايق التي يتحاشى كل عارف أن يقع في مثلها وهب أن قول والشاهد النجم ليس بمدرج وأنه من كلام النبوة فكيف يحمل على الاستغراق فيكون مدلوله أن تطلع نجوم السماء كلها حتى لا يبقى نجم وهكذا لو قال قائل لآخر لا اكرمك حتى يأتي الرجل وهو غير مريد لرجل بعينه كان مدلوله على ما زعم الجلال امتناع الإكرام حتى يأتي كل رجل في الدنيا فأي فهم يسبق إلي مثل هذا أو أي علم يدل عليه ويستفاد منه وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صلاة المغرب حتى صلوها في يومي التعلم في وقت واحد عند غروب الشمس وكانوا يفرغون منها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طول القراءة وإن الرجل ليبصر مواقع نعله 2 كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة وقال: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا صلاة

المغرب حتى تشتبك النجوم"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد ["4/147"] ، وأبو دأود ["418"، والحاكم في المستدرك ورجال إسناده ثقات وابن إسحق قد صرح بالتحديث فيه. وأخرج ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه هذا الحديث من حديث العباس ابن عبد المطلب بلفظ: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم". ثم أعجب من هذا أن الجلال رحمه الله أيستدل على استحباب تأخير الصلاة للمغرب بما ورد من أحاديث: "إذا حضر الطعام" فيا لله العجب أي دليل في هذا؟ فإن العلة التي صرح الشارع بتأخيرها لها حضور الطعام ولم يكن ذلك خاصا بالمغرب بل ورد في جميع الصلوات كما في الحديث الثابت في الصحيح بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام" وحاشا مثله أن يوقعه حب الروافض في مثل هذا التعسف الذي لا يخفى على من له أدنى عرفان ومن الروافض حتى يتبرع بمذهبهم الباطل بما هو من الباطل؟ وما كلامهم في هذه المسألة بأول عناد عاندوا به الشريعة فإنهم يخالفون كل السنن ويدافعون كل حق. [فصل "وعلى ناقص الصلاة والطهارة غير المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار ولمن عداهم جمع المشاركة وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية والخائف والمشغول بطاعة أو مباح ينفعه وينقصه التوقيت جمع التقديم والتأخير بإذان لهما وإقامتين ولا يسقط الترتيب وإن نسي ويصح التنفل بينهما"] . قوله: "فصل وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة غير المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار". أقول: هذا رأي فائل واجتهاد عن الحق مائل وقول عن دليل العقل والنقل عاطل وقد عرفناك فيما سبق ما هو الحق فيما جعلوه وقت اضطرار والمصنف ومن قاله بقوله ممن قبله أو بعده قد أوجبوا على ناقص الصلاة أو الطهارة أن يترك الصلاة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها كما صح بذلك الدليل. وبيان ما ذكرناه من إيجابهم عليه أن يترك الصلاة المفروضة هو أنه لم يرد في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا من هؤلاء يؤخر الصلاة عن وقتها المضرب لها جوازا فضلا عن أن يكون ذلك على جهة الوجوب فضلا عن أن يكون التأخير إلي آخر وقت الاضطرار حتما فإن من فعل الصلاة في هذا الوقت لغير عذر يقتضي التأخير فقد فعلها بعد خروج وقتها المضروب لها ومن فعلها بعد خروج وقتها المضروب لها فقد تركها ولا تأثير لفعلها بعده.

والأحاديث الواردة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها هي رخصة للمعذورين كالنائم والساهي لا لهؤلاء فإنهم مأمورون بفعل الصلاة في وقتها كغيرهم. فانظر هذه الفائدة التي استفادها المقلد المسكين من هؤلاء المصنفين في علم الدين. وأما قياس هؤلاء على المتيمم فقياس باطل ودعوى كون صلاة الجميع بدلية مصادرة على المطلوب لأن ذلك هو محمل النزاع. ثم لو قدرنا صحة القياس تنزلا لكان الأصل المقيس عليه وهو التيمم والمتيمم ممنوعا فإنه ليس على كونه يؤخر الصلاة إلي آخر الوقت أثارة من علم بل ذلك خلاف الأدلة الدالة على أن المتيمم كغيره يصلي في أول الوقت كما يصلي غيره. وقد قدمنا في باب التيمم ما فيه كفاية فلا أصل ولا فرع ولا عقل ولا شرع. ثم انظر كيف تلون الكلام في هذه الأحكام فإنه استثنى من ناقص الصلاة والطهارة المستحاضة ونحوها ثم أثبت لمن عداهم جمع المشاركة وهذا كله ظلمات بعضها فوق بعض وخبط يتعجب منه الناظر فيه إذا كان له أدنى تمييز. والحاصل أن هذا القول لم يسمع في أيام النبوة وقد كان فيهم الزمني وأهل العلل الكثيرة وفيهم من قال له صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن لم تسطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" [البخاري "1117"، النسائي "3/224"، أبو دأود "952"، الترمذي "372"، ابن ماجة "1223"] ، ولم يسمع بأنه أمر احدا منهم بتأخير الصلاة عن وقتها ولا جاء في ذلك حرف واحد لا من كتاب ولا من سنة وهكذا لم يسمع شيء من ذلك في عصر الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولا في عصر من بعدهم من التابعين وتابعيهم ولم يقل بذلك أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا من سائر أهل الأرض فمثل هذه المسائل من عجائب الرأي الذي اختص به أهل أرضنا هذه. اللهم غفرا. قوله: "وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية" الخ. أقول: أما الجمع للمسافر فقد ثبت بالأحاديث الكثيرة أما جمع التأخير فأحاديثه في الصحيحين [البخاري"1112"، مسلم "46/704"] وغيرهما وأما جمع التقديم فهو ثابت بأحاديث حسان مع مقال فيها ومع معارضتها لما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. وأما الجمع للمريض والخائف وفي المطر فلم يرد في ذلك دليل يخصه إلا ما يفهم من قول الرواة لحديث الجمع بالمدينة فإنهم قالوا من غير خوف ولا سفر ولا مطر. [مسلم "49/705"، البخاري"543"، أبو دأود "214"، الترمذي "187"، النسائي "1/290"] . وقد استدلوا على جواز الدجمع لهم بقياسهم على المسافر وليس بقياس صحيح ولو كان صحيحا لجاز لهم قصر الصلاة وقد مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل إلينا أنه جمع بين الصلوات وكذلك ما نقل إلينا أنه سوغ لأحد من المرضى جمع الصلوات.

وأما ما ذكره المصنف من جواز الجمع للمشغول بطاعة فليت شعري ما هي هذه الطاعةالتي يجوز تأثيرها على الصلاة التي هي رأس الطاعات وهي أحد أركان الإسلام والتي ليس بين العبد وبين الكفر إلا مجرد تركها. وأعجب من هذا وأغرب تجويز الجمع للمشغول بمباح ينفعه وينقص في التوقيت فإن جميع الناس إلا النادر يدأبون في أعمال المعاش العائد لهم بمنفعة وإذا وقتوا فقد تركوا ذلك العمل وقت طهارتهم وصلاتهم ومشيهم إلي المساجد فعلى هذا هم معذورون عن التوقيت طول أعمارهم ولهم جمع الصلاة ما داموا في الحياة وهذا تفريط عظيم وتسأهل بجانب هذه العبادة العظيمة وإفراط في مراعاة جانب الأعمال الدنيوية على الأعمال الأخروية وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم يشتغلون بالأعمال التي يقوم بها ما يحتاجون إليه فمنهم من هو في الأسواق ومنهم من هو في عمل الحرث ونحوه ومنهم من هو في تحصيل علف ماشيته ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عذر أحدا منهم عن حضور الصلاة في أوقاتها ولا بلغنا ان أحدا منهم طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له لعلمهم بأن مثل ذلك لا يسوغه. وأما التمسك بحديث جمعه صلى الله عليه وسلم في المدينة فهذا وقع مرة واحدة وتأوله كثير من الرأوين للحديث وحمله بعضهم على الجمع الصوري لتصريح جماعة من رواته بذلك. وقد افردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في شرح المنتقي ما ينتفع به طالب الحق رحم الله الحافظ الترمذي فإنه صرح بأن جميع ما في كتابه معمول به إلا حديثين هذا أحدهما. والحال أن كتابه قد اشتمل على ذكر ألوف مؤلفة من الأحاديث. والحاصل أن الكلام في مثل هذا البحث يطول جدا وقد وقع فيه الخبط البالغ والخلط العجيب وتكلم الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضوع بما هو حقيق بأن يضحك منه وتارة ويبكي منه أخرى بل حقيق بأن يعد في لغو الكلام وسقطه وغلطه. قوله: "بذان لهما وإقامتين". أقول: يدل على هذا ما في حديث جابر الطويل عند مسلم ["147/1218"، أبو دأود "1905"، النسائي "1/290". ابن ماجة "3074"، صلى الظهر ثم اقام فصلى العصر. وأخرج أبو دأود ["1930 و 1931"] ، ما يخالف هذا ابن عمر قال جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء يجمع بإقامة واحدة لكل صلاة ولم يناد في الأولى وفي رواية [أبو دأود "1928"] : "لم يناد بينهما ولا على إثر واحدة منهما إلا بالإقامة". وفي البخاري [أحمد "1/375"] ، عن ابن مسعود: "أنه صلاهما بإذان وإقامتين" وأخرج الدارقطني في قصة جمعه بين المغرب والعشاء فنزل فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في السفر.

والراجح حديث جابر فإنه حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما روي عن ابن مسعود فإنه موقوف عليه فيكون ما ذكره المصنف رحمه الله هنا موافقا لما هو الراجح.

باب الإذان والإقامة

[باب الإذان والإقامة على الرجال في الخمس فقط وجوبا في الأداء ندبا في القضاء ويكفي السامع ومن في البلد إذان في الوقت مكلف ذكر معرب عدل طاهر من الجنابة ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل. ويقلد البصير في الوقت وفي الصحو] قوله: "على الرجال" أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر معالم الدين فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله سبحانه إلي أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليل ونهار وسفر وحضر ولم يسمع أنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في تركها وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراء الأجناد في الغزو أنهم إذا سمعوا الإذان كفوا وإن لم يسمعوه قاتلوا وناهيك بهذا الحديث يجعله صلى الله عليه وسلم علامة للإسلام ودلالة على التمسك به والدخول فيه ومع هذه الملازمة العظيمة الدائمة المستمرة فقد أمر به صلى الله عليه وسلم غير مرة ومن ذلك حديث مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" وهو في الصحيحين [البخاري "628"، مسلم "674"] ، وغيرهما [أحمد "5/53"، أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "634"، ابن ماجة "979"] . وفي لفظ البخاري ["630"] : "فأذنا وأقيما"، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ابن أبي العاص: "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" عند أحمد ["4/21، 217"] ، وأهل السنن [أبو دأود "531"، الترمذي "1013"، النسائي "2/23"، ابن ماجة "714"] ، وهو حديث صحيح. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لبلال: "أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة" وهو في الصحيحين [البخاري "605"، مسلم "2/378"، وغيرهما [أبو دأود "508"، الترمذي "1013"، ابن ماجة "730"، أحمد "3/103"] . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد "إنها لرؤيا حق إن شاء الله" ثم أمر بالتأذين وهو حديث صحيح صححه الترمذي ["1/359"] ، وغيره. ومنها حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" أخرجه أحمد ["5/196" و "6/446"] ، وأبو دأود ["547"، والنسائي ["2/106 – 107"] ، وابن حبان وقال صحيح الإسناد. والحاصل أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها فإنها أشهر

من نار على علم وأدلتها هي الشمس المنيرة وما اسمج ما شكك به الجلال على الوجوب فقال ولو كان وجوبه للصلاة لزم كونه شرطا أو ركنا الخ. وأقول: يا لله العجب أي قائل قد قال إن جميع ما وجب للصلاة لا يكون إلا شرطا أو ركنا فإن الصلاة لها شروط وأركان وفروض لا شروط ولا أركان. وهذا مما لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو قائل به وتصرفه في كتابه هذا مناد بذلك بأعلى صوت. ثم هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعة بل لكل مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في جماعة كفاه إذان المؤذن لها وإقامته. ثم الظاهر أن النساء كالرجال لأنهن شقائق الرجال والأمر لهم أمر لهن ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن فإن الوارد في ذلك في أسانيده متروكون لا يحل الاحتجاج بهم فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال. قوله: "ويكفي السامع ومن في البلد". أقول: يمكن الاستدلال لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليؤذن لكم أحدكم" فإن هذا يدل على أنه يكفي إذان واحد من الجماعة وأما كونه يكتفي به من في البلد فيدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ المؤذن كما في حديث "واتخذ مؤذنا لا يأخذ على إذانه أجرا" والظاهر أنه يؤذن في البلدة التي هو فيها وأيضا عدم أمره لمن لم يسمع إذان مؤذنيه في المدينة بأن يؤذن دليل على عدم وجوبه على سامعه وإنما يشرع له المتابعة فقط. قوله: "في الوقت". أقول: الإذان هو دعاء إلي الصلاة ولهذا اشتمل على ألفاظ الدعاء التي منها: "حي على الصلاة حي على الفلاح" فلا يفعل في غير الوقت بل ذلك بدعة ظاهر وأما إذان بلال في ذلك الوقت الخاص فقد وضحت فيه العلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليوقظ نائمكم ويراجع قائمكم". كما ثبت في الصحيح فلم يبق ما يستدل به على جواز الإذان لنفس الصلاة قبل دخول وقتها وليس هنا ما يقتضي التعارض والترجيح. قوله: "من مكلف". أقول: هذا هو الظاهر لأن الإذان عبادة شرعية لا تجزىء إلا من مكلف بها وقد استدل الجلال في شرحه لهذا الكتاب على جواز إذان الصبي بإذان أبي محذورة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال وهو صبي ولا شيء في الروايات أنه كان صبيا بل الذي في الروايات أنه كان صيتا أو قوي الصوت فلعله تصحف على الجلال الصيت بالصبي فجزم بأنه كان صبيا.

وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث أنه كان غلأما ولفظ الغلام يطلق على الكبير والصغير قالت ليلى الأخيلية في مدح الحجاج: شفاها من الذى العضال الذب بها ... غلام إذا هز القناة سقاها وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا الغلام القرشي المؤتمن ... أبو حسين فاعلمن والحسن وقال الأزهري سمعت العرب يقولون للمولود غلام وسمعتهم يقولون للكهل غلام. ومما يدل على أنه كان رجلا ما وقع في رواية النسائي ["633"] ، قال أبو محذورة خرجت عاشر عشرة من مكة فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزىء بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت" فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا وكنت آخرهم الحديث. فقوله رجلا يدل على أنه كان رجلا وقال السهيلي إنه كان أبو محذورة في أول إذانه في ست عشرة سنة. قوله: "ذكر". أقول: الإذان إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي الصلاة فلا يكون إلا برفع الصوت والمرأة مأمورة بالستر ولم يسمع في ايام النبوة ولا في الصحابة ولا فيمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع الذي هو إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي الصلاة من امرأة قط. وأما إذان المرأة لنفسها أو لمن يحضر عندها من النساء مع عدم رفع الصوت رفعا بالغا فلا مانع من ذلك بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالإذان كما قدمنا ذلك. قوله: "معرب". أقول: الإذان عبادة شرعية فينبغي أن يكون على الصفة الواردة عن الشارع ومعلوم أنه كان يؤدى معربا على ما تقتضيه لغة العرب فمن جاء به على غير تلك الصفة فهو لم يفعل ما أمر به كسائر الأذكار الواردة عن الشارع. قوله: "عدل" أقول: قد عرفت أن الإذان إعلام بدخول الوقت للصلاة ودعاء إليها ومن كان غير عدل ولا يؤمن على الوقات ولا يقبل إذا أخبر بدخولها فيفوت المقصود من جعله مؤذنا. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو دأود ["590"] ، وابن ماجه ["726"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليؤذن لكم خياركم"، وفي إسناده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي وفيه مقال لا يوجب عدم الاحتجاج بحديثه. وأخرج أحمد وابو دأود وابن حبان وابن خزيمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين".

وروى أيضا من حديث عائشة قال أبو زرعة حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة وصحح الحديثين جميعا ابن حبان. وقد أطلت الكلام على الحديثين في شرحي للمنتقي فليرجع إليه. ووصفه صلى الله عليه وسلم للمؤذن بأنه مؤتمن يدل على أنه لا بد أن يكون عدلا لأن من ليس بعدل ليس بمؤتمن. قوله: "طاهر من الجنابة". أقول: لم يأت ما تقوم به الحجة لا في كون المؤذن طاهرا من الحدث الأكبر ولا من الحدث الأصغر لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح وما هو موقوف على صحأبي أو تابعي لا تقوم به الحجة وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد السلام وهو محدث حدثا اصغر حتى توضأ كما في رواية وتيمم كما في أخرى والإذان أولى بذلك من مجرد رد السلام. قوله: "ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل". أقول: لا شك أن الإذان من المذكورين يجزىء ولكنه في القاعد وغير المستقبل مخالف للهيئة المشروعة الثابتة قوله: "ويقلد البصير في الوقت في الصحو". أقول: ليس هذا من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية لأن المؤذن العدل العارف بمداخل الأوقات ومخارجها إذا أذن فهو بإذانه مخبر بدخول الوقت ولا سيما إذا كان في محل مرتفع كالمنارة وأما مع الغيم فهو مانع من صحة الرواية لأنه يحول بين المؤذن وبين العلامات التي يستدل بها على دخول الأوقاف فلم يكن لروايته بالإذان صحة يتعين عندها القبول. [فصل "ولا يقيم إلا هو متطهرا فتكفي من صلى في ذلك المسجد تلك الصلاة ولا يضر إحداثه بعدها وتصح النيابة والبناء للعذر والإذن"] . قوله: فصل: "ولا يقيم إلا هو متطهرا". أقول: حديث: "من أذن فهو يقيم" [الترمذي "199"] ، لم يتكلم عليه إلا بأن في إسناده عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم الإفريقي وقد وثقه جماعة ولم يقدح فيه بما يوجب عدم الاحتجاج بحديثه لكنه قد أخرج أحمد ["4/42"] ، وأبو دأود ["512"] عن عبد الله بن زيد صاحب رؤيا الإذان أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه قال: "القه على بلال" فألقاه عليه فأذن بلال فقال عبد الله أنا رأيته وأنا كنت أريده قال له صلى الله عليه وسلم: "فأقم أنت" وفي إسناد هذا الحديث ومتنه خلاف.

والحديث الأول متأخر لأن هذا كان عند رؤيا عبد الله بن زيد للإذان وقيل إن هذا الحديث يدل على أن تولي المؤذن للإقامة إنما هو على طريق الندب فقط. وأما كون المقيم متطهرا فلم يرد ما يدل على أن ذلك حتم وغايته ان تكون الإقامة مثل الإذان وقد تقدم الكلام فيه. قوله: "فيكفي من صلى في ذلك المسجد تلك الصلاة". أقول: مشروعية الإقامة لم تختص بشخص دون شخص ولم يرد فيها ما ورد في الإذان مما يدل على أنه يكفي إذان الواحد في البلد أو في المسجد كما قدمنا فإن ورد دليل يدل على أن إقامة الواحد تكفي غيره وتسقط بها المشروعية على كل من صلى في ذلك المسجد فلا بأس وإلا فالظاهر أن مشروعية الإقامة ثابتة على كل شخص سواء كان وحده أو في جماعة وسواء أقام غيره أو لم يقم. وأما كونه لا يضر إحداثه بعدها فظاهر لأنه قد أقام وهو متطهر بل لا يضر إحداثه حالها لعدم ورود ما يدل على أن الطهارة واجبة على المقيم. وأما كون غير المؤذن ينوب عنه في الإقامة فالظاهر أنها تجوز النيابة إذا قد حصل الرضا من المؤذن لأن تخصيصه بالإقامة إنما هو لكونه الأولى بذلك فإذا وقع الإذن جاز للغير أن يقيم سواء كان له عذر أو لا وأما البناء فإنما يكون للعذر لأن وقع الإقامة من اثنين مع عدم العذر بدعة فلو قال المصنف وتصح النيابة للإذن والبناء للعذر لكان صوابا. [فصل وهما مثنى إلا التهليل ومنهما حي على خير العمل والتثويب بدعة وتجب نيتهها ويفسدان بالنقص والتعكيس لا بترك الجهر ولا الصلاة بنسيانهما. ويكره الكلام حالهما وبعدهما والنفل في المغرب بينهما] . قوله: فصل: "وهما مثنى إلا التهليل". أقول: قد ثبت تشفيع الإذان وإيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة في الصحيحين [البخاري "605"، مسلم "2/378"] ، وغيرهما [أبو دأود "508"، الترمذي "193"، ابن ماجة "730"، أحمد "3/103"] . وثبت تربيع التكبير في أول الإذان من طرق حسنها البعض وصححها البعض وثبت التربيع في الشهادتين في صحيح مسلم ["6/379"، وغيره [أبو دأود "502"، الترمذي "193"،ابن ماجة "709"، النسائي "2/4"، أحمد "3/409"] . وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة. وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها إلا التكبير في أولها وآخرها و"قد قامت الصلاة" فإن ذلك يكون مثنى مثنى.

وروي أيضا التثويب في صلاة الصبح من وجه صححه بعض الحفاظ وتكلم فيه آخرون فإن عملنا بأصح ما ورد فهو تشفيع الإذان مع الترجيع في الشهادتين وإيتار الإقامة إلا لفظ قد قامت الصلاة والتكبير في أولها وآخرها. وإن سلكنا طريقة الجمع فيتعين العمل بالزيادة الخارجة من مخرج صحيح فيكون التكبير في أول الإذان أربعا وتكون الشهادتان مع الترجيح ثمانيا وسائر الألفاظ في الإذان مرتين مرتين إلا قول المؤذن "لا إله إلا الله" في آخره فإنه مرة واحدة ويزاد في صلاة الصبح لفظ التثويب وهو أن يقول المؤذن "الصلاة خير من النوم". وتكون الإقامة مثنى مثنى إلا قول المقيم لا إله إلا الله في آخرها فإنها مرة واحدة فهذا حاصل ما ورد في الإذان والإقامة وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلي أن الكل سنة وأيها فعله المؤذن والمقيم فقد فعل ما هو حق وسنة قال أبو عمر بن عبد البر ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ودأود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلي إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال: "الله أكبر" في أول الأذان أربعا ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله: "قد قامت الصلاة" فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى. وهذا الذي قالوه صواب كما قيل في التشهدات والتوجهات ولكن ذلك لا ينافي أن يختار الإنسان لنفسه أصح ما ورد أو يأخذ بالزائد فالزائد قال ابن القيم في الهدي ذاهبا إلي ما ذهب إليه أولئك الأئمة ومشيرا إلي ما اشرنا إليه ما لفظه أنه سن التأذين بترجيع وغير ترجيع وشرع الإقامة مثنى وفرادى لكن صح عنه تثنيه كلمة الإقامة قد قامت الصلاة ولم يصح عنه أفرادها ألبتة وكذلك صح عنه تكرر لفظ التكبير في أول الإذان ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين وأما حديث أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة فلا ينافي الشفع بأربع وقد صح التربيع صريحا في حديث عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب وأبي محذورة. وأما أفراد الإقامة فقد صح عن ابن عمر استثناء كلمة الإقامة فقال إنما كان الإذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة غير أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. وفي البخاري عن أنس أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة وصح في حديث عبد الله بن زيد وعمر في الإقامة "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة". وصح في حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع سائر كلمات الإذان. وكل هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فيها وإن كان بعضها أفضل من بعض انتهى. وبما أوضحناه لك في هذا البحث ترتفع عنك الإشكالات في هذه المسألة فقد طالت ذيولها وتشعبت طرائقها.

قوله: "ومنهما حي على خير العمل". أقول: هذا اللفظ قد صار من المراكز العظيمة عند غالب الشيعة ولكن الحكم بين المختلفين من العباد هو كتاب الله وسنة رسول فما جاءنا فيهما فسمعا وطاعة وما لم يكن فيهما فإن وضح فيه وجه قياس بمسلك من المسالك المقبولة التي لا ترفع ولا تنقض كالنص على العلة أو دلالة الدليل على ثبوت الحكم في المسكوت عنه بفحوى الخطاب كان للمتمسك بذلك أن يقول به على ما فيه من خلاف. وهكذا إذا صح الإجماع على حكم ولكن دون تصحيح الإجماع مفأوز متلوية وطرائق متشعبة وعقاب شامخة كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول. وإذا كان اختلاف المختلفين في حكم ثابت من السنة فالمرجع دوأوينها التي وضعها علماء الرواية وهي الأمهات وما يلتحق بها من المسانيد ونحوها ولم يثبت رفع هذا اللفظ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث على اختلاف أنواعها وغاية ما يروى في ذلك ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن بلال أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها "الصلاة خير من النوم" وترك "حي على خير العمل" وفي إسناده عبد الرحمن بن عمار بن سعد وهو ضعيف وقد قال البيهقي بعد إخراجه هذا اللفظ لم يثبت فيما علم النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه انتهى. ومع هذا ففي هذا التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يترك ذلك فلو قدرنا ثبوته لكان منسوخا. قوله: "والتثويب بدعة". أقول: قد رويت فيه أحاديث منها ما هو صحيح ومنها حسن ومنها ما هو ضعيف فلا وجه للقول بأنه بدعة وهو مختص بصلاة الفجر وذلك بأن يقول المؤذن بعد قوله: "حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم". ولقد وقع للجلال في شرح هذا الكتاب في هذا البحث وفي بحث "حي على خير العمل" من التكلف والتعسف والخروج عن طريق الحق ما يعجب الناظر فيه من قائله خصوصا إذا كان ممن يدعي الإنصاف في مسائل الخلاف وتأثير الأدلة على القيل والقال ولله الأمر من قبل ومن بعد. قوله: "وتجب نيتهما" أقول: لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وما ورد في معناه وقوله عز وجل: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29، يونس: 22، العنكبوت: 65، لقمان: 32، غافر: 14، 65، البينة: 5] . فوجه مشروعيته النية في الإذان والإقامة هو هذا لأن الأعمال المذكورة في الحديث تشمل الأقوال والأفعال. وأما ما ذكره الجلال في شرحه لهذا الكتاب من أن النية تجب لما كان يقع على وجوه كثيرة

لا ما كان يقع على وجه واحد فليس ذلك إلا مجرد رأي محض والدليل قد دل على مشروعية النية على العموم لأنه وقع التعبد بها في كل عمل كما نطق به الدليل فينوي المؤذن والمقيم أن هذا القول الذي قصد له هو ما تعبده الله به وشرعه له وبهذه النية يخلص من كل وجه من الوجوه التي لم يقصدها الشارع ولا شرع الفعل لها. وأما ما ذكره المصنف من أن الإذان والإقامة يفسدان بالنقص فوجهه أن الذي نقص بعض ألفاظ الإذان والإقامة لم يأت بالمشروع منهما فهو كمن لم يعقل ذلك وهكذا من عكس ألفاظهما. وأما ما ذكره من أنهما لا يفسدان بترك الجهر فهذا إذا أذن لنفسه أوله ولمن هو حاضر لديه يسمع إسراره وأما إذا كان المؤذن داعيا إلي الصلاة معلما بدخول وقتها فهو لم يفعل ما هو المقصود من نصبه للتأذين وإن كان قد فعل المشروع له بخصوصه من الإذان لنفسه. وأما عدم فساد الصلاة بنسيانهما فهو واضح لأنهما عبادة خارجة عن الصلاة التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم لا شرط من شروط كالوضوء فلا تفسد الصلاة يتركهما عمدا فضلا عن نسيانهما ولكن التارك لهما عمدا قد أخل بواجبين عليه كما قدمنا من أن الأدلة قد دلت على وجوبهما. وأما كراهة الكلام حالهما فواضح لأنه اشتغال حال العبادة بما ليس منها وكذا الكلام بعدها لأن الإقامة للصلاة دعاء إليها بعد الدعاء بالإذان فالاشتغال بعد ذلك بغير الصلاة مما لا جدوى فيه من الكلام يخالف ما هو مدلول لفظ الإقامة لا سيما قول المقيم قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فإن ذلك متضمن للإخبار بقيامها ففعل شيء بعدها من كلام أو غيره يخالف هذا الإخبار وينافيه. وأما ما ثبت في الصحيح ["624، 643"، أحمد "3/182، 205، 232"] ، من حديث أنس قال أقيمت صلاة العشاء فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم لي حاجة فقام إليه يناجيه فهذا هو من قضاء حوائج المسلمين لا من الاشتغال بما لا يغني من الكلام الذي ذكر المصنف كراهته وقد تكون هذه الحاجة التي طلب ذلك الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم قضاءها مما لا ينبغي تأخيره ولو بمجرد ظنه صلى الله عليه وسلم كذلك عند قول القائل لي حاجة وقد يكون هذا الرجل من المؤلفين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتألفه بقضاء حاجته في ذلك الوقت. قوله: "والنفل بينهما". أقول: هذا دفع في وجه الأدلة الصحيحة ورد للسنة التي هي أظهر من شمس النهار فإنه قد ثبت مشروعية النفل بين الإذان والإقامة في جميع الصلوات كحديث: "بين كل إذانين صلاة" ثم ثبت مزيد لخصوصية النفل بين إذان المغرب وإقامته فورد بلفظ: "بين إذاني المغرب صلاة" وورد بلفظ: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" وكرر ذلك ثلاثا وقال في الثلاثة "لمن شاء" وهو في الصحيحين [البخاري "1183، 7368"، مسلم "838"] ، وغيرهما. وقال الرأوي معللا

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة يعني سنة لازمة لا يجوز تركها. وقد ثبت أن الصحابة كانوا إذا أذن المؤذنون للمغرب قاموا يصلون هذه النافلة حتى يظن من دخل المسجد أن الصلاة قد صليت لما يرى من كثرة ما يصلي هذه النافلة. وأما الاستدلال للكراهة بما تقدم من حديث أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب" فليس في ذلك ما يدل على كراهة هذه النافلة فإن المقصود التأخير عن الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها فيه وهو الذي أرشد الأمة إلي فعل هذه النافلة وأكد ذلك عليهم بالتكرير فنصب هذا الحديث في مقابلة الأحاديث التي ذكرناها ليس كما ينبغي ولا يفعله من له ملكة في الاستدلال ومعرفة بما جاءت به السنة.

باب صفة الصلاة

[باب صفة الصلاة "هي ثنائية وثلاثية ورباعية" فصل وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة أو قبلها بيسير ولا يلزم للأداء والقضاء إلا للبس ويضاف ذو السبب إليه. قال المؤيد بالله تكفي صلاة إمامي حيث التبس أظهر أمر جمعة فقط والمحتاط آخر ما علي من كذا والقاضي ثلاثا عما علي مطلقا وركعتان ممن لا قصر عليه لا الأربع غالبا ثم التكبير قائما لا غيره وهو منها في الأصح ويثنى للخروج والدخول في أخرى ثم القيام قدر الفاتحة وثلاث آيات في أي ركعة أو مفرقا ثم قراءة ذلك كذلك سرا في العصرين وجهرا في غيرهما. ويتحمله الإمام عن السامع وعلى المرأة أقله من الرجل وهو إن يسمع من بجنبه ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة ثم السجود على الجبهة مستقرة بلا حائل حي أو يحمله إلا الناصية وعصابة الحرة مطلقا والمحمول لحر أو برد وعلى الركبتين وباطن الكفين والقدمين وإلا بطلت ثم اعتدال بين كال سجودين ناصبا للقدم اليمنى فارشا لليسرى وإلا بطلت. ويعزل ولا يعكس للعذر ثم الشهادتان والصلاة على النبي وآله قاعدا والنصب والفرش هيئة ثم التسليم على اليمين واليسار بانحراف مرتبا معرفا قاصدا للملكين ومن في

ناحيتها من المسلمين في الجماعة وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها إلا القرآن فيسبح لتعذره كيف أمكن. وعلى الأمي ما أمكنه آخر الوقت إن نقص ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس وتسقط عن الأخرس لا الألثغ ونحوه وإن غير. ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده] . قوله: "وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة" الخ أقول: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وفي لفظ: "لا عمل إلا بنية " قد دل على أن النية شرط من شروط الصلاة لوجود دليل الشرطية القاضي بعدم المشروط عند عدم الشرط فإنه إن قدر أن الذات الشرعية لا تكون إلا بالنية كما هو المعنى الحقيقي انتفت تلك الذات الشرعية بانتفاء النية وهذا هو معنى الشرط. وهكذا إن قدرت الصحة التي هي أقرب المجازين إلي الحقيقة أفاد انتفاء الصحة بانتفاء النية ولا يصار إلي تقدير الكمال إلا بدليل لأنه مجاز بعيد. إذا عرفت هذا علمت أن النية شرط من شروط الصحة وأنه لا صلاة لمن لم ينو وليست بفرض كما قال المصنف فإن الفرض لا يؤثر عدمه في عدم ما هو فرض فيه إلا إذا كان ركنا فإن الركن يؤثر عدمه في عدم ما هو ركن فيه لعدم وجود الذات المطلوبة على الصفة المقصودة إلا أن يدل دليل على أن عدم ذلك الركن لا يقدح في تلك الذات المطلوبة ولا يوجب انعدامه انعدامها. وقد تكلم الجلال ها هنا بما هو نوع من الهذيان لأنه لم يجر على مقتضى الرواية ولا على أسلوب الرأي وهكذا لا وجه لقول المصنف ولا يجب للأداء والقضاء إلا للبس فإن وجوب النية ليس لمجرد رفع اللبس بل لورود التعبد بها في كل عبادة سواء كانت مما يلتبس بغيره أم لا ولا فرق بين الصلوات الخمس وبين غيرها كالجمعة والعيد والجنازة لأن جميع ذلك عمل ولا عمل إلا بنية. والمراد بالنية قصد تأدية تلك العبادة التي شرعها الله سبحانه لعباده على الوجه المطلوب منهم فلا يصح أن تكون مترددة ولا مجملة ولا مشروطة. وبهذا تعرف الكلام على ما حكاه المصنف عن المؤيد بالله. قوله: "ثم التكبير". أقول: اعلم أن الله سبحانه أمرنا بالصلاة في كتابه العزيز أمرا مجملا فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77، 103، الأنعام: 72، العراف: 29، يونس: 87، الحج: 78] ، وهذا أمر فما وقع في بيانه منه صلى الله عليه وسلم فهو بيان لمجمل واجب فيكون واجبا. فهذا الدليل بمجرده قد دل على وجوب جميع ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في الصلاة سواء كان

ركنا أو ذكرا أو شرطا ثم زاد هذا الدليل تأكيدا قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" [البخاري "6008"، مسلم "24/392"، أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"، ابن ماجة "979"] ، فكان هذا دليلا على وجوب جميع ما فعله في صلاته أو قاله فيها فلا يخرج عن الوجوب شيء منها إلا بدليل يدل على عدم وجوبه وذلك كحديث "المسيء صلاته" [البخاري "6251"، مسلم "397"] ، فإنه اقتصر في تعليمه على البعض مما كان صلى الله عليه وسلم يفعله في الصلاة وكان ذلك دليلا على أن ما لم يذكر فيه ليس بواجب ومن جملة ما هو مذكور فيه تكبير الافتتاح فتقرر بهذا أنه من واجبات الصلاة وزاد ذلك تأكيد قوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" [أحمد "1/129"، أبو دأود "618"، الترمذي "3"، ابن ماجة "275"] ، فإنه قد بين في هذا الحديث أن للصلاة تحريما وتحليلا فكان ذلك دليلا علي وجوبهما لوجوب ما هما تحريم له وتحليل. وأما المعارضة بأنه قد وقع في حديث المسيء اشياء غير واجبة فليس مجرد هذه المعارضة قادحة في وجوب ما دلت الأدلة على وجوبه لأن ذلك هو مجرد إلزام لمثل مصنف هذا الكتاب ومن قال بقوله. وقد استكثر الجلال من التمسك بمجرد هذه المعارضة في شرحه لهذا الكتاب وأسقط بها فرائض جاءت الأوامر بها وثبتت في حديث المسيء وليس هذا من داب أهل الإنصاف بل مجرد مجأدلة ومخاصمة في الحق ولا يوجب وقوع المعارضة أو المناقضة لطائفة ذهاب الحق الذي شرعه الله لعباده وهم إذا التزموا ذلك واعترفوا فالحق من وراء إلزامه لهم واعترافهم له. ونحن نقول له ما عارضتهم به أو ناقضتهم باعتبار ما قالوه وما صرحوا به هو عندنا ملتزم ونحن نقول بوجوبه حتى يدل دليل على عدم وجوبه وحينئذ يصفو مشرب الحق وترتفع ظلمة الجدال وينجلي قتام الخصام. فيا طالب الحق خذ هذه الكلية واجعلها على ذكر منك تنتفع بها في كثير من المباحث التي صارت بالتمسك بالطرائق الجدلية ظلمات بعضها فوق بعض ولم يستفد منها كثير من المطلعين عليها إلا مجرد الحيرة وعدم الاهتداء لوجه الصواب. وقد جمعت جميع طرق حديث المسيء في شرحي للمنتقي وذكرت جميع ألفاظه المختلفة فاحكم لجميع ما اشتمل عليه بالوجوب لما قدمنا من كونه بيانا لمجمل واجب ولأمره صلى الله عليه وسلم بأن نصلي كما رأيناه يصلي ولاقتصاره في تعليم المسيء على ما اشتمل عليه حتى يأتي دليل يخص بعضه بعدم الوجوب فإنك بهذا الصنع قاعد في مقعد الإنصاف قائم في مقام الحق الذي لا تزحزحه شبهة ولا يدفعه جدال ولا يضره قيل ولا قال. إذا عرفت هذا فاعلم أن تكبير الافتتاح من قعود أو بغير اللفظ الذي ثبت عن الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة فما لنا وللتعرض لمثل هذا وأنه قد قال به فلان أو عمل به فلان وجعل ذلك ذريعة إلي الاعتراض على من قال بالحق ودان بالصواب. قوله: "والقيام قدر الفاتحة".

أقول: القيام ركن من أركان الصلاة التي لا تتم إلا به ولا ينبغي أن يقع في مثله خلاف فهو فرض ركني له مزيد خصوصية على مجرد الفرضية لتأثير عدمه في عدم الصلاة. وأما تقدير المصنف لما هو الواجب من القيام بأنه قدر الفاتحة وثلاث آيات فهذا مجرد رأي محض ليس عليه دليل ولا شبهة دليل. وأعجب من هذا وأغرب أنه يكفي القيام هذا القدر في ركعة من الركعات ولا يستقر في قيامه في سائر الركعات إلا قدر سبحان الله فإن هذه ليست الصلاة التي جاءت بها الشريعة وعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة منذ فرض الله الصلاة إلي أن قبضه الله إليه. ويا لله العجب من التجرؤ على مثل هذه العبادة التي هي رأس الدين وأساسه بمثل هذه الخزعبلات والترهات قوله: "ثم قراءة ذلك كذلك". أقول: قد ورد الأمر بالقراءة في الكتاب العزيز ثم بينت السنة بأنه "لا صلاة لمن لا يقرأ بأم القرآن" [البخاري "822"، مسلم "34/394"، أبو دأود822"، الترمذي "247"، النسائي "2/137"، ابن ماجة "837"، أحمد "5/314"] ، وفي لفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن". وقوله: "لا صلاة" يدل أن ترك قراءة الفاتحة تبطل به الصلاة لأن المراد لا صلاة شرعية فما وقع من الصلاة لم يقرأ فيه بأم القرآن فهو غير صلاة شرعية وهذا يكفي في الاستدلال على فرضية القراءة بفاتحة الكتاب بل استلزم عدمها لعدم الصلاة وهو زيادة على مجرد الفرضية وعلى فرض ورود دليل يدل على أن هذا النفي لا يتوجه إلي الذات فقد قدمنا لك أن تقدير الصحة هو أقرب المجازين إلي الذات فيتعين تقدير الصحة. هذا على فرض أنه لم يرد ما قدمنا بلفظ: "لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" فكيف وقد ورد وثبت فإن ذلك يقطع النزاع ويرفع الخلاف ويدفع في وجه من زعم أن الذي ينبغي تقديره ها هنا هو الكمال. إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد في حديث المسيء من وجه صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن يقرأ ثم قال له: "اصنع ذلك في كل ركعة" [أحمد "4/340"، أبو دأود "857، 858، 859، 861"، النسائي "2/193"] ، وهذا دليل قوي على وجوب الفاتحة في كل ركعة وقد أخرجه أحمد وابن ماجه في حديث المسيء من رواية رفاعة بن رافع بأسناد صحيح وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي بإسناد صحيح. فتقرر لك بهذا فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة بالأدلة الصحيحة فدع عنك القيل والقال والمجادلة بما لا يتفق من المقال عند فحول الرجال فإن كل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع. قوله: "سرا في العصرين وجهرا في غيرهما". أقول: أما قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلوات المفروضة فقد تبين أمرها وعرف ما كان يجهر فيه منها وما كان يسر فيه لكنه لم يرد في تعليم المسيء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ في صلاتك كذا جهرا وفي

صلاتك كذا سرا, بل أمره بالقراءة وهي أعم من أن يأتي بها سرا أو جهرا فيكون فعله للجهر في بعض الصلوات وهي الفجر والمغرب والعشاء والإسرار في البعض الآخر وهما الظهر والعصر كالبيان لذلك الأمر للمسيء فيتم حينئذ القول بوجوب الجهر فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسرار فيما أسر فيه لا بدليل كون فعله بيانا للمجمل ولا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" بل بما في حديث المسيء. قوله: "ويتحمله الإمام عن السامع" أقول: قوله تعالي: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا" [أحمد "2/420"، أبو دأود "604"، النسائي "2/141"، ابن ماجة "846"، مسلم "63"] ، يدل على أن الإمام يتحمل القراءة عن السامع. وعلى تقدير ما قيل من عدم دلالة الآية على المطلوب وعدم انتهاض الحديث للاستدلال به فقد أغنى عن ذلك الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" [أحمد "5/316"، أبو دأود "823"، الترمذي "311"] . وإن هذا الحديث قد أفاد فائدتين الأولى النهي عن القرآن خلف الإمام والثاني وجوب قراءة الفاتحة خلفه وهذا ظاهر واضح لا ينبغي التردد في مثله لصحته ووضوح دلالته. قوله: "وعلى المرأة أقله من الرجل". أقول: لم يرد دليل يدل على هذا إلا مجرد ملاحظة ما هو اقرب إلي الستر وأبعد من الفتنة وأقل الجهر إذا كان مجزئا للرجال فهو مجزىء للنساء بالأولى. قوله: "ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة". أقول: فرضية الركوع والاعتدال منه معلوم بالضرورة الشرعية وبطلان صلاة من لم يفعل ذلك أصلا أو لم يفعله حتى يطمئن معلوم بالأدلة الصحيحة كحديث المسيء فإنه صرح فيه بقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما" الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره" وهو حديث صحيح [الترمذي "265"، أحمد "4/122"، ابن ماجة "870"] ، وورد عند أحمد ["4/22"] ، وغيره بلفظ: "لا ينظر الله إلي صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" وقد قال للمسيء "ارجع فصل فإنك لم تصل". وأما الاستدلال على عدم البطلان بقوله للمسيء بعد تعليمه: "إذا انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك" فلا دلالة له على ذلك لأن انتقاصه من صلاته بترك ركن من أركانها يخرجها عن الصورة المطلوبة للشارع وقد قال لهذا المسيء نفسه "ارجع فصل فإنك لم تصل" فوجب حمل هذا الانتقاص على الإسقاط المبطل للصلاة جمعا بين الروايتين. ولأهل الرأي في عدم إيجاب الطمأنينة كلام يعرف فساده من يعرف الاستدلال ويدري بكيفيته وقد أفضى ذلك إلي أن يصلي غالب عامتهم وبعض خاصتهم صلاة لا ينظر الله إلي

صاحبها ولا تجزئه كما نطق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الرؤية النازلة بهم هي ثمرتهم المستفادة من تقليدهم. قوله: "ثم السجود على الجبهة مستقرة". أقول: قد ثبت في حديث المسيء أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يمكن جبهته من الأرض وأخرج الترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه الأرض وقال حسن صحيح وأخرج النسائي ["1113"] من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة لا اكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين"، وأخرجه مسلم بلفظ ["231/490"] : "على سبع ولا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف" الحديث وفي لفظ الصحيحين [البخاري "812"، مسلم "230/490"، أبو دأود "890"، الترمذي "273"، النسائي "1093"] ، من حديث ابن عباس اقتصر علي ذكر الجبهة دون الأنف، وقد ثبت في ألفاظ الأحاديث في الصحيحين وغيرهما بلفظ أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم. [البخاري"809"] . وبهذا البيان يتضح لك ان رواية ذكر الجبهة مع الإشارة إلي الأنف لبيان أن السجود على الجبهة لا يكون تأما كاملا إلا بوضع الأنف معها. ومع هذا فقد أغنانا على ذلك ذكرهما معا في الأحاديث كما اشرنا إليه وقد اجتمع في السجود على الجبهة والأنف البيان للسجود المأمور به في القرآن المعلوم وجوبه بالضرورة الشرعية بالقول والفعل فكان ذلك كافيا في فرضية السجود على تلك الأعضاء من غير انضمام أمر الأمة بذلك فكيف وقد ثبت كما ذكرناه لك وحينئذ تعرف أنه لا وجه لما ذكره الجلال من تلك المقأولات التي هي بمعزل عن التحقيق. واعلم أن الأمر بالسجود على هذه الأعضاء لا بد أن يكون على الأرض أو على ما هو عليها من حصير أو نحوه فلا يجعل المصلي بين هذه الأعضاء وبين ذلك حائلا لا من حي ولا من غيره فإن فعل خالف ما أمر به مع كون ذلك بيانا لمجمل القرآن ولهذا حكم المصنف على من لم يسجد على هذه الأعضاء بلا حائل بينها وبين الأرض بالبطلان لسجدته ولكنه ربما يقال إن الذي سجد على هذه الأعضاء مع حائل قد سجد عليها وفعل ما أمر به فإنه يصدق عليه لغة وعرفا وشرعا أنه قد سجد عليها فكون الحائل مانعا من صحة السجود الموجود في الخارج يحتاج إلي دليل فإن جاء به صافيا عن شوب الكدر صالحا للحجية فبها ونعمت وإلا فلا نسلم أن ذلك السجود الموجود في الخارج كلاسجود مع كونه على الأعضاء التي وقع الأمر بالسجود عليها. ومما يؤيد هذا ما في الصحيحين [البخاري "385"، مسلم "191/620"] وغيرهما من حديث [النسائي "116"] ، من حديث أنس قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.

قوله: "ثم اعتدل بين كل سجودين". أقول: هذا فرض ركني لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو بيان للسجود المأمور به في القرآن وصح في حديث المسيء في الصحيحين وغيرهما بلفظ "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا". فيا عجبا لمن لم يقل بفرضية هذا الركن وتلاعب به في صلاته وترك ما هو الشرع الواضح والركن الذي لا صلاة لمن لا يأت به فيها. قوله: "ثم الشهادتان". أقول: لا وجه للاقتصار على مجرد الشهادتين لأنهم استدلوا على وجوبها بما وقع من الأوامر عنه صلى الله عليه وسلم بالتشهد فينبغي إيجاب أحد التشهدات بنفس الدليل الذي استدلوا به على وجوب الشهادتين وحاصل ما استدل به الموجبون للتشهد ما وقع من امره صلى الله عليه وسلم مع قول ابن مسعود وكنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد فإن هذا يدل على أنه فرض عليهم ولم يأت القائلون بعدم وجوبه بحجة مقبولة إلا قولهم إنه لم يذكر في حديث تعليم المسيء وصدقوا لم يذكر في حديث المسيء لكن إذا تقرر أن حديث تعليم المسيء متأخر عن مشروعية التشهد أما إذا كان حديث المسيء متقدما فلا مانع من أن يتجدد إيجاب واجبات لم يشتمل عليها فإن جهل التاريخ كان القول بالوجوب أرجح لأنه قد وجد ما يقتضي الوجوب ولم يتيقن ما يصرفه عن ذلك فوجب على الوجوب عملا بدليله. لا يقال إن الأصل البراءة للذمة لأنا نقول لا براءة بعد وجود الدليل الدال على الوجوب إلا بوجود ما يصرفه عن حقيقته. قوله: "والصلاة على النبي وآله". أقول: أدلة وجوب ذلك في الصلاة دون أدلة وجوب التشهد وقد عرفناك ما في ذلك ووجهه أن التشهد قد صرحت الأحاديث بمحله وأين يقال وأما الأحاديث الواردة بتعليم كيفية الصلاة فليس فيها ذكر إيقاع ذلك في التشهد. وأما ما ورد في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود عند ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والبيهقي وصححوه والدارقطني أنهم قالوا كيف نصلي عليك في صلاتنا فليس فيه أن ذلك في التشهد بل هو مطلق في جنس الصلاة ومع هذا فلم يذكر الصلاة في حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات. وقد أطلنا البحث في هذا في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله: "والنصب والفرش هيئة". أقول: أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ما روى هو أن يتورك [أحمد "5/424"، أبو دأود "730"، الترمذي "304"، النسائي "3/34"] المصلي عند قعوده لهذا التشهد وقد ورد النصب [البخاري "828"، أبو دأود "734، 967"] ، والفرش ورودا يسيرا بالنسبة إلي التورك وورد صفة ثالثة هي

أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه الأيمن وساقه [مسلم "112/ 579"] ، فلا وجه لاقتصار المصنف على هيئة واحدة وتأثيرها على ما هو أصح منها. قوله: "ثم التسليم على اليمين واليسار". أقول: أشف ما استدل به القائلون بالوجوب هو حديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فإن هذا الحديث يدل على أنهما جزاءان للصلاة وعلى تسليم دلالة هذا على الوجوب فإنما يتم ذلك لو قدرنا تأخره عن حديث المسيء فإنه لم يذكر فيه السلام. وقد عرفناك أن واجبات الصلاة قد انحصرت فيه الا أن يأتي ما يدل على الوجوب ويثبت تأخره عن حديث المسيء لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وأما الخلاف في التسليم هل هو واحدة أو اثنتان أو ثلاث فالأدلة الصحيحة الكثيرة قد دلت على تسليمتين [أبو دأود "997"، أحمد "4/316"] ، والدليل الدال على كفاية الواحدة على تقدير صلاحيته للحجية لا يعارض أحاديث التسليمتين لأنها مشتملة على زيادة غير منافية للمزيد ولم يرد في مشروعية الثلاث شيء يعتد به. وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من الأنحراف فلا يتم السلام المشروع إلا بالانحراف وهكذا لا يكون سلأما مشروعا إلا بالتعريف لأنه الصفة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم. وأما قصد الملائكة فلم يدل دليل على ذلك. قوله: "وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها". أقول: دل على هذا ما وقع في رواية من حديث المسيء بلفظ: "فإن كان معك قرآن وإلا فأحمد الله وكبره وهلله" [أبو دأود "861"] ، ووقع في حديث ابن أبي أوفى عند أحمد ["4/353" و "4/356"] ،وأبي دأود ["832"] ، والنسائي "2/143"] ، وغيرهم أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا استطيع شيئا من القرآن فقال له صلى الله عليه وسلم: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" وفي إسناده مقال لا يوجب سقوط الاستدلال به فمن لم يقدر على قراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن عدل إلي هذا الذكر مع إيجاب التعلم عليه وتضييقه حتى يحفظ الفاتحة وقرآنا معها فبصلي بذلك ما فرضه الله عليه وهكذا من كان مستعجم اللسان وتعذر عليه شيء من أذكار الصلاة بالعربية كالتشهد والتوجه فله أن يأتي بمعنى ذلك بلسانه حتى يتعلم ذلك الذكر الذي تعذر عليه حال وجوب الصلاة عليه وقد جعل الله في الأمر سعة لكن مع تحتم تعلم ما شرعه الله لعباده من اذكار الصلاة خصوصا الفاتحة وما يتيسر معها من القرآن لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب بل لا تجزىء ركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وأما إيجاب التأخير إلي آخر الوقت فليس على ذلك دليل وقد قدمنا الكلام على هذا في قوله: "وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة التحري لآخر الاضطرار" قوله: "ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس".

أقول: قال الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فالذي لا يحفظ القرآن يستملي من المصحف ويتلقن من الغير ويقرأ ما يقدر عليه ولو غير بعض تغيير. وإن كان أخرس لا يقدر على النطق ولا يسمع ما يقال له ولا يتعلم بالإشارة فليس عليه شيء فما كلف الله العباد إلا بما يدخل تحت طاقتهم ولا يكلف أحدا منهم بما لا يطيقه. قوله: "ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده" أقول: إن كان مجتهدا فهو لا يحتاج إلي اجتهاد غيره قط ولا يتعذر عليه الاجتهاد من كل وجه أصلا وأقل الأحوال أن يرجع إلي البراءة الأصلية عند اشتباه الأمر ثم أقل أحوال المجتهد أن يكون مستحضرا للمرجحات التي يحتاج إليها عند تعارض الأمور أو التباس راجحها من مرجوحها. نعم إذا كان هذا المجتهد ممن يجوز للمجتهد أن يقلد غيره ولم يطق في الحال خلوصا عما ورد عليه ولا مخرجا مما نابه إلا بالعمل بقول الغير كان له ذلك ولكن ليس هذا الذي هذه صفته هو المجتهد المطلق بل هو مجتهد المذهب وهو مقلد وليس بمجتهد وهكذا من ظن أنه قد صار مجتهدا في بعض المسائل دون بعضها فإنها قد تتخبط عليه الأمور وتضطرب عليه المسائل ولكن هذا ليس هو المجتهد المطلق بل هو إلي المقلدين أقرب وبهم أشبه: فإن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها [فصل وسنتها التعوذ والتوجهان قبل التكبير وقراءة الحمد والسورة في الأوليين سرا في العصرين وجهرا في غيرهما والترتيب والولاء بينهما والحمد أو التسبيح في الأخريين سرا كذلك وتكبير النفل وتسبيح الركوع والسجود والتسميع للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم وتشهد الأوسط وطرفا الأخير والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع بالقرآن. وندب المأثور من هيئة القيام والقعود والركوع والسجود. والمرأة كالرجل في ذلك غالبا] . قوله: "فصل وسننها التعوذ والتوجهان قبل التكبيرة". أقول: من له حظ من علم السنة المطهرة ورزق نصيبا من إنصاف يعلم أن جميع الأحاديث الواردة في التعوذ والتوجهان مصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك بعد تكبير الافتتاح وهذا مما لا يكاد أن يشك فيه عارف أو يخالط فيه ريب وكان يتوجه بعد التكبيرة ويتعوذ بعد التوجه قبل

قبل افتتاح القراءة وقد ثبت عنه ألفاظ في التعوذ أيها فعل المصلي فقد فعل المشروع وثبت عنه توجهات أيها توجه به المصلي فقد فعل السنة ولكنه ينبغي للمتحري في دينه أن يحرص على فعل أصح ما ورد في التوجهات وأصحها حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "2/227"، مسلم "147/598"] ، وغيرهما [أبو دأود "78"، ابن ماجة "805"، النسائي "60"، أحمد "2/231 و 494"] ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وامي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" فهذا أصح ما ورد في التوجهات حتى قيل إنه قد تواتر لفظه فضلا عن معناه ثم فيه التصريح بأنه كان يتوجه بهذا في صلاته ولم يقيد بصلاة الليل كما ورد في بعض التوجهات فالعمل عليه والاستمرار على فعله هو الذي ينشرح له الصدر وينثلج له القلب وإن كان جميع ما ورد من وجه صحيح يجوز العمل عليه ويصير فاعله عاملا بالسنة مؤديا لما شرع له. وأصح ما ورد في التعوذ حديث أبي سعيد عند أحمد ["3/50"] ، والترمذي ["242"] ، وأبي دأود ["775"] ، والنسائي ["2/132"] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلي الصلاة استفتح ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه". واعلم أن المصنف ومن قال بقوله قد قسموا التوجه إلي توجهين كبير وصغير وجاءوا بما ورد في الكتاب العزيز هربا من أن يقع في الصلاة ما ليس من القرآن فكان حاصل ما اختاروه المخالفة لجميع ما جاءت به السنة. أما ما جعلوه توجها صغيرا فلم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط وهو {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111] ، فهذا هو في القرآن هكذا وليس هو من التوجهات ولو كان التوجه جائزا بكل ما فيه دعاء في القرآن لكان التوجه غير مختص بما ذكروه بل بكل ما فيه دعاء أو حمد أو توحيد أو عبادة أو استعاذة. وأما التوجه الكبير فقالوا هو أن يقول وجهت وجهي للذي فطر السمأوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت وأنا من المسلمين وهذا وقد ورد التوجه به من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند مسلم ["6/57"، وأحمد ["2/727"، والترمذي ["266"] ، وغيرهم [أبو دأود "760"، النسائي "2/897"] ، ولكن مع زيادة وهو قوله بعد "وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت" إلي آخر الحديث بطولة فكان الأولى لهم أن يتوجهوا بكل ما ورد في حديث على مع أنه مقيد في صحيح مسلم بصلاة الليل وإن اطلقه غيره فحمل المطلق على المقيد متعين. ومع هذا فالحديث قد وقع التصريح فيه في سنن أبي دأود أنه كان إذا قام إلي

الصلاة كبر ثم قال ففي هذا التوجه الذي أخذوا ببعض الفاظه وجعلوها توجها ما يدفع قولهم إنه قبل تكبير الافتتاح. قوله: "والحمد والسورة في الأوليين" أقول: هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا يكاد أن يقع فيه اختلاف أنه كان يقرأ في كل واحدة من الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة وقد يقرأ سورتين وقد يقرأ سورة طويلة. ولكن قد عرفناك أن الأدلة قد دلت على وجوب الفاتحة في كل ركعة دلالة بينة واضحة ظاهرة. وما ذكره من كون القراءة تكون سرا في العصرين وجهرا في غيرهما فذلك هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وقد قدمنا ما يفيد هذا. قوله: "والولاء بينهما" أقول: لم يأت في هذا دليل يخصه وقد كان صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من قراءة الفاتحة يسكت سكتة طويلة ثم يقرأ السورة وهذا مما يدفع كون الموالاة من غير فصل سنة ثم السكوت بين الفاتحة والسورة للدعاء وإن طال الفصل لا يخالف السنة فقد ندب الشارع إلي الدعاء في الصلاة مطلقا ومقيدا ببعض مواضعها فلا وجه لإدخال هذا في مسنونات الصلاة. ولو جعل المصنف مكانه إطالة الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين فقد ثبت عنه أنه كان يطيل القيام في الركعتين الأوليين من الظهر ويقوم في الأخريين على النصف من قيامه في الأوليين ثم يقوم في الأوليين من العصر قدر نصف قيامه في الأوليين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من وقوفه في الأوليين منهما وكان ينبغي له أن يذكر في هذا الفصل المشتمل على ذكر سنن الصلاة السنة العظمى والخصلة الكبرى التي هي أشهر من شمس النهار وهي العلم الذي في رأسه نار وذلك سنة الرفع عند افتتاح الصلاة فإنه قد ثبت من طريق خمسين من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة. ثم سنة الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه ثم سنة ضم اليد اليمنى على اليسرى فإن هذه سنن ثابتة بأحاديث متواترة منها ما هو عن طريق عشرين من الصحابة ومنها ما هو اكثر من طريق عشرين ومنها ما هو من طريق نحو العشرين. ثم سنة التأمين الثابتة بالأحاديث المتواترة هذا على فرض أنه سنة فقط وإن كانت الأحاديث مصرحة بوجوبه. ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال من الركوع والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال بين السجودين والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه لا سيما وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان قيامه فركوعه فاعتداله من الركوع فسجوده فاعتداله بين السجدتين فسجوده قريبا من السواء فإن هذه ونحوها سنن ينبغي الاعتناء بشأنها وإرشاد الأمة إلي فعلها وترغيبهم فيها وترهيبهم من تركها والتصريح لهم بأن المحروم من حرمها

فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... وهات حديثا ما حديث الرواحل أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل قوله: "والحمد أو التسبيح في الأخريين". أقول: هذا التخيير العجيب والتشريع الغريب عبرة للمعتبرين ومغربة خبر للناظرين فإنه قد علم كل من يعرف السنة المطهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل هذا التسبيح عوضا عن فاتحة الكتاب في شيء من صلاته المنقولة إلينا التي اشتملت عليها مجاميع السنة على اختلاف أنواعها ولا ثبت عنه أنه شرع لأحد من أمته أن يجعل هذا التسبيح عوضا عن الفاتحة أو أنه خيرهم بين الفاتحة وبينه لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وغاية ما ورد ما قدمنا في حديث المسيء صلاته أنه إذا لم يستطع القراءة سبح وهذا أمر آخر لأنه مشروط بعدم القدرة على القراءة ثم هو رخصة في حالة التعذر مع أنه غير معذور من تعلم ما يقرأ به في صلاته فما لنا وللتخيير بينه وبين الفاتحة التي هي أشرف سورة بالنص في أشرف عبادة وهي الصلاة مع ما ورد من الأدلة الدالة على وجوب الفاتحة في كل ركعة فانظر إلي هذه المجازفة التي يتبرأ عنها قلم كل من له وزن خردلة من إنصاف. وأما القول بأن التسبيح أفضل من الفاتحة فأغرب وأعجب ولا يأتي التطويل في رده بفائدة لوضوح بطلانه لكل ناظر في علم الأدلة. والعجب من الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه جعل معظم مقصده الانتصار لنفاة الأذكار كالأصم وابن علية الذين خالفوا قطعيات الشريعة الثابتة في هذه العبادة بالأدلة التي هي الجبال الرواسي. فما لك والتلدد نحو نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال ولله الأمر من قبل ومن بعد. قوله: "وتكبير النقل". أقول: هذه السنة ثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا يشك في ذلك من له اطلاع على كتب السنة المطهرة وما وقع من ترك الجهر بة أو تركه بالمرة فمن ترك السنن وظهور البدع. قوله: "وتسبيح الركوع والسجود" أقول: وهذه السنة متواترة من فعله صلى الله عليه وسلم والتسبيح المشروع هو "سبحان ربي العظيم" في الركوع "وسبحان ربي الأعلى" في السجود وأقل ما يفعله المصلي من ذلك ثلاث تسبيحات في الركوع وثلاث تسبيحات في السجود ويختمها بقوله "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" [البخاري "4968"، مسلم "217/484"، أبو دأود "877"، ابن ماجة "889"] ، وقد ورد أنه يقول المصلي "سبحان ربي العظيم وبحمده" في الركوع وسبحان ربي الأعلى وبحمده في السجود من طرق ضعيفة.

فالاقتصار على ما ذكرناه هو الأولى وأما من قال إن التسبيح في الركوع هو أن يقول المصلي سبحان الله العظيم وبحمده وفي السجود سبحان الله الأعلى وبحمده فلا أصل لذلك وقد وردت الأحاديث الصحيحة في الأدعية التي تقال في الركوع والسجود والاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجودين وهي ثابتة ثبوتا متواترا ومن منع الأدعية في الصلاة فقد خالف السنة مخالفة ظاهرة فإن مجموع ما وردت مشروعيته من الأدعية في الصلاة لا يفي به إلا مؤلف مستقل ولكن هجر كتب السنة يوقع في مثل هذا. قوله: "والتسميع للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم". أقول: قد ورد ما يدل على أنه يجمع بين التسميع والحمد كل مصل إمأما كان أو مأموما أو منفردا وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقي والزيادة مقبولة. قوله: "والتشهد الأوسط" أقول: الأوامر بالتشهد لم تخص التشهد الأخير بل هي واردة في مطلق التشهد فما قدمنا في التشهد الأخير من الاستدلال على وجوبه فهو بعينه دليل على وجوب التشهد الأوسط ومع هذا فالتشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات ولم يرد ذكر التشهد الأخير في حديث المسيء فكان القول بإيجاب التشهد الأوسط أظهر من القول بإيجاب الأخير. وأما الاستدلال على عدم وجوب الأوسط بكون النبي صلى الله عليه وسلم تركه سهوا ثم سجد للسهو فهذا إنما يكون دليلا لو كان سجود السهو مختصا بترك ما ليس بواجب وذلك ممنوع. قوله: "وطرفا الأخير". أقول: الأدلة التي ثبت بها وجوب التشهد هي مشتملة على الطرفين فإيجاب البعض بها دون البعض تحكم يأباه الإنصاف ولم يرد ما يدل على تخصيص وسط التشهد الأخير بالوجوب دون طرفيه قط. قوله: "والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع بالقرآن". أقول: إثبات هذا في سنن الصلاة لم يأت دليل يدل عليه فإن الأحاديث الواردة في هذا مصرحة باختصاصه بالنوازل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا نزلت بالمسلمين نازلة فيدعو لقوم أو على قوم ولم يثبت غير هذا إلا الدعاء المروي عن الحسن ابن علي [أحمد "1/199"، أبو دأود ""1425"، الترمذي "464"، الترمذي 1745"، ابن ماجة "1178"] مرفوعا بلفظ: "اللهم اهدني فيمن هديت" إلخ فإن ذلك دعاء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله في الوتر فهو من جملة الأدعية الواردة في الصلاة وينبغي فعله فإنه حديث قد صححه جماعة من الحفاظ ولا مقال فيه بما يوجب قدحا ولا يفعل هذا الدعاء إلا في هذا الموضع لا كما يفعله طائفة بعد الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر فإنه لم يدل على ذلك دليل. والحاصل أنه قد ورد الدعاء في النوازل في جميع الصلوات وفي بعضها وقبل الركوع وبعده.

وأما قوله: "بالقرآن" فلم يرد في هذا شيء قط وإنمكا قال به من قال لأنه سمع أن في صلاة الفجر قنوتا مع كونه يمنع الدعاء في الصلاة إلا بالقرآن فتحصل له من هذا أن يقول بما قال. قوله: "وندب المأثور من هيئات القيام والقعود والركوع والسجود". أقول: هذه الهيئات الواردة في هذه الأركان بالأحاديث الصحيحة حكمها حكم ما ثبت بأفعاله صلى الله عليه وسلم إن لم يرد فيها إلا مجرد الفعل ولها حكم ما ورد من أقواله إن ثبتت بالقول وإذا اجتمع في شيء منها القول والفعل كان حكمها حكم ما ثبت بالقول والفعل ولا وجه للحكم على جميعها بأنها مندوبة فقط لأن الندب في الاصطلاح الحادث لأهل الأصول والفروع هو رتبة قاصرة عن رتبة ما يقولون فيه إنه مسنون ثم تخصيص هيئات هذه الأربعة الأركان بالذكر دون ما عداها من الأركان والأذكار لا وجه له. والحاصل أن المقال في هذا المقال أن واجبات الصلاة إذا كانت منحصرة في حديث المسيء صلاته إلا ما ورد فيه دليل يدل على وجوبه بعده فما عدا ذلك ليس بواجب فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أرشد إليه كان ذلك سنة ثابتة وطريقة نبوية فإن لازمه أو إرشدا إليه مؤكدا كان ذلك سنة لها مزيد خصوصية بما وقع لها من اعتنائه صلى الله عليه وسلم بشأنها فاحفظ هذا لتسلم به من تخليطات المخلطين وتخبطات المتخبطين الذين خلطوا الشرع الصافي بالاصطلاحات الحادثة المتواضع عليها بين طائفة من الناس. قوله: "والمرأة كالرجل في ذلك غالبا". أقول: النساء شقائق الرجال فما شرعه الله للرجال من هذه الشريعة فالنساء مثلهم إلا أن يأتي دليل على إخراجهن من ذلك الشرع العام كان ذلك مخصصا لهن وسواء كان التخصيص متضمنا للتخفيف وذلك ما اختص وجوبه بالرجال من الأحكام كالجهاد أو متضمنا لتغليظ عليهن كالحجاب. وبهذا تعرف أنه لا وجه لتخصيص هذا الموضع بالذكر لهن فإن غالب الأبواب قد تختص النساء فيه بما يخالف الرجال ولو نادرا. [فصل "وتسقط عن العليل بزوال عقله حتى تعذر الواجب وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا وإلا فعل ممكنه ومتعذر السجود يومىء له من قعود وللركوع من قيام فإن تعذر فمن قعود ويزيد في خفض السجود ثم مضطجعا ويوجه مستلقيا ويوضئه غيره وينجيه منكوحه ثم جنسه بخرقة ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء"] . قوله: فصل: "وتسقط عن العليل بزوال عقله".

أقول: لا وجه للتقييد بالعليل بل مجرد زوال العقل موجب لسقوط الصلاة وغيرها إذ لا يتعلق بمن لا عقل له شيء من التكاليف الشرعية وقد أورد الجلال ها هنا إشكالات زائفة ساقطة لا يرد شيء منها والعجب العجيب أنه جعل النتيجة التي تنحل بها تلك الإشكالات حمل أمر النائم والناسي والحائض بالقضاء على الندب فجاء بما يخرق الإجماع خرقا لا يرقع وبما يخالف الأدلة التي هي أوضح من شمس النهار وهكذا يقع في مثل هذه المضايق من جعل أوهام ذهنه وغلطات فكره بالمنزلة التي جعلها فيها هذا المحقق. قوله: "وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا". أقول: قوله سبحانه وتعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" يدلان على أنه إذا أمكنه الايماء بعينيه أو بحاجبيه كان ذلك حتما عليه ولا يسقط عنه بمجرد عجزه عن الإيماء برأسه فقد تصيب الإنسان علة يعجز عندها عن الايماء برأسه كما يقع في الأمراض العصبية مع ثبات عقله وقدرته على الايماء بعينيه وحاجبيه. وأما اختيار المصنف رحمه الله لهيئة الاضطجاع وتقديمها على غيرها فمدفوع بما ثبت في البخاري ["1117"] ، وهو عند أحمد ["4/426"] وأهل السنن [أبو دأود "592"، الترمذي "302"، النسائي "1660"، ابن ماجة "1223" الأربع وغيرهم أن عمران بن الحصين كان به بواسير فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" وفي رواية للنسائي "فإن لم تستطع فمستلقيا"، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وهذا الحديث الصحيح يغني عن غيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب فإنها لا تخلو من مقام ومعلوم أن من صلى على جنب أو مستلقيا لا يتمكن إلا من مجرد الايماء فلا حاجة إلي الاستدلال على لزوم الايماء فإن هذا الحديث الصحيح يفيد ذلك ويقتضيه. قوله: "ويوضئه غيره وينجيه منكوحه". أقول: إذا بلغ المرض بصاحبه إلي هذا الحد فقد جعل الله له فرجا ومخرجا بالتيمم قال الله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية وقد قدمنا الكلام على التقيد بقوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} قوله: "ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء" أقول: لا دليل على هذا أصلا والواجب عليه أن يفعل ما يمكنه فإذا كان مقعدا وأمكنه القيام أتم صلاته قائما ولا يرفض ما قد فعله فقد نهى الله سبحانه عن إبطال الأعمال فقال {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .والقياس على المتيمم مختل لما عرفناك فيما سبق في باب التيمم أن الأدلة قد دلت على أنه لا يعيد من صلى بالتيمم ثم وجد الماء لا قبل الفراغ من الصلاة ولا بعده.

[فصل "وتفسد باختلال شرط أو فرض غالبا وبالفعل الكثير كالأكل والشرب ونحوهما وما ظنه لاحقا به منفردا أو بالضم أو التبس ومنه العود من فرض فعلي إلي مسنون تركه ويعفى عن اليسير وقد يجب كما تفسد الصلاة بتركه. ويندب كعد المبتلي الأذكار والأركان بالأصابع أو الحصى. ويباح كتسكين ما يؤذيه ويكره كالحقن والعبث وحبس النخامة وقلم الظفر وقتل القمل لا إلقائه وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها ومنهما خطابا بحرفين فصاعدا. ومنه الشاذة وقطع اللقطة إلا لعذر وتنحنح وأنين غالبا ولحن لا مثل له فيهما أو في القدر الواجب ولم يعده صحيحا والجمع بين لفظتين متباينتين عمدا والفتح على إمام قد أدى الواجب أو انتقل أو في غير القراءة أو في السرية أو بغير ما أحصر فيه وضحك منع القراءة ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو المؤتمين وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق أو تضيق وهي موسعة قيل أو أهم منها عرض قبل الدخول فيها وفي الجماعة والزيادة من جنسها بما سيأتي إن شاء الله تعالي"] قوله: فصل: "وتفسد باختلال شرط". أقول: هذا صواب إذا قد تقررت الشرطية بدليلها الذي يفيدها حسبما قدمنا ذلك ولتعلم أن هذا الحكم منا بعدم المشروط عند عدم شرطه ليس هو بمجرد ما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط بل للأدلة الدالة على انعدام الذات أو صحتها بانعدام ذلك الشرط ولهذا جزمنا فيما تقدم بأن ما ورد فيه دليل يفيد هذا المفاد فهو شرط ولا يشكل على هذا حديث "من قاء أو رعف أو مذى فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته" [ابن ماجة "1221"] ، ووجه إشكاله أن يقال قد بطل الوضوء وهو شرط بالدليل الصحيح ولم يؤثر عدمه في عدم المشروط لقوله: "وليبن على صلاته" لأنا نقول هذا الحديث لا تقوم به حجة لأنه لم يصح رفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك جماعة من الأئمة منهم الشافعي وأحمد وأبو زرعة ومحمد بن يحيى الذهلي وابن عدي وأبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي وفي إسناد المرفوع من لا تقوم به الحجة وأصح من هذا الحديث وأرجح حديث طلق بن علي أو علي ابن طلق عند أحمد ["1/86" [، وأهل السنن [أبو دأود "205"، الترمذي "1166"] ، وغيرهم: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة" وصححه ابن حبان ولا يضر تفرد جرير بن عبد الحميد بالزيادة وهي قوله وليعد الصلاة فإنه إمام ثقة. ولا يشكل على هذا أيضا حديث ذي اليدين ووجه الإشكال أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فأخبره ذو اليدين بأنه صلى ثلاثا فقط فقال: "أحق ما يقول ذو اليدين؟ " لأنا نقول هذا

الخروج والكلام الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو حال اعتقاده لتمام الصلاة وعدم نقصها فالبناء على ما مضى منها هو لهذا والدليل وإن دل على أن الكلام مبطل للصلاة فهو كلام العامد لا كلام من كان ساهيا أو في حكم الساهي. قوله: "أوفرض" أقول: الحق أن الفروض لا توجب فساد الصلاة بل يأثم تاركها وتجزئه صلاته لأن الأدلة الدالة عليها إنما اقتضت وجوبها ولم تقتض أن الصلاة تنعدم بانعدامها ولو اقتضت ذلك لما كنت فروضا بل تكون شروطا. وأما إذا كان الفرض ركنا من الأركان كالركوع والسجود فالركن يختل صورة ما هو ركن فيه باختلاله فالصورة المطلوبة بكمالها غير موجودة فإن تركه عمدا بطلت الصلاة وإن تركه سهوا فعله ولو بعد الخروج من الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الرابعة بعد أن سلم من ثلاث ركعات في حديث ذي اليدين. قوله: "وبالفعل الكثير" الخ. أقول: قد خبط المفرعون في هذا المقام خبطا طويلا واضطربت آراء جماعة من الجتهدين العاملين بالأدلة المؤثرين لما صح من الرواية. والحق الحقيق بالقبول أن يقال إن الصلاة بعد انعقادها والدخول فيها لا تفسد إلا بمفسد قد دل الشرع على أنه مفسد كانتقاض الوضوء ومكالمة الناس عمدا أو ترك ركن من أركانها الثابتة بالضرورة الشرعية عمدا. فمن زعم أنه يفسدها إذا فعل المصلي كذا فهذا مجرد دعوى إن ربطها المدعي بدليلها نظرنا في الدليل فإن أفاد فساد الصلاة بذلك الفعل أو الترك فذاك وإن جاء بدليل يدل على وجوب ترك الفعل كحديث "اسكنوا في الصلاة" [مسلم "87/119"] ، فإنه حديث صحيح فيقال له هذا أمر بالسكون وغاية ما فيه وجوب السكون وترك ما لم يكن من الحركات الراجعة إلي ما لا يتم الإتيان بالصلاة إلا به فمن فعل ما ليس كذلك من الأفعال كمن يحرك يده أو رأسه أو رجله لا لحاجة فقد أخل بواجب عليه ولزمه إثم من ترك واجبا. وأما أنها لا تفسد به الصلاة فلا. فإن قلت هل يمكن الإتيان بضابط يعرف به ما لا يفسد الصلاة وما يفسدها من الأفعال قلت لا بل الواجب علينا الوقوف موقف المنع حتى يأتي الدليل الدال على الفساد. ومما يصلح سندا لهذا المنع ما ثبت في الصحيحين [البخاري "516"، "5996"، مسلم "543"] ، وغيرهما [أبو دأود "917، 918،919، 920"، النسائي "711، 1204، 1205"، أحمد "5/295، 296"] ، من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وفي رواية لمسلم وأبي دأود بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلي الصلاة إذ خرج علينا وأمامه بنت أبي العاص بنت بنته

على عاتقه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه وقمنا خلفه وهي في مكانها الذي هي فيه فكبر وكبرنا حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته. وهذا الحديث الصحيح إذا سمعه المقلد الذي قد تلقن أن الفعل الكثير من مفسدات الصلاة وتلقن أن تحريك الإصبع مثلا ثلاث حركات متوالية لا حق بالفعل الكثير موجب لفساد الصلاة خارت قواه واضطرب ذهنه فإن هذه الصبية لا تقدر على أن تستمسك على ظهره صلى الله عليه وسلم إلا وعمرها ثلاث سنين فصاعدا فأخذها من الأرض ووضعها على الظهر وكذلك إنزالها ووضعها على الأرض يحتاج إلي مزأولة وأفعال تحصل الكثرة لدى هذا المقلد بما هو ليس من ذلك بكثير. ثم مما يصلح أيضا أن يكون سندا للمنع حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر وكان إذا أراد السجود نزل عنه إلي الأرض فسجد ثم يعود وفعل كذلك حتى فرغ من صلاته والحديث في الصحيحين وغيرهما فإن كان ولا بد من تقدير الفعل الكثير المخالف لمشروعية السكون في الصلاة فليكن ما زاد على ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين فإنه فعل هذه الأفعال في صلاته الفريضة والمسلمون يصلون خلفه وهو القدوة والأسوة وإنما فعل ذلك لبيان جوازه وأنه لا ينافي ما شرعه الله في الصلاة ومن قال بخلاف هذا فقد أعظم الفرية وقصر بجانب النبوة وأوقع نفسه في خطب شديد والهداية بيد الله سبحانه. وبهذا تعرف أن ما جعله المصنف كثيرا بذاته أو بانضمام غيره إليه وإلحاق الملتبس بالكثير وذكره للعفو عن الفعل اليسير وإيجاب تارة وندب أخرى وكراهته التنزيهية في حالة وإباحته في أخرى لا مستند له إلا مجرد الرأي المحض فلا نطيل الكلام على ذلك. قوله: "وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها". أقول: في الصحيحين [البخاري "1199"، مسلم "538"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: "إن في الصلاة شغلا" ولفظ أبي دأود ["924"] ، والنسائي ["3/19"] : "إن الله عز وجل يحدث من امره ما شاء وإن الله سبحانه وتعالي قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة" وأخرجه عبد بن حميد وأبو بعلي وفيه: "وإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا". وأخرج البخاري ["1217"، مسلم ["36/540"] وغيرهما] ابن ماجة "1018"، النسائي "1189"، أحمد "3/334"] من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي"، وكان على راحلته متوجها إلي القبلة. وأخرج البخاري ["200"] ، ومسلم ["539"] ، وغيرهما [أحمد "4/368"، أبو دأود "949"،

الترمذي "405"، النسائي "3/18"] ،عن زيد بن أرقم قال إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. فقد اجتمع في هذه الأحاديث الأمر بترك الكلام والنهي عن فعله في الصلاة قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة. واختلفوا في كلام الساهي والجأهل وقد ذكرت الخلاف في ذلك وما استدلوا به في شرحي للمنتقى. ومما يستدل به على المنع من الكلام في الصلاة حديث معأوية بن الحكم السلمي عند مسلم ["33/537"] وغيره [أبو دأود "931"، النسائي "3/14 – 18"، أحمد "5/447، 448"] بلفظ: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وفي لفظ لأحمد: "إنما هي التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن". والمراد بقوله: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" أي من تكليمهم ومخاطبتهم هذا هو المعنى العربي الذي لا يشك فيه عارف وليس المراد ما زعمه المانعون للدعاء في الصلاة من أن المراد لا يصلح فيها شيء مما هو من كلام الناس الذي ليس من كلام الله فإن هذا خلاف ما هو المراد وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة في منع الكلام وخلاف ما ثبت في الصلاة من ألفاظ التشهد ونحوها وخلاف ما تواتر تواترا لا يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة من الأحاديث المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبألفاظ دالة على مشروعية مطلق الدعاء كقوله صلى الله عليه وسلم: "وليتخير من الدعاء أعجبه إليه" [أحمد "1/437"، النسائي "163"] . وبالجملة فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر إلا ممن لا يعرف السنة النبوية ولا يدري بما اشتملت عليه كتبها المعمول بها والمرجوع إليها في جميع الأقطار الإسلامية وفي كل عصر وعند أهل كل مذهب. ومن عجائب الغلو وغرائب التعصب قولهم إن القراءة الشاذة من جملة ما يوجب فساد الصلاة وجعلوها من كلام الناس وأنه لا يكون من كلام الله إلا ما تواتر وهي القراءات السبع. والحق أن القراءات السبع فيها ما هو متواتر وفيها ما هو آحاد وكذلك القراءات الخارجة عنها وقد جمعنا في هذا رسالة حافلة ونقلنا فيها مذاهب القراء وحكينا إجماعهم المروي من طريق أهل هذا الفن أن المعتبر في ثبوت كونه قرآنا هو صحة السند مع احتمال رسم المصحف له وموافقته للوجه العربي وأوضحنا أن هذه المقالة أعني كون السبع متواترة وما عداها شإذا ليس بقرآن لم يقل بها إلا بعض المتأخرين من أهل الأصول ولا تعرف عند السلف ولا عند أهل الفن على اختلاف طبقاتهم وتباين أعصارهم. قوله: "وتنحنح وأنين".

أقول: ليس هذا من كلام الناس ولا من التكلم في الصلاة ولا تشمله الأحاديث المشتملة على النهي عن الكلام ولا يحتاج إلي الاستدلال على الجواز بل الدليل على من زعم أن التنحنح والأنين من جملة المفسدات ولا دليل أصلا ولكن إذا فعله المصلي لا لسبب يقتضيه من عروض إنسداد في الصوت كما في التنحنح ولا من زيادة من الخشوع والتدبر كما في الأنين فهو لم يعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا" [الترمذي "3/12"، ابن ماجة "2708"، أحمد "2/40"، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تنحنح في صلاته وثبت عنه أنه كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. [أحمد "4/25، 26"، أبو دأود "904"، النسائي "3/13"] . قوله: "ولحن لا مثل له فيهما" أقول: الإتيان بالقراءة على الوجه العربي والهيئة الإعرأبية هو المتعين على كل قارىء سواء كان في الصلاة أو خارجها وأما أن ذلك يوجب فساد الصلاة فلا. فإنه لا بد من دليل يدل على الفساد كما عرفناك غير مرة. وهكذا الجمع بين لفظتين متباينتين عمدا فإنه لا يوجب فسادا أصلا وإن كان على غير ما ينبغي أن تكون عليه القراءة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة ما بين أسود وأبيض وعربي وعجمي وهم يقرأون القرآن فسره ذلك وقال: "اقرأوا فكل حسن" أحمد "5/132"، الترمذي "2944"] ، وقال لمختلفين في آيات القرآن من الصحابة مثل ذلك ونهاهم عن الاختلاف. فدعوى كون اللحن أو الجمع بين لفظين من مفسدات الصلاة دعوى عاطلة عن البرهان خالية عن الدليل. قوله: "والفتح على إمام" الخ. أقول: جعل هذا من المفسدات من جمود المفرعين وقصور باعهم وعدم اطلاعهم على الأدلة فلو قدرنا عدم ورود دليل يدل على مشروعيته لكان من التعأون على البر والتقوى فكيف وقد ورد ما يدل على مشروعيته فمن ذلك حديث "من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء" وهي في الصحيحين البخاري "2690"، مسلم "102/421"] وغيرهما [أبو دأود "941"، النسائي "2/82، 83"، أحمد "5/332"، 333"] ، وثبت في الصحيحين [البخاري "1203" مسلم "106"، 107، 422"وغيرهما [النسائي "1207، 1208، 1209، 1210"، ابن ماجة "1034"، الترمذي "369"، أبو دأود "939"، أحمد "2/261"] ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" وأخرج أبو دأود وابن حبان والأثرم عن المسور بن يزيد المالكي قال قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم فترك آية فقال له رجل يا رسول الله آية كذا وكذا قال: "فهلا أذكرتنيها" وإسناده لا بأس به وأخرج أبو دأود والحاكم وابن حبان من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي هل كنت معنا قال نعم قال فما منعك ورجال إسناده ثقات وأخرج الحاكم عن أنس قال كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر قد صح عن أبي عبد الرحمن السليمي أنه قال: قال علي: إذا استطعمك الإمام فأطعمه.

وأما ما أخرجه أبو دأود عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة" فهذا في إسناده من رمى بالكذب ومع ذلك ففيه انقطاع ولو كان هذا صحيحا ما صح عن علي ما ذكرنا من قوله: إذا استطعمك الإمام فأطعمه وقد ثبت في الصحيح [البخاري "684"، مسلم "102/421"] ، في قصة صلاة أبي بكر بالناس أنهم لما شاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفقوا لأبي بكر ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإعادة مع انهم فتحوا على أبي بكر بما هو غير مشروع للرجال. والحاصل أن الفتح على الإمام بالآية التي نسيها وبالتسبيح إذا وقع منه السهو في الأركان ستة ثابتة وشريعة مقدرة فالقول بأنه من المفسدات للصلاة باطل وأبطل من هذا ما ذكره المصنف من تقييده للفساد بهذه القيود التي هي مجرد خيال مختل أو رأي معتل. قوله: "وضحك منع القراءة". أقول: قد قدمنا في الوضوء أن حديث الأعمى الذي روي أنه تردى فضحك بعض من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بإعادة الوضوء والصلاة لا تقوم به الحجة ولا يصلح للاستدلال به وذكرنا هنالك ما ورد أن الضحك يبطل الصلاة وذكرنا من قال به فارجع إلي ما ذكرناه هنالك. قوله: "ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو المؤتمين". أقول: لا دليل يدل على أن هذا من مفسدات الصلاة أصلا ثم مشروعية التسبيح للرجال عند الفتح على الإمام هو من رفع الصوت إعلأما بلا شك ولا شبهة وهكذا الفتح على الإمام بالآية التي أحصر فيها هو من رفع الصوت إعلأما وقد قدمنا لك الأدلة الدالة على هذا ثم استثناء المار والمؤتمين يدل على أنه لا بأس عند المصنف ومن قال بقوله برفع الصوت إعلأما إذا كان فيه مصلحة فهو يفيد جوازه في كل ما فيه مصلحة عائدة على الواحد والجماعة من المصلين فلا وجه للفرق على ما يقتضيه كلام المصنف. والحاصل أن غالب هذه الأمور التي جعلها المصنف من مفسدات الصلاة ليس لها مستند إلا مجرد الدعأوي والشكوك والوسوسة وما بمثل هذه الخرافات تثبت الأحكام الشرعية التي تعم بها البلوى والله المستعان. قوله: "وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق". أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما عمادان من أعمدة الشريعة المطهرة قد دل عليهما كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ودلت عليها السنة المطهرة في الأحاديث المتواترة التي لا شك فيها بل هذان العمادان هما أعظم أعمدة الدين ثم أعظم أنواع هذين العمادين هو ما يرجع إلي حفظ نفوس المسلمين فمن ترك مسلما يغرق وهو يقدر على إنقاذه واستمر في صلاته فقد ارتكب أعظم المنكرات وترك أهم المعروفات فلا هو عمل بالأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا عمل بما ورد في حق المسلم على المسلم

ومنها أن يحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ومنها أن: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" [البخاري "2442"، مسلم "2580"، أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"] ، وأي إسلام له أعظم من تركه يموت غرقا وهو بمرأى منه ومسمع وأين عمل هذا المصلي الذي آثر الاستمرار في صلاته على أخيه الذي صار في غمرات الموت بأحاديث المحبة منها "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا". [مسلم "54"، أبو دأود "5193"، الترمذي "2688"، ابن ماجة "3692"] . فالحاصل أن هذا المصلي قد ترك أعظم الواجبات وارتكب أعظم المحظورات المنكرات واستمراره في صلاته منكر عظيم وقبيح شنيع فإن الله سبحانه قد طلب منه ما هو أهم من ذلك وأعظم وأقدم وهو يؤدي صلاته إذا كان في الوقت سعة وإذا ضاق عنها ولم يدرك شيئا منها فقد جعل الله القضاء لمن فاته الأداء بل يجب على المصلي ترك الصلاة والخروج منها فيما هو دون هذا بكثير وذلك نحو أن يرى من يريد فعل منكر كالزنا وشرب الخمر وهو يقدر على منعه والحيلولة بينه وبين ما هم به من المعصية وهو إذا استمر في صلاته تم لذلك العاصي فعل تلك المعصية فالواجب عليه الخروج من الصلاة وإنكار ذلك المنكر. والحاصل أن هذه الشريعة المطهرة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد والموازنة بين أنواع المصالح وأنواع المفاسد وتقديم الأهم منها على ما هو دونه ومن لم يفهم هذا فهو لم يفهم الشريعة كما ينبغي والأدلة الدالة على هذا الأصل من الكتاب والسنة كثيرة جدا لا يتسع لها هذا المؤلف. وقد ذكر الجلال ها هنا أبحاثا ساقطة البنيان مهدومة الأركان ليس في الاشتغال بدفعها إلا تضييع الوقت وشغلة الحير وإذا قد عرفت ما ذكرناه فيه تعرف الكلام على قوله: "أو تضيق وهي موسعة" وعلى قوله: "قيل أو أهم منها عرض قبل الدخول فيها". ومما يؤيد ما حررناه لك في هذا البحث حديث جريج الثابت في الصحيح [البخاري"2350"، أحمد "2/385"] ، أنها دعته أمه وهو يصلي فقال اللهم أمي وصلاتي وتردد أيهما أقدم فعوقب تلك العقوبة والحال أن إجابته لأمه وقضاء حاجتها لا تفوت باستمراره في صلاته وإكمالها فكيف إذا كان الاستمرار في الصلاة يحصل به هلاك مسلم وكان الخروج منها محصلا لحياته. وهذا وإن كان من شرع من قبلنا فقد حكاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ما يخالفه في شرعنا فكان شرعا لنا كما تقرر في الأصول.

باب والجماعة سنة مؤكدة

[باب والجماعة سنة مؤكدة إلا فاسقا أو في حكمه وصبيا ومؤتما غير متخلف بغيرهم وامرأة برجل والعكس إلا

مع رجل والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين والمتنفل بغيره غالبا وناقص الطهارة أو الصلاة بضده والمختلفين فرضا أو أداء أو قضاء أو في التحري وقتا أو قبلة أو طهارة لا في المذهب فالإمام حاكم. وتفسد في هذه على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث يكون بها عاصيا. وتكره خلف من عليه فائتة أو كرهه الأكثر صلحاء والأولى من المستويين في القدر الواجب الراتب ثم الأفقه ثم الأورع ثم الأقرأ ثم الأسن ثم الأشرف نسبا. ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب] . قوله: "باب والجماعة سنة مؤكدة". أقول: هذا هو الحق فإن الأحاديث المصرحة بأفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرادى منادية بأعلى صوت بأن الجماعة غير واجبة وموجبة لتأويل ما ورد مما استدل به على وجوبها. ومن هذه الأحاديث القاضية بعدم الوجوب ما أخرجه البخاري ["651"، ومسلم ["662"] ، وغيرهما من حديث أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام". ومنها حديث أبي بن كعب عند أحمد ["5/140"] ، وأبي دأود ["554"] ، والنسائي ["843"] ، وابن ماجه ["790"] ، مرفوعا بلفظ: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلي الله عز وجل". ومن ذلك حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وهو في الصحيحين [البخاري "645"، مسلم "249، 650"] وغيرهما [أحمد "2/65"] . ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج البخاري ["646"] ، وغيره [ابن ماجة "788"، أحمد "3/55"، أبو دأود "560"] ، عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة". فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن صلاة الفرادى صحيحة مجزئة مسقطة للوجوب وكل ما ورد مما استدل به على الوجوب فهو متأول والمصير إلي التأويل متعين. وقد ذكرنا في شرح المنتقي ما لا يبقى بعده ريب لمرتاب فليرجع إليه ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلي صلاة ثوابها جزء من سبعة وعشرين جزءا منها إلا مغبون ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية

بمثل هذا لكان مستحقا لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلي هذه الغاية والتوفيق بيد الرب سبحانه. قوله: "إلا فاسقا أو في حكمه". أقول: الفاسق من المسلمين المتعبدين بالتكاليف الشرعية من الصلاة وغيرها فمن زعم أنه قد حصل فيه مانع من صلاحيته لإمامة الصلاة مع كونه قارئا عارفا بما يحتاج إليه في صلاته فعليه تقرير ذلك المانع بالدليل المقبول الذي تقوم به الحجة وليس في المقام شيء من ذلك أصلا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فعلى المنصف أن يقوم في مقام المنع عند كل دعوى يأتي بها بعض أهل العلم في المسائل الشرعية. وما استدل به على المنع من تلك الأحاديث الباطلة المكذوبة فليس ذلك من دأب أهل الإنصاف بل هو صنع أرباب التعصب والتعنت فإياك أن تغتر بما لفقه الجلال في هذا البحث وجمع فيه بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإن هذا دأبه في المواطن التي لم ينتهض فيها الدليل. ومن تتبع شرحه لهذا الكتاب عرف صحة ما ذكرناه. وإذا عرفت هذا فلا تحتاج إلي الاستدلال على جواز إمامة الفاسق في الصلاة ولا إلي معارضة ما يستدل به المانعون فليس هنا ما يصلح للمعارضة وإيراد الحجج وبيان ما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين بظلم العباد والإفساد في البلاد. نعم يحسن أن يجعل المصلون إمامهم من خيارهم كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" وفي إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف. وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". ولكن ليس محل النزاع إلا كونه لا يصلح أن يكون الفاسق ومن في حكمه إمأما لا في كون الأولى أن يكون الإمام من الخيار فإن ذلك لا خلاف فيه. قوله: "وصبيا". أقول: الأحاديث الواردة في أن الأولى بالإمامة الأقرأ أو من كان أكثر قرآنا شاملة للصبي ومنها حديث ابن عمرو بن سلمة الثابت في اصحيح البخاري ["631"] ، وغيره [أبو دأود "589"، النسائي "781"، مسلم "674"، الترمذي "205"، ابن ماجة "979"] أنه أم قومه وهو ابن ست سنين أو سبع أو ثمان وذلك أنه لما وفد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما قال له: "وليؤمكم أكثركم قرآنا"، وكان الصبي عمرو بن سلمة أكثرهم قرآنا لأنه كان يسأل من يمر بهم من الوفد عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به فيحفظ ما يروونه له من القرآن. وقد ورد ما يدل على أنه وفد مع أبيه كما رواه الدارقطني وابن منده والطبراني.

وعلى تقدير أنه لم يفد مع أبيه فقد كانت إمامته مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل عليه ولا يقع التقرير مع نزول الوحي على ما لا يجوز. وقد استدل أهل العلم على جواز العزل بحديث جابر وأبي سعيد بأنهم فعلوا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان منهيا عنه لنهى عنه القرآن. وعلى كل حال فالصبي داخل تحت العموم فمن ادعى أن فيه مانعا من الإمامة فعليه الدليل وقد صحت الصلاة جماعة بصبي مع الإمام كما في حديث ابن عباس [البخاري "859"، مسلم "184، 763"، أبو دأود "610"، النسائي "842"، الترمذي "232"] : "أنه قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على يساره فجذبه وأقامه عن يمينه" وإذا انعقدت صلاة الجماعة مع الإمام فقط فلتنعقد صلاة الجماعة به وهو الإمام ورفع الوجوب عنه لا يستلزم عدم صحة صلاته. وقد صحت صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم 180"، أبو دأود "599"‘ 600"، الترمذي 583"] بقومه بعد صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متنفل وهم مفترضون فصحت إمامته ولا وجوب عليه إذ قد أدى الصلاة الواجبة عليه. قوله: "ومؤتما غير مستخلف". أقول: أما في حال كونه مؤتما فظاهر لحديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به" [البخاري "2/208"، مسلم "414"] ، وحديث "لا تختلفوا على أئمتكم" ومعلوم أن كون الإمام مؤتما تصير له أحكام الإمام وأحكام المؤتم فيؤدي ذلك إلي الاختلاف على إمامه يما يجب عليه الاقتداء به فيه. وأما ما ورد من ائتمام الناس بأبي بكر وائتمامه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قاعدا في مرضه وما ورد أنه يأتم بالمتقدمين من بعدهم فالمراد أنهم يركعون بركوعهم ويسجدون بسجودهم لأنهم مطلعون على ركوع الإمام وسجوده واعتداله لقربهم منه وقد يخفى ذلك على من هو بعيد منه فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بمن هو متقدم عليهم من صفوف الجماعة. وأما المؤتم اللاحق بالإمام إذا قام لتمام صلاته منفردا فلا بأس بأن يأتم به غيره من المؤتمين الذين لم يدركوا إلا بعض الصلاة وعليه عند ذلك نية الإمامة وعليهم نية الائتمام ولا مانع من هذا والأدلة الدالة على مشروعية الجماعة تشمله. ومن ادعى أنه لا يصلح للإمامة فعليه الدليل والتعليل بكون النية المتوسطة لا تصلح ليس بشيء. قوله: "وامرأة برجل أو العكس". أقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال وذلك لأنهن عورات وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيده هذا ولا يقال الأصل الصحة لأنا نقول قد ورد ما يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور وهذا

من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها فعموم قوله: "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" كما في الصحيحين [البخاري "709"، وغيرهما [أحمد "5/47، 51"، الترمذي "2262"، النسائي "8/227"] ، يفيد منعهن من أن يكون لهن منصب الإمامة في الصلاة للرجال. وأما كون الرجل يؤم المرأة وحدها فلم يرد ما يدل على المنع من ذلك وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بحضور المساجد والدخول في جماعة الرجال وإذا جاز ذلك مع الرجال جاز أن يؤم الرجل بمرأة واحدة من محارمه ومن يجوز له النظر إليه. وقد أخرج أبو دأود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نفخ في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نفخت في وجهه الماء"، وإسناده ثقات وظاهره أعم من أن يصليا جماعة أو فرادى. وأصرح من هذا ما أخرجه أبو دأود ["1309، 1451"] ، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات". وأخرج الإسماعيلي في مستخرجه عن عائشة أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المسجد صلى بنا وقال إنه حديث غريب ولكن غرابته لا تنافي صحته فإن الإسماعيلي إنما ذكر في مستخرجه ما هو على شرط الصحيح. وثبت في اصحيح البخاري] "2/184"] في ترجمة باب إنه كان يؤم عائشة عبدها ذكوان من المصحف. وأما كون المرأة تؤم النساء فالظاهر أنه لا منع من ذلك وقد أخرج أبو دأود من حديث أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها وفي إسناده عبد الرحمن ابن خلاد وهو مجهول الحال ولكن ذكره ابن حبان في ثقاته وقد رواه معه غيره ففي رواية لأبي دأود ["591"] ، قال عن عثمان عن وكيع عن الوليد بن جميع قال حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت نوفل فذكره. قوله: "والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين". أقول: ما أحسن ما قيل في هذا إن المسافر إذا صلى مع المقيم أتم لما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم قال تلك السنة وفي لفظ لأحمد ["1/337"] : "أنه قال له موسى بن سلمة إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا فإذا رجعنا ركعتين قال تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"، قال في خلاصة البدر إن إسناده على شرط الصحيح انتهى قال في البدر وأخرجه الطبراني في الكبير بإسناد رجاله كلهم محتج بهم في الصحيح. وأصله في مسلم ["7/688"] ، والنسائي ["3/119""] بلفظ قلت لابن عباس كيف أصلي إذا

كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام قال ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. قوله: "والمتنفل بغيره". أقول: أما صلاة المتنفل بالمتنفل فمما لا ينبغي أن يقع في صحتها خلاف لما ثبت من ائتمام غير النبي صلى الله عليه وسلم به في كثير من النوافل وهي أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما. وأما ائتمام المفترض بالمتنفل فحديث صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم "465"] ، بقومه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحه هو وغيره أن التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم هي الفريضة والتي صلاها بقومه نافلة لهو دليل واضح وحجة نيرة وما أجيب به عن ذلك من أنه قول صحأبي لا حجة فيه فتعسف شديد فإن الصحأبي أخبرنا بذلك وهو أجل قدرا أن يروي يروي بمجرد الظن والتخمين وقد وقع هذا في عصره صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فلو كان غير جائز لما وقع التقرير عليه. ومما يؤيد ذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف [البخاري "4136"ن مسلم "843"] ، فإنه صلى بكل طائفة ركعتين فهو في إحدى الصلاتين متنفل وهو مفترضون. وأيضا الأصل صحة ذلك والدليل على من منع منه. وأما الاستدلال بحديث: "لا تختلفوا على إمامكم" فوضع الدليل في غير موضعه فإن النهي على فرض شموله لغير ما هو مذكور بعده من التفصيل لا يتنأول إلا ما كان له أثر ظاهر في المخالفة من الأركان والأذكار وفعل القلب لا يدخل في ذلك لعدم ظهور اثر المخالفة فيه ولو قدرنا دخوله لكان مخصوصا بدليل الجواز. قوله: "وناقص الصلاة أو الطهارة بضده". أقول: الدليل على من منع من ذلك لأن الأصل الصحة وقد استدلوا على منع إمامة ناقص الصلاة بضده بالحديث الصحيح المصرح بالنهي عن الاختلاف على الإمام وفيه "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" [البخاري"722"، مسلم "86/414"، أبو دأود "603"] ، ولكن هذا لا يدل على أن كل ناقص صلاة لا يؤم بغيره كالأعرج والأشل مع كونهم يجعلونهما وأمثالهما ناقصي صلاة ثم مع هذا قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته وهي آخر صلاة صلاها بهم وكان قاعدا وكانوا قيأما فإن حمل هذا على اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كان ذلك خلاف الظاهر وإن جعل ناسخا لم يصح الاستدلال بحديث "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" هكذا ينبغي أن يقال في ناقص الصلاة. وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع أصلا فيصح أن يؤم المتيمم متوضئا ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما ولا يحتاج إلي الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب فإن الدليل على المانع كما عرفت والأصل الصحة. قال في المنتقي وقد صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا وكذلك عثمان وروي عن علي رضي الله عنهم من قوله انتهى.

وروى الأثرم عن ابن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة منهم عمار بن ياسر فلما فرغ من الصلاة ضحك وأخبرهم أنه اصاب من جارية له رومية فصلى بهم وهو جنب متيمم. وأخرج البخاري ["694"] وغيره من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم". قول: "والمختلفين فرضا" أقول: قد ذكرنا أن الدليل على من زعم أن ثم مانعا من الصحة ولكن أما مع اختلاف الفرضين فمدعي الصحة يحتاج إلي دليل على ذلك ولم يثبت أصلا ولا سمع في ايام النبوة بمثل هذا. فالحاصل أن الفريضة إن كانت واحدة فالأصل صحة الائتمام والدليل على من ادعى عدم الصحة أما إذا كانا مفترضين فريضة فظاهر وهكذا إذا كانا متنفلين وقد قدمنا أن الأدلة على ذلك كثيرة جدا. وأما إذا كان الإمام مفترضا والمؤتم متنفلا فلحديث "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" أخرجه أبو دأود ["574"] ، والترمذي] "220"] ، وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فإن الخطاب لجماعة قد صلوا فريضتهم. وأما إذا كان الإمام متنفلا والمؤتم مفترضا فلحديث معاذ المتقدم وما ورد في معناه. وأما مع الاختلاف أداء وقضاء مع اتفاق الفريضة فلم يثبت شيء من هذا في أيام النبوة ولا في أيام الصحابة. وأما مع الاختلاف وقتا فلا يحل لمن لم يكن عنده أن ذلك الوقت وقت للصلاة أن يدخل فيها لا إمأما ولا مؤتما فإن فعل فقد عصى وصلاته باطلة وإذا كان إمأما فقد صحت صلاة المؤتم به الذي يعتقد دخول الوقت لحديث "وإن أخطأ فلكم وعليهم". وأما مع الاختلاف في القبلة فلا يحل من اعتقد أن القبلة في غير جهة إمامه أن يأتم به. وأما استثناء الخلاف في المذهب فلا بأس بذلك لكن لا يجوز أن يخالفه فيما نص عليه حديث "لا تختلفوا على إمامكم". من ذلك التفصيل وإذا عرفت هذا علمت أن قوله: "وتفسد على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث يكون بها عاصيا" لا ينبغي أن يؤخذ كليا فإن الفساد لا يكون إلا لفوات ما دل الدليل على أن الصلاة لا تكون صلاة إلا به وقد قدمنا تحقيق هذا. ولا وجه لقوله: "وتكره خلف من عليه فائتة" لعدم وجود الدليل على ذلك والكراهة حكم شرعي لا يجوز القول به مجازفة وعلى تقدير كون التراخي عن قضاء الفائتة معصية فذلك لا يستلزم عدم صلاحيته للإمامة كما تقدم. قوله: "وكرهه الأكثر صلحاء". أقول: ما ورد فيمن أم قوما وهم له كارهون من الوعيد متوجه إلي الإمام ولم يرد في

المؤتمين شيء من ذلك بل الأحاديث القاضية بأن الأئمة في الصلاة إن اصابوا فللمؤتمين بهم ولهم وإن أخطأوا فللمؤتمين وعليهم يدل على أن صلاة المؤتمين صحيحة وأن الإمام الذي أم قوما وهم له كارهون يكون خطؤه عليه لا عليهم وظاهر الأحاديث الواردة في وعيد من أم قوما وهم له كارهون أن صلاته غير مقبولة كحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون" الحديث أخرجه أبو دأود ["593"] وابن ماجه ["670"] وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وضعفه خفيف لا يسقط الاعتبار بحديثه. وأخرج الترمذي ["360"] ، في حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تجأوز صلاتهم آذانهم" وفيه: "إمام أم قوما وهم له كارهون" قال الترمذي حديث حسن غريب انتهى وفي إسناده أبو غالب الراسبي البصري قال أبو حاتم ليس بالقوي وقال النسائي ضعيف لكنه قد صحح له الترمذي ووثقه الدارقطني وعدم قبول صلاته لا يستلزم عدم قبول صلاة المؤتمين لما تقدم فذلك عليه لا عليهم والإثم راجع إليه لا إليهم. وقد أخرج الترمذي ["358"] ، عن أنس مرفوعا بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجلا أم قوما وهم له كارهون الحديث قال الترمذي حديث أنس لا يصح لأنه قد روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفي إسناده أيضا محمد بن القاسم الأسدي قال الترمذي يتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ وضعفه أيضا البيهقي. وأخرج ابن ماجه ["971"] عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون" الحديث قال العراقي إسناده حسن. وأخرج الطبراني في الكبير عن طلحة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه"، وفي إسناده سليمان بن ايوب الطلحي قال أبو زرعة عامة أحاديثه لا يتابع عليها وقال الذهبي في الميزان صاحب مناكير وقد وثق. وأخرج البيهقي عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "ثلاثة لا تجأوز صلاتهم رؤوسهم رجل أو قوما وهم له كارهون" الحديث. قال البيهقي هذا إسناده ضعيف. قوله: "والأولى من المستويين في القدر الواجب". أقول: ثبت في صحيح مسلم ["673"،] ، وأحمد ["3/24"] ، والنسائي ["2/77"] من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة اقرأهم". وثبت في صحيح مسلم ["673"] ، وغيره من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وفي رواية: "فأقدمهم سلما" أي إسلاما "ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه".

وفي الصحيحين [البخاري "630"، مسلم "674"، وغيرهما [أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"] من حديث مالك بن الحويرث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولصاحب لي: "إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما". ولمسلم ["674"، وأحمد "3/436"، "وكانا متقاربين في القراءة". فهذا الترتيب النبوي هو الذي ينبغي اعتماده والعمل عليه ولم يرد شيء في تقديم الراتب على غيره وما قيل إنه قد ثبت له سلطان لكونه راتبا فذلك مجرد دعوى فإن السطان أمره بالمعروف لغة وشرعا. نعم إذا كان الرجل في بيته فقد ثبت في صحيح مسلم ["291/673"] ، وغيره أبو دأود ""582"] : "لا يؤم الرجل الرجل في أهله". وهكذا لم يرد في تقديم الأورع شيء يخصه وأما حديث ابن عباس الذي رواه الدارقطني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" فلا تقوم به الحجة لضعف إسناده. وهكذا لا دليل على تقديم الأشرف نسبا والاستدلال بمثل حديث "الناس تبع لقريش" [مسلم "1819"، أحمد "3/379"] ، ونحوه وضع الدليل في غير موضعه. وأما قوله: "ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب" فمبنى على اعتبار العدالة في إمام الصلاة وقد قدمنا ما فيه كفاية. [فصل وتجب نية الإمامة والائتمام وإلا بطلت أو الصلاة على المؤتم فإن نويا الإمامة صحت فرادى والائتمام بطلت وفي مجرد الاتباع تردد] . قوله: "فصل ويجب نية الإمامة والائتمام" الخ. أقول: صلاة الجماعة عمل لأن لها وصفا زائدا على صلاة الفرادى بالاجتماع والمتابعة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" فلا يكون الإمام إمأما ولا المؤتم مؤتما إلا بالنية فإذا لم ينويا جميعا لم تكن جماعة وصحت صلاة الجميع فرادى ومجرد الانتظار والمتابعة لا يوجبان البطلان. وهكذا إذا نويا الائتمام لم يكن ذلك موجبا لبطلان صلاتهما لأن نية الإمامة قد تضمنت نية أصل الصلاة مع نية أمر زائد عليها وهو التجميع فإذا بطل كونها جماعة لم يبطل كونها صلاة

ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل فكهذا ينبغي أن يكون الكلام في هذا المقام فدع عنك التسرع إلي الحكم بالبطلان فأمر الشرع لا يثبت بالترهات والخزعبلات كما وقع هنا في شرح الجلال رحمه الله من المجادلة لعدم وجوب النية من الأصل. [فصل ويقف المؤتم الواحد أيمن إمامه غير متقدم ولا متأخر بكل القدمين ولا منفصل وإلا بطلت إلا لعذر إلا في التقدم والاثنان فصاعدا خلفه في سمته إلا لعذر أو لتقدم صف سامته ولا يضر قدر القامة ارتفاعا وانخفاضا وبعدا وحائلا ولا فوقها في المسجد أو في ارتفاع المؤتم لا الإمام فيهما. ويقدم الرجال ثم الخناثا ثم النساء ويلي كلا صبيانه ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها أو في صفها إن علموا. ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي وفاسد الصلاة فينجذب من بجنب الإمام أو في صف منسد لا اللاحق غيرهما] . قوله: "فصل ويقف الواحد أيمن إمامه" الخ. أقول: هذا الموقف للمؤتم الواحد هو الثابت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وأما الحكم على من تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما أو انفصل بقدرهما ببطلان صلاته فليس على ذلك دليل ولا شك أن تسوية الصف والتراص والزاق الكعاب بالكعاب سنة ثابتة وشريعة مستقرة ولكن البطلان لا يكون إلا بدليل يدل عليه ويفيده وإلا فالأصل الصحة بعد الدخول في الصلاة. قوله: "والاثنان فصاعدا خلفه". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم هو هكذا كما في صحيح مسلم ["3010"، وغيره أبو دأود "634"] ، من حديث جابر أنه أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه ثم جاء آخر فقام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما خلفه. وأخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا قال ابن عساكر في الأطراف إنه حديث غريب فاجتمع القول والنقل على أن موقف الاثنين خلف الإمام هو الثابت في عصره صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة بعده أو عصر من بعدهم. وأما ما روي عن ابن مسعود أنه دخل عليه الأسود بن يزيد وعلقمة فأقام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فهو موقوف عليه كما في صحيح مسلم ["26/534"] وغيره [الترمذي "1/453"، أبو دأود "868"، النسائي "2/183، 184"] .

ووقع عند أحمد ["1/414، 451، 455، 459"] ، وأبي دأود ["868"، والنسائي ["2/49، 50"] ، أن ابن مسعود قال هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة وفي إسناد هذه الزيادة هارون بن عنترة وفيه مقال معروف قال ابن عبد البر هذا الحديث لا يصح رفعه والصحيح عندهم أنه موقوف على ابن مسعود وعلى تقدير صحة الرفع فقد ذكر جماعة من الحفاظ أنه منسوخ قالوا وإنما تعلم ابن مسعود ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه ومن زعم أن هذه الزيادة المقتضية للرفع في صحيح مسلم فقد أخطأ. وأما اعتبار أن يكونا في سمته فهو معنى كونهما في خلفه وأنهما لو وقفا في جانب خارج عن سمته لم يكونا خلفه وإذا عرض مانع يمنعهما من الوقوف خلفه في سمته جاز لهما الوقوف في أي مكان فلا يجب عليهما إلا ما يدخل تحت إمكانهما. قوله: "ولا يضر قدر القامة" الخ. أقول: لا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في المسجد ولا في غيره من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض والبعد الحائل ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة فعليه الدليل ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة أنه أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود البدري بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال له أبو مسعود ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال بلى قد ذكرت حين مددتني أخرجه أبو دأود ["597"] وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ورواه أبو دأود ["598"] ، من وجه آخر وفيه أن الإمام كان عمار ابن ياسر والذي جبذه حذيفة ولكن فيه مجهول لأنه من رواية عدي بن ثابت الأنصاري قال حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر في المدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار وقام علي وكان يصلي والناس من اسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ عمار من صلاته قال حذيفة ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مكانهم" أو نحو ذلك قال عمار لذلك تبعتك حين أخذت على يدي هكذا ساقه أبو دأود ["1/399، 400"] وفي إسناده الرجل المجهول الذي ذكرناه ورواه البيهقي أيضا. ففي هذا الحديث والحديث الأول دليل على منع الإمام من الارتفاع على المؤتم ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر كما وقع في الصحيحين وغيرهما ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها قوله: "وتقدم الرجال". الخ. أقول: أما تقديم الرجال على النساء فهو الثابت في جماعاته في مسجده صلى الله عليه وسلم وكذلك

ثبت عنه ذلك في صلاته في غير المسجد كما في حديث فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس. وأخرج أحمد ["5/298"] ، وابو دأود ["677"] من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان فأفاد هذا تقديم الرجال على الغلمان وتقديم الغلمان على النساء وأما الخناثى فلم يرد فيهن شيء ولا وجد هذا الجنس في زمن النبوة ولا ورد ما يفيد تقديمه على النساء وإنما لما كان له نسبة إلي الرجال ونسبة إلي النساء كان متوسطا بين الجنسين. قوله: "ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة لهم وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها" الخ. أقول: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية. وأما فساد صلاتها بذلك فلا دليل يدل عليه وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها وذلك لا يوجب فساد الصلاة بل يكون من وقف بجنبها مختارا لذلك أو نظر إليها عاصيا وصلاته صحيحة وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الإئتمام بإمامهم. والحاصل أن هذا التسرع إلي إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الإنصاف ولا من صنيع المتورعين. قوله: "ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي وفاسد الصلاة" أقول: أما استثناء الصبي فمصادم للدليل الصحيح الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أنه صف هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم ووقفت العجوز أم سليم خلفهما ومصادم لما ثبت في الصحيحين [البخاري "859"، مسلم "184/763"] ، وغيرهما [أبو دأود "610"، والنسائي "842"، الترمذي "232"، من صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم وحده بعد أن وقف عن يساره فأداره إلي يمينه ومصادم لما أخرجه النسائي في الخصائص أن عليا كان يصلي إلي جنب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بلوغه. وأما استثناء فاسد الصلاة فليس على ذلك دليل والأصل الصحية وغاية ما هناك أن يكون فاسد الصلاة بمنزلة السارية المتخللة في وسط الصف ولم يصب من ادعى أن بينهما فرقا. قوله: "فينجذب من بجنب الإمام" أقول: أما مشروعية انجذاب من بجنب الإمام فيدل على ذلك ما تقدم في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه فجاء آخر فوقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامها خلفه.

وأما مشروعية انجذاب من في الصف المنسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو دأود في المراسيل بلفظ: "إذا انتهى أحدكم إلي الصف وقد تم فليجذ إليه رجلا يقيمه إلي جنبه" لأنه مع كونه مرسلا في إسناده مقاتل بن حيان وفيه مقال ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة فثم انقطاع بينه وبين الصحأبي فهو مرسل معضل. ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الآتي وقد تمت الصلاة بأن يجذب إليه رجلا يقيمه إلي جنبه فإن في إسناده بشر بن إبراهيم وهو ضعيف جدا. وهكذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى خلف الصف: "أيها المصلي هلا دخلت في الصف وجررت رجلا من الصف أعد صلاتك" فإن في إسناده السري بن إسماعيل وهو متروك وقد رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق اخرى ولكن فيها قيس بن الربيع وهو ضعيف ورواه ابن أبي حاتم في علله من طريق ثالثة وفي إسنادها ضعف. ولكن الانجذاب معأونة على البر والتقوى فيكون مندوبا من هذه الحيثية. [فصل وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها وهي أول صلاته في الأصح ولا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع ويتابعه ويتم ما فاته بعد التسليم فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم. وندب أن يقعد ويسجد معه ومتى قام ابتدأ وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها وأن يرفض ما قد أداه منفردا ولا يزد الإمام على المعتاد انتظارا وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم وسط] . قوله: فصل: "وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها". أقول: هذا مذهب الجمهور وخالفهم جماعة من أهل العلم وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة بحثت فيها مع بعض أهل العلم المائلين إلي مذهب الجمهور ثم ذكرت في شرحي للمنتقي خلاصة البحث بما لا يحتاج الناظر إلي غيره فلا نطيل الكلام في هذا المقام فإن رجوع الطالب للحق إلي ما ذكرناه يغنيه. قوله: "وهي أول صلاته في الأصح".

أقول: هذا القول الراجح والمذهب الصحيح وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عبد الرحمن بن عوف ودخل معه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية فلما سلم عبد الرحمن قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعة ثم سلم وهو في الصحيحين [البخاري"182"، مسلم "105/274"] ، وغيرهما [أبو دأود "149"، أحمد "4/251"] ، وثبت في الصحيحين [البخاري "2/117"، مسلم "151، 152، 153،"] ، وغيرهما [الترمذي "327"] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فالأمر بالإتمام يدل على أن ما أدركه مع الإمام أول صلاته. وأما ما ورد في رواية مسلم بلفظ: "وما فاتكم فاقضوا" فقد حكم مسلم على الزهري بأنه وهم في هذا اللفظ فلا متمسك لمن تمسك بهذا اللفظ الذي وقع فيه الوهم. وأيضا لو قدرنا عدم الوهم لكان تأويل هذا اللفظ الذي خالف الروايات الكثيرة الصحيحة بحمل القضاء على الإتمام فإنه أحد معانيه متعينا وقد ورد به الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {فَإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي أتممتموها وقال الله عز وجل: {فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] الآية. وبهذا تعرف أنه ليس في المقام ما يصلح لمعارضة الأمر بالإتمام وتعرف صحة ما قاله المصنف من أنه لا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع وأنه يتم ما فاته بعد التسليم. وأما قوله: "فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم" فليس على هذا دليل بل ظاهر أمر المؤتم بالسجود إذا أدرك الإمام ساجدا أنه يكبر ويعتد بتلك التكبيرة لصلاته ولا يعتد بتلك السجدة ولفظ الحديث في سنن أبي دأود هكذا "إذا جئتم إلي الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وقد صححه ابن خزيمة. وهكذا حديث: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حاله فليصنع كما يصنع الإمام" أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده إلا ما روي من هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم انتهى وفي إسناده الحجاج ابن أرطاة وفيه مقال قال ابن حجر في الفتح وينجبر ضعفه بما رواه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحالة التي أنا عليها". قوله: "وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها". أقول: جعل المصنف هذا الخروج مندوبا وقيده بقوله لخشية فوتها وظاهر الحديث الصحيح عند مسلم ["36/71"] ، وأحمد ["517"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1266"، النسائي "2/116"، الترمذي "421"، ابن ماجة "1151"] ، وغيرهم أن الخروج واجب إذا سمع إقامة الصلاة إن كان المراد بقوله في الحديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" نفس الإقامة وهي قول المؤذن قد قامت الصلاة. وإن كان المراد القيام إلي الصلاة كان الواجب عليه إذا عاين قيامه إلي الصلاة أن يخرج لأن ظاهر قوله: "فلا صلاة" نفي ذات الصلاة الشرعية فالمتنفل عند إقامة الصلاة قد بطلت صلاته فإذا

استمر فيها فقد استمر في صلاة غير شرعية وخالف ما جاء عن الشارع. وإن كان المراد المعنى المجازي في قوله: "فلا صلاة" فقد قدمنا لك أن نفس الصحة هو أقرب المجازين إلي الحقيقة فيجب الحمل عليه لأنه يستلزم انتفاء صحة الصلاة. وبهذا تعرف أنه لا وجه للتقييد بقوله لخشية فوتها ولا لجعل الخروج مندوبا فقط. قوله: "وندب أن يرفض ما قد أداه منفردا". أقول: قول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، يدل بعمومه على أنه لا يجوز إبطال عمل من الأعمال كائنا ما كان والذي قد صلى منفردا إذا رفض صلاته فقد أبطل عمله فلا يجوز المخالفة لما يقتضيه هذا العموم إلا بدليل وقد دل الدليل على أن من صلى في بيته ثم وصل إلي جماعة فإنه يدخل معهم في الجماعة ثم اختلفت الروايات أيهما النافلة هل التي قد صلاها أو التي دخل فيها مع الجماعة وثم مرجح لكون النافلة هي الأخرى وهي الأحاديث الواردة أنها "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" [أبو دأود "579؟ "، النسائي "860"، أحمد "2/19"] ، وأنه لا ظهران في يوم فلو كانت الثانية هي الفريضة لكان قد أبطل عمله وصلى الصلاة في يوم مرتين وهذا مرجح قوي لكون الثانية نافلة والأولى فريضة ومع هذا فالحديث الذي فيه أن الأولى نافلة والثانية فريضة حديث ضعيف لا تقوم به الحجة. ويقوي ما ذكرناه من كون الفريضة هي الأولى ما تقدم في حديث معاذ أنه كان يصلي بقومه ويجعلها نافلة وكذلك حديث "ألا رجل يتصدق على هذا" فيصلي معه وقد قدمنا أنه حديث صحيح. فهذان الحديثان في الجملة يدلان على مشروعية النافلة مع الجماعة. ويؤيد ما ذكرناه أيضا أحاديث الصلاة مع أمراء الجور فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدخول في جماعتهم ويجعلها الذي قد صلى في بيته نافلة. وأظهر مما ذكرناه حديث يزيد بن الأسود في قضية الرجلين اللذين لم يصليا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بهما ترعد فرائصهما فقالا قد صلينا في رحالنا فقال لهما: "إذا أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" [أبو دأود "575، 576"، النسائي "2/112، 113"] ، هو حديث صحيح. قوله: "ولا يزيد الإمام على المعتاد انتظارا". أقول: انتظار اللاحق ليدرك إمامه هو من باب قوله تعالي: {وَتَعَأونُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، فلا يحتاج إلي الاستدلال عليه بدليل يخصه بل يكفي هذا العموم ثم حديث أمر الإمام بالتخفيف لا يعارض هذا العموم إلا إذا حصل بالانتظار تطويل وهو غير مسلم فإن التطويل والتخفيف من الأمور النسبية نعم إذا كان الانتظار يحصل به تضرر من المؤتمين فإنه يخصص عموم الآية وهذا على تقدير أنه لم يرد في انتظار اللاحق دليل يخصه وقد ورد ما يخصصه وهو ما أخرج أحمد ["4/356"] ، وأبو دأود ["802"] ، والبزار عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان ينتظر في

صلاته حتى لا يسمع وقع قدم" وفي إسناده رجل مبهم ولكنه قد بين هذا الرجل المبهم المزني في الأطراف فقال إنه روى هذا الحديث أبو إسحق الخميسي عن محمد ابن حجارة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى فذكره وكثير هذا ثقة من ثقات التابعين وذكر النووي في شرح المهذب أن بعض الرواة سمى هذا الرجل فقال طرفة الحضرمي صاحب ابن أبي أوفى وذكر في التقريب أنه مقبول من الخامسة. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر وهكذا في صلاة الصبح وفي رواية لأبي دأود ["759"] أنه كان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية وهكذا في صلاة العصر وهكذا في صلاة الغداة. وفي رواية لعبد الرزاق وابن خزيمة أنه قال الرأوي ظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. قوله: "وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم وسط". قول أما جماعة النساء فقد تقدم الكلام عليها وأما جماعة العراة فالظاهر أنهم يصلون جماعة كما يصلي غيرهم من الرجال ويتقدم الإمام ويصفون خلفه ولهم عذر ظاهر وهو كونهم عراة وعليهم غض أبصارهم. [فصل ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه إن عزل فورا وليستخلف مؤتما صلح للابتداء وعليهم تجديد النيتين ولينتظر المسبوق تسليمهم إلا أن ينتظروا تسليمه. ولا تفسد عليه بنحو إقعاد مأيوس فيبنى ويعزلون ولهم الاستخلاف كما لو مات أو لم يستخلف] . قوله: فصل: "ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه". أقول: هذا صواب فإن الفساد لا بد من قيام دليل يدل عليه ومجرد تعليق صلاة المؤتم بصلاة الإمام بنية الائتمام به هي ما دام الإمام إمأما فإذا بطلت صلاته فلا وجه لفساد صلاة المؤتم ثم إيجاب نية العزل عليه لا فائدة فيه لأنه قد صار بمجرد بطلان صلاة إمامه منفردا إذ لا ائتمام إلا بإمام ولا إمام فلا وجه للحكم بفساد صلاته إذا لم ينو العزل وهذا إذا كان الذي فسدت به صلاة الإمام لا اختيار له فيه كمن يحدث غير متعمد للحدث أما إذا كان الفساد وقع باختياره بسبب منه فقد قدمنا أن الإمام إذا اصاب فله وللمؤتمين به وإن أخطأ فعليه لا عليهم فلا وجه للحكم بفساد صلاة المؤتم على كل تقدير. قوله: "وليستخلف مؤتما" الخ.

أقول: أما كون هذا واجبا على الإمام فلم يدل عليه لأن صلاته قد بطلت فلم يبق إمأما وصلاة المؤتمين به إذا لم يتقدم أحدهم قد صحت فرادى. وأما حديث ائتمام الناس بأبي بكر لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ثم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخر أبي بكر لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت هذا في الصحيح [البخاري "684، 1201، 1218، 234، 2690، 2693، 790"، مسلم "421"، أبو دأود "940، 941، 942، النسائي "2/77، 78"] ، فغايته الدلالة على أنه إذا لم يحضر إمام الصلاة جاز للمؤتمين أن يؤمروا من يصلي بهم وإذا رجع الإمام وهم في الصلاة كان لللإمام الأول المفضول أن يتأخر ويتقدم الإمام الفاضل فيتم بهم الصلاة. وهكذا صلاة أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم ثم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وقعوده جنب أبي بكر فكان أبو بكر يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. فغاية ما فيه الدلالة على ما دل عليه الحديث الأول وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على وجوب الاستخلاف من الإمام الذي بطلت صلاته وأنه لا دليل على تجديد النية من الإمام والمؤتمين به فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم في تين الصلاتين بتجديد النية ولو كان ذلك واجب لأمرهم به. وأما عدم فسادها على الإمام بعروض إقعاد مأيوس فظاهر ولا يحتاج إلي ذكره ولا فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد أما كونهم يعزلون صلاتهم فلا وجه لذلك وقد تقدم حديث: "وإذا صلي قاعدا فصلوا قعودا" وهذا عذر عارض في وسط الصلاة فلا يكون حكمه حكم من دخل في الصلاة قاعدا. وأما كون للمؤتمين أن يستخلفوا من يتم بهم الصلاة فلا مانع من ذلك كما تقدم والحاصل أن هذه التفريعات لم تكن مبنية على رواية مقبولة ولا رأي صحيح. [فصل ويجب متابعته إلا في مفسد فيعزل أو جهر فيسقط إلا أن يفوت لبعد أو صمم أو تأخر فيقرأ] . قوله: "فصل ويجب متابعته". الخ. أقول: هذا صحيح وقد دل عليه حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا" الحديث وهو في الصحيحين [البخاري "734"، مسلم "414"،وغيرهما [أبو دأود "603، 604"] النسائي "921، 142، 922"، ابن ماجة"846" من حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري ["733"] عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى يرفع".

وأخرج مسلم ["112/426"] ، من حديث أنس أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف". فهذه الأحاديث ونحوها تدل على وجوب المتابعة مع ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار". وأما كونه يعزل في المفسد فقد قدمنا في الفصل الذي قبل هذا ما فيه. وأما كونه يسكت إذا جهر الإمام فذلك فيما عدا فاتحة الكتاب وأما هي ففرض عليه قراءتها في كل ركعة كما تقدم تحقيقه. [فصل ومن شارك في كل تكبيرة الإحرام أو في آخرها سابقا بأولها أو سبق بها أو بآخرها أو بركنين فعليين متواليين أو تأخر بهما غير ما استثني بطلت أحدهما] . قوله: فصل: "ومن شارك إمامه في كل تكبيرة الإحرام". أقول: ليس في هذا ما يوجب الفساد وهكذا إذا شاركه في أولها وسبق بآخرها وأما إذا سبقه بالتكبيرة كلها أو سبقه بأولها فهذا قد خالف ما أمر به من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا". أما كون صلاته تفسد فلا وتعليلهم بأنه دخل في الصلاة قبل دخول إمامه علة عليلة لا ينبغي جعلها مقتضية للفساد فإن الفساد لا بد له من دليل خاص يدل عليه يوجب انتفاء الصلاة بانتفاء ما تركه أو انتفاءها بفعل ما فعله. وأما الحكم بالبطلان بتقدم المؤتم على الإمام بركنين فعليين متواليين أو تأخره عليه بهما فلا شك أن الفاعل لذلك قد اثم وخالف ما هو واجب عليه لما قدمنا من الأدلة في الفصل الذي قبل هذا فإنها قاضية بالمنع من ذلك في الركن الواحد فضلا عن الركنين. وأما كون ذلك مبطلا للصلاة فلا دليل عليه يوجب البطلان وقد تابع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الخامسة حيث صلى بهم خمسا وهي مشتملة على أركان وأذكار ولم يأمرهم بالإعادة وهكذا في حديث ذي اليدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من الرباعية على ثلاث ثم تكلم وتكلموا ثم قام فكبر وصلى بهم ركعة واحدة وسلم وفي كثير من الروايات أنه سلم على ركعتين ثم قام فصلى ركعتين. وهذا مما يفيدك أن حكم أهل الفقه بالفساد في كثير من المواضع ليس على ما ينبغي ثم كان يلزمهم أن يوجبوا الفساد بمجرد التقدم بركن واحد فإنه يصدق على الفاعل لذلك إذا كان

متعمدا أنه قد خالف حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وحديث: "فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف" ويصدق عليه حديث "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته صورة حمار".

باب سجود السهو

[باب سجود السهو يوجبه في الفرض خمسة: الأول: ترك مسنون غير الهيئات ولو عمدا. الثاني: ترك فرض في موضعه سهوا مع أدائه قبل التسليم على اليسار ملغيا ما تخلله وإلا بطلت فإن جهل موضعه نبي على الأسوأ ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة. الثالث: زيادة ذكر جنسه مشروع فيها إلا كثيرا في غير موضعه عمدا أو تسليمتين مطلقا فتفسد. الرابع: الفعل اليسير وقد مر ومنه الجهر حيث يسن تركه. الخامس: زيادة ركعة أو ركن سهوا كتسليمة في غير موضعها] . باب سجود السهو قوله: فصل: "يوجبه في الفرض خمسة". أقول: قد اجتمع في مشروعية سجود السهو أقوال وأفعال وفي أقواله وأفعاله ما هو بصيغة الأمر فكان بهذا واجبا ولكن إذا كان المتروك سنة من السنن التي ليست بواجبة فالسجود لها مسنون لأن الفرع لا يزيد على أصله. قوله: "الأول نرك مسنون غير الهيئات" أقول: اعلم أن تسمية بعض ما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم سنة وبعضه هيئة هو مجرد اصطلاح لأهل علم الفروع وليس مثل ذلك حجة بل ما تقرر ثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم مع المدأومة عليه فهو سنة وهكذا ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم مقترنا بقرينة تدل على عدم الوجوب وهكذا ما خرج عن حديث "المسيء صلاته" فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه صفة الصلاة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا ما ورد بعد تعليم المسيء بدليل يدل على وجوبه فإنه مقبول معمول به فلا يصرف حديث المسيء عن الوجوب إلا ما كان من الأقوال والأفعال في الصلاة ثابتا قبل تعليم المسيء. إذا تقرر لك هذا علمت أن جعل بعض أفعال الصلاة وأقوالها سنة يسجد فيها للسهو وبعضها هيئة لا يسجد فيها للسهو لا ينبغي الالتفات إليه ولا العمل به. وقد سجد صلى الله عليه وسلم لذلك التشهد الأوسط فكان ذلك دليلا للسجود لترك مسنون ولكن قد

قدمنا لك أن التشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء فكان ذلك دليلا على وجوبه فلا يتم هذا الاستدلال ولكن يستدل على السجود بترك المسنون بحديث ثوبان عند أبي دأود وابن ماجة [ابن ماجة "1219"، أبو دأود "1038"، أحمد "5/280"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو سجدتان" وقد قيل إن في إسناده انقطاعا لأنه مروي عن طريق عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن ثوبان ولم يدركه عبد الرحمن. ويجاب عن هذا بأنه رواه أبو دأود من طريق شيخة عمرو بن عثمان الحمصي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان فلا انقطاع. وأما تضعيف الحديث بأن في إسناده إسماعيل بن عياش فالمقال الذي فيه لا يوجب طرح حديثه. ويؤيد هذا الحديث ما رواه البيهقي من حديث عائشة بلفظ: "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان". وقد قدمنا أن السجود لترك مسنون لا يكون واجبا لئلا يزيد الفرع على أصله فغايته أن يكون مسنونا كأصله ولم يرد في ترك المسنون ما يدل على وجوب سجود السهو له كما عرفت بل يختص الوجوب بما ورد الأمر به كالأحاديث التي فيها: "وليسجد سجدتين" وليس ذلك في ترك المسنون. وأما إيجاب السجود لمن ترك المسنون عمدا فهو عكس ما يدل عليه عنوان هذا الباب فإنه قال: "باب سجود السهو" وأما تعليلهم بأنه إذا وجب السجود للسهو فوجوبه للعمد أولى فليس ذلك بشيء ها هنا فإن مشروعية السجود قد عللها الشارع بأن في السجود ترغيما للشيطان وأن السجدتين مرغمتان والمتروك عمدا ليس من جهة الشيطان بل من جهة المصلى نفسه. قوله: "والثاني ترك فرض في موضعه سهوا". أقول: يدل على هذا سجوده صلى الله عليه وسلم على ركعتين كما في بعض الأحاديث وعلى ثلاث كما في بعض أخرى وسجوده لما صلى خمسا وهي أحاديث صحيحة وهي كلها تدل على وجوب السجود لمثل ذلك. وأما قوله: "مع أدائه قبل التسليم على اليسار ملغيا ما تخلل وإلا بطلت" فمردود بما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فصلى ما تركه بتكبير وتسليم مع عدم الإلغاء لما كان قد صلاه وهذا دليل أوضح من الشمس ثابت في حديث ذي اليدين وغيره ولم يرد في هذه الشريعة ما يخالف ذلك قط ولكن أبى كثير من المفرعين إلا ترجيح رأيهم المعكوس واجتهادهم المنكوس بلا برهان. وهكذا يصنع المتعمدون في إثبات الأحكام الشرعية على الرأي دون الرواية وإنها لرزية في الدين وفاقرة من فواقر المفرعين.

فإن قلت قد تبين بفعله صلى الله عليه وسلم أن تارك الركعة أو الركعتين يأتي بهما بعد تسليمه الذي وقع منه سهوا فما حكم من ترك مثلا سجدة. قلت حكمه أن يأتي بها قبل أن يسلم إن ذكرها وإن لم يذكر إلا بعد التسليم كبر وسجد وسلم اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم فيما تركه والسجود هو جزء من الركعة وللجزء حكم الكل. وما أبعد هذا من أذهان المقلدين وأنفر طبائعهم عنه. قوله: "ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة". أقول: هذا رأي بحث ليس عليه أثارة من علم والعجب ممن يتجارأ على إثبات مثل هذا ويكلف الناس به ويزعم أنه الشرع الذي شرعه الله ورسوله لعباده وهو يعلم أنه ليس في ذلك حرف واحد من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح. فإن قلت فمإذا لديك في مثل هذا؟. قلت أما من ترك القراءة فقد قدمنا من الأدلة الصحيحة الكثيرة ما يدل على أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب بل قدمنا ما يدل على انه لا ركعة إلا بفاتحة الكتاب وهذا الدليل يفيد أن وجود تلك الصلاة التي لم يقرأ فيها المصلي أصلا باطلة وجودها كعدمها. وأما من ترك الجهر أو الإسرار فالأمر يسير ليس هنا ما يوجب بطلان الصلاة وغايته على تقدير ثبوت ما يدل على الوجوب أنه ترك واجبا وصلاته صحيحة وعليه أن يسجد للسهو. قوله: "الثالث زيادة ذكر جنسه مشروع فيها". أقول: هذه دعوى مجردة بل شريعة متبوعة فالصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" [مسلم "537"] ، فمن جاء بتسبيحة أو تسبيحات أو تكبيرة أو تكبيرات في الموضع الذي شرع جنسها فيه فهو زيادة في ثوابه ومضاعفة لحسناته وإن كرر ما لم يشرع فيه إلا المرة الواحدة كتكبيرة النقل إذا كبر عند الانتقال من ركن إلي ركن تكبيرتين أو ثلاثا فقد خالف السنة بذلك ولا سجود عليه لعدم الدليل على ذلك لا من قول ولا فعل. وهكذا إذا سبح في موضع التشهد ونحو ذلك. وأما الجمع بين سورتين أو سور في ركعة فقد وردت به السنة من أنكر ذلك فهو الجاني على نفسه بتركه لعلم السنة فإن قرأ في غير موضع القراءة فقد ورد النهي عن القراءة في الركوع والسجود ففاعل ذلك عمدا آثم ولا دليل يدل على أنه يسجد من فعل ذلك للسهو لأنه متعمد وعلى فرض أنه فعل ذلك سهوا وأن حديث: "لكل سهو سجدتان" يشمله فلا يلحق به إلا فعل ما هو منهي عنه في غير موضعه لا ما كان في موضعه وليس هذا مراد المصنف. وأما قوله: "إلا كثيرا في غير موضعه" فقد قدمنا الكلام في الفعل الكثير فليرجع إليه. وأما إيقاع التسليمتين في غير موضعهما فإن كان سهوا فلا يفسد به ما تقدمهما من الصلاة لما تقدم في حديث ذي اليدين وما ورد في معناه بل صلاته قبل التسليم سهوا صحيحة ويقوم يأتي بما فاته بتكبير مستأنف.

وأما كونه خروجا من الصلاة فالأمر كذلك ولو كان سهوا ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم فكبر وصلى بهم ما بقي ولو لم يكن خروجا من الصلاة ما استأنف النبي صلى الله عليه وسلم التكبير للدخول في تأدية ما تركه. وأما إذا سلم عمدا عالما بانه ترك ركعة أو ركنا فق خرج من الصلاة قبل الفراغ منها متعمدا ولم يرد البناء على ما قد فعله قبل التسليم إلا في الناسي فقط فلا يلحق به المتعمد لوجود الفارق بينهما. قوله: "الرابع الفعل اليسير". أقول: لم يرد في هذا شيء بل الوارد يخالفه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في صلاته أفعالا هي عند الفقهاء كثيرة فضلا عن أن تكون يسيرة ثم كان لا يسجد سجود السهو فمن ذلك صلاته على المنبر ونزوله منه للسجود ثم رجوعه إليه ومن ذلك حمله أمامه في صلاته ثم وضعها إذا سجد وردها إلي ظهره إذا رفع ثم أمره للمصلي بأن يقاتل الحية وهو باق في صلاته ثم حمله للحسن على ظهره ثم ما وقع منه من إدارة من يقف عن يساره إلي يمينه ودفعه للرجلين اللذين وقفا عن يمينه ويساره إلي خلفه وكذلك اتقاؤه بيده وتأخره ولعنه للشيطان لما جاء له في صلاته بسعفه من نار. والحاصل أن هذا الباب إذا تتبع حصل منه الكثير ولم يسجد في شيء من ذلك. وأما ما أخرجه مسلم ["89/ 572"، وغيره [البخاري""401"، أبو دأود "1020"] ، من حديث ابن مسعود قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما زاد أو نقص علينا فقلنا: يا رسول الله حدث في الصلاة شيء؟ قال: "لا" فقلنا له الذي صنع فقال: "إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" فينبغي حمل هذه الزيادة أو النقصان على الزيادة التي سجد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زيادة الركعة الخامسة وعلى النقصان الذي سجد له وهو التسليم على ركعتين أو ثلاث أو ما يشابه ذلك لا لكل زيادة أو نقص لأمرين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في هذه الزيادة أو النقص في حديث ابن مسعود بعد اأن نبهوه على ذلك الأمر. الثاني: ما ذكرنا من الأحاديث التي وقعت منه صلى الله عليه وسلم ولم يسجد لها. قوله: "الخامس زيادة ركعة أو ركن سهوا". أقول: هذا صحيح أما زيادة الركعة فلسجوده صلى الله عليه وسلم لما صلى خمس ركعات وأما زيادة الركن فلكونه جزءا من الركعة فيكون حكمه حكمها ويجبر الجميع بسجود السهو. [فصل لا حكم للشك بعد الفراغ فأما قبله ففي ركعة يعيد المبتدىء ويتحرى المبتلى ومن لا يمكنه يبني على الأقل ومن يمكنه ولم يفده في الحال ظنا يعيد وأما في ركن

فكالمبتلي ويكره الخروج فورا ممن يمكنه التحري قيل والعادة تثمر الظن ويعمل بخبر العدل في الصحة مطلقا وفي الفساد مع الشك ولا يعمل بظنه أو شكه فيما يخالف إمامه وليعد متظنن تيقن الزيادة ويكفي الظن في أداء الظني ومن العلم في أبعاض لا يؤمن عود الشك فيها] . قوله: فصل: "ولا حكم للشك بعد الفراغ". أقول: الأصل صحة الصلاة التي فرغ منها فلا يعمل بما يعرض من الشكوك فإن الشك الاصطلاحي الذي هو استواء الطرفين هو مجرد تردد والتردد لا يمكن العمل بأحد طرفيه لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وإذا لم يكن العمل بأحد طرفيه فلا يحتاج فيه إلي أن يقال لا حكم له لأنه ينفي حكم ما يمكن العمل به لا ما لا يمكن العمل به من الأصل فإنه لم يثبت بحال حتى ينفي. إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا يجوز العمل بالشك بمعنى إذا تردد في شيء ما كان لتردده معنى وفائدة لا بعد الفراغ من الصلاة ولا قبل الفراغ منها ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الأمر باطراح الشك والبناء على اليقين وفي بعضها البناء على الأقل وورد في بعضها الأمر بتحري الصواب والجمع بين هذه الروايات ظاهر واضح وهو أن من عرض له الشك إن أمكنه تحري الصواب وذلك بأن ينظر في الأمور التي تفيده معرفة الصواب كان ذلك واجبا عليه فإن لم يفده التحري وجب عليه البناء على اليقين وهو البناء على الأقل ويجب عليه السجود لمجرد عروض هذا الشك كما صرحت به الأحاديث الصحيحة ولم يعد المصنف عروض الشك من اسباب السجود مع أنه السبب الذي ثبت ثبوتا أوضح من الشمس وذكر أسبابا قد قدمنا تزييف أكثرها فما كان أحقه بذكر هذا السبب الصحيح. وأما الفرق بين المبتدىء والمبتلي وبين الركعة والركن فليس بشيء ولا يعول على مثله من له دراية بالرواية والكل سواء في إيجاب تحري الصواب عليهم أولا ثم البناء على اليقين الذي هو الأقل ثانيا بعد اطراح الشك وعدم الالتفات إليه وللركن حكم الركعة فإنه إذا وجب اطراح الشك في الركعة كان وجوب اطراحه في الركن ثابتا بفحوى الخطاب. قوله: "ويكره الخروج فورا". أقول: الأولى أن يقال ويحرم الخروج على كال حال ووجه ذلك أن الشارع قد عرفه أنه يتحرى الصواب فإن لم يفده التحري بنى على اليقين والبناء على الأقل ممكن لكل أحد إذا كان صحيح العقل لأنه إذا تردد هل صلى ثلاثا أو أربعا أمكنه أن يبني على الثلاث. ولو قدرنا أنه اختلط عليه الأمر حتى لم يدركم صلى ولم يهتد إلي مقدار أصلا فعليه أن يبني على أنه في الركعة الأولى لأنه قد صار مصليا ولا أقل من ان يكون في الركعة الأولى وليس عليه غير ذلك فإنه هو الذي أمر به الشارع من البناء على اليقين والبناء على الأقل.

واطراح الشك هذا إذا كان المصلي من جنس العقلاء فإن كان قد انسلخ من العقل وصار مجنونا فقد رفع الله عنه قلم التكليف في الصلاة وغيرها. قوله: "قيل والعادة تثمر الظن". أقول: هب أن العادة تثمر الظن فكان مإذا فإن المقام مقام العمل باليقين ومقام البناء على الأقل فليس لمجرد الظن ها هنا فائدة يستد بها ولا يجوز العمل به فيما نحن بصدده وهكذا العمل بخبر العدل إن لم يحصل به اليقين الذي أمر به الشارع فلا اعتبار به ويغني عنه البناء على الأقل وهو ممكن كل عاقل. قوله: "ولا يعمل بظنه أو بشكه فيما يخالف إمامه". أقول: هذا صواب ولو قال المصنف رحمه الله في هذا الفصل ولا يعمل بالظن والشك مطلقا أي قبل الفراغ من الصلاة وبعده وفي صلاته منفردا أو مع الإمام لكان ذلك صوابا مغنيا عن جميع ما في هذا الفصل على مقتضى ما هو الحق كما عرفناك. قوله: "ولبعد متظنن تيقن الزيادة". أقول: الذي تقتضيه الأدلة أنه إذا تيقن الزيادة عمل على اليقين كما تيقن أنه صلى خمسا وليس عليه إلا سجود السهو كما فعله صلى الله عليه وسلم لما اخبروه أنه صلى خمسا فإنه سجد للسهو فقط ولم يعد الصلاة ولا أمرهم بالإعادة ولا اعتبار بكونه زاد تلك الزيادة متظننا فإنه لا عمل بالظن في مثل هذا ولا تأثير له على أن من صلى الخامسة لا بد له من حامل على ذلك من جهة نفسه وأقل ما يحمله على ذلك ما يحصل له من الظن أنها أربعة مثلا وقد عرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس عليه إلا سجود السهو. قوله: "ويكفي الظن في أداء الظني". أقول: جاء بهذه القاعدة الكلية وهي غير مقبولة لأن الحكم الشرعي الثابت بدليل ظني قد كلف به من وجب عليه وثبت في ذمته يقينا وإن كان دليله ظنيا فكيف يكفي ظن المكلف في تأدية ما هو ثابت عليه بيقين وأين هذا الظن من ظنية دلالة الدليل على وجوب الحكم مع تعلقه بالمكلف بيقين. وإذا تقرر لك هذا في الظن فهو فيما هو أعلى منه أولى. [فصل "وهو سجدتان بعد كمال التسليم حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك وفروضهما النية للجبران والتكبيرة والسجود والاعتدال والتسليم وسننهما تكبير النفل وتسبيح السجود والتشهد.

ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا ثم لسهو نفسه قيل المخالف إن كان ولا يتعدد لتعدد السهو إلا لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف وهو في النفل ولا سهو لسهو ويستحب سجوده بنية وتكبيرة لا تسليم أحدها شكرا واستغفارا ولتلأوة الخمس عشرة آية أو لسماعها وهو بصفة المصلي غير مصل فرضا إلا بعد الفراغ ولا تكرار للتكرار في المجلس"] . قوله: فصل: "وهو سجدتان بعد التسليم". أقول: هذه المسألة قد طال فيها الخلاف وقد استوفيت الكلام في المذاهب وما استدل به لكل مذهب في شرح المنتقى وذكرت فيها ثمانية مذاهب ولاح لي ما ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا وهو أنه يسجد لما سجد له رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام كذلك ولما سجد له بعد السلام كذلك وللسهو الخارج عن المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون المصلي مخيرا إن شاء سجد قبل السلام وإن شاء بعده لأن الكل قد ثبت وهذا قول حسن وجمع جامع بين الأدلة. وأما قوله: "حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك عمدا فالناسي يسجد عند الذكر ويكون أداء وإن خرج وقت الصلاة التي سها فيها". ولا وجه لتقييده بالعمد فلا فرق بين العمد والسهو. وإن كان التارك عمدا قد أثم بالتراخي عن تأدية ما يجب عليه. قوله: "وفروضهما النية للجبران". أقول: قد قدمنا أن في الأدلة الدالة على النية ما يفيد أنها شرط يؤثر عدمها في عدم المشروط وأما كونها للجبران فلكونه قد لحق الصلاة بالنقص منها أو الزيادة فيها ما هو نقص ولهذا وجب سجود السهو فلا وجه لما قيل أن الزيادة ليست بنقص فتجبر. وأما فرضية التكبير فلما تقدم لأن سجود السهو قد صار كالصلاة المستقلة لتحريمه بالتكبير وتحليله بالتسليم. وأما فرضية السجدتين فلكونهما هما والاعتدال أركانا لسجود السهو. وأما فرضية التسليم فلما تقدم في تسليم الصلاة. وأما كون تكبير النقل وتسبيح السجود سنة فلكونهما في الصلاة كذلك. وأما جعل التشهد سنة فلا وجه له بل حكمه حكم تشهد الصلاة وقد تقدم الكلام في ذلك في صفة الصلاة لكنه إذا كان السجود قبل التسليم فلا تشهد بل يغني عنه تشهد الصلاة وهكذا يكفي السلام الواحد تحليلا لصلاة الفريضة ولسجود السهو لأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم تسليمتين ولا تشهد تشهدين فيما سجد له قبل التسليم وأما ما سجد له بعد التسليم من الصلاة فلا بد من التشهد والتسليم. وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم تشهد في سجود السهو فأخرج أبو دأود ["1039"] ، والترمذي ["395"] ،

والترمذي وابن حبان والحاكم عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم قال الترمذي حسن غريب صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقد ورد في التشهد في سجود السهو غير هذا الحديث وهو ما أخرجه أبو دأود ["1028"] ، والنسائي عن ابن مسعود وأخرجه البيهقي عن المغيرة وفي إسنادهما ضعف ولكن الحديث الأول على انفراده تقوم به الحجة. قوله: "ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا". أقول: هذا صحيح لورود الأمر بمتابعة الإمام وإن كان نقص صلاته لا يسري إلي صلاة المؤتم لما تقدم في الحديث الصحيح "أنه إذا أصاب فله وللمؤتمين وإن أخطأ فعليه لا عليهم" وأما إيجاب السجود على المؤتم لما عرض له من السهو في صلاته فذلك صواب لأن أدلة سجود السهو تتنأوله ولم يرد ما يدل على ان مجرد سجوده مع الإمام لسهو الإمام يسقط عنه السجود لسهو نفسه. والحاصل أنه إذا كان سهو الإمام في فعل أو ترك قد تابعه المؤتم في ذلك الفعل أو الترك سهوا فسجوده مع الإمام يكفي وإن كان قد وقع منه سهو غير سهو الإمام فعليه أن يسجد له لدخوله بهذا السجود في جملة الأدلة الواردة في سجود السهو. فقول المصنف قيل المخالف إن كان هو أصوب من قول القائل إنه يسجد مطلقا. قوله: "ولا يتعدد بتعدد السهو". أقول: أحسن ما يستدل به لهذا أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كرروا السجود لتكرر السهو مع أن تكرر السهو ممكن من كل مصل وأما الاستدلال على عدم التعدد بأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على ركعتين وتكلم وسلم. ففيه أن الكلام وقع بعد الخروج من الصلاة بالتسليم ثم التسليم هو الذي تبين به أنه وقع السهو فإن قيل إنه في حكم المصلي لبنائه على ما قد فعل فيجاب عنه أنه لو كان ذلك صحيحا لكان للكلام الواقع منه في تلك الحالة حكم الكلام الواقع قبل الخروج من الصلاة. وأما قوله: "إلا لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف" فلا وجه له لأن الصلاة واحدة والأئمة المتعددون كالإمام الواحد فكما لا يتعدد السجود لسهو الإمام الواحد كذلك لا يتعدد لتعدد سهو الأئمة وسهوهم بعد الاستخلاف يخصهم لأنهم لم يكونوا أئمة في حال السهو. قوله: "وهو في النفل نفل". أقول: قد اختلف أهل الأصول في لفظ الصلاة إذا لم يقيد هل إطلاق الصلاة على الفريضة والنافلة من باب الاشتراك اللفظي أو المعنوي وإلي الثاني ذهب جمهورهم وإلي الأول ذهب الرازي والظاهر الأول فتكون الأحاديث التي ذكر فيها السجود لمن سها في صلاته شاملة للفريضة والنافلة ويكون عدم وجوب النافلة صارفا لما تدل عليه الأحاديث من الوجوب فلا يرد الاشكال الذي أورده الجلال.

قوله: "ولا سهو لسهوه" أقول: سجود السهو قد قدمنا أنه صار كالصلاة المستقلة لوجود خاصيتها فيه وهو كون تحريمهه التكبير وتحليله التسليم. وقد اتفق الجميع أنه يبطل بمبطلات الصلاة كالحدث ونحوه فلو صح ما قالوه من لزوم التسلسل لكان الحدث غير مبطل له. وإذا عرفت هذا فالسهو فيه كالسهو في الصلاة بشمول أحاديث السهو له لأنه صلاة. وأما ما قاله بعض أئمة النحو من أن المصغر لا يصغر فهو بمعزل عن علم الفقه في الدين. قوله: "ويستحب سجود بنية وتكبيرة لا تسليم أحدها شكرا". أقول: قد وردت أحاديث كثيرة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها فيه ضعف ومجموعها مما تقوم به الحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجود شكر في مواضع ولم يرد في ذلك غير فعله صلى الله عليه وسلم فلم يكن واجبا ولم يرد في الأحاديث غير فعله صلى الله عليه وسلم للسجود ولم يرد أنه كبر ولا أنه سلم فالمشروعية تتم بمجرد فعل السجود. فإن قلت لم يرد في الأحاديث ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في سجود الشكر فمإذا يقول الساجد للشكر. قلت ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل لأن السجود سجود الشكر. فإن قلت نعم الله على عباده لا تزال واردة عليه في كل لحظة؟ قلت المراد النعم المتجددة التي يمكن وصولها إلي العبد ويمكن عدم وصولها ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا عند تجدد تلك النعم مع استمرار نعم الله سبحانه وتعالي عليه وتجددها في كل وقت. قوله: "واستغفارا" أقول: لم يرد في هذا شيء وليس في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: "سجدها دأود توبة ونسجدها شكرا" [النسائي "957"] ، ما يدل على مشروعية السجود للاستغفار لأن ذلك هو بيان لمشروعية سجدة التلأوة في صلي الله عليه وسلم وأن دأود عليه السلام فعلها للتوبة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم للتوبة بل قال: "ونسجدها شكرا" فلم يقرر النبي صلى الله عليه وسلم سجود التوبة من دأود بل خالفه فليس ذلك من شرع من قبلنا كما زعمه البعض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرره وغاية ما في الحديث أنه يحسن السجود في صلي الله عليه وسلم شكرا عند تلأوة الآية أو سماعها. ولكنه قد ورد أن السجود هو مقام القرب من الرب سبحانه كما في الحديث الصحيح "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" [مسلم "482"] ، فمن قصد إيقاع دعائه في هذا المقام أو استغفاره فقد وفق للصواب وتعرض لنفحات الرحمن في المقام الذي أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن العبد أقرب إلي ربه فيه من سائر المقامات التي يكون العبد عليها كالقيام والقعود والاضطجاع فمن فعل السجود عند دعائه قاصدا به هذا المقصد مريدا به هذه الأرادة فنعم ما فعل.

قوله: "ولتلاوة الخمس عشرة آية". أقول: سجود التلأوة سنة ثابتة وشريعة قائمة حتى ذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلي وجوبه والأحاديث في ذلك كثيرة. وأما اشتراط أن يكون الساجد بصفة المصلي فليس على ذلك دليل ولا حجة فيما يروي عن بعض الصحابة. وأما قول المصنف غير مصل فرضا فدفع في وجه الدليل الصحيح ورد للسنة الثابتة ولو لم يكن من ذلك إلا ما في الصحيحين [البخاري "766"،،"1074"، مسلم "578"، وغيرهما أبو دأود "1408"، النسائي "2/162": أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الصلاة لما قرأ {إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1] . قوله: "ولا تكرار للتكرار في المجلس". أقول: هذا التكرار لنفس الآية التي وقع السجود عند قراءتها إن كان من القارىء الذي قرأها أولا لا لفرض بل لما فرغ من السجود لها ابتدأ بها فلا سجود وإن كان من قارىء آخر أو من هذا القارىء نفسه لا لقصد التكرار كأن يقرأ سورة الانشقاق في جملة ما يتلوه ثم يقوم فيصلي بها فلا وجه لإسقاط السجود.

باب والقضاء

[باب والقضاء يجب على من ترك إحدى الخمس أو ما لا يتم إلا به قطعا أو في مذهبه عالما في حال تضيق عليه فيه الأداء غالبا. وصلاة العيد في ثانيه فقط إلي الزوال إن تركت للبس فقط. ويقضي كما فات قصرا وجهرا وعكسهما وإن تغير اجتهاده لا من قعود وقد أمكنه القيام والمعذور كيف أمكن وفوره مع كل فرض فرض. ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات ولا التعيين. وللإمام قتل المتعمد بعد استتابته ثلاثا فأبى] . قوله: "باب: والقضاء على من ترك إحدى الخمس". أقول: لفظ الترك يشمل الترك عمدا والترك سهوا أو نسيانا أو لنوم والأدلة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم لم ترد إلا في السهو والنسيان والنوم وقال صلى الله عليه وسلم فيها: "فوقتها حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك" وهذا يفيد أن ذلك وقتها أداء.

إذا لا قضاء فتكون هذه الأحاديث مخصصة لما ورد من توقيت الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء فيقال إلا الصلاة التي نام عنها المصلي أو سها عنها فإن فعلها عند الذكر هو وقت أدائها ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة. وأما العمد فلا تشمله هذه الأحاديث الواردة في النوم والسهو والنسيان ولا يدخل تحتها ولا يصح قول من قال إنه ثبت القضاء مع السهو والنسيان والنوم ثبت مع العمد بفحوى الخطاب لأنا نقول ليس تأدية الصلاة التي نام عنها أو نسيها من باب القضاء بل من باب الأداء فلا يتم القياس من هذه الحيثية. ثم لا نسلم أن ذلك أولى لأن التارك عمدا قد أثم بالترك بالإجماع فإيجاب القضاء عليه لا يرفع عنه هذا الإثم. فإن قلت قد زعم قوم كدأود الظاهري وابن حزم وابن تيمية ومن تابعهم أنه لا قضاء في العمد وأنه لم يرد بذلك دليل فهل هذا صحيح؟ قلت نعم لم يرد في قضاء الصلاة المتروكة عمدا دليل يدل على وجوب القضاء على الخصوص ولكنه وقع في حديث الخثعمية الثابت في الصحيح [البخاري"1513، 1854، 1855، 4399، 6228"، مسلم "1334، 1335"، أبو دأود "1809"، النسائي "2635، 2641"، الترمذي "928"، ابن ماجة "2909"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "دين الله أحق أن يقضى" والتارك للصلاة عمدا قد تعلق به بسبب هذا الترك دين الله وهو أحق بأن يقضيه هذا التارك. وأما قول من قال إن دليل القضاء هو دليل الأداء فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل الأصول. وما ذكره المصنف رحمه الله من أن ترك ما لا يتم الصلاة إلا به كتركها وذلك كترك شرط من شروط صحتها أو نحو ذلك فهذا مسلم. وأما قوله: "أو في مذهبه عالما" فهذا وإن قبله المقلدون فلا بد أن يكون ذلك المتروك مما يستلزم بطلان الصلاة شرعا وإلا فلا اعتبار بالأقوال المخالفة للحق وإن قال بها من قال. وأما اعتبار أن يكون الترك في حال تضيق عليه فيه الأداء فذلك لإخراج من لا وجوب عليه كالمجنون والحائض وقد أخرج النائم والساهي والناسي بقوله غالبا. قوله: "وصلاة العيد في ثانيه فقط". أقول: هذا قد دل عليه الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ["9/265"، بوأبو دأود ["1157"، والنسائي ["1557"، وابن ماجه ["1653"] ، وابن حبان عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صيأما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد، وصححه ابن حبان وابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطأبي وابن حجر في بلوغ المرام.

فهذا فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يفطروا وأمرهم بالخروج لعيدهم من الغد والناس هم الموجودون إذ ذاك في المدينة وقد كان ترك الإفطار في ذلك لكون الهلال قد غم على أهل المدينة مع كون ذلك الوقت مظنة لظهوره فكان الترك من هذه الحيثية للبس عرض لهم في ذلك اليوم ثم تبين لهم الصواب. وبهذا يندفع ما وقع الاعتراض به على المصنف. وأما كون القاضي يقضي كما فات فذلك ظاهر ولكنه إذا تغير اجتهاد المجتهد قبل فعله للقضاء كان العمل على اجتهاده الآخر لا كما قال المصنف لأنه إنما انتقل عن الاجتهاد الأول لدليل قد ظهر له يجب العمل عليه ولم يكن قد فعل القضاء. وأما قوله لا من قعود وقد أمكنه القيام فصحيح لأنه قد صار قادرا على القيام قبل القضاء فوجب عليه أن يقوم لزوال عذره ومع بقاء العذر يفعل ما بلغته استطاعته. قوله: "وفوره مع كل فرض فرض". أقول: هذه دعوى مجردة بل فوره أن يفعل ما يقدر عليه وهو يقدر على أن يأتي بصلاة الأيام المتعددة في بعض يوم. قوله: "ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات". أقول: يريد أنه لا يجب الترتيب بين المقضية والمؤداة ولا بين المقضيات نفسها لأن الجمع قد تعلق بمن عليه القضاء ولا دليل يدل على خلاف هذا حتى يتعين المصير إليه وأما من ترك الصلاة لنوم أو نسيان فقد عرفناك أن فعلها في وقت الذكر هو أداء لا قضاء. قوله: "وللإمام قتل المتعمد" الخ. أقول: قد دل على هذا كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري"25"، مسلم "36/22"] ، وغيرهما من طرق "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة" الحديث. وصح عنه في الصحيحين [البخاري "4094"، مسلم "1064"] ، وغيرهما [أحمد "3/4"] أن خالد بن الوليد قال له في الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اتق الله......, يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا لعله يصلي". وصح في صحيح مسلم ["134/82"] ، وغيره أبو دأود "4678"، الترمذي "2618"، ابن ماجة "1078"، أحمد "3/370، 389"] ، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة". وثبت عند أحمد ["5/346"] ، وأهل السنن [الترمذي "2621"، ابن ماجة "1079"] ، من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وصححه النسائي والعراقي وأخرجه ابن حبان والحاكم.

وثبت إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة وهي عديلة الصلاة بل الصلاة أدخل في الركنية للإسلام منها. فالحاصل أن تارك الصلاة عمدا كافر يستحق القتل ويجب على إمام المسلمين قتله لا كما قال المصنف وللإمام قتل المتعمد فيقال له صل فإن أبى قتل ولا وجه لتأخيره عن القتل ثلاثة ايام بل مجرد امتناعه يقتل. [فصل ويتحرى في ملتبس الحصر ومن جهل فائتته فثنائية وثلاثية ورباعية يجهر في ركعة ويسر في أخرى. وندب قضاء المؤكدة] . قوله: "فصل ويتحرى في ملتبس الحصر" الخ. أقول: إذا تيقن انها فاتته إحدى الصلوات الخمس والتبس أيها الفائتة ولم يفده التحري فلا تحصل له البراءة إلا بفعل الخمس الصلوات جميعها يقول في كل واحدة إن كانت هي فقضاء وإلا فنافلة وصحت النية المشروطة هنا للضرورة وتوقف البراءة عليها. قوله: "وندب قضاء المؤكدة". أقول: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها فاتته الركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر وثبت عنه أنه أمر من فاته وتره بالليل أن يقضيه بالنهار وثبت عنه فيمن فاته ورده بالليل أن يقضيه بالنهار وهذا إذا لم يترك تلك النافلة المؤكدة لغرض المرض أو نحوه. أما إذا تركها لذلك فقد ورد أن الله يكتب له ثوابها.

باب صلاة الجمعة

[باب صلاة الجمعة تجب على كل مكلف ذكر حر مسلم صحيح نازل في موضع إقامتها أو يسمع نداءها وتجزىء ضدهم وبهم غالبا. وشروطها اختيار الظهر وإمام عادل غير مأيوس وتوليته في ولايته أو الاعتزاء إليه في غيرها وثلاثة مع مقيمها ممن تجزئه ومسجد في مستوطن وخطبتان قبلها مع عددها

متطهرين من عدل متطهر مستدبر للقبلة مواجها لهم اشتملتا ولو بالفارسية على حمد الله تعالي والصلاة على النبي وآله وجوبا. وندب في الأولى الوعظ وسورة وفي الثانية الدعاء لإمام صريحا أو كناية ثم للمسلمين وفيهما القيام والفصل بقعود أو سكتة ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد سامع والاعتماد على سيف أو نحوه والتسليم قبل الإذان والمأثور قبلهما وبعدهما وفي اليوم ويحرم الكلام حالهما. فإن مات أو أحدث فيهما استأنفتا ويجوز أن يصلي غيره] . قوله: "تجب على كل مكلف". أقول: الأدلة المصرحة بأنها حق واجب على كل مسلم وبأنها واجبة على كل محتلم وبالوعيد الشديد على تاركها وبهمه صلى الله عليه وسلم بإحراق المتخلفين عنها يقتضي أنها واجبة على الأعيان. وأما ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم قد هم بإحراق المتخلفين عن الجماعة ولم يثبت بذلك وجوبها على الأعيان فنقول قد ورد الصارف في صلاة الجماعة وهي الأدلة القاضية بصحة صلاة الفرادى ولم يرد في صلاة الجمعة ما يصرف ذلك. وأما ما قيل من أن مسجده صلى الله عليه وسلم كان يضيق عن أن يصلي فيه جميع أهل المدينة فهذه الدعوى من ضيق العطن أما أولا فالأدلة إذا قضت بالوجوب على الأعيان فلا يصرفها مثل هذا وأما ثانيا فإقامتها خارجة ممكنة وأما ثالثا فقد ورد أن الجمعة كانت تقام في غير مسجده صلى الله عليه وسلم. ثم ليس بعد الأمر القرآني المتنأول لكل فرد من قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إلي ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، حجة بينة واضحة. وزحلقة دلالة هذه الآية عن الوجوب العيني تعصب يأباه الإنصاف. وأما استثناء من استثناه المصنف فيدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث طارق ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"، وقد وقد صححه غير واحد من الأئمة. وما قيل من أن طارق بن شهاب لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم قال العراقي فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وغايته أن يكون مرسل صحأبي وهو حجة عند الجمهور إنما خالف فيه أبو إسحق الإسفراييني على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى. ويؤيده ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرا أو عبدا أو مريضا" وفي إسناده ضعف. وفي الباب عند الطبراني في الأوسط وعن مولى لآل الزبير عند البيهقي وعن أم عطية عند

ابن خزيمة وعن أبي هريرة ذكره صاحب مجمع الزوائد وصاخب التلخيص وفيه ضعف وعن تميم الداري عند العقلي والحاكم وفي إسناده ضعف. وأما إيجاب الجمعة على المسافر إذا كان نازلا في الموضع الذي تقام فيه الجمعة أو يسمع النداء لها فهو تخصيص لقوله في الحديث: "أو مسافرا" بغير مخصص. وأما قوله: "وتجزىء ضدهم" فصواب لأن مجرد الترخيص لهؤلاء لا يدل على عدم صحة الجمعة منهم إذ الرخصة ما خير المكلف بين فعله وتركه مع بقاء سبب الوجوب والتحريم كما تقرر في الأصول وهكذا قوله وتجزىء بهم لأن صلاتهم صحيحة. قوله: "وشروطها اختيار الظهر". أقول: قد جعل المصنف الوقت هنا شرطا كما جعله في أول كتاب الصلاة وقد قدمنا الكلام على ذلك هنالك فلا نعيده. واعلم أن الأحاديث الصحيحة قد اشتمل بعضها على التصريح بإيقاع صلاة الجمعة وقت الزوال كحديث سلمة بن الأكوع في الصحيحين [البخاري "4168"، مسلم "860"] ، وغيرهما [أبو دأود "1085"، النسائي "1391"، ابن ماجة "1100"] ، قال كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس وبعضها فيه التصريح بإيقاعها قبل الزوال كما في حديث جابر عند مسلم ["29/858"] ، وغيره [أحمد "6/38‘ 39"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلي جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس وبعضها محتمل لإيقاع الصلاة قبل الزوال وحاله كما في حديث سهل بن سعد في الصحيحين [البخاري "2/427"، مسلم "30/859"] ، وغيرهما [أحمد "5/336"، أبو دأود "1086"، الترمذي "525"، ابن ماجة "1099"] ، قال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة وكما في حديث أنس عند البخاري وغيره قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم نرجع إلي القائلة فنقيل. ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة الجمعة حال الزوال وقبله ولا موجب لتأويل بعضها. وقد وقع من جماعة من الصحابة التجميع قبل الزوال كما أوضحناه في شرح المنتقي وذلك يدل على تقرير الأمر لديهم وثبوته. قوله: "وإمام عادل" الخ. أقول: ليس على هذا الاشتراط أثارة من علم بل لم يصح ما يروى في ذلك عن بعض السلف فضلا عن أن يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن طول المقال في هذا المقام فلم يأت بطائل قط ولا يستحق ما لا أصل له أن نشتغل برده بل يكفي فيه أن يقال هذا كلام ليس من الشريعة وكل ما ليس هو منها فهو رد أي مردود على قائله مضروب في وجهه. قوله: "وثلاثة مع مقيمها". أقول: هذا الاشتراط لهذا العدد لا دليل عليه قط وهكذا اشتراط ما فوقه من الأعداد.

وأما الاستدلال بأن الجمعة أقيمت في وقت كذا وعدد من حضرها كذا فهذا استدلال باطل لا يتمسك به من يعرف كيفية الاستدلال ولو كان هذا صحيحا لكان اجتماع المسلمين معه صلى الله عليه وسلم في سائر الصلوات دليلا على اشتراط العدد. والحاصل أن صلاة الجماعة قد صحت بواحد مع الإمام وصلاة الجمعة هي صلاة من الصلوات فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة فعليه الدليل ولا دليل وقد عرفناك غير مرة أن الشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام شرطه فإثبات مثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلا فضلا عن أن يكون دليلا على الشرطية مجازفة بالغة وجرأة على التقول على الله وعلى رسوله وعلى شريعته والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلي خمسة عشر قولا وليس على شيء منها دليل يستدل به قط إلا قول من قال إنها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعات. قوله: "ومسجد في مستوطن". أقول: وهذا الشرط أيضا لم يدل عليه دليل يصلح للتمسك به لمجرد الاستحباب فضلا عن الشرطية ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ إلي حد تقضي منه العجب. والحق أن هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وشعار من شعارات الإسلام وصلاة من الصلوات فمن زعم أنه يعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلا بدليل وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلا مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله فإذا لم يكن في المكان إلا رجلان قام أحدهما يخطب واستمع له الآخر ثم قأما فصليا صلاة الجمعة. ولقد تضرب الجلال في هذه الشروط تضربا يأباه الإنصاف بل يأباه التحقيق ومال مع الخوارج في بعضها كما جرت عادته بالقيام في المواطن المبتدعة والأقوال المخترعة. قوله: "وخطبتان قبلها" الخ. أقول: قد ثبت ثبوتا متواترا يفيد القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة قط فالجمعة التي شرعها الله سبحانه هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلي ذكر الله والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي المرادة بالذكر فالخطبة فريضة. وأما كونها شرطا من شروط الجمعة فلا. وأما قوله: "مع عددها" فقد عرفت ما فيه وهكذا اشتراط طهارتهم وطهارة الخطيب فليس على ذلك دليل بل يصح أن يخطب وهو محدث وهم محدثون ثم يقوم ويقومون فيتطهرون ويصلون صلاة الجمعة. وهكذا اشتراط عدالة الخطيب لا دليل عليه وأما استدبار الخطيب للقبلة واستقباله للحاضرين فهذه هيئة حسنة كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفعلها من بعده من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ولكن لا دليل يدل على الوجوب فإن تأدية الذكر المأمور بالسعي إليه ممكنة بدون ذلك.

وأما اشتمال الخطبة على حمد الله والصلاة على رسوله فهكذا كانت خطبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا استفتاحا للخطبة المقصودة ومقدمة من مقدماتها والمقصود بالذات هو الوعظ والتذكير وهو الذي يساق إليه الحديث ولأجله شرع الله هذه الخطبة ولم يشرعها لمجرد الحمد لله والصلاة على رسوله فجعل المصنف للوعظ مندوبا وللحمد والصلاة على رسول الله واجبا ليس كما ينبغي وكان عليه أن يضم إلي الحمد والصلاة الشهادتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لازمهما في خطبته كما لازم الحمد وغيره فلا وجه لإيجاب بعض ما لازمه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بعض فإن ذلك تحكم لا ينبغي من منصف وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو شيئا من القرآن وقد يأتي في خطبته بسورة كاملة والمقصود الموعظة بالقرآن وإيراد ما يمكن من زواجره وذلك لا يختص بسورة كاملة. والحاصل أن روح الخطبة هو الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره وقد خلط المصنف خلطا عظيما بإيجابه للبعض وإهماله للبعض والقول بندبية البعض وكان عليه أن يثبت لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما واحدا وإذا أراد تخصيص البعض بحكم آكد من غيره فليجعل ما هو المقصود والمراد من الخطبة وهو الوعظ آكد من غيره وأدخل في المشروعية. والقيام في الخطبتين مع القعود بينهما هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف ذلك بدعة والسكتة مع عدم القعود لم تثبت ولا فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بل كانوا يقعدون بين الخطبتين. وأما قوله: "ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد سامع" فلم يرد في هذا شيء فذكره في مندوبات الخطبة لا وجه له وأما الاعتماد على سيف أو نحوه فقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عنه أيضا التسليم على الحاضرين قبل الشروع في الخطبة من طرق يقوي بعضها بعضا. قوله: "وندب المأثور قبلهما وبعدهما وفي اليوم". أقول: قد اشتملت السنة المطهرة على ذلك فمن جملة ما اشتملت عليه الإتيان إلي الجمعة بالسكينة والوقار وعدم تخطي الرقاب وترك الجلوس في مجلس قد سبق إليه سابق والتطيب بعد الاغتسال وصلاة ركعتي التحية ولو في حال الخطبة وصلاة اربع ركعات بعد الفراغ من الصلاة والتكبير إلي الجمعة وترك الاحتباء حال الخطبة وترك العبث بالحصى والتحول من المحل الذي نعس فيه إلي غيره. ومن المشروعات في اليوم الاستكثار من الدعاء لأن فيه الساعة التي لا يرد فيها الدعاء والاستكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "ويحرم الكلام حالهما". أقول: هذا هو مقتضى الأدلة كحديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "394"، مسلم "851"] ، وغيرهما [أبو دأود "1112"، الترمذي "511"، النسائي 3/104"، ابن ماجة "1110"] ، أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"، وأخرج هذا الحديث أحمد ["6/62"، وأبو دأود "1051"] ، وأبو دأود من حديث علي وزاد فيه "ومن لغا فلا جمعة له" وفي إسناده رجل مجهول ولكنه قد أخرج معنى هذه الزيادة أحمد ["1/230"] ، وابن أبي شيبة والبزار والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة"، وفي إسناده مجالد بن سعيد وفيه مقال خفيف. وأخرج أحمد ["21184"] ، والطبراني من حديث أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ"، وفي الباب أحاديث. وأما الخطيب فيجوز له أن يجيب سؤال من سأله ويأمر من ترك ما ينبغي فعله بأن يفعله كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة. وأما قوله: "فإن مات أو أحدث استؤنفتا" فلا وجه للاستئناف إذا عرض ما يمنع من تمام الخطبة بل يبني الآخر على ما قد فعله الأول إذا لم يكن قد فعل ما هو مشروع. وقد قدمنا أنه لا دليل على اشتراط كون الخطيب متطهرا لأن المقصود من الخطبة يحصل من المحدث كما يحصل من المتطهر وما قيل من أنها بمنزلة ركعتين فلا أصل لذلك بل هي ذكر من الأذكار وموعظة من المواعظ. وأما قوله: "ويجوز أن يصلي غيره" فذلك خلاف ما جرت به السنة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم يصلي بالناس مدة حياته ثم كذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم بل كان هذا هو الأمر المستمر عند أمراء الأمصار فضلا عن الخلفاء. [فصل ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الإمام أو لم يدرك اللاحق من أي الخطبة قدر آية متطهرا أتمت ظهرا وهو الأصل في الأصح والمعتبر الاستماع لا السماع وليس لمن حضر الخطبة تركها إلا المعذورين غالبا ومتى أقيم جمعتان في دون الميل لم يعلم تقدم إحداهما أعيدت فإن علم أعاد الآخرون ظهرا فإن التبسوا فجميعا وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة. وإذا اتفق صلاة قدم ما خشي فوته ثم الأهم] . قوله: "فصل ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الامام" الخ. أقول: قد عرفت ما أسلفنا أنه لم يصح شيء من تلك الشروط وأن إطلاق إسم الشروط عليها لم يدل عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا الخطبتان فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على وجوبهما وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال شيء مما جعله مشروطا ثم حكمه على

بعض الشروط بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية تحكم يأباه الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر فهذا كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول والفروع. وأعجب من هذا كله أنه لا دليل بيده يدل على ما ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب رفض الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما أخرجه النسائي ["1425"] ، من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أدرك من الجمعة فقد أدرك الجمعة" ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم منها ثلاثا وقال في البدر المنير هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعاف. وأخرج النسائي ["557"، وابن ماجه "1123"] ،والدارقطني من حديث ابن عمر نحوه وله طرق قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح وقوى أبو حاتم إرساله وأخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا"، قال في مجمع الزوائد وإسناده حسن. فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع بها ما قاله المصنف ويدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"، فإن صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه إلا بمخصص ولا مخصص. قوله: "وهو الأصل في الأصح". أقول: الواجب يوم الجمعة الجمعة فريضة من الله عز وجل فرضها على عباده فإذا فاتت لعذر فلا بد من دليل على وجوب صلاة الظهر وقد قدمنا في القولة التي قبل هذه من حديث ابن مسعود بلفظ: "ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا" فهذا يدل على أن من فاتته الجمعة صلى ظهرا فإن كانت الأصالة من هذه الحيثية فذاك. وأما ما ذكره أهل الفروع من فوائد الخلاف في هذه المسألة فلا أصل لشيء من ذلك. قوله: "والمعتبر الاستماع لا السماع". أقول: هذا صحيح فمن وقف حيث ينتهي به الوقوف وكان لا يسمع أو كان أصم أو كان صوت الخطيب خفيفا فالمستمع كالسامع. قوله: "وليس لمن حضر الخطبة تركها" أقول: وجه هذا أنه قد ورد النهي عن الخروج من المسجد بعد سماع الدعاء إلي الصلاة والحاضر حال الخطبة داخل تحت هذا النهي وهذا يشمل المعذورين وغيرهم لأنهم قد حضروا إلا إذا كانوا يتضررون بالوقوف إلي وقت انقضاء الصلاة فما جعل الله في الدين من حرج. قوله: "ومتى اقيم جمعتان في دون الميل" الخ.

أقول: هذه المسألة قد اشتهرت بين أهل المذاهب وتكلموا فيها وصنف فيها من صنف منهم وهي مبنية على غير أساس وليس عليها أثارة من علم قط وما ظنه بعض المتكلمين فيها من كونه دليلا عليها هو بمعزل عن الدلالة وما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا دليل ولاشبهة دليل. فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات يجوز أن تقام في وقت واحد جمع متعددة في مصر واحد كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد ولو كانت المساجد متلاصقة ومن زعم خلاف هذا فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي فليس ذلك بحجة على أحد وإن كان مستند زعمه الرواية فلا رواية. قوله: "وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة". أقول: ظاهر حديث زيد بن أرقم عند أحمد ["4/372"، وأبي دأود "1070"، والنسائي "1591" وابن ماجه "1310" بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: "من شاء أن يصلي فليصل" يدل أن الجمعة تصير بعد صلاة العيد رخصة لكل الناس فإن تركوها جميعا فقد عملوا بالرخصة وإن فعلها بعضهم فقد استحق الأجر وليست بواجبة عليه من غير فرق بين الإمام وغيره وهذا الحديث قد صححه ابن المديني وحسنه النووي وقال ابن الجوزي هو أصح ما في الباب وفي إسناده إياس بن أبي رملة قال ابن القطان وابن المنذر هو مجهول ولكنه يشهد له ما أخرجه أبو دأود ["1073"، وابن ماجه "1311"] ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة فإنا مجمعون"، قال في البدر المنير وصححه الحاكم وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وأخرج أبو دأود ["1071"، والنسائي "1592"،] ، والحاكم عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالي النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس قال: أصاب السنة, ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضا أبو دأود ["1072"] ،عن عطاء بنحو ما قاله وهب بن كيسان ورجاله رجال الصحيح وجميع ما ذكرناه يدل على أن الجمعة بعد العيد رخصة لكل أحد ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنا مجمعون" فقد دلت أقواله على أن هذا التجميع منه صلى الله عليه وسلم ليس بواجب. قوله: "وإذا اتفق صلوات قدم ما خشي فوته ثم الأهم". أقول: إن كانت الصلوات متفقة في كونها جميعا واجبة كصلاة جمعة وجنازة أو متفقة في كونها جميعا غير واجبة كصلاة الكسوف والاستسقاء فيقدم ما خشي فوته ثم الأهم أما إذا كان بعضها واجبا وبعضها غير واجب فعليه أن يأتي بالواجب عليه فإن أمكن فعل غير الواجب بعده فعله وإلا فهو معذور عن فعله باشتغاله عنه بما هو واجب عليه لأن من الجائز أن يعرض له ما يمنعه عن فعل الواجب الذي أخره وفعل ما خشي فوته من غير الواجب.

باب ويجب قصر الرباعي

[باب ويجب قصر الرباعي "إلي اثنتين على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر بريد حتى يدخله مطلقا أو يتعدى في أي موضع شهرا أو يعزم هو ومن يريد لزامه على إقامة عشر في أي موضع أو موضعين بينهما دون ميل ولو في الصلاة وقد نووا القصر لا العكس غالبا أو لو تردد"] . قوله: "باب ويجب قصر الرباعي إلي اثنتين". أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره إلا القصر وذلك في الصحيحين وغيرهما وأظهر الأدلة على الوجوب الحديث الثابت عن عائشة في الصحيحين [البخاري "3935"، مسلم "685"] ، وغيرهما [أحمد "3/272"، النسائي "1/255"] ، بلفظ: "فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر"، فهذا اخبار بأن صلاة السفر أقرت على ما فرضت عليه فمن زاد فيها فهو كمن زاد على أربع في صلاة الحضر ولا يصح التعلق بما روي عنها أنها كانت تتم فإن ذلك لا تقوم به الحجة بل الحجة في روايتها لا في رأيها. وهكذا لم يثبت ما روي عنها أنه روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم وقد وافقها على هذا الخبر الذي أخبرت به ابن عباس فأخرج مسلم ["687"] ، عنه أنه قال: "إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة". ومن ذلك ما أخرجه أحمد ["1/37"، والنسائي "3/11"، وابن ماجه "1064"] ، عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله رجال الصحيح. وأخرج النسائي ["3/117"] وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا كان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي في السفر ركعتين. فهذه الأدلة قد دلت على أن القصر واجب عزيمة غير رخصة وأما قوله تعالي: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فهو وارد في صلاة الخوف والمراد قصر الصفة لا قصر العدد كما ذكر ذلك المحققون وكما يدل عليه آخر الآية ولو سلمنا أنها في صلاة القصر لكان ما يفهم من رفع الجناح غير مراد به في ظاهره لدلالة الأحاديث الصحيحة على أن القصر عزيمة لا رخصة. ولم يرد في السنة ما يصلح لمعارضة ما ذكرناه من الأدلة الصحيحة. قوله: "على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر بريدا". أقول: هذه المسألة قد اضطربت فيها الأقوال وكثرت فيها مذاهب الرجال وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين.

وهذا يدل على أن الخارج لسفر يقصر الصلاة إذا خرج من بلده قدر ما بين المدينة وذي الحليفة وهو ستة أميال ولكن هذا لا يدل على عدم القصر فيما دون هذه المسافة لما ثبت في صحيح مسلم ["691"] ، وغيره [أبو دأود "1201"] ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة. والحاصل أن هذه التقديرات لا تدل على عدم جواز القصر فيما دونها مع كونها محتملة أن يكون قاصدا لسفر هو خلف ذلك المقدار وأن يكون ذلك هو منتهى سفره. فالواجب الرجوع إلي ما يصدق عليه أنه سفر وأن القاصد إليه مسافر ولا ريب أن أهل اللغة يطلقون اسم المسافر على من شد رحله وقصد الخروج من وطنه إلي مكان آخر فهذا يصدق عليه أنه مسافر وأنه ضارب في الأرض ولا يطلقون اسم المسافر على من خرج مثلا إلي الأمكنة القريبة من بلده لغرض من الأغراض فمن قصد السفر قصر إذا حضرته الصلاة ولو كان في ميل بلده وأما نهاية السفر فلم يرد ما يدل على أن السفر الذي يقصر فيه الصلاة هو أن يكون المسافر قاصدا لمقدار كذا من المسافة فما فوقها. وقد صح النهي للمرأة أن تسافر بغير محرم ثلاثة أيام وفي رواية: "مسيرة يوم وليلة" وفي رواية: "أن تسافر بريدا" فسمى النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك سفرا وأقله البريد فكان القصر في البريد واجبا ولكنه لا ينبغي ثبوت القصر فيما دون البريد إلا أن يثبت عند أهل اللغة أو في لسان أهل الشرع أن من قصد دون البريد لا يقال له مسافر وأما قول المصنف مريدا أي سفر أي سواء كان السفر طاعة أو معصية فهو صواب لأن الأدلة الأخرى لم تفرق بين سفر وسفر ومن ادعى ذلك فعليه الدليل. قوله: "أو يتعدى في أي موضع شهرا" أقول: الذي لم يعزم على إقامة مدة معينة لا يزال يقصر حتى يمضي له قدر المرة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح وفي تبوك. وقي روي أنه اقام في مكة ثماني عشرة ليلة كما في رواية أو تسع عشرة ليلة كما في رواية أخرى أو سبع عشرة ليلة كما في رواية ثالثة. وروي أنه قام بتبوك عشرين ليلة فإذا مضى للمتردد الذي لم يعزم على إقامة معينة عشرون ليلة أتم صلاته. فإن قلت: ومن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أقام أكثر من هذه المدة لأتم صلاته؟. قلت: المقيم ببلد قد حط رحله وذهب عنه مشقة السفر فلولا أنه صلى الله عليه وسلم قصر في هذه المدة لما كان القصر في ذلك سائغا فعلينا أن نقتصر على المدة التي قصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق

عليه وعلى من معه فيها اسم السفر فقال: "أتمو يا أهل مكة فإنا قوم سفر". وقد أخرج البخاري ["1080"، وغيره [الترمذي "549"، عن ابن عباس قال لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة اقام فيها تسع عشرة ليلة فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة ليلة قصرنا وإن زدنا أتممنا فهذا حبر الأمة يقول هكذا وهو الحق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قصر فيه مع الإقامة ورجوعا إلي الأصل وهو أن المقيم يتم صلاته فيما زاد على ذلك. قوله: "أو يعزم هو أو من يريد لزامه على إقامة عشر". أقول: قد قدمنا لك أن المقيم الذي حط رحل السفر لا يقصر إلا بدليل وقد ثبت فيمن لم يعزم على إقامة معينة ما قدمناه وأما من عزم على إقامة معينة فلم يثبت فيه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في عام حجه في أيام إقامته بمكة وهو قدم مكة صبحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن بمكة ثم خرج إلي منى فقد عزم صلى الله عليه وسلم على إقامة هذه الأربعة الأيام بمكة وقصر الصلاة فيها فمن عزم على إقامة أربعة ايام بمكة قصر وإن عزم على إقامة أكثر منها أتم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم رجوعا إلي الأصل وهو أن المقيم يتم. وقد خلط الكلام الجلال في هذا المقام ووهم عدة أوهام. [فصل "وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر اعاد تمأما لا العكس إلا في الوقت ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد ومن تردد في البريد أتم وإن تعداه كالهائم"] . قوله: فصل: "وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر أعاد تماما". أقول: وجه ذلك عند المصنف أنه انكشف عدم المقتضى للقصر وهو سفر البريد ووجد المقتضى للتمام وهو عدم السفر إلي البريد وأما قوله: "لا العكس" فغير صواب لأنه قد وجد مقتضى القصر والقائل بأن القصر عزيمة لا يفيده قول من قال إنه رخصة ولكنه مبني على قاعدة فروعية وهي أن المختلف فيه لا يقضى إلا في الوقت لا بعده وهو يخالف قاعدة لهم أخرى وهي أن الاعتبار بالانتهاء. وهكذا قوله: "ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد" كأن قياس قواعدهم أن يعيد اعتبارا بالانتهاء لأن النية غير مؤثرة بمجردها. وأما قوله: "ومن تردد في البريد أتم"، فإن كان التردد في البريد مع عدم مجأوزته فلم يحصل مقتضى القصر وإن كان مع مجأوزته فقد حصل موجبه فلا وجه لقوله وإن تعداه وقياسه على الهائم غير صحيح لأن الهائم لم يقصد السفر فهو غير مسافر وهذا مسافر فإن كان هذا الذي تردد في البريد هائما فلا وجه لقوله كالهائم لأنه هائم لا كالهائم.

[فصل "والوطن ما نوى استيطانه ولو في مستقبل بدون سنة وإن تعدد يخالف دار الإقامة بأنه يصير وطنا بالنية قيل وبأن لا يقصر منه إلا لبريد وتوسطه يقطعه ويتفقان في قطعهما حكم السفر وبطلانهما بالخروج مع الإضراب"] . قوله: فصل: "والوطن هو ما نوى استيطانه". أقول: مصير المكان وطنا بمجرد النية لم يوافق رواية صحيحة ولا رأيا مقبولا وجعل النية مؤثرة في دون سنة لا في سنة فما فوقها لا يدري ما وجهه ولا من أين مأخذه وليس مثل هذا الكلام القائل والرأي العاطل مما يدون في مثل كتب الهداية التي هي لقصد إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم. وهكذا ما ذكره من الفرق بين دار الوطن ودار الإقامة ليس عليه أثاره من علم وكان الأولى للمصنف أن يجعل مكان هذه الخرافات ما ورد فيمن تأهل في بلد أنه يتم الصلاة فيها لما أخرجه أحمد عن عثمان بن عفان أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال يا ايها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم" وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وفيه ضعف خفيف لا يوجب ترك ما رواه.

باب وشرط جماعة الخوف

[باب وشرط جماعة الخوف "من أي أمر صائل السفر وآخر الوقت وكونهم محقين مطلوبين غير طالبين إلا لخشية الكر فيصلي الإمام ببعض ركعة ويطول في الأخرى حتى يخرجوا ويدخل الباقون وينتظر في المغرب متشهدا ويقوم لدخول الباقين. وتفسد بالعزل حيث لم يشرع وبفعل كثير لخيال كاذب. وعلى الأولين بفعلها له"] . قوله: باب: "وشروط جماعة الخوف من أي أمر صائل السفر". أقول: الظاهر ثبوت مشروعية صلاة الخوف من كل أمر يخاف منه في السفر والحضر ولا يدل كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا من خوف خاص وفي إسفاره على أنها لا تصلى من خوف من غير آدمي ولا تصلى في الحضر فإن العلة التي شرعت لها كائنة في الجميع ولا يصح التمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المدينة مع اشتداد الملاحمة والمدافعة لأنه صلى الله عليه وسلم اشتغل هو وأصحابه بمواقعة الأحزاب حتى قال له عمر يا رسول الله ما كدت اصلي العصر حتى كادت الشمس

تغرب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، قال جابر فقمنا إلي بطحان فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب هكذا في البخاري ["596، 598، 4112"، مسلم "631"، الترمذي "180"، النسائي "3/84"] ، من حديث جابر وفي الموطأ أن الذين فاتهم الظهر والعصر والمغرب وأنهم صلوا بعد هدوء من الليل. وأيضا قد أخرج النسائي وابن حبان من حديث أبي سعيد أن ذلك كان قبل أن ينزل قوله تعالي: {فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً} [البقرة: 239] . وأما اشتراط أن تكون صلاة الخوف في آخر الوقت فلا دليل عليه بل تفعل في أول الوقت ووسطه وآخره على حسب ما يقتضيه الحال. وأما اشتراط كونهم محقين مطلوبين غير طالبين فلم يرد ما يدل على ذلك وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من المواطن وهو طالب للكفار غير مطلوب. قوله: "فيصلي الإمام ببعض ركعة" الخ. أقول: قد وردت صلاة الخوف على أنحاء مختلفة وثبت فيها صفات فأيها فعل المصلون فقد أجزأهم وقد ذكرنا ما ورد فيها من الأنواع في شرحنا للمنتقي وذكرنا جملة ما صح من ذلك فليرجع إليه فإن إيراده هنا يحتاج إلي تطويل يخالف ما هو الغرض لنا من التنبيه على الصواب والإرشاد إلي الحق. وهذه الصفة التي ذكرها المصنف هي من جملة الصفات الواردة ولا وجه للاقتصار عليها فإن ذلك تضييق لدائرة قد وسعها الله على عباده. قوله: "وتفسد بالعزل حيث لم يشرع". أقول: إذا لم يوافق العزل صفة من الصفات الواردة فغاية ما هناك أنه أتى ببعض صلاته جماعة وبعضها فرادى وذلك لا يقتضي الفساد. وأما فسادها بالفعل الكثير للخيال الكاذب فقد قدمنا في الفعل الكثير ما يغني عن الإعادة. [فصل فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه ولو في الحضر ولا تفسد بما لا بد منه من قتال وانفتال ونجاسة على آلة الحرب وعلى غيرها تلقى فورا ومهما أمكن الإيماء بالرأس فلا قضاء وإلا وجب الذكر والقضاء. ويؤم الراجل الفارس لا العكس] . قوله: "فصل فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه".

أقول: يدل على هذا قول الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:6] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ويدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود ["1249"] عن عبد الله ابن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال: "اذهب فاقتله" قال: وحضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء يماء نحوه فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك, فقال: إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى أمكنني ثم علوته بسيفي حتى برد. ومثل هذا من هذا الصحأبي المبعوث في هذا الأمر المهم لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أنه يفعل ما أمكنه ولو بمجرد الايماء وإلي غير القبلة وفيه أنه لا يشترط ما تقدم من كونهم مطلوبين وفيه أن صلاة الخوف تصح أن تكون فرادى.

باب وفي وجوب صلاة العيدين خلاف

[باب وفي وجوب صلاة العيدين خلاف وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال ركعتان جهرا ولو فرادى بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا يفصل بينهما الله أكبر كبيرا إلي آخره ويركع بثامنة وفي الثانية خمس كذلك ويركع بسادسة ويتحمل الإمام ما فعله مما فات اللاحق] . قوله: باب: "وفي وجوب صلاة العيدين خلاف". أقول: هذه العبارة لا تفيد السامع ولا يحسن السكوت عليها لأنه غالب مسائل الفروع هكذا فيها خلاف ولعله لم يتقرر دليل الوجوب للمصنف كما ينبغي وكان عليه أن يقف على ما دون الوجوب ويجزم به كعادته في هذا الكتاب حتى يكون لكلامه فائدة يستفيدها المقلد. واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لازم هذه الصلاة في العيدين ولم يتركها في عيد من الأعياد وأمر الناس بالخروج إليها حتى أمر بخروج النساء العواتق وذوات الخدور والحيض وأمر الحيض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها من جلبابها وهذا كله يدل على أن هذه الصلاة واجبة وجوبا مؤكدا على الأعيان لا على الكفاية. ويزيد ذلك تأكيدا أنه صلي الله عليه وسلم أمر الناس بالخروج لقضائها في اليوم الثاني مع اللبس كما تقدم، وهذا شأن الواجباتلا غيرها. قوله: "وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال". أقول: قد قدمنا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يفدوا إلي مصلاهم لما أخبره الركب برؤية الهلال.

وأخرج أبو دأود ["1135"وابن ماجه "1317"] ، أن عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على الإمام الذي أبطأ بصلاة العيد ورجال إسناده عند أبي دأود ثقات. وأخرج أحمد بن الحسن البناء عن جندب في كتاب الأضاحي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح هكذا ذكره ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه. وأخرج الشافعي في حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي عمرو ابن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس. قوله: "وهي ركعتان جهرا ولو فرادى". أقول: أصل كل صلاة تصح فرادى كما تصح جماعة وصلاة العيد صلاة من الصلوات فمن ادعى أنها لا تصح فرادى كان عليه الدليل ولا يصلح لذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما صلاها إلا جماعة فإن غاية ما يستفاد من ذلك أن التجميع في العيد أولى ولا شك في ذلك ومحل النزاع الصحة فمن نفاها فهو المحتاج إلي الدليل. وهكذا الجهر هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولكنه لا ينفي صحة الإسرار. قوله: "بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا". أقول: لم يصح في كون التكبير بعد القراءة شيء أصلا بل لم يكن في ذلك حديث ضعيف فضلا عن أن يوجد فيه حديث صحيح أو حسن وأما تقديم التكبير في الركعتين على القراءة ففيه حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى والقراءة بعدهما كلتيهما"، أخرجه أبو دأود ["1151"] ، والدارقطني وأخرجه من غير ذكر تقديم التكبير على القراءة أحمد ["6/140، 141"] ، وابن ماجه ["1279"] . قال العراقي إسناده صحيح وقال الترمذي في العلل المفردة عن البخاري إنه قال حديث صحيح. وأخرج الترمذي عن عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة قال الترمذي هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو دأود إنه ركن من أركان الكذب وقال ابن حبان له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده قال ابن حجر في التلخيص وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي وأجاب النووي في الخلاصة على المنكرين على الترمذي فقال لعله اعتضد بشواهد وغيرها قال العراقي في شرحه للترمذي إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري فقال قال في كتاب العلل المفردة سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول: انتهى. وأخرج ابن ماجه ["1277"] ، عن سعد القرظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في

الأولى سبعا قبل القراءة وفي الأخرى خمسا قبل القراءة وفي إسناده ضعف. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وتصلح للاحتجاج بها في كون التكبير قبل القراءة وفي كون التكبير سبعا في الأولى وخمسا في الثانية. وقد وردت روايات أخر في عدد التكبير مقوية لهذه الأحاديث. قوله: "ويفصل بينهما ندبا الله أكبر" الخ. أقول: هذا الندب لا يستند إلي كتاب الله ولا إلي سنة رسول الله ولا إلي قول صحأبي ولا تابعي ومجرد أنه استحسنه فرد من أفراد العلماء لا يصلح لإثبات الندب فإن الندب هو أحد الأحكام الخمسة ولا يثبت إلا بدليل يدل عليه في هذا التسرع إلي التقول على الشرع بما لم يكن منه. والحاصل أن صلاة العيد هي أن يكبر المصلي للإحرام ثم يكبر في الأولى سبع تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم يقوم إلي الركعة الثانية فيكبر خمسا ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن وإذا أراد أن يقتدي بالقراءة التي كان يقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد قرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أو قرأ في الأولى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وفي الثانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} فهذا هو المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته في العيدين. وأما قوله: "ويتحمل الإمام ما فعله مما فات اللاحق" فلم يدل على هذا التحمل دليل وقد تقدم في أدلة قراءة الفاتحة في كل ركعة ما ينبغي اعتباره هنا وهكذا هذه الأحاديث المذكورة في تكبير صلاة العيدين يفعلها المؤتم كما يفعلها الإمام فلا يكون المؤتم مدركا للركعة إلا بقراءة فاتحتها والإتيان بما شرع فيها من التكبير. [فصل "وندب بعدها خطبتان كالجمعة إلا أنه لا يقعد أولا ويكبر في الأولى تسعا وفي آخرهما سبعا سبعا ومن خطبة الأضحى التكبير المأثور ويذكر حكم الفطرة والأضحية وتجزىء من المحدث وتارك التكبير وندب الإنصات ومتابعته في التكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمأثور في العيدين"] . قوله: فصل: "وندب بعدها خطبتان كالجمعة". أقول: هذا أعني كون الخطبتين بعد الصلاة هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وأما كونهما مندوبتين فلما أخرجه النسائي ["1571" وابو دأود "1155" وابن ماجه

"1290"] ، من حديث عبد الله بن السائب قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب"، وهذا الحديث هو من الأحاديث المسلسلة بيوم العيد وقد رويته مسلسلا بإسناد إلي النبي صلى الله عليه وسلم في مجموعي الذي سميته إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر". قوله: "إلا أنه لا يقعد أولا". أقول: هذا صواب لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قعد في خطبة العيد بل كان يفرغ من الصلاة فيقوم ثم يخطب. قوله: "ويكبر في الأولى تسعا" الخ. أقول: لم يرد في ذلك دليل صحيح للتمسك به وأما ما رواه البيهقي عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أنه قال من السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع تكبيرات تترى فإن أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث مرسل وإن أراد سنة الصحابة فلا تقوم به الحجة إلا أن يكون إجماعا منهم قال ابن القيم وأما قول كثير من الفقهاء إنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيد بالتكبير فليس معهم فيها سنة من النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة والسنة تقضي خلافها وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد انتهى. وأما قوله: "وفي فصول الأولى من خطبة الأضحى التكبير المأثور" فلم يؤثر في ذلك شيء ألبتة فإن أراد أنه يستحب في فصول هذه الخطبة تكبير التشريق الذي سيأتي فهو لم يؤثر في خطبة العيد قط. قوله: "ويذكر حكم الفطرة والأضحية". أقول: أما ذكر حكم الفطرة في خطبة عيد الفطر فلم يثبت في ذلك شيء ولكنه إذا فعل ذلك الخطيب فهو من البيان الذي شرعه الله مع كون ذلك مزيد اختصاص بهذا اليوم. وهكذا ذكر حكم الأضحية وما يجزىء منها وما لا يجزىء وبيان وقتها وما ينبغي للمضحي أن يفعله في أضحيته وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه خطب يوم الأضحى فذكر مشروعية النحر بعد الصلاة وأن من نحر قبل الصلاة فليست بأضحية". وأما كون الخطبة تجزىء من المحدث فذلك صواب لعدم الدليل على أن يكون الخطيب متطهرا. وأما أنها تجزىء من تارك التكبير فتارك التكبير ابعد من البدعة من فاعله كما قدمنا. وأما كون الإنصات مندوبا فلكون سامع الموعظة ينبغي له أن يفهمها وإذا اشتغل بالكلام ولم ينصت لم يفهمها فهو إنما يحسن من هذه الحيثية لا من حيث الدليل فإنه لم يرد في خطبة العيد ما يدل على ذلك ولا ورد ما يدل على المتابعة في التكبير ولا ورد ما يدل في خصوص خطبة العيد على المتابعة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ورد ما يدل على مشروعية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره وهم أعم من أن يكون في خطبة العيد أو في غيرها ولم يخص إلا خطبة الجمعة لوجوب الإنصات فيها.

قوله: "وندب المأثور في العيدين" أقول: من المأثور في العيدين أن تكون الصلاة في الجبانة إلا لعذر من مطر أو نحوه وأن يخالف الإمام ومن معه الطريق فيرجعون في طريق غير الطريق التي جاءوا منها ورفع الصوت بالتكبير والتهليل وتعجيل الخروج لصلاة الأضحى وتأخيره لصلاة الفطر وأن لا يغدو لصلاة الفطر حتى يطعم ويخرج لصلاة الأضحى قبل أن يطعم وأن لا يصلي قبل صلاة العيد ولا بعدها وأن يلبس أحسن ما يجد ويتطيب بأجود ما يجد وأن يخرج إلي العيد ماشيا وأن يستكثر من الموعظة للرجال والنساء ويرغبهم في الصدقة. [فصل "وتكبير التشريق سنة مؤكدة عقيب كل فرض من فجر عرفة إلي آخر أيام التشريق ويستحب عقيب النوافل"] . قوله: فصل: "وتكبير التشريق سنة مؤكدة" الخ. أقول: قد ثبت الأمر بالذكر في الأيام المعدودة قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرو: 203] ، وهي أيام التشريق وثبت عنه صلى الله عليه وسلم مطلق التكبير وفي صحيح مسلم ["11/890"] ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والحُيَّضُ يَكُنَّ خلف الناس يكبرن مع الناس". وفي البخاري ["928"] ،: أن أم عطية قالت كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم. وثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يكبر فيكبر من في المسجد ويكبر بتكبيرهم من في الأسواق وأنه كان يقع ذلك مرة بعد مرة في دبر الصلاة وغيرها من الأوقات. والحاصل أن المشروع في ايام التشريق الاستكثار من ذكر الله عز وجل خصوصا التكبير والمراد مطلق التكبير وهو أن يقول الله أكبر ويكرر ذلك في الأوقات ومن جملتها عقب الصلاة ولا وجه لتخصيصه بعقب الصلاة ولا لجعل يوم عرفة من جملة الأيام التي يستحب فيها تكبير التشريق فإن أيام التشريق هي أيام النحر وهي يوم النحر ويومان بعده. وأما يوم عرفة فهو من الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة التي قال الله سبحانه فيها: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وثبت فيها كما في البخاري ["969"] ، وغيره [أحمد "1/224" الترمذي "757"، ابن ماجة "1727"، أبو دأود "2438"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلي الله عز وجل من هذه الأيام"، يعني ايام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وما له ثم لم يرجع بشيء من ذلك". وأخرج مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والحمد".

باب ويسن للكسوفين حالهما ركعتان

[باب ويسن للكسوفين حالهما ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات قبلها ويفصل بينها الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا ويكبر موضع التسميع إلا في الخامس. وتصح جماعة وجهرا وعكسهما وكذلك لسائر الإفزاع أو ركعتين لها. وندب ملازمة الذكر حتى ينجلي ويستحب للاستسقاء أربع بتسلمتين في الجبانة ولو سرا وفرادى ويجأرون بالدعاء والاستغفار ويحول الإمام رداءه راجعا تاليا للمأثور] . قوله: باب: "ويسن للكسوفين حالهما ركعتان في كل ركعة خمس ركوعات قبلها" الخ أقول: هذا أكثر ما ورد في صلاة الكسوف فالأخذ به أخذ بالزيادة ولكن أصح ما ورد في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان فإن هذا هو الثابت في الصحيحين [البخاري "1052"، "مسلم "17/907"] ، وغيرهما [أحمد "1/298، 258، 359"، النسائي "3/146، 148"] ، من طرق ثم دون هذا في الصحة مع كونه صحيحا في كل ركعة ثلاثة ركوعات وكذا ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات ثم دون هذين في الصحةركعتان في كل ركعة خمس ركوعات وورد ركعتان في كل ركعة ركوع وورد أن صلاة الكسوف تكون كأحدث صلاة صلوها. فجملة ما ورد ركوع في كل ركعة وركوعان في كل ركعة وثلاثة في كل ركعة وأربعة في كل ركعة وخمسة في كل ركعة وكأحدث صلاة فهذه ست صفات وقد استشكل كثير من المحدثين وقوع مثل هذا الاختلاف مع كونه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف إلا مرة واحدة وذكروا في الجمع وجوها ليس هذا موضع ذكرها وإذا تقرر لك أن مخرج هذه الأحاديث متفقا وأن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ها هنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء بل الذي ينبغي ها هنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ. ثم أعلم أنه قد اجتمع ها هنا في صلاة الكسوف الفعل والقول ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلي المساجد". البخاري ["1044"] . وفي رواية: "فصلوا وادعوا". والظاهر الوجوب فإن صح ما قيل من الإجماع على عدم الوجوب كان صارفا وإلا فلا.

قوله: "ويفصل بينهما الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا". أقول: كان يغني عن هذا الرأي البحث والاستحسان الصرف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقرأ بعد كل ركوع بسورة من الطوال ولا وجه ها هنا لتكرير الحمد بعد كل ركوع بل يقرأ بعد الدخول في الصلاة ثم يقرأ بين كل ركوعين بسورة من الطوال اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "ويكبر موضع التسميع"، فهو خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "1407"، مسلم "901"] ، وغيرهما [أحمد "6/168"، ابن ماجة "1263"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الارتفاع من الركوع: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكذلك كان يقول عند الارتفاع من الركوع الثاني. وهكذا ينبغي أن يقال عند الارتفاع من سائر الركوعات لمن أراد أن يأتي بالزيادة على ركوعين في كل ركعة اقتداء بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الذي في رواية عائشة في هذا الحديث الذي فيه التسميع والتحميد هو في صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين في كل ركعة ركوعان. قوله: "وتصح جماعة وجهرا وعكسهما". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه المرة التي صلى فيها صلاة الكسوف أنه صلاها جماعة وجهر فيها بالقراءة ولكن أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة يتنأول صلاة الفرادى وصلاة الإسرار مع أنه ثبت من حديث سمرة عند أحمد ["5/16"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1184"، النسائي "3/140"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في الكسوف لا يسمعون له صوتا"، وقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ولكن روايات الجهر أصح وأكثر ورأوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي. قوله: "وكذلك لسائر الإفزاع". أقول: إذا لم تثبت الصلاة لمثل ذلك كان فعلها لحدوث الأمر المفزع بدعة من هذه الحيثية لا من حيثية كونها صلاة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وما روي عن بعض الصحابة لم يصح ولو صح لم تقم به الحجة" قوله: "وندب ملازمة الذكر حتى تنجلي". أقول: ثبت في الصحيحين [البخاري "1044"، مسلم "901"] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكسوف: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وفي لفظ آخر فيهما [البخاري "1059"، مسلم "24/912"] ، "فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره"، وفي لفظ لهما [البخاري "1060"، مسلم "9/904"] : "فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي". قوله: "ويستحب للاستسقاء أربع بتسليمتين". أقول: لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى أربعا ولا أرشد إلي صلاة الأربع بل الثابت عنه أنه صلى ركعتين فقط وثبت عنه أنه خطب بعد صلاته للركعتين وثبت عنه أنه استسقى في خطبة الجمعة وثبت أنه خطب قبل صلاة الركعتين والكل سنة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه جهر بالقراءة.

وأما قول المصنف رحمه الله ولو سرا أو فرادى فذلك رجوع إلي ما هو أصل كل صلاة أنها تصح سرا وجهرا وجماعة وفرادى. ولكن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه هو الذي ينبغي اعتماده. وأما ما ذكره من الجأر بالدعاء والاستغفار فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يدعو ويحول وجهه إلي القبلة ويرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ولا يزال في الدعاء والتضرع". وما ذكره من تحويل الرداء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حول رداءه وحول أصحابه ولا وجه لتقييد ذلك بحال الرجوع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله حال الدعاء والخطبة. وأما قوله: "تاليا للمأثور" فلم يرد في ذلك شيء يصلح للتمسك به لا في حال الخطبة والدعاء ولا في حال الرجوع ولكنه روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب أنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا ما رأيناك استسقيت فقال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} الآية. [فصل "والمسنون من النفل ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب وأقله مثنى وقد يؤكد كالرواتب ويخص كصلاة التسبيح والفرقان ومكملات الخمسين. فأما الترأويح جماعة وصلاة الضحى بنيتها فبدعة"] . قوله: فصل: "والمسنون من النقل ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به". الخ. أقول: مراده أنه قد تبين أن ذلك الذي لازمه وأمر به نفل بدليل يدل على ذلك ولهذا قال من النفل فلا يرد عليه باعتبار عبارته شيء ولكنه يقال له ما لازمه فقط فهو سنة وما أمر به أمرا لا يراد به المعنى الحقيقي لوجود صارف فهو سنة وما اجتمع فيه القول والفعل فلا شك أن له مزيد خصوصية فهو آكد مما لم يرد فيه إلا أحدهما فإن أراد هذا المعنى فلا وجه لجعل البعض مسنونا والبعض مستحبا لأن المستحب والمندوب عنده وعند من يوافقه من أهل الأصول والفروع لهما رتبة دون رتبة المسنون. والحق أن الكل يصدق عليه اسم السنة وإن كان بعضه آكد من بعض لكونه ثابتا بالسنة النبوية بل السنة تشمل ما ثبت وجوبه بالسنة فإن قلت هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه قلت إذا جرى الاصطلاح على ما يخالف المعنى الشرعي فهو مدفوع من أصله. قوله: "وأقله مثنى". أقول: أما الإيتار بركعة فقد ثبت ثبوتا متواترا وذلك واضح ظاهر لكل من له أدنى اطلاع على السنة المطهرة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف صلاة النفل بالليل والنهار أنها "مثنى

مثنى" [أحمد "2/26، 51"، أبو دأود "1295"، الترمذي "597"، النسائي "1666"، ابن ماجة "1322"، وخص صلاة الوتر بالزيادة فصلاها أربعا أربعا وورد ما يدل على جواز الزيادة على أربع متصلة وخصها أيضا بالنقصان فجوز الإيتار بركعة واجتمع في ذلك قوله وفعله. قوله: "وقد يؤكد كالرواتب". أقول: رواتب الفرائض قد اجتمع فيها القول والفعل وثبت ذلك ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فهي داخلة في المسنون من النفل دخولا أوليا فأفرادها بالذكر تطويل بلا طائل. قوله: "وقد يخص التسبيح". أقول: كأنه لم يرد في النوافل دليل يخصها إلا هذه التي ذكرها وذلك من أغرب ما يقرع سمع من يعرف الأدلة فإنه قد ورد في الاثني عشر الركعة التي هي رواتب الفرائض "أن من صلاها في يوم وليلة بنى له بيت في الجنة" [مسلم "728"، أبو دأود "1250"، النسائي "3/261"، الترمذي "415"، ابن ماجة "1141". وورد في كل راتبة من هذه الرواتب بخصوصها من الترغيبات ما لا يخفى على عارف فورد في الأربع قبل الظهر والأربع بعدها "أن من صلاها حرمه الله على النار" [أحمد "6/426"، النسائي "1759"] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ صلى أربعا قبل العصر" [أحمد "1/117"، أبو دأود "1271"، الترمذي "430"] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الركعتين قبل الفجر: "إنها خير من الدنيا وما فيها"، [مسلم "725"، أحمد "6/50"، 51"، الترمذي "414"، النسائي "1759"، وقال: "لا تدعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل" [أبو دأود "1258"] ، بل ورد في غالب النوافل في الليل والنهار من الترغيب بالأحاديث الصحيحة ما لا يخفى على عارف بل ورد في صلاة الضحى التي جعلها المصنف بدعة ما أخرجه البخاري ومسلم [البخاري "3/56"، مسلم "721"] ، وغيرهما [أبو دأود "1432"، الترمذي "760"، النسائي "1677"] ، من حديث أبي هريرة قال: أوصاني خليل صلى الله عليه وسلم بثلاث بصيام ثلاثة أيام في كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام. وثبت في الصحيح [مسلم "720"] ، "أنه يصبح على كل سلامي صدقة وأنه يجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". فالعجب من المصنف حيث يعمد إلي صلاة التسبيح التي اختلف الناس في الحديث الوارد فيها حتى قال من قال من الأئمة إنه موضوع وقال جماعة إنه ضعيف لا يحل العمل به فيجعلها أول ما خص بالتخصيص وكل من له ممارسة لكلام النبوة لا بد أن يجد في نفسه من هذا الحديث ما يجد وقد جعل الله في الأمر سعة عن الوقوع فيما هو متردد ما بين الصحة والضعف والوضع وذلك بملازمة ما صح فعله أو الترغيب في فعله صحة لا شك فيها ولا شبهة وهو الكثير الطيب. قوله: "والفرقان". أقول: رحم الله المصنف فإن هذه الصلاة التي جعلها مما خص بالتخصيص مكذوبة

موضوعة لم يثبت فيها حرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من الصحابة وما روي في ذلك عن علي فلا أصل له وهكذا الاختيار والانتفاء والانتقاد، وبالجملة صنع من لا يفرق بين أصح الصحيح وأكذب الكذب. قوله: "ومكملات الخمسين". أقول: لا يعرف في السنة المطهرة استحباب مثل هذا ولا ثبت في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وقد كان صلى الله عليه وسلم يواظب على نوافل لا يخل بها في غالب الحالات. فإن أراد المصنف ما كان يواظب عليه صلى الله عليه وسلم مضموما إلي الفرائض فهو معروف وهو دون هذا العدد وإن أراد ما أرشد إليه أو كان يفعله في بعض الحالات فهو أكثر من هذا العدد. فيا لله العجب حيث يعمد المصنف إلي مثل هذه الأمور التي لا دليل عليها أصلا فيجعلها مما خص من النوافل بمزيد مزية على غيرها فإن هذا صنع من لا يدري بالسنة أصلا. قوله: "فأما الترأويح جماعة والضحى بنيتها فبدعة". أقول: أما صلاة الترأويح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ليال من رمضان وائتم به جماعة من الصحابة وعلم بهم فترك ذلك مخافة أن تفترض عليهم وهذا ثابت في أحاديث صحيحة في الصحيحين [البخاري "2009"، مسلم "173/759"، وغيرهما [ابو دأود "1371"، النسائي "4/156"، الترمذي "808"، ابن ماجة "1326"، أحمد "2/281، 289، 408، 423"] ، وبهذا يتقرر أن صلاة النوافل في ليالي رمضان جماعة سنة لا بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركها إلا لذلك العذر وثبت أيضا عند أحمد ["5/159، 160، 163"] ، وأهل السنن أبو دأود "1375"، النسائي ""3/83، 84"، "ابن ماجة 1327"، الترمذي 806"] ، وصححه الترمذي ورجاله رجال الصحيح عن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل بنا حتى مضى سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلثا الليل ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى يتصرف كتب له قيام ليلة" ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح, قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور. ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم في النافلة في ليالي رمضان جماعة فكيف تكون الجماعة بدعة كما قال المصنف ولم يقع من عمر إلا أنه لما خرج إلي المسجد فوجد الناس أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أولى ثم عزم فجمعهم على أبي ابن كعب. [البخاري "2010"] فقد كانت الجماعة موجودة في المسجد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يجمعهم عمر وبهذا كله تعرف أن التجميع في النوافل في ليالي رمضان سنة لا بدعة. وأما ما استحسنه جماعة من أهل العلم من جعل هذه الصلاة عشرين ركعة وجعل القراءة

في كل ركعة شيئا معينا فهذا لم يكن ثابتا بخصوصه لكنه من جملة ما يصدق عليه أنه صلاة وأنه جماعة وأنه في رمضان. وأما صلاة الضحى التي جعلها المصنف بنيتها بدعة فكما قال الشاعر: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل وقد ذكرت في شرحي للمنتقي الأحاديث الواردة فيها وهي شيء واسع فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع إليه حتى يتبين له هذا الخبط والخلط الذي وقع من المصنف فإنه جعل السنن بدعا والبدع سننا والأمر لله العلي الكبير.

كتاب الجنائز

[كتاب الجنائز فصل "يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا ويوصي للعجز ويلقن الشهادتين ويجه المحتضر القبلة مستلقيا ومتى مات غمض ولين برفق وربط من ذقنه إلي قمته بعريض ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا ثم يخاط". ويعجل التجهيز إلا للغريق ونحوه ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه] . قوله: "كتاب الجنائز". فصل: "يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا". أقول: كان الأولى أن يقول المصنف تجب على المريض التوبة والتخلص عما عليه فورا للأدلة من الكتاب والسنة على وجوب التوبة والتخلص عن الحقوق الواجبة عليه نعم إذا بلغ إلي حالة من شدة المرض لا يتذكر ما عليه إلا بتذكير فذلك من الحاضرين عنده من باب الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف الذي ندب الله إليه العباد وأمرهم به. قوله: "ويوصى للعجز". أقول: هذا من جملة ما يؤمر به أي يؤمر المريض بالتوبة والتخلص إن أمكن حال المرض فإن لم يمكن فإنه يؤمر بأن يوصي للعجز عن التخلص في الحال. وأصل الوصية واجب في جميع الأحوال إذا لم يتمكن من التخلص ولو كان صحيحا فإن

أمكن ذلك فهو الواجب للحديث الصحيح الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "ولا يدعها حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا" [البخاري "2748"، مسلم "92/1032"] . قوله: "ويلقن الشهادتين" أقول: قد ثبت الأمر بتلقين من حضره الموت فمن ذلك ما في صحيح مسلم ["1/916"] وغيره [أبو دأود "3117"، الترمذي "976"، النسائي "514"، ابن ماجة "1445"] ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ومثله من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ["2/917"] ، وغيره وهو مروي خارج الصحيح من طريق جماعة من الصحابة منهم عائشة [النسائي "4/5"] ، وعبد الله بن جعفر [ابن ماجة ""1446"] ، وجابر وعروة بن مسعود وحذيفة ابن اليمان وابن عباس وابن مسعود قال النووي والأمر بهذا التلقين أمر ندب. قال وأجمع العلماء على هذا التلقين انتهى. وظاهر الأمر الوجوب ولا قرينة تصرفه عن ذلك وظاهر الأحاديث أن مشروعية التلقين إنما هي لهذا اللفظ أعني لا إله إلا الله ولكنه ثبت في غير هذا التلقين الأمر بمقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما في الصحيحين وغيرهما من رواية ابن عمر. وقد قيل إن المراد هنا بقول لا إله إلا الله التلفظ بالشهادتين لكونه صار علما على ذلك. قوله: "ويوجه المحتضر القبلة مستلقيا". أقول: استدل على مشروعية هذا التوجيه بما أخرجه أبو دأود ["2875"، والنسائي "4012"] ، والحاكم من حديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال: "هي سبع" وذكر منها: "استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" وهذا لايدل على المطلوب لأن المراد بقوله أحياء عند الصلاة وقوله أمواتا في اللحد والكلام في توجيه الحي المحتضر وقد استدل على ذلك بما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه إلي القبلة إذا احتضر فقال صلى الله عليه وسلم: "أصاب الفطرة" فإن صح هذا كان دليلا على مشروعية ذلك وقد ذكره في التلخيص ولم يتكلم عليه. والأولى أن يكون على شقه الأيمن لا مستلقيا لما ورد في أحاديث من الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلي أن يكون النوم على الشق الأيمن وقال في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين [البخاري "7393"، مسلم "56/2710"] وغيرهما [أبو دأود "5046"، أحمد "4/290، 296"] بلفظ: "إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن"، قال في آخره "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة" فإن هذا فيه دليل على أنه إنما أرشد إلي ذلك لأن النائم إذا مات مات على الفطرة فينبغي أن يكون المريض عند حضور الموت على شقه الأيمن. وأخرج أحمد في المسند عن سلمى أم أبي رافع أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها.

والحاصل أنه لم يرد في التوجه عند الموت إلي القبلة ما يدل على مشروعيته إلا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن البراء بن معرور أصاب الفطرة" حيث أوصى بأن يوجه إلي القبلة إذا احتضر ولو كان مشروعا لأرشد إليه صلى الله عليه وسلم من مات في حياته ولم يسمع منه صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء مع كثرة الأموات من أهله وأصحابه. قوله: "ومتى مات غمض". أقول: استدل على مشروعية هذا بما أخرجه أحمد ["4/125"] وابن ماجه ["1455"] والحاكم والطبراني في الأوسط والبزار عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" وفي إسناده قزعة بن سويد قال أبو حاتم محله الصدق وليس بذلك القوي. والأولى الاحتجاج بما ثبت في صحيح مسلم ["920"] عن ام سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض أتبعه البصر" قال النووي واجمع المسلمون على ذلك. والحكمة فيه أن لا يقبح منظره إذا ترك إغماضه. وأما ما ذكره المصنف من التليين برفق والربط من ذقن الميت إلي قمته فلم يرد فيه شيء لكنه عمل حسن لئلا تيبس أعضاء الميت فيصعب غسله وتكفينه ولئلا ينفتح فوه فيكون منظره قبيحا. قوله: "ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا". أقول: لم يرد في الشق لواحد من الأمرين شيء يعتمد عليه لكن قد علم بتحرك الحمل أنه حي فدفنه أهلاك له وقد ورد في حفظ النفوس واحترامها ما هو أشهر من ضوء النهار فإن كان مثلا ذلك الحمل المتحرك مما يظن حياته إذا خرج من البطن فإنقاذه واجب ولا يعارض هذا ما ورد من أن الميت يتألم كما يتألم الحي وأن كسر عظمه ميتا ككسره حيا [أبو دأود "3207"، ابن ماجة "1616"، أحمد "6/58، 168،169، 200، 364"] لأن حرمة الحي والحظر في أهلاكه أبلغ من ذلك وأشد. وأما من ازدرد مالا فمات وهو في بطنه فبقاؤه منكر عظيم وإضاعة للمال المنهي عن إضاعته فإخراجه متوجه والميت هو الجاني على نفسه فلا حرج في تأليمه ولا فرق بين قليل المال وكثيره لأن الكل منكر وإضاعة فلا وجه للاحتراز على مقدار ثلث ماله فإن الله سبحانه إنما جعل له ثلث ماله ليتقرب به إلي الله لا ليدسه في التراب معه. وأما كونه يخاط بعد الشق فذلك صواب لئلا يكون منظره قبيحا. قوله: "وتعجيل التجهيز إلا لغريق ونحوه". أقول: حديث الأمر بالتعجيل للتجهيز وتعليل ذلك بقوله: "فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" أخرجه أبو دأود ["3159"] ، من حديث الحصين بن وحوح وفي إسناده

عروة بن سعيد الأنصاري ويقال عزره عن أبيه وهما مجهولان. وحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يؤخرون الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا"، أخرجه أحمد ["1/105"، والترمذي "171"، وابن ماجه "1486"] ، وابن حبان والحاكم وفي إسناده مقال لا يقدح في صلاحيته للاحتجاج به ويشهد لهما أحاديث الإسراع بالجنازة. وأما استثناء الغريق ونحوه فظاهر لأن من كانت حياته مرجوة كان تعجيل دفنه حراما. قوله: "ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه". أقول: أعلم أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من طرق في الصحيحين [البخاري"1292"، مسلم "26/932"] ، وغيرهما [النساءي "1858"] ، "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفي لفظ: "من ينح عليه يعذب بما ينح عليه" وهو في الصحيحين [البخاري"1291"، مسلم "933"، وغيرهما فهذا يدل على أن النوح والبكاء الذي يمكن دفعه حرام وأما مجرد فيضان العين وذروفها بالدموع من دون صوت ولا نوح ولا تعمد للبكاء فهو الذي حصل الإذن به وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1303"، مسلم "62/2315"] وغيرهما "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري"1304"، مسلم "12/924"] وغيرهما لما رأى القوم بكاءه فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلي لسانه - أو يرحم"، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1224"، مسلم "11/923"] ، وغيرهما لما بكى عند أن رأى نفس الصبي تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". فهكذا ينبغي أن يكون الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب. وأما الإيذان بموت الميت فقد ثبت في كتب اللغة أن النعي هو الإخبار بموت الميت وإذاعته وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "458"، مسلم "956"] ، وغيرهما [أحمد "2/353، 388"، أبو دأود "3203"] ، أنه قال لما رأى قبرا دفن ليلا فقال: "متى دفن هذا؟ " فقالوا: البارحة قال: "أفلا آذنتموني؟ " وثبت في الصحيح [البخاري "1337"،مسلم "956"، أبو دأود "1203"، ابن ماجة "1527"، أحمد "2/353"] أنه قال ذلك لما أخبروه بموت السوداء أو الأسود الذي كان يقم المسجد فدل على أن مجرد الإخبار بموت الميت من دون إذاعة ولا تفجع جائز لإنه قد ورد ما يدل على أن في كثرة المصلين عليه منفعة له وأنهم شفعاؤه وأيضا لا بد من حضور من يتولى تجهيزه وحمله ودفنه فإخبارهم بذلك مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه الضرورة. وأما ما ذكره من توابع النعي فهي ما ورد النهي عنه من ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوة الجأهلية كما في الصحيحين [البخاري "1294، 2197"، مسلم "103"] ، وغيرهما

[الترمذي "999"، النسائي ""4/20"، ابن ماجة "1584"، أحمد "1/386، 432، 442"] ، وهكذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وهو في الصحيحين [البخاري "1296"، مسلم "104"، وغيرهما [ابن ماجة " 5192"، النسائي "5/20". وهكذا قوله للميت واعضداه واناصراه واكاسباه واجبلاه واأسداه وهو منهي عنه كما ثبت في اصحيح البخاري ["4268"، وغيره [ابن ماجة "1594"، الترمذي "1003"] . [فصل ويجب غسل المسلم ولو سقطا استهل أو ذهب اقله ويحرم للكافر والفاسق مطلقا ولشهيد مكلف ذكر قتل أو جرح في المعركة بما يقتله يقينا أو في المصر ظلما أو مدافعا عن نفس أو مال أو غرق لهرب أو نحوه. ويكفن بما قتل فيه إلا آله الحرب والجورب مطلقا والسرأويل والفرو إن لم ينلها دم وتجوز الزيادة. قوله: فصل: "ويجب غسل الميت". أقول: غسل الأموات ثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا ولم يسمع في أيام النبوة أنه مات ميت غير شهيد فترك غسله بل هذه الشريعة في غسل الأموات ثابتة من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي الآن فإنه أخرج عبد الله بن أحمد في المسند ["7/154"] ، والحاكم في المستدرك قال صحيح الإسناد. ولم يخرجاه يعني الشيخين "أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له والحدوا وصلوا عليه ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر وحثوا عليه التراب وقالوا يا بني آدم هذه سنتكم". وقد حكى الإجماع على وجوب الغسل للميت على الكفاية النووي والمهدي في البحر واعترض ابن حجر في الفتح على نقل النووي والإجماع على أنه فرض كفاية بأن المالكية يخالفون في ذلك وأن القرطبي منهم رجح في شرح مسلم أنه سنة ورد ابن العربي على المالكية وقال قد تواتر به القول والعمل. قوله: "لو سقطا استهل". أقول: السقط باستهلاله قد صار له حكم الأحياء من العباد ولهذا أنه يرث ويورث فالغسل له داخل في عموم مشروعية الغسل لأموات المسلمين وهذا المقدار يكفي على تقدير أنه لم يرد دليل يدل على غسل السقط فكيف وقد أخرج الترمذي ["1032"] ، والنسائي وابن ماجه ["1508"] ، من حديث جابر "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وأخرج أيضا البيهقي والحاكم وصححه ولا مطعن فيه يوجب سقوط الاحتجاج به وأخرج أحمد ["4/248، 249"

و "252"] ، الترمذي ["1031"] ، وابن حبان والحاكم وصححوه "السقط يصلي عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأخرج ابن ماجه] "1509"] ، من حديث أبي هريرة "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم". وأما ما روى أبو دأود ["3187"] ،من حديث عائشة أنها قالت مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه فقد قال ابن عبد البر حديث عائشة هذا لا يصلح لأن الجمهور قد أجمعوا على الصلاة وراثة وعلما مستفيضا عن السلف والخلف ولا أعلم احدا جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب وحديثه يحمل أنه لم يصل عليه جماعة وأمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم قال البيهقي رواية الصلاة عليه أشبه بسائر الأحاديث الصحيحة فقد ثبت عن عائشة أنها قالت "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة" [مسلم "30/2662"] ، الحديث. وإذا قد ثبت للسقط المستهل أنه يصلى عليه فما قبل الصلاة وهو الغسل والتكفين وما بعدهما وهو الدفن كذلك. قوله: "أو ذهب أقله". أقول: الظاهر أن ثبوت المشروعية للكل يستلزم ثبوت المشروعية للبعض ولو كان اقل من النصف فلا يحتاج إلي الاستدلال على هذا بدليل مستقل وأما إذا كان الباقي هو الأكثر فهو في حكم الكل كما وقع في أمثال هذه المسألة. قوله: "ويحرم للكافر والفاسق مطلقا". أقول: أما الكافر فمسلم فإنه لم يسمع في ايام النبوة ولا بعدها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل كافر وما روي في غسل أبي طالب فلم يثبت ذلك ثبوتا يقوم به الحجة وأيضا هذا الغسل للميت هو حكم من أحكام الإسلام فلاحظ فيه لمن لم يكن مسلما. وأما الفاسق فلا وجه للقول بأنه لا يغسل ومن قال بذلك فقد غلط غلطا بينا فإن أحكام الإسلام جارية له وعليه ومعصيته لا تخرجه عن الإسلام الذي هو متصف به وأشار المصنف بقوله مطقا إلي عدم الفرق بين كفر التأويل وكفر التصريح وفسقهما ولا يخفاك أن هذا الذي يسمونه كفر التأويل لا أصل له وإنما هو أمر ناشىء عن العصبية الكائنة بين طوائف المسلمين حتى رمى بعضهم بعضا بذلك بغيا وعدوانا والخطأ في مسألة أو مسائل لا يوجب خروج المخطىء عن عصمة الإسلام بل الحق أن الخطأ في الاجتهاد من غير فرق بين مسائل الأصول والفروع يثبت لصاحبه أجر وللمصيب أجران ومن خص هذا الحديث الصحيح ببعض المسائل فهو تخصيص بلا مخصص ودعوى لا برهان عليها ولقد استفز الشيطان من أطاعه بالوقوع في هذا الخطر العظيم فإنه قد صح أن المكفر لأخيه المسلم واقع في هوة الكفر ومترد في حفرته ومتلبس بثيابه وليس ما يزعمه المكفرون بالإلزام بشيء يعتد به بل هو تعصب على تعصب وتعسف على تعسف والهداية للحق بيد هادي الخلائق.

قوله: "ولشهيد مكلف ذكر" الخ. أقول: قد وردت أحاديث قاضية بترك غسل الشهيد منها ما هو في اصحيح البخاري ["1346"] ، ومنها ما هو في غيره [ابو دأود ط3133"] ، وبهذا القدر تقوم به الحجة وقد أطال الكلام في هذا البحث في غير طائل وخبط خبطا لا يخفى على عارف. وأما اشتراط التكليف والمذكورة فلا دليل عليه بل الصبي والمرأة من جملة الشهداء إذا قتلوا قتلا يستحقون به اسم الشهادة. أما المرأة فظاهر لأنها من جملة من يكتب له الأجر ويكتب عليه الوزر وعدم وجوب الجهاد عليها لا يسلبها حكم الشهادة إذا قاتلت وقتلت. وهكذا الصبي فإن رفع قلم التكليف عنه لا يقتضي أنه لا يؤجر فيما يفعله من القرب. وأما المقتول في المصر ظلما فهو وإن كان شهيدا لكنه لم يأت ما يدل على عدم غسله وهكذا المدافع عن نفسه أو ماله ولا ملازمة بين إثبات اسم الشهادة وترك الغسل فقد وردت الأحاديث الصحيحة بإطلاق اسم الشهادة على المبطون والميت بالطاعون وبالغرق والهدم والمرأة النفاس وغير هؤلاء نحو الخمسين كما ذكره القرطبي والسيوطي في رسالته وجمعت أنا فيه رسالة فهؤلاء يستحقون أجر الشهادة وهم من جملة المسلمين في أنهم يغسلون كما يغسل غيرهم من أموات المسلمين. ويؤيد هذا ما فعله الصحابة من غسل عمر رضي الله عنه وقد قتل في المصر ظلما وكان قاتله كافرا وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في المصر ظلما وكان قاتله خارجيا من كلاب النار ولم ينقل أحد أنه دفن بلا غسل وقد نقل المهدي في البحر الإجماع على أن سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم يغسلون فاقتضى هذا النقل أن يلحق بهم المقتول في المصر ظلما والمقتول في المدافعة عن نفسه أو ماله وأما قوله ويكفن بما قتل فيه الخ فقد استدل على ذلك بما أخرجه أبو دأود ["3134"] ، وابن ماجة ["1515"] ، عن ابن عباس قال "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"، وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال. وأما جواز الزيادة من الأكفان على ما قتل فيه فلم يرد ما يمنع من ذلك والأصل الجواز. [فصل وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء بلا تحديد عقد إلا المدبرة فلا تغسله ثم محرمة بالدلك لما ينظره والصب على العورة مستترة ثم أجنبي بالصب على جميعه

مستترا كالخنثى المشكل مع غير أمته ومحرمه فإن كان لا ينقيه الصب يمم بخرقة. فأما طفل أو طفلة لا تشتهي فكل مسلم ويكره الحائض والجنب] . قوله: فصل: "وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء". أقول: لم يأت دليل يدل على اشتراط العدالة ولكن الفاسق ليس بمحل للأمانة والستر على الميت إن رأى مالا يحسن إفشاؤه وقد أخرج أحمد من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "ليليه أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة"، وفي إسناده مقال ولكنه يشهد له حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري"2442"، مسلم "2580"] ، وغيرهما [أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"] ،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" ولا يخفاك أن الفاسق ليس من أهل الأمانة ولا من أهل الورع فمنعه عن الغسل من هذه الحيثية. وأما كونه يغسله جنسه أو جائز الوطء فهذا هو الثابت في الشريعة فإنه كان في زمن النبوة وما بعدها في عصر الصحابة يغسل الرجل الرجال والمرأة النساء وهذا أمر أوضح من الشمس وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته إلي النساء يغسلنها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: "لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"، أخرجه أحمد ["6/228"، وابن ماجة "1465"] ،والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي من حديثها. وكانت عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه أخرجه أحمد ["6/267"، وأبو دأود "3141"، وابن ماجة "1464". وقد غسل الصديق امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنهما وغسل على فاطمة رضي الله عنهما فما ذكره المصنف صواب وحق. وقد وقع للجلال ها هنا من زائف الكلام وساقطه ما هو غني عن البيان وإذا ألجأت الضرورة فلم يوجد الجنس غسل الجنس غير جنسه مع ستر ما لا يجوز النظر إليه ويكون الدلك بحائل وإذا تعذر الدلك فالمسح وإذا تعذر المسح فالصب وإذا تعذر الصب ارتفع وجوب الغسل ومحارم المرأة من الرجال أقدم من سائر الرجال ومحارم الرجل من النساء أقدم من غيرهن من النساء للتخفيف بين المحارم في مقدار العورة. وأما قوله: "وأما طفل أو طفلة لا يشتهى فكل مسلم"، فالصواب أن يغسل كل جنس جنسه إلحاقا للصغار بالكبار. وأما الحائض والجنب فهما وإن كانا ممنوعين من بعض القرب فإن ذلك لا يقتضي منعهما من كل قربة بل حكمها فيما لم يرد فيه دليل المنع حكم من ليس بجنب ولا حائض.

[فصل وتستر عورته ويلف الجنس يده لغسلها بخرقة وندب مسح بطن الحامل وترتيب غسله كالحي وثلاثا بالحرض ثم السدر ثم الكافور فإن خرج من فرجه قبل التكفين بول أو غائط كملت خمسا ثم سبعا ثم يرد بالكرسف. والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة وتحرم الأجرة ولا تجب النية عكس الحي وييمم للعذر ويترك إن تفسخ بهما] . قوله: فصل: "وتستر عورته" الخ. أقول: الأدلة الواردة في منع نظر العورة ولمسها شاملة لعورة الحي والميت فغسلها يكون بالدلك مع حائل بين اليد وبينها وأما مسح البطن فهو لخروج ما عساه يخرج بعد الغسل فهذا وإن لم يرد به دليل ولكنه من المبالغة في تطهير بدن الميت. وأما صفة الغسل فينبغي الاعتماد في ذلك على حديث أم عطية الثابت في الصحيحين [البخاري "1253"، مسلم "38/939"] ، وغيرهما [أبو داود "3142", الترمذي "990", النسائي "4/3", ابن ماجه "1458", أحمد "5/84"] قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور" وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1255", مسلم "43/939"] وغيرهما [النسائي "4/28", أبو داود "3142"] "ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها" وفي لفظ لهما: [البخاري "1258,1259"38/939"] "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن". فهذا الحديث قد دل على أن الغسل ينبغي أن يكون وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا وإذا رأى الغاسل الزيادة على ذلك زاد وينبغي أن تكون الغسلات بماء وسدر ويكون في الغسلة الآخرة كافور وأنه ينبغي أن تكون البداية في الغسل بميامن الميت ومواضع الوضوء منه. وبهذا تعرف أن التخيير بين الثلاث أو الخمس أو السبع والزيادة عليها مفوض إلي الغاسل سواء خرج خارج أو لا فلا وجه لما ذكره من قوله: فإن خرج قبل التكفين إلخ ثم خروج الخارج لا وجه لإعادة الغسل لأجله بل يغسل موضع الخروج وما أصابه من سائر البدن فإن أعي الأمر وتكرر خروج الخارج فلا بأس بهذا الفرج أن يرد بخرقة أو نحوها. وأما قوله: "والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة"، فمبني على أن خروج الخارج يوجب الإعادة وهو ممنوع وليس الواجب إلا ما يصدق عليه مسمى الغسل كما تقدم في غسل الجنابة وما زاد على ذلك فهو سنة مفوض إلي الغاسل. وأما تحريم الأجرة فهو مبني على تحريم أخذ الأجرة على الواجب وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في الإجارات. وأما عدم وجوب النية فلكونه لم يرد الأمر بها في هذا بخصوصه ولكن لا يخفاك أن غسل

الميت عمل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" ولا سيما إذا كان العمل قربة من القرب وغسل الميت واجب على الأحياء يؤجرون عليه كما يؤجرون على سائر الواجبات فلا وجه لعدم إيجاب النية. وأما أن الميت ييمم للعذر فلم يرد بذلك دليل والتيمم إنما شرعه الله للأحياء ولم يشرعه في غسل الأموات فمن تعذر مسحه خشية أن يتفسخ ثم تعذر صب عليه الماء لذلك فلا غسل له ولا واجب على الأحياء بل يدفن كما هو. [فصل ثم يكفن من رأس ماله ولو مستغرقا بثوب طاهر ساتر لجميعه مما لبسه ويعوض إن سرق وغير المستغرق يكفن مثله. والمشروع إلي سبعة وترا ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه ويلزم الزوج ومنفق الفقير ثم بيت المال ثم على المسلمين ثم بما أمكن من شجر ثم تراب. وتكره المغالاة وندب البخور وتطييبه سيما مساجده ثم يرفع مرتبا ويمشي خلفه قسطا وترد النساء] . قوله: "ثم يكفن من رأس ماله بثوب" الخ. أقول: قد حصل الاتفاق على أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن وأن ذلك مقدم على ما يخرج من التركة من دين وغيره فإن ألجأت الضرورة إلي أن يكفن في ثوب لا يستر جميع بدنه فللضرورة حكمها كما وقع في الصحيحين [البخاري "1276""، مسلم "940"] ، وغيرهما [أبو دأود "3155"، التنرمذي "3852"، النسائي "1904"] ، أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه ويجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر. وإذا كان للميت تركة كان على المتولي لتكفينه أن يحسن كفنه كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه" [أخرجه الترمذي "995"، وابن ماجة "1474"] ، من حديث ابن قتادة وقال الترمذي إسناده حسن وأيضا رجال إسناده ثقات وهو أيضا ثابت في صحيح مسلم ["943"] ، من حديث جابر بلفظ: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" وورد أيضا الإرشاد إلي التكفين في الثياب البيض كما أخرجه أحمد ["5/342"، وأبو دأود "3878"، والترمذي "994"،وابن ماجة 3566"] ،من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" وصححه الترمذي ["3/320"] ، وابن

القطان وأخرجه أيضا الترمذي ["2810"] ، وصححه وابن ماجه ["3567"] ، من حديث سمرة. وأما عدد الأكفان فلم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه إلا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "1264"، مسلم "45/941"] ، وغيرهما [أبو دأود "3151"، الترمذي "996"، النسائي "4/35"، ابن ماجة "1469"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ولم يثبت في تكفينه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا وكل ما روي في ذلك فهو لا يصلح للمعارضة هذا مع كونه في نفسه غير صحيح لا يحل العمل به فضلا عن أن يعارض ما في الصحيحين وغيرهما ولكن هذا إنما هو فعل من حضر من الصحابة ولا تقوم به الحجة وقد قيل إن وجه الاستدلال به أن الله سبحانه لم يكن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل ولا يخفاك أن هذا التوجيه لا تقوم به الحجة ولو سلمنا ذلك لكان أفضل الأكفان ثلاثة دروج فلا يصح قول المصنف والمشروع إلي سبعة وترا وقد اقتدى أبو بكر الصديق بكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب كما في البخاري ["1387"] وغيره. قوله: "ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه". أقول: الذي أوصى بأن يكفن في زيادة على سبعة أكفان فقد أوصى بما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من إضاعة المال وهذا إضاعة للمال بلا شك ولا شبهة فهو وصية بمحظور لا يجوز تنفيذها وإنما قلنا إنه إضاعة للمال لأنه لا ينتفع به الميت وإن كفن بألف كفن لأن ذلك يصير ترابا عن قريب ومعلوم أنه إذا كان صحيح العقل لا يقصد التزين بذلك بين أهل البرزخ فقد صاروا جميعا في شغل شاغل عن ذلك فالصواب أنه يأثم الوصي والوارث بامتثال هذه الوصية لا بردها والله سبحانه إنما جعل للميت ثلث ماله ليجعله زيادة في حسناته ويتقرب به إلي الله سبحانه لا ليضعه في موضع الإضاعة ويخالف به ما شرعه الله لعباده من عدم إضاعة المال. قوله: "ويلزم الزوج" الخ. أقول: يدل على هذا حديث عائشة الذي تقدم أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "لو مت قبلي لغسلتك" وكفنتك وقد كان الزوج في أيام النبوة وما بعدها يكفن زوجته ولم يسمع عن أحد منهم أنه قال قد انقطع النكاح وذهب موجب حسن العشرة كما يقول الجامدون على الرأي. وأما الفقير الذي ينفقه في حياته قريبه فهذا من تمام البر والصلة بل من أعظمها فإن أبي لم يجبر على ذلك لعدم الدليل. وأما قوله: "ثم بيت المال" فصواب فإن هذا هو بيتا مال المسلمين الموضوع لمصالحهم وقد ثبت بالدليل أن تكفين الميت واجب والإمام وبيت مال المسلمين أولى بذلك ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم فمن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلى ومن ترك مالا فلورثته"، [مسلم "43/867، 44/867"،ابن ماجة "45"، النسائي "3/188"] . وأما قوله: "ثم المسلمين" أيضا صواب لأن تكفين الميت إذا كان واجبا عليهم حرم عليهم أن يدفنوه بغير كفن لأنهم بذلك يخلون بالواجب المتعلق بهم.

وأما قوله: "ثم بما أمكن من شجر ثم تراب" فقد عرفناك أن للضرورة حكمها وليس في الإمكان غير ما قد كان. وأما قوله: "وتكره المغالاة" فهو أيضا صواب لأن المراد بالمغالاة أن يعمد إلي الثياب المرتفعة الأثمان الغالية القيمة فيكفن الميت بها مع حصول المقصود بما هو دونها وقد عرفت أن الزيادة على ما ورد به الشرع إضاعة للمال لما قدمنا وتحسين الكفن وكونه جديدا أبيض لا ينافي هذا فإن ذلك يحصل بدون المغالاة ويؤيد هذا النهي عن المغالاة في الأكفان معللا ذلك بقوله فإنه يسلب سريعا كما أخرجه أبو دأود من حديث علي. قوله: "وندب البخور وتطييبه سيما مساجده". أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والبيهقي والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا" وأخرج نحوه من حديث جابر بلفظ: "إذا أجمرتم الميت فأوتروا" فهذا يدل على مشروعية التطيب ويدل عليه أيضا النهي عن تطييب المحرم وتحنيطه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس فإن ذلك يدل بمفهومه على تطييب غير المحرم ولم يرد ما يدل على أن مساجد الميت أولى بالطيب من غيرها فالأعضاء مستوية في ذلك. وأما قوله ثم يرفع مرتبا فلم يرد في هذا شيء يصلح للقول للندب لأنه حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي لا بمجرد الرأي. قوله: "ثم يمشي خلفه قصدا". أقول: قد ورد ما يدل على المشي خلف الجنازة وأمامها وفي جوانبها وورد الفرق بين الراكب والماشي كما في حديث المغيرة الذي أخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها". وأخرجه أبو دأود ["3181"، وقال فيه: "والماشي خلفها وأمامها قريبا منها" وفي رواية "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها". ومع هذا فورد النهي عن الركوب مع الجنازة وامتنع صلى الله عليه وسلم من الركوب مع الجنازة وعلل ذلك بأن الملائكة كانت تمشي وأخرج أحمد وأهل السنن عن ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وصححه ابن حبان وابن خزيمة وأعل بما لا يقدح في الاحتجاج وقد احتج به أحمد بن حنبل وقد ذهب الجمهور إلي أن المشي أمام الجنازة أفضل واستدلوا بهذا الحديث وذهب الآخرون إلي أن المشي خلفها أفضل واستدلوا بما أخرجه أبو دأود ["3184" والترمذي "1011"] ، وابن ماجه "1484"] ، من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: "ما دون الخبب فإن كان خيرا عجلتموه وإن كان شرا

فلا يبعد إلا أهل النار والجنازة متبوعة"، وقد ضعف إسناده جماعة من أهل الحديث ولكنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "47، 1325"، مسلم 945"] ، وغيرهما [الترمذي "1040"، ابن ماجة 1539"، النسائي "4/76"، أبو دأود "3168"] ، من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من تبع جنازة مسلم" وثبت في الصحيحين [البخاري "1240"، مسلم "2162"] ، أيضا وغيرهما مرفوعا: "إن حق المسلم على المسلم ست" ومنها: "وإذا مات فاتبعه" [أبو دأود 5030"، الترمذي "2809"، النسائي "4/54"] . وهذان اللفظان ظاهران في المشي خلف الجنازة وإن كان محتملا كون المراد الخروج معه عند حمله فإنه إذا أخرج الميت من منزله ثم خرج بخروجه المشيعون له كانوا تابعين له لأنه أخرج ثم خرجوا وسواء مشوا خلفه أو أمامه. وأما قوله: "قصدا" فمراده أن يكون المشي معها متوسطا بين الإسراع والبطء ولكن قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1315"، مسلم "944"] ، من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أسرعوا بالجنازة فإن لم تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". وثبت في صحيح البخاري ["1762"] ، وغيره من حديث محمود بن لبيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع بجنازة سعد بن معاذ حتى تقطعت نعالنا"، وروى من حديث أبي بكرة قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملا. [أخرجه أبو دأود "3182"، النسائي "1913"] . فهذه الأحاديث تدل على أن الإسراع أفضل ولا يعارضها ما تقدم من قوله دون الخبب لما قدمنا من كون الحديث ضعيفا. وأما قوله: "وترد النساء" فلما ورد من المنع لهن من زيارة القبور كما أخرجه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وإذا منعن من الزيارة على انفراد فمنعهن من الخروج مع الجنازة مع اجتماعهن بالرجال أولى. وقد أخرج ابن ماجه والحاكم والأثرم في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن في زيارة القبور وأخرج أبو دأود ["3123"] ، والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة ابنته فقال: "ما أخرجك من بيتك؟ " فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم فقال لها: "فلعلك بلغت معهم الكدى؟ " قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر فقال: "لو بلغت معهم الكدى ... " فذكر تشديدا في ذلك قال الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين. وأخرج البخاري "1278"، ومسلم "34/938، 35/938"، وغيرهما [أبو دأود "3167"، ابن ماجة "1577"] ، عن أم عطية قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وفي الباب أحاديث.

[فصل "وتجب الصلاة كفاية على المؤمن ومجهول شهدت قرينه بالإسلامه فإن التبس بكافر فعليهما وإن كثر الكافر بنية مشروطة وتصح فرادى والأولى بالإمامة الإمام وواليه ثم الأقرب الصالح من العصبة وتعاد إن لم يأذن الأولى. وفروضها النية وخمس تكبيرات والقيام والتسليم وندب بعد الأولى الحمد وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق وبعد الرابعة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت بحسب حاله والمخافتة وتقديم الابن للأب وتكفي صلاة على جنائز وتجديد نية تشريك كل جنازة أتت خلالها فتكمل ستا لو أتت بعد تكبيرة وترفع الأولى أو تعزل بالنية ثم كذلك فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد قبل الدفن لا بعده واللاحق ينتظر تكبير الإمام ثم يكبر ويتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع. وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة ويليه الأفضل فالأفضل"] . قوله: فصل: "وتجب الصلاة كفاية على المؤمن". أقول: الصلاة على الأموات شريعة ثابتة ثبوتا أوضح من شمس النهار فلم تترك الصلاة لا في أيام النبوة ولا في غيرها على فرد من أفراد أموات المسلمين إلا من عليه دين لا قضاء له وعلى الذي قتل نفسه مع أنه قال فيمن عليه دين: "صلوا على صاحبكم" [البخاري "5371، 6731، 2398،6763، 2399، 4781، 6745، مسلم "1619"، أحمد "2/290، 453، 287، 456، 464، 356، 527" النسائي "4/66"، الترمذي "1070"، ابن ماجة "2415"، أبو دأود "2955"] ، فعرف بهذا أنه ممن يصلى عليه وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لقصد الزجر عن أن يحصل التراخي في قضاء الديون وهكذا تركه للصلاة على قاتل نفسه فإنه للزجر عن أن يتسرع الناس في قتل أنفسهم فلا يلحق غيره من أهل المعاصي به فإنه من جملة المسلمين وممن يدخلون تحت ما شرعه الله لعباده أحياء وأمواتا هم أحق بالشفاعة من المسلمين بصلاتهم عليهم وتخصيص الصلاة بالمؤمنين من الحجر الواسع الرحمة وللتفضل الرباني وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ما عز والغامدية وقال الإمام أحمد بن حنبل إن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه قال النووي في شرح مسلم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا انتهى. وأما الصلاة على الشهيد فقد أوضحنا الكلام فيها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. وأما مجهول الحال كمن يوجد في فلاة يمر بها المسلم والكافر فلا يصلى عليه إلا بعد وجود ما يدل على إسلامه كما ذكر المصنف لأن الصلاة على الكافر حرام وإذا علم أحد

الموجودين مسلم ولم يمكن تعيينه صلى عليه وحده وأفراده بالنية وإن كان معه كفار فإن مجرد وجودهم والصلاة إليهم لا يستلزم أن تكون الصلاة عليهم لأن النية مميزة. ولعل مراد المصنف بقوله فعليهما في الصورة لا في الحقيقة ولا يحتاج إلي أن تكون النية مشروطة بل يجعلها على المسلم من الابتداء وإنما يحتاج إلي المشروطة لو كان سيفعل الصلاة على كل واحد ولا حاجة إلي ذلك بل يجمعون جميعا في قبلته ويصلي على المسلم منهم وحده. قوله: "وتصح فرادى". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في زمنه التجميع ولكن الأصل في كل صلاة أنها تصح فرادى وإن كانت الجمعة افضل كما قدمنا في الصلوات الخمس ويؤيد. ذلك صلاة الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى فصلى عليه الرجال أرسالا حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ولم يؤمهم أحد وهذا ثابت في كتب السير والتاريخ قال ابن عبد البر صلاة الناس عليه صلى الله عليه وسلم فرادى مجمع عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه انتهى. وأما ما روي أن صلاتهم عليه فرادى كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم فلم يصح في ذلك شيء. قوله: "والأولى بالإمامة والإمام وواليه". أقول: هذا صحيح وحديث "لا يؤمن الرجل في سلطانه" يتنأول بعمومه كل صلاة جماعة من الصلوات الخمس وغيرها وقد اقتدى بهذه السنة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما وقدم سعيد بن العاص يصلي على أخيه الحسن بن علي رضي الله عنه وقال لولا أنها سنة ما قدمتك كما أخرجه البزار والطراني والبيهقي وهو المنقول في كتب السير والتاريخ. وأما قوله: "ثم الأقرب الصالح من العصبة" فلم يرد بذلك دليل يدل عليه لكنه قد صار القريب أولى بقريبه في كثير من الأمور وهذا منها مع كونه أحق الناس بالشفاعة له بصلاته عليه واصدقهم نية في ذلك وأخلصهم له دعاء لما تقتضيه القرابة من التراحم والتعاطف. وأما كون الصلاة تعاد إن لم يأذن الأولى فلكون الحق له ولم يأذن به فهو باق وليس في تكرار الصلاة إلا زيادة الخير للميت ولهذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر السوداء أو الأسود حيث دفنوه ولم يؤذنوا النبي صلى الله عليه وأله وسلم مع أن المعلوم أنهم لا يدفنونه إلا وقد صلوا عليه وهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر رطب [البخاري "1340"، مسلم "954"] .هذا والذي قبله ثابت في الصحيحين وغيرهما. قوله: "وفروضها النية". أقول: لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها فرض بل على أنها شرط يستلزم عدمه عدم المشروط كما تفيده الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا عمل إلا بنية وإنما الأعمال بالنيات والنفي متوجه إلي الذات الشرعية فالموجود في الخارج ليست ذاتا شرعية فمن خالف في وجوب النية فقد أخطأ ولم يصب.

قوله: "وخمس تكبيرات". أقول: قد ثبتت الخمس في صحيح مسلم ["72/957"] ، وغيره [أبو دأود "3197"، الترمذي "1023"، النسائي "4/72"، ابن ماجة "1505"، أحمد "4/367"] ، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها وأخرج أحمد ["7/231"] ، عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى جنازة فكبر خمسا وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو متكلم عليه ولكن السنة التي هي أظهر من شمس النهار المروية من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وهو مذهب الجماهير قال ابن عبد البر إنه انعقد الإجماع بعد الاختلاف على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدا من أهل الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى انتهى. وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على أربع. واعلم أنه لم يصح شيء في الزيادة على الخمس ولا في النقص عن أربع مرفوعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بالأربع هو الذي لا ينبغي غيره لأن تلك الرواية عن زيد بن أرقم قد صرحت بأنه كان يكبر على الجنائز أربعا فلو علم ثبوت الخمس عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه إلي الأربع في جميع صلاته على الجنائز إلا في تلك المرة الواحدة وعلى تقدير أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم التكبير خمسا على جهة الندور والقلة فالذي ينبغي الاعتماد على ما هو الأعم الأغلب مما ثبت عنه ولا سيما بعد إجماع الصحابة ومن بعدهم عليه. وأما ما ذكره المصنف من فرضية القيام فلكون صلاة الجنازة لا تتم إلا به وهو ركنها الأعظم وقد قدمنا أنها فرض كفاية على المسلمين فكان القيام من هذه الحيثية فرضا. وأما ما ذكره من فرضية التسليم فلكونها صلاة وقد تقدم أن الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وقدمنا وجه الاستدلال بهذا الحديث على فرضية التسليم وفيه الكفاية قوله: "وندب بعد الأولى الحمد". أقول: صلاة الجنازة صلاة من الصلوات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فهذا يكفي في كونها فرضا في صلاة الجنازة بل في كونها شرطا يستلزم عدمها عدم الصلاة فكيف وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الجنازة فاتحة الكتاب. وأما قوله: "وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق"، فلم يرد في هذا شيء وإنما هو مجرد استحسان من بعض أهل العلم ولا يثبت بمثل ذلك شرع عام ولا خاص ولا تعبد الله أحدا من

خلقه برأي أحد من أهل العلم نعم ينبغي أن يضم إلي الفاتحة قراءة ما تيسر من القرآن وينبغي أن يعمد إلي سورة قصيرة فيقرأها ثم لا يشتغل بغير الدعاء للميت بعد كل تكبيرة بما ورد وبما لم يرد فهذا هو المقصود من صلاة الجنازة. وما ذكره من كون الدعاء بحسب حال الميت فحال المذنب أنه قد أتى به إلي إخوانه من المسلمين ليشفعوا له عند ربه ويسألونه المغفرة له والتجأوز عنه وقد أمروا بإخلاص الدعاء للأموات فينبغي لكل من صلى على ميت سواء كان الميت صالحا أو طالحا أن يدعو له بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان نفسه لا تطأوعه على ذلك فليتجنب الصلاة على الأموات ففي غيره من المسلمين من هو أرق قلبا منه وأكثر رحمة لإخوانه. قوله: "والمخافتة". أقول: قد ورد الجهر فأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنه من السنة فمعلوم أن قراءته هذه لا تكون إلا جهرا حتى يعلم ذلك من صلى معه وزاد النسائي ["1988"] ، بعد فاتحة الكتاب سورة وذكر أنه جهر ولفظه هكذا فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم ["963"] ، وغيره [النسائي "4/73"، ابن ماجة "1500" أحمد "6/23، 28"، الترمذي "1025"] ، من حديث عوف بن مالك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظنا من دعائه الحديث فإن هذا يدل على أنه جهر بالدعاء فلا وجه لجعل المخافتة مندوبة وإن وردت في حديث أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه أخرجه الشافعي في مسنده وفي إسناده اضطراب وقواه البيهقي في المعرفة وأخرج عن الزهري معناه وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر وأخرجه أيضا النسائي وعبد الرزاق قال ابن حجر في الفتح وإسناده صحيح وليس فيه قوله بعد التكبيرة ولا قوله ثم يسلم سرا في نفسه. قوله: "وتقديم الابن للأب". أقول: لا يخفى أن صلاة الجنازة من جملة الصلوات وقد تقدم في صلاة الجماعة أن لعلو السن مدخلا في التقديم فليكن هنا كذلك فإن كان الابن أعلم بالسنة كان مقدما على الأب من هذه الحيثية. قوله: "ويكفي صلاة على جنائز". أقول: الأصل أن ذلك جائز صحيح إلا أن يرد ما يمنع من ذلك ولم يرد في ذلك شيء هذا على تقدير أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم على جماعة بعد جماعة من قتلى أحد كما جزم به المحققون فإن جميع ما ورد في الصلاة عليهم في أسانيدها ضعف وقد أطلنا الكلام على ذلك في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه.

وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من تشريك ما وصل من الجنائز بالنية فهو صحيح إذ لا عمل إلا بنية وصلاته على كل واحد عمل وهكذا رفع ما فرغ من التكبير عليه أو عزله بالنية لأن الصلاة قد تمت على الأول وبقي منها بقية للواصل. قوله: "فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد". أقول: قد قدمنا لك أن ما ورد في النقص من أربع والزيادة على الخمس لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة فالزيادة على الخمس والنقص من أربع ابتداع إن وقع ذلك عمدا إلا إذا وقع سهوا وأما كون الصلاة تفسد بذلك فلا لما عرفناك غير مرة أنه لا يدل على الفساد المرادف للبطلان إلا دليل خاص يفيد أن عدم ذلك الشيء يوجب العدم أو أن وجوده مانع من الصحة. وأما ما ذكره من كون الدفن مانعا من الصلاة فخلاف ما ثبت في السنة ثبوتا متفقا عليه وقد قدمنا الإشارة إلي ذلك. وأما قوله: "وينتظر تكبير الإمام" فلا وجه له بل يكبر عند وصوله إلي الصف كسائر الصلوات. وأما كونه يتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع فهو صواب لأنه لم يرد ما يدل على أن الإمام يتحمل عنه. قوله: "وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل". أقول: أما ترتيب الصفوف كما مر في الصلاة فهو صحيح لأن الجنازة صلاة من الصلوات فالدليل المتقدم في الصلوات الخمس جماعة وتقديم الرجال على الصبيان والصبيان على النساء ثابت هنا. وأما كون الآخر أفضل فلا دليل عليه بل هو خلاف الدليل الوارد في صلاة الجماعة فإنه مصرح بالترغيب في الأول وبأنه يتم الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك فما ثبت في صلاة الجماعة ثبت في صلاة الجنازة لأن الكل صلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وأما تكثير الصفوف ليكونوا ثلاثة فصاعدا حتى يستحق الميت المغفرة فلا بأس به كما ورد في حديث مالك بن هبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له" أخرجه أحمد ["4/79"، أبو دأود "3166" والترمذي "1028"، وابن ماجه "1490"] ، وحسنه الترمذي وله شواهد وقد كان مالك بن هبيرة الرأوي لهذا الحديث إذا قل أهل الجنازة يجعلهم ثلاثة صفوف. وورد أيضا من حديث عائشة في صحيح مسلم] "58/947"] ، وغيره [الترمذي "1029"، النسائي 1992" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"، وثبت في صحيح مسلم ["59/948"] ، أيضا وغيره [أبو دأود "3170"، ابن ماجة "1489"] ، من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه".

قوله: "ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة". أقول: الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو استقبال رأس الرجل وعجيزة المرأة ولا منافاة بين رواية استقبال وسط المرأة ورواية استقبال عجيزتها فإن عجيزتها هي وسطها ولم يرد ما يصلح لمعارضة هذا فلا وجه لما قاله الجلال إن الكل واسع وما ذكره عقب هذا فهو هوس منه. وأما قوله: "ويليه الأفضل فالأفضل" فالمراد الأفضل في الجنس فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء وقد قدم إلي ما يلي الإمام الصبي على المرأة بمحضر من جماعة من الصحابة وشهدوا أن ذلك هو السنة كما أخرجه أبو دأود ["3193"، والنسائي "1977"] ، ورجال إسناده ثقات. وأما الأفضل باعتبار المزايا الدينية فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقدم في القبر أكثرهم قرآنا أي يكون مما يلي القبلة فلا يبعد أن يقدم عند الصلاة على رجلين أو ثلاثة فصاعدا أفضلهم في المزايا الدينية باعتبار الظاهر كأن يكون أحدهم عالما والآخر غير عالم فيكون العالم مما يلي الإمام. [فصل ثم يقبر على ايمنه مستقبلا ويواريه من له غسله أو غيره للضرورة وتطيب أجرة الحفر والمقدمات. وندب اللحد وسله من مؤخره وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود وستر القبر حتى توارى المرأة وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا لله تعالي ورشه وتربيعه ورفعه شبرا. وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل وجمع جماعة إلا لتبرك أو ضرورة والفرش والتسقيف والآجر والزخرفة إلا رسم الاسم ولا ينبش لغصب قبر وكفن ولا لغسل وتكفين واستقبال وصلاة ولا تقضى بل لمتاع سقط نحوه. ومن مات في البحر وخشي تغيره غسل وكفن وأرسب. ومقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا فلا تزدرع ولا هواؤها حتى يذهب قرارها ومن فعل لزمته الأجرة لمالك المملوكة ومصالح المسبلة فإن استغنت فلمصالح الأحياء دين المسلمين ودنيا الذميين. ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما ويجوز الدفن متى ترب الأول لا الزرع ولا حرمة لقبر حربي قوله: "فصل ثم يقبر على أيمنه مستقبلا". أقول: هذا معلوم في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلي الاستدلال عليه فما مات مسلم منذ

ظهور النبوة المحمدية إلي الآن إلا وقبر على هذه الصفة إلا لعذر كمن يموت في البحر ونحوه بل وقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر بمواراة قتلى المشركين في يوم بدر وجعل لهم قليب دفنوا فيه والأمر أشهر من أن يذكر. قوله: "ويواريه من غسله أو غيره للضرورة". أقول: لا دليل على هذا بل الدليل على خلافه فإنه قد ثبت في البخاري ["1342"] ، وغيره أنها لما ماتت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وقال: "هل من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا قال: "فانزل في قبرها" وفي رواية لأحمد عن أنس أنها رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان فقد واراها ونزل في قبرها أبو طلحة مع حضور زوجها ووالدها وأما قوله: "وتطيب أجرة الحفر والمقدمات" فلا وجه لذلك بعد جعل الدفن واجبا على الكفاية وسيأتي الكلام على ذلك في الإجارات إن شاء الله تعالي. قوله: "وندب اللحد". أقول: حديث: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أخرجه أحمد وأهل السنن] أبو دأود "3208"] ، الترمذي "1045"، النسائي "2009"، ابن ماجة "1554"] ،عن ابن عباس مرفوعا وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر وفيه ضعف وله شاهد من حديث جرير مرفوعا بنحوه أخرجه أحمد والبزار وابن ماجه وفي إسناده عثمان بن عمير وفيه ضعف وفي الحديثين دليل على مشروعية اللحد وأنه الذي ينبغي للمسلمين. ولا ينافي هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا نبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فسبق صاحب اللحد فلحدوا له قال ابن حجر إسناده حسن وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس لأن مجرد تردد من حضر من الصحابة لا تقوم به الحجة بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وأيضا قد اختار الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم اللحد كما في هذا الحديث وهو ثابت في صحيح مسلم ["90/966"] ، وغيره [النسائي "4/80"] ، من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص قال قال ألحدوا لى لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وسله من مؤخره". أقول: مؤخر القبر هو الذي يكون عند رجلي الميت ويدل على كون ذلك مشروعا ما أخرجه أبو دأود ["3211"] ، وسعيد بن منصور في سننه ورجاله رجال الصحيح عن أبي إسحق قال أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة ولا يعارض هذا ما أخرجه الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا فإن المعنى أنه سل من جهة رأسه من قبل رجلي القبر وعلى تقدير احتماله لغير هذا المعنى فلا تقوم به الحجة لأمرين الأول أنه مرسل والثاني أنه فعل بعض الصحابة ولا تقوم به الحجة كما تقدم.

وأما ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة فقد ضعف هذا الحديث البيهقي وأيضا لا تقوم به الحجة لأنه فعل لبعض الصحابة قال في البدر المنير إن ذكر أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة وهو غير ممكن كما ذكره الشافعي في الأم وأطنب في الشناعة على من يقول ذلك ونسبه إلي الجهالة ومكابرة الحس انتهى. وأما قوله: "وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود" فلم يرد في هذا شيء والاقتداء بما ثبت في الشريعة أولى من ابتداع ما ليس فيها. وأما قوله: "وستر القبر حتى توارى المرأة" ففي ذلك ما ذكره سعيد في سننه في رواية من حديثه السابق أن عبد الله بن زيد قال أنشطوا الثوب فإنما يصنع هذا بالنساء وأخرجه الطبراني وقال إنه لم يدعهم يمدون ثوبا وقال هذا السنة ويعارضه ما رواه عبد الرزاق من حديث سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر على قبر سعد بن معاذ حين دفن ولكن في إسناده مجهول فلا تقوم به الحجة وأيضا قد قيل إن سبب ذلك أن لا تظهر رائحة من جرح سعد الذي مات به. قوله: "وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا". أقول: استدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا ورجال إسناده ثقات وأما أبو حاتم فقال في العلل هذا الحديث باطل وقال ابن حجر إسناده ظاهر الصحة لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له قال وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه اهـ. ويؤيده ما أخرجه البزار والدرقطني عن عامر بن ربيعة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه وزاد البزار فأمر فرش عليه الماء وقال البيهقي وله شاهد من حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا وله شاهد آخر عند أبي دأود في المراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على قبر ثلاثا وفي إسناده مجهول كما قال أبو حاتم وشاهد ثالث عند البيهقي من حديث أبي أمامة قال توفي رجل فلم نصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه وشاهد رابع أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة مرفوعا: "من حثى على قبر مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة" قال ابن حجر: إسناده ضعيف. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتدل على أن لذلك أصلا في الشريعة وأما ما يشرع من الذكر فأخرج أحمد ["2/27، 40، 59، 69، 127، 128"، وأبو دأود "3213"، والترمذي 1046"، وابن ماجه 1550"] ، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر قال: "بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ "وعلى سنة رسول الله" وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم.

وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي أمامة قال لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" قال ابن حجر وسنده ضعيف. قوله: "ورشه". أقول: استدل على ذلك بما أخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والبيهقي عن جعفر ابن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم الماء وهو مرسل وعن جابر عند البيهقي قال رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشا فكان الذي رش على قبره بلال بن أبي رباح بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلي رجليه ولا يصح الاستدلال بهذا لوجهين الأول أنه لا حجة في فعل بلال الثاني أن في إسناده الواقدي والكلام فيه معروف وقد تقدم ذكر الرش في حديث عامر ابن ربيعة المذكور في القول الذي قبل هذا. قوله: "وتربيعه". أقول: قد اتفق أهل العلم على جواز التربيع والتسنيم وإنما اختلفوا في الأفضل فاستدل القائلون بأن التسنيم أفضل بما أخرجه البخاري في صحيحه ["3/198"،ن 199"] عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسما واستدل القائلون بالتربيع بما أخرجه أبو دأود عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قال قلت يا أمة بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة وقد عرفت أن هذا فعل لبعض الصحابة ولكن حديث أبي الهياج الأسدي عن علي قال أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته أخرجه مسلم ["969"، وأبو دأود "3218"، والترمذي 1049"، والنسائي 2031"] ، يدل على أن التربيع أفضل لأن التسنيم بعض إشراف. قوله: "ورفعه شبرا". أقول: رفع القبر هو من الإشراف الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلا يباح منه إلا ما ورد الإذن به وقد أخرج أبو دأود في المراسيل عن صالح بن صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم شبرا أو نحو شبر وأخرج أبو بكر الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عثيم بن بسطام المديني قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع وقد قدمنا لك أن هذا إنما هو من فعل بعض الصحابة فلا تقوم به الحجة وقد ثبت النهي عن أن يبنى على القبور كما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر. قوله: "وكره ضد ذلك". أقول: ما دل عليه دليل مما تقدم بدون ما يقتضي الحتم ولا كراهة الترك فليس تركه مكروها وغايته أنه خلاف الأولى وأما ما لم يدل عليه دليل فتركه أولى من فعله لأن فعله ابتداع.

وأما ما ورد فيه النهي كرفع القبر فهو حرام لا كراهة تنزيه هكذا ينبغي أن يقال في أضداد هذه المذكورات. قوله: "والإنافة بقبر غير فاضل". أقول: هذا اعتزاز بما وقع من الناس لا سيما الملوك والأكابر من رفع قبورهم وجعل القباب عليها وهذا حرام بالأدلة الصحيحة الثابتة في الصحيح وغيره من طرق توجب العلم اليقين فمنها الأمر بتسوية القبور كما تقدم ومنها النهي عن البناء عليها كما تقدم أيضا ومنها النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعل ذلك وغير ذلك مما هو مبين في كتب السنة. وبالجملة فما هذه أول شريعة صحيحة وسنة قائمة تركها الناس واستبدلوا بها غيرها ولكن هذه البدعة قد صارت وسيلة لضلال كثير من الناس لا سيما العوام فإنهم إذا رأوا القبر وعليه الأبنية الرفيعة والستور الغالية وانضم إلي ذلك إيقاد السرج عليه تسبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت ولا يزال الشيطان يرفعه من رتبة إلي رتبة حتى يناديه مع الله سبحانه ويطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل ولا يقدر عليه سواه فيقع في الشرك. فليت شعري ما وجه تخصيص قبور الفضلاء بهذه الداهية الدهياء والمعصية الصماء العمياء فإنهم أحق من غيرهم باتباع السنة في قبورهم وترك ما حرمته الشريعة على الناس. قوله: "وجمع جماعة إلا لتبرك وضرورة". أقول: الثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل لكل ميت حفرة مستقلة وكان هذا معلوما لا ينكره أحد ووقع منه جمع جماعة في قتلى أحد للضرورة وتضييق الحادثة فليقتصر على الضرورة ويكون الجمع فيما عدا الضرورة خلاف الشريعة والكراهة اقل ما يتصف به. وأما الجمع للتبرك فلم يرد في هذا شيء لأن الكلام في جمع جماعة من الأموات في حفرة واحدة لا في حفر متجأورة فليس ذلك مما نحن بصدده. وأما ما ذكره من كراهة الفرش للقبر فلكون الواقع في زمن النبوة بمرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وضع الميت على الأرض ففي فرش القبر مخالفة للسنة الثابتة مع ما في ذلك من كونه من إضاعة المال التي ثبت النهي عنها وما روي من أن بعض الصحابة وضع قطيفة حمراء في قبره صلى الله عليه وسلم فلا حجة في ذلك على أنه قد روى أنهم أخرجوها. وأما كراهة التسقيف للقبر فلكونه خلاف الشريعة الثابتة المستمرة المستقرة من أنهم كانوا بعد وضع الميت في حفرته يهيلون عليه التراب حتى يستوي على الأرض وأيضا هذا التسقيف يصدق عليه أنه بناء على القبر وهو منهي عنه كما تقدم. وأما كراهة إدخال الآجر فلم يرد بذلك دليل وهي مثل اللبن الذي كانوا يفعلونه في أيام النبوة وأصلب منه وهكذا إدخال الأحجار وجعلها على اللحد فلا وجه للقول بالكراهة. قوله: "والزخرفة إلا رسم الاسم".

أقول: الزخرفة حرام لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يجصص كما في صحيح مسلم ["970"] ، وغيره [أحمد "3/399"، أبو دأود "3225"، الترمذي "1052"، النسائي "2027"، ابن ماجة"1562"] ، وأما استثناء المصنف لرسم الاسم فمن نصب الرأي الفاسد في وجه الدليل الصحيح فقد ثبت عند الترمذي ["1052"] ، وغيره [ابن ماجة "1563"، أبو دأود "3226"، وقال صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب على القبر وهكذا رواه النسائي بلفظ النهي عن أن يكتب على القبر قال الحاكم الكتابة على القبر وإن لم يذكرها مسلم فهي على شرطه. قوله: "ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن". أقول: قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخراج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم معصوم بعصمة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغتصب شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين" [البخاري "2453"، مسلم "142/ 1612"] ، فكيف بمن اغتصب قبرا هو عدة أشبار وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي. وأما مجرد الاستقبال فلم ينتهض الدليل على وجوبه حتى ينبش لتركه. وأما الصلاة فقد قدمنا ثبوت الصلاة على القبر بالأدلة الصحيحة وذلك يكفي ويسقط الواجب ويحصل به مطلوب الميت من الشفاعة. وأما قوله: "بل لمتاع سقط" فصواب لما قدمنا. ومن غرائب المصنف الفرق بين غصب القبر والكفن وبين المتاع الساقط في القبر مع كون الكل من أهلاك مال الغير وإضاعته مع اختصاص الأول بكونه غصبا. قوله: "ومن مات في البحر وخشي تغيره" الخ أقول: هذا صواب وليس في الإمكان غير ما قد كان وأما كونه لا يجوز ذلك إلا مع خشية التغير فلا وجه له ولا دليل عليه بل هو مصادم لأدلة تعجيل تجهيز الميت التي قدمنا ذكرها. قوله: "وحرمة مقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا". أقول: مجرد الحرمة يدل عليها ما أخرجه أحمد ["5/83، 84، 224"، أبو دأود "3230"، والنسائي "4/96"، وابن ماجه "1568"] ، والحاكم وصححه من حديث بشر بن الخصاصية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي في نعلين بين القبور فقال: "يا صاحب السبتيتين ألقهما" فإذا كان المشي على المقبرة بالنعال ممنوعا فازدراعها وتغيير رسمها وإذهاب قرارها ممنوع بفحوى الخطاب ولكن إلحاق مقبرة أهل الذمة بالمسلمين إن كان من جهة كونهم في أمان المسلمين

بتسليم الجزية إليهم فذلك حكم خاص بالأحياء وأما الأموات فقد خرجوا عن العهد وصاروا إلي النار فكيف تكون حرمة مقبرة الكافر الذي هو من أهل النار بالاتفاق كمقبرة المسلم وإن كان الدليل دل على ذلك فما هو؟. وأما ما ذكره تفريعا على هذه المسألة من لزوم الأجرة إلخ فهو مجرد رأي لا دليل عليه والأصل احترام مال المسلم فلا يؤخذ منها إلا بمسوغ شرعي وليس هذا بمسوغ شرعي بل قد اثم بما فعله وغاية ما يجب عليه إصلاح ما أفسده بحسب الإمكان. قوله: "ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما". أقول: أما الاقتعاد فلحديث أبي هريرة عند مسلم ["971"، وأحمد "2/311، 389، 444"، وأبي دأود "3228"، والنسائي "2044"، وابن ماجه "1566" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر". وأخرج أحمد من حديث عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: "لا تؤذ صاحب هذا القبر". قال ابن حجر وإسناده صحيح. وأما وطء القبر فلما أخرجه مسلم "971"، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر"، ولفظ الطبراني "أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم". وأما قبر الحربي فلا حرمة له كما ذكر المصنف لما ثبت في كتب السير والحديث [البخاري "428"، مسلم "9/524"، ابن ماجة "742"، أبو دأود "453"، النسائي "702"، أحمد "3/211، 212"، الترمذي "350"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسجده على مقبرة كانت للمشركين بعد أن نبش قبورهم" وهم وإن ماتوا قبل البعثة المحمدية فقد كانوا مخاطبين بإجابة من تقدم من الأنبياء عليهم السلام. [فصل وندبت التعزية لكل بما يليق به وهي بعد الدفن أفضل وتكرار الحضور مع أهل المسلم المسلمين] . قوله: فصل: "وندب التعزية لكل بما يليق به". أقول: يدل على ذلك حديث عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"، أخرجه ابن ماجه "1601"] ، وكل رجاله ثقات إلا قيسا ابا عمارة ففيه لين ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عزى مصابا فله مثل أجره" وأعل بتفرد علي بن عاصم بوصله وقد وثقه

جماعة واثنى عليه كثير من الحفاظ وله شواهد تقويه وينبغي أن تكون التعزية بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "5655"، مسلم "6/224"] ، وغيرهما [أحمد "5/204، 206"، النسائي "4/2، 22"] ، من حديث أسامة بن زيد قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب" وهذا لا يقتصر على السبب بل كل شخص يصلح أن يقال له وفيه ذلك ولا وجه لقوله: "وهي بعد الدفن أفضل" بل بنبغي التعزية عند الموت أو عند حضور علاماته أو بعد الموت لأن التعزية هي التسلية. وأما ما ذكره من تكرر الحضور مع أهل الميت فلم يرد في ذلك دليل يدل عليه بل أخرج أحمد ["8/94"، وابن ماجه "1612"] ، عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا نعد الاجتماع إلي أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة وإسناده صحيح ولكنه ورد في صنعة الطعام ما أخرجه أحمد ["1/205"،وأبوا دأود "3132"،والترمذي 998"، وابن ماجه "1610"] ، عن عبد الله بن جعفر قال لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعأما فقد أتاهم ما يشغلهم" وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وأخرجه أيضا أحمد ["8/93" وابن ماجه "1611:"] ، والطبراني من حديث اسماء بنت عميس وهي أم عبد الله بن جعفر.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة مدخل ... كتاب الزكاة [فصل تجب في الذهب والفضة والجواهر واللالئ والدر والياقوت والزمرد والسوائم الثلاث وما انبتت الأرض والعسل من ملك ولو وقفا أو وصية أو بيت مال لا فيما عداها الا لتجارة أو استغلال] . قوله: فصل: "تجب في الذهب والفضة" الخ. أقول: أما وجوب الزكاة في الذهب والفضة فلا شك في ذلك للأدلة الصحيحة وسيأتي الكلام عليها في باب زكاة الذهب والفضة. وأما وجوبها في الجواهر المذكورة فليس على ذلك دليل ولعله يأتي تحقيق الكلام ان شاء الله عند ذكرها في باب زكاة الذهب والفضة. وهكذا يأتي تفصيل الكلام على زكاة السوائم وأما انبتت الأرض والغسل.

وأما وجوب الزكاة في الوقف والوصية وبيت المال فليس على ذلك دليل الا عمومات لا تنطبق دلالتها على محل النزاع. وهكذا يأتي الكلام على زكاة التجارة والمستغلات وإنما أراد المصنف بعقد هذا الفصل حصر ما تجب فيه الزكاة. [فصل وإنما تلزم مسلما كمل النصاب في ملكه طرفي الحول متمكنا أو مرجوا وان نقص بينهما ما لم ينقطع وحول الفرع حول أصله وحول البدل حول مبدله ان اتفقا في الصفة وللزيادة حول جنسها وما تضم اليه قيل ويعتبر بحول الميت ونصابه ما لم يقسم المال أو يكون مثليا أو يتحد الوارث. وتضيق بإمكان الأداء فيضمن بعده وهي قبله كالوجيعة قبل طلبها. وإنما تجزئ بالنية من المالك المرشد وولي غيره أو الإمام أو المصدق حيث أجبرا أو أخذا من نحو وديع مقارنة لتسليم أو تمليك فلا تتغير بعد وان غير أو متقدمة تتغير قبل التسليم. وتصح مشروطة فلا يسقط بها المتيقن ولا يردها الفقير مع اللإشكال] . قوله: فصل: "وإنما تلزم مسلما". أقول: جعل الإسلام شرطا للزوم الزكاة صواب ولا ينافيه القول بأن الكفار مخاطبون بالشرعيات لأن معنى خطابهم بها عند من قال به هو أنهم يعذبون بترك ما يجب فعله وفعل ما يجب تركه لأن ذلك مطلوب منهم في حال كفرهم ولم يذكر المصنف ها هنا اشتراط التكليف لان الزكاة من الواجبات المتعلقة بالأموال سواء كان المالك مكلفا أو غير مكلف ولكن لا يخفى عليك ان غير المكلف مرفوع عنه قلم التكليف فلا بد من دليل يدل على استحلال جزء من ماله وهو الزكاة ولم يرد في ذلك إلا عمومات يصلح ما ورد في رفع القلم عن غير المكلف لتخصيصها ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في خصوص ذلك يصلح للتمسك به ولا حجة في فعل بعض الصحابة والأموال معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل استباحة شيء منها بمحرد مالا تقوم به الحجة لا سيما أموال الأيتام التي ورد في التشديد في أمرها ما ورد. وأما حديث: "من ولي يتيما فليتجر له ولا يتركه تأكله الصدقة" فأخرجه الترمذي ["641"] والدارقطني والبيهقي وفي إسناده المثنى بن الصباح وهو ضعيف وقال أحمد بن حنبل ليس هذا الحديث بصحيح وروى بأسانيد أخرى فيها متروكون وضعفاء.

وهكذا حديث: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة"، لا تقوم به الحجة فإنه رواه الشافعي مرسلا وروى من طرق لا تصح. وأما وجوب الفطرة على غير المكلف فليس ذلك من تكليف غير المكلف بل من تكليف ولله كما صرحت به الأدلة وأنه يخرجها من مال نفسه عنه وعمن ينفقه. وأما ما ورد في الزكاة من أنها تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء فهذا متوجه إلي المكلفين كغيره من التكاليف ودعوى أن غير المكلفين داخلون في هذا مصادرة على المطلوب لأنه استدلال بمحل النزاع. قوله: "كمل النصاب في ملكه طرفي الحول" أقول: قد دلت الأدلة في كل نوع من الأنواع التي تجب فيها الزكاة على إن له نصابا معلوما يتعلق الوجوب به ويسقط الوجوب إن لم يكمل فمن زعم انه يثبت الوجوب في دون النصاب من كل نوع فقد خالف الأدلة الصحيحة فإن تمسك بعمومات أو مطلقات فقد ترك العمل بالمخصصات والمقيدات وذلك تقصير في الاجتهاد وترك لما يجب العمل به وإعمال لبعض الأدلة وإهمال للبعض الآخر. وأما ما ورد في الشريكين فسياتي أنه صلى الله عليه وسلم جعل اجتماع الغنم في المسرح والمراح بمنزلة الاجتماع في الملك. وأما قوله: "طرفي الحول" فذلك فيما كان حول الحول شرطا له لأما كان المعتبر فيه حصول نصاب منه عند حصوله كما أخرجت الأرض. ثم الظاهر انه لا بد من استمرار كمال النصاب في جميع الحول من كل نوع من الأنواع التي اعتبر فيها الحول فإذا نقص المال عن النصاب في بعض الحول ثم كمل بعد ذلك استأنف التحويل من عند كماله إذا لم يكن النقص لقصد التحيل لعدم وجوب الزكاة. وظاهر ما ورد في اعتبار الحول انه لا بد ان يكون النصاب كاملا من أوله إلي آخره كما في حديث على عند [أحمد "1/148"، وأبي دأود "1573"، والبيهقي: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". وحديث ابن عمر عند أحمد وأبي دأود والترمذي بلفظ: "من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول". وحديث علي أيضا عند أبي دأود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار" وقد نقل عن البخاري تصحيحه وحسنه ابن حجر. وقد ورد اعتبار الحول من حديث عائشة عند ابن ماجه [1792"] ، والدارقطني والبيهقي والعقيلي وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وفيه ضعف ومن حديث أنس عند الدارقطني وفيه

حسان بن سياه وهو ضعيف ومن حديث ابن عمر أيضا عند الدارقطني والبيهقي وفيه إسماعيل بن عياش. ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول واعتبار ان يكون النصاب كاملا من أول الحول إلي آخره ولا يشترط أن يكون في يده بل إذا كان في يد غيره وديعة أو نحوها وكان متمكنا من اخذه متى أراده فهو في حكم الموجود لديه وهكذا إذا كان دينا على الغير وكان يتمكن منه متى أراد فهو في حكم الموجود لديه لا إذا كان لا يتمكن منه متى أراد فهو في حكم المعدوم فيستأنف التحويل له من عند قبضه ومثله المال المأيوس من رجوعه إذا رجع. قوله: "وحول الفرع حول أصله". أقول: استدلوا على هذا بما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي ان عمر بن الخطاب قال له تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولكنه قد ثبت في المرفوع ما يدل على عدم الاعتبار بالصغار فأخرج أحمد وأبو دأود والنسائي والدارقطني والبيهقي من حديث سويد بن غفلة قال اتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول ان في عهدي انا لا نأخذ من راضع لبن وهذا يدل على ان الزكاة لا تؤخذ من راضع لبن. وظاهره عدم الفرق بين ان يكون منفردا أو مع الامهات واحاديث اعتبار الحول تدل على انه لا بد من ان يحول على الفرع وأما قوله وحول البدل حول مبدله فظاهر أحاديث الحول انه لا بد من ان يحول على البدل الحول لانه مال مستفاد وان كان بدلا عن مال اصلى فلا تأثير لذلك وهكذا لا يكون للزيادة حول جنسها بل لا بد ان يكون نصابا وحال عليها الحول فمن كان له نصاب ثم استفاد زيادة عليه فلا يجب في تلك الزيادة شيء حتى تكمل نصابا فإذا كملت نصابا فلا بد ان يحول عليها الحول عملا بظاهر الادلة وإذا لم تضم الزيادة إلي جنسها قعدم ضمها إلي غير جنسها بالأولى فلا وجه لقوله: "وما تضم اليه". وأبعد من هذا كله قول من قال إنه يعتبر لحول الميت ونصابه فإن هذا تكليف يخالف موارد الشريعة لان الميت مات ولم تجب عليه زكاة والحي صار اليه المال ودخل في ملكه بعد ان كان في ملك غيره فكيف يخاطب بزكاة مالم يستقر في ملكه الا بعض الحول. قوله: "وتضيق بإمكان الأداء". أقول: المراد انه يتضيق الوجوب على من عليه الزكاة إذا كان الوجوب قد ثبت عليه بكمال النصاب وحول الحول فيما يعتبر فيه الحول بإمكان الأداء وهو ان لايحول بينه وبين المال حائل ويحضر المصرف فإذا لم يمكن الوصول إلي المال ولاحصور المصرف فتكليف المزكي بإخراج الزكاة والحال هكذا من تكليف مالا يطاق وأما مع إمكان الأداء فلم يبق للمزكي عذر في التأخير فإن فات المال ضمنه وكون الواجبات على الفور هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة خصوصوا الزكاة التي ثبت فيها انه يقاتل من هي عليه حتى يؤديها وان عصمة ماله ودمه متوقفة

على اخراجها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فأنا آخذها وشطرا من ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالي" [أحمد"5/422"، أبو دأود "1575"، النسائي "2444"] ، وأما كونها تجزئ بالنية فلكو نها عمل من الاعمال التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "إنما الاعمال بالنيات" ويقول فيها: "لا عمل إلا بنية" بل هي ركن من أركان الإسلام وضرورية من الضروريات الدينية ما ذكره المصنف بعد هذا إلي آخر الفصل فهو غني عن البيان. [فصل ولا تسقط ونحوها بالردة ان لم يسلم ولا بالموت أو الدين لادمي أو لله تعالي وتجب في العين فتمنع الزكاة وقدتجب زكاتان من مال ومالك وحول واحد] . قوله: فصل: "ولا تسقط ونحوها بالردة" أقول: الزكاة قد لزمته في حال إسلامه فخروجه من الإسلام أو موته لا يسقط هذا الواجب الذي قد وجب عليه الا بدليل ولا دليل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "فدين الله احق ان يقضي"، [البخاري "1953"، مسلم "154/1148"] ، والزكاة من دين الله نعم إذا رجع إلي الإسلام كان حديث: "الإسلام يجب ما قبله" دليلا على سقوطها عليه لان ظاهره عدم الفرق بين ما كان في أيام كفره أو ايام إسلامه وتقييده بما كان في أيام الكفر يحتاج إلي دليل. وأما حديث: "أسلمت على ما اسلفت من خير" [البخاري "1436"، مسلم "195، 123"، أحمد "3/402"] ، فهو في الطاعات التي يفعلها الكافرفي حال كفره ثم يسلم بعد ذلك وهكذا لا تسقط الزكاة بدين على المزكي سواء كان من ديون الله سبحانه أو من ديون بني آدم لان وجوب الزكاة لا يرتفع بوجوب شيء آخر الا بدليل. قوله: "وتجب في العين فتمنع الزكاة". أقول: الثابت في أيام النبوة ان الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه وذلك معلوم لا شك فيه وفي أقواله صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلي ذلك ويدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلي اليمن: "خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر"، أخرجه أبو دأود ["1599"، وابن ماجه "1814"، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. وإذا عرفت هذا صار مقدار الزكاة في حكم الخارج عن ملك المزكي فلا يكمل به النصاب ولا يلزم فيه الزكاة. وأما قوله: "وقد تجب زكاتان من مال ومالك وحول واحد" فذلك غير صحيح وبيانه انهم مثلوا لذلك بمن بذر الارض بحب للتجارة قالوا فإنه عندالحصاد يلزمه زكاتان زكاة التجارة

وزكاة الحصاد ولا يخفاك ان ذلك الحب الذي كان للتجارة ان بذر به الارض بعد ان حال عليه الحول فقد وجبت الزكاة بحول الحول فإذا بذر به في الارض لم يبق للتجارة ولا وجبت زكاة الحصاد فيه بل في الخارج من الارض بعد ان صار ذلك الحب مستهلكا لا وجود له فزكاة التجارة وجبت في مال وزكاة الحصاد وجبت في مال آخر ولم تجب في مال واحد فهذه المسألة من اصلها مبنية على غير الصواب.

باب في نصاب الذهب والفضة

[باب في نصاب الذهب والفضة وفي نصاب الذهب والفضة ربع العشر وهو عشرون مثقالا ومائتا درهم كملا كيف كانا غيرمغشوشين ولو رديئين المثقال ستون شعيرة معتادة في الناحية والدرهم اثنتنان واربعون لافيما دونه وان قوم بنصاب الاخر الا على الصيرفي] . قوله: باب: "وفي نصاب الذهب والفضة ربع العشر". أقول: أما وجوب ربع العشر في نصاب الذهب الفضة المضروبين فقد دلت على ذلك الادلة الصحيحة وهو مجمع عليه وأما كون نصاب الفضة مائتي درهم فيدل على ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين [البخاري "1447"، مسلم "979"] ، وغيرهما [أبو دأود "1558"، أحمد "3/86"، 3/6"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، وأخرجه أيضا مسلم ["980"، النسائي "5/36"] ، من حديث جابر. قالوا ومقدار الأوقية في هذا الحديث اربعون درهما فهو موافق لما أخرجه أحمد ["1572"، وأبو دأود "8/238"، والترمذي "620"، من حديث على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم". وأما كون نصاب الذهب عشرين مثقالا فالدليل على ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث علي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى تكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار". وقد قيل ان المثقال هو قدر الدينار ولهذا جعل المصنف نصاب الذهب عشرين مثقالا. قوله: "كيف كانا". أقول: يريد انه لا فرق بين ما كان مضروبا من الذهب والفضة وما كان غير مضروب كالحلية وقداختلف في وجوب الزكاة في الحلية واستدل الموجبون لها فيها بما أخرجه أبو دأود ["1563"، والترمذي "637" والنسائي "5/38"] ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جده ان امرأتين اتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ايديهما سواران من ذهب فقال لهما: "أتعطيان زكاة هذا؟ " قالا: لا, قال: "أيسركما أن يسوركما الله تعالي بهما يوم القيامة سوارين من نار" لكنه قال الترمذي لا يصح في الباب شيء. وأخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "ليس في أقل من خمس ذود صدقة ولا في أقل من عشرين مثقالا شيء ولا في اقل من مائتي درهم شيء" وإسناده ضعيف. ولفظ المثقال يطلق على المضروب من الذهب وعلى غير المضروب. وأخرج أبو دأود ["1564"، والحاكم عن ام سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز" فهذا فيه إشارة إلي تزكية الحلية من الذهب. وأخرج أحمد ["6/460"] ، عن اسماء بنت يزيد قالت دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسأور من ذهب فقال لنا: "أتعطيان زكاته؟ " فقلنا: لا قال: "أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار أديا زكاته". وأخرج البيهقي والحاكم عن عائشة انها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدها فتخات من ورق فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " فقالت: صغتهن أتزين لك بهن يا سول الله فقال: "أتؤدين زكاتهن" قالت: لا قال: "هن حسبك من النار" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. ولا يصح استدلال من استدل على وجوب الزكاة في الحلية بما ورد من ذكر الزكاة في الورق والزكاة في الرقة في الاحاديث لانه قد ثبت في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما ان الورق والرقة اسم للدراهم المضروبة فلا يصح الاستدلال بهذين اللفظين على وجوب الزكاة في الحلية بل هما يدلان بمفهومهما على عدم وجوب الزكاة في الحلية بما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" وأخرجه مسلم أيضا من حديث جابر ووجه عدم صحة الاستدلال بهذا انه قد بينه بقوله من الورق والورق هي الدراهم المضروبة كما عرفت فلا تدخل في ذلك الحلية بل مفهوم الحديثين يدل على عدم وجوبها في الحلية. وإذا عرفت هذا فقد قدمنا ان حديث السوارين قد قال الترمذي فيه أنه لم يصح في الباب شيء والحديث الذي بعده عن عمرو بن شعيب ضعيف كما تقدم فلم يبق في الباب ما يصلح للاحتجاج به ولا سيما مع ما ورد من انه صلى الله عليه وسلم لما بعث معإذا إلي اليمن امره بأن ياخذ من كل أربعين دينارا دينارا وقد كان للصحابة وأهاليهم من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزكاة في ذلك بل كان معاذ يعظ النساء ويرشدهن إلي الصدقة أي صدقة النفل فيلقين في

ثوب بلال من حليهن كما هو ثابت في الصحيح [اليخاري "964"، "1431"، "1431"، مسلم ط884"، أحمد "1/280"، أبو دأود "1141"، "1143"، "1144"، ابن ماجة "1273"، ولو كان عليهن في ذلك زكاة لأخبرهن لأنه فعل ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان أمرهن بما هو واجب عليهن أقدم من أمرهن بما ليس بواجب عليهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" [البخاري "304، 1462"، 1951"، 2658"، مسلم "80"، النسائي "3/187"، ابن ماجة "1288"] . وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال لا نعلم أحدا من الخلق قال في الحلى زكاة وأخرج مالك أيضا في الموطأ عن ابن عمر انه كان يحلى بناته وجواريه بالذهب فلا يخرج منه الزكاة. وأخرج مالك أيضا في الموطأ والشافعي عن عائشة أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلى فلا تخرج منه الزكاة. وروى البيهقي والدارقطني عن جابر قال ليس في الحلى زكاة وأخرج الدارقطني والبيهقي أيضا عن أنس واسماء بنت أبي بكر نحوه. وأما ما روى عن ابن عباس من إيجاب الزكاة في الحلى فقال الشافعي لا أدري أثبت عنه أم لا. وأما قوله: "غير مغشوشين" فصحيح لان غش الذهب والفضة بما ليس بذهب ولا فضة لا تتعلق به الزكاة ولا يجب فيها فيسقط قدر الغش ويزكى الخالص من الذهب والفضة سواء كان جنس الذهب والفضة جيدين أو رديئين لصدق اسم الذهب على الذهب الرديء وصدق اسم الفضة على الفضة الرديئة. قوله: "المثقال ستون شعيرة" الخ. أقول: اعلم انه إن ثبت في المثقال والدينار والدرهم ونحوها حقيقة شرعية كان الواجب الرجوع اليها والتفسير بها وان لم يثبت وجب الرجوع في تقدير هذه الاشياء إلي ما ذكره أهل اللغة ولا يصح تفسيرها بالاصطلاح الحادث لا سيما مع اضطرابها واختلافها وفي حديث: "الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة" ما يرشد إلي الرجوع اليهما في هذين الامرين والاعتبار بما كان الميزان عليه عند أهل مكة وما كان المكيال عليه عند أهل المدينة في وقت النبوة وقد أخرج هذا الحديث أبو دأود ["3340"] والنسائي ["4594"] والبزار من رواية طأووس عن ابن عمر وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وابن دقيق العيد. فالاعتبار في الوزن الذي يتلعق به الزكاة بوزن أهل مكة وكذلك الاعتبار في الكيل الذي يتعلق به الزكاة بكيل أهل المدينة عملا بهذا الحديث وهو مقدم علىما في كتب اللغة وغيرها وقد أوضح أهل العلم مقدار الكيل والوزن في مكة والمدينة في ذلك الوقت فلا نطول بذكره. وأما قوله: "لا فيما دونه وان قوم بنصاب الاخر" فهو صواب لان الزكاة متعلقة بكل

جنس عينا فلا بد ان تبلغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة ولااعتبار بكون دون النصاب منه يبلغ نصابا من الجنس الاخر ولا فرق في هذين بين الصيرفي وغيره فلا وجه للاستثناء به. [فصل ويجب تكميل الجنس بالاخر ولو مصنوعا وبالمقوم غير المعشر والضم بالتقويم بالانفع ولا يخرج رديء عن جيد من جنسه ولوبا لصنعة ويجوز العكس ما لم يقتض الربا وإخراج جنس عن جنس تقويما ومن استوفى ينا مرجوا أو أبرئ زكاه لما مضى ولو عوض مالا يزكى الا عوض حب ونحوه ليس للتجارة] . قوله: فصل: "ويجب تكميل الجنس بالاخر" أقول: ليس على هذا اثارة من علم قط ولم يوجب الشارع فيهما الزكاة الا بشرط ان يكون كل واحد منهما نصابا حال عليه الحول والاتفاق كائن انهما جنسان مختلفان ولهذا لم يحرم التفاضل في بيع احدهما بالاخر ولو كانا جنسا واحدا لكان التفاضل حراما. وأما استدلال من استدل بحديث: "في الرقة ربع العشر" [البخاري "1454" أبز دأود"1567"، النسائي "2447"] ، زاعما انها تصدق على الذهب والفضة فقد جاء بما ليس في عرف الشرع ولالغة العرب ولا في اصطلاح أهل الاصطلاح وقد قدمنا بيان ذلك. وإذا تقرر لك عدم صحة هذا التكميل عرفت به عدم صحة قوله ولو مصنوعا وبالمقوم غير المعشروالضم بالتقويم بالانفع. قوله: "ولا يجزئ رديء عن جيد من جنسه" أقول: هذا صواب لتعلق الزكاة بالعين ولما ورد من النهي عن نحو هذا بقوله تعالي: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، والاعتبار بعموم اللفظ. وأما العكس وهو اخراج الجيد عن الرديء فقد فعل المزكي خيرا وتيمم الطيب فأخرجه عن الخبيث وليس هذا من الربا في شيء. وأما قوله: "ويجوز إخراج جنس عن جنس تقويما" فهو مبني على جواز اخراج القيمة في الزكاة وقد قدمنا الكلام على هذا. قوله: "ومن استوفى دينا مرجوا أو ابرئ زكاة لما مضى" أقول: قد قدمنا ان الدين المرجو الذي يتمكن صاحبه منه متى شاء في حكم الموجود عنده إذا كان نصابا على انفراده أو مع غيره مما يملكه المزكي من جنسه وحال عليه الحول. وأما قوله: "ولو عوض مالا يزكى" فغير مسلم الا ان يحصل التراضي على المعأوضة

حتى كان الثابت في الذمة هو النقد من الذهب والفضة فإنه عند ذلك يكون له حكم ما تراضيا عليه من النقد ويبتدئ التحويل له من وقت التراضي من غير فرق بين ان يكون المعوض حبا أو غيره لتجارة أو لغير تجارة. [فصل وما قيمته ذلك من الجواهر وأموال التجارة والمستغلات طرفي الحول ففيهن ما فيه من العين أو القيمة حال الصرف ويجب التقويم بما تجب معه والانفع] . قوله: فصل: "وما قيمته ذلك من الجواهر" أقول: ليس على وجوب الزكاة في الجواهر كاللؤلؤ والياقوت والزمرد وكل حجر نفيس اثارة من علم قط وأما الاستدلال بمثل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، فالمراد على تسليم تنأوله للزكاة الاخذ من الأشياء التي وردا الشرع بأن فيها زكاة والا لزم ان يأخذ من كل مال ولو غير زكوى واللازم باطل والملزوم مثله. ثم لا يخفاك ان الآية في سياق توبة التائبين عن التخلف في غزوة تبوك وليس المأخوذ منهم الا صدقة النففل لا الزكاة بلا خلاف. قوله: "واموال التجارة". أقول: اشف ما استدل به القائل بوجوب الزكاة فيها حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته" بالزاي أخرجه الدارقطني عنه من طريقين. قال ابن حجر وإسناده غير صحيح مداره على موسى بن عبيدة الربذي وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي انيس عن مالك بن أوس عن أبي ذر وهو معلول لان ابن جريج رواه عن عمران انه بلغه عنه ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه وقال سألت البخاري عنه فقال لم يسمعه ابن جريج من عمران وله طريق رابعة رواها الدارقطني أيضا والحاكم من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن عمران قال وهذا إسناد لابأس به انتهى. ولا يخفاك انها لا تقوم الحجة بمثل هذا الحديث وان زعم من زعم ان الحاكم صححه فليس ذلك بمتوجه على ان محل الحجة هو قوله: "وفي البز صدقته" وقد حكى ابن حجر عن ابن دقيق العيد انه قال الذي رأيته في نسخة من المستدرك في هذا الحديث البر بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة قال ابن حجر والداراقطني رواه بالزاي لكن طريقه ضعيفة. وقد روى البيهقي في سننه حديث أبي ذر هذا وفيه المقال المتقدم وأخرجه من حديث

سمرة بن جندب بلفظ: "أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بأن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع" وفي إسناده مجاهيل. والحاصل انه ليس في المقام ما تقوم به الحجة وان كان مذهب الجمهور كما حكاه البيهقي في سننه فإنه قال إنه قول عامة أهل العلم والدين. قوله: "والمستغلات". أقول: هذه مسألة لم تطن على اذن الزمن ولا سمع بها أهل القرن الأول الذين هم خير القرون ولا القرن الذي يليه ثم الذي يليه وإنما هي من الحوادث اليمنية والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإسلامية على اختلاف اقوالهم وتباعد اقطارهم ولا توجد عليها اثارة من علم لا من كتاب ولا سنة ولا قياس وقد عرفناك ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل اخذها الا بحقها والا كان ذلك من أكل اموال الناس بالباطل وهذا المقدار يكفيك في هذه المسألة. [فصل وإنما يصير المال للتجارة بنيتها عندابتداء ملكه بالاختيار وللاستغلال أو الاكراء بالنية ولو مقيدة الانتهاء فيهما فتحول منه ويخرج بالاضراب غير مقيد ولا شيء في مؤنهما وما جعل خياره حولا فعلى من استقر له الملك وما رد برؤية أو حكم مطلقا أو عيب أو فساد قبل القبض فعلى البائع] . قوله: فصل: "وتصير للتجارة بنيتها" الخ. أقول: هذا الفصل متفرع عن وجوب الزكاة في أموال التجارة والمستغلات وقد عرفناك ما هو الحق في هذه المسائل فلا تشتغل بفرع لم يصح اصله. وأما قوله: "وما جعل خياره حولا فعلى من استقر له الملك"، فلا يخفاك ان ما جعل فيه الخيار إذا كان مما تجب فيه الزكاة فلا حكم لما مضى قبل الاستقرار للملك لانه ملك متزلزل غير مستقر فإذا استقر كان ابتداء التحويل من وقت الاستقرار وما ما رد برؤية أو عيب قبل القبض للمبيع فهو لم يخرج عن ملك البائع خروجا صحيحا لعدم القبض مع تعقب الرد بموجب للرد ولا فرق بين ان يكون الرد بحكم أو بغير حكم فلا يستأنف البائع التحويل وأما إذا كان بعدالقبض فهو تجدد ملك للبائع فيستأنف التحويل سواء كان الرد بحكم أو بغير حكم. هذا هو الاقرب إلي موافقة القواعد الشرعية.

باب زكاة الإبل

باب زكاة الإبل [فصل ولا شيء فيما دون خمس من الإبل وفيها جذع ضأن أو ثني معز مهما تكرر حولها ثم كذلك في كل خمس إلي خمس وعشرين وفيها ذات حول إلي ست وثلاثين وفيها ذات حولين إلي ست وأربعين وفيها ذات ثلاثة إلي إحدى وستين وفيه ذات اربعة إلي ست وسبعين وفيها ذاتا حولين إلي إحدى وتسعين وفيها ذاتا ثلاثة إلي مائة وعشرين ثم تستأنف ولا يجزء الذكر عن الانثى الا لعدمها أو عدمهما في الملك فابن حولين عن بنت حول ونحوه] . قوله: فصل: "ولا شيء فيما دون خمس من الإبل" أقول: هذا الذي ذكره إلي قوله: "ثم تستأنف" هو في الحديث الصحيح الثابت في البخاري ["1454"] ، وغيره [أبو دأود "1567"، النسائي "2447"، ان أبا بكر كتب لهم ان هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فيما دون خمس وعشرين من الإبل في كل خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلي خمس وثلاثين فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلي خمس واربعين فإذا بلغت ستا واربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلي ستين فإذا بلغت واحدة وستين ففيها جذعة إلي خمس وسبعين فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلي تسعين فإذا بلغت واحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلي عشرين ومائة فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل اربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وظاهر هذا ان عدد الإبل إذا بلغ إلي هذا القدر كان في كل اربعين من مجموع الإبل التي بلغت هذا المقدار بنت لبون وفي كل خمسين منها حقة. ومثله ما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد ["8/207"، أبو دأود "1568"، والترمذي "621"] ، وحسنه ولفظه إلي عشرين ومائة فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل اربعين ابنة لبون. ويؤيد هذا ما سيأتي في زكاة الغنم من ان الفريضة تستأنف على مجموع العدد وإلي هذا ذهب الجمهور وهو الحق. وفي الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات الموجود عند آل عمرو بن حزم التصريح بما ذهب اليه الجمهور فان فيه: "فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون" هكذا أخرجه الدارقطني بهذا اللفظ من طريق محمد بن عبد الرحمن ان عمر بن عبد العزيز حين

استخلف ارسل إلي المدينة يلتمس عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات فوجد عند آل عمرو بن حزم فذكره. وأخرج مثل هذا أبو دأود ["1570"] ، من طريق الزهري عن سالم مرسلا بلفظ فإذا كانت احدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون. قوله: "ولا يجزيء الذكر عن الانثى الا لعدمها" الخ. أقول: يدل على هذا ما تقدم من حديث أنس من قوله فان لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر. وفي لفظ منه ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده الا ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء.

باب ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر

[باب ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر وفيها ذو حول ذكر أو أنثى إلي أربعين وفيها ذات حولين قيل كذلك إلي ستين وفيها تبيعان إلي سبعين وفيها تبيع ومسنة ومتى وجبت تبع ومسان فالمسان] . قوله: باب: "ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر" أقول: أما كونه لا شيء فيما دون الثلاثين فلما عرفناك غير مرة ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل شيء منها إلا بدليل يصلح للنقل عن هذه العصمة المعلومة بالضرورة الدينية وأما كونه تجب في الثلاثين ما ذكره المصنف فلما أخرجه أحمد ["5/230"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1576"، الترمذي "623"، النسائي "5/25، 26"] ، وابن حبان وصححه الدارقطني والحاكم وصححه أيضا من حديث معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة فهذا الحديث فيه التصريح بما يجب من الزكاة في الثلاثين والاربعين وهو يقتضي أنها إذا بلغت سنين كان فيها تبيعان لانه امره ان يأخذ من كل ثلاثين تبيعا إلي أربعين وياخذ مسنة ثم تكون الفريضة مع الزيادة هكذا. وفي رواية لأحمد ["5/240"] ، والبزار من حديث معاذ أن أهل اليمن عرضوا عليه ان يأخذ ما بين الاربعين إلي الخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين قال: فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن لا آخذ فيما دون ذلك وزعم أن الأوقاص لا شيء فيها. وأما قول المصنف: ومتى وجب تبع ومسان فالمسان فلا وجه لذلك ولم يدل عليه

دليل بل الخيار للمالك إن شاء أن يعطى من النوعين فعل وان شاء أن يعطى من أحدهما فعل والكل سنة ثابتة وشريعة قائمة فإن طلب ما هو الانفع للفقراء فذلك أمر مفوض اليه والاعمال بالنيات.

باب ولا شيء فيما دون أربعين من الغنم

[باب ولا شيء فيما دون أربعين من الغنم وفيها جذع ضأن أو ثنى معز إلي مائة واحدى وعشرين وفيها اثنتنان إلي إحدى ومائتين وفيها ثلاث إلي اربعمائة وفيها اربع ثم في كل مائة شاة. والعبرة بالام في الزكاة ونحوها وبسن الأضحية وبالأب في النسب] . قوله: باب: "ولا شيء فيما دون اربعين من الغنم". أقول: أما عدم الوجوب فيما دون الاربعين فلما قدمنا في الباب الذي قبل هذا ولما ثبت في حديث أنس بلفظ فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة واحدة فليس فيها شيء الا ان يشاء ربها. وأما ما ذكره المصنف من الواجب في الاربعين وما بعدها فهو الذي في حديث أنس المذكور بلفظ وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت اربعين ففيها شاة إلي شعرين ومائة فإذا زادت ففيها شاتان إلي مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة فإذا زادت ففي كل مائة شاة. وفي حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد ["8/207"، وأبو دأود "1568"والترمذي "621"] ، وحسنه بلفظ: "وفي الغنم من أربعين شاة شاة إلي عشرين ومائة فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلي مائتين فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة فإذا زادت فليس فيها شيء حتى تبلغ اربعمائة فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة". قوله: "والعبرة بالأم في الزكاة ونحوها وبالاب في النسب". أقول: المعتبر صدق ما تجب فيه الزكاة من إبل أو بقر أو غنم فإذا كان ذلك الموجود يطلق عليه انه من الغنم أو الإبل أو البقر كان من جملة الجنس الذي هو منه. وأما كون الاعتبار بالاب في النسب فإن كان هذا اعتبار اللغة فممنوع فإن العرب لا تجعل لمن امه امة ما تجعله لمن امه حرة في الانتساب إلي الاب العربي ولهذا يقول عنترة إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمى سائري بالمنصل فجعل شطره منتسبا بنسب أبيه وشطره منتسبا بنسب أمه.

وكانت امه امة وان كان هذا باعتبار الشرع فمحتاج إلي دليل في نفس كون الاعتبار بالاب في النسب في الرفاعة والوضاعة لا في كونه حرا يرث ويورث ويثبت له ما يثبت للأحرار فإن هذا معلوم من الشرع ومن الشعر المنسوب إلي المأمون أو المقول على لسانه لما كانت امه امة يقال لها مراجل: لا تزرين بفتى من ان يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء فإنما امهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء [فصل ويشترط في الانعام سوم اكثر الحول مع الطرفين فمن ابدل جنسا بجنسه فأسامه بنى والا استأنف وانما يؤخذ الوسط غير المعيب ويجوز الجنس والافضل مع إمكان العين والموجود ويترادان الفضل ولا شيء في الأوقاص ولا يتعلق بها الوجوب وفي الصغار احدها إذا انفردت] . قوله: فصل: "ويشترط في الانعام سوم اكثر الحول مع الطرفين". أقول: أما اشتراط ذلك في الغنم فلحديث أنس الثابت في الصحيح بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت اربعين ففيها شاة". وفي لفظ منه آخر: "وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة واحدة فليس فيها شيء". وأما في الإبل فلما وقع في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا: "في كل إبل سائمة" [أبو دأود "1757"، النسائي "2444"] ، الحديث. وأما في البقر فلما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس ليس في البقر العوامل صدقة وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. ورواه من وجه آخر عنه وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف ورواه من حديث جابر بلفظ: ليس في المثيرة صدقة وضعف البيهقي إسناده ورواه موقوفا وصححه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الا انه قال الإبل بدل البقر قال ابن حجر وإسناده ضعيف. قال البيهقي: وأشهر من ذلك ما روى موقوفا من حديث أبي إسحاق عن الحارث وعاصم عن علي "ليس في البقر العوامل شيء". قال البيهقي: رواه النفيلي عن زهير بالشك في وقفه أو رفعه وروى عن زهير مرفوعا

ورواه غير زهير عن أبي إسحاق موقوفا قال ابن حجر وهو عن أبي دأود وابن حبان وصححه ابن القطان على قاعدته في توثيق عاصم بن ضمرة وعدم التعليل بالوقوف وبالرفع. هذا حاصل ما ورد في اعتبار السوم والانعام الثلاث لها حكم واحد في الزكاة فالوارد في بعضها يقوى الوارد في البعض الاخر ولا سيما مع اعتضاد ذلك بأن الاصل البراءة فلا ينقل عنها الا ناقل صحيح وقد ورد الناقل وهو ايجاب الزكاة في الانعام مقترنا بكونه في السائمة كما عرفت. ولا يخفاك ان ظاهر أحاديث اعتبار الحول التي قدمنا ذكرها يدل على انه لا بد ان يحول عليها الحول سائمة وان سامت في بعض الحول وعلفت في بعضه فالظاهر عدم الوجوب. وهكذا إذا بدل جنسا بجنسه غير قاصد للحيلة فإنه يستأنف التحويل للبدل من عند دخوله في ملكه ولا اعتبار بحول المبدل ولا يبنى عليه. قوله: "وإنما يؤخذ الوسط غير المعيب". أقول: أما كونه يؤخذ الوسط فلما أخرجه أبو دأود ["1582"] ، والطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن معأوية الفاضري من غاضرة قيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من فعلهن طعم طعم الايمان من عبد الله وحده وانه لا إله الا الله واعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط اموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره". فإن بذلك المسالك ما هو خير مما يجب عليه طيبة به نفسه فلا بأس بذلك لما أخرجه أحمد وأبو دأود والحاكم وصححه من حديث أبي بن كعب قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلم أجد عليه في ماله الا ابنة مخاض فاخبرته انها صدقته فقال ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر وما كنت لأقرض الله مالا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة سمينة فخذها فقلت ما انا بآخذ ما لم أومر به فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخرج معي وخرجنا بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الذي عليك وان تطوعت بخير قبلناه منك وآجرك الله فيه" قال: فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه بقبضها ودعا له بالبركة وفي إسناده محمد بن إسحاق ولكنه قد صرح هنا بالتحديث وهكذا إذا قبل المصدق ما هو معيب فإنه يجزئ رب المال لما في حديث أنس الصحيح المتقدم [البخاري "1448، 1450، 1453، 1454، 1455، 2487، 3106، 5878، 6955"، أبو دأود "1567" النسائي "2447"] . ذكر بعضه بلفظ: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الا إن يشاء المصدق". وأما قوله: "غير المعيب"، فلما تقدم في حديث الغاصري وفي حديث أنس هذا ولما في حديث ابن عمر المتقدم ذكر بعضه بلفظ: "ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب من الغنم" وكما روى

في تعيين الشرار فقد ورد تعيين الخيار في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي عند مالك في الموطأ والشافعي في مسنده ان عمر بن الخطاب قال نعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا تاخذ الاكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم رواه ابن أبي شيبة مرفوعا. وأما قول المصنف: "ويجوز الجنس والافضل مع إمكان العين"، فقد عرفت مما سبق جواز إخراج الافضل وأما جواز إخراج الجنس مع إمكان العين فغير مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجوز ذلك الا بشرط عدم وجود ما هو الواجب في الملك كما في حديث أنس المتقدم وفيه ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه أيضا ومن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتي إذا استيسرنا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده الا حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. وبهذه الروايات يتبين لك وجه قول المصنف: "والموجود ويتردان الفضل". قوله: "ولا شيء في الأوقاص ولا يتعلق بها الوجوب". أقول: أما كونه لا شيء في الأوقاص وهو ما بين الفريضتين فظاهر وقد صح الدليل لذلك وهو قوله في حديث أنس وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة فليس فيها شيء وكما في قوله في حديث معاذ المتقدم فأمرني ان لا آخذ فيما بين ذلك وزعم ان الأوقاص لا فريضة فيها وهكذا ما ورد في الفاظ الاحاديث ولا شيء في كذا حتى يبلغ كذا فإنه تصريح بعدم الوجوب في الأوقاص. وأما كونه لا يتعلق بها الوجوب فغير مسلم بل الشاة الخارجة مثلا من الاربعين هي عن جميع الاربعين لا عن الشاة الموفية للأربعين وهكذا سائر الفرائض التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب بها فإن المراد ان تلك الزكاة عن جميع ما وجد من الانعام لا عن الموفى للنصاب ونفي الوجوب عن الأوقاص هو ما دامت أوقاصا لا إذا بلغت إلي النصاب فإن الزكاة المخرجة هي عن جميع ذلك النصاب. قوله: "وفي الصغار احدها إذا انفردت". أقول: قد قدمنا الادلة الدالة على اعتبار الحول وقدمنا انه لا يكون حول الفرع حول اصله فهذه الصغار ان حال عليها الحول بعدانفرادها فهي إذ ذاك كبار وليست بصغار على انا قدمنا في حديث سويد بن غفلة النهي من النبي صلى الله عليه وسلم له ان لا يأخذ من راضع لبن شيئا فهذا يدل على انه لا يؤخذ منها ما دامت صغارا راضعة وأنه لا يكون حولها حول اصلها.

باب ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاده الحول

[باب " ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاده الحول وهو من المكيل خمسة أوسق الوسق ستون صاعا كيلا ومن غيره ما قيمته نصاب نقد عشره قبل إخراج المون وان لم يبذر أو لم يزد على بذر قد زكى أو احصد بعد خوزه من مباح الا المسني فنصفه فإن اختلف فحسب المؤنة ويعفى عن اليسير. ويجوز حرص الرطب بعد صلاحه وما يخرج دفعات فيعجل عنه والعبرة بالانكشاف وتجب من العين ثم الجنس ثم القيمة حال الصرف ولا يكمل جنس بجنس ويعتبر التمر بفضلته وكذلك الارز الا في الفطرة والكفارة وفي العلس خلاف. وفي الذرة والعصفر ونحوهما ثلاثة اجناس ويشترط الحصاد فلا تجب قبله وان بيع بنصاب وتضمن بعده المتصرف في جميعه أو بعض تعين لها ان لم يخرج المالك ومن مات بعده وامكن الأداء قدمت على كفنه ودينه المستغرق والعسل من الملك كمقوم المعشر"] . قوله: باب: "زكاة ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاره الحول وهو من المكيل خمسة أوسق". أقول: أما باعتبار النصاب في زكاة ما أخرجت الارض وهو ان يكون خمسة أوسق فذلك للدليل الصحيح المتلقى بالقبول من جميع طوائف أهل الإسلام فهو بين عامل به ومتأول له وهو حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وهو في الصحيحين [البخاري "1447", مسلم "979"] وغيرهما من حديث أبي سعيد وهو حجة ظاهرة في أنه لا زكاة فيما دون الخمسة الأوسق ولم يصب من أوجبها في قليل ما انبتت الارض وكثيره عملا بالاحاديث المصرحة بأن "فيم سقت السماء والعيون العشر وفيما سقى بالنضخ نصف العشر" [البخاري "1434", الترمذي "640"] لانه عمل بالعام وترك العمل بالخاص والجمع بينهما واجب بان يبنى العام على الخاص وهذا أمر متفق عليه عند أئمة الأصول في الجملة فمن خالف ذلك في الفروع فإن كان لعدم علمه بالخاص فقد أتي من قبل تقصيره وكيف يكون مجتهدا من جهل مثل هذا الحكم وإن كان قد علم به ولم يعمل به فالحجة عليه قائمة بالدليل الصحيح. وأما قوله: "ضم أحاصده الحول" فمبنى على أان أحاديث اعتبار الحول شاملة لما خرج من الارض وليس الامر كذلك بل هي واردة في غيره وأما الخارج من الأرض فيجب إخراج زكاته عند إحصاده إن كان خمسة أوسق فصاعدا وكان مما تجب فيه الزكاة لم يسمع في أيام النبوة ولا في أيام الصحابة انه اعتبر الحول فيما يخرج من الأرض بل كانوا يزكون الخارج عند إحصاده إذا كمل نصابه. وأما كون الوسق ستين صاعا فيدل عليه أما أخرجه أحمد وابن ماجه

["1793"] ، من حديث أبي سعيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوسق ستون صاعا"، وأخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وأخرجه أيضا النسائي ["2486"، وابو دأود "1559"، وابن ماجه "1832"] ، من طريق اخرى عن أبي سعيد قال أبو دأود وهو منقطع لم يسمع أبو البختري من أبي سعيد وأخرج البيهقي نحوه من حديث ابن عمر وأخرج أيضا نحوه ابن ماجه من حديث جابر وإسناده ضعيف قال ابن حجر وفيه عن عائشة وسعيد بن المسيب. قوله: "وما قيمته نصاب نقد عشرة". أقول: الاحاديث الواردة في انه لا زكاة في الخضروات قد أوضحنا في شرحنا للمنتقى انه يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فهي صالحة لتخصيص العمومات كحديث: "فيما سقت السماء العشر" ونحوه. وهكذا الاحاديث الواردة في ان الزكاة لا تجب الا في اربعة اجناس البر والشعير والتمر والزبيب فإنها تنتهض بمجموعها للعمل بها كما أوضحناه هنالك. قوله: "قبل اخراج المؤن". أقول: المالك انما يزكى ما دخل في ملكه بعدحصاده ودياسه فلا يجب عليه زكاة ما خرج في المؤن التي لا يتم الحصاد والدياس الا بها وليس له ان يخرج مؤن الحرث والسقي والبذر ونحوها فإنه لم يثبت في ذلك لا في ايام النبوة ولا فيما بعدها. وأما قوله: "وان لم يبذر" فصواب إذا ثبت في الملك فليس من شرط الزكاة ان يقع من المالك البذر للأرض. وهكذا إذا لم يرد على بذر قد زكى فإنها تجب فيه الزكاة لعموم الادلة المصرحة بوجوب زكاة الخارج من الارض بل تجب الزكاة وان كان الحاصل دون البذر الذي قد زكى إذا بلغ النصاب. وأما قوله: "وإذا حصد بعد حوزه من مباح" فيدل على ذلك عموم الآية الواردة فيما أخرجت الارض وهذا مما أخرجته الارض وصار في ملك مالك تجب عليه أصل الزكاة فاخراجه عن حكم الخارج من الارض يحتاج إلي دليل. قوله: "الا المسنى فنصفه". أقول: قد صرحت الادلة الصحيحة بذلك منها حديث ابن عمر في الصحيح بلفظ: "وفيما سقى بالنضخ نصف العشر" ومثله حديث جابر في الصحيح [مسلم "981"، أيضا بلفظ "وفيما سقى بالساقية نصف العشر" قال النووي وهذا متفق عليه قال وان وجدنا ما يسقى بالنضخ تارة وبالمطر اخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة ارباع العشر وهو قول أهل العلم قال ابن قدامة لا نعمل فيه خلافا وان كان احدهما اكثر كان حكم الاقل تبعا للأكثر عند أحمد والنووي وأبي حنيفة واحد قولي الشافعي وقيل يؤخذ بالتقسيط قال

ابن حجر ويحتمل ان يقال ان أمكن فصل كل واحد منهما اخذ بحسابه وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع ولو كان اقل. قوله: "ويجوز خرص الرطب بعدصلاحه". أقول: قد ثبت في خرص العنب والتمر أحاديث تقوم بها الحجة بل ثبت في الصحيحين [البخاري "1481"، مسلم "15/14"] ، من حديث أبي حميدالساعدي انه صلى الله عليه وسلم خرص صديقة امرأة بنفسه وفيه قصة ولكن هذا الخرص مقيد بما أخرجه [أحمد "3/448"، وابو دأود "1605"، والترمذي "643"، والنسائي "5/42"] ، وابن حبان الحاكم وصححه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثث فدعوا الربع". وأما قول المصنف: "بعد صلاحه"، فيدل عليه ما في حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل ان يؤكل ثم يخبر يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه اليهم بذلك الخرص أخرجه [أحمد "9/12"، وابو دأود "3413"] . قوله: "وما يخرج دفعات فيعجل منه". أقول: المراد للمصنف هو ان الشيء الذي يخرج دفعات يخرص كل دفعة من دفعاته كالتين لانها لا تحصل الدفعة الثانية الا وقد فسدت الأولى وهذا وان كان قد دخل فيما سبق لكنه أراد ان يدفع وهم من يتوهم انه لا يخرص الا مرة واحدى وان خرج دفعات. وأما التعرض لتعجيل الزكاة فهو دخيل في المقام لا حاجة اليه لان جواز التعجيل لا يختص بهذا وحده. وأما اعتبار الانكشاف فأمر لا بد منه لما تقدم من ان الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق. قوله: "وتجب في العين ثم الجنس ثم القيمة حال الصرف". أقول: هذا صواب لما قدمنا من الادلة الدالة على وجوب الزكاة في العين فإذا تلفت العين فالعدول إلي الجنس هو اقرب إلي العين من القيمة لان جنس الشيء يوافقه في غالب الأوصاف فإذا لم يوجد الجنس اجزأت القيمة لان لذلك غية ما يمكن من التخلص عن واجب الزكاة. وأما قوله: "ولا يكمل جنس بجنس" فهذا صحيح لان اعتبار النصاب هو في كل جنس على حدة فمن زعم انه إذا حصل خمسة أوسق من جنسين وجبت الزكاة فعليه الدليل. وأما قوله: "ويعتبر التمر بفضلته" فهذا صحيح ولم يسمع في أيام النبوة ما يخالفه وهكذا الارز والعلس عند من أوجب الزكاة فيهما. وأما قوله: "وفي الذرة والعصفر ونحوهما ثلاثة أجناس"، فمبنى على وجوب الزكاة في الخضروات وفي غير الاجناس الاربعة وقد قدمنا الكلام على ذلك.

قوله: "ويشترط الحصاد" الخ. أقول: هذا معلوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أما أوجبا لزكاة فيما قداحصد وعرف مقداره كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فالوجوب متعلق بالنصاب وهو الخمسة الأوسق ولا يعرف قدر النصاب الا بعدا الحصاد وأيضا ما دام ما أخرجته الارض هو معرض للجوائح بالافات السمأوية والارضية فلو وجبت الزكاة فيه قبل حصاده لكان إيجابها قبل ثبوت الملك وتقرره وهكذا الضمان لا يكون الا بعد ثبوت الملك وتقرره. وأما قوله: "ومن مات بعده قبل إمكان الأداء قدمت على كفنه ودينه المستغرق" فهو بخالف ما تقدم له من قوله وهي قبله كالوديعة قبل طلبها. قوله: "والعسل من الملك كمقوم المعشر". أقول: استدل على وجوب الزكاة في العسل بما أخرجه أحمد ["4/236"، وابو دأود "وابن ماجه "823"] ، والبيهقي قال: قلت: يا رسول الله إن لي نحلا قال: "فأد العشور" قال: قلت: يا رسول الله احم لي جبلها قال: فحمى لي جبلها وفي إسناده انقطاع لانه من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة قال البخاري لم يدرك سليمان احدا من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح وقال أبو عمر بن عبد البر لا يقوم بهذا حجة. وأخرج أبو دأود ["1600"، والنسائي "2499"، ان هلالا أحد بنى متعان جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل وكان سأله ان يحمى واديا يقال له سلبة فحمى له ذلك الوادي وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اخذ من العسل العشر وفي إسناده ابن لهيعة وعبد الرحمن ابن الحارث وليس من أهل الاتقان. وأخرج الترمذي ["629"،عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في العسل كل عشرة أزقاق زق" وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف وقال النسائي هذا حديث منكر. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة حديثا في زكاة العسل وفي إسناده عبد الله ابن محرز وهو متروك. وأخرج البيهقي عن سعد بن أبي ذئاب ان النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه وانه قال لهم: " أدوا العشر في العسل" وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف. واحاديث الباب يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فينتهض الاحتجاج با وقد استوفيت البحث في شرحي للمنتقى وذكرت عدم انتهاض الاحاديث للحجة لأن حديث أبي سيارة وحديث هلال ان كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل لانه حمى لهما بدل ما اخذ منهما ولكن لا يخفى انه قال في حديث أبي سيارة: "فأد العشر" وهذا تصريح

لوجوب الزكاة ولا سيما وقد وقع في رواية لأبي دأود بلفظ من كل عشر قرب قربة ووقع عندالترمذي كما تقدم في العسل في كل عشرة ازقاق زق.

باب ومصرفها من تضمنته الآية

[باب " ومصرفها من تضمنته الآية فإن وجد البعض فقط ففيه والفقير من ليس بغني وهو من يملك نصابا متمكنا أو مرجوا ولو غير زكوى واستثنى له كسوة ومنزل وأثاث وخادم وآلة حرب يحتاجها الا زيادة النفيس والمسكين دونه ولا يستكملا نصابا من جنس واحد والا حرم أو موفيه ولا يغنى بغنى منفقه الا الطفل مع الاب والعبرة بحال الاخذ. والعامل من باشر جمعها بامر محق وله ما فرض آمره وحسب العمل وتأليف كل واحد جائز للامام فقط لمصلحة دينية ومن خالف فيما اخذ لأجله رد والرقاب والمكاتبون الفقراء المؤمنون فيعانون على الكتابة والغارم كل مؤمن فقير لزمه دين في غير معصية وسبيل الله المجاهد المؤمن الفقير فيعان بما يحتاج اليه فيه ونصرف فضله نصيبه لا غيره في المصالح مع غني الفقراء وابن السبيل من بينه وبين وطنه مسافة قصر فيبلغ منها ولو غنيا لم يحضر ماله وأمكنه القرض ويردالمضرب لا المتفضل وللامام تفضيل غيرمجحف ولتعدد السبب وان يرد في المخرج المستحق ويقبل قولهم في الفقراء ويحرم السؤال غالبا] . قوله: باب: "ومصرفها من تضمنته الآية فإن وجدالبعض فقط ففيه". أقول: هذا التقييد صحيح لانه إذا وجد الكل فلكل صنف حق من مجموع الحاصل من الزكاة المجموعة بامر الامام أو من يقوم مقامه لما تقتضيه الآية فإن اللام فيها مفيدة للملك ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود ["1630"] من حديث زياد بن الحارث الصداني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فاتى رجل فقال اعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية اجزاء فان كنت من تلك الاجزاء اعطيتك"، ولا ينافى ما صرحت به الآية من المصارف الثمانية ما ورد من ان الزكاة تؤخذ من الاغنياء وترد في الفقراء فإذ ذلك محمول على انه لم يوجد في المحل الذي اخذت منه الا الفقراء أما إذا وجد غيرهم فله حق فيها كحق الفقراء فيجمع بين الادلة بهذا. وأما من اشتراط الفقر في جميع الاصناف فلا يحتاج إلي الجمع بهذا ولكن هذا الاشتراط

خلاف ظاهر القرآن وخلاف ما ثبت في السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك"، أخرجه أحمد ["3/56"] ، ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وابو دأود ["1636"] ، وابو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد. وفي لفظ لأبي دأود ["1636"، وابن ماجه "1841"، "لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى منها لغني". وسيأتي الكلام على هذا الاشتراط في كل صنف اشترط فيه ذلك. قوله: "والفقير من ليس بغني". أقول: هذا هو المذكور في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما فيحتاج في معرفة معنى الفقير إلي معرفة معنى الغني وقد جعله المصنف رحمه الله من يملك نصابا ووجه هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر باخذ الزكاة من الاغنياء وردها في الفقراء فوصف ن تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال: "لا تحل الصدقة لغني"، [أحمد "9/93"، أبو دأود "1633"، النسائي "2598"] ، فكأن الفقير من لا يملك نصابا وقد ذكرنا في شرح المنتفى اختلاف المذاهب في حد الغنى وذكرنا ادلتهم ومنها ما أخرجه أحمد وأبو دأود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار"، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "قدر ما يعشيه ويغديه". ومنها ما أخرجه أحمد ["1/441"] بوأهل السنن [أبو دأود "1626"، "الترمذي "650"، ابن ماجة "1840"، النسائي "3593"] ، وحسنه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش" قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "خمسون درهما أو حسابها من الذهب". ومنها ما أخرجه أحمد ["3/907"، وأبو دأود "1628"، والنسائي "2596"] ، بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فقد الحف". وفي الباب أحاديث ولكن لا يخفى ان هذه الاحاديث فيمن يحرم عليه سؤال الناس لا فيمن تحرم عليه الزكاة ولكن قد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اشتملت عليه هذه الاحاديث غنيا فيكون الواجد لذلك المقدار غنيا وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الزكاة لاحظ فيها لغني" [أحمد "9/93"، أبو دأود "1633"، النسائي "2598"] ، ويجمع بين هذه الاحاديث بالأخذ بأكثرها مقدارا وهو الخمسون الدرهم. وأما قول المصنف رحمه الله: "متمكنا أو مرجوا" فقد قدمنا في المرجو انه لا بد ان يكون بحيث يأخذه متى شاء. وأما قوله ولو غير زكوى فوجه ذلك انه قد صار مالكا لقيمة النصاب الزكوى.

قوله: "واستثنى كسوة ومنزل" الخ. أقول: هذه الامور لا يخرج بها المالك لها عن كونه فقيرا مصرفا للزكاة ولم يسمع في عصر النبوة ولا فيما بعده ان ملبوس الرجل ومنزله وما يقيه الحر والبرد وسلاحه يخرجه عن صفة الفقر وقد كان الصرف في الفقراء منه صلى الله عليه وسلم ومن الخلفاء الراشدين ومعهم ما يحتاجون اليه من ذلك وهذا معلوم لا شك فيه. نعم استثناء ما كان فيه زيادة نفيس ان كان صاحبه يحتاج اليه فلا وجه للاستثناء وان كان لايحتاج اليه ويكفي ما دونه وتندفع عنه الحاجة به فلا بأس بذلك ومن جملة ما ينبغي استثناؤه الدفاتر العلمية للعالم فإن ذلك مصلحته في الغالب عامة. قوله: "والمسكين دونه" أقول: قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1476"، مسلم "103/1039"] ، وغيرهما [أحمد "2/316"، النسائي "5/84، 85"، أبو دأود "1631"] ، من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسال الناس". وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1479"، مسلم "1039"] ، من حديثه: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان وانما المسكين الذي يتعفف اقرأوا ان شئتم {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273] ، فأفاد هذا الحديث ان المسكين فقير لقوله: "لا يجد غنى يغنيه" مع زيادة كونه متعففا لا يقوم فيسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه فالمسكين فقير متعفف وبهذا القيد يظهر الفرق بينهما ويندفع قول من قال انهما مستويان وقول من قال ان المسكين فوق الفقير واعلى حالا منه لما هو معلوم من ان تعففه عن السؤال وعدم التفطن لكونه فقيرا زيادة حاجة وعظم ضرورة ومما يدل على افتراقهما في الجملة ما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "اللهم احيني مسكينا"، مع ما علم من تعوذه من الفقر. قوله: "ولا يستكملا نصايا من جنس" الخ. أقول: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع من العطاء الذي هو مجموع من اموال الله التي من جملتها الزكاة إلي الواحد من الصحابة انصباء كثيرة كما في الحديث الصحيح انه اعطى العباس من الدراهم ما عجز عن حمله وقال لعمر لما قال له إنه يصرف عطاءه فيمن هو أفقر منه إليه: "ما جاءك من هذا المال وانت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" وهو في الصحيحين [البخاري "1473"، مسلم "1045"، وغيرهما [النسائي "2608"] ، من حديثه. وظاهر هذا الأمر انه يقبل ما جاء إليه من أموال الله وان كان انصباء متعددة وقد كان الخلفاء الراشدون ومن بعدهم يعطون الفرد من المسلمين الالوف الكثيرة وقد أخرج أحمد بإسناد صحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر لبعض من ساله بشاء كثيرة بين جبلين من شاء الصدقة، وثبت ان

النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة ابن صخر: "اذهب إلي صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها اليك" [البخاري "1936" مسلم "1111"، الترمذي "3299"] . قوله: "ولا يغني بغنى منفقة الا الطفل مع الاب". أقول: هذه دعوى مجردة ليس عليها دليل فان اثبات الغنى لشخص لا يملك ما يكون به غنيا لكون منفقه غنيا لا يناسب القواعد الشرعية. وأما قوله والعبرة بحال الاخذ فصحيح لأنه اخذ ذلك وهو مصروف له وان اغناه الله عز وجل في ذلك الوقت الذي اخذ فيه الزكاة وليس مثل هذا مما يحتاج إلي التدوين لوضوحه وظهوره. قوله: "والعامل من باشر جمعها بأمر محق". أقول: من ثبت له الولاية على الناس بالمبايعة له منهم جاز العمل له في امور الدنيا والدين لان طاعته قد صارت واجبة بالبيعة وفي هذا من الايات القرآنية والاحاديث الصحيحة ما هو معروف ومن ذلك قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وفي الحديث الصحيح [أبو دأود"4607"] : "عليكم بالطاعة وان عبدا حبشيا" الحديث. ولا يتسع المقام لبسط ما ورد في طاعة أولى الامر والنهي عن نزع الايدي من طاعتهم ما اقاموا الصلاة الا ان يظهر منهم الكفر البواح كما صرحت بذلك الاحاديث الصحيحة. فالعمل لمن صار واليا على المسلمين في الزكاة وغيرها صحيح بل واجب إذا طلب ذلك وان كان غير عادل في بعض الاحوال فيطاع في طاعة الله سبحانه ويعصى في معصيته كما صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" [أحمد "5/66"] . وقال: "إنما الطاعة في المعروف" [البخاري "7257، 4340، 7145"، مسلم "1840"، أبو دأود "2625"، أحمد 1/94"، النسائي "7/109"] ، هذا ما تقتضيه الشريعة المطهرة وهو أوضح من شمس النهار وليس بيد من خالفه شيء يصلح للتمسك به. قوله: "وله ما فرض آمره". أقول: قد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرض لمن يعمل له في الزكاة أجرة عمله كما في الصحيحين [البخاري "7163"، مسلم "112/1045"] ، وغيرهما [أبو دأود "1647"، النسائي "5/102"، أحمد "1/52"] ، من حديث بسر بن سعيد ان ابن السعدي المالكي قال استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها واديتها اليه أمر لي بعمالة فقلت انما عملت لله فقال خذ ما اعطيت فإن عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اعطيت شيئا من غير ان تسأل فكل وتصدق". وظاهر هذا انه قد فرض له ما يفيض عن أكله ويمكن التصدق منه ولا يجوز له ان يأخذ الزيادة على ما فرض له الامام أو السلطان لما أخرجه أبو دأود ["2943" بإسناد رجاله ثقات عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استعملنا على عمل فرزقناه رزقا فما اخذ بعد ذلك فهو غلول"،

وإذا لم يفرض له أجرة جاز له ان يأخذ من الزكاة بقدر عمله عليها من غير زيادة لعدم المسوغ للزيادة أما إذا كان ما فرض له آمره زائدا على مقدار عمله فإن ذلك الفرض مسوغ للزيادة لان أمر الصرف اليه وقد صرف إلي العامل المقدار الزائد على أجرته. قوله: "وتأليف كل أحد جائز للامام فقط". أقول: قد وقع منه صلى الله عليه وسلم التأليف لمن لم يخلص إسلامه من رؤساء العرب كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في اصحيح البخاري ["881، 2971" 7097"] ، وغيره انه قال: "والله إني لأعطى الرجل وأدع الرجل والذي ادع احب الي من الذي اعطى ولكني اعطى اقوأما لما ارى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل اقوأما إلي ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير". وصح عنه [مسلم "137/1060"] ، انه اعطى ابا سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعيينة بن حصن والاقرع بن حابس وعباس بن مرداس كل إنسان منهم مائة من الإبل. وثبت في صحيح مسلم انه اعطى علقمة بن علاثة مائة من الإبل ثم قال للانصار لما عتبوا عليه: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلي رحالكم" ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطى صناديد نجد ويدعنا "إنما صنعت ذلك لأتالفهم" [مسلم "143/1064"] فالتأليف شريعة ثابتة جاء بها القرآن وجعل المؤلفة احد المصارف الثمانية وجاءت بها السنة المتواترة فإذا كان إمام المسلمين محتاجا إلي التأليف لمن يخشى من ضرره على الإسلام وأهله أو يرجو ان يصلح حاله ويصير نصيرا له وللمسلمين كان ذلك جائزا له وهكذا يجوز لرب المال مع عدم الامام ان يتألف من يخشى منه الضرر على نفسه أو ماله أو على غيره من المسلمين ولأوجه لتخصيص الامام بذلك فإن المؤلفة مصرف من مصارف الزكاة ونوع من الأنواع التي جعلها الله لهم فكما يجوز لرب المال ان يضعها في مصرف من المصارف غير المؤلفة يجوز له أيضا ان يضعها في المؤلفة وهذا ظاهر واضح وأما إذا كان الامام موجودا فأمر الصرف اليه وليس للامام ان يتألف مع قوة يده وبسطة امره ونهيه ووجود من يستنصر به عند الحاجة لما عرف من ان علة التأليف الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو ما تقدم عنه. وأما قول المصنف: "ومن خالف فيما اخذ لأجهله رد" فهو صواب لأن الغرض من التأليف لم يحصل فلم يكن ذلك المؤلف مؤلفا فلا نصيب له في الزكاة. قوله: "والرقاب المكاتبون الفقراء المؤمنون". أقول: ظاهر قوله سبحانه: {وَفِي الرِّقَابِ} ان هذا النصيب من الزكاة يصرف في عتق الرقاب ولو بشرائها من ذلك النصيب وعتقها ولا يختص بالمكاتبين ولا بالمتصفين بصفة الايمان بل المراد الاتصاف بالإسلام. وأما اشتراط الفقر فلا يخفى ان المملوك لا يملك شيئا من المال ولعل مراده من لم يكن عنده من المال ما يخلص رقبته من الرق أو على القول بأن العبد يملك.

قوله: "والغارم كل مؤمن فقير". أقول: هذا مصرف من المصارف المذكورة في القرأن ولأوجه لاشتراط الفقر فيه فان القرآن لم يشترط ذلك والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه كما في حديث أبي سعيد بلفظ: "لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله"، أخرجه [ابو دأود "1636"، وابن ماجه "1841"] ، وأخرجه أيضا أحمد "3/56"، ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وابو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم ومن ذكر معه بل يعطى الغارم من الزكاة ما يقضي دينه وان كان انصباء كثيرة. وأما اشتراط كونه في غير معصية فصحيح لان الزكاة لاتصرف في معاصي الله سبحانه ولا فيمن يتقوى بها على انتهاك محارم الله عز وجل. قوله: "وسبيل الله المجاهد الفقير". أقول: قد عرفناك ان حديث أبي سعيدالمذكور قريبا فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر فيمن اشتمل عليه من جملتهم الغازي كما سبق وفي لفظ منه: "لا تحل الصدقة لغنى الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه". فالسنة قد دلت على انه يصرف إلي هذا الصنف مع الغني والقرأن لم يشترط فيه الفقر فلم يبق ما يوجب هذا الاشتراط بل هو مجرد رأي بحت فيصرف اليه ما يحتاجه في الجهاد من سلاح ونفقة وراحلة وان بلغ انصباء كثيرة لأوجه لاشتراط الايمان بل كل مسلم مصرف لذلك إذا بذل نفسه للجهاد ولا سيما إذا كان له شجاعة واقدام فإنه احق من المؤمن الضعيف. قوله: "وتصرف فضلة نصيبه لا غيره في المصالح مع غنى الفقراء". أقول: لم يرد ما يدل على اختصاص هذا الصنف بصرف فضلة نصيبه في المصالح وأما حديث ام معقل الاسدية ان زوجها جعل بكرا في سبيل الله وانها أرادت العمرة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأمر زوجها ان يعطيها وقال: "الحج والعمرة في سبيل الله" أخرجه أحمد ["6/406"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1988"، الترمذي "939"، ابن ماجة "2993"] ، وفي إسناده رجل مجهول فلا يدل على المطلوب وهو صرف فضلة نصيبه في المصالح لان النبي صلى الله عليه وسلم وسلم جعل الحج والعمرة من سبيل الله فلا يلحق بهما غيرهما من المصالح وقد روى هذا الحديث أبو دأود من طريق اخرى ليس فيها الرجل المجهول. وقد ورد في صرف فضلة نصيب الزقاب في المصالح ما هو اصرح من هذا فأخرج البيهقي في سننه الكبرى عن يزيد بن أبي حبيب ان ابا مؤمل أول مكاتب كوتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه: "اعينوا أبا مؤمل" فأعين ما أعطى كتابته وفضلت فضلة فاستفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فامره ان يجعلها في سبيل الله. قوله: "وابن السبيل" الخ.

أقول: هذا نوع من الأنواع الثمانية المذكورة في القرآن ونصيبه من الزكاة ان يعطى منها ما يرده إلي وطنه والمعتبر احتياجه في ذلك السفر وان كان غنيا في وطنه ولو امكنه القرض فان ذلك لا يجب عليه لانه قد صار مصرفا بمجرد الحاجة في ذلك المكان فيعطى حقه الذي فرض الله له وقدأخرج البخاري تعليقا وأحمد في المسند من حديث ابن لاس الخزاعي قال حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة إلي الحج وأخرجه ابن خزيمة والحاكم قال الحافظ ورجاله ثقات الا ان فيه عنعنة ابن إسحاق. ونصيب ابن السبيل من الزكاة ما يوصله إلي وطنه وان كان انصباء كثيرة وسرب عن السفر رد ما اخذ لعدم وجود السبب الذي لأجله استحق ذلك النصيب. وأما إذا فضل منه فضله بعد بلوغه إلي وطنه فالظاهر ان يصرفها في مصرف الزكاة لانه لم يبق حينئذ مصرفا. قوله: "وللامام تفضيل غير مجحف". أقول: ظاهر الآية المصرحة بمصارف الزكاة يفيد ان لكل صنف من الاصناف الثمانية نصيبا فيها وانه لا يجوز اخذ نصيب صنف لصنف آخر ويؤيد ذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال اعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء اعطيتك"، أخرجه أبو دأود ["630"] ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن انعم الافريقي وفيه مقال وقد تقدم هذا الحديث. فإذا كانت الاصناف موجودة مطالبة صرف الزكاة فيهم وجزأها بينهم وان كان بعضها احوج من بعض فضل الاحوج بما يراه لا سيما الفقراء والمجاهدين وإذا لم يوجدالا البعض صرف في الموجود وان كان صنفا واحدا ومن كان مستحقا لها من وجوه كأن يكون فقيرا غارما مجاهدا كان له من نصيب كل صنف نصيب لتعدد الاسباب الموجودة فيه لأنه يصدق عليه انه فرد من أفراد كل صنف من هذه الاصناف. قوله: "ويرد في المخرج المستحق". أقول: وجه ذلك انه قدد صار مصرفا للزكاة وذلك كان يفتقر بعدإخراجه لزكاته أو يذهب ماله لجائجة من الجوائج ولكن لا يخفى انه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت اشتريه وظننت ان يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك وان اعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه"، وهو أيضا في الصحيحين [البخاري "6/139"، مسلم "3/1621"، وغيرهما [أبو دأود "3539"، الترمذي "2132"، النشائي "6/265"، ابن ماجة "2377"] ، من حديث ابن عمر.

وهذا يدل على عدم جواز إرجاع صدقة المتصدق اليه إذا صار مصرفا للصدقة بل يعطى من غيرها من الصدقات التي تصدق بها غيره. قوله: "ويقبل قولهم في الفقر". أقول: لا وجه لتخصيص قبول القول بالفقر بل ينبغي ان يقال ويقبل قول من ادعى انه من مصارف الزكاة ويدل على هذا حديث زياد بن الحارث الصدائي المتقدم قريبا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي طلب منه ان يعطيه من الصدقة: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية اجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك". فهذا يدل على انه يقبل قول من ادعى انه أحد الاجزاء الثمانية ولا يعارض هذا ما في مسلم ["109/1044"] ، وغيره [أبو دأود "1640"، أحمد "3/477"،، 5/160"] ، من حديث قبيصة: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة" وفيه: "ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد اصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوأما من عيش" فإن هذا في جواز المسألة المحرمة بالادلة الصحيحة لافي جواز سؤال الصدقة ممن كان مصرفا للزكاة فإنه يجوز له ان يسأل ما هو حق له ولا يدخل في ادلة تحريم السؤال. قوله: "ويحرم السؤال غالبا". أقول: الاحاديث الدالة على تحريم السؤال كثيرة. فمنها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد فمن الاحاديث المقيدة حديث: "من سأل وله قيمة أوقية" [أحمد "3/7/9"، أبو دأود "1628"، النسائي "2596"] . وحديث: "من سأل وله خمسون درهما أو حسابها من الذهب" [أحمد "1/411"، أبو دأود ""1626"، الترمذي "650"، ابن ماجة 1840"، النسائي "2593"] ، وقد قدمنا هذه الاحاديث والكلام عليها. ومنها حديث: "لا تحلا المسألة الا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، أخرجه أحمد ["3/114"، وابو دأود "1641"، وغيرهما [الترمذي "1218"، ان ماجة "2198"] . ومنها حديث قبيصة المتقدم قريبا وينبغي ان يحمل المطلق على المقيد فتحرم المسألة على كل أحد لا على هؤلاء المذكورين وينبغي ان يكون الاحتراز بقوله غالبا عنهم. [فصل ولا تحل لكافر ومن له حكمه الا مؤلفا والغني والفاسق الا عاملا أو مؤلفا والهاشميين ومواليهم ما تدارجوا ولو من هاشمي ويعطى العامل والمؤلف من غيرها

والمضطر يقدم الميتة ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارة واخذ ما أعطوه مالم يظنوه إياها ولا يجزيء أحد فيمن عليه انفاقه حال الاخراج ولا في اصوله وفصوله مطلقا ويجوز لهم من غيره وفي عبد فقير ومن اعطي غير مستحق إجماعا أو في مذهبه عالما اعاد] . قوله: فصل: "ولا تحل لكافر ومن له حكمه". أقول: الآية المشتملة على مصارف الزكاة خاصة بالمسلمين ولا يدخل فيها كافر فلم تشرع الصدقة الا لمواساة من اتصف بوصف من تلك الأوصاف من المسلمين لا لمواساة أهل الكفر فإنا مأمورون بمقاتلتهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ومتعبدون بالاغلاظ عليهم وعدم موالاتهم ومحبتهم وهكذا من في حكمهم من الاطفال الذين هم في دار الكفر وأما إدراج كافر التأويل في قوله: "ولا تحل لكافر" فقد عرفناك غير مرة ان هذا الامر ناشيء عن التعصبات التي ليست من دأب أهل الايمان وان ذلك مجرد دعوى ليس عليها دليل الا مجرد القال والقيل. وأما استثناء المؤلف فما كان صلى الله عليه وسلم يتألف الا من دخل في الإسلام مع عدم رسوخه فيه. قوله: "الغني والفاسق". أقول: أما الغني فقد دلت الاحاديث الصحيحة على انه لاحظ له في الزكاة إذا لم يكن من أحد الاصناف التي قدمنا الادلة على عدم اشتراط الفقر في أهلها كما عرفت وأما الفاسق فهو من جملة المسلمين فإذا كان من أحد الاصناف المذكورة في الآية فمنعه من نصيبه ظلم له ولم يرد في الكتاب والسنة شيء يصلح للاستلال به على منعه. وأما استثناء العامل والمؤلف من الغني والفاسق فقد قدمنا انه لا يشترط الفقر في هذين الصنفين بل وفي غالب الاصناف كما عرفت. قوله: "والهاشميين". أقول: الادلة المتواترة تواترا معنويا قد دلت على تحريم الزكاة على آل محمد وتكثير المقال وتطويل الاستدلال في مثل هذا المقام لا يأتي بكثير فائدة وقد تكلم الجلال في شرحه في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له اخرى وجمع بين المتردية والنطيحة ما أكل السبع وبحثه في رسالته التي اشار اليها من جنس كلامه الذي أورده هنا وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع وهو رحمه الله من بني هاشم فلا جرم. وأما تحريمها على مواليهم فلحديث أبي ورافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رسول الله قال: "إن الصدقة لا تحل لنا وان موالي القوم من أنفسهم". أخرجه [أحمد "6/8، 9" وابو دأود "1650"، والنسائي "2612" والترمذي "657"] ، وصححه أيضا ابن خزيمة وابن حيان.

وأما قوله: "ولو من هاشمي" فهو الحق لعموم الادلة. وأما الاستدلال بما رواه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث عن العباس قال قلت يا رسول الله انك حرمت علينا صدقات الناس فهل تحل صدقات بعضنا لبعض؟ فقال: "نعم" فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته كما ذكره الذهبي في الميزان وفيهم من لا يعرف فلا يصلح للتخصيص. قوله: "ويعطى العامل والمؤلف من غيرها". أقول: أما العامل فيدل على تحريمها عليها عليه وعدم جواز قبضه للأجرة منها حديث الفضل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب انه والفضل بن العباس انطلقا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم تكلم احدنا فقال يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ونؤدي اليك ما يؤدي الناس فقال: "إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس". أخرجه [أحمد "9/77، 88"، ومسلم "1072"] ، وغيرهما [أبو دأود "2985"، النسائي "5/105"، 106"] ، فهذا فيه دليل انه لا يجوز للعامل على الزكاة من بني هاشم ان يأخذ عمالته منها فإنهما قد بينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انهما إنما يريدان ان يعملا على الزكاة ويصيبا منها ما يصيبه غيرهما من العمال فيها وهو أجرة العمال فمنع من ذلك معللا للمنع بأنها أوساخ الناس. وأما المؤلف فهو بالمنع من ان يأخذ من الزكاة أولى من العامل لان العامل إنما ياخذ أجرة على قدر عمله والمؤلف لا عمل له على الصدقة فلا يحل تأليفه منها بل يعطى من غيرها. قوله: "والمضطر يقدم الميتة". أقول: أما هذا فتشديد عظيم فإنه قد جاز للمضطر ان يتنأول ما يسد به جوعته من مال غيره فكيف بما هو من اموال الله ولا يخفى ما في أكل الميتة من القذر الذي تنفر عنه النفوس وقد لا تسيغه غالب الطبائع فهذا الذي بلغ إلي حالة الاضطرار له في اموال الله سعة والزكاة من جملتها وإذا قدر على القضاء فعل. ولا وجه لتعليل تقديم الميتة بأن دليلها قطعي فهو ان كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة وأيضا قد عرفناك ان الادلة على تحريمها على بني هاشم متواترة فهي قطعية المتن كالقرآن. قوله: "ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارات". أقول: ان كان لفظ الصدقة المذكور في الاحاديث يتنأول الفطرة والكفارات فهما كالزكاة وان كان لا يتنأولهما فلا دليل على تحريمهما وأما التعليل لتحريمهما بأنهما من أوساخ الناس فصدقة النفل هي من أوساخ الناس مع صدق اسم الصدقة عليها وقد ذكرت في شرحي للمنتقى الخلاف في تحريم صدقة النفل عليهم فليرجع اليه. قوله: "واخذ ما اعطوه ما لم يظنوه إياها".

أقول: هذا صحيح فلا يتعبد الإنسان بتحريم ما لم يعلم انه حرام ولا ظن انه حرام ولكن طريق الورع معروفة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وان قيل صدقة لم يأكل [الترمذي "656"، النسائي "2613"] ، وبه الاسوة وفيه القدوة للناس خصوصا قرابته وأهل بيته. قوله: "ولا يجزئ أحد فيمن عليه انفاق حال الاخراج". أقول: الاصل الجواز ولا يحتاج المتمسك به إلي دليل بل الدليل على المانع ولا دليل فإن تبرع القائل بالجواز بإيراد الدليل على ذلك فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما حديث المرأتين اللتين سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتجزئ الصدقة عنهما على ازواجهما وعلى أيتام في حجرهما فقال: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة"، فالظاهر ان هذه الصدقة هي صدقة الفرض ولهذا أوقع السؤال عن الاجزاء اذ صدقة النفل على الرحم مجزئة وأيضا ترك الاستفصال منه صلى الله عليه وسلم يدل على انه لا فرق في هذا الحكم بين صدقة الفرض والنفل. وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد انه صلى الله عليه وآله وسلم قال لزينب امرأة عبد الله بن مسعود لما سألته عن الصدقة: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم"، فعلى تسليم الاحتمال في هذا الحديث يكون ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم دليلا على انه لا فرق بين صدقة الفرض والنفل وهكذا ما أخرجه البخاري وغيره عن معن بن يزيد قال أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فقال والله ما إياك اردت فجئته فخاصمته إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما اخذت يا معن". ولم يقع منه صلى الله عليه وسلم الاستفصال هل هي صدقة فرض أو نفل ويؤيد هذا ما ورد من الترغيب في الصدقة على ذوي الارحام كحديث أبي ايوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". أخرجه أحمد ["5/416"] ، وأخرج مثله أيضا من حديث حكيم بن حزام. وأخرج أحمد ["4/17، 18، 214"، والترمذي "658"] ، وحسنه وابن ماجه والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة"، وفي الباب عن أبي طلحة وأبي امامة ولفظ الصدقة يشمل صدقة الفرض كما يشمل صدقة النفل. ولا يصلح لمعارضة هذا ما روى عن بعض الصحابة اجتهادا منه وأما دعوى من ادعى الاجماع على منع صرف الزكاة في الاصول والفصول فتلك احدى الدعأوي التي لا صحة لها والمخالف موجود والدليل قائم. وأما قوله: "ويجوز لهم من غيره" فلا حاجة اليه لان الجواز معلوم وهم لا يغنون بغناه وهكذا قوله: "وفي عبد فقير" لا حاجة اليه لان العبد ان كان يملك فهو كسائر المصارف من المسلمين وان كان لا يملك فإعطاؤه لسيده والاعتبار بحال السيد.

قوله: "ومن اعطى غير مستحق إجماعا" الخ. أقول: ان كان عالما بانه غير مصرف للزكاة فقد وضع ماله في مضيعة وتجب عليه الاعادة على كل حال وأما إذا لم يعلم وانكشف من بعدانه غير مصرف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة: "أن رجلا تصدق بصدقة فوقعت في يد سارق فاصبح الناس يتحدثون بأنه تصدق على سارق فقال: اللهم لك الحمد على سارق لاتصدقن بصدقة فتصدق فوقعت في يد زانيه فأصبح الناس يتحدثون تصدق على زانية فقال: اللهم لك الحمد على زانية لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غنى فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال: اللهم لك الحمد على غني فقيل: أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف من زناها ولعل السارق يستعف عن سرقته ولعل الغنى ان يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل". هكذا حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل وفيه ما يدل على قبول الصدقة إذا وقعت في غير مصرف لها مع الجهل بأنه غير مصرف وظاهر الصدقة المذكورة اعم من ان يكون فريضة أو نافلة وقداختلف أهل العلم في الاجزاء إذا كانت الصدقة فريضة قال في فتح الباري فإن قيل ان الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن اين يقع تعميم الحكم فالجواب ان التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم فيقتضى ارتباط القبول بهذه الاسباب انتهى. [فصل وولايتها إلي الامام ظاهرة وباطنة حيث تنفذ أوامره فمن أخرج بعدالطلب لم تجزه ولو جأهلا ويحلف للتهمة ويبين مدعي التفريق وانه قبل الطلب والنقص بعدالخرص وعليه الايصال ان طلب ويضمن بعدالعزل الا باذن الامام أو من اذن له بالاذن وتكفي التخلية إلي المصدق فقط ولا يقبل العامل هديتهم ولا ينزل عليهم وان رضوأ ولا يبتع أحد ما لم يعشر أو يخمس ومن فعل رجع على البائع بما ياخذه المصدق فقط فنية المصدق والامام تكفي لا غيرهما] . قوله: فصل: "وولايتها إلي الامام ظاهرة وباطنة". أقول: أمر الزكاة قد كان إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا شبهة وكا يبعث السعادة لقبضها ويأمر من عليهم الزكاة بدفعها اليهم وإرضائهم واحتمال معرتهم وطاعتهم ولا يسمع في أيام النبوة ان رجلا أو أهل قرية صرفوا زكاتهم بغير اذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر لايجحده من له ادنى معرفة بالسيرة النبوية وبالسنة المطهرة.

وقد انضم إلي التوعد على الترك والمعاقبة بأخذ شطر المال وعدم الاذن لأرباب الاموال بأن يكتموا بعض اموالهم من الذين يقبضون منهم الصدقة بعد ان ذكروا له انهم يعتدون عليهم ولو كان اليهم صرف زكاة اموالهم لأذن لهم في ذلك. وأيضا جعل الله سبحانه للعامل على الزكاة جزءا منها في الكتاب العزيز فالقول بأن ولايتها إلي ربها يسقط مصرفا من مصارفها صرح الله سبحانه به في كتابه. وأما المعارضة لهذا الامر الذي هو أوضح من شمس النهار بأن خالد بن الوليد حبس ادراعه واعتاده في سبيل الله فهذا على تقدير ان حبسها عن الزكاة لا يكون منه الا باذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا صار ذلك معلوما عندالنبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم ان خالدا لا يأخذ جواز هذا التحبيس وإجزاءه عن الزكاة الا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لان مثل ذلك لا يعلم الا من الشرع والاذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرب المال بالصرف في حكم القبض للزكاة منه وأما على تقدير ان المراد بقوله انه قد حبس ادراعه واعتاده في سبيل الله ان من كان هذا فعله في التقرب إلي الله سبحانه بوقف اخص املاكه واحبها اليه مع مزيد حاجته اليها يبعد عنه ان يمنع الزكاة فلا دلالة له على مراد القائل بالمعارضة. وأما ابن جميل الذي قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه قدمنع من دفع الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل الا انه كان فقيرا فأغناه الله" فليس فيه ما يعارض ما تقدم فإن هذا الذم له فيه اعظم دلالة على تحريم ما وقع منه من المنع وليس فيه انه صرفها إلي مصارفها وقرره صلى الله عليه وسلم على ذلك. وهكذا المعارضة بقضية ثعلبة بن حاطب لا وجه لها فإن ذلك رجل اخبر الله سبحانه انه اعقبه نفاقا في قلبه ولهذا امتنع صلى الله عليه وسلم من قبضها منه لما جاء بها بعد ذلك وكذلك امتنع من قبضها منه الخلفاء الراشدون. والحاصل انه ليس في المقام ما يدل على ان أمر الزكاة إلي ارباها في زمن النبوة قط وبه يندفع جميع ما ذكره الجلال في شرحه هاهنا فإنه لم يأت بشيء بعتد به في المعارضة. وإذا تقرر هذا فقد ثبت ان ما كان امره إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلي الائمة من بعده ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون بعدي اثرة وامور تنكرونها" قالوا: يا رسول فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم". وأخرج مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يساله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم فقال: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" وفي الباب احاديث. وإذا عرفت هذا علمت ان الدفع إلي الامام واجب لجميع أنواع الصدقات الا ان يأذن لرب المال بالصرف جاز له ذلك وأما تغيير ذلك بكونه نافذ الامر والنهي في البلد التي فيها رب

المال فوجهه انها من جملة اموال الله التي تصرف في المصارف التي من جملتها الدفع عن البلاد والعبادة فإذا كان الامام لا ينفذ له أمر في تلك الجهة كان عاجزا عن هذا ولكنه إذا كان صحيح الولاية وقد بايعه من يعتد به من السملمين كانت طاعته واجبة على من بلغته دعوته ومن جملة الطاعة النصرة له وفدع ما أمره اليه وعليه ان يقوم بحماية أهل تلك الجهة ودفع عدوهم عنهم بما تبلغ اليه طاقته ثم هو لا يعجز عن ان يأخذ الزكاة من اغنياء تلك الجهة ويصرفها في فقرائهم كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "فمن أخرج بعدالطلب لم تجزئه ولو جاهلا" فلا وجه له بعدان أوضحنا لك أن أمرها إلي الامام بتلك الادلة بل من أخرج إلي غيره بغير إذنه لم تجزئه وفي حكم الاذن منه ما هو معلوم من كثير من الائمة من تفويض أهل العلم والصلاح بصرف زكاتهم في مصارفها وصار ذلك كا العادة لهم فإن هذا بمنزلة الاذن لهم وان لم يقع الاذن صريحا. وأما قوله: "يحلف للتهمة" فهذا صواب لان الامام نائب عن الله في استيفاء حقوقه فله تحليف من يتهمه بكتم البعض منها. وأما قوله: "ويبين مدعي التفريق" الخ فقد عرفت انه لا يشترط الطلب. قوله: "والنقص بعدا لخرص". أقول: وعلى الخارص ان يدع الثلث أو الربع كما في حديث سهل بن أبي حثمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه وإنما يحتاج رب المال إلي البينة على النقص بعدالخرص إذا كان السبب خفيا أما إذا كان ظاهرا كأن يقع في الثمرة جائحة فالقول قوله إذا ادعى نقصا يعتاد مثله في تلك الجائحة. قوله: "وعليه الايصال ان طلب". أقول: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل النخل والعنب انه كا يبعث من يخرص ذلك كما وردت به الاحاديث ولم يأت البيان عن كيفية حمل ذلك إلي النبي هل كان السعادة هم الذين يوصلونه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يوصله ارباب الاموال وإذا رجعنا إلي الادلة الدالة على ان أرباب الاموال هم المخاطبون بتسليمها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعها اليه كان الستليم المطلوب منهم متوقفا على إيصالهم لها اليه. قوله: "ويضمن بعدالعزل" الخ. أقول: لا تأثير لمجردالعزل في الضمان ولا لعدمه في عدمه بل إذا حصد المالك ملكه وقبض ذلك واحرز فإن تلف بعد هذا بتفريط منه مع قدرته على حفظه ضمن زكاة قدر ما تلف وان تلف بأمر غالب ولم يقع منه التفريط فلا ضمان عليه ولا فرق بين عزل قدر الزكاة أو بقائها بين ما هي زكاة له فإن العزل وصف طردى لا تأثير له في الضمان.

وأما قوله: "ويكفى التخلية إلي المصدق فقط" فلا وجه لتخصيص ذلك بالمصدق فإن من قال بوجوب الايصال بوجبه إلي الامام وإلي من ينوب عنه وهم السعادة وإلي الفقير أيضا وسائر المصارف إذا اذن الامام لرب المال بالصرف اليهم ومن لم يقل بوجوبه كانت التخلية إلي الجميع كافية. قوله: "ولا يقبل العامل هديتهم". أقول: الاستدلال على هذا بحديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين وغيرهما قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الازد يقال له: ابن اللتبية فلما قدم قال: هذا لكم وهذا اهدى الي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فاني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا ياخذ احدكم شيئا بغير حقه الا لقي الله تعالي بحمله يوم القيامة". لا يصلح لمنع العامل من قبول الهدية وإنما هو إنكار عليه في تخصيص نفسه بشيء منها لآنها إنما اهديت له لكونه عاملا على الزكاة لا لشيء يرجع اليه نفسه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم. فالحاصل ان هذا الحديث يستفاد منه عدم جواز اختصاص العامل بشيء مما يهدي اليه وأما عدم جواز قبوله للهدية فمأخوذ من ادلة اخرى غير هذا الحديث وقد قدمنا حديث: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما اخذ بعد ذلك فهو غلول" ولا سيما إذا كان المقصود بها الرشوة له والتوصل بها إلي مسامحتهم في بعض ما يجب عليهم. قوله: "ولا ينزل عليهم". أقول: قد كان السعاة في زمن النبوة ينزلون عليهم إلي ديارهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أرباب الاموال بارضائهم والاحسان اليهم كما اشتملت على ذلك الاحاديث الكثيرة فلا وجه للمنع نعم إذا امتنع ارباب الاموال من ضيافتهم أو جأوزوا القدر الذي تكون فيه الضيافة أكلوا من الزكاة كما انها تكون عمالتهم منها. قوله: "ولا يبتع أحد ما لم يعشر أو يخمس". أقول: لقد قدمنا ان الزكاة واجبة من العين وانه لا يجوز العدول إلي الجنس الا مع عدم العين ولا يجوز العدول إلي القيمة الا مع عد الجنس فالقدر الذي لا يجوز بيعه هو الزكاة لا المال المزكى الذي لم يخرج زكاته فإنه لا بأس ببيعه حتى يبقى منه قدر الزكاة فإذا بقي منه قدرها حرم بيعها فلا وجه للمنع من بيع الكل. وأما الفرق بين ما اخذه المصدق وغيره في رجوع المشترى على البائع فمن غرائب الراي التي لا ترجع إلي معقول ولا منقول.

[فصل فإن لم يكن إمام فرقها المالك المرشد وولى غيره بالنية ولو في نفسه لا غيرهما فيضمن الا وكيلا ولا يصرف في نفسه الا مفوضا ولانية عليه ولا تلحقها الاجازة لكن يسقط الضمان وذو الولاية يعمل باجتهاده الا فيما عين له ولا يجوز التحيل لاسقاطها وأخذها ونحوها غالبا ولا الابراء والضيافة بنيتها ولا اعتداد بما اخذه الظالم غصبا وان وضعه في موضعه ولا يخمس ظنه الفرض] . قوله: فصل: "فإن لم يكن امام فرقها المالك المرشد" الخ. أقول: هذا معلوم لا يحتاج إلي التدوين فإن عدم الامام يوجب عدم ثبوت الحق عليهم الذي للامام لان ذلك إنما يكون لامام مووجود لا لإمام مفقود والزكاة فريضة من فرائض الشرع وركن من أركان الإسلام يجب على من هي عليه التخلص عنها بدفعها إلي الامام أو باذنه أو إلي من جعله الله مصرفا لها مع عدم الامام. وأما كون ولي الصبي والمجنون هو الذي يخرج زكاتهما فلكونهما لا يصلحان للاخراج فينوب عنهما الولي كما ينوب عنهما في غير الزكاة وقد صرح القرأن الكريم بأنه يمل عمن لا يقدر علىان يمل وليه وما ذكره من انه يجوز له ان يصرف في نفسه فذلك صحيح لآنه ليس بمالك بل متصرف عن المالك وهكذا الوكيل له إخراج زكاة الموكل له وصرفها في نفسه مع التفويض إذا كا مصرفا وقد قدمنا الكلام على زكاة الصبي والمجنون بما فيه كفاية ولا وجه لقوله ولا يلحقها الاجازة لان النية تصح متقدمة ومتأخرة ومقارنة لعدم ورود ما يمنع من ذلك فيجزئ المالك ويسقط الضمان على الذي أخرجها بغير أمر منه. وأما كون ذي الولاية يعمل باجتهاده فلتعذر وقوع ذلك من الصبي والمجنون الا فيما عين له فإنه يكون كالحاكم لنفسه فلا يعمل باجتهاد نفسه. قوله: "ولا يجوز التحيل لاسقاطها واخذها ونحوها غالبا". أقول: هذا التحيل لاسقاط فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركان الدين هو شبيه بحيلة اصحاب السبت ولا شك ولا ريب انه ضد للشريعة المطهرة ومعاندة لما فرضه الله على عباده فهو من الحرام البين الذي نهى الله عنه ونعاه على من قعله وليس من المشتبهات كما قاله الامير في حاشيته وهكذا التحيل لأخذ ما حرمه الله على العبد هو أيضا من الحرام البين. والحاصل ان كل حيلة تنصب لاسقاط ما أوجبه الله أو تحليل ما حرمه فهي باطلة لا يحل لمسلم ان يفعلها ولا يجوز تقرير فاعلها عليها ويجب الانكار عليه لانه منكر وأما إذا كانت للخروج من مأثم كما في قوله تعالي: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] ، وكما ورد في حد المريض في زمنه صلى الله عليه وسلم يعثكول من النخل فذلك جائز وهو من الحلال البين وبين الامرين من التفأوت ما بين السماء والارض.

قوله: "ولا الابراء والاضافة بنيتها". أقول: أما الابراء فقد قدمنا ان الزكاة تجب من العين فإذا لم تكن العين موجودة جاز إخراج الجنس ثم القيمة فهذا الذي جعل الدين الذي له على الفقير من الزكاة الواجبة عليه ان كانت العين موجودة لديه صرفها إلي الفقير وردها الفقير اليه قضاء عن دينه وان لم تكن موجودة لديه كان الابراء للفقير في حكم التسليم اليه ولا مانع من ذلك ومن ادعى ان ثم مانعا فعليه الدليل. وأما الاضافة للفقير فإن كان ذلك بعين الزكاة فلا شك في جوازه وهكذا ان كان بجنسها مع عدم العين ومن ادعى ان ثم مانعا فعليه الدليل وأما التعليل بالعلل الفرعية من كون الزكاة تمليكا وكون النية لا بد ان تكون مقارنة فليس ذلك مما تقوم به الحجة بل هو في نفسه عليل. قوله: "ولا اعتداد بما اخذه الظالم غصبا وان وضعه في موضعه". أقول: هذه المسألة قد أوضح الامر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه لامته كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري: "7052", مسلم: "45/1843"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها"، فقالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم". وأخرج مسلم ["1846"] وغيره [الترمذي "2199"] من حديث وائل بن حجر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال أرأيت ان كان علينا امراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم قال: "اسمعوا واطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"، وفي الباب أحاديث واثار كثيرة عن جماعة من الصحابة وقد جعل الله أمر الزكاة إلي الائمة عدلوا أو جاروا فرب المال قد أوجب الله عليه الدفع اليهم لان ذلك هو من الحق الذي لهم ومن تمام الطاعة الثابتة في الكتاب والسنة المتواترة فالقول بعدم الاعتداد هو مجرد شك ووسوسة اقتضى ذلك عدم الاشتغال بعلم السنة وقد قدمنا ذكر الادلة الدالة على وجوب الدفع للزكاة إلي السعاة وان جاروا وظلموا وحصول البراءة بالتسليم اليهم. وأما قوله: "ولا بخمس ظنه الفرض" فلا وجه له لأنه قد أخرج الواجب وزيادة عليه نأويا به الزكاة فوقع قدر الزكاة عنها والزائد إذا أراد استرجاعه فله ذلك لانه إنما أخرجه معتقدا لوجوبه عليه فانكشف خلافه. [فصل ولغير الوصي والولي التعجيل بنيتها الا عما لم يملك وعن معشر قبل إدراكه وعن سائمة وحملها وهو إلي الفقير تمليك فلا يكمل بها النصاب ولا يردها ان انكشف النقص

الا لشرط والعكس في المصدق ويتبعها الفرع فيهما ان لم يتمم به وتكره في غير فقراء البلد غالبا] . قوله: فصل: "ولغيرالولي والوصي التعجيل بنيتها". أقول: قد دل على ذلك حديث على ان العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك أخرجه أحمد ["1/104"] وأهل السنن [أبو داود "1624", الترمذي "678", ابن ماجه "1795"] والحاكم والدارقطني والبيهقي وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وليس ذلك بقادح في الاحتجاج به ولا ينافي هذا ما ورد في وجوب الزكاة من العين لان الجمع ممكن بحمل حديث التعجيل على انه أخرج زكاته من العين التي ستجب عليه عند كمال الحول. ومن ادلة جواز التعجيل ما أخرجه البيهقي عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن كنا احتجنا فاستلفنا من العباس صدقة عامين" قال ابن حجر ورجاله ثقات الا انه فيه انقطاعا وأخرج أبو دأودالطيالسي من حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول". وأما قوله: "إلا عما لايملك وعن معشر قبل إدراكه" فهو صواب لما قدمنا من ان الزكاة تجب من العين وذلك المعجل قدملكه الفقير ان انكشف ان الزكاة واجبة على المالك والا رده كما اشار اليه المصنف ولا وجه لقوله والعكس في المصدق وهكذا الفرع له حكم الاصل في الرد وعدمه ولا يتمم به النصاب لما قدمنا في قوله وحول الفرع حول اصله. قوله: "وتكره في غير فقراء البلد غاليا" أقول: الاحاديث الصحيحة قد دلت على ان الزكاة تؤخذ من الاغنياء في البلد وترد في الفقراء منهم ولا ينافي ذلك انه كان السعاة يحملون اليه من الزكوات التي يقبضونها فإن مصارف الزكاة ثمانية والرد في فقراء البلد إنما هو لسهم الفقراء ومن الزكاة لا لغيره على انه لا ينافي الرد في فقراء البلد حمل بعض نصيبهم إلي النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك قد يكون لاستغناء فقراء البلد بصرف بعض نصيب الفقراء فيهم وقد يكونون اغنياء وقد لا يوجد فيهم من يستحق الصرف فيه. وبما ذكرناه تعرف الجمع بين الاحاديث ويتضح عدم التعارض بينها.

باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب

[باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب في مال كل مسلم عنه وعن كل مسلم لزمته فيه نفقته بالقرابة أو الزوجية أو الرق أو انكشف ملكه فيه ولو غائبا وإنما تضيق متى

رجع الا المأيوس وعلى الشريك حصته وإنما تلزم من ملك فيه له ولكل واحد قوت عشر غيرها فإن ملك له ولصنف فالولد ثم الزوجة ثم العبد لا لبعض صنف فتسقط ولا على المشتري وتحوه مما قد لزمته وهي صاع من أي قوت عن كل واحد من جنس واحد الا لاشتراك أو تقويم وانما تجزئ القيمة للعذر وهي كالزكاة في الولاية والمصرف غالبا فتجزئ واحدة في جماعة والعكس والتعجيل بعد لزوم الشخص وتسقط عن المكاتب قيل حتى يرق أو يعتق والمنفق من بيت المال وبأخراج الزوجة عن نفسها وبنشوزها أول النهار موسرة ويلزمها ان اعسر أو تمرد. وندب التبكير والعزل حيث لا مستحق والترتيب بين الافطار والاخراج والصلاة] . قوله: "باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب". أقول: قد ثبت في الاحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر وفي الاحاديث الخارجة عن الصحيحين بلفظ: "صدقة الفطر واجبة على كل مسلم" وفي بعض أحاديث الصحيحين بلفظ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر فوجوبها لا شك فيه ولا شبهة ولا يقدح في ذلك ما أخرجه النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل ان تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله فإن في إسناده رأويا مجولا فلا تقوم به الحجة وعلى التسليم فلا دليل فيه على النسخ لان الامر الأول يكفى ولا يحتاج إلي تجديد. وقد نقل ابن المنذر وغيره الاجماع على وجوب صدقة الفطر قال في الفتح وفي نقل الاجماع نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الاصم قالا ان وجوبها نسخ انتهى ولا يخفاك انهما ليسا ممن يتكلم في النسخ ولا يعتد بقولهما ولكنه قد روى عن اشهب انها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية والادلة الصحيحة ترد عليهم وتدفع قولهم. وأما كون وقت الوجوب من فجر أول شوال إلي الغروب فحديث ابن عباس قال "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فن اداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن اداها بعدالصلاة فهي صدقة من الصدقات" أخرجه أبو دأود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه يدل على انها لا تكون بعد الصلاة زكاة فطر بل صدقة من صدقات التطوع والكلام في زكاة الفطر فلا تجزئ بعدالصلاة وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امر بزكاة الفطر ان تؤدى قبل خروج الناس إلي الصلاة". قوله: "وفي مال كل مسلم عنه وعن كل مسلم لزمته فيه نفقته بالقرابة أو الزوجية أو الرق".

أقول: هذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والانثى والصغير والكبير من المسلمين". وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما قال كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من من تمر أو صاعا من اقط أو صاعا من زبيب. وأما إيجاب الاخراج على من لزمته النفقة فذلك ظاهر في العبد وأما الصبي فيخرج عنه وليه من مال الصبي وكذا المجنون وأما الزوجة فتخرج من مالها إذا كان لها مال فإن لم يكن لها ولا للصبي ولا المجنون مال فالظاهر عدم الوجوب وأما الغريب الكبير الذي ينفقه قريبة فلا وجه لايجاب ذلك على من ينفقه وأما ما روى بلفظ: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون". أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا وأخرجه البيهقي من حديث علي ففي إسنادهما مقال ولا تقوم بذلك حجة. ويقوى ما ذكرناه في العبد حديث أبي هريرة مرفوعا: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة الا صدقة الفطر" أخرجه مسلم وهو في البخاري بدون الاستثناء. قوله: "وإنما تلزم من ملك له ولكل واحد قوت عشر غيرها". أقول: هذا التقرير يقوت عشر مجرد رأي محض لا دليل عليه وظاهر الاحاديث الواردة بأن زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين وهكذا مأورد من الامر بإغناء الفقراء في هذا اليوم يدلان على ان المعتبر وجود وقت هذا اليوم فمن وجده ووجد زيادة عليه أخرجها عن الفطرة ومن لم يجد الا قوت اليوم فلا فطرة عليه لانه إذا أخرجها احتاج للنفقة في هذا اليوم وصار مصرفا للفطرة. وإذا صح ما ورد من ايجابها على الغني والفقير قد عرفت ما هو الغنى فيما تقدم وعرفت ان الفقير من لا يجد ما يجده الغنى فايجاب الفطرة على الفقير لايستلزم ان يخرج قوت يومه. وأما قوله: "فإن ملك له ولصنف فالولد" الخ فقد عرفت مما تقدم انه لم يتقرر وجوب إخراج الفطرة الا عن العبد للحديث الصحيح الوارد بذلك. وأما ما ورد من تقديم النفس ثم الأهل كما في حديث جابر عند مسلم وما ورد من تقديم النفس ثم الولد ثم الزوجة ثم الخادم كما في حديث أبي هريرة عندا حمد وأبي دأود والنسائي وابن حبان والحاكم فذلك في النفقة لا في الفطرة فالتقديم في النفقة يكون هكذا وأما في الفطرة فلا بد

من دليل يدل على الوجوب ولا دليل الا في العبد ولم ينتهض حديث "ممن تمونون" للحجية كما قدمنا. وأما قوله: "لا لبعض صنف فتسقط" فالمناسب لتفريع المصنف ان تجب عليه الفطرة لمن ملك له قوت عشر من ذلك الصنف وأما جعل ذلك كعدم كمال النصاب فخارج عن البحث لا جامع بينه وبين ما نحن بصدده. وأما قوله ولا تجب على المشتري ونحوه ممن قد لزمته فوجه ذلك ان الوجوب قد ثبت على الأول. قوله: "وهي صاع من أي قوت". أقول: قد ذكرت في شرحي للمنتقى ان الاحاديث الواردة بأن الفطرة نصف صاع من الحنطة تنتهض بمجموعها للتخصيص وذكرت الكلام علىما ذكره أبو سعيد فليرجع اليه وقد ذهب إلي ذلك جماعة من الصحابة منهم عثمان وعلي وابو هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وامه اسماء بنت أبي بكر كما حكى ذلك عنهم ابن المنذر قال ابن حجر باسانيد صحيحة. قوله: "وإنما تجزئ القيمة للعذر". أقول: هذا صحيح لان ظاهر الاحاديث الواردة بتعيين قدر الفطرة من الاطعمة ان إخراج ذلك مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم متعين وإذا عرض مانع من إخراج العين كانت القيمة مجزئة لان ذلك هو الذي يمكن من عليه الفطرة ولا يجب عليه مالا يدخل تحت إمكانه. قوله: "وهي كالزكاة في الولاية والمصرف". أقول: هذه زكاة خاصة لطهرة الصائم من اللغو والرفث ولإغناء الفقراء في ذلك اليوم فمصرفه الفقراء والولاية في الصرف لمن عليه الفطرة ولم يرد ما يدل على ان الولاية للامام ولا يصح التمسك بعموم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية والا لزم ان صدقة المتطوع يكون مصرفها الثمانية الاصناف وان الولاية فيها للإمام ولا قائل بذلك. أما قوله: "فتجزئ واحدة في جماعة والعكس" فذلك صحيح لآن الولاية له فيتحرى في الصرف ما هو الاقرب إلي سد فاقة الفقراء من غير ان يفرقها تفريقا لا ينفع. قوله: "ويجزئ التعجيل بعد لزوم الشخص". أقول: جعلها ظهرة للصائم من اللغو والرفث وكذلك التصريح باغناء الفقراء في ذلك اليوم وكذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر ان تؤدى قبل خروج الناس إلي الصلاة يدل على ان وقتها يوم الفطر قبل الخروج إلي صلاة العيد ولكنه روى البخاري وغيره من حديث ابن عمر انهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين فيقتصر على هذا القدر في التعجيل وقد حكى الامام يحيى إجماع السلف على جواز التعجيل فيحمل هذا الاجماع على

هذا القدر من التعجيل وهو يستفاد من حديث: "من أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة" فإن المراد القبلية القريبة لا القبلية البعيدة التي تنافي حديث: "إنها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين". [أبو دأود "1609"، ابن ماجة "1827". وأما قوله: "وتسقط عن المكاتب" فصحيح لانه قد صار متصفا بصفة هي متوسطة بين الحر والعبد فلم يكن حرا خالصا ولا عبدا خالصا ولم يرد النص الا في فطرة العبد كما تقدم. وأما قوله: "والمنفق عليه من بيت المال" فلا وجه للسقوط بل هو كغيره من المسلمين إن وجد زيادة على كفاية يومه أخرجها وان لم يجد الزيادة فلا فطرة عليه ولا تأثير لكونه منفقا عليه من بيت المال. وأما ما ذكره من سقوطها عن الزوجة باخراجها عن نفسها وبنشوزها فقد عرفت ان فطرتها واجبة عليها لاعلى زوجها. وأما قوله: "والعزل حيث لا مستحق" فذلك غاية ما يقدر عليه مع عدم المصرف. قوله: "وندب التبكير" أقول: ان أراد بالتبكير انها تجزئ قبل الخروج إلي الصلاة فذلك واجب ولا تكون فطرة الا إذا أخرجها في ذلك الوقت كما تقدم وان أراد الزيادة في التبكير حتى يكون إخراجها مثلا بعد فجر يوم الفطر فلا دليل على ذلك. قوله: "وندب الترتيب بين الافطار والاخراج والصلاة". أقول: الوارد عنه صلى الله عليه وسلم أخراج الفطرة قبل الخروج إلي الصلاة وتنأول شيء يفطر به قبل الخروج إلي الصلاة فإذا فعل ذلك فعل المشروع سواء قدم الافطار على اخراج الفطرة أو اخره عليه.

كتاب الخمس

كتاب الخمس [فصل يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن وكنز ليس لقطة ودرة وعنبر ومسك ونحل وحطب وحشيش لم يغرسا ولو من ملكه أو ملك الغير وعسل مباح.

الثاني: ما يغنم في الحرب ولو غير منقول ان قسم الا مأكولا له ولدابته لم يقبض منه ولا تعدى كفايتهما أيام الحرب. الثالث: الخراج والمعاملة وما يؤخذ من أهل الذمة] . قوله: "كتاب الخمس يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر". أقول: اعلم ان هذه الشريعة المطهرة وردت بعصمة اموال العباد وانه لايحل شيء منها الا بطيبة من انفسهم وان خلاف ذلك من أكل اموال الناس بالباطل وقد ثبت في الكتاب والسنة ان الله سبحانه احل لعباده صيد البر والبحر فما صادوه منهما فهو حلال لهم داخل في املاكهم كسائر ما احل الله لهم فمن زعم ان عليهم في هذا الصيد الحلال خمسة أو اقل أو اكثر لم يقبل منه ذلك الا بدليل يصلح لتخصيص الادلة القاضية بعصمة اموال الناس وينقل عن الاصل المعلوم بالضرورة الشرعية ولم يكن ها هنا دليل قط بل ايجاب ذلك سببه توهم دخول الصيد تحت عموم قوله تعالي: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ، وهو توهم فاسد وتخيل مختل. قوله: "وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن". أقول: قد ثبت حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جرحها جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس" وهو يدل على وجوب الخمس في الركاز ولكنه اختلف في تفسير الركاز فقال مالك والشافعي انه دفن الجأهلية وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما ان المعدن ركاز وخصص الشافعي الركاز بالذهب والفضة وقال الجمهور لا يختص الركاز بهما واختاره ابن المنذر وهذا مبحث لغوي يرجع فيه إلي تفسيره عند أهل اللغة لانه لم تثبت فيه حقيقة شرعية فقال في الصحاح والركاز دفن الجأهلية كأنه ركز في الارض ركزا انتهى فهذا يقتضي انه خاص بدفن الجأهلية وأما صاحب القاموس فقال في الركاز ما ركزه الله تعالي في المعادن أي احدثه ودفين أهل الجأهلية وقطع الفضة والذهب من المعدن انتهى. وظاهر هذا ان ما خلقه الله في المعادن فهو ركاز وان كان من غير الذهب والفضة وان ما يوجد في معادن الذهب والفضة من قطع الذهب والفضة ركاز. وقال صاحب النهاية ان الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجأهلية المدفونة في الارض وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملهما اللغة لان كلا منهما مركوز في الارض أي ثابت ثم قال والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجأهلي انتهى. فهذا تصريح منه بأن الحديث إنما ورد في الكنز الجأهلي وقد اتفق عليه أهل اللغة ويقصر عليه لانه مدلول الحديث ببقين وما عداه فهو محتمل فلا يحمل الحديث عليه وان كان له مدخل في الاشتقاق فلا يجب الخمس الا في دفين الجأهلية ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود والنسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل في كنز وجده في خربة: "إن وجدته في خربة جأهلية أو قرية

غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس وان وجدته في قرية مسكونة أو طريق ميتاء فعرفه". وإذا تقرر لك هذا الحديث عرفت انه لا وجه لايجاب الخمس فيما استخرج من البحر من الجواهر ونحوها ولا فيما استخرج من الارض من المعادن ونحوها بل في الكنز الذي هو من كنز الجأهلية فقط وعلى تقدير ان الركاز يتنأول زيادة على دفين الجأهلية وسلمنا الاحتجاج بالمحتمل فلا يشمل زيادة على معدن الذهب والفضة. وبهذا يتضح لك انه لا خمس فيما ذكره المصنف من الدرة والعنبر والمسك والنحل والحطب والحشيش والعسل. قوله: "والثاني ما يغنم في الحرب". أقول: هذا أمر متفق عليه كما حكاه القرطبي قال اتفقوا على ان المراد بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] . مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون وقد حكى هذا الاجماع غيره من أهل العلم والادلة من الكتاب والسنة فيه أوضح من كل واضح واجلى من كل جلي وأما حرب بغاة السملمين فقد وردت الادلة الصحيحة بعصمة اموالهم بكلمة الإسلام والقيام بأركانه فلا يحل من اموالهم الا ما دل الدليل الناقل عن تلك العصمة عليه فمن جاء به صافيا عن شوب الكدر فبها ونعمت ومن عجز عن ذلك وقف حيث أوقفه الله وكف يده ولسانه وقلمه عن الكلام فيما ليس من شأنه ولا اذن الله له به. ولا فرق في المغنوم من الكفار بين الاراضي وغيرها وأما استثناء المأكول فلا بد فيه من دليل يصلح لاخراجه من عموم الغنائم ولا يصلح لذلك ما روى انهم كانوا يأكلون ما يكفيهم من طعام ونحوه لاحتمال ان يكون ذلك بعدالقسمة أو انه محسوب عليهم من نصيبهم من الغنيمة وفي حديث الجراب الشحم المغنوم في خيبر ما يرشد إلي ما ذكرناه وهو ثابت في الصحيح [البخاري "7/481"، مسلم "72/1772"] . قوله: "الثالث الخراج والمعاملة وما يؤخذ من أهل الذمة". أقول: أما الخراج والمعاملة فأرضهما هي من الارض المغنومة من الكفار وفيها الخمس لانها المغنومة وأما ما يؤخذ منها من خراج أو معاملة فأمر وراء الغنيمة لان تلك الارض بعد تخميسها أما ان تقسم على السملمين ولكل واحد منهم ان يدعها في يد أهلها على خراج يؤدونه أو معاملة وذلك هو فائدة ارضه التي دخلت في ملكه كما يدخل في ملكه بالشراء والميراث وله ان يدعها في يد أهلها ويتصرف بها بما شاء من بيع أو غيره. وأما إذا لم تقسم تلك الارض ورضى الغانمون بأن يشتركوا فيما حصل من غلتها فليس عليهم في ذلك خمس لان الخمس قد وجب في أصل الارض. وأما الجزية وسائر ما يؤخذ من أهل الذمة فعدم الخمس فيها معلوم لانها موضوعة على أهل الذمة إلي مقابل تأمينهم وعصمة اموالهم ودمائهم وليست من الغنيمة التي تغنم في الحرب. والحاصل ان ايجاب الخمس في هذه الثلاثة الأنواع لم يكن لدليل ولا لرأي مستقيم.

وإذا تقرر لك هذا عرفت انه لا يجب الخمس الا في الغنيمة من الكفار وفي الركاز وما عدا ذلك فليس الا مجرد دعأوى لا برهان عليها من معقول ولا منقول. [فصل ومصرفه من في الآية فسهم الله للمصالح وسهم الرسول للامام ان كان والا فمع سهم الله وأولو القربى هم الهاشميون المحقون وهم فيه بالسوية ذكرا وانثى غنيا وفقيرا ويخصص ان انحصروا والا ففي الجنس وبقية الاصناف منهم ثم من المهاجرين ثم من الانصار ثم من سائر المسلمين وتجب النية ومن العين الا لمانع وفي غير المنفق] . قوله: "فصل ومصرفه من في الآية فسهم الله للمصالح وسهم الرسول للامام". أقول: قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير في هذا ستة مذاهب للسلف واحسن الاقوال واقربها إلي الصواب ان سهم الله سبحانه موكول إلي نظر الامام فيصرفه في الامور التي هي شعائر الدين ومصالح المسلمين. وأما سهم الرسول فلا شك انه للإمام لورود الادلة الدالة على ان ما جعله الله لرسوله فهو لمن يلي امور المسلمين بعده وعليه ان يضع ذلك في مواضعه ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم الا الخمس والخمس مردود عليكم"، وإذا لم يوجد الامام كان لمن صلح من الملمين ان يضعه في مواضعه. قوله: "أولو القربى هم الهاشميون المحقون". أقول: قداختلف السلف في ذلك فقيل هم قريش كلها وقيل هم بنو هاشم وبنو المطلب وقيل هم بنو هاشم خاصة والحق ان بني المطلب لهم نصيب من الخمس فقد ثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم اعطاهم منه معللا ذلك بقوله: "إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" فدل ذلك على ان لهم في سهم ذوى القربى كما لبني هاشم في ذلك. وأما كونه يستوى في ذلك الذكر والأنثى والغني والفقير فينبغي تفويض ذلك إلي نظر الامام العادل الذي يقسم بالسوية ويعمل بما ثبت في الشرع ويؤثره على غيره. قوله: "وبقية الاصناف منهم". أقول: هذه دعوى مجردة وتقييدالقرآن الكريم بمجرد الرأي الذي لا دليل عليه والحق ان لليتامى على العموم سهم من الخمس وكذلك للمساكين وابناء السبيل فالقول بأن هذه الثلاثة الاسهم تصرف في سهم ذوي القربى بعيد من الحق بعدا شديدا ومخالف للنصوص القرآنية مخالفة بينة.

وأما قوله: "ثم من المهاجرين ثم من الانصار ثم من سائر المسلمين" فليس لهذا الترتيب وجه بل يستحق يتامى المهاجرين والانصار وابناء سبيلهم من هذه الثلاثة السهوم نصيبهم ولا تكون مرتبتهم مسقطة لمن كان من أهل هذه الثلاثة السهوم من غيرهم فهذا شيء قد تولى الله سبحانه قسمته في كتابه فليس لنا ان نقول بالرأي وتقييد كلامه سبحانه بمجرد الخيال ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا شيء حتى يقال انه مقيد للكتاب أو مخصص له. قوله: "وتجب النية". أقول: قد قدمنا غير مرة ان الاحاديث المصرحة بأن "الاعمال بالنيات" وبأنه "لا عمل إلا بنية" تدل على وجوب النية في كل عمل وقول ولا سيما الاقوال والافعال التي هي قرب فلا يحتاج إلي الاستدلال على ذلك في كل باب من الابواب والامر أوضح من ان يحتاج إلي تطويل الاستدلال. وأما كون الخمس يجب من العين فذلك ظاهر لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فأوجب الخمس في المغنوم وذلك ينصرف إلي عينه فلا يجزئ غيرها الا بدليل. وأما كون الصرف يكون في غير المنفق فقد تقدم في الزكاة ما يفيد في مصرف الخمس فارجع اليه. [فصل والخراج ما ضرب على ارض افتتحها الامام وتركها في يد أهلها على تأديته والمعاملة على نصيب من غلتها ولهم في الارض كل تصرف ولا يزد الامام على ما وضعه السلف وله النقص فإن التبس فالأقل مما على مثلها في ناحيتها فإن لم يكن فما شاء وهو بالخيار فيما لا يحول بين الوجوه الاربعة] . قوله: فصل: "والخراج" الخ. أقول: هذا البيان لماهية الخراج والمعاملة صحيح. وأما قوله: "ولهم في الأرض كل تصرف" فلا يدرى ما سببه ولا ما هو الامر الذي يقتضيه فإنها قد خرجت عن ملكيتهم باغتنام المسلمين لها فلا يقتضي ابقاؤهم عليها خراجا أو معاملة عودها إلي ملكهم اصلا فكيف يصح لهم فيها كل تصرف ومن اين جاز لهم ذلك فإن هذا لا تقتضيه القواعدالفقهية مع كون الادلة ترده فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل خيبر بعد أن صالحهم على أن لهم الشطر من ثمارها: "نقركم على ذلك ما شئنا"، وهو في الصحيحين [البخاري "5/21"، مسلم "6/1551"] ، وغيرهما [أبو دأود "3008"] .

قوله: "ولا يزد الامام على ما وضعه السلف". أقول: الامام العادل الناظر في مصالح المسلمين له ان يفعل ما فيه مصلحة لهم على وجه لا يضر بالعاملين في الارض ولا يكون وضع من قبله ما نعاله من الزيادة التي تقتضيها المصلحة كما انه لا يكون ما نعاله له من النقصان الذي تقتضيه المصلحة فله رأيه ونظره المطابق لمراد الله سبحانه وإذا اقتضى نظره نزع الارض من ايديهم نزعها وإذا اقتضى نظره وضعها في يد قوم آخرين فعل فقول المصنف ولا يزد الامام على ما وضعه السلف لا وجه له ولا دليل عليه الا مجرد ايجاب تقليدالاخر للأول وإهمال النظر في المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والاشخاص. وهذا هو في الاراضي المنتزعة من ايدي الكفار بالجهاد الذي أوجبه الله على المسلمين وأما ما صار يتمسك به بعض المقصرين المروجين للشبه المرخصين في الاموال المعصومة من ان حكم الارض المنتزعة من ايدي البغاة مثل حكم الارض المغنومة من الكفار فهذا كلام ليس من الشرع في شيء بل من التشهي والحكم بالهوى والتلاعب بالدين. وأما ما صارت الطوائف الإسلامية تترامى به من تكفير التأويل فتلك فاقرة من فواقر الدين لا ترجع إلي أصل ولا تنبنى على عقل ولا نقل لا يغتر بمثلها الا جأهل ومتعصب وكلاهما لا يستحق الكلام معه وسيأتي لهذا مزيد تحقيق عند الكلام على قوله وكل ارض اسلم أهلها. قوله: "وهو بالخيار فيما لا يحول بين الوجوه الاربعة". أقول: قد قدمنا ان له ان يعمل بما فيه مصلحة عائدة على المسلمين جارية على منهج لدين فإذا رأى المصلحة في وجه غير الوجوه الاربعة وذلك كأن يقتضي نظره ان يبيعها من أهللها أو من غيرهم عندالظفر بها ويقسم الغنيمة على الغانمين فعل ذلك وهكذا إذا اقتضى نظره تخريب الدور وتغيير رسوم الاموال وقطع الاشجار وتغوير الانهار فعل ذلك لانه ربما يغلب على الظن ان أهلها يغلبون عليها وينتزعونها من ايدي المسلمين كما يقع مثل ذلك كثيرا بين المسلمين والكفار تارة يغلب هؤلاء وتارة يغلب هؤلاء وهكذا إذا اقتضى نظره ان يخص بها بعض الغانمين دون بعض فعل إذا كان في ذلك مصلحة وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارض بني النضير فإنه خص بها المهاجرين لما لم تكن لهم اموال يعيشون بها. [فصل ولا يؤخذ خراج ارض حتى تدرك غلتها ويسلم الغالب ولا يسقطه الموت والفوت وبيعها إلي مسلم واسلام من هي في يده وان عشرا ولا يترك الزرع تفريطا] . قوله: فصل: "ولا يؤخذ خراج ارض حتى يدرك غلتها".

أقول: وجه هذه انه لو اخذ الخراج قبل ذلك وذهبت غلة الارض بجائحة كان في الاخذ ظلم على العاملين في الارض الا ان يكون بينهم وبين من إليه الخراج مواطأة على ان ذلك الخراج يسلم في كل عام أو في وقت حصول الغلة سواء زرعت الارض ام لا ادركت غلتها ام لا فإن ذلك يصير كالاجارة لنفس الارض وقدا ختاروا لأنفسهم ذلك ورضوا به والا فقد ثبت الامر بوضع الخراج وهو عام. وأما قوله: "ولا يسقط بالموت والفوت" فالأمر كذلك لأن الارض باقية والوضع عليها لا على الاشخاص. وهكذا بيعها إلي مسلم واسلام من هي في يده. وأما قوله: "ويترك الزرع تفريطا" فمبنى على ما قدمنا من التراضي وأما مع عدم ذلك فاخذ الخراج من ارض لم تزرع ظلم لا يحل للإمام والمسلمين فعله. وحكم المعاملة حكم الخراج وإنما ترك المصنف ذكر ذلك لكون المعاملة هي على نصيب من الغلة كما سبق فإذا لم تدرك الغلة وذهبت بجائحة لم يجز للامام ولا لغيره من المسلمين ان يأخذوا منهم الا بقدر ما سلم فقط. [فصل والثالث أنواع: الأول الجزية وهي ما يؤخذ من رءوس أهل الذمة وهو من الفقير اثنا عشرة قفلة ومن الغني وهو من يملك الف دينار وثلاثة آلاف دينار عروضا ويركب الخيل ويتختم الذهب ثمان واربعون ومن المتوسط اربع وعشرين وإنما تؤخذ ممن يجوز قتله وقبل تمام الحول. الثاني: نصف عشر ما يتجرون به نصابا منتقلين بأماننا بريدا. الثالث: الصلح ومنه ما يؤخذ من بني تغلب وهو ضعف ما على المسلمين من النصاب. الرابع: ما يؤخذ من تاجر حربي آمناه وإنما يأخذ إن اخذوا من تجارنا وحسب ما يأخذون فإن التبس أولا تبلغهم تجارنا فالعشر ويسقط الأول بالموت والفوت وكلها بالإسلام] . قوله: فصل: "والثالث أنواع الأول الجزية" الخ.

أقول: قد قدمنا انه لا خمس في خراج ولا معاملة ولا ما يؤخذ من أهل الذمة وأما الفرق بين الغني والفقير والمتوسط وتفسير كل واحد منهم بهذه التفاسير فليس لذلك أصل يرجع اليه ولاله دليل يعتمد عليه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس ما نزل اليهم من قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، فامر معاذ بن جبل ان يأخذ من كل حالم دينارا. أخرجه أحمد ["5/230"] وابو دأود ["1576", "1577", "1578"] والترمذي ["623"] والنسائي ["5/26"] وابن حبان والحاكم وصححاه وإذا نظر الامام لمصلحة راجعة إلي الدين وأهله ان يزيد شيئا من غير ظلم أو ينقص شيئا فعل. وأخرج البخاري ["6/257"] عن ابن أبي نجيح قال قلت لمجاهد ما شان أهل الشام عليهم اربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من قبيل اليسار. وأما كونها لا تؤخذ الا ممن يجوز قتله فلأمره صلى الله عليه وسلم لمعاذ ان يأخذها من كل حالم. قوله: "الثاني نصف عشر ما يتجرون به" الخ. أقول: لم يات في الكتاب العزيز الا الجزية ولا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ضرب على اموال أهل الذمة شيئا ولا وجه للاستدلال بما وقع من بعض الصحابة فإن ذلك لا تقوم به الحجة لا سيما في مثل اموال المعاهدين الذين وردت السنة المطهرة بأن ظالمهم "لا يرح رائحة الجنة" [أحمد "5/46، 5/50"، أبو دأود "2760"، النسائي "8/24"] . فالحاصل انه لا يجب عليهم شيء سوى الجزية وهي مأخوذة لحقن الدماء وليس في أموالهم شيء فإن الله سبحانه إنما فرض الزكاة والفطرة في أموال المسلمين تطهرة لهم كما قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، ولا تطهرة للكفار فهذه المسألة مبنية على غير أساس لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. قوله: "الثالث الصلح ومنه ما يؤخذ من بني تغلب". أقول: ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مصالحة أهل البحرين وكانوا مجوسا كما ثبت في الصحيحين [البخاري "6/257-258", مسلم "6/2961"] وكذلك مصالحته لأكيدر دومة [أبو داود "3037"] وكذلك مصالحته لأهل نجران وكل ذلك جزية صالحهم على مقدارها بما روى عنه في ذلك وليس ذلك مالا آخر غير الجزية وفي ذلك دليل على ان للإمام ان يصالح عن الجزية بما فيه مصلحة. قوله: "الرابع ما يؤخذ من تاجر حربي امناه". أقول: هذا الذي يؤخذ من تجار أهل الحرب هو أيضا جزية لانه مأخوذ في مقابلة تأمينهم في بلاد السملمين وحقن دمائهم وليس ذلك شيئا آخر غير الجزية وللإمام ان يأذن لتجار أهل الحرب ان يدخلوا بتجارتهم إلي ارض المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة. وأما كونه يؤخذ منهم بقدر ما ياخذون من تجارنا إن اخذوا وإلا فلا فهذا أيضا مما لنظر الائمة فيه مدخلا لأن الاخذ منهم مع كون أهل الحرب لا يأخذون من تجار المسلمين يؤدى إلي إنزال الضرر بتجار المسلمين.

والحاصل ان الامام المتبصر العارف بموارد هذه الشريعة ومصادرها لا يخفى عليه ما فيه المصلحة أو المفسدة فله نظره المطابق للصواب العائد على المسلمين بجلب المصالح ودفع المفاسد. قوله: "ويسقط الأول بالموت والفوت". أقول: لا وجه لهذا السقوط لانه دين قد ثبت للمسلمين بذمة الذمي الذي مات أو فات فلا يسقطه الا مسقط شرعي وقد وفى المسلمون له بالامان فاستحقوا ما جعلوه عليه في مقابلته لا شك في ذلك. وأما سقوط الجميع بالإسلام فذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلي ذكره لان ذلك المأخوذ إنما كان لكونهم كفارا وقد صاروا مسلمين فلم يبق الموجب للأخذ والإسلام يجب ما قبله. [فصل وولاية جميع ذلك إلي الامام وتؤخذ هذه مع عدمه ومصرف الثلاثة المصالح ولو غنيا وعلويا وبلديا وكل ارض اسلم أهلها طوعا أو احياها مسلم فعشرية ويسقط بأن يملكها ذمي أو يستأجرها ويكرهان وينعقدان في الاصح وما اجلى عنها أهلها بلا إيجاف فملك للإمام وتورث عنه] . قوله: فصل: "وولاية جميع ذلك إلي الامام". أقول: قد كان أمر هذه الامور إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صار إلي الخلفاء الراشدين من بعده فأفاد ذلك ان امرها إلي الائمة ولا يحتاج إلي الاستدلال بزيادة على هذا. وأما كونها تؤخذ مع عدمه فذلك أمر واضح لانها واجبات شرعية يجب على المسلمين صرفها في مصارفها فإن لم يوجد الامام كان امرها إلي من له نهضة بالقيام بأمور المسلمين كائنا من كان. وأما قوله: "ومصرف الثلاثة المصالح" الخ فلا يخفى انها كانت معروفة في زمن النبوة وفي أيام الخلفاء الراشدين إلي مصارف معروفة فينبغي للإمام ان يتحرى ذلك ويضعها في مثل تلك المصارف بحسب ما يبلغ اليه إجتهادة ويدخل تحت قدرته وطالب الحق لا يخفي عليه وجهه وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الواضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا جاحد هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ثم قال عقيبه: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ"، [أحمد "4/126/127"، الترمذي "2676"، ابن ماجة "43، 44"] . قوله: "وكل ارض اسلم أهلها أو احياها مسلم فعشرية". أقول: هذا هو من الوضوح بمكان يستغنى عن تدوينه فإن اراضي أهل الإسلام معصومة

بعصمة الإسلام لا يجب فيها الا ما أوجبه الله من الزكاة ومن زعم في ارض منها انها قد صارت إلي صفة غير هذه الصفة فقد خالف ما هو معلوم من الضرورة الدينية ولا يكون الا أحد رجلين أما جأهل لا يدري ما يقول أو متلاعب بالدين لأغراض نفسانية ومقاصد دنيوية كما قدمنا قريبا. واحق ارض الله سبحانه بإجراء الأحكام الإسلامية عليها ارض اليمن لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "الايمان يمان" وقد صح انهم اسلموا طوعا بغير قتال عند بلوغ البعثة النبوية اليهم فهم احق العالم بما ذكرناه وارضهم احق الارض بذلك. وأما ما تجدد من الدعأوي الفاسدة والشبه الداحضة من تكفير بعض طوائف الإسلام لبعض فذلك لا يرجع إلي دليل من عقل ولا نقل بل مجرد شهوة شيطانية اثارتها العصبية الجأهلية فإياك ان تغتر بشيء منها فإنها حديث خرافة وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الخراج جزية كما في حديث أبي الدرداء عند أبي دأود مرفوعا: "من اخذ أرضا بجزيتها فقد استقال هجرته" فهذا الوعيد ورد فيمن استأجر ارض الخراج وهو مسلم فكيف يحل لملسلم ان يحكم على السملمين بأن أرضهم خراجية وانهم يسلمون الخراج الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزية وهل يجترئ على ما دون هذا من يؤمن بالله واليوم الاخر. وأخرج أبو دأود من حديث حرب بن عبيد الله: "إنما الخراج على اليهود والنصارى وليس على المسلم خراج". وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث ابن عباس مرفوعا: "ليس على مسلم جزية" أي خراج. قوله: "ويسقط بأن يملكها ذمي أو يستاجرها" أقول: هذا أيضا أوضح من شمس النهار ولا يحتاج إلي تدوينه في كتب الفقه فإن الزكاة إنما فرضها الله سبحانه على المسلمين لا على الكافرين ومن عجائب الزمن انه قد وقع في زمننا هذا المطالبة لليهود بزكاة ما يملكونه من الارض من كثير من المغفلين الذين لا يعرفون الشرائع فما كان المصنف رحمه الله الا كشف له عما يأتي به الزمان من الغرائب فنص على هذا الامر الواضح الجلي في كتابه هذا. وأما القول بالكراهة لتملك الذمي للأرض العشرية واستئجاره لها فراجع إلي الخلاف في ان أهل الذمة هل يجوز لهم ان يتملكوا شيئا من الاراضي الإسلامية ام لا فمن منع من ذلك لم يجعله مكروها فقط بل يجزم بمنعه وعدم تقرير أهل الذمة عليه ومن جوزه فلا وجه لجعله مكروها. قوله: "وما اجلى عنها أهلها بلا إيجاف فملك للإمام وتورث عنه". أقول: هذا مخالف لما في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أهل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] ، إلي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] ، ثم عطف عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّأوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} [الحشر: 9] ، ثم قال {وَالَّذِينَ جَاءُوا

مِنْ بَعْدِهِمْ} الحشر: 10] ، فهذه مصارف ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فما معنى قوله: فملك للإمام وتورث عنه مع ان المصنف وغيره استدلوا على هذا الذي ذكروه بقوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] ، فكيف قصروا الآية على مصرف من المصارف التي ذكرها الله عز وجل؟

كتاب الصيام

كتاب الصيام مدخل ... كتاب الصيام هو أنواع منها سيأتي ومنها رمضان. [فصل ويجب على كل مكلف مسلم الصوم 4 والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي قيل جوازا ويكفي خبر عدلين قيل أو عدلتين عن ايها ولو مفترقين وليتكتم من انفرد بالرؤية ويستحب صوم يوم الشك بالشرط فإن انكشف منه امسك وان قد افطر. ويجب تجديد النية لكل يوم ووقتها من الغروب إلي بقية من النهار الا في القضاء والنذر المطلق والكفارات فتبيت. ووقت الصوم الفجر إلي الغروب ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره فإن ميز صام بالتحري. وندب التبييت والشرط وإنما يعتد بما انكشف منه أو بعده مما له صومه أو التبس والا فلا ويجب التحري في الغروب. وندب في الفجر وتوقي مظان الافطار والشاك بحكم الاصل وتكره الحجامة والوصل ويحرم تبييته] قوله: "يجب على كل مكلف الصوم والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين". أقول: وجوب الصيام عند حصول أحد هذه الثلاثة الاسباب معلوم بالضرورة الدينية وإجماع المسلمين والاحاديث الواردة في ذلك مصرحة بهذا مثل حديث [البخاري "4/119"، مسلم "19/108"، أحمد "2/415"، النسائي "4/733"، "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم

فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما". ومثل حديث [البخاري "4/113"، مسلم "8/108"، أحمد "2/145"، النشائي "4/134"، ابن ماجة "1654"، "إذا رأيتم الهلال فصوموا فإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما". والاحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة. قوله: "وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي" أقول: وجه هذا ان صدور مثل هذا القول من المفتي الذي يعقل حجج الله ويعرف ما تقوم به الحجة على العباد في الصوم والافطار يدل على انه قد صح عنده مستند شرعي من المستندات المعتبرة فكأنه اخبر بوجود ذلك المستند وصحته فكلامه دليل على نفس السبب الشرعي وان لم يكن سببا شرعيا. هذا إذا كان بالمنزلة التي ذكرناها ولا يكون الا مجتهدا لأن المقلد لا يعقل الحجة ولا يدري ما هو الذي يصلح للاستناد اليه والعمل به وأما إذا لم يكتف المفتي بهذه العبارة وهي قوله: "صح عندي" بل ذكر السبب الذي قامت به لديه الحجة من شهادة شهود عدول أو كمال عدة انه قد صح عنده وجود ذلك السبب وقيام الحجة فالعمل بهذا اقرب من العمل بمجرد إطلاق الصحة بدون ذكر المستند. قوله: "ويكفى خبر عدلين قيل أو عدلتين" أقول: يدل على اعتبار العدلين ما أخرجه أحمد والنسائي بإسناد لا بأس به عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب انه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال الا اني جالست اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائلتهم وانهم حدثوني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا". وأخرج أبو دأود ["2338"] والدارقطني وصححه عن امير مكة الحارث بن حاطب قال عهد الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما ورجاله رجال الصحيح الا الحسين بن الحارث الجدلي وهو صدوق. وأخرج أحمد ["9/256"، وابو دأود "2339"] ، عن ربعي بن حراش عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم اعرأبيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهل الهلال امس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ان يفطروا ورجاله رجال الصحيح. وأخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم عن عبيد الله بن عمير بن أنس ان ركبا جاءوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فشهدوا انهم رأوا الهلال بالامس فأمرهم ان يفطروا وإذا اصبحوا ان يغدوا إلي مصلاهم. وورد ما يدل على الاكتفاء بشهادة الواحد فأخرج أبو دأود والدرامي والدارقطني وابن حبان والحاكم وصححاه والبيهقي وصححه أيضا عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول صلى الله عليه وسلم اني رأيه فصام وأمر الناس بصيامه.

وأخرج أهل السنن [أبو دأود"2340"، النسائي "2113"، الترمذي "691"، ابن ماجة "1652"] ، وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم عن ابن عباس قال جاء اعرأبي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: "أتشهد ان لاإله الا الله؟ " قال: نعم, قال: "أتشهد ان محمدا رسول الله؟ " قال: نعم, قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا". ولا يخفاك ان مادل على اعتبار الشاهدين يدل على عدم العمل بالشاهد الواحد بمفهوم العدد وما دل على صحة شهادة الواحد والعمل بها يدل بمنطوقه على العمل بشهادة الواحد ودلالة المنطقوق أرجح من دلالة المفهوم. وأما قوله: "عن أيها" فقد قدمنا الكلام على قول المفتي صح عندي. وأما قوله: "ولو مفترقين" فذلك صحيح فلا خلاف انه لا يعتبر ان يراه الشاهدان مجتمعين. قوله: "وليتكتم من انفرد بالرؤية". أقول: قد قدمنا وجوب العمل بخبر الواحد وأن ذلك يلزم جميع المسلمين إذا كان عدلا مقبول الشهادة فهذا الذي انفرد بالرؤية قد حصل له العلم اليقين المستند إلي حاسة البصر فلا وجه لتكتمه بالصوم ولا بالافطار بل عليه التظهر بذلك وإعلام الناس بأنه رآه فمن عمل بذلك عمل ومن ترك ترك وأما الاستدلال على هذا التكتم بحديث: "صومكم يوم يصوم الناس وفطركم يوم يفطر الناس" فمن الاستدلال بما لا مدخل له في المقام فإن ذلك إنما هو ارشاد إلي ان يكون الاقل من الناس مع السواد الاعظم ولا يخالفونهم إذا وقع الخلاف لشبهة من الشبه وأما بعد رؤية العدل فقد اسفر الصبح لذي عينين ولم يبق ما يوجب على الرائي ان يقلد غيره أو يعمل بغير ما عنده من اليقين. قوله: "ويستحب صوم يوم الشك بالشرط" أقول: الوارد في هذه الشريعة المطهرة ان الصوم يكون للرؤية أو لكمال العدة ثم زاد الشارع هذا بيانا وأيضاحا فقال: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" فهذا بمجردة يدل على المنع من صوم يوم الشك فكيف وقدا انضم إلي ذلك ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من نهية صلى الله عليه وسلم لامته عن ان يتقدموا رمضان بيوم أو يومين فإذا لم يكن هذا نهيا عن صوم يوم الشك فلسنا ممن يفهم كلام العرب ولا ممن يدري بواضحه فضلا عن غامضه ثم انضم إلي ذلك حديث عمار بلفظ: "من صام يوم الشك فقد عصى ابا القاسم". أخرجه أهل السنن [أبو دأود "2334"، الترمذي "686"، النسائي "4/153"، ابن ماجة "1645"] ، وصححه الترمذي "3/70"، وهو للبخاري "4/119" تعليقا وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال ابن عبد البر هذا مسند عندهم لا يختلفون فيه. قوله: "وان انكشف منه امسك وان قد افطر".

أقول: يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "4/245"، مسلم "135/135"] ، وغيرهما [النسائي "4/192"، أحمد "4/47"] ، من حديث سلمة بن الاكوع والربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من اسلم ان يؤذن في يوم عاشوراء ان كل من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان إذ ذاك صيام عاشوراء واجبا فدل هذا على انه إذا انكشف ان اليوم من رمضان امسك من كان قد أكل. قوله: "ويجب تجديد النية لكل يوم وهو من الغروب إلي بقية من النهار". أقول: استدل على هذا بما قدمناه من امره صلى الله عليه وسلم لمن أكل في يوم عاشوراء فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان ذلك النداء والامر بالصوم في النهار فدل على ان النية تصح في نهار الصوم واستدل الموجبون للتبييت بحديث ابن عمر عند أحمد وأهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "من لم يجمع الصوم قبل الفجر فلا صيام له" وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وصححه أيضا الحاكم وليس فيه علة قادحة الا ما قيل من الاختلاف في الرفع والوقف والرفع زيادة وقد صحح المرفوع هؤلاء الاشمة الثلاثة ولا يخفاك ان هذا الحديث عام وانه يدل قوله: "فلا صيام له" على أنه لا يصح صوم من لم يبيت النية فيكون حديث يوم عاشوراء معمولا به فيمن لم ينكشف له ان اليوم من رمضان الا في النهار فلا معارضة بين الحديثين. وبهذا يتضح لك انه لا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم الا في تلك الصورة التي ذكرناها وفي صوم التطوع لما ورد انه كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء فإن لم يجده قال: "إني صائم" مع أنه يحتمل أنه كان قد بيت النية وإنما سأل عن الغداء لأنه متطوع والمتطوع امير نفسه. قوله: "ووقت الصوم من الفجر إلي الغروب". أقول: ما ذهب اليه القائلون بأن ابتداء الصوم من شروق الشمس ليس عليه دليل قط والاستدلال لهم بمثل حديث: "كلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" لا يطابق المدعى ولا يدل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الناس بأن بلالا يؤذن بليل ثم علل ذلك بقوله: "ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، [البخاري "2/103"، مسلم "1093"] ، فإذانه كان في بقية من الليل لهذه العلة وكان الفجر الحقيقي هو عند إذان ابن ام مكتوم وكما ورد انه كان لا ينادي حتى يقال له اصبحت اصبحت أي دخلت في وقت الصباح والدخول في وقت الصباح يكون بطلوع الفجر وليس المراد انه كا يؤخر الإذان عن وقت طلوع الفجر بل كان ينتظر من يخبره بطلوع الفجر وكيف يصح الاستدلال لهم بمثل هذه الامور وقد صح انه صلى الله عليه وسلم كان يتسحر ثم يخرج إلي صلاة الفجر وكان بين سحوره وصلاته مقدار خمسين آية كما ثبت التقدير بهذا وقد ثبت انه صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الفجر بغلس وكان آخر الامرين التغليس.

والحاصل ان هذا المذهب هو من جملة المذاهب الساقطة المخالفة لما هو المعلوم من الشريعة. قوله: "ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره". أقول: هذا اللبس يرفع الوجوب عنه لأن تكليفه بالصوم لرمضان مع عدم علمه بأن الشهر شهر رمضان تكليف بما لا يطيقه ولا يدخل تحت وسعه وهكذا تكليفه بصوم وقت لا يدري اهو ليل أو نهار تكليف بصيام وقت لم يتبين انه من نهار رمضان. ولا شك ان الوجوب مع هذا اللبس منتف وأما وجوب القضاء فذكر المصنف لسقوط الأداء يفيد انه يجب القضاء بعد ذهاب اللبس العارض ولا وجه لايجاب القضاء عليه الا إذا كان سبب اللبس لنوع من أنواع المرض كالأعمى فإنه يدخل تحت قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] . وأما قوله: "فإن ميز صام بالتحري" فظاهر لأن الخطاب قد توجه اليه بما حصل له من التمييز. وأما قوله: "وندب التبييت" فقد قدمنا انه واجب ولا وجه لندبيته مع التمييز ولكنه إذا انكشف أنه صام غير رمضان فلا يسقط عنه الوجوب. وأما إيجاب التحري في الغروب فلكون الاصل بقاء النهار ولكن هذا إذا كان ثم سبب يقتضى التحري كالغيم ونحوه وإلا فوقت المغرب واضح لا يحتاج إلي تحر الا عند من حرمه الله العمل بمشروعية تعجيل الافطار الثابت بالسنة الصحيحة. وأما كون التحري في الفجر مندوبا فذلك مع عروض ما يقتضي التحري وإلا فهو وسوسة ليست من الشرع في شيء. وأما قوله: "وندب توقي مظان الافطار فالظاهر" أن اجتناب ما هو مظنة للإفطار واجب لأن البقاء على الصوم واجب والخروج منه حرام والذريعة إلي الحرام حرام. وأما كون الشاك يحكم بالاصل فذلك صواب فلا ينتقل عنه الا بدليل يصلح للنقل. قوله: "وتكره الحجامة". أقول: بمجرد كراهة التنزيه يجمع بين الاحاديث الواردة في ان الحجامة يفطر بها الصائم وبما ورد من الترخيص في ذلك فمن كانت الحجامة تضعفه كانت مكروهة في حقه وقدأخرج البخاري عن ثابت البناني انه قال لأنس اكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا إلا من اجل الضعف وأخرج الدارقطني بإسناد رجاله ثقات عن أنس قال أول ما كرهت الحجامة للصائم ان جعفر ابن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم وقد ثبت في الصحيح [البخاري "4/174"] ، انه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قوله: "والوصل يحرم بنيته".

أقول: وجهه انه ثبت النهي عنه في الاحاديث في الصحيحين وغيرهما والنهي حقيقة في التحريم ولا ينافي هذا مواصلته صلى الله عليه وسلم فقد بين العلة في ذلك لما قالوا له إنك تواصل فقال: "لست كهيتئكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فاقتضى هذا أن الجواز خاص به لهذه العلة ولو لم يكن ذلك محرما على غيره لما واصل بهم حين لم ينتهوا وقال: "لو مد لنا الشهر لواصلت وصالا يدع به المتعمقون تعمقهم" وفي البخاري أنه واصل بأصحابه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا. [فصل ويفسده الوطء والامناء لشهوة في يقظة غالبا وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه جاريا في الحلق من خارجه بفعله أو سببه ولو ناسيا أو مكرها الا الريق من موضعه ويسير الخلالة معه أو من سعوط الليل فيلزم الاتمام والقضاء ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار قيل ويعتبر الانتهاء] . قوله: "فصل ويفسده الوطء" أقول: لا يعرف في مثل هذا خلاف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله قال: "وما أهلكك؟ " قال وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بالكفارة وفي رواية لأبي دأود وابن ماجه انه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يوما مكانه" وهذه الزيادة مروية من اربع طرق يقوى بعضها بعضا ويدل على تحريم الوطء على الصائم صيأما واجبا مفهوم قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلي نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] . قوله: "والامناء لشهوة في يقظة" أقول: ان وقع من الصائم سبب من الاسباب التي وقع الامناء بها بطل صومه وان لم يتسبب بسبب بل خرج منيه لشهوة ابتداء أو عند النظر إلي ما يجوز له النظر اليه مع عدم علمه بأن ذلك مما يتسبب عنه الامناء فلا يبطل صومه وما هو باعظم ممن أكل ناسيا كما سيأتي. قوله: "وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه" الخ. أقول: هذا معلوم بالضرورة الدينية فمن ادخل مأكولا أو مشروبا من فمه إلي جوفه بطل صومه إذا كان له في ذلك اختيار ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا بين مأكول ومشروب معتاد ونادر أما إذا لم يكن له اختيار فلا يبطل صومه لورود الدليل فيمن أكل أو شرب ناسيا وهو ما

ثبت في الصحيحين [البخاري "4/155"، مسلم "171/155"] ، وغيرهما [أحمد "2/425"، أبو دأود "2398"، الترمذي "721"، ابن ماجة "1673"، من حديث أبي هريرة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فانما اطعمه الله وسقاه". وفي لفظ للدارقطني من هذا الحديث بإسناد صحيح "فإنما هو رزق ساقه الله اليه ولا قضاء عليه". وفي لفظ لابن خزيمة وابن حبان والحاكم من هذا الحديث: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة"، قال ابن حجر وهو صحيح. وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: "من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه" قال ابن حجر وإسناده وان كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة ان يكون حسنا يصلح للاحتجاج به انتهى. وقد ذهب إلي العمل بهذا الجمهور وهو الحق ومن قابل هذه السنة بالراي الفاسد فرأيه رد عليه مضروب به في وجهه وكثيرا ما يتمسك المصنفون بمقالات اصولية اصلها مبني على الراي فيرجعون إلي الرأي من حيث لا يشعرون ولهذا الفت كتأبي في الاصول. الذي سميته ارشادا لفحول إلي تحقيق الحق من علم الاصول واعلم ان من فعل شيئا من المفطرات كالجماع ناسيا فله حكم من أكل أو شرب ناسيا ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا حاجة لذكر ما استثناه المصنف فعدم كونه مفطرا معلوم. وأما قوله: "والقضاء" فخلاف ما ورد به الدليل كما ذكرنا. وقوله: "ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار". أقول: أما الفسق فلكونه اجترأ على كبيرة من الكبائر العظيمة وأما مشروعية الكفارة له فظاهر الدليل ان ذلك واجب حتما ولا ينافيه صرفها فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأطعمه أهلك"، فإنه انما سوغ له ذلك لمزيد فقره وشدة حاجته وعدم قدرته على الصوم فيلحق به من هو مماثل له وأما القادر على احدالأنواع فهي واجبة عليه. [فصل ورخص فيه للسفر والاكراه وخشية الضرر مطلقا ويجب لخشية التلف أو ضرر الغير كرضيع أو جنين ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا] قوله: فصل: "ورخص فيه للسفر". أقول: قد رخص في ذلك كتاب الله عز وجل فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث في الصحيحين وغيرهما انه صام في السفر وأفطر وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه قال لحمزة الاسلمي: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر"، وأما قوله صلى الله عليه وسلم للصائمين في السفر: "ليس من البر الصوم في السفر"، فانما قال ذلك لما رأى زحأما ورجلا قد ظلل عليه فقال: "ما هذا"؟ فقالوا صائم هكذا في الصحيحين فمن بلغ به الصوم إلي مثل ذلك الضرر فليس صومه من البر لان الله سبحانه قد رخص له في الافطار وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد افطر وأفطروا. وفي الصحيحين من حديث أنس قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض والاحاديث في هذا الباب كثيرة. قوله: "والاكراه". أقول: أما من اكره على الافطار ولم يقدر على الدفع ولا بقي له فعل ف وجه للحكم عليه بأنه قد افطر بل صومه باق ولا قضاء عليه وهذا المكره إلي هذا الحد أولى بان يقال فيه لا يفطر من الناسي وأما إذا بقي له قدرة على الدفع حتى لا يفطر فذلك واجب عليه لان إكراهه على الافطار منكر يجب إنكاره. وأما قوله: "وخشية الضرر مطلقا" فإذا خشى وقوع ضرر عليه في بدنه أو ماله ان لم يفطر جاز له الافطار والظاهر انه لا يبطل صومه بهذا الافطار الذي خشى إذا لم يفعله الضرر لانه مستكره وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن امتي الخطأ والسنيان وما استكرهوا عليه"، وله طرق يقوى بعضها بعضا. هذا إذا كان الضرر الذي يخشاه صادرا من جهة الغير أما إذا كان صادرا من جهة نفسه لعدم القدرة على الصوم وحدوث الضرر أن فعل فالافطار جائز له لانه قد صار بذلك في حكم المريض وعليه القضاء كما قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، ووجوب الافطار لخشية التلف علوم من قواعدالشريعة كلياتها وجزئياتها كقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 6] . "وإذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم". وحفظ النفس واجب ولم يتعبد الله عباده بما يخشى منه تلف الانفس وقد رخص لهم في الافطار في السفر لانه مظنة المشقة فكيف لا يجوز لخشية التلف أو الضرر.

قوله: "أو ضرر الغير كرضيع أو جنين". أقول: هذا قد دل عليه حديث أنس بن مالك الكعبي عندأحمد وأهل السنن ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله وضع عن المسافر الصم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم" وحسنه الترمذي وقال لا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد وقال ابن أبي حاتم في علله سألت أبي عنه يعني الحديث فقال اختلف فيه والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى. والمسمون بأنس بن مالك خمسة هذا احدهم. وقد ذهب إلي ما دل عليه هذا الحديث الجمهور ونقل بعض أهل العلم الاجماع على عدم جواز صوم الحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين أو المرضع قال الترمذي العم