الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية
صديق حسن خان
التعليقاتُ الرَّضية على "الرَّوضة النّديَّة" للعلامة صدِّيق حسَن خَان رحمه الله بقلم العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني ضبط نصَّه، وحقَّقه، وَقَام على نشره علي بن حسَن بن علي بن عَبد الحميد الحَلبيُّ الأثريّ المجَلّد الأوّل الطّهَارة - الخُمْسْ دَارُ ابن القيِّم - دَار ابن عفَّان
جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1423 هـ - 2003 م رقم الإيداع 15932/2001 الترقيم الدولي 4-30-6052-977 دَارُ ابن القيِّم للنشر والتوزيع هاتف: 4315882 - فاكس: 4318891 الرياض: ص. ب: 156471 الرمز البريدى: 11778 المملكة العربية السعودية دَار ابن عفَّان للنشر والتوزيع القاهرة: 11 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر ت: 5066420 - محمول: 0101583626 الإدارة - الجيزة برج الأطباء أول ش فيصل ت: 5693615 - تليفاكس: 5692850 - 3255820 ص. ب 8 بين السرايات جمهورية مصر العربية E-mail:[email protected]
مقدمة العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني (¬1) الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدِ، وعلى آله وصحبه أجمعين: أمّا بَعْدُ: فهذا كتابي: "التعليقات الرضية على الروضة النديّة"؛ يَخْرُجُ لإخواننا القُراء -طلبة العِلْمِ- مطبوعًا بهياً؛ وذلك بعد انتهائي من تدريسهِ، والتعليق عليه: بأكثَرَ من أربعينَ سنةَ؛ على الرغم من تعاهُدي إياهُ الفَينَةَ بعد الفَيْنَةِ، على مَر هذه السنين.... وإنِّي لأحمد اللهَ -سبحانه- أنْ سهل ذلك، ويسر أسبابَه؛ فالكتابُ -الأصلُ- من الكتب الفقهية النافعةِ التي انتهج مؤلفُها -رحمه الله تعالى- طريقةَ أصحابِ الحديث؛ قيامًا بالحُجة والدليل؛ بعيدًا عن التقليد وَمحْضِ الأقاويل؛ ولكنّه -كسائر البَشَر- عُرْضَةٌ للنقْدِ، والتَخطئِة، والمراجعةِ؛ وله على ذلك كله -إن شاء اللهُ- أجرٌ ... ¬
ولقد كان عَرَضَ عَلَيَّ -منذ أكثرَ من سنتين- وَلَدُنا وصاحُبنا الأخُ أبو الحارث علي بن حسمن بن علي الحلبي -وفّقه الله- فِكْرَةَ طباعةِ تلك التعليقات -المشار إليها-، ونشرها؛ لما رأى فيها من نفع وفائدة -حتى لا تَظَل حبيسة فوق جدران الكتب-؛ ولينتفعَ بها الدارسون، ويستفيدَ منها المتفقهون: فوافقتُ على ذلك؛ وناولته نُسختي الخاصة -بتعليقاتي التي بخط يدي، والتي كنتُ قد سميْتُها منذُ أمَد: " التعليقات الرضيّة على الروضة الندية "-؛ ليقومَ -جزاه اللهُ خيرًا- بهذه المهمة العلمية. وها هو الكتابُ -بتعليقاتِه- بحمد الله ومِنتهِ- مطبوعًا بين أيدي القُراء؛ يَفيدون منه، ويُفيدون به؛ والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. وإنّي لأسالُ الله -تبارك وتعالى- أنْ يجزيَ صاحبَنا أبا الحارث -زاده الله توفيقًا- على ما قامَ به من جُهدِ مشكور في تحقيقهِ لهذه "التعليقات"، وإبرازها إلى حَيز الوجود، وكذا الناشِرَ للكتاب: دار ابن عفان/القاهرة؛ داعيًا الله -جل وعلا- لهما - أن يُباركَ جهودَهما في خدمةِ -ونَشْر- الكتب العلميّة السلفية النافعة -إن شاء الله-. كما أسألُهُ -عز وَجَل- أنْ ينفعَ بما أكتب، وأنْ يُلهِمني الحق والصواب، وأن يجعلَه خالصًا لوجهه، وأن يدخِر لي أجر ذلك عنده؛ إنه -سبحانه- خير مسؤول. وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِ العالَمين. 19/رمضان/1419 هـ محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن عمّان
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق إِن الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَستعِينُهُ، وَنَستغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وَأشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ. وَأشْهَدُ أن مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أما بَعْدُ: "فإنهُ يَنبغِي لِكُل أحَد أن يَتَخَلقَ بِأخْلاَقِ رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، وَيَقْتَدِيَ بِأقْوَالهِ وَأفْعَالِهِ وَتَقْريرهِ؛ فِي الأحكَامِ وَالآدَابِ وَسَائِر مَعَالِمِ الإسْلاَمِ، وَأنْ يَعْتَمِدَ فِي ذلِكَ مَا صَح وَيَجْتَنِبَ مَا ضَعُفَ، وَلاَ يَغتر بِمُخَالِفِي السننِ الصحِيحَةِ، وَلاَ يُقَلدَ مُعْتَمِدِي الأحَادِيثِ الضعِيفَةِ؛ فَإن اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وَقَالَ- تَعَالَى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وَقَالَ- تَعَالَى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ؛ فَهذِهِ الآيَاتُ -وَمَا فِي مَعناهُن- حَث عَلَى اتباعِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَنَهَانَا عَنِ الابْتِدَاعِ وَالاخْتِرَاعِ، وَأمَرَنَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِنْدَ التنازُعِ
بِالرجُوعِ إِلَى الله وَالرسُولِ -أي: الكِتَابِ وَالسنةِ-، وَهذَا كُلُّهُ فِي سُنة صَحتْ، أما مَا لَمْ تَصح: فكيْفَ تكُونُ سُنةَ؟! وَكَيفَ يُحكَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَهُ أوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْر مُسَوغٌ لِذلِكَ؟!! وَلاَ تَغْتَرن بِكَثْرَةِ المتساهِلِينَ فِي العَمَلِ -وَالاحْتِجَاجِ فِي الأحكامِ- بِالأحَادِيثِ الضعِيفَةِ! وَإنْ كَانُوا مُصَنفِينَ وَأئِمة فِي الفِقهِ وَغَيْرهِ!!.." (¬1) . وَ"الفِقْهُ فِي الدينِ: مِنْ أفْضَلِ مَا يُتَنَافَسُ فِيهِ وَيُطلَبُ، وَيُثَابَرُ عَلَى السعْي فِي تَحْصِيلِهِ وَيُرْغَبُ؛ لأن بِهِ صَلاَحَ العَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَبِهِ يَهتدِي مِنْ غَيهِ لِرشَادِهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الفَلاَحِ وَالسعَادَةِ، وَبِهِ يُتَمكنُ مِنَ القِيَامِ بِوَاجِبِ العِبَادَةِ، وَأهلُهُ هُمُ الوَاسِطَةُ بَينَ اللهِ وَبَينَ خَلقِهِ فِي تَبلِيغِ شَرعِهِ وَأحكَامِهِ، وَتَمْيِيز حَلاَلِهِ مِن حَرَامِهِ. وَقَدْ فَازَ بِهذِهِ الفَضِيلَةِ الصدرُ الأولُ، وَمَن عَلَى نَقْلِهِمْ وَفَهْمِهِمْ فِي النصُوص المعَولُ؛ فَاقتسَمُوا إِرثَ النبوةِ فَرْضاً وَتَعصِيباً، وَلَمْ يَترُكُوا لِسِوَاهُمْ مِنْ تِلك الفَريضَةِ حَظاً وَلا نَصِيباً، ثُم اقتدَى بِهِمْ فِي نَهْجِهِمِ القَويمِ الأسنى؛ مَنْ سَبَقَت لَهُ مِنَ اللهِ السعَادَةُ وَالحُسنى، حَتى انتهَت تِلكَ الورَاثَةُ إِلى الأئِمةِ الكِبَارِ، المقتدَى بِهِم فِي سَائِر الأعصَارِ وَالأمصَارِ، فكَانُوا وَسَائِلَ وَطرُقاً وَأدِلةَ بَيْنَ الناس وَبَيْنَ الرسُولِ، يُبَلغُونَهُمْ مَا قَالَهُ، وَيُفَهمُونَهُمْ مُرَادَهُ؛ بِحَسْبِ اجتِهَادِهِم وَاستِطَاعَتِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-" (¬2) . وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلاَءِ الأئِمةِ الفُحُول، المقتفِينَ آثَارَ الرسُول - صلى الله عليه وسلم -: الشيْخُ ¬
العلامة صِديق حسن خان -تغمده بِعفوهِ الرحِيم الرحمن-؛ فَقدْ ألفَ كِتَاباً فريداً، نسج فِيهِ منهجاً سدِيداً؛ سماه "الروضة الندِية" (¬1) ؛ مَبْنِيّاً على الدلائِل البَينةِ العِلمِية. وَلَقَدْ "سَلَكَ فِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مَسْلَكَ الإنْصَاف، وَجَانَبَ فِي الترجِيحِ سَبِيلَ الجَورِ وَالاعْتِسَاف، وَهَذبَ مَبَانِيَه، وَحَررَ مَعَانِيَه، وَاعتنَى بِتَقْدِير الأدِلةِ وَنَصْب أَعلاَمِهَا، وَتَوضِيحِ وُجُوهِ الدلالَةِ وَأحكَامِهَا، وَذَكرَ مَذَاهِبَ الأسلاَف، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنَ الوفَاقِ وَالخِلاَف، مَعَ تَرجِيحِ مَا عَضَدَهُ البُرهَان، مِنْ غَير نَظر فِي ذلِكَ إِلَى خُصُوصِيةِ إِنْسَان، رَائِياً أَن الحَق أَحَقُّ بِأنْ يَعَض بِالنوَاجِذِ علَيْهِ، وَأن مَا سِوَاهُ يُطرَحُ فِي زَوَايَا الإهْمَالِ وَلاَ يُعَولُ عَلَيهِ" (¬2) . فَجَاءَ كِتَاباً رَائِعاً، بَدِيعاً جَامِعاً، بِعِبَارَة سَهْلَةِ مُيَسرَة، وَأدِله مُنَقحَة مُحَررة، وَمَسَائِلَ مُنضَبِطَةِ مُحَبرَة. وَلِمَا لِهذَا الكِتَابِ مِنْ أهَمييما وَمكَانَة -بِمَا حَوَاهُ مِنْ قُوة وَمَتَانَة-: فقد اعتنَى بِهِ عُلَمَاؤُنَا، وَأوْصَى بِهِ كُبَرَاؤُنَا؛ وَدَرسَهُ وَشَرَحَهُ فُضَلاَؤُنَا: -فَهَذَا الشيخُ العَلامَةُ أحمَد مُحَمد شَاكِر- المتَوَفى سَنَةَ (1377 هـ) -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَقُومُ بِالتعْلِيق. عَلَيهِ وَخِدْمَتِهِ -كمَا فِي آخِر الطبعَةِ ¬
المنِيريةِ-. (¬1) (2/365) بِقَلَم الشيْخ شَاكِر نَفْسِه؛ حَيْثُ قَالَ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: عَهِدَ إِلَي الأخ الأستاذُ الشيْخُ مُحَمد مُنِير الدمَشْقِي (¬2) -صَاحِبُ (إِدَارَةِ الطباعَةِ المنِيريَةِ) - بِتَصحِيحِ هذَا الكِتَابِ -"الروْضَةِ الندِيةِ"-؛ فَقُمْتُ بِمُرَاجَعَةِ الأصْل الَذِي يُطبعُ مِنْهُ، وَبَذَلتُ وُسْعِي فِي مُرَاجَعَةِ مَا عَرَضَ مِنَ الشبهَاتِ فِي تَخْريجِ الأحَادِيثِ وَالكَلاَمِ عَلَى رُوَاتِهَا، وَكَتَبْتُ مَا عَن لِي مِنَ التَعْلِيقاتِ؛ رَغْبَةً فِي خِدْمَةِ السنةِ الشريفَةِ. وَنَسْألُ اللهَ أن يُعِينَنَا عَلَى القَصْدِ إِلَى الخَيْر. أحْمَد مُحَمد شَاكِر -القَاضِي الشرْعي-". وَهذَا شَيْخُنَا العَلامَةُ الألبَانِي -حَفِظَهُ اللهُ-، يَنْصَحُ بِهِ (¬3) ، وَيُدَرسَه (¬4) ، بَلْ وَيَضَعُ عَلَيْهِ تَعْلِيقاً مكْتُوباً، وَنَقْداً لَطِيفاً مَرْغُوباً -وَهُوَ هذَا الَذِي بَيْنَ أيْدِينَا-؛ وَقَدْ سَماهُ "التَعْلِيقَاتِ الرضية عَلَى الروْضَةِ الندِية". مِنْ أجْل هذَا كُلهِ: رَأيْتُ لُزُومَ نَشْر الكِتَابِ، مَعَ تَعْلِيقَاتِ مَشَايِخِنَا عَلَيهِ؛ فَلَما عَرَضْتُ هذا الأمْرَ عَلَى شَيْخِنَا -نَفَعَ اللهُ بِهِ- وَافَقَ ذلك مُبَارَكَةً كَرِيمَةً مِنْه -حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى، وَنَفَعَ بِهِ-؛ فَدَفَعَ إِلَي نُسْخَتَهُ الخَاصَّةَ، المكْتُوبَةَ ¬
عَلَى حَوَاشِيهَا تَعْلِيقَاتُهُ، وَنَقَدَاتُهُ -بِخَطه (¬1) -، لأقُومَ بِتَحْقِيقِهَا وِإظهَارِهَا إِلَى حَيز الوُجُودِ-؛ فَجَزَاهُ اللهُ خَيْراً عَلَى حُسْن ظَنهِ بِوَلَدِهِ وَتِلمِيذِهِ، وَأكْرَمَهُ فِي الدارَين بِأكْمَل الحُسْنَيَيْن. كل ذلِكَ إِفَادَةَ لِلأمةِ، وَعِنَايَةَ بِهَا، وِإعِظاماً لأمْرهَا؛ عَسَى أنْ يَكتبَنَا اللهُ -سبْحَانَهُ- مِنْ حَمَلَةِ العِلمِ النبوي الشريف، قَائِمِينَ بِالعَمَل، وَالتَعْلِيمِ، وَالتَعْريف. فَاللهَ أسْألُ التَوْفِيقَ وَالسدَاد، وَالهُدَى وَالرشَاد. وختاماً، فإني أتقدّم بالشكر الجزيل لِكُل مَن كان له يَد في نَشر هذا الكتاب؛ تعليقاً (¬2) ، وتصحيحاً، وتنضيداً، وتدقيقاً، وضبطاً. وشكر خاص موصول: للأخ الفاضل أبي عبد الله كمال الدين بن حُسين عُويس -وفقه الله لمراضيه-، صاحب دار ابن عفان/القاهرة-، على صَبْرهِ، واحتمالِه، وقيامِهِ بالدعم المادي والأدَبي -الدؤوب- لإخراج هذا العَمَل العلميّ مطبوعاً، مشرقاً، بهياً؛ فجزاه اللهُ خيرَ الجزاءِ، وزادَنا وإياه من فضلهِ. وَصَلى اللهُ وَسَلمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِينا مُحَمدِ الأمِين، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِين. وَكَتَبَ أبُو الحَارِثِ الحَلَبِيُّ الأثَرِيُّ 23 رجب 1419 هـ الزرقَاءَ - الأُردن ¬
تعريف بـ "التعليقات الرضية على الروضة الندية"
تعريف بـ "التعليقاتُ الرَّضية على الرَّوضة النَّديَّة" * هِيَ تَعْلِيقاتٌ عِلْمِيةٌ مُنَوعَةٌ؛ بَلَغَتْ نَحْواً مِنْ ألفِ تَعْلِيق. * وَهِيَ -أَصْلاً- مُلاَحَظَات عَلَى "الروضَةِ" (¬1) عَرَضَتْ أثْنَاءَ تَدْرِيس الكِتَابِ، وَشَرْحِهِ لِطَلَبَةِ العِلْمِ؛ ولكنّها لم تستوعب كُل ما ينبغي التعليقُ عليه؛ فضلاً عن تغير الاجتهاد -فقهاً ونقداً- في عدد منها. * وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ هذِهِ التعْلِيقَاتِ -أيضاً- جَاءَتْ زِيَادَةً عَلَى تِلكَ الملاَحَظَاتِ؛ جَراءَ نَظَر الشيْخِ فِي الكِتَابِ، أوْ نَقْدِهِ، وَتَخْرِيجِهِ لِبَعْض المرْوِياتِ الوَارِدَةِ فِي كُتُبِ أخْرَى؛ فَيَضَعُ خُلاَصَةَ بَحْثِهِ فِي تَعْلِيقِ لَهُ هُنَا. وَقَدْ جَاءَ عَدَد مِنْ تعْلِيقَاتِهِ هذِهِ -حَفِظَهُ اللهُ- عَلَى تَعْلِيقَاتِ لِلشيخ أحْمَد شَاكِر عَلَى "الروضَةِ" (¬2) . ¬
أولا: شرح الغريب
* كَتَبَ شَيْخُنَا -بِخَطهِ- عَلَى آخِر نُسْخَتِهِ مِنَ "الروضَةِ" مَا لَفْظهُ: "فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَتِهِ بِمنَاسَبَةِ الاعْتِدَاءِ المثَلثِ (¬1) عَلَى مِصْرَ لَيْلَةَ السبْتِ ( ... (¬2) /4/1377 هـ) . ثُم فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَتِهِ كُلهِ -حَاشَا كِتَابَ الوَصِيةِ- لَيْلَةَ السبْتِ (29/8/1379 هـ) . ". * وَهذِهِ التَعْلِيقَاتُ (الرضيةُ) مُنَوعَةٌ مُتَعَددَةٌ، مِنْهَا (¬3) : أولاً: شَرْحُ الغريبِ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/4) شَرْحاً لِكَلِمَةِ (العِلقِ) : "بِكَسْر العَيْن: النفِيسُ مِنْ كُلٌ شَيْءِ، وَالجِرَابُ؛ وَلَعَل هذَا هُوَ المرَادُ هُنَا". 2- شَرَحَ في (1/187) (الخَلِفَات) ، وَقَالَ: " اسْمٌ لِلنوقِ الحَوَامِل، وَاحِدَتُهَا خَلِفَة، وَبِنْتُ المخَاض، وَابنُ المخَاضِ: مَا دَخَلَ فِي السنةِ الثانِيَةِ ... " إلخ. 3- وَشَرَحَ فِي (1/187) -أيْضاً- (ابْن اللبونِ) ، مُبيناً أنهُ: "مَا أتَى عَلَيْهِ سَنَتَانِ مِنَ الإِبِل ... ". ¬
ثانيا: التخريج، والنقد
4- شَرَحَ فِي (2/12) مَعنى "العَصَبَةَ" نَاقِلاً إِياهُ عَنْ "نِهَايَةِ" ابْن الأثير. 5- بَين فِي (2/13) خَطَأ تَفْسِير "عَوَان"، مُبَيناً وَجْهَ الصوَابِ فِيهِ. ثَانِياً: التخْريجُ، وَالنقْدُ؛ وَمِن أمثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/12) تَعْلِيقاً عَلَى قَوْلِ المؤَلفِ: (النهْيُ عَن الوُضُوءِ بِفَضْل وَضُوءِ المَرْأةِ) : "يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَغتسِلَ المَرْأةُ بِفَضْل الرجل.."، ثُم قَالَ: رَوَاهُ أبُو دَاودَ، وَالنسَائِي، بِسَنَدِ صَحِيح". 2- فَصلَ فِي (1/42) بِإِيضَاحِ الزيادَاتِ بَيْنَ الروَايَاتِ فِي العَزْوِ. 3- فَصلَ فِي (1/164) بِتَخريجِ حَدِيثِ خُرجَ إِجْمَالاً؛ مُبَيناً مُخَرجَهُ وَصَحَابِيهُ. 4- خَرج (1/196) حَدِيثَ: "الوَسْقُ سِتونَ صَاعاً"! مُبَيناً مَصَادِرَهُ، وَمُعِلاً لَهُ بِالانْقِطَاعِ.. 5- خَرجَ فِي (1/222) حَدِيثاً، مُشِيراً إِلَى تَصْحِيحِ جَمَاعَةِ مِن أهْل العِلمِ لَهُ، ثُم ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ ضَعفَهُ، مُرَجحاً تَضْعِيفِهِ.. 6- أشَارَ فِي (1/272) إِلَى تَتَبُّع ألفاظِ حَدِيث فِي "الصحِيحَيْن"، ثُم بَين أنه لم يَجِد لَفْظَةَ ذَكَرَهَا المصَنفُ -رَحِمَهُ اللهُ-. ثَالِثاً: المُنَاقَشَةُ وَالتَعَقب؛ وَمِن أمثَلَتِهِ: 1- نَاقَشَ فِي (1/7) صِحةَ حَدِيثِ القُلتيْن مُؤَيداً ثُبُوتَهُ، ثُم قَالَ:
"فَلاَ التِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ ضَعفَهُ؛ لأنهُ وَهَمٌ نَشَأ مِنْ عَدَمِ تَتَبع طُرُقِ الحَدِيثِ". 2- ثُم قَالَ فِي (1/7) حَوْلَ الحَدِيثِ نَفْسِهِ؛ رَاداً عَلَى مَنْ أعَلهُ بِالاضْطِرَابِ، قَائِلاً: "وَخُلاَصَةُ الجَوَابِ أن الحَدِيثَ صَحيحٌ إِسْنَادُهُ، وَالاضْطِرَابُ المَزْعُومُ فِيهِ لاَ يَضُر، وَأَن مَتْنَهُ بِلَفْظِ: "قُلتيْن"، وَأما مَا يُخَالِفُهُ؛ فهو إِما شَاذٌّ أوْ ضَعِيف، لا يَنْهَضُ لِمُعَارِضِةِ النص الصحِيحِ". 3- نَاقَشَ فِي (1/5) تَعْلِيلاً مِنَ المؤَلفِ لِحَدِيثِ: "المَاءُ طَهُور ... "، ثم قَالَ: "فَالعِلةُ مَا ذَكَرنا مِنْ الجَهَالَةِ، لا مَا أرَادَ أنْ يُصَورَهُ الشارحُ مِنَ الاخْتِلاَفِ". ْ4- تَعَقبَ فِي (1/13) عَزْوَ المصَنفِ حَدِيثاً لِلبَيْهَقِيٌ؛ قَائِلاً: "لَقَدْ أبْعَدَ المصَنفُ النجْعَةَ، فَالحَدِيثُ رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه -أيْضاً-، وإسنادُهُ صَحِيحٌ، -كَمَا بَينْتُهُ فِي "صَحِيحِ السنن" (رَقْمِ 408) -". 5- تَعَقبَ فِي (1/14) تَعْلِيلَ المصَنفِ النهْيَ عَن الصلاَةِ فِي معَاطِن الإبِل، بِأنَهَا: "رُبمَا تُؤْذِي المصَلي"! بِقَوْلِهِ: "هذَا التعْلِيلُ لا أصلَ لَهُ فِي السنةِ..". 6- تَعَقبَ فِي (1/157) عَزْوَ المصَنفِ لحَدِيثِ عَنْ سَمُرَةَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِم"، وَكَشَفَ مَا فِي طَيٌ ذلِكَ مِنْ وَهَم. 7- رَد عَلَى الصَنفِ فِي (1/173) اسْتِدْلاَلَهُ بِحَدِيث عَلَى اتباَع الجَنَازَةِ! بَيْنَما هُوَ فِي الانْصِرَافِ مِنْهَا!
رابعا: شرح مصطلحات حديثية، وذكر قواعد اصطلاحية
8- تَعَقبَ المصَنفَ فِي (1/183) بِنَقْلِهِ عَن الشوْكَانِى نَصّاً، مَعَ تَرْكِهِ جُزْءاً مُهِماً مِنهُ! رَابِعاً: شَرحُ مُصطَلَحَات حدِيثِية، وَذِكرُ قَوَاعِدَ اصطِلاَحِيةِ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ: 1- شَرح فِي (1/5) مُصطَلَحَ (غَريب) عِنْدَ ابْن الملَقن، قَالَ: "يَعْنِي: لاَ يُعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ؛ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي المقَدمَةِ". 2- قَالَ فِي (1/20) : "وَمَرَاسِيلُ الحَسَن ضَعِيفَة، قَالُوا: إِنهَا كَالرٌيحِ". 3- تكلمَ فِي (1/44) عَنْ قَاعِدَةِ انْجِبَارِ الحَدِيثِ بِكَثْرَةِ طرُقِهِ، مُبَيناً شَرطهَا، وَأنْ لاَ يكُونَ فِيهَا مُتهَم أو مَتْرُوك. 4- وَكذلِكَ أشَارَ فِي (2/21) إِلَى القَاعِدَةِ نَفْسِهَا. 5- أشَارَ فِي (1/161) إِلَى تسَاهُل ابْن حِبانَ فِي تَوْثِيقِهِ المجَاهِيلَ. 6- بَين فِي (1/165) أن الاستِحبابَ حكْمٌ شَرْعِي، لاَ يَثْبُتُ إِلا بِدَلِيل صَحِيح. 7- بَين فِي (2/12) عَدَمَ جَوَازِ رَد الحَدِيثِ بِنِسيَانِ رَاو، مَعَ حِفْظِ آخَرَ لَهُ. خَامِساً: تَصحِيحُ الأَخْطَاءِ المَطبَعِيةِ وَالسقطِ؛ وَمِن أَمْثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/4) تَعْلِيقاً عَلَى قَولِ المؤَلفِ: (طَالِبُ الحَقٌ الصادِقِ) : "لَعَلهُ: لِلحَقٌ صَادِقٌ".
سادسا: الشرح، والبيان، والتعريف
2- قَالَ فِي (1/10) : "وَلَعَلهُ سَقَطَ مِنْهُ قَوْلُهُ: "كَوْنِهِ سَاكِناً" كَمَا يَدُل عَلَيْهِ السياقُ وَالسباقُ". 3- بَينَ فِي (1/259) خَطَأ فِي النقْل عَن الترْمِذِيٌ تَحْسِينَ حَدِيث، مُشِيراً إِلَى أن ذلِكَ تَحْريف؛ مِنَ الناسخِ، أوِ الطَابعِ!! سَادِساً: الشرحُ، وَالبَيَانُ، وَالتَعْرِيفُ، ومِنْ أمْثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/43) تَعقِيباً عَلَى قَوْلِ المصَنفِ -فِي شَرح حَدِيثِ "إِنَمَا الأعْمَالُ بِالنياتِ"-: "فَإنْ كَانَ المقَدرُ عَاماً" ما لفظُهُ: "أيْ: لاَ عَمَلَ إِلا بِالنيةِ، وَلَما كَانَ هذَا مَتْروكَ الظاهِر -لأن الذوَاتِ غَيْر مُنْتَفِيَةِ- قَيدَهُ الشارعُ بِالعَمَل الشرْعِيٌ، وإنْ كَانَ خَاصّاً بِالأعْمَالِ -الأعْمَالِ الصالِحَةِ- كَمَا يَدُل عَلَيْهِ سِيَاقُ الحَدِيثِ". 2- نَاقَش (1/64) مَسْألَةَ صِفَةِ الحَيْض وَحَقِيقَتِهِ، رَاداً عَلَى المُصَنفِ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ. 3- قَالَ فِي (1/148) تعْلِيقاً عَلَى قَوْلِهِ "ليْلَةُ الهَرِيرِ": "بِفَتحِ الهَاءِ"، ثَم شرَحَهَا، وَذَكَرَ تَعْريفَهَا نَقْلاً عَن النَوَوِي في "تَهْذِيبِ الأسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ". 4- عَرف فِي (1/150) الفَرْسَخَ، وَالبَريدَ. 5- أفَادَ فِي (1/178) أن الأصْوَبَ فِي بِنَاءِ القَبْر تَسْنِيمُهُ، دُونَ تسطيحه. 6- فَرق فِي (1/253) بَيْنَ سَدْلِ المحرمَةِ عَلَى وَجْهِهَا -فَأجَازَهُ-،
سابعا: الاختيار والترجيح
وَبَيْنَ تَنَقبِهَا -فَمَنَعَهُ-. 7- ثَبتَ فِي (1/254) القَوْلَ بِالإجِمَاع عَلَى إِفْسَادِ الحَجٌ بِالجِمَاع. سَابِعاً: الاخْتِيَارُ وَالترْجِيحُ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/18) تَعْقِيباً عَلَى كَلاَمِ المصَنفِ حَوْلَ (النجَاسَاتِ) : "كَانَ اللائِقُ ذِكْرَ المذْي فِي النجَاسَاتِ المَنْصُوص عَلَيْهَا؛ لِوُرُودِ الأَمْر بِغَسلِهِ؛ كَمَا يُشِيرُ المؤَلفُ نَفْسُهُ إِلَى ذلِكَ". 2- نَقَدَ فِي (1/18) نَقْلَ القُرْطُبِي القَوْلَ بِالاتفَاقِ عَلَى نَجَاسَةِ الدمِ؛ مرَجحاً خِلاَفَهُ. 3- أفَاضَ فِي (1/60) فِي تَرْجِيحِ عَدَمِ مَشْرُوعِيةِ المسْحِ عَلَى الجَبِيرَةِ، مُنَاقِشاً الدلاَئِلَ وَالمسَائِلَ. 4- رَجحَ فِي (1/99) "أن السُّنةَ الوَضع عَلَى الصَدْرِ"، وَبَينَ أن مَا يُخَالِفُهُ: "ضَعِيف بِاتفَاقِ المحَدثِينَ؛ فَلاَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ". 5- رَجحَ فِي (1/156) وَجُوبَ صَلاَةِ الكسُوفِ. 6- رَد فِي (1/180) عَلَى مَنْ مَنَعَ اتباعَ النسَاءِ لِلجَنَائِز، مُبَيناً أنهُ - صلى الله عليه وسلم - مَنَعَهُن دُونَ عَزْم عَلَيْهِن. ... وَغَيْرُ هذَا وَذَاكَ -كَثِير- مِنْ مَبَاحِثَ شَرْعِيةِ، وَنَقَدَاتِ عِلمِيةِ؛ تُفِيدُ البَاحِثِينَ، وَتَنْفَعُ الراغِبِينَ.
فَجَزَى اللهُ -سُبحَانَهُ- خَيْراً: شَيْخَنَا؛ عَلَى مَا قَدمَ -وَيُقَدمُ- مِنْ أعمَال عِلمِية فِقْهِية حَدِيثِة؛ لهَا أثَرُهَا فِي الأمةِ، وَتَأصِيلِ بِنَائِهَا.
ترجمة العلامة صديق حسن خان
ترجمة العلامة صدِّيق حسن خان جرى المصنف -رحمه الله- على أن يترجم لنفسه في خواتيم بعض كتبه الهامة، مثل: "أبجد العلوم" (3/271) ، و "التاج المكلل" (541) ، و"إتحاف النبلاء" (263) ، وفعل مثل ذلك في خاتمة كتابه "الحِطة في ذكر الصحاح الستة" المطبوع -بتحقيقي- (ص 471-485) . وهو إذ يترجم لنفسه يتوسع في ذلك ويُفيض؛ فيذكر مولده، ونشأته، وأخذه عن العلماء، ورحلاته، وأعماله، ومؤلفاته. بيد أنه لا مناص في هذه المقدمة من إيراد ترجمة وجيزة مختصرةِ له، تضعُ بين يدي القارىء نبذة من حياتهِ -رحمه الله-، فأقول: * هو أبو الطيب، صديق حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القِنوجي، نزيل بهوبال - الهند. * كان مولده في التاسع عشر من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومئتين وألف من الهجرة النبوية، ببلدة "بريلي" موطن جده لأمه، ثم انتقلت أسرته إلى بلدة "قِنوج" موطن آبائه، ولما بلغ السادسة من عمره انتقل والده إلى رحمة الله -تعالى-، وبقي في حِجر أمه يتيماً، ونشأ عفيفاً، طاهراً، محباً للعلم والعلماء. * سافر إلى "دِهْلِي" ليتم تعليمه فيها، واجتهد في إتقان معارف القرآن
والسنة وتدوين علومِهما، وكانت له رغبة في اقتناء الكتب، وفهم زائد في قراءتها، وتحصيل فوائدها، وبخاصّةِ كتب التفسير والحديث والأصول، ثم سافر إلى "بهوبال" طلباً للمعيشة، فتزوج ملكتها، وفاز بثروة وافرة. * شيوخه عدة: منهم الشيخ محمد يعقوب أخو الشيخ محمد إسحاق حفيد الشيخ عبد العزيز الدهلوي المحدث، ومنهم الشيخ القاضي حسين بن محسن السبيْعي الأنصاري، والشيخ عبد الحق بن فضل الهندي (¬1) . * كان له في التأليف مَلكةٌ عجيبة، بحيث يكتب عدة كراريس في يوم واحد، ويصنف الكتب الفخمة في أيام قليلة، وقد شاعت كتبه وانتشرت في أقطار العالم الإسلامي، وكتب له كثير من العلماء رسائل فيها الثناء على كتبه والدعاء له، وعُد من رجال النهضة الإسلامية المجدّدين. * ترجمه الجمُّ الغفير من المصنفين؛ فله ترجمة في: "طبقات الأصوليين" (3/160) ، و"مشاهير علماء نجد" (541-457) ، و"حلية البشر" (2/ ¬
746) ، و "أنموذج الأعمال الخيرية" (388) ، و "الأعلام" (6/167) ، و"نزهة الخواطر"، (8/187) و"جلاء العينين" (30) ، و "معجم المؤلفين " (10/90) ، و"هدية العارفين" (2/388) ، و "معجم المطبوعات" (1201) ، و"فهرس الفهارس" (2/1055) ، و"إيضاح المكنون" (1/10) ، و"تاريخ آداب اللغة العربية" (2/96) ، و"المنْجِد" (421) ، و"عثرات المنْجِد" (317) ، و "التعليقات الظراف على الإتحاف" (34) ، و"حركة التأليف باللغة العربية ... " (274) ، و "اكتفاء القنوع" (497) و"تاريخ الأدب العربي" (2/859 - الملحق) ، و"الثقافة الإسلامية في الهند" (141) ، و"كشف الظنون عن كشف الظنون" (ص 3) ، و " مجلة الحج " (11/636) ، و"مجلة الجامعة الإسلامية" (12/47) . ولسليم فارس الشدْياق كتاب في ترجمته وذكر المثْنِين عليه، اسمه "قرة الأعيان ومسرة الأذهان". ولابنه علي حسن في سيرته كتاب سماه "مآثر صِديقي"، وآخر سماه " الروض البسام ". "وترجمه بعضُ العلماء بكتاب اسمه "قَطر الصَّيِّب في ترجمة الإمام أبي الطيب". وترجم هو لِنَفْسهِ بكتاب سماه "إبقاء المِنن". وللأستاذ أختر جمال لُقمان رسالة جامعية عن "عقيدة صديق حسن خان"، وهي مطبوعةٌ. * توفي -رحمه الله تعالى- سنة ألف وثلاث مئة وسبع هجرية، الموافق لسنة ألف وثمان مئة وتسع وثمانين ميلادية، فتكون مدة حياته تسعاً وخمسين
سنة قمرية، وسبعاً وخمسين سنة شمسية -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-. * بين المتَعاصِرَين: في الفترة التي عاش فيها العلامةُ الشيخ صديق حسن خان؛ كان هناك عالم كبير لا يقل عنه علماً، ولا ينقص عنه قدراً، وهو العلامة الشيخ عبد الحي اللكنوي -رحمه الله تعالى-، وجرت -على عادة الأقران- بينهما مباحثات علمية، وردود فقهية، وألف كل واحد في الرد على صاحبه كتباً ورسائل، إما تلميحاً أو تصريحاً. وكانت الحملة موجهة من قِبَل الشيخ اللكنوي أكثر منها من ناحية القِنوجي؛ فلقد أكثر الأول في مَثَاني تصانيفه، وتعليقاتهِ عليها من قوله: "وقال غير ملتزم الصحة من أفاضل عصرنا"! مشيراً بذلك إلى العلامة القِنوجي!! وبلغت هذه الردود في لحظة من اللحظات أوْجَ الشدةِ، حتى قال الشيخ عبد الحي الحسني -رحمه الله- واصفاً تلك الردود والمباحثات -في كتابه المستطاب "نزهة الخواطر" (8/236) -: ".... وانجرَّ إلى ما تأباه الفطرة السليمة ... "! وكان الشيخ اللكنوي حريصاً الحرص كله على متابعة هذه الردود، وَعَدم انقطاعها إلا لصالحه! بدليل ما قاله العلامة عبد الحي الحسني -رحمه الله- في كتابه "الثقافة الإسلامية في الهند" (ص 86) أثناء تعداده أسماء مصنفات اللكنوي، فقال: " ... و"إبراز الغيّ الواقع في شفاء العي"، و"تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد" -كلها بالعربية- للشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي المذكور، أما "شفاء العي عمّا أورده الشيخ عبد الحي"؛ فهو لبعض العلماء، صنفه في الرد على تعقبات الشيخ عبد الحي المذكور في مصنفاته على السيد
صديق حسن خان القِنّوجي في الوفيات، فأجاب عنه الشيخ عبد الحي في "إبراز الغي"، فرد عليه بعضهم في رسالة مستقلة سماها "تبصرة الناقد برد كيد الحاسد"، فأجاب عنه الشيخ عبد الحي في "تذكرة الراشد ... ". (¬1) قلت: ولعل مرجع هذا كله إلى سببين: الأول: اعتداد اللكنوي بنفسه، واعتقاده أنه يختلف عن علماء عصره، كما قال هو نفسه في "ظَفَر الأماني" (¬2) (ص 245) : " ... وإني أحمد الله حمداً متوالياً، وأشكره شكراً متتالياً على أن وفقني للتوسط في جميع المباحث الفقهية والحديثية، ورزقني نظراً وسيعاً، وفهماً رفيعاً، أقتدر به على الترجيح فيما بين أقوالهم المتفرقة، ونجاني من بلية تقليد المتشددين المتساهلين تقليداً جامداً، واختيار قول إحدى الطائفتين من دون تبصر وتفكر اختياراً كاسداً، لا أقول هذا تكبراً وفخراً! بل متحدثاً بنعمة الرب وشكراً، ولربي عَلي مِنَنْ مختصة، لا أقدر على عدها، ونِعَمٌ مُتكَثرة لا يمكن مني حصرها، فشكري هو العجز عن أداء شكرها، وأرجو من ربي دوامها وذُخرَها" (¬3) . الثاني: جِبِلة القنوجي وطبيعة خِلْقته؛ فقد كان -رحمه الله- كما وصفه معاصروه "حلو المنطق، مُقِلاً من الكلام، غير جاف ولا عبوس، كثير الحِلم، قليل الغضب، عفيف اللسان، لا يقترح لنفسه شيئاً، مشغول الفكر بالمطالعة ¬
والتأليف ... منصفاً، يعرف لأقرانه ولكثير مِمن يخالفه فضلهم ... " (¬1) . قلت: ودليل على هذا قول ولده الفاضل السيد علي حسن خان واصفاً حالة والده عند موت اللكنوي -رحمة الله عليه-: "إنه لما بلغه نَعِي العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي؛ وضع يده على جبهته، وأطرق رأسه برهة، ثم رفع رأسه، وعيناه تدمعان، وهو يدعو للشيخ ويترحم، وقال: اليوم غربت شمس العلم، وقال: إن اختلافنا كان مقصوراً على تحقيق بعض المسائل، ولم يأكل طعاماً في تلك الليلة ... " (¬2) . والخلاصة أنّ: "كلام النظير والأقران ينبغي أن يُتأمل، ويُتأنى فيه ... "، كما قال الحافظ الذهبي (¬3) -رحمه الله-. * المنهج التأليفي عند المصنف: اختلفت أنظار أهل العلم وطلبته في مصنفات العلامة القِنوجي؛ فمنهم مَن قال: إنه لخصها من بعض مصنفات السابقين ولم يزد عليها شيئاً يُذكر! ومنهم من قال: إن سائره من إبداعه، وتصنيفه، وتأليفه!! ورحم الله العلامةَ الكتاني القائل في كتابهِ "فهرس الفهارس" (2/1057) رداً على مثل ذلك الادّعاء: "وما لبعض المسيحيين (¬4) في كتاب له اسمُهُ "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع" من أن المترجم -وهو القِنوجي- كان عاميّاً ¬
وتزوج بملكة بَهُوبال، فعندما اعتزّ بالمال جمع إليه العلماء! وأرسل يبتاع الكتب بخط اليد! وكلّف العلماء بوضع المؤلفات ثم نسبها لنفسه! بل كان يختار الكتب القديمة العديمة الوجود (!) وينسبها لنفسه ... إلخ!! فكلام أعدائه فيه، وإلا فالتآليف تآليفه، ونَفَسُهُ فيها مُتحِدٌ ... ". قلت: فهذه الدعوى مجازفةٌ واضحةٌ، وفِرْيةٌ عريضةٌ من فنديك المذكور، والصواب ما قاله الكتّاني -رحمه الله تعالى-، وإن كانت السمةُ البارزةُ على مصنفاته -رحمه الله- التلخيص والتهذيب، والزيادة والترتيب، والجمع والتبويب، وهو بذلك مشابهٌ لإمام كبير من أئمة العلم، وهو الحافظ السيوطي (¬1) المتوفى سنة (911 هـ) ؛ فقد عُرف عنه المنهج نفسه، وهو منهج يدل على استبحار في العلوم، ونظر في الكتب والفنون، وليس أمراً سهلاً هيناً كما يظنه بعض المنتسبين العلم! ومِما يُنَبهُ عليه -في هذا المقام- أن الادعاءَ على أهل العلم -أو بعض منهم- بالانتحالِ! والسرقاتِ العلمية (!) شَأن قديمٌ لم يَنْجُ الأكابر -فيه- من كَيْد الأصاغر!! ثم (تجدد) هذا النمَطُ من التُّهَم -هذه الأيامَ- حتّى ألِّفت فيه مؤلفات! وَوُزعت مِن أجلهِ بيانات!! خِدْمة لأهداف مخالفة لمنهج الأسلاف!!! وترى شيئاً من تفصيل القولِ في هذه المسألةِ (الخطيرة) في كتاب "الفارق بين المصنّف والسارق" للعلامة السيوطي -ومقدمتي عليه-؛ وهو مطبوع -منذ سنوات- بتحقيقي ... وأخيراً؛ رحم اللهُ العلامة صِديق حَسَن خان، وجَمعنا -وإيّاه- في جنتهِ، إنّه -سبحانه- وليُّ ذلك والقادرُ عليه. ¬
"الدرر البهية" تعريف وبيان
"الدُّرَرُ البهِيةُ" تَعْرِيف وبَيَانٌ * هُوَ مَتْنٌ فِقْهِي مُختصَرٌ؛ اسْمُهُ: "الدُّرَرُ البَهِية فِي المَسَائِل الفِقهِية" (¬1) ؛ جَمَعَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ -وَهُوَ الإِمَامُ مُحَمدُ بْنُ عَلَيٍّ الشوْكَانِي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عُيُونَ مَسَائِل الفِقْهِ التِي رَجَحَ دَلِيلُهَا، وَثَبَتَتْ حُجتهَا. * وَهذَا المتْنُ -عَلَى صِغَرِهِ وَوَجَازَتِهِ- مُحتَو عَلَى أبَوَابِ الفِقْهِ جمِيعِهَا؛ بِعِبَارَة جَامِعَة، وَألفَاظِ بَدِيعَةِ رَائِعَة. * وَقَدْ شَرَحَهُ -وَاعْتَنَى بِهِ- غَيْرُ وَاحِدِ مِنْ أهْل العِلْمِ؛ مِنْهُمْ: 1- مُؤَلفُهُ نَفْسُهُ؛ بِكِتَابِ اسْمُهُ: "الدرَارِي المضِية شَرْحُ الدررِ البَهِية"، وَهُو مَطبُوعٌ مِرَاراً. 2- وَلَدُ مُؤَلفِهِ، وَهُوَ أحمَدُ بْنُ مَحَمدِ بْن عَلَيِّ الشوْكَانِيُّ -وَقَدْ تُوُفيَ سَنَةَ (1281 هـ) -، بِكِتَاب اسْمُهُ: "السُّمُوطُ الذهَبِية الحَاوِيَةُ لِلدُّرَرِ البَهِية"، وَهُوَ مَطبُوع. 3- صِديق حَسَن خَان، فِي كِتَابِهِ: "الروضَةِ الندِيةِ" (¬2) -وَهُوَ كِتَابُنَا هذَا-. ¬
4- مُحَمد صُبْحِي حَسَن حَلاق -مُعاصر-، بِكِتَابِ اسْمُهُ: "الأدِلةُ الرضية لِمَتْن الدُّرَرِ البَهِية"، وَهُوَ مَطبُوع. 5- سَعْد الدين بن محمد الكُبي -معاصر-؛ بكتابِ اسمُهُ: "التعليقات الزهية على الدُّرر البهية"، وهو مطبوع. 6- وَهُنَاكَ نَظم لِـ "الدُّرَرِ البَهِيةِ" بقلم (عَلِي بْن مُحَمدِ بْن عَقِيل الحَازِمِيٌ) المُتَوَفى سَنَةَ (1252 هـ) ، كَمَا فِي "نَيْل الوَطَرِ" (2/160) . 7- وَنَظمٌ آخَر مَبْنِي عَلَى "الدررِ" لـ (عَلَيٌ بن عَبْدِ الله الإِرْيَانِي) المتَوَفى سَنَةَ (1323 هـ) ، كَمَا فِي كِتَابِ "هِجَر العِلْمِ وَمَعَاقِلِهِ فِي اليَمَن" (1/69) . * وَلَيْسَتْ هذِهِ العِنَايَةُ مِنْ أهْل العِلمِ -هَؤُلاَءِ- إِلا مِنْ أجْل مكَانَتِهِ وَمَتَانَتِهِ. فَرَحِمَ اللهُ مُؤَلفَهُ، وَأعْلَى مَقَامَهُ فِي الدارَيْن؛ بِمَنِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وَكَرَمِهِ.
صورة غلاف النسخة المعتمدة في التحقيق وظاهر فيها خطوط شيخنا الألباني ومن ذلك عنوان كتابه
صورة نموذج من تعليقات شيخنا الألباني على الجزء الأول من "الروضة الندية"
صورة نموذج من التعليقات (الكبيرة) التي أثبتها شيخنا الألباني في نسخته
متن "الدرر البهية في المسائل الفقهية"
متن "الدرر البهية في المسائل الفقهية"
كتاب الطهارة
بسم الله الرحمن الرحيم أحمدُ مَن أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين. (1 - كتاب الطهارة) (1 - باب) هذا الكتاب قد اشتمل على مسائل: الأولى: الماء طاهر مطهِّر، لا يُخرجه عن الوصفيْن إلا ما غيَّر ريحه، أو لونه، أو طعمه من النجاسات، وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيِّرات الطاهرة، ولا فرق بين قليل وكثير، وما فوق القُلَّتين وما دونهما، ومتحرك وساكن، ومستعمَل وغير مستعمَل. (2 - باب النجاسات) فصل: والنجاسات هي غائط الإنسان مُطْلقاً، وبوله - إلا الذكر الرضيع -، ولُعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل الطهارة؛ فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يُعارضه ما يساويه أو يقدم عليه. فصل: ويطهر ما يتنجَّس بغسله، حتى لا يبقى لها عين، ولا لون، ولا ريح،
باب قضاء الحاجة
ولا طعم، والنعل بالمسح، والاستحالة مطهِّرة لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله فبالصَّبِّ عليه أو النزح منه؛ حتى لا يبقى للنجاسة أثر. والماء هو الأصل في التطهير؛ فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع. (3 - باب قضاء الحاجة) على المُتخلِّي الاستتار حتى يدنو من الأرض، والبُعد أو دخول الكنيف، وترْك الكلام، والمُلابسة لما له حُرمة، وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شَرْع أو عُرْف، وعدم الاستقبال، والاستدبار للقبلة، وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة، أو ما يقوم مقامها، ويُندب الاستعاذة عند الشُّروع، والاستغفار والحمد بعد الفراغ. (4 - باب الوضوء) يجب على كل مكلَّف أن يُسمِّي إذا ذَكَرَ، ويتمضمض ويستنشق، ثم يغسل جميع وجهه، ثم يديه مع مرفقيه، ثم يمسح رأسه مع أذنيه، ويجزئ مسح بعضه، والمسح على العِمامة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، وله المسح على الخفين. ولا يكون وضوءاً شرعيّاً إلا بالنية لاستباحة الصلاة. فصل: يُستحبّ التَّثليث في غير الرأس، وإطالة الغُرّة والتّحْجيل، وتقديم السِّواك، وغسل اليدين إلى الرسغين - ثلاثاً - قبل الشُّروع في غسل الأعضاء المتقدمة.
باب الغسل
فصل: وينتقض الوضوء من الفرجين من عين أو ريح، وبما يوجب الغسل، ونوم المضطجع، وأكل لحم الإبل، والقيء، ونحوه، ومس الذكر. (5 - باب الغسل) يجب بخروج المنيّ بشهوة - ولو بتفكر -، وبالتقاء الختانين، وبانقطاع الحيض والنفاس، وبالاحتلام - مع وجود بلل -، وبالموت، وبالإسلام. فصل: والغسل الواجب هو: أن يُفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه، مع المضمضة والاستنشاق، والدَّلك لما يُمكن دلكه، ولا يكون شرعيا إلا بالنية لرفع موجبه، ونُدب تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين، ثم التيامن. فصل: ويشرع لصلاة الجمعة، والعيدين، ولمن غسّل ميتاً، وللإحرام، ولدخول مكة. (6 - باب التيمم) يُستباح به ما يُستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء، أو خشي الضرّر من استعماله، وأعضاؤه: الوجه ثم الكفّان، يمسحهما مرّة بضربة
باب الحيض
واحدة، ناوياً مُسمياً، ونواقضه نواقض الوضوء. (7 - باب الحيض) لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطُّهر، فذات العادة المتقرِّرة تعمل عليها، وغيرها ترجع إلى القرائن، فدم الحيض يتميز من غيره، فتكون حائضاً إذا رأت دم الحيض، ومستحاضة إذا رأت غيره، وهي كالطاهرة، وتغسل أثر الدم، وتتوضأ لكل صلاة، والحائض لا تصلي، ولا تصوم، ولا تُوطأ؛ حتى تغتسل بعد الطهر، وتقضي الصيام. فصل: والنفاس أكثره أربعون يوماً، ولا حدّ لأقله، وهو كالحيض. (2 - كتاب الصلاة) (1 - باب مواقيت الصلاة) أول وقت الظهر الزوال، وآخره مصير ظل الشيء مثله - سوى فيء الزوال -، وهو أول وقت العصر، وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية، وأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخره ذهاب الشفق الأحمر، وهو أول العشاء، وآخره نصف الليل، وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر، وآخره طلوع الشمس، ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتُها حين يذكرها، ومن كان معذوراً وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، والتوقيت واجب، والجمع لعذر جائز، والمتيمم وناقص الصلاة - أو الطهارة - يصلون كغيرهم من غير تأخير، وأوقات الكراهة - في غير مكة -: بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال - في غير يوم الجمعة -، وبعد العصر حتى تغرب.
باب الأذان
(2 - باب الأذان) يُشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنا؛ يُنادي بألفاظ الأذان المشروعة عند دخول وقت الصلاة، ويُشرع للسامع أن يتابع المؤذن، ثم تُشرع الإقامة على الصفة الواردة. (3 - باب شروط الصلاة) ويجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسة، وستر عورته؛ ولا يشتمل الصَّمَّاء، ولا يَسدل، ولا يُسبل، ولا يَكفت، ولا يصلي في ثوب حرير، ولا ثوب شهرة، ولا مغصوب، وعليه استقبال عين الكعبة - إن كان مُشاهداً لها أو في حكم المشاهد -، وغير المشاهد يستقبل الجهة بعد التحري. (4 - باب كيفية الصلاة) لا تكون شرعية إلا بالنية، وأركانها كلها مفترضة؛ إلا قعود التشهد الأوسط والاستراحة، ولا يجب من أذكارها إلا التكبير؛ والفاتحة في كل ركعة - ولو كان مؤتمّاً -، والتشهد الأخير، والتسليم، وما عدا ذلك فسنن، وهي: الرفع في المواضع الأربعة، والضم، والتوجه بعد التكبيرة، والتعوذ، والتأمين، وقراءة غير الفاتحة معها، والتشهد الأوسط، والأذكار الواردة في كل ركن، والاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة؛ بما ورد وبما لم يرد. (5 - باب متى تبطل الصلاة؟ وعمن تسقط؟) فصل: وتبطل الصلاة بالكلام، وبالاشتغال بما ليس منها، وبترك شرط أو ركن عمداً.
باب صلاة التطوع
فصل: ولا تجب على غير مُكلَّف، وتسقط عمن عجز عن الإشارة، وعمن أُغمي عليه حتى خرج وقتها، ويصلي المريض قائماً، ثم قاعداً، ثم على جَنْب. (6 - باب صلاة التطوع) هي أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، وصلاة الضحى، وصلاة الليل - وأكثرها ثلاث عشرة ركعة؛ يُوْتر في آخرها بركعة -، وتحية المسجد، والاستخارة، وركعتان بين كل أذان وإقامة. (7 - باب صلاة الجماعة) هي من آكد السنن؛ وتنعقد باثنين، وإذا كثر الجمع؛ كان الثواب أكثر، وتصح بعد المفضول، والأوْلى أن يكون الإمام من الخِيار، ويؤم الرجل بالنساء - لا العكس -، والمفترض بالمُتنفِّل - والعكس -، وتجب المتابعة في غير مبطل، ولا يؤم الرجل قوماً هم له كارهون، ويصلي بهم صلاة أخفهم، ويُقدَّم السلطان، ورب المنزل، والأقرأ، ثم الأعلم، ثم الأسن، وإذا اختلَّت صلاة الإمام؛ كان ذلك عليه لا على المؤتمِّين به، وموقفهم خلفه؛ إلا الواحد فعن يمينه، وإمامة النساء وسط الصف، وتقدم صفوف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، والأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنُّهَى، وعلى الجماعة أن يُسوَوُّا صفوفهم، وأن يسدوا الخَلل، وأن يُتموا الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم
باب سجود السهو
كذلك. (باب سجود السهو) وهو سجدتان قبل التسليم أو بعده؛ وبإحرام، وتشهد، وتحليل، ويُشرع لترك مسنون، وللزيادة - ولو ركعة - سهواً، وللشك في العدد، وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم. (باب القضاء للفوائت) إن كان الترك عمداً لا لعذر؛ فدَيْن الله - تعالى - أحق أن يُقضى، وإن كان بعذر، فليس بقضاء؛ بل أداء في وقت زوال العذر؛ إلا صلاة العيد؛ ففي ثانيه. (باب صلاة الجمعة) تجب على كل مُكلَّف؛ إلا المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض، وهي كسائر الصلوات؛ لا تُخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبلها، ووقتها وقت الظهر، وعلى من حضرها أن لا يتخطّى رقاب الناس، وأن يُنصت حال الخطبتين، ونُدِب له التَّبْكير، والتطيب، والتجمل، والدنو من الإمام، ومن أدرك ركعة منها؛ فقد أدركها، وهي في يوم العيد رخصة. (باب صلاة العيدين) هي ركعتان؛ في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك، ويخطب بعدها، ويستحب التجمل، والخروج إلى خارج البلد،
باب صلاة الخوف
ومخالفة الطريق، والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى، ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، ولا أذان فيها ولا إقامة. (باب صلاة الخوف) قد صلاّها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على صفات مختلفة؛ وكلها مجزئة، وإذا اشتد الخوف والتحم القتال؛ صلاّها الرّاجل والرّاكب - ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء -. (باب صلاة السفر) يجب القصر على من خرج من بلده قاصداً للسفر؛ وإن كان دون بريد، وإذا أقام ببلد مترددا؛ قصر إلى عشرين يوماً، وإذا عزم على إقامة أربع؛ أتم بعدها، وله الجمع تقديماً وتأخيراً؛ بأذان وإقامتين. (باب صلاة الكسوفين) وهي سُنّة، وأصح ما ورد في صفتها ركعتان؛ وفي كل ركعة ركوعان، وورد ثلاثة، وأربعة، وخمسة، يقرأ بين كل ركوعين، وورد في كل ركعة ركوع، وندب الدعاء، والتكبير، والتصدق، والاستغفار. (باب صلاة الاستسقاء) تُسنّ عند الجدْب ركعتان؛ بعدهما خُطبة؛ تتضمن الذِّكْر، والترغيب في الطاعة، والزّجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار، والدعاء برفع الجدْب، ويُحوِّلون - جميعاً - أرديتهم.
كتاب الجنائز
(3 - كتاب الجنائز) من السُّنَّة عيادة المريض، وتلقين المحتضر الشهادتين، وتوجيهه وتغميضه إذا مات، وقراءة (يس) عليه، والمبادرة بتجهيزه - إلا لتجويز حياته -، والقضاء لدَيْنه، وتسْجِيَته، ويجوز تقبيله، وعلى المريض أن يُحسن الظن بربه، ويتوب إليه، ويتخلص عن كل ما عليه. فصل: ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء، والقريب أولى بالقريب؛ إذا كان من جنسه، وأحد الزوجين بالآخر، ويكون الغسل ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر؛ بماء وسدر؛ وفي الآخرة كافور، وتُقدَّم الميامن، ولا يُغسَّل الشهيد. فصل: يجب تكفينه بما يستره - ولو لم يملك غيره -، ولا بأس بالزيادة - مع التمكن - من غير مغالاة، ويُكفَّن الشهيد في ثيابه التي قُتل فيها، وندب تطييب بدن الميت وكفنه. فصل: وتجب الصلاة على الميت، ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة، ويُكبِّر أربعاً أو خمساً، ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة، ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة، ولا يصلَّى على الغالِّ، وقاتل نفسه، والكافر، والشهيد، ويُصلَّى على القبر، وعلى الغائب.
كتاب الزكاة
فصل: ويكون المشي بالجنازة سريعاً، والمشي معها، والحمل لها سُنّة، والمتقدم عليها والمتأخِّر عنها سواء، ويُكره الرُّكوب، ويحرم النعي، والنياحة، واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور، ولا يقعد المتبع لها حتى توضع، والقيام لها منسوخ. فصل: ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السِّباع، ولا بأس بالضَّرح، واللحد أوْلى، ويُدخل الميِّت من مؤخِّر القبر، ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلاً، ويستحب حثو التراب - من كل من حضر - ثلاث حثيات، ولا يُرفع القبر زيادةً على شبر. والزيادة للموتى مشروعة، ويقف الزائر مستقبلاً للقبلة، ويحرم اتخاذ القبور مساجد، وزخرفتها، وتسريجها، والقعود عليها، وسب الأموات. والتعزية مشروعة، وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت. (4 - كتاب الزكاة) تجب في الأموال التي ستأتي؛ إذا كان المالك مُكلَّفاً. (باب زكاة الحيوان) إنما تجب منه في النعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
فصل: إذا بلغت الإبل خمساً؛ ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين؛ ففيها ابنة مخاض، أو ابن لبون، وفي ست وأربعين حقة، وفي إحدى وستين جذعة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقَّتان إلى مئة وعشرين، فإذا زادت؛ ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حِقَّة. فصل: ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي أربعين مُسنَّة، ثم كذلك. فصل: ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مئة وإحدى وعشرين وفيها شاتان إلى مئتين وواحدة، وفيها ثلاث شياه إلى ثلاث مئة وواحدة، وفيها أربع، ثم في كل مئة شاة. فصل: ولا يُجمع بين مُفترق من الأنعام، ولا يُفرَّق بين مجتمع؛ خشية الصدقة. فصل: ولا شيء فيما دون الفريضة، ولا في الأوقاص، وما كان من خليطين فيتراجعان بالسَّويَّة، ولا تُؤخذ هَرِمة، ولا ذات عَوار، ولا عيب، ولا صغيرة، ولا أكولة، ولا رُبَّى، ولا ماخض، ولا فحل غنم.
باب زكاة الذهب والفضة
(باب زكاة الذهب والفضة) هي - إذا حال على أحدهما الحوْل - ربع العشر، ونصاب الذهب عشرون ديناراً، ونصاب الفضة مئتا درهم، ولا شيء فيما دون ذلك، ولا زكاة في غيرهما من الجواهر، وأموال التجارة، والمستغلاّت. (باب زكاة النّبات) يجب العشر في الحنطة، والشعير، والذرة، والتمر، والزبيب؛ وما كان يُسقى بالمسنيِّ منها؛ ففيه نصف العشر، ونصابها خمسة أوسق، ولا شيء فيما عدا ذلك، كالخضروات وغيرها، ويجب في العسل العشر. ويجوز تعجيل الزكاة، وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم، ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان - وإن كان جائراً -. (باب مصارف الزكاة) هي ثمانية - كما في الآية -، وتحرم على بني هاشم ومواليهم، وعلى الأغنياء، والأقوياء المكتسبين. (باب صدقة الفطر) هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد، والوجوب على سيد العبد، ومنفق الصغير، ونحوه، ويكون إخراجها قبل صلاة العيد، ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته؛ فلا فطرة عليه، ومصرفها مصرف الزكاة.
كتاب الخمس
(5 - كتاب الخُمس) يجب فيما يُغنم في القتال، وفي الرِّكاز، ولا يجب فيما عدا ذلك، ومصرفه من قوله - تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} . (6 - كتاب الصيام) يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل، أو إكمال عدة شعبان، ويصوم ثلاثين يوماً؛ ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها، وإذا رآه أهل بلد؛ لزم سائر البلاد الموافقة، وعلى الصائم النية قبل الفجر. (باب مبطلات الصيام) ويبطل بالأكل، والشرب، والجماع، والقيء عمداً، ويحرم الوصال، وعلى من أفطر عمداً كفّارة ككفَّارة الظِّهار، ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور. فصل: يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي، والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة، ومن مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه، والكبير العاجز عن الأداء والقضاء؛ يُكفِّر عن كل يوم بإطعام مسكين، والصائم المتطوع أمير نفسه، لا قضاء عليه ولا كفّارة. (باب صوم التطوع) يُستحبّ صيام ست من شوال، وتسع ذي الحجة، ومحرّم، وشعبان،
باب الاعتكاف
والاثنين والخميس، وأيام البيض، وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم، ويُكره صوم الدهر، وإفراد يوم الجمعة، ويوم السبت، ويحرم صوم العيدين، وأيام التشريق، واستقبال رمضان بيوم أو يومين. (باب الاعتكاف) يُشرع - ويصح - في كل وقت في المساجد، وهو في رمضان آكد، سيّما في العشر الأواخر منه، ويستحب الاجتهاد في العمل فيها، وقيام ليالي القدر، ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة. (7 - كتاب الحج) يجب على كل مكلَّف مستطيع فوراً، وكذلك العمرة؛ وما زاد فهو نافلة. فصل: يجب تعيين نوع الحج بالنية؛ من تمتع أو قِران أو إفراد، والأول أفضلها، ويكون الإحرام من المواقيت المعروفة، ومن كان دونها؛ فمُهَلُّه أهله؛ حتى أهل مكة من مكة. فصل: ولا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسّه ورْس، ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس
القفازين، وما مسه الورس والزعفران، ولا يتطيب ابتداء، ولا يأخذ من شعره أو بشره إلا لعذر، ولا يرفث، ولا يفسق، ولا يجادل، ولا ينكح، ولا يُنكح، ولا يخطب، ولا يقتل صيداً، ومن قتله؛ فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل، ولا يأكل ما صاده غيره؛ إلا إذا كان الصائد حلالاً ولم يصده لأجله، ولا يعضد من شجر الحرم؛ إلا الإذخر، ويجوز قتل الفواسق الخمس، وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة؛ إلا أن من قطع شجره أو خبطه؛ كان سلبه حلالاً لمن وجده، ويحرم صيد وجٍّ وشجره. فصل: وعند قدوم الحاج مكة؛ يطوف للقدوم سبعة أشواط، يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويقبّل الحجر الأسود، أو يستلمه بمحجن ويقبّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني، ويكفي القارن طواف واحد، وسعي واحد، ويكون حال الطواف متوضئاً ساتر العورة، والحائض تفعل ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوف بالبيت، ويندب الذِّكر حال الطواف بالمأثور، وبعد فراغه يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، ثم يعود إلى الركن فيستلمه. فصل: ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعياً بالمأثور، وإذا كان متمتّعاً؛ صار بعد السعي حلالاً؛ حتى إذا كان يوم التروية؛ أهلّ بالحج، وتوجه إلى منًى، وصلى بها: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر.
فصل: ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبراً، ويجمع العصرين فيها، ويخطب، ثم يفيض من عرفة بعد الغروب، ويأتي المزدلفة؛ ويجمع فيها بين العشاءين، ثم يبيت بها، ثم يصلي الفجر، ويأتي المشعر؛ فيذكر الله عنده، ويقف به إلى قبل طلوع الشمس، ثم يدفع حتى يأتي بطن محسِّر، ثم يسلك الطريق الوسطى إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات؛ يكبِّر مع كل حصاة - مثل حصى الخذف -، ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس؛ إلا النساء والصبيان؛ فيجوز لهم قبل ذلك، ويحلق رأسه أو يقصِّره، فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي؛ فلا حرج، ثم يرجع إلى منى: فيبيت بها ليالي التشريق، ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات؛ مبتدئاً بالجمرة الدنيا، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، ويُستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم يوم النحر، وفي وسط أيام التشريق، ويطوف الحاج طواف الإفاضة - وهو طواف الزيارة - يوم النحر، وإذا فرغ من أعمال الحج، وأراد الرجوع؛ طاف للوداع وجوبا؛ إلا أنه خُفِّف عن الحائض. فصل: والهدي؛ أفضله البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، وتجزئ البدَنَة والبقرة عن سبعة، ويجوز للمُهدي أن يأكل من لحم هديه، ويركب عليه، ويُنْدب له إشعاره وتقليده، ومن بعث بهدي؛ لم يحرُم عليه شيء مما يحرم على المُحرم.
باب العمرة المفردة
(باب العمرة المفردة) يُحرِم لها من الميقات، ومن كان في مكة؛ خرج إلى الحِلّ، ثم يطوف، ويسعى، ويحلق - أو يقصِّر -، وهي مشروعة في جميع السنة. (8 - كتاب النكاح) يُشرع لمن استطاع الباءة، ويجب على من خشي الوقوع في المعصية، والتَّبتُّل غير جائز؛ إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه، وينبغي أن تكون المرأة ودوداً، ولوداً، بكراً، ذات جمال، وحسب، ودين، ومال، وتُخطب الكبيرة إلى نفسها، والمعتبَر حصول الرِّضا منها لمن كان كُفْأ، والصغيرة إلى وليّها، ورضا البكر صُماتها، وتحرم الخطبة في العدة وعلى الخطبة، ويُستحب النظر إلى المخطوبة، ولا نكاح إلا بولي وشاهدين؛ إلا أن يكون عاضلاً، أو غير مسلم؛ ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يُوكِّل لعقد النكاح ولو واحداً. فصل: ونكاح المتعة منسوخ، والتحليل حرام، وكذلك الشغار، ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة؛ إلا أن يُحل حراماً، أو يُحرِّم حلالاً. (باب المحرمات في النكاح) ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة؛ والعكس، ومن صرّح القرآن بتحريمه، والرضاع كالنسب، والجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها، وما زاد على العدد المباح؛ للحر والعبد، وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده؛ فنكاحه
باب العيوب وأنكحة الكفار
باطل، وإذا أُعتقت الأمَة ملكت أمر نفسها، وخُيِّرت في زوجها. (باب العيوب وأنكحة الكفّار) ويجوز فسخ النكاح بالعيب، ويُقرّ من أنكحة الكفار - إذا أسلموا - ما يُوافق الشّرع، وإذا أسلم أحد الزوجين؛ انفسخ النّكاح، وتجب العدّة، فإن أسلم ولم تتزوج المرأة؛ كانا على نكاحهما الأول؛ ولو طالت المدة؛ إذا اختارا ذلك. (باب المهر والعِشْرة) المهر واجب، وتُكره المغالاة فيه، ويصح ولو خاتماً من حديد، أو تعليم قرآن، ومن تزوج امرأة ولم يُسمّ لها صداقاً؛ فلها مهر نسائها إذا دخل بها، ويُستحبّ تقديم شيء من المهر قبل الدخول، وعليه إحسان العِشْرة، وعليها الطاعة، ومن كانت له زوجتان فصاعداً؛ عَدَل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه، وإذا سافر أقرع بينهن، وللمرأة أن تَهَب نوْبتها، أو تُصالح الزوج على إسقاطها، ويقيم عند الجديدة البِكْر سبعاً، والثيّب ثلاثاً، ولا يجوز العزل، ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها. فصل: والولد للفراش، ولا عبرة لشَبَهه بغير صاحبه، وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمَة في طهر مَلَكها كل واحد منهم فيه، فجاءت بولد، وادّعوه جميعاً؛ فيُقْرَع بينهم، ومن استحقّه بالقُرعة؛ فعليه للآخرين ثُلُثَا الدِّيّة.
كتاب الطلاق
(9 - كتاب الطلاق) هو جائز من مُكلَّف مختار، ولو هازلاً؛ لمن كانت في طُهر لم يمسّها فيه، ولا طلّقها في الحيضة التي قبله، أو في حمل قد استبان، ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة، وفي وقوعه - ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة - خلاف، والراجح عدم الوقوع. فصل: ويقع بالكناية مع النيّة، وبالتّخيير إذا اختارت الفُرقة، وإذا جعله الزوج إلى غيره؛ وقع منه، ولا يقع بالتحريم، والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقها، يُراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيّاً، ولا تحل له بعد الثالثة، حتى تنكح زوجاً غيره. (باب الخُلْع) وإذا خالع الرجل امرأته؛ كان أمرها إليها، لا ترجع إليه بمجرد الرجعة، ويجوز بالقليل والكثير؛ ما لم يجاوز ما صار إليها منه، ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخُلْع، أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما. وهو فَسْخ، وعِدّته حيضة. (باب الإيلاء) هو أن يحلف الزوج على جميع نسائه - أو بعضهن -: لا أقربهنّ، فإن وقّت بدون أربعة أشهر؛ اعتزل حتى ينقضي ما وقّت به، وإن لم يُوقِّت شيئا
باب الظهار
- أو وَقّت بأكثر منها -؛ خُيّر بعد مُضيّها بين أن يفيء أو يُطلِّق. (باب الظِّهار) وهو قول الزوج لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أو: ظاهرتك، أو نحو ذلك؛ فيجب عليه قبل أن يمسّها أن يُكفِّر بعتق رقبة، فإن لم يجد فليُطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين: ويجوز للإمام أن يُعينه من صدقات المسلمين؛ إذا كان فقيراً لا يقْدر على الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظِّهار مُؤقّتاً؛ فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت، وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت - أو قبل التكفير -؛ كفّ حتى يُكفِّر في المطلق، أو ينقضي وقت المؤقَّت. (باب اللعان) إذا رمى الرجل امرأته بالزنا، ولم تقرّ بذلك، ولا رجع عن رميه؛ لاعنها، فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وإذا كانت حاملاً أو كانت قد وضعت؛ أدخل نفي الولد في أيمانه، ويفرِّق الحاكم بينهما، وتحرم عليه أبداً، ويُلحق الولد بأمه فقط، ومن رماها به، فهو قاذف. (باب العِدّة والإحداد) هي للطلاق من الحامل؛ بالوضع، ومن الحائض؛ بثلاث حيض، ومن
باب استبراء الإماء
غيرهما؛ بثلاثة أشهر، وللوفاة؛ بأربعة أشهر وعشْراً؛ وإن كانت حاملاً فبالوضع؛ ولا عدّة على غير مدخولة، والأمَة كالحُرّة، وعلى المعتدّة للوفاة ترك التزين، والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها، أو بلوغ خبره، وامرأة المقُود تربَّص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، وهي امرأته ما لم تتزوج. (باب استبراء الإماء) يجب استبراء الأمَة المسْبِيّة والمُشتراة ونحوهما بحيضه؛ إن كانت حائضاً، والحامل بوضع الحمل، ومنقطعة الحيض حتى يتبيّن عدم حملها، ولا تُستبرأ بكر، ولا صغيرة مطلقاً؛ ولا يلزم الاستبراء على البائع ونحوه. (باب النفقة) تجب على الزوج للزوجة، والمطلقة رجعيّاً - لا بائناً، ولا في عدة الوفاة؛ فلا نفقة ولا سُكنى؛ إلا أن تكونا حاملتين -، وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر - والعكس -، وعلى السيد لمن يملكه، ولا تجب على القريب لقريبه؛ إلا من باب صلة الرحم، ومن وجبت نفقته؛ وجبت كسوته وسكناه. (باب الرّضاع) إنما يثبت حُكمه بخمس رضعات؛ مع تيقُّن وجود اللبن، وكون الرضيع قبل الفِطام، ويحرم به ما يحرم بالنسب، ويقبل قول المرضعة، ويجوز إرضاع الكبير - ولو كان ذا لحية - لتجويز النظر.
باب الحضانة
(باب الحضانة) الأوْلى بالطفل أمه؛ ما لم تُنكح، ثم الخالة، ثم الأب، ثم يُعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحاً، وبعد بلوغ سن الاستقلال؛ يُخيَّر الصبي بين أبيه وأمه، فإن لم يوجد؛ كَفِله من كان له في كفالته مصلحة. (10 - كتاب البيوع) المعتبَر فيه مجرد التراضي - ولو بإشارة من قادر على النطق -، ولا يجوز بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، والكلب، والسِّنَّوْر، والدم، وعسْب الفحل، وكل حرام، وفضل الماء، وما فيه غَرَر - كالسّمك في الماء، وحبل الحبَلة، والمنابذة، والملامسة، وما في الضرّع، والعبد الآبق، والمغانم حتى تُقسم، والثمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، والسمن في اللبن، والمحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والمخاضرة، والعُربون، والعصير إلى من يتخذه خمراً، والكالئ بالكالئ، وما اشتراه قبل قبضه، والطعام حتى يجري فيه الصاعان -، ولا يجوز الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلوماً، ومنه استثناء ظهر المبيع، ولا يجوز التفريق بين المحارم، ولا أن يبيع حاضر لباد، والتناجش، والبيع على البيع، وتلقِّي الرُّكْبان، والاحتكار، والتّسعير، ويجب وضع الجوائح، ولا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيعتان في بيعة، ورِبْح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عند البائع - ويجوز بشرط عدم الخداع -، والخيار في المجلس ثابت؛ ما لم يتفرّقا. (باب الرِّبا) يحرم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير
باب الخيارات
بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ إلا مثلاً بمثل يداً بيد، وفي إلحاق غيرها بها خلاف، فإن اختلفت الأجناس؛ جاز التفاضل إذا كان يداً بيد، ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي - وإن صحبه غيره -، ولا بيع الرطب بما كان يابساً إلا لأهل العرايا، ولا بيع اللحم بالحيوان، ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه، ولا يجوز بيع العينة. (باب الخيارات) يجب على من باع ذا عيب أن يُبيِّنه؛ وإلا ثبت للمشتري الخيار، والخراج بالضمان، وللمشتري الرد بالغرر - ومنه المصرّاة -؛ فيردها - وصاعاً من تمر، أو ما يتراضيان عليه -، ويثبت الخيار لمن خُدع أو باع قبل وصول السوق، ولكلٍّ من المتبايعين بيعاً منهيّاً عنه الرد، ومن اشترى شيئاً لم يره؛ فله ردّه إذا رآه، وله رد ما اشتراه بخيار، وإذا اختلف البيِّعان؛ فالقول ما يقوله البائع. (باب السَّلَم) هو أن يُسلِّم رأس المال في مجلس العقد؛ على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوماً إلى أجل معلوم، ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله، ولا يتصرف فيه قبل قبضه. (باب القرض) يجب إرجاع مثله، ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر؛ إذا لم يكن مشروطاً،
باب الشفعة
ولا يجوز أن يجُرّ القرض نفعاً للمُقرض. (باب الشُّفْعة) سببها الاشتراك في شيء واحد - ولو منقولاً -؛ فإذا وقعت القسمة فلا شُفعة، ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يُؤْذن شريكه، ولا تبطل بالتراخي. (باب الإجارة) يجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي، وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار، فإن لم تكن كذلك؛ استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذلك العمل، وقد ورد النهي عن كسب الحجّام، ومهر البغيّ، وحُلوان الكاهن، وعسب الفحل، وأجرة المؤذن، وقفيز الطّحّان، ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن؛ لا على تعليمه، وأن يُكري العين مدة معلومة؛ بأجرة معلومة - ومن ذلك كراء الأرض لا بشطر ما يخرج منها -، ومن أفسد ما استؤجر عليه، أو أتلف ما استأجره؛ ضمن. (باب الإحياء والإقطاع) من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره؛ فهو أحق بها، وتكون ملكاً له، ويجوز للإمام أن يُقطع - من في إقطاعه مصلحة - شيئاً من الأرض الميتة، أو المعادن، أو المياه. (باب الشَّركة) الناس شُركاء في الماء، والنار، والكلإ، وإذا تشاجر المستحقون للماء؛
باب الرهن
كان الأحق به الأعلى فالأعلى، يمسكه إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته، ولا يجوز منع فضل الماء ليُمنع به الكلأ، وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة، ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات، ويقسم الربح على ما تراضيا عليه، وتجوز المضاربة ما لم تشتمل على ما لا يحل، وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق؛ كان سبعة أذرع، ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ولا ضرر ولا ضِرار بين الشركاء، ومن ضارّ شريكه؛ جاز للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره. (باب الرهن) يجوز رهن ما يملكه الراهن في ديْن عليه؛ والظَّهر يُركب واللبن يُشرب بنفقة المرهون، ولا يُغلق الرهن بما فيه. (باب الوديعة والعاريّة) تجب على الوديع والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخُن من خانه، ولا ضمان عليه إذا تلفت بدون جنايته وخيانته، ولا يجوز منع الماعون - كالدلو، والقِدر - وإطراق الفحل، وحلب المواشي - لمن يحتاج ذلك -، والحمل عليها في سبيل الله. (باب الغصْب) يأثم الغاصب ويجب عليه رد ما أخذه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وليس لعرق ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيء؛ وله نفقته، ومن غرس في أرض غيره غرساً رفعه،
باب العتق
ولا يحل الانتفاع بالمغصوب، ومن أتلفه؛ فعليه مثله أو قيمته. (باب العتق) أفضل الرِّقاب أنفسها، ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها، ومن ملك رحِمه عَتق عليه، ومن مثّل بمملوكه فعليه أن يُعتقه؛ وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم، ومن أعتق شركاً له في عبد؛ ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم؛ وإلا عتق نصيبه فقط واستُسعي العبد، ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق، ويجوز التدبير؛ فيُعتق بموت مالكه؛ وإذا احتاج المالك جاز له بيعه، ويجوز مُكاتبة المملوك على مال يؤدّيه، فيصير عند الوفاة حُراً، ويُعتق منه بقدر ما سلّم، وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة؛ عاد في الرق، ومن استولد أمَته؛ لم يحلّ له بيعها؛ وعتقت بموته، أو بتخييره لعتقها. (باب الوقف) من حبَّس ملكه في سبيل الله؛ صار محبَّساً، وله أن يجعل غلاتِّه لأي مصرف شاء مما فيه قُربه، وللمتولّي عليه أن يأكل منه بالمعروف، وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين، ومن وقف شيئاً مضارّة لوارثه؛ كان وقفه باطلاً، ومن وضع مالاً في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد؛ جاز صرفه في أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة، أو في مسجده [صلى الله عليه وسلم] ، والوقف على القبور - لرفع سُمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة - باطل. (باب الهدايا) يُشرع قبولها ومكافأة فاعلها، وتجوز بين المسلم والكافر، ويحرم
باب الهبات
الرجوع فيها، وتجب التسوية بين الأولاد، والرد - لغير مانع شرعي - مكروه. (باب الهبات) إن كانت بغير عِوض؛ فلها حكم الهديّة في جميع ما سلف، وإن كانت بعوض؛ فهي بيع ولها حكمه، والعُمرى والرُّقبى توجبان المُلك للمُعْمر والمُرقب ولعقبه من بعده؛ لا رجوع فيهما. (11 - كتاب الأيمان) الحلف إنما يكون باسم الله - تعالى -، أو صفة له، ويحرم بغير ذلك، ومن حلف فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، ولا حِنْث عليه، ومن حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه؛ فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه، ومن أُكره على اليمين؛ فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها، واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها، ولا مؤاخذة باللغو، ومن حقّ المسلم على المسلم إبرار قَسَمه، وكفّارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز. (12 - كتاب النّذر) إنما يصح إذا ابْتُغي وجه الله، فلا بد أن يكون قُربة، ولا نذْر في معصية الله، ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو مفاضلة بين الورثة؛ مخالفة لما شرعه الله تعالى، ومنه النذر على القبور، وعلى ما لم يأذن به الله، ومن أوجب على نفسه فعلاً لم يشرعه الله؛ لم يجب عليه، وكذلك إن كان مما لم يشرعه الله وهو لا يطيقه، ومن نذر نذراً لم يُسمِّه - أو كان معصية، أو لا يُطيقه -؛ فعليه كفّارة يمين، ومن نذر بقربة؛
كتاب الأطعمة
وهو مشرك ثم أسلم؛ لزمه الوفاء، ولا ينفذ النذر إلا من الثلث، وإذا مات الناذر بقربة، ففعلها عنه ولده؛ أجزأه ذلك. (13 - كتاب الأطعمة) الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو عفو، فيحرم ما في الكتاب العزيز، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الإنسية، والجلاّلة قبل الاستحالة، والكلاب، والهر، وما كان مُستخبثاً، وما عدا ذلك فهو؛ حلال. (باب الصيد) ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح؛ كان حلالا إذا ذُكر اسم الله عليه، وما صيد بغير ذلك؛ فلا بد من التذكية، وإذا شارك الكلب المعلَّم كلب آخر؛ لم يحل صيدهما، وإذا أكل الكلب المعلَّم ونحوه من الصيد؛ لم يحل؛ فإنما أمسك على نفسه، وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرّميّة فيه ميتاً - ولو بعد أيام - في غير ماء؛ كان حلالاً ما لم يُنتن، أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه. (باب الذبح) هو ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، وذُكر اسم الله عليه - ولو بحجر أو نحوه -؛ ما لم يكن سنّاً أو ظُفراً، ويحرم تعذيب الذّبيحة، والمُثْلة بها، وذَبْحُها لغير الله، وإذا تعذّر الذبح لوجه؛ جاز الطعن والرمي، وكان ذلك كالذبح، وذكاة الجنين ذكاة أمه، وما أُبِين من الحي فهو ميتة، ويحل ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطّحال، وتحل الميتة للمضطرّ.
باب الضيافة
(باب الضيافة) يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يُحْرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه؛ كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قِراه، ويَحْرم أكل طعام الغير بغير إذنه، ومن ذلك حلْب ماشيته، وأخْذ ثمرته وزرعه، لا يجوز إلا بإذنه؛ إلا أن يكون محتاجاً إلى ذلك؛ فلْيُناد صاحب الإبل أو الحائط، فإن أجابه؛ وإلا فليشرب وليأكل - غير متخذ خُبْنة -. (باب آداب الأكل) يُشرع للآكل التسمية، والأكل باليمين ومن حافتي الطعام لا من وسطه، ومما يليه، ويلعق أصابعه والصحفة، والحمد عند الفراغ، والدعاء، ولا يأكل مُتّكئاً. (14 - كتاب الأشربة) كل مسكر حرام، وكل مفتِّر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، ويجوز الانتباذ في جميع الآنية، ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين، ويحرم تخليل الخمر، ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه، ومظِنّة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام. وآداب الشرب؛ أن يكون ثلاثة أنفاس، وباليمين، ومن قعود، وتقديم الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شُرباً، ويسمِّي في أوله، ويحمد في آخره، ويُكره التنفس في السِّقاء، والنفخ فيه، والشرب من فيه، وإذا وقعت
كتاب اللباس
النجاسة في شي من المائعات؛ لم يحل شربه، وإن كان جامداً أُلقيت وما حولها، ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. (15 - كتاب اللباس) ستر العورة واجب في الملإ والخلاء، ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير، إذا كان فوق أربع أصابع؛ إلا للتداوي، ولا يفترشه، ولا المصبوغ بالعصفر، ولا ثوب شُهرة، ولا ما يختص بالنساء، ولا العكس، ويحرم على الرجال التحلي بالذهب - لا بغيره -. (كتاب الأُضحية) تُشرع لأهل كل بيت، وأقلها شاة، ووقتها بعد صلاة عيد النحر إلى آخر أيام التشريق، وأفضلها أسمنها، ولا يُجزئ ما دون الجذع من الضأن، ولا الثنيِّ من المعز، ولا الأعور، والمريض، والأعرج، والأعجف، وأعضب القرن والأذن، ويتصدق منها ويأكل ويدّخر، والذبح في المصلَّى أفضل، ولا يأخذ - من له أُضحية - من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة؛ حتى يُضحِّي. (باب الوليمة) هي مشروعة، ويجب الإجابة عليها، ويقدَّم السابق ثم الأقرب باباً، ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية. فصل: والعقيقة مُستحبّة - وهي شاتان عن الذكر، وشاة عن الأنثى - يوم سابع
كتاب الطب
المولود، وفيه يُسمى، ويُحلق رأسه، ويُتصدق بوزنه ذهباً أو فضة. (17 - كتاب الطب) يجوز التداوي، والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر، ويحرم بالمحرَّمات، ويُكره الاكتواء، ولا بأس بالحجامة، وبالرُّقية - بما يجوز - من العين وغيرها. (18 - كتاب الوِكالة) يجوز لجائز التصرف أن يُوكَّل غيره في كل شيء؛ ما لم يمنع منه مانع، وإذا باع الوكيل - بزيادة على ما رسمه موكِّله -؛ كانت الزيادة للموكِّل، وإذا خالفه إلى ما هو أنفع، أو إلى غيره ورضي به؛ صح. (19 - كتاب الضمانة) يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب، ويُرجع على المضمون عنه؛ إن كان مأموراً من جهته، ومن ضمن بإحضار شخص؛ وجب عليه إحضاره؛ وإلا غرم ما عليه. (20 - كتاب الصلح) هو جائز بين المسلمين؛ إلا صُلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً، ويجوز عن المعلوم والمجهول؛ بمعلوم وبمجهول، وعن الدم - كالمال - بأقل من الدية أو أكثر؛ ولو عن إنكار.
كتاب الحوالة
(21 - كتاب الحوالة) من أُحيل على مليء فليحتل، وإذا مطل المُحال عليه أو أفلس؛ كان للمُحال أن يُطالب المُحيل بديْنه. (22 - كتاب المفلس) يجوز لأهل الدَّيْن أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه؛ إلا ما كان لا يُستغنى عنه - وهو: المنزل، وستر العورة، وما يقيه البرد، ويسد رمقه ومن يعول -، ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به، وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع ديْنه؛ كان الموجود أُسوة الغُرماء، وإذا تبيّن إفلاسه؛ فلا يجوز حبسه، ولَيّ الواجد ظُلْم يُحل عرضه وعقوبته، ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله، ويبيعه لقضاء دينه، وكذلك يجوز له الحجر على المبذِّر ومن لا يحسن التصرف، ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله؛ حتى يؤنس منه الرشد، ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف. (23 - كتاب اللُّقطة) من وجد لُقطة فليعرف عِصافها ووِكاءها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه؛ وإلا عرّف بها حولاً، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه، ويضمن مع مجيء صاحبها، ولُقطة مكة أشد تعريفاً من غيرها، ولا بأس بأن ينتفع المُلتقط بالشيء الحقير - كالعصا والسّوط ونحوهما - بعد التعريف به ثلاثاً، وتُلتقط ضالّة الدواب؛ إلا الإبل.
كتاب القضاء
(24 - كتاب القضاء) إنما يصح قضاء من كان مجتهداً، متورِّعاً عن أموال الناس، عادلاً في القضية، حاكماً بالسّويّة، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه، ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهِّلاً للقضاء؛ فهو على خطر عظيم، وله مع الإصابة أجران، ومع الخطأ أجر - إن لم يأل جهداً في البحث -، وتحرم عليه الرِّشوة، والهديّة التي أُهديت إليه لأجل كونه قاضياً، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين؛ إلا إذا كان أحدهما كافراً، والسماع منهما قبل القضاء، وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة، والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهراً فقط، فمن قُضي له بشيء فلا يحل له؛ إلا إذا كان الحكم مُطابقاً للواقع. (25 - كتاب الخصومة) على المُدَّعي البيِّنة، وعلى المنكر اليمين، ويحكم الحاكم بالإقرار، وبشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدّعي، وبيمين المنكر، وبيمين الرد وبعلمه، ولا تُقبل شهادة من ليس بعدل، ولا الخائن، ولا ذي العداوة، والمُتّهم، والقانع لأهل البيت، والقاذف، ولا بدوي على صاحب قرية، وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة، وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وإذا تعارض البيِّنتان ولم يوجد وجه ترجيح؛ قُسّم المدّعَى، وإذا لم يكن للمُدعِّي بينة؛ فليس له إلا يمين صاحبه، ولو كان فاجراً، ولا تُقبل البيّنة بعد اليمين، ومن أقرّ بشيء - عاقلا بالغاً غير هازل ولا
كتاب الحدود
بمحال عقلا أو عادة -؛ لزمه ما أقر به؛ كائنا ما كان، ويكفي مرة واحدة؛ من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها - كما سيأتي -. (26 - كتاب الحدود) (باب حد الزاني) إن كان بكرا حرا جلد مئة جلدة، وبعد الجلد يغرب عاما، وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر، ثم يرجم حتى يموت، ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان؛ فلقصد الاستثبات، وأما الشهادة فلا بد من أربعة، ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج، ويسقط بالشبهات المحتملة، وبالرجوع عن الإقرار، وبكون المرأة عذراء أو رتقاء، ويكون الرجل مجبوبا أو عنينا، وتحرم الشفاعة في الحدود، ويحفر للمرجوم إلى الصدر، ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها - إن لم يوجد من يرضعه -، ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه، ومن لاط بذكر، قتل ولو كان بكرا، وكذلك المفعول به؛ إذا كان مختارا ويعزر من نكح بهيمة، ويجلد المملوك نصف جلد الحر، ويحده سيده أو الإمام. (باب حد السرقة) من سرق - مكلفا مختارا - من حرز ربع دينار فصاعدا؛ قطعت كفه اليمنى، ويكفي الإقرار مرة واحدة، أو شهادة عدلين، ويندب تلقين المسقط، ويحسم موضع القطع، وتعلق اليد في عنق السارق، ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان - لا بعده؛ فقد وجب -، ولا قطع في ثمر ولا
باب حد القذف
كثر؛ ما لم يؤوه الجرين - إذا أكل ولم يتخذ خبنة -؛ وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين، وضرب نكال، وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع، وقد ثبت القطع في جحد العارية. (باب حد القذف) من رمى غيره بالزنا؛ وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة إن كان حرا، وأربعين إن كان مملوكا، ويثبت ذلك بإقراره مرة، أو بشهادة عدلين، وإذا لم يتب؛ لم تقبل شهادته أبدا، فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود؛ سقط عنه الحد، وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا. (باب حد الشرب) من شرب مسكرا - مكلفا مختارا -؛ جلد على ما يراه الإمام - إما أربعين جلدة، أو أقل، أو أكثر -؛ ولو بالنعال، ويكفي إقراره مرة، أو شهادة عدلين - ولو على القيء -، وقتله في الرابعة منسوخ. فصل: والتعزير في المعاصي - التي لا توجب حدا - ثابت؛ بحبس، أو ضرب، أو نحوهما، ولا يجاوز عشرة أسواط. (باب حد المحارب) وهو أحد الأنواع المذكورة في القرآن الكريم - القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض -، يفعل الإمام منها ما
باب من يستحق القتل حدا
رأى فيه صلاحا؛ لكل من قطع طريقا ولو في المصر؛ إذا كان قد سعى في الأرض فسادا، فإن تاب قبل القدرة عليه؛ سقط عنه ذلك. (باب من يستحق القتل حدا) هو الحربي، والمرتد، والساحر، والكاهن، والساب لله، أو لرسوله، أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة، والطاعن في الدين والزنديق بعد استتابتهم، والزاني المحصن، واللوطي - مطلقا -، والمحارب. (27 - كتاب القصاص) يجب على المكلف المختار العامد - إن اختار ذلك الورثة -؛ وإلا فلهم طلب الدية، وتقتل المرأة بالرجل - والعكس -، والعبد بالحر، والكافر بالمسلم، - لا العكس -، والفرع بالأصل - لا العكس -، ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها، والجروح - مع الإمكان -، ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية، فإن كان فيهم صغير؛ ينتظر في القصاص بلوغه، ويهدر ما سببه من المجني عليه، وإذا أمسك رجل وقتل آخر؛ قتل القاتل وحبس الممسك، وفي قتل الخطأ الدية والكفارة - وهو ما ليس بعمد، أو من صبي، أو مجنون -، وهي على العاقلة - وهم العصبة -. (28 - كتاب الديات) دية الرجل المسلم مئة من الإبل، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مئتا حلة، وتغلظ دية العمد وشبهه؛ بأن يكون المئة من الإبل؛ في بطون أربعين منها أولادها، ودية الذمي نصف دية
باب القسامة
المسلم، ودية المرأة نصف دية الرجل، والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث، وتجب الدية كاملة في العينين، والشفتين، واليدين، والرجلين، والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف، واللسان، والذكر، والصلب، وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة، وما عدا هذه المسماة؛ فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا، وفي الجنين - إذا خرج ميتا - الغرة، وفي العبد قيمته، وأرشه بحسبها. (باب القسامة) إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت - وهي خمسون يمينا -، يختارهم ولي القتيل، والديه - إن نكلوا - عليهم؛ وإن حلفوا سقطت، وإن التبس الأمر؛ كانت من بيت المال. (29 - كتاب الوصية) تجب على من له ما يوصي فيه، ولا تصح ضرارا، ولا لوارث، ولا في معصية، وهي - في القرب - من الثلث، ويجب تقديم قضاء الديون، ومن لم يترك ما يقضي دينه؛ قضاه السلطان من بيت المال. (30 - كتاب المواريث) هي مفصلة في الكتاب العزيز، ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة، وما بقي فللعصبة، والأخوات مع البنات عصبة، ولبنت الابن مع البنت
كتاب الجهاد والسير
السدس تكملة الثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين، وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم، وهو للجد مع من لا يسقطه، ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب، وفي ميراثهم مع الجد خلاف، ويرثون مع البنات إلا الإخوة لأم، ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين، وأولو الأرحام يتوارثون؛ وهم أقدم من بيت المال؛ فإن تزاحمت الفرائض فالعول، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية؛ إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل، وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات، وله الباقي بعد ذوي السهام، ويحرم بيع الولاء وهبته، ولا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث القاتل من المقتول. (31 - كتاب الجهاد والسير) الجهاد فرض كفاية مع كل بر وفاجر - إذا أذن الأبوان -، وهو - مع إخلاص النية - يكفر الخطايا إلا الدين، ويلحق به حقوق الآدميين، ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة، ويجب على الجيش طاعة أميرهم؛ إلا في معصية الله، وعليه مشاورتهم، والرفق بهم، وكفهم عن الحرام، ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده، وأن يذكي العيون، ويستطلع الأخبار، ويرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والألوية، وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، أو الجزية، أو السيف، ويحرم قتل النساء، والأطفال، والشيوخ - إلا لضرورة -، والمثلة، والإحراق بالنار، والفرار من الزحف - إلا إلى فئة -، ويجوز تبييت الكفار، والكذب في الحرب والخداع.
فصل: وما غنمه الجيش؛ كان لهم أربعة أخماسه، وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه، ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما، ويستوي في ذلك القوي والضعيف، ومن قاتل ومن لم يقاتل، ويجوز تنفيل الإمام بعض الجيش، وللإمام الصفي، وسهمه كأحد الجيش، ويرضخ من الغنيمة لمن حضر، ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا، وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه، ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة - إلا الطعام والعلف -، ويحرم الغلول، ومن جملة الغنيمة الأسرى؛ ويجوز القتل، أو الفداء، أو المن. فصل: ويجوز استرقاق العرب، وقتل الجاسوس، وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله، وإذا أسلم عبد الكافر؛ صار حرا، والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام؛ فيفعل الأصلح من قسمتها، أو تركها مشتركة بين الغانمين، أو بين جميع المسلمين، ومن أمنه أحد المسلمين؛ صار آمنا، والرسول كالمؤمن، وتجوز مهادنة الكفار ولو بشرط، وإلى أجل أكثره عشرة سنين، ويجوز تأييد المهادنة بالجزية، ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من جزيرة العرب. فصل: ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا تغنم أموالهم.
فصل: وطاعة الأئمة واجبة؛ إلا في معصية الله، ولا يجوز الخروج عليهم؛ ما أقاموا الصلاة، ولم يظهروا كفرا بواحا، ويجب الصبر على جورهم، وبذل النصيحة لهم، وعليهم الذب عن المسلمين، وكف يد الظالم، وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان، والأديان، والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة. (تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود) (وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود) والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الروضة الندية
بسم الله الرحمن الرحيم ( [مقدمة المؤلف] ) نحمدك اللهم أنت الذي علمت الناس في دينهم حكما، وفي دنياهم أحكاما، وجعلت أمة خاتم الرسل المرحومة أكرم الأمم كلها منزلا ومقاما، وما زلت ألهمت من شئت وتلهم من تشاء منهم في كل قرن استعمال السنن المطهرة على وجهها إلهاما، ونهيتهم عن التفرق في الدين، وأوضحت لهم سبيل اليقين، فأصبحوا بنعمتك بررة كراما، وما انفك عدولهم نفوا عن الدين وينفون عنه انتحال (¬1) المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين (¬2) ، حتى عاد علم الحق معتدلا قواما. ونصلي عليك أيها النبي الكريم، بك من علينا بالإيمان وهدانا إسلاما، لطفا بنا ورحمة علينا، وبركة فينا، وإحسانا إلينا وإكراما، فكان ذلك لزاما، ولولاك (¬3) ما اهتدينا، ولا صلينا، ولا علمنا أحكاما، فكنت أنت داعينا إلى ¬
الله - سبحانه وتعالى -، وهاديا لنا، ورؤوفا بنا، وفينا إماما. ونسلم عليكم أهل البيت الطاهرين الطيبين أنتم أصبتم من سعادة الدارين سهاما، وقمتم بالحق الحقيق بالاتباع كما يحق قياما. ورضي الله عنكم أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ بكم انتظم مبتغي الأمة الأمية بدءا وختاما، ومنكم استتب أمر الملة المكرمة أصلا وفرعا واهتماما. ورحمة الله وبركاته عليكم أهل الحديث، أنتم كشفتم للناس عن صراح (¬1) الحق وصحاح السنة وقح (¬2) الشريعة ظلاما، وعن وجه الدين القويم والصراط المستقيم لثاما، وكيف وقد جعلكم الله - تعالى - للمتقين إماما؟ ! وبعد: فلما جمع الإمام الهمام عز المسلمين والإسلام، سلالة السلف الصلحاء، تذكار العرب العرباء (¬3) ، وارث علوم سيد المرسلين، خاتمة المفسرين والمحدثين، شيخ شيوخنا الكاملين، المجتهد المطلق العلامة الرباني، قاضي قضاة القطر اليماني، محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني، المتوفى سنة خمس وخمسين ومئتين وألف الهجرية - رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الفردوس منزله ونزله ومأواه - المختصر الذي سماه " الدرر البهية في المسائل الفقهية " قاصدا بذلك جمع المسائل التي صح دليلها، واتضح سبيلها، تاركا لما كان منها من ¬
محض الرأي، فإنه قالها وقيلها، غير ملتفت إلى ما اشتهر، فالحق أحق بالاتباع، وغير جامد على ما ذكر في الزبر (¬1) فلمسلك التحقيق اتساع، بل محض فيه النصح النصيح، ومخض (¬2) عن زبد الحق الصريح، وأتى بتحقيقات جليلة خلت عنها الدفاتر، وأشار إلى تدقيقات نفيسة لم تحوها صحف الأكابر. ونسبة هذا المختصر إلى المطولات من الكتب الفقهية، نسبة السبيكة الذهبية إلى التربة المعدنية، كما يعرف ذلك من رسخ في العلوم قدمه؛ وسبح في بحار المعارف ذهنه ولسانه وقلمه، سأله جماعة من أهل الانتقاد والفهم النافذ، العاضين على علوم الاجتهاد بأقوى لحي (¬3) وأحد ناجذ (¬4) ، أن يجلي عليهم عروس ذلك المختصر، ويزفه إليهم ليمنعوا في محاسنه النظر، فاستمهلهم ريثما يصحح منه ما يحتاج إلى التصحيح، وينقح فيه ما لا يستغني عن التنقيح، ويرجح من مباحثه ما هو مفتقر إلى الترجيح، ويوضح من غوامضه ما لا بد فيه من التوضيح، فشرحه بشرح مختصر، من معين عيون الأدلة معتصر، وسماه " الدراري المضية شرح الدرر البهية " (¬5) ، وفيهما قال قائل: (إن شئت في شرع النبي ... تقدح بزند فيه واري (¬6)) ¬
(فاعكف على الدرر التي ... سلكت بسمط (¬1) من دراري) وشرحه هذا كان بالقول (¬2) ، فجعلته شرحا ممزوجا (¬3) ، وصيرته على منواله منسوجا، مستوعبا للفظه ومعناه، ومستصحبا لفحاويه ومبناه، مضيفا إليه مذاهب الفقهاء ليظهر ضعفها أو قوتها، عند تقابل الأدلة وتعارضها بالآراء، لا للأخذ بها على ما كان بأي حال؛ فإن الرجال تعرف بالحق لا الحق بالرجال، ثم زدت عليه أشياء من حاشية الماتن (¬4) على " شفاء الأوام (¬5) " التي سماها " وبل الغمام " (¬6) ومن غيرها عند النظر الثاني في هذا الكتاب، فعاد بحمد الله تعالى؛ كما قيل: اللبأ وابن طاب (¬7) . هذا وقد أمليت هذا الشرح على طريق الارتجال بالاستعجال، إرشادا إلى ¬
طرق من العلم طالما تركت، وهزا لطبائع جامدة طالما ركدت، راجيا من الله تعالى أن أكون ممن تعلم علم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعلمه وأذاعه، وحفظه على الناس وفيهم روجه وأشاعه. فدونك هذا المشروح والشرح، يلقي إليك زمام التفويض في المدح والقدح، يا من له في أوج (¬1) التحقيق صعود، وعليه من ملابس التدقيق برود، كيف وهو يروي غليل طالبي فقه السنة، ويشفي عليل السائقين إلى مساق الجنة؟ ! فليسعد به كل طالب الحق الصادق (¬2) ؛ ويضن به كل ذي باطل زاهق، ولئن رده القاصرون، فسيقبله الماهرون، وإن ذمه الجهلة، فسوف يمدحه الكملة. وسميت هذا الشرح الأنيس، بل العلق (¬3) النفيس " الروضة الندية شرح الدرر البهية ". والله - سبحانه وتعالى - أرجو أن يعين على التمام، وينفعني به ومن أخلفه وجميع المتبعين للسنن في هذه الدار ودار السلام، إنه ولي الإجابة؛ وبيده الهداية والإصابة. ¬
(الكتاب الأول: كتاب الطهارة)
كتاب الطهارة
قال - رضي الله عنه -: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد من أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين. (1 - كتاب الطهارة) (1 - باب) (هذا الباب قد اشتمل على مسائل: الأولى: الماء طاهر ومطهر) : ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما دل الدليل على كونه طاهرا، مطهرا، وقام على ذلك الإجماع، كذلك يدل على ذلك الأصل، والظاهر (¬1) ، والبراءة (¬2) ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع، وكذلك الظهور يفيد ذلك، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة: (لا يخرجه عن الوصفين) : أي: عن وصف كونه طاهرا، وعن وصف كونه مطهرا (إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات) . ¬
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها. والدليل عليه ما أخرجه أحمد - وصححه - وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم (¬1) ، وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد، قال: " قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض (¬2) ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور لا ينجسه شيء "، وقد أعله ابن القطان باختلاف الرواة في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه، وليس ذلك بعلة (¬3) ، وقد اختلف في أسماء كثيرة من الصحابة والتابعين على أقوال، ولم يكن ذلك موجبا للجهالة، على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال: وله طريق أحسن ¬
من هذه، ثم ساقها عن أبي سعيد. وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة. وله شواهد، منها: حديث سهل بن سعد عند الدارقطني (¬1) ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان (¬2) ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط "، وأبي يعلى، والبزار، وابن السكن (¬3) ؛ كلها بنحو حديث أبي سعيد. وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني (¬4) ، من حديث ثوبان بلفظ: " الماء طهور لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه "، وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجة والطبراني (¬5) ، من حديث أبي أمامة بلفظ: " إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه "؛ وفي إسنادهما من لا يحتج به. وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة، لكنه قد وقع الإجماع ¬
على مضمونها؛ كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في " البدر المنير (¬1) "، والمهدي في " البحر (¬2) "، فمن كان يقول بحجيّة الإجماع (¬3) كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع؛ ومن كان لا يقول بحجيّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة، لكونها قد صارت مما أُجمع على معناها وتُلقّي بالقبول، فالاستدلال بها لا بالإجماع. (وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة (¬4)) : هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه، فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه، كما يقال: ماء ورد، ونحوه، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد - مثلاً - هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقوله سبحانه: {ماء طهورا} [الفرقان: 48] ، وفي السنة المطهرة بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " (¬5) ، فخرج بذلك عن كونه مطهراً، ولم يخرج به عن كونه طاهراً، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماع الطاهرين لا يوجب ¬
خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الاجتماع (¬1) . قال في " حجة الله البالغة " (¬2) : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي، نعم؛ إزالة الخبث به محتمل، بل هو الراجح (¬3) . وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر (¬4) ، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] البتة { وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي (¬5) ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى - عنه في الفأرة (¬6) ، والنخعي والشعبي في نحو السِّنَّور (¬7) ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى. وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذُكر في كتب المالكية (¬8) ، ودون نفي هذا ¬
الاحتمال خَرْط القَتاد " اه. وبالجملة؛ فليس في هذا الباب شي يُعتد به ويجب العمل عليه، وحديث القلتين (¬1) أثبت من ذلك كله بغير شبهة. ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات - وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى -، ثم لا ينص عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه. والله أعلم. انتهى. قلت: وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في تخريج حديث القُلّتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً، لفظاً ومعنى: في كتابه " تلخيص الحبير " في تخريج أخبار الرافعي الكبير " (¬2) إطالةً حسنةً فليرجع إليه (¬3) . (ولا فرق بين قليل وكثير) : هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم، بعد إجماعهم ¬
على أن ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر. فقيل: إن الكثير ما بلغ قلتين، والقليل ما كان دونهما؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (¬1) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما -، قال: " سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة (¬2) من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: " إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث ". وفي لفظ أحمد: " لم ينجسه شيء ". وفي لفظ لأبي داود: " لم ينجس ". وأخرجه بهذا اللفظ (¬3) ابن حبان والحاكم، وقال ابن مندة: إسناد حديث القُلّتين على شرط مسلم (¬4) . انتهى. ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه، كما هو مبين في مواطنه، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب (¬5) . ¬
وقد دلّ هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قُلّتين لم يحمل الخبث، وإذا كان دون القُلّتين فقد يحمل الخبث، ولكنه كما قيد حديث: " الماء طهور لا ينجسه شيء " بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها؛ كذلك يقيد حديث القلتين بها، فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها. وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث، وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتّاً، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية، لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها، لا الخبث الذي لم يغير. وحاصله: أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يُستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية، لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين - كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً -، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام، فقال في الأول: " لا ينجسه شيء "، وقال في الثاني أيضا - كما في تلك الرواية -: " لم ينجسه شيء "، فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً، كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها، فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث،
فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - على القول الراجح في الأصول؛ وهو: أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً، فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث، بل يقال فيه: إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة. وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين، والكثير بهما: الشافعي - رحمه الله - وأصحابه رحمهم الله -، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله، والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد، وقد روي أيضا عن الشافعية - رحمهم الله -، والحنفية، - رحمهم الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، ولا أدري: هل تصح هذه الرواية أم لا؟ ! فمذاهب هؤلاء مُدونّة في كتب أتباعهم، من أراد الوقوف عليها راجعها. واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله - تعالى -: {والرُّجْز (¬1) فاهْجُر} ، وبخبر الاستيقاظ، وخبر الولوغ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم، وهي جميعها في " الصحيح "، ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما، كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدّم؛ لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء ¬
بجِرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن. ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس، لأن المخالطة إن كانت بالجِرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه. والحاصل: أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظُنّ استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل، وإن لم يظن فهو الكثير: ما هو أعم من عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنّة وأهل المذهب الأول اعتبروا المَئنّة، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك، فهي لا تكاد تخالف المِئنّة (¬1) في مثل هذا الموضع، وإن أرادوا استعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غيّر لون الماء، أو ريحه، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه - كما تقدم تقريره -، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم، في الإجماع، بل هو مصرِّح لحكاية الإجماع في " البحر ". فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتاً وانتفاء، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبين، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب ¬
لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم؛ فتأمل هذا فهو مفيد، بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق، ويتبلّد عند تشعب طرائقها كل مدقق. وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته (¬1) تحريرات مختلفة لهذه العلة، وأطال الكلام عليها في " طيب النشر في المسائل العشر ". وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون "، ومثل حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، ولا يستفاد منهما إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى. وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً، وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني، فإبعاد النُّجعة إلى مثل حديث: " استفت قلبك " و: " دع ما يريبك " ليس كما ينبغي { فإن قيل: إنه قصد الاستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة، فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والاستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد. وقد حُكي في تحديد الماء الكثير أقوال، منها: أن الكثير هو المستبحر} وقيل: ما إذا حُرِّك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر { وقيل: ما كان مساحة مكانه كذا} وقيل غير ذلك! ¬
حكم الماء الراكد
وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم، بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة. (وما فوق القلتين وما دونهما) : قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قِرب، وفسرها أصحابه بخمس مئة رطل، وقدّره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر، والعشر في العشر. كذا في " المسوى شرح الموطأ ". وقال في " حجة الله البالغة ": " ومن لم يقل بالقلتين اضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير - كالمالكية -، أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل " انتهى. ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه. وإن شئت زيادة التفصيل فعليك ب " الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني "؛ ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل ( [حكم الماء الراكد] ) (ومتحرك وساكن) : وجه ذلك أن سكونه - وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به (¬1) حالة -؛ فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً؛ لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه. ¬
وقد دلّت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن ما دام ساكناً، كحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وغيره: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب "، فقالوا: يا أبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً. وفي لفظ لأحمد وأبي داود: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة ". وفي لفظ للبخاري: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ". وفي لفظ للترمذي (¬1) : " ثم يتوضأ منه ". وغير هذه الروايات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده، والنهي عن الاغتسال فيه على انفراده، والنهي عن مجموع الأمرين. ولا يصح أن يقال: إن روايتي الانفراد مقيدتان بالاجتماع؛ لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز، فأفاد هذا أن الاغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز، فمن لم يجد إلا ماء ساكنا، وأراد أن يتطهر منه؛ فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه، حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً، ثم يتوضأ منه. وأما أبو هريرة؛ فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم، ولهذا لما سئل: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً، ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء، ¬
حكم الماء المستعمل
فإنه لا انغماس فيه، بل هو يتناوله تناولاً من الابتداء، فالأوْلى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة، ثم يتطهر (¬1) به. وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات، فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن، ومنهم من قال: إن هذه الروايات محمولة على الكراهية فقط! ولا وجه لذلك. وقد قيل: إن المُستبحر مخصوص من هذا بالإجماع. والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به ما دام ساكناً، فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي، وهو كونه مطهراً. وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب. ( [حكم الماء المستعمل] :) (ومستعمَل وغير مستعمَل) : هذه المسألة السادسة من مسائل الباب، وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات؛ هل يخرج بذلك عن كونه مُطهِّراً أم لا؟ فحُكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك - في إحدى الروايتين عنهما -، وأبو حنيفة - في رواية عنه -: أن الماء المستعمل غير مطهِّر، واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم. ولا دلالة له على ذلك؛ لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء ¬
مستعملاً؛ بل كونه ساكناً، وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الاستعمال. واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة (¬1) ، ولا تنحصر علة ذلك في الاستعمال، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -، فلا يتم الاستدلال بذلك لاحتماله، ولو كانت العلة الاستعمال؛ لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس، بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل. ومن جملة ما استدلوا به: أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء، لا بماء ساقط منه. وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية، فعلى هذا المستدل أن يوضح: هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم؟ والأول: باطل. والثاني: لا يُدرى من هو؟ {فليبين لنا من هو؟} على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع. وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع؛ مثل حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الاستيقاظ قبل إدخالها الإناء، ونحوه. ¬
فالحق: أن المستعمل طاهر ومطهر؛ عملاً بالأصل، وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور. وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر، ونقله غيره عن الحسن البصري، والزهري، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة - في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين -. والحق: أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد استعماله للطهارة؛ إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه، وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، فيأخذونه ويتبركون به، والتبرك به (¬1) يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك. والحاصل: أن إخراج ما جعله الله طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل. ¬
باب النجاسات
(باب النجاسات) (فصل) ( [تعريف النجاسة] :) (والنجاسات) : جمع نجاسة، وهي: كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه، ويغسلون الثياب إذا أصابها؛ كالعَذِرة والبول. ( [أنواع النجاسات] :) (1 -[بول الآدمي وغائطه] :) (هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله) بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك، بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية، كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال. أما الغائط: فكما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى؛ فإن التراب له طهور "؛ وفي لفظ: " إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطورهما التراب ". رواهما أبو داود - رحمه الله -، وابن السكن، والحاكم، والبيهقي.
وقد اختُلف فيه على الأوزاعي (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي سعيد: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض، ثم ليصلّ فيهما ". وقد اختُلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في " العلل " الموصول (¬2) . وأخرج أهل " السنن " عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: " يطهِّره ما بعده " (¬3) . وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه. وكذلك عن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي (¬4) - أيضا -. فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يُخرجه عن كونه نجساً بالضرورة؛ إذ اختلاف وجه التطهير لا يُخرج النجس عن كونه نجساً. ¬
طهارة بول ما يؤكل لحمه
وأما التخفيف في تطهير البول؛ فكما ثبت أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر بأن يُراق على بول الأعرابي ذَنوب (¬1) من ماء. وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس - رضي الله عنهما -. (2 -[طهارة بول ما يؤكل لحمه] :) وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال؛ فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها، والأدلة مختلفة: فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل؛ فإنه ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر العُرَنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل. ومن ذلك حديث: " لا بأس ببول ما يؤكل لحمه "؛ وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه -؛ والبراء رضي الله عنه، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة (¬2) . وورد ما يدل على نجاسة الرَّوث: ما أخرجه البخاري (¬3) وغيره: أنه قال [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها رِكْس "؛ والركس النجس. وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير. ولكن زاد ابن خزيمة في رواية: " إنها ركس؛ إنها روثة حمار ". ¬
ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة؛ لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي. وحديث الروثة لا يستلزم التعميم. وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الاعتبار؛ لأنه من رواية ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، والأول: مجمع على تركه، والثاني: مجمع على ضعفه؛ فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم (¬1) . واحتجوا بإذنه [صلى الله عليه وسلم] بالصلاة في مرابض الغنم، وبإذنه بشرب أبوال الإبل، وهما صحيحان. ولا حكم للمعارضة بنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلِّي (¬2) ، فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها، ¬
روث الحيوانات
كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة، لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة؛ فإن مثل ذلك لا يُسوِّغ مباشرة ما ليس بطاهر. (3 -[روث الحيوانات] :) فالحق الحقيق بالقبول: الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية - وهو بول الآدمي وغائطه -، وأما ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته - كالروثة -؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشيء نجساً من دون دليل؛ فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى، ولا يحل إلا بعد قيام الحجة. قال الماتن - رحمه الله تعالى -: " ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه طاهر؛ لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقول على الله - تعالى - بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة ". (4 -[نجاسة بول الرضيع] :) (إلا الذكر الرضيع) : لحديث: " يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام "، أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح - خادم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]-، وصححه الحاكم.
وأخرج أحمد، والترمذي - وحسنه -، من حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل ". وأخرجه - أيضا - ابن ماجه، وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني من حديث أم الفضل لُبابة بنت الحارث، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره، حتى أغسله، فقال: " إنما يُنضح من بول الذكر، ويُغسل من بول الأنثى ". وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنها أتت بابن لها صغير لم - يأكل الطعام - إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله. وفي " صحيح البخاري " من حديث عائشة، قالت: أُتي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصبي يُحنِّكه، فبال عليه، فأتبعه الماء. وفي " صحيح مسلم " عنها، قالت: كان يؤتى بالصبيان، فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله. فهذا تصريح بأنه لم يغسله، فيكون إتباعه الماء مجرد النضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل. ¬
أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع
وبالجملة: فالتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] بالقول بما هو الواجب في ذلك؛ هو الأوْلى بالاتِّباع؛ لكونه كلاماً مع أمته، فلا يعارضه ما وقع من فعله؛ على فرض أنه مخالف للقول. ( [أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع] :) وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة؛ منهم: علي، وأم سلمة، والثوري، والأوزاعي، والنخعي، وداود، وابن وهب، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق ومالك - في رواية -. وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه. وذهب بعض أهل العلم - وقد حُكي عن مالك، والشافعي، والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما، وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية. وذهب الحنفية - رحمهم الله -، وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل، وهذا المذهب كالذي قبله - في مخالفة الأدلة -. وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام. وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية: فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.
وقد شدّد (¬1) ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر - أي ذكر كان - {وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً، بلفظ -: " بول الغلام الرضيع يُنضَح "، والواجب حمل المطلق على المقيد. قال في " الحُجّة ": " قد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي، وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس ". قلت: قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يُنضح من بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل من بول الجارية ". فسّره البغوي بأن بول الصبي نجس، غير أنه يُكتفى فيه بالرش، وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه، فيطهّر من غير مَرْس ولا دلك. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: يغسل منهما سواء. ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -: إن المراد بالنضح الغسل الخفيف، وبالغسل المرس والدلك. وأصل المسألة: أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها، وبول الجارية أغلظ وأنتن، فاحتيج فيه إلى زيادة المرس. كذا في " المُسوى ". وأقول: أحاديث التخصيص ههنا صحيحة، لا شك في ذلك ولا ريب، فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف، الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة؟} ¬
وهذا كلام عاطل الجِيد عن الفائدة بمرة؛ لأن هذا المعنى قد استُفيد من العام، ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم - وكان أفصح العرب -، بما يلحقه بكلام من هو من العيّ بمنزلة تُوقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة. وقد ذكر في " النهاية " ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل. قلت: قد يَرِد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام، وههنا وقع مقابلاً للغسل، فكيف يصح تفسيره به؟ { وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب؟} وإلا كان الكلام حشواً. وإن كان استعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول؛ فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزيّة على غيره من علماء أمّته، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه. وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الإنصاف، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم، فيردون كلامه [صلى الله عليه وسلم] إلى كلامهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإن لم يوافقهم فالقول ما قالت حَذام (¬1) . فإن أنكرتَ هذا؛ فهات؛ أبِنْ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات ¬
لعاب الكلب
المتعسفة، وردّ أحاديث التخصيص الصحيحة؟ {مع تسليمهم أن الخاص مقدم على العام، وأن يُبنى العام على الخاص} وهذا مشتهر في الأصول اشتهار النهار. (5 -[لُعاب الكلب] :) (ولعاب كلب) : قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً ". وثبت - أيضاً - عندهما وغيرهما مثله من حديث عبد الله بن مغفل، فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب؛ وهو المطلوب هنا. والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف، وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً؛ لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل، وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب، كما وقع في أحاديث الباب في " الصحيحين " وغيرهما؛ فإنه ليس المقصود ههنا إلا إثبات كون اللعاب نجساً، لا بيان كيفية تطهيره، فلذلك موضع آخر. والحاصل: أن الحق ما قضى به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من التسبيع والتتريب، وليس من شرط التعبد الاطِّلاع على علل الأحكام التي تعبَّدَنا الله بها - على ما هو الراجح -، وقد صح لنا الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة، ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة، سواء كان القول المخالف منسوباً إلى
الروث
جميعهم أو إلى بعضهم، وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة، كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة. ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصاف؛ ما يقع في كثير من المواطن - من جماعة - من ذلك عن الشريعة بمعزل، والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس؛ من دون سبب يقتضي ذلك - كما فيما نحن بصدده -، وفيما سلف في بول الصبي، وأشباه هذا ونظائره لا تحصى؛ والله المستعان. (5 -[الرّوث] :) (وروث) : الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها ركس "؛ والركس - في اللغة -: النجس؛ فالروثة نجس، وهو المطلوب. وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير. (6 -[دم الحيض] :) (ودم حيض) : الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد، وأبي داود، والترمذي من حديث خولة بنت يسار، قالت: يا رسول الله {ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟ قال: " فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه " قالت: يا رسول الله} إن لم يخرج أثره؟ قال: " يكفيك الماء، ولا يضرك أثره ".
وفي إسناده ابن لهيعة (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ: " حُكّيه بضِلَع (¬2) واغسليه بماء وسِدْر ". قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة (¬3) . وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما -، قالت: جاءت امرأة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض؛ فكيف تصنع؟ قال: " تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ". فالأمر بغسل دم الحيض وحكّه بضِلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره، فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً. ¬
لحم الخنزير
وأما سائر الدماء؛ فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية. (¬1) ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله - تعالى -: {فإنه رجس} إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة - من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير -؛ لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب؟ ! والظاهر رجوعه إلى الأقرب - وهو لحم الخنزير؛ - لإفراد الضمير، ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة، والدم الذي ليس بدم حيض، ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها، كما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها ". ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية؛ فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة. (7 -[لحم الخنزير] :) (ولحم خنزير) : الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة. ¬
الأدلة على طهارة المني
( [الأدلة على طهارة المنِيّ] :) (وفيما عدا ذلك خلاف) : وأما المني؛ فاحتجوا على نجاسته بأمور: الأول: حديث عمار، وقد سلف عدم صلاحيته للاحتجاج. والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة، وذلك لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً. والثالث: بما ورد في المَذْي (¬1) من الأمر بغسل الفرج والأُنثيين. ويجاب عنه: أنه إثبات لنجاسة المني بقياس؛ لأنهما متغايران، على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي؛ إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول، أو لأنه ليس بأصل للنسل. ويلزم أن يطهُر بالنضح؛ لما ورد عند أبي داود، والترمذي - وصححه - من حديث سهل بن حُنَيْف بلفظ: " يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيثما ترى أنه (¬2) أصاب من ثوبك " (¬3) . وأما الجواب عن حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لعائشة بفرك المني؛ بأن المراد به الفرك قبل الغسل، لا مجرد الفرك فقط! فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل. ¬
وكان أقرب من هذا أن يجاب: بأن الفرك لم يكن بأمره [صلى الله عليه وسلم] ؛ إنما قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- كما في كتب الحديث -. والأمر الرابع: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يغسل موضع المني من ثوبه؛ ويجاب عنه: بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة، مع احتمال أن يكون غسله تقذُّراً لما فيه من مخالفة النظافة. وأما فرك عائشة لمنيِّه [صلى الله عليه وسلم] من ثوبه حال صلاته بأنه (¬1) لم يعلم بذلك: فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك، كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك. وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشيء نجساً لا يُقبل إلا بدليل تقوم به الحجة؛ غير معارض بما هو أنهض أو مساوٍ؛ لأن الحكم بكون الشيء نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى. وقد أوردت في " مِسك الختام شرح بلوغ المرام " حجج المختلفين، ورجّحت هناك ما رجّحت، وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله. وفي " سُبُل السلام ": والحق أن الأصل الطهارة، والدليل على القائل بالنجاسة، فنحن باقون على الأصل. وذهب الحنفية - رحمهم الله - إلى نجاسة المني كغيرهم، ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالخِرقة، أو الإذخرة؛ عملاً بالحديثين، ¬
الأصل في الأشياء الطهارة
وبين الفريقين القائلين بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي " شرح العمدة ". انتهى ( [الأصل في الأشياء الطهارة] :) (والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) : لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله - تعالى - عنها، وأنها عفو؛ فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته؛ فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد، أو غلط في الاستدلال، كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله - تعالى -، زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان. وهذا الزعم من أبطل الباطلات، فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام (¬1) ؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك، وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته، فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها " (¬2) ، ولو كان مجرد تحريم شيء ¬
المسلم طاهر حيا وميتا
مستلزماً لنجاسته؛ لكان مثل قوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية! ( [المسلم طاهر حياً وميتاً] :) والمسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، كما ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] في " الصحيح "، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق (¬1) ، كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة. فإن قلت: إذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس - كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير - فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} ؟} قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية. ( [نجاسة المشرك] :) وهكذا قوله - تعالى: {إنما المشركون نجس} : لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين، كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم، والتوضؤ من آنيتهم والأكل فيها، وإنزالهم المسجد: كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية، بل قد ورد (¬2) البيان من الشارع ¬
لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة، فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء؛ إنما أنجاسهم على أنفسهم "، فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة، والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية. وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته - ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه -: فلا شك أن يتعين العمل بالأرجح، فإن عورض بما يساويه؛ فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم، حتى يرد مورداً خالصاً عن شَوْب المعارضة، أو راجحاً على ما عارضه. وبالجملة: فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع، ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية. قال في " سبل السلام ": " والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها، وأما النجاسة فيلازمها التحريم فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب؛ وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً، إذا عرفت هذا: فتحريم الحُمُر والخمر - الذي دلت عليه النصوص - لا يلزم منه نجاستها، بل لا بد من دليل آخر عليه؛ وإلا بقيا على الأصول ¬
فصل تطهير النجاسات
المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه ". انتهى. وقد أوضح الماتن في مصنفاته: ك " شرح المنتقى " و " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام " هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره؛ فليراجع. (فصل [تطهير النجاسات] ) ( [الاقتصار على ما ورد في الشرع] :) (ويطهر ما يتنجس بغسله) ؛ أي: بإسالة الماء عليه، ثم إن ورد فيه شيء عن الشارع؛ كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد، من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وتقدم - أيضا - ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب. وبالجملة: فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره؛ كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره؛ فالواجب علينا إذهاب تلك العين. (حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم) : لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أو طعمه - قد بقي فيه - جزء من العين، وإن لم يبق جرمها ولونها؛ إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الطعم.
تطهير النعل بالمسح
( [تطهير النعل بالمسح] :) (والنعل بالمسح) وكذلك الخف؛ لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة، والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة، فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك. ثم إن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان، وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس: أوضح هذا المعنى إيضاحا ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال، فقال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر نعليه، فإن كان فيها خبث فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ". ولفظ أحمد وأبي داود: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ". فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك، فإنه - أولا - بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجودا محققا؛ فعلوا المسح بالأرض، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها. ( [تلبيس الشيطان على الموسوسين] :) ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ما هو فيه نوعا من الجنون! فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة، حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر، مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة، فلا يزال في تعب ونصب
ومزاولة، لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد؛ شرع في العضو الثاني ثم كذلك، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس، فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد من العصاة؛ لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات - كما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيمن تجاوزها -: " ... فقد أساء وتعدى وظلم "، فجمع له [صلى الله عليه وسلم] بين هذه الثلاثة أنواع، ثم لم يقنع منه بهذا، حتى صيره تاركا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. وأخرج أهل " السنن "، وأحمد من حديث بريدة، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ". وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: " كان أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر؛ غير الصلاة ". فانظر كيف صار هذا الموسوس - بنص رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- مسيئا متعديا ظالما كافرا (¬1) ، إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه، فهذا باعتبار ما له عند ربه. وأما باعتبار ما له عند الخلق؛ فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن، ف {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} ، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرا ما يفضي ¬
به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية، فلا يراح رائحة الجنة، كما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فيمن قتل نفسه (¬1) ، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل. فمن كان جاهلا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو {وهو قد غسل ذلك العضو مئات} { ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلا مشروعا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك} فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة (¬2) دلكا فظيعا، فيشرع بالأنملة، ثم يدلك جزءا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثم يأخذ في الأخرى، ثم كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلا بعد مدة طويلة، ثم يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله، فيعود إليه، ثم كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه. ومن كان عالما؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنه ممن أضله الله على علم، ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعبادة عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يستحي من الله؛ فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يستحي من الناس؛ فيردعه حياؤه عن ¬
التطهير بالاستحالة
التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان {وفي مثل هذا قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ". والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل} والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب، والغراب الأبقع (¬1) . ومن أنكر هذا فليجرب نفسه، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض، ثم يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟ {مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلدا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قوما لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه. اللهم} أعذنا من نزعات الشيطان، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. ( [التطهير بالاستحالة] :) (والاستحالة مطهرة) ؛ أي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان ¬
تطهير ما لا يمكن غسله
ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول - لونا وطعما وريحا -، كاستحالة العذرة رمادا. وقد أوضحت ذلك في كتابي " دليل الطالب " فليراجع، وحققه الماتن في " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، وغيرهما. (لعدم وجود الوصف المحكوم عليه) يعني: فقدْ فقدَ الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه، وهذا هو الحق. والخلاف في ذلك معروف. ( [تطهير ما لا يمكن غسله] :) (وما) كان (لا يمكن غسله) من المتنجسات كالأرض والبئر (ف) تطهيره (بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى) أي: لا يوجد (للنجاسة أثر) ؛ لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون؛ وأما مثل البول؛ فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء، فإن وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة - بالبول - طاهرة. أقول: البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة: أن المطهر الكثير يطهر الأرض، وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة، وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن. في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة، فصب عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت،
الأصل في التطهير هو الماء
والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير، ولكنها لا تطهر، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة ". وعند الحنفية - رحمهم الله تعالى - الغسالة نجسة، والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة. انتهى. ( [الأصل في التطهير هو الماء] :) (والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع) : لأن كون الأصل في التطهير هو الماء، قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد، بل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " يرشد إلى ما ذكرنا إرشادا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء - كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك -؛ كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق. وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، وذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر. ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إن الماء يتعين في مثل ذلك. ويرد على أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع.
باب قضاء الحاجة
(3 - باب قضاء الحاجة) والحاجة: كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قعد أحدكم لحاجته "، وعبر عنه الفقهاء ب (باب الاستطابة) ؛ لحديث: " ولا يستطيب بيمينه "، والمحدثون ب (باب التخلي) ؛ مأخوذ من قوله: " إذا دخل أحدكم الخلاء "، والتبرز من قوله: " البراز في الموارد ". والكل من العبارات صحيح. ( [آداب قضاء الحاجة] :) (1 - أن يستتر) : (على المتخلي الاستتار) : فينبغي أن يبعد؛ لئلا يسمع منه صوت أو يشم منه ريح أو يرى منه عورة. ( [2 - أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض] :) (ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) عند قضاء الحاجة، ويستتر بمثل حائش نخل مما يواري أسفل بدنه، " ... فمن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم " (¬1) ، وذلك لأن الشيطان جبل على أفكار فاسدة وأعمال شنيعة. كذا في " الحجة ". ¬
أن يبعد في المذهب أو يدخل الكنيف
وذلك لما ورد من الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة عموما وخصوصا؛ إلا عند الضرورة، ومنها قضاء الحاجة، فلا يكشف عورته إلا عند القعود. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: " من أتى الغائط فليستتر ". ( [3 - أن يبعد في المذهب أو يدخل الكنيف] :) (والبعد) : لما أخرجه أهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى. ولفظ أبي داود: كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. ورجاله رجال الصحيح؛ إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي، ففيه مقال يسير. (أو دخول الكنيف) ؛ يعني: إذا أراد أن يقضي الحاجة في البنيان، وهناك كنيف؛ فليس عليه إلا أن يدخله، وإن قرب من الناس؛ لما سيأتي من حديث ابن عمر. ( [4 - أن يترك الكلام] :) (و) أما (ترك الكلام) : فلحديث: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك " (¬1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو ¬
أن لا يصطحب ما فيه اسم الله
داود، وابن ماجة من حديث أبي سعيد. وأخرج نحوه ابن السكن (¬1) - وصححه - من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه -. ( [5 - أن لا يصطحب ما فيه اسم الله] :) (و) أما ترك (الملابسة لما له حرمة) : فلحديث أنس - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، والمنذري، وابن دقيق العيد - بلفظ: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء ينزع خاتمه. ولم يأت من ضعفه (¬2) بما تقوم به الحجة في التضعيف. ( [6 - أن لا يتخلى في الموارد والظل والطرق] :) (وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع) : كالتخلي في ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم والماء الدائم، فقد ورد في ذلك أحاديث: منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، قال: " اتقوا اللاعنين "، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ {قال: الذي يتخلى في طريق ¬
أن لا يبول في الجحر
الناس أو في ظلهم "؛ وافهم أن الحكمة الاحتراز عن لعنهم وتأذيهم. ومنها حديث معاذ بن جبل عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن السكن - وصححاه -، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ". وقد أعل (¬1) بأنه من رواية أبي سعيد الحميري عن معاذ - ولم يسمع منه -. وفي الباب أحاديث فيها مقال. ( [7 - أن لا يبول في الجحر] :) ومن الأمكنة التي نهى الشارع عنها: الجحر؛ لحديث عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يبال في الجحر. أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي. وقد أعل بأنه من رواية قتادة عنه - ولم يسمع منه -، ولكنه قد صحح سماعه منه علي بن المديني، وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن (¬2) . والجحر؛ قد يكون مأوى حية أو مثلها، فتخرج وتؤذي. ( [8 - أن لا يبول في مستحمه] :) ومنها ما أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -، وأهل " السنن " من حديث عبد الله بن مغفل، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم ¬
ترك استقبال واستدبار القبلة
يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه " (¬1) . ومنها ما أخرجه مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى - والنسائي - رحمه الله تعالى - وابن ماجة - رحمه الله تعالى - عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبال في الماء الراكد. (أو عرف) : وجهه أنهم يتأذون بذلك، وما كان ذريعة إلى ما لا يحل، فهو لا يحل. ( [9 - ترك استقبال واستدبار القبلة] :) (وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة) : قد ورد في ذلك أحاديث: منها ما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي أيوب بلفظ: " إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا " وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -، ومن حديث سلمان - أيضا -. وابن ماجة، وابن حبان من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل، والدارمي في " مسنده "، من حديث سهل بن حنيف. ( [أقوال العلماء] :) وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال، استوفاها الماتن في ¬
" نيل الأوطار ". وقد استدل من لم يمنع من ذلك بما أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر، قال: رقيت يوما على بيت حفصة - رضي الله تعالى عنها -، فرأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة "، وجعلوا هذا الحديث ناسخا لأحاديث النهي. ومن جملة ما استدلوا به: حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى؛ وحسنه - وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، والبزار - رحمه الله تعالى -، وابن الجارود - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، وابن حبان - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، قال: نهى النبي [صلى الله عليه وسلم] أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها. قد نقل الترمذي عن البخاري - رحمه الله تعالى - تصحيحه، وصححه - أيضا - ابن السكن، وحسنه - أيضا - البزار. ولا يخفى أنه قد تقرر في الأصول: أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض القول الخاص بالأمة، فما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة (¬1) ¬
فإن قلت: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، قالت: ذكر لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم؟ فقال: " أو قد فعلوها؟ {حولوا مقعدتي قبل القبلة "، قلت: لو صح هذا لكان صالحا للنسخ؛ لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] فعله لقصد التشريع للأمة، ولمخالفة من كان يكره الاستقبال. ولكنه لم يصح؛ فإن في إسناده خالد بن أبي الصلت: قال ابن حزم: هو مجهول، وقال الذهبي في " الميزان " في ترجمة خالد بن أبي الصلت: إن هذا الحديث منكر (¬1) . وقد استدل من خصص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، عن مروان الأصفر - رضي الله عنه -، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته؛ مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن} أليس قد نهي عن ذلك؟ ! فقال: بلى، إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. وقد حسن (¬2) الحافظ في " الفتح " إسناده، ولكنه إنما يكون هذا دليلا إذا كان قد سمع من النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يفيد تخصيص ذلك النهي السابق. وأما إذا كان مستنده إنما هو مجرد فهمه من فعله [صلى الله عليه وسلم] في بيت حفصة ¬
- رضي الله عنها -: فلا يكون هذا الفهم حجة، ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال. قال الشافعي - رحمه الله -: الاستقبال والاستدبار محرمان في الصحراء لا في البنيان، ووجه الجمع عنده تنزيل النهي والإباحة على حالتين. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مكروهان فيهما سواء، ووجه الجمع عنده أن النهي للتنزيه، والفعل لبيان الجواز في الجملة. كذا في " المسوى ". قال في " سبل السلام: اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: أقربها: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في الإباحة فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت: بقيت الصحراء على التحريم، وقد قال ابن عمر: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود وغيره. وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك. انتهى. وروي عن عائشة عند الترمذي: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يبل قائما. وروي عن عمر عند الترمذي (¬1) : أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهاه أن يبول قائما. ¬
أن يستجمر بثلاثة أحجار
وروى الحاكم: أن بوله [صلى الله عليه وسلم] قائما كان لمرض؛ لكن ضعفه الدارقطني، والبيهقي، فلم يكن صالحا لحمل بوله على حال الضرورة، فالأولى أن يقال: إن فعله [صلى الله عليه وسلم] لبيان الجواز، وإن البول من قيام مكروه فقط، وفعله للمكروه لبيان حكم شرعي جائز. ولا ريب أن البول من قيام: من الجفاء (¬1) والغلظة والمخالفة للهيئة المستحسنة، مع كونه مظنة لانتضاح البول وترشرشه على البائل وثيابه، فأقل أحوال النهي مع هذه الأمور: أن يكون البول من قيام مكروها. وهذا على فرض أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لقصد التشريع حتى يكون لبيان الجواز، ويكون صارفا للنهي، فإن لم يكن كذلك؛ فالنهي باق على حقيقته، والبول من قيام من خصائصه (¬2) ، ولكن بعد ثبوت النهي من طريق صحيحة أو حسنة (¬3) { وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ". ( [10 - أن يستجمر بثلاثة أحجار] :) (وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة) ؛ أي: مسحات؛ لأنها لا تنقي ¬
غالبا بأقل من ثلاثة أحجار؛ لما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث سلمان: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، وعن الاستنجاء برجيع أو عظم. وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى - والدارقطني - رحمه الله تعالى -؛ وقال: إسناده صحيح حسن - من حديث عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإنها تجزيء عنه ". وأخرج نحوه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروثة والرمة. وأخرج ابن خزيمة، وابن حبان، والدارمي، وأبو عوانة في " صحيحه "، والشافعي - رحمهم الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا بلفظ: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ". وفي الباب أحاديث غير ما ذكرناه. ثم اعلم أنه قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في " المسوى شرح الموطأ ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " الاستنجاء واجب، والمراد ثلاث مسحات ".
أن يستجمر بما يقوم مقام الأحجار فيما عدا المنهي عنه
وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: سنة، والمراد الإنقاء. وقال الشافعي: لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار، وإن حصل الإنقاء بما دونها، فإن لم يحصل يجب أن يزيد حتى يحصل، فإن حصل بعدها بشفع يستحب أن يختم بالوتر. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: " يسن الإنقاء ولا يستحب الإيتار ". وتأويل الحديث عنده: أن المراد بالإيتار هو التثليث، كنى به عن الإنقاء، ويستحب الاستنجاء بالماء من غير وجوب. عن عمر بن الخطاب: " يتوضأ بالماء لما تحت إزاره ". قلت: معنى الوضوء ههنا الغسل والتنظيف؛ وعليه عامة أهل العلم. انتهى. وورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: " حجران للصفحتين (¬1) ، وحجر للمسربة " - بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة -: مجرى للحدث من الدبر. ( [11 - أن يستجمر بما يقوم مقام الأحجار فيما عدا المنهي عنه] :) (وما يقوم مقامها) : للضرورة؛ أي: إذا لم توجد الأحجار، ما لم يكن ذلك الغير مما ورد النهي عنه - كالروثة والرجيع والعظم -، فإنه لا يجوز ولا يجزيء. ¬
قال في " الحجة ": لأنه طعام الجن، وكذا سائر ما ينتفع به، ويستحب الجمع بين الحجر والماء (¬1) . وأقول: لا شك أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجارة من دون ماء؛ لأنه أقطع للنجاسة، فلا تبقى بعده عين للنجاسة ولا ريح، بخلاف الاستنجاء بالحجارة - وهو الاستجمار -، فإذا لم يبق جزء من عين النجاسة بقي أثر من آثارها، وإذا لم يبق شيء من الآثار بقيت الريح، ومع هذا؛ فهو من السنن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مقرونا بما لا خلاف في مشروعيته، إنما الشأن في كونه يجب على من قضى الحاجة - إذا أراد القيام إلى الصلاة - أن يستنجي بالماء، ولا يكفيه الاستجمار بالأحجار ثم يتوضأ وضوء الصلاة ثم يصلي. والاستدلال على الوجوب بحديث أهل قبا، لا يخفى أن غاية ما فيه تخصيصهم بالأمر بذلك دون غيرهم، فإن سائر الصحابة كانوا إذ ذاك لا يستنجون بالماء، ولهذا خص الله أهل قباء بالثناء، ثم لم يرد أنه [صلى الله عليه وسلم] أمر غير أهل قبا بذلك. وقد ذهب إلى أنه يكفي الأحجار: ابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، والشافعية، والحنفية، كما حكى ذلك في " البحر الزخار " عنهم. بل حكى - أيضا - عن عطاء أن غسل الدبر محدث. وعن سعيد بن المسيب: ما يفعله إلا النساء. ¬
هكذا في " البحر ". وروى عنه أنه كان يقول: إذن لا يزال في يدي نتن - يعني: إذا غسل فرجه بالماء -. ويدل على عدم الوجوب أحاديث الأمر بالاستجمار. وما ورد - من أن ثلاثة أحجار ينقين المؤمن - لم يصح { والحاصل: أنه لا نزاع في كون الماء أفضل؛ إنما النزاع في أنه يتعين ولا يجزيء غيره، وهذا كله على فرض ثبوت قوله في حديث أهل قبا: " ذلكموه فعليكموه "} ولكنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث؛ بل الذي في " الجامع " عن أنس: ان النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لأهل قبا: " إن الله قد أحسن الثناء عليكم؛ فما ذاك "؟ ، قالوا: نجمع في الاستجمار بين الأحجار والماء. قال في " الجامع ": ذكره رزين (¬1) . وفي " التلخيص " (¬2) عن البزار في " مسنده " قال: نبأنا عبد الله بن شبيب: نبأنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، قال: وجدت في كتاب أبي: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن العباس، قال: نزلت هذه الآية في أهل قبا: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} ، فسألهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الزهري؛ إلا محمد بن عبد العزيز، ¬
الأدلة على الاستنجاء بالأحجار للقبل أو الدبر
ولا عنه إلا ابنه. انتهى. ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم، فقال: ليس له ولأخويه - عمران وعبيد الله - حديث مستقيم. وعبد الله بن شبيب - أيضا - ضعيف. وأصل الحديث في " سنن أبي داود "، " والترمذي "، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة. وليس في شيء هنا الجمع بين الأحجار والماء، فمحل الاستدلال على وجوب الاستنجاء بالماء - هو قوله لهم: " فعليكموه " (¬1) : إغراء لهم على الفعل بمعنى: الزموه - لم يثبت حتى يثبت ما دل عليه. ( [الأدلة على الاستنجاء بالأحجار للقبل أو الدبر] ) واعلم أن الأدلة في هذه المسألة غير مقيدة بكون الأحجار المذكورة للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما جميعا؛ إذ يصدق قوله (¬2) [صلى الله عليه وسلم] : وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار؛ على من أراد أن يستنجي بعد البول فقط، أو بعد الغائط فقط، أو بعدهما. وكذلك قوله (¬3) [صلى الله عليه وسلم] وكان يأمرنا بثلاثة أحجار؛ يصدق على كل ذاهب ¬
إلى الغائط سواء ذهب إلى البول فقط، أو إلى الغائط فقط، أو لهما. والمراد بالغائط في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أتى أحدكم الغائط ": المكان المطمئن، لا نفس الخارج، كما صرح به أئمة اللغة. وكذلك قوله: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ": شامل لكل قاض للحاجة - سواء ذهب إلى البول فقط، أو الغائط فقط، أو ذهب إليهما جميعاً -. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهنّ؛ فإنها تجزئ عنه ": يتناول من بال فقط، كما يتناول من تغوّط فقط. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليستنج بثلاثة أحجار ": يصدق على كل قاض للحاجة كما عرفت. وكذلك حديث: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار، وقوله: " وأعدوا النبل (¬1) ". إذا تقرر هذا: علمت أنه شرع الاستجمار لمن بال، كما شرع لمن تغوط، وأن يكون بثلاثة أحجار: ولم يَرِدْ ما يخالف هذا من شرع ولا لغة ولا اشتقاق. والاستنجاء: هو غسل البدن عن الأذى بالماء ومسحه بالحجر؛ كما صرح به صاحب " النهاية "، وصاحب " الصحاح "، " والقاموس ". ¬
والاستجمار عندهم: استعمال الجِمار والتمسح بالجِمار - وهي الأحجار الصغار -، وهو استعمال من غير تقييد. قال في " القاموس ": استجمر: استنجى. انتهى. وهو - كما لا يخفى - يصدُق على من استنجى بها للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما. وكذلك تصدق الاستطابة على مسح الذكر والفرج. قال في " النهاية ": الاستطابة والإطابة: كناية عن الاستنجاء، وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء؛ أي: يطهره. ومثل ذلك في " الصحاح "، و " القاموس ". ثم قد وردت أحاديث فيها مجرد الأمر بثلاثة أحجار من غير ذكر استنجاء ولا استطابة ولا استجمار؛ ولا نزاع في صدقها على الذاهب إلى البول كما تصدق على الذاهب إلى الغائط. وحينئذ تعلم أنه شرع لمن بال أن يستجمر بالأحجار عقب البول، كما شرع لمن تغوط أن يفعل ذلك، ولا ينافي ذلك حديث: " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً "؛ كما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث عيسى بن يزداد، عن أبيه. وقد قال ابن معين: لا يعرف عيسى ولا أبوه.
الاستعاذة عند دخول الكنيف
وقال الثوري: اتفقوا على أنه ضعيف. وقال أبو حاتم: حديثه مرسل: لأن الحديث - وإن كان مما لا تقوم به الحجة (¬1) - لكنه يمكن الجمع بينه وبين أحاديث الاستجمار؛ إذ الاستجمار إنما هو المسح بالجِمار لما تلوث بالبول أو الغائط من خارج الفرج أو الذكر، لا لاستخراج ما كان داخلهما، فالنتر والاستجمار مختلفان - مفهوماً وصدقاً وزماناً ومكاناً وصفة -، فكيف يجعل أحدهما معارضاً للآخر؟ {لا سيما وحديث النتر بمكان من الضعف لا تقوم به الحجة على فرض انفراده، فكيف يؤخذ به وتترك أحاديث الاستجمار المتواترة تواتراً معنوياً عند من له أدنى ممارسة للفن؟} وقد أوضحت ذلك في " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ فليراجع. (12 -[الاستعاذة عند دخول الكنيف] :) (وتُندب الاستعاذة عند الشروع) ؛ أي: الدخول؛ لأن الحشوش مُحتضَرة (¬2) يحضرها الشياطين؛ لأنهم يحبون النجاسة، ووجهه ما أخرجه الجماعة من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء قال: " اللهم {إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ". وقد روى سعيد بن منصور في " سننه ": أنه كان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " اللهم} إني أعوذ بك من الخبث والخبائث "، وإسناده على شرط مسلم. ¬
أن يستغفر ويحمد بعد قضاء الحاجة
(13 -[أن يستغفر ويحمد بعد قضاء الحاجة] :) (والاستغفار والحمد بعد الفراغ) : لأنه وقت ترك ذكر الله - تعالى - ومخالطة الشياطين، والدليل عليه ما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله تعالى - بإسناد صالح (¬1) من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى (¬2) ". وأخرج نحوه النسائي - رحمه الله تعالى -، وابن السني - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - ورمز السيوطي - رحمه الله تعالى - لصحته (¬3) - وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك ". وصححه ابن حبان - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -. ¬
باب الوضوء
(4 - باب الوضوء) (الفصل الأول: فرائض الوضوء] ) ( [متى فُرض الوضوء؟] :) فُرض مع الصلاة قبل الهجرة بسنة، وهو من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم، لا لأنبيائهم. (1 -[التسمية إذا ذكر] :) (يجب على كل مكلَّف) : لمن أراد الصلاة وهو مُحْدِث أو جنب (أن يسمي) ؛ وجه وجوب التسمية ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "؛ أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -؛ وأبو داود - رحمه الله تعالى -؛ وابن ماجه - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، في " العلل "، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، وابن السكن - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -، وليس في إسناده ما يُسقطه عن درجة الاعتبار. وله طرق أخرى (¬1) من حديثه عند الدارقطني - رحمه الله تعالى - ¬
والبيهقي - رحمه الله -. وأخرج نحوه أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، ومن حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وسهل بن سعد - رضي الله عنه - وأبي سبرة - رضي الله عنه -، وأم سبرة - رضي الله عنها -، وعلي - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -. ولا شك ولا ريب أنها جميعاً تنتهض للاحتجاج؛ بها، بل مجرد الحديث الأول ينتهض للاحتجاج لأنه حسن، فكيف إذا اعتضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه؟ { ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف، وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله، وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم، فضلاً عن الوجوب؛ فإنه أقل ما يستفاد منه (¬1) . ¬
(إذا ذكر) : تقييد الوجوب بالذِّكر؛ للجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث: " من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه " (¬1) ؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله - من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وفي إسناده متروك. ورواه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وفي إسناده - أيضا - متروك. ورواه أيضا الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه ضعيفان. وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها، وليس فيها أيضا دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذِّكر، ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان، وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز، فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية، ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية، وبعد هذا كله: ففي التقييد بالذكر إشكال. قال في " الحجة البالغة ": قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا وضوء لمن لا يذكر الله " هذا الحديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه، وعلى تقدير صحته؛ فهو من المواضع التي اختلف فيها طريق التلقي من النبي [صلى الله عليه وسلم] فقد استمر المسلمون يحكون وضوء النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ¬
ويعلّمون الناس ولا يذكرون التسمية، حتى ظهر زمان أهل الحديث (¬1) ، وهو نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب (¬2) ؛ فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية، وحينئذ يكون صيغة: " لا وضوء " على ظاهرها. نعم؛ التسمية أدب كسائر الآداب - لقوله [صلى الله عليه وسلم]-: " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر " (¬3) ، وقياساً على مواضع كثيرة. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضي مثل هذا التأويل؛ فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ. انتهى. وأقول: قد تقرر أن النفي في مثل قوله: " لا وضوء ... " يتوجه إلى الذات إن أمكن، فإن لم يمكن؛ توجه إلى الأقرب إليها - وهو نفي الصحة -؛ فإنه أقرب المجازيْن، لا إلى الأبعد - وهو نفي الكمال -، وإذا توجه إلى الذات - أي: لا ذات وضوء شرعية، أو إلى الصحة -: دل على وجوب التسمية؛ لأن انتفاء التسمية قد استلزم انتفاء الذات الشرعية، أو انتفاء صحتها؛ فكان تحصيل ما يُحصِّل الذات الشرعية، أو صحتها واجباً، ولا يتوجه إلى نفي الكمال إلا لقرينة؛ لأن الواجب الحمل على الحقيقة، ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذات، ثم لا يحمل على أبعد المجازات إلا لقرينة. يمكن أن يقال: إن القرينة - ههنا - المسوِّغة لحمل النفي على المجاز الأبعد ¬
المضمضة والاستنشاق
هي ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من توضأ وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه "؛ وسنده ضعيف (¬1) . (2 -[المضمضة والاستنشاق] :) (ويتمضمض ويستنشق) : وجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله، وقد بين النبي [صلى الله عليه وسلم] ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا، ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق، فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغسله من جملة المضمضة والاستنشاق. وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني - رحمه الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالمضمضة والاستنشاق (¬2) . وثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا - أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا توضأ أحدكم؛ فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر ". وثبت عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، رحمه الله تعالى - من حديث لقيط بن صبرة - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " ... وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً (¬3) ". ¬
وأخرج النسائي - رحمه الله تعالى - من حديث سلمة بن قيس - رضي الله تعالى عنه -: " إذا توضأت فانتثر ". وأخرجه الترمذي - رحمه الله تعالى - أيضاً. وفي رواية من حديث لقيط بن صَبِرة - رضي الله تعالى عنه - المذكور: " إذا توضأت فمضمض "؛ أخرجها أبو داود بإسناد صحيح. وقد صحح حديث لقيط - رضي الله تعالى عنه - الترمذي - رحمه الله تعالى -، والنووي - رحمه الله تعالى -، وغيرهما؛ ولم يأت من أعلّه بما يقدح فيه. وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد - رحمه الله تعالى -، وإسحاق - رحمه الله تعالى -، وبه قال ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى -، وحماد بن أبي سليمان - رحمه الله تعالى (¬1) -. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء، والمضمضة سنة فيهما. حكى هذا المذهب النووي - رحمه الله تعالى - في " شرح مسلم " عن أبي ثور - رحمه الله تعالى -، وأبي عبيد - رحمه الله تعالى -، وداود الظاهري، ¬
وابن المنذر - رحمه الله تعالى -، ورواية عن أحمد - رحمه الله تعالى -. وقد روى غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، والثوري - رحمه الله تعالى -، وزيد بن علي - رحمه الله تعالى -. وذهب مالك - رحمه الله تعالى -، والشافعي - رحمه الله تعالى -، والأوزاعي - رحمه الله تعالى -، والليث - رحمه الله تعالى -، والحسن البصري - رحمه الله تعالى -، والزهري - رحمه الله تعالى -، وربيعة - رحمه الله تعالى -، ويحيى بن سعيد - رحمه الله تعالى -، وقتادة - رحمه الله تعالى -، والحكم بن عتيبة - رحمه الله تعالى -، ومحمد بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -، إلى أنهما غير واجبين، واستدلوا على عدم الوجوب بحديث: " عشر من سنن المرسلين ... " - وهو حديث صحيح (¬1) -، ومن جملتها المضمضة والاستنشاق. ورد بأنه لم يرو بلفظ: " عشر من السنن "، بل بلفظ: " عشر من الفطرة ... " (¬2) ، وعلى فرض وروده بذلك اللفظ: فالمراد بالسنة الطريقة، وهي تعم الواجب، لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول، فإن ذلك اصطلاح حادث، وعرف متجدد لا تحمل عليه أقوال الشارع! وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " المضمضة والاستنشاق سنة "؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، وإسناده ضعيف (¬3) . ¬
غسل الوجه
والمراد بالسنة في اصطلاح الشارع وأهل عصره: ما دل عليه دليل من قوله [صلى الله عليه وسلم] أو فعله أو تقريره، ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن، فهذه اللفظة أعم من المدعى، فإنها تطلق على الواجب كما تطلق على المندوب، فيقال مثلا: الدليل على هذا الحكم من السنة. ولا يقال: إن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ لأن المراد بالسنة - كما عرفت - في لسان الشارع، ليس ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول؛ فتأمل! (3 -[غسل الوجه] :) (ثم يغسل جميع وجهه) : والمراد بالوجه ما يسمى وجهاً عند أهل الشرع واللغة. ووجوب غسل الوجه لا خلاف فيه في الجملة، وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة. (4 -[غسل اليدين مع المرفقين] :) (ثم يديه مع مرفقيه) : هو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا خلاف في ذلك، وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معهما، ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أدار الماء على مرفقيه، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "؛ وفي إسناده ضعيفان هما: عباد بن يعقوب، والقاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (¬1) . ¬
مسح الرأس
ولكن يغني عن هذا الضعيف ما في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أنه توضأ ثم غسل يده، حتى شرع في العضد. ثم قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يتوضأ هكذا. وفي رواية الدارقطني - رحمه الله تعالى - من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه غسل وجهه ويديه، حتى مس أطراف العضدين؛ قال الحافظ: وإسناده حسن. وأخرج البزار والطبراني (¬1) من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه - مرفوعاً -: ثم غسل ذراعيه، حتى يسيل الماء على مرفقيه. وهذا بيان لما في القرآن، فأفاد أن الغاية داخلة فيما قبلها. (5 -[مسح الرأس] :) (ثم يمسح رأسه) : ولا خلاف فيه - في الجملة -، وإنما وقع الخلاف: هل المتعين مسح الكل؟ أم يكفي البعض؟ وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أم البعض، والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات، كما في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث المغيرة - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] توضأ، ومسح بناصيته وعلى العمامة. وأخرج أبو داود (¬2) - رحمه الله تعالى - من حديث أنس - رضي الله ¬
عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمر عليها [صلى الله عليه وسلم] ، فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان [صلى الله عليه وسلم] يداوم عليها - وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا -، وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن قوله - تعالى -: {وامسحوا برؤسكم} لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال؛ نحو: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، وضربت زيداً، وضربت يد زيد، فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة، وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس - لغة - حتى يقال: إنه - حقيقة - في جميعه، بل النزاع في إيقاع المسح عليه، وعلى فرض الإجمال: فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه؛ فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا، وأما اليدان والرجلان؛ فقد صرح فيهما بالغاية للمسح والغسل. فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به؛ قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب - أو بالثوب -، أو مسحت الحائط - أو بالحائط -، على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط، وإنكار مثل هذا مكابرة.
مسح الأذنين
وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " وغيرها؛ فليراجع. ( [مسح الأذنين] :) (مع أذنيه) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسحهما مع مسح رأسه، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] بلفظ: " الأذنان من الرأس " من طرق يقوي بعضها بعضا (¬1) . (ويجزئ مسح بعضه) قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: الفرض أدنى ما يطلق عليه اسم المسح. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مسح ربع الرأس. وقال مالك: مسح جميع الرأس. في " سفر السعادة " (¬2) : وكان يمسح جميع رأسه أحيانا، وأحيانا يمسح على العمامة، وأحيانا يمسح على الناصية والعمامة، ولم يقتصر على مسح بعض الرأس أبدا، وكان يمسح الآذان ظاهرا وباطنا، ولم يثبت في مسح الرقبة حديث. انتهى. ¬
المسح على العمامة
( [المسح على العمامة] :) (والمسح على العمامة) أو غيرها مما هو على الرأس، فقد ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] من حديث عمرو بن أمية الضمري عند البخاري - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث بلال - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث المغيرة - رضي الله عنه - عند الترمذي - رحمه الله، وصححه -. وليس فيه المسح على الناصية، بل هو بلفظ: ومسح على الخفين والعمامة. وفي الباب أحاديث غير هذه: منها عن سلمان - رضي الله عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وعن ثوبان - رضي الله عنه - عند أبي داود وأحمد - رحمه الله - أيضا. والحاصل: أنه قد ثبت المسح على الرأس وحده، وعلى العمامة وحدها، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت. وقد ورد في حديث ثوبان - رحمه الله - ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر، وهو عند أحمد - رحمه الله -، وأبي داود (¬1) - رحمه الله -: أنه [صلى الله عليه وسلم] بعث سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي [صلى الله عليه وسلم] شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين؛ وفي إسناده راشد بن سعد؛ ¬
غسل الرجلين
قال الخلال في " علله ": إن أحمد - رحمه الله - قال: لا ينبغي أن يكون راشد ابن سعد سمع من ثوبان - رضي الله عنه - لأنه مات قديما (¬1) . (6 -[غسل الرجلين] :) (ثم يغسل رجليه) : وجهه ما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه؛ فإنها جميعها مصرحة بالغسل، وليس في شيء منها أنه مسح؛ إلا في روايات لا تقوم بمثلها الحجة، ويؤيد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للماسحين على أعقابهم: " ويل للأعقاب من النار " - كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما -. ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الرجلين، كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عند الدارقطني (¬2) - رحمه الله -. ويؤيده - أيضا - قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فمن زاد على هذا أو نقص (¬3) فقد أساء وظلم "؛ وهو حديث رواه أهل " السنن "، وصححه ابن خزيمة - رحمه الله -، ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعرابي: " توضأ كما ¬
أمرك الله " (¬1) ، ثم ذكر له صفة الوضوء؛ وفيها غسل الرجلين. وهذه أحاديث صحيحة معروفة، وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار (¬2) ؛ وقد ذهب إلى هذا الجمهور. قال النووي: ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع. وقال الحافظ - رحمه الله - في " الفتح ": إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - خلاف ذلك؛ إلا عن علي - رضي الله تعالى عنه -، وابن عباس - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك. وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله -، قال: اجتمع أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- رضي الله عنهم - على غسل القدمين. وقالت الإمامية (¬3) : الواجب مسحهما. وقال محمد بن جرير، والحسن البصري - رحمه الله -، والجبائي: إنه مخير بين الغسل والمسح. وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح. ¬
ولم يحتج من قال بوجوب المسح إلا بقراءة الجر؛ وهي لا تدل على أن المسح متعين؛ لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف، بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير، لو لم يرد عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يوجب الاقتصار على الغسل. أقول: الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح؛ لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر (¬1) . وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار، وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس، بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور انجر. وتعسف القائلون بالمسح، فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: {برؤسكم} (¬2) ، كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور. وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف، ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسما مجرورا في رواية ومنصوبا في أخرى مما لا يتعلق به الاختلاف، ووجد قبله منصوبا لفظا ومجرورا: لما شك أن النصب عطف على المنصوب والجر عطف على المجرور، وإذا تقرر هذا؛ كان الدليل القرآني قاضيا بمشروعية كل واحد منهما على انفراده، لا على مشروعية الجمع بينهما؛ وإن قال به قائل - فهو من الضعف بمكان؛ لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة -. ¬
انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء؛ فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط؛ ولكن الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما، فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، وكلها مصرحة بالغسل، ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين، فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح؛ فالواجب الغسل بما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من البيان المستمر جميع عمره (¬1) . وإن كان ذلك لا يوجب الإجمال؛ فقد ورد في السنة الأمر بالغسل ورودا ظاهرا؛ ومنه الأمر بتخليل الأصابع؛ فإنه يستلزم الأمر بالغسل؛ لأن المسح لا تخليل فيه، بل يصيب ما أصاب، ويخطئ ما أخطأ. والكلام على ذلك يطول جدا. والحاصل: أن الحق ما ذهب إليه الجمهور؛ من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح (1) . قال في " الحجة البالغة ": ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء، فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية (¬2) ؛ فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول، وبين من أنكر غزوة بدر وأحد - مما هو كالشمس في رابعة النهار -. نعم؛ من قال بأن الاحتياط (¬3) الجمع بين الغسل والمسح، أو أن أدنى ¬
شروط المسح على الخفين
الفرض المسح - وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه -؛ فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف جلية الحال. انتهى. قلت: ويدفعه ما تقدم من الدليل على عدم إجزاء المسح والجمع بينه وبين الغسل؛ فلا فائدة للتوقف في ذلك. (مع الكعبين) ؛ أي: مع القدمين للآية - وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم -؛ فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين، ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه [صلى الله عليه وسلم] مثل ما ثبت في المرفقين، وإذا تقرر أنه لا يتم الواجب إلا بغسلهما: ففي ذلك كفاية مغنية عن الاستدلال بدليل آخر. ( [شروط المسح على الخفين] :) (1 -[أن يلبسهما على طهارة] :) (وله المسح على الخفين) ، ويشترط في المسح عليهما: أن يكون أدخل رجليه فيهما وهما طاهرتان. قال الشافعي - رحمه الله -: يشترط كمال الوضوء عند اللبس. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: عند الحدث. ومسح أعلى الخف فرض، ومسح أسفله سنة عند الشافعي - رحمه الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يمسح إلا الأعلى. وبالجملة: فوجهه ما ثبت تواتراً عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من فعله وقوله.
وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: فيه أربعون حديثا، وكذلك قال غيره. وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله -: إنه رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من الصحابة (رض) (¬1) أحد وأربعون رجلا. وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: أربعون رجلا. وقال ابن منده: إن الذين رووه من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ثمانون رجلا. ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك - رحمه الله -، أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف؛ لأن كل من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته. وقد ذكر أحمد - رحمه الله - أن حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - في إنكار المسح باطل. وكذلك ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنه - قد أنكره الحفاظ، ورووا عنهم خلافه. وكذلك ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سبق الكتاب الخفين؛ فهو منقطع. وقد روى عنه مسلم - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله - القول بالمسح ¬
أن يكون المسح مؤقتا
عليهما بعد موت النبي [صلى الله عليه وسلم] . وقد روى الإمام المهدي (¬1) في " البحر " عن علي - رضي الله عنه - القول بمسح الخفين. وقد ثبت في " الصحيح " من حديث جرير - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسح على الخفين؛ وإسلام جرير - رضي الله تعالى عنه - كان بعد نزول المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع. وقد روى المغيرة - رضي الله عنه - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] المسح على الخفين، وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك، وتبوك متأخرة عن المريسيع بالاتفاق. وقد ذكر البزار - رحمه الله - أن حديث المغيرة - رضي الله عنه - هذا رواه عنه ستون رجلا. وبالجملة: فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن يطول الكلام عليهما، ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع؛ اشتغل الناس بها، حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد. (2 -[أن يكون المسح مؤقتا] :) وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر، وبيوم وليلة للمقيم. قال ابن القيم - رحمه الله - في " إعلام الموقعين " (¬2) : سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ¬
النية
عن المسح على الخفين؟ فقال: " للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما "، وسأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أبي بن عمارة - رضي الله عنه -، فقال: يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: " نعم "، قال: يوما؟ قال: " ويومين "، قال: وثلاثة أيام؟ قال: " نعم، وما شئت ". ذكره أبو داود (¬1) - رحمه الله -. وطائفة قالت: هذا مطلق، وأحاديث التوقيت مقيدة، والمقيد يقضي على المطلق انتهى. وأما مسح الرقبة؛ فقد ورد من الروايات ما يصلح للتمسك به على مشروعية مسح الرقبة (¬2) ، وقد بسطه المجتهد الرباني في " شرح المنتقى " (¬3) ، وقد كاد يقع الإجماع بين أهل المذاهب على أنه بدعة. (3 -[النية] :) (ولا يكون وضوءاً شرعياً إلا بالنية لاستباحة الصلاة) ؛ لحديث: " إنما الأعمال بالنيات " وهو في " الصحيحين " وغيرهما، وورد من طرق بألفاظ. قال في " التلخيص ": لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة - رحمهم الله - من لم يخرجه؛ سوى مالك - رحمه الله -، فإنه لم يخرجه في " الموطأ "، وإن كان ابن دحية - رحمه الله - وهم في ذلك، وادعى أنه في " الموطأ " (¬4) . ¬
فصل سنن الوضوء
قال الهروي: كتب هذا الحديث عن سبع مئة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد. قلت: تتبعته من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، هذا ما كنت وقفت عليه؛ ثم إن في " المستخرج لابن منده " - رحمه الله - عدة طرق، فضممتها إلى ما عندي، فزادت على ثلاث مئة طريق. انتهى. فإن كان المقدر عاما (¬1) فهو يفيد أنه لا يثبت العمل الشرعي إلا بها، وإن كان خاصا؛ فأقرب ما يقدر الصحة، وهي تفيد ذلك. قال في " الفتح ": " وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد، واختلفوا في الوسائل ". ومن ثم خالفت الحنفية - رحمهم الله - في اشتراطها للوضوء، ورد ابن القيم - رحمه الله - على الحنفية - رحمهم الله - بأحد وخمسين وجها في " إعلام الموقعين " فليرجع إليه. وقد نسب القول بفرضية النية إلى الشافعي - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -، والليث - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -. ( [فصل: سنن الوضوء] ) (1 -[التثليث] ) (ويستحب التثليث) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه ¬
بيان حكم الترتيب
[صلى الله عليه وسلم] غسل كل عضو ثلاث مرات، وبيّن أن الواجب مرة واحدة. (في غير الرأس) : لأن الأحاديث الواردة بتثليث سائر الأعضاء وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس، ولا تقوم الحجة بما ورد في تثليثه (¬1) . ( [بيان حكم الترتيب] :) وأما الترتيب: فمن جملة ما استدل به القائل بوجوب الترتيب: أن الآية مجملة باعتبار أن (الواو) لمطلق الجمع على أي صفة كان؛ فبيّن النبي [صلى الله عليه وسلم] للأمة أن الواجب من ذلك هيئة مخصوصة هي المروية عنه، وهي مرتبة. وأيضا؛ الوضوء الذي قال فيه [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله الصلاة إلا به " كان مرتبا (¬2) ؛ والحديث المذكور - وإن كان في جميع طرقه مقال -؛ لكنها يقوي بعضها بعضا؛ ويؤيده ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم مرفوعا عن أبي هريرة: " إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم " (¬3) : قال ابن دقيق العيد: هو خليق بأن يصح. وقد حقق الكلام على هذا شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ". (2 -[إطالة الغرة والتحجيل] :) (وإطالة الغرة والتحجيل) : لثبوته في الأحاديث الصحيحة، كقوله [صلى الله عليه وسلم] : ¬
السواك
" إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء " (¬1) ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. (3 -[السواك] :) (وتقديم السواك استحباباً) : وجهه الأحاديث المتواترة من قوله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وليس في ذلك خلاف. قال في " الحجة ": " قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "؛ معناه: لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطا للصلاة كالوضوء؛ وقد ورد بهذا الأسلوب أحاديث كثيرة جدا؛ وهي دلائل واضحة على أن لاجتهاد النبي [صلى الله عليه وسلم] مدخلاً في الحدود الشرعية، وأنها منوطة بالمقاصد، وأن رفع الحرج من الأصول التي بُني عليها الشرائع. وقول الراوي في صفة تسوكه [صلى الله عليه وسلم] : يقول: أع أع؛ كما يتهوع. أقول: ينبغي للإنسان أن يبلغ بالسواك أقاصي الفم، فيخرج بلاغم الحلق والصدر، والاستقصاء في السواك يذهب بالقُلاع ويصفي الصوت ويطيب النكهة ". انتهى. (4 -[غسل الكفين ثلاثاً] :) (وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل الشروع في غسل الأعضاء المتقدمة) : ¬
فصل نواقض الوضوء
لحديث أوس بن أوس الثقفي، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] توضأ، فاستوكف ثلاثاً "؛ أي: غسل كفيه، أخرجه أحمد - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله -. وثبت في " الصحيحين " من حديث عثمان - رضي الله عنه -: " فأفرغ على كفيه ثلاث مرات يغسلهما ". وثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - يروونه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] . (فصل: [نواقض الوضوء] ) (1 -[خروج شيء من أحد السبيلين] :) (وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح) : فقد وردت الأدلة بذلك مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "، وقد فسره أبو هريرة - رضي الله عنه - لما قال له رجل: ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط. ومعنى الحدث أعم مما فسره به، ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ. ولا خلاف في انتقاض الوضوء بذلك. (2 -[الجماع] :) (وبما يوجب الغسل) في الجماع، ولا خلاف في انتقاضه به أيضا.
نوم المضطجع
(3 -[نوم المضطجع] :) (ونوم المضطجع) : وجهه أن الأحاديث الواردة بانتقاض الوضوء بالنوم كحديث: " من نام فليتوضأ " مقيدة بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع، وقد روي من طرق متعددة، والمقال الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها (¬1) ؛ وبذلك يكون الجمع بين الأدلة المختلفة. وفي ذلك ثمانية مذاهب استوفيناها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام "، واستوفاها الماتن في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار "، وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها، وترجيح ما هو الراجح. قال الشافعي - رحمه الله -: النوم ينقض الوضوء إلا نوم ممكِّن مقعدته. ¬
أكل لحم الإبل
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً؛ لا وضوء عليه، حتى ينام مضطجعاً أو متكئاً ". كذا في " المسوى ". (4 -[أكل لحم الإبل] :) (وأكل لحم الإبل) : وجهه قوله [صلى الله عليه وسلم]- لما قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ - قال: " نعم "، وهو في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. وقد روي - أيضا - من طريق غيره. وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما مست النار. ولا يخفى أنه لم يصرح في شيء منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخاً. وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -، ويحيى بن يحيى - رحمه الله، وابن المنذر - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، وحكي عن أصحاب الحديث - رحمهم الله -، وحكي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كما قال النووي رحمه الله. قال البيهقي - رحمه الله - حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي
- رحمه الله - أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي - رحمه الله -: قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وحديث البراء - رضي الله عنه -. قال في " الحجة ": " وأما لحم الإبل فالأمر فيه أشد، لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين - رضي الله عنهم - ولا سبيل إلى الحكم بنسخه، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج (¬1) ، وقال به أحمد (رح) (¬2) ، وإسحاق (رح) ؛ وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان. والله أعلم ". وقد أطال ابن القيم (رح) في " إعلام الموقعين " (¬3) في إثبات النقض به. أقول: الإنصاف في هذا أن لحوم الإبل ناقضة للوضوء، وحديث النقض من الصحة بمكان يعرفه من يعرف هذا الشأن: أخرجه مسلم و " أهل السنن "، وصححه جماعة من غيرهم؛ ولم يأت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يخالف هذا من قول أو فعل أو تقرير، وإلى هذا التخصيص ذهب جماعة من أهل العلم - كما تقدم -. ومن أراد الاطلاع على مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة؛ فهي مستوفاة في مؤلفات شيخنا العلامة الشوكاني. وأما حمل الوضوء على غسل اليد؛ فالواجب علينا حمل ألفاظ الشارع ¬
القيء
على الحقائق الشرعية إن وجدت، وهي ههنا موجودة؛ فإنه في - لسان الشارع وأهل عصره -؛ لغسل أعضاء الوضوء لا لغسل اليد فقط. ولم يصح من أحاديث الغسل قبل الطعام وبعده شيء (¬1) . (5 -[القيء] :) (والقيء) : وجهه ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه قاء فتوضأ (¬2) ؛ أخرجه أحمد (رح) ، و " أهل السنن " (رح) . قال الترمذي: هو أصح شيء في الباب. وصححه ابن منده (رح) . وليس فيه ما يقدح في الاحتجاج به، ويؤيده أحاديث، منها: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي؛ فلينصرف فليتوضأ "؛ وفي إسناده إسماعيل بن عياش؛ وفيه مقال (¬3) . وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، والمجموع ينتهض للاستدلال به. وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة (رح) ، وأصحابه (رح) . ¬
وذهب الشافعي (رح) وأصحابه (رح) إلى أنه غير ناقض، وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين! ولا يخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة. وفي " الحجة البالغة ": قال إبراهيم (رح) بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير، والحسن (رح) بالوضوء من القهقهة في الصلاة، ولم يقل بذلك آخرون، وفي كل حديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه. والأصح في هذه أن من احتاط فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن لا: فلا سبيل عليه في صراح الشريعة. والدم السائل والقيء الكثير ملوثان للبدن مبلدان للنفس، والقهقهة في الصلاة خطيئة تحتاج إلى كفّارة، فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه، ولا عجب أن يأمر ويرغب فيه من غير عزيمة. وفي " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: خروج النجاسة من غير الفرجين لا يوجب الوضوء. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يوجبه بشرطه. انتهى (¬1) . ¬
القلس والرعاف
( [القلس والرعاف] :) (ونحوه) والمراد بنحو القيء: هو القلس والرعاف، والخلاف في القلس كالخلاف في القيء. قال الخليل (¬1) : هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه - وليس بقيء -. وفي " النهاية ": القلس ما خرج من الجوف، ثم ذكر مثل كلام الخليل. وأما الرعاف فقد ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة - رحمه الله -، وأبو يوسف - رحمه الله -، ومحمد - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق - رحمه الله -، وقيدوه بالسيلان. وذهب ابن عباس - رضي الله عنه -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله - وروي عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -، وأبي هريرة - رضي الله عنه -، وجابر بن زيد - رضي الله عنه -، وابن المسيب - رحمه الله -، ومكحول - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله - إلى أنه غير ناقض. وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال، وبالمعارضة بمثل حديث: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] احتجم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه؛ رواه الدارقطني (¬2) - رحمه الله -، وفي إسناده صالح بن مقاتل، وهو ضعيف. ويُجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه (¬3) ، وعن المعارضة بأنها غير ¬
صالحة للاحتجاج، وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض. في " المسوى " قال الشافعي - رحمه الله -: الرعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ينقضان إذا كان الدم سائلاً. وقال مالك - رحمه الله -: الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا دم ولا من قيح يسيل من الجسد، ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. (¬1) انتهى. أقول: قد اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بخروج الدم، وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للاحتجاج بها، وقد تقرر أن كون الشيء ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج؛ وإلا وجب البقاء على الأصل؛ لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله، وإلا فليس بشرع. ومع هذا؛ فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يباشرون مع معارك القتال ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ما هو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس، فلو كان خروج الدم ناقضاً: لما ترك [صلى الله عليه وسلم] بيان ذلك مع شدة الاحتياج إليه، وكثرة الحامل عليه. ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل يدل على أنه ناقض، وغاية ما ¬
مس الذكر
هناك حديث إسماعيل بن عياش، وفيه من المقال ما لا يخفى. (6 -[مس الذكر] :) (ومس الذكر) : وقد دل على ذلك حديث بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها -، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ "؛ رواه أحمد - رحمه الله -، وأهل " السنن " - رحمهم الله -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، والحاكم - رحمه الله -، وابن الجارود. وصححه أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والدارقطني - رحمه الله -، ويحيى بن معين - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، والحازمي - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -. قال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ منهم: جابر - رضي الله عنه -، وأبو هريرة - رضي الله عنه -، وأم حبيبة - رضي الله عنها -، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وزيد بن خالد - رضي الله عنه -، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وعائشة - رضي الله عنها -، وابن عباس - رضي الله عنهما -، ابن عمرو - رضي الله عنهما -، والنعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حيدة (¬1) - رضي ¬
الله عنه -، وقبيصة - رضي الله عنه -، وأروى بنت أُنيس (¬1) - رضي الله عنها - (¬2) . وحديث بسرة - رضي الله عنها - بمجرده أرجح من حديث طلْق بن علي - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - رحمهم الله - مرفوعاً، بلفظ: الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال [صلى الله عليه وسلم] : " إنما هو بضعة منك "؛ فكيف إذا انضم إلى حديث بسرة - رضي الله عنها - أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه؟ { ومن مال إلى ترجيح حديث طلق: فلم يأت بطائل} وقد تقرر في الأصول: أن رواية الإثبات أولى من رواية النفي، وأن المقتضي للحظر أولى من المقتضي للإباحة. قد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم، والأئمة - رحمهم الله -، ومالوا إلى العمل بحديث بسرة؛ لتأخر إسلامها. وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك. والحق الانتقاض. وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرج؛ وهو أعم من ¬
القُبُل والدُبُر، كما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله - من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من مس فرجه فليتوضأ "، وصححه أحمد - رحمه الله -، وأبو زرعة - رحمه الله -، وقال ابن السكن - رحمه الله -: لا أعلم له علة. وأخرج الدارقطني - رحمه الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً: " إذا مسّت إحداكن فرجها فلتتوضأ "؛ وفي إسناد عبد الرحمن بن عبد الله العمري؛ وفيه مقال (¬1) . وأخرج أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ "، وفي إسناده بقية بن الوليد، ولكنه صرح بالتحديث (¬2) . قال في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: يجب الوضوء على من مس الفرج، وشرطه أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: مس الفرج لا ينقض؛ واحتج بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! ". انتهى. قالوا: إن مس الفرج لما كانت حاجة الناس إليه عامة، والبلوى به دائمة: وجب أن ينقل شرعاً ثابتاً متواتراً مستقراً. ¬
أقول: قد وقع في الأصول أن الحكم الذي تعم به البلوى لا بد أن يُنقل نقلاً مستفيضاً؛ والقائل بذلك بعض الحنفية. وخالفهم الجمهور لعموم الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد. وهذه القاعدة كثيراً ما ترى المشغوفين بمحبة ما ألفوه من مذاهب الأسلاف يدفعون بها الحجج الشرعية التي يوردها خصومهم { فإذا استدلوا لأنفسهم على إثبات حكم قد دأبوا عليه ودرجوا، وصار عندهم من المألوفات المعروفات: مالوا عن ذلك ولم يُعرِّجوا عليه، وهذا ستراه في غير موطن من كتب المتمذهبين، فإن كنت ممن لا تنفق عليه التدليسات، ولا يغره سراب التلبيسات: فلا تلعب بك الرجال من حال إلى حال بزخارف ما تنمقه من الأقوال. (فكن رجلا رِجْله في الثَّرى ... وهامة همته في الثُرَيّا) ولا حرج على المجتهد إذا رجح غير ما رجحناه؛ إنما الشأن في التكلم في مواطن الخلاف بما يتبرأ منه الإنصاف، اللهم} بصرنا بالصواب، واجعل بيننا وبين العصبية من لطفك أمنع حجاب. وفي " الحجة البالغة ": " موجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات: إحداها: ما اجتمع عليه جمهور الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، وتطابق فيه الرواية والعمل الشائع، وهو البول والغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها.
لمس المرأة لا ينقض الوضوء
الثانية: ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، وتعارض فيه الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ كمس الذكر لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " من مس ذكره فليتوضأ "؛ قال به عمر وسالم وعروة وغيرهم - رضي الله عنهم -، ورده علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - وفقهاء الكوفة، ولهم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! "؛ ولم يجيء الثلج (¬1) بكون أحدهما منسوخاً. ( [لمس المرأة لا ينقض الوضوء] :) ولمس المرأة، قال به عمر وابن مسعود وإبراهيم - رضي الله عنهم -؛ لقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (¬2) ، ولا يشهد له حديث، بل يشهد حديث عائشة - رضي الله عنها - بخلافه، لكن فيه نظر؛ لأن في إسناده انقطاعاً (¬3) . وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر، ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض. والله تعالى أعلم. وبالجملة: فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات: آخذ به على ظاهره، وتارك له رأساً، وفارق بين الشهوة وغيرها. ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة ¬
الوضوء مما مسته النار منسوخ
الجماع، أن مس الذكر فعل شنيع، ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء، فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة. والثالثة: ما وُجد فيه شبهة من لفظ الحديث؛ وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - على تركه. ( [الوضوء مما مسته النار منسوخ] :) كالوضوء مما مست النار؛ فإنه ظهر عمل النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والخلفاء، وابن عباس، وأبي طلحة وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - بخلافه، وبيّن جابر - رضي الله عنه - أنه منسوخ. قلت: " عامة أهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ، وتأول بعضهم على غسل اليد والفم، قال قتادة - رضي الله عنه -: من غسل فمه فقد توضأ ". كذا في " المسوى ".
باب الغسل
(5 - باب الغسل) ( [الفصل الأول: موجبات الغسل] ) (1 -[خروج المني] : وأصله تعميم البدن بالغسل:) (يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر) وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث: " الماء من الماء "، وأحاديث: " في المني الغسل "، وصدق اسم الجنابة على من كان كذلك؛ وقد قال الله - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ، والاطهار استيعاب جميع البدن، بالغسل (¬1) . كذا في " المسوى ". ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وكذلك بين من بعدهم: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج مني أم لا يجب إلا بخروج المني؟ والحق: الأول لحديث: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل "؛ أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرج نحوه مسلم، وأحمد، والترمذي - رحمهم الله تعالى، وصححه - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -. ¬
فهذان الحديثان - وما ورد في معناهما - ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المني. ويدل على ذلك حديث أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه -، قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون: " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها. وأخرج مسلم (¬1) - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن رجلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل - وعائشة - رضي الله تعالى عنها - جالسة -؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل ". وقال في " الحجة البالغة ": " اختلف أهل الرواية هل يُحمل الإكسال - أي: الجماع من غير إنزال - على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة - أعني ما يكون معه الإنزال -؟ والذي صح رواية، وعليه جمهور الفقهاء: هو أن من جهد فقد وجب عليهما الغسل، وإن لم ينزل. واختلفوا في كيفية الجمع بين هذا الحديث، وحديث: " إنما الماء من الماء ": فقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: للاحتلام. ¬
التقاء الختانين
وفيه ما فيه {لأنه يأباه سبب ورود الحديث كما أخرجه مسلم. وقال أبي - رضي الله تعالى عنه -: كانت رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها. وقد روي (¬1) عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي بن كعب وأبي أيوب - رضي الله تعالى عنهم - فيمن جامع امرأته ولم يُمْن، قالوا: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره "، ورفع ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] . ولا يبعد عندي أن يُحمل ذلك على المباشرة الفاحشة؛ فإنه قد يطلق الجماع عليها. قلت: على هذا أكثر أهل العلم: أن غسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بإدخال الحشفة في الفرج، أو بخروج الماء الدافق من الرجل أو المرأة. (2 -[التقاء الختانين] :) (بالتقاء الختانين) وعلى هذا أكثر أهل العلم: أن من جامع امرأته فغيّب الحشفة؛ وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل. والختان: موضع القطع من ذكر الغلام، ونواة (¬2) الجارية. ¬
انقطاع الحيض والنفاس
(3 -[انقطاع الحيض] ، 4 -[والنفاس] :) (وبانقطاع الحيض والنفاس) ولا خلاف في ذلك. وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة، وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بانقطاع النفاس. (5 -[الاحتلام مع وجود بلل] :) (و) كذلك وقع الإجماع على وجوبه (بالاحتلام) ؛ إلا ما يُحكى عن النخعي - رحمه الله تعالى -، ولكنه إنما يجب إذا وجد المحتلم بللاً. (مع وجود بلل) : كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ فقال: " يغتسل "، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - رحمهم الله - ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عبد الله بن عمر العمري؛ وفيه مقال خفيف (¬1) . وأخرج نحوه أحمد والنسائي - رحمهما الله - من حديث خولة بنت حكيم - رضي الله تعالى عنها -. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما - رحمهم الله تعالى - من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها -: أن أم سليم - رضي الله تعالى عنها - قالت: ¬
الموت
يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: " نعم؛ إذا رأت الماء ". وهذه الأحاديث ترد على من اعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك. والمراد من البلل المني، فإن رأى بللاً ولم يتيقن أنه مني؛ لم يجب الغسل عند أكثر أهل العلم. قال في " الحجة ": " أراد الحكم على البلل دون الرؤيا؛ لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس، ولا تأثير له، وتارة تكون قضاء شهوة، ولا تكون بغير بلل، فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل. وأيضا؛ فإن البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط، وأما الرؤيا فإنها كثيراً ما تُنسى ". انتهى. (6 -[الموت] :) (وبالموت) : المراد وجوب ذلك على الأحياء؛ إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن؛ أي: يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات. وقد حكى المهدي في " البحر " والنووي - رحمه الله -، الإجماع على وجوب غسل الميت، وناقش في ذلك بعض المتأخرين مناقشة واهية. وسيأتي الكلام على غسل الميت، وصفته وتفاصيله - إن شاء الله تعالى -.
إسلام الكافر
وفي " الحجة ": وأما غسل الميت: فلأن الرشاش ينتشر في البدن. وجلست عند محتضر، فرأيت أن الملائكة الموكلة بالقبض لها نكاية عجيبة في المحتضرين، ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتنبه النفس لمخالفها. (7 -[إسلام الكافر] :) (وبالإسلام) : وجهه ما أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، وابن خزيمة - رحمهم الله - عن قيس بن عاصم - رضي الله عنه -: أنه أسلم، فأمره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يغتسل بماء وسدر. وصححه ابن السكن - رحمه الله -. وأخرج أحمد وعبد الرزاق، والبيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ثمامة - رضي الله تعالى عنه - أسلم، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل " (¬1) . وأصله في " الصحيحين "، وليس فيهما الأمر بالاغتسال، بل فيهما أنه اغتسل. قال في " الحجة ": قال (¬2) لآخر: " ألق عنك شعر الكفر "؛ وسره أن يتمثل عنده الخروج من شيء، أصرح ما يكون، والله تعالى أعلم. انتهى. وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه - رحمهم الله -. ¬
الفصل الثاني كيفية الغسل
وذهب الشافعي - رحمه الله - إلى عدم الوجوب. والحق الأول. ويؤيده ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع، وقتادة الرهاوي - رضي الله عنه - كما أخرجه الطبراني - رحمه الله -، وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما أخرجه الحاكم - رحمه الله - في " تاريخ نيسابور "؛ وفي أسانيدها مقال (¬1) . ( [الفصل الثاني: كيفية الغسل] ) ( [تعريف الغسل] :) (والغسل الواجب هو أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه) أقول: الغسل شرعاً ولغة هو ما ذُكر. وقد وقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل؛ ولكنه لا يخفى أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون دلك لا يسمى غسلاً، كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية، وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي: أنه [صلى الله عليه وسلم] أتبعه الماء ولم يغسله؛ وهو في " صحيح مسلم " - رحمه الله -، وغيره. ( [وجوب المضمضة والاستنشاق] :) (مع المضمضة والاستنشاق) : فقد ثبتا في الغسل من فعله [صلى الله عليه وسلم] ، ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء. ¬
مندوبية الوضوء قبل الغسل ما عدا غسل القدمين
وفيهما وفي السواك إزالة المخاط والبَخر. (والدلك لما يمكن دلكه، ولا يكون شرعياً إلا بالنية لرفع موجبه) لما قدمناه في الوضوء. ( [مندوبية الوضوء قبل الغسل ما عدا غسل القدمين] :) (ونُدب) لا أنه وجب؛ لأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقدم. (تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين) : لما قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه كان [صلى الله عليه وسلم] إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على سائر جسده، ثم يغسل رجليه، وهو من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وورد في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ميمونة - رضي الله عنها - بلفظ: أنه [صلى الله عليه وسلم] أفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه، فغسل قدميه. وثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان لا يتوضأ بعد الغسل، كما أخرجه أحمد وأهل " السنن " - رحمهم الله -. وقال الترمذي - رحمه الله -: حسن صحيح.
يستحب التيامن
وأخرجه البيهقي - رحمه الله - أيضا بأسانيد جيدة. وقد روى ابن أبي شيبة - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، مرفوعاً وموقوفاً؛ أنه قال - لما سئل عن الوضوء بعد الغسل -: وأي وضوء أعم من الغسل؟ { (¬1) وروي عن حذيفة - رضي الله عنه -، أنه قال: أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه، حتى يتوضأ؟} (¬2) وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم، حتى قال أبو بكر ابن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث. وهكذا نقل الإجماع ابن بطّال - رحمه الله -. وتُعقِّب بأنه قد ذهب جماعة - منهم أبو ثور، وداود، وغيرهما - رحمهم الله - إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء. وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب: فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن؛ من غير تقديم. ( [يستحب التيامن] :) (ثم التيامن) : لثبوته عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، عموماً وخصوصاً: ¬
فصل الأغسال المسنونة
فمن العموم ما ثبت في " الصحيح ": " أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله ". ومن الخصوص ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر في الغسل. وقد ثبت من قوله ما يفيد ذلك؛ ولا خلاف في استحباب التيامن. (فصل: [الأغسال المسنونة] ) (1 -[غسل الجمعة] :) (ويُشرع) ؛ أي: الغسل (لصلاة الجمعة) لحديث: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول، ورواه عن نافع - رحمه الله - نحو ثلاث مئة نفس. ورواه من الصحابة - غير ابن عمر؛ رضي الله عنه - نحو أربعة وعشرين صحابياً. وقد ذهب إلى وجوبه جماعة. قال النووي - رحمه الله -: حُكي وجوبه عن طائفة من السلف - رحمهم الله -، حكوه عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال أهل الظاهر،
وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار - رضي الله عنه -، ومالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري، وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم. وذهب الجمهور إلى أنه مستحب، واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم بلفظ: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة (¬1) أيام " وبحديث سمرة - رضي الله عنه، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من توضأ للجمعة؛ فبها ونِعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - رحمهم الله -، وفيه مقال مشهور، وهو عدم سماع الحسن - رحمه الله - من سمرة - رحمه الله - (¬2) ؛ وغير ذلك من الأحاديث، قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب. ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحاً لصرف الأمر؛ فهو لا يصلح لصرف مثل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " حق (¬3) على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً؛ يغسل فيه رأسه وجسده "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقد استوفى الماتن - رحمه الله - الكلام على حكم غسل الجمعة في " نيل ¬
غسل العيدين
الأوطار "، فليرجع إليه. ولا يخفى أن تقييد الغسل بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة لا لليوم. (2 -[غسل العيدين] :) (وللعيدين) : فقد روي من فعله [صلى الله عليه وسلم] من حديث الفاكه بن سعد - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبزار، والبغوي (¬1) - رحمه الله -. وأخرج نحوه ابن ماجه (¬2) - رحمه الله - من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار (¬3) - رحمه الله - من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -. وفي أسانيدها ضعف، ولكنه يقوي بعضها بعضاً (¬4) ، ويقوي ذلك آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - جيدة (¬5) . أقول: قد روي في ذلك أحاديث لم يصح منها شيء، ولا بلغ شيء. ¬
من غسل الميت
منها إلى رتبة الحسن لذاته ولا لغيره. وأما اعتبار كون المغتسل يصلي صلاة العيد بذلك الغسل - أي: من دون أن يتخلل بين الغسل وبين الصلاة شيء من الأحداث -: فلا أحفظ فيه حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا قول صحابي، وما أحسن الاقتصار على ما ثبت، وإراحة العباد مما لم يثبت (¬1) . (3 -[من غسل الميت] :) (ولمن غسل ميتاً) : وجهه ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ "، وقد روي من طرق، وأعل بالوقف، وبأن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - رحمه الله -. ولكنه قد حسنه الترمذي - رحمه الله -، وصححه ابن القطان - رحمه الله -، وابن حزم. وقد روي من غير طريق (¬2) . قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: هو - لكثرة طرقه - أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي - رحمه الله - على الترمذي رحمه الله تحسينه معترض. وقال الذهبي - رحمه الله -: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ¬
- رحمهم الله -. وذكر الماوردي - رحمه الله - أن بعض أصحاب الحديث - رحمهم الله - خرّج لهذا الحديث مئة وعشرين طريقا. وقد روي نحوه عن علي - رضي الله عنه - عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي - رحمهم الله -، وعن حذيفة - رضي الله عنه - عند البيهقي - رحمه الله -. قال ابن أبي حاتم - والدارقطني، رحمهما الله -: لا يثبت. وعن عائشة - رضي الله عنها - من فعله [صلى الله عليه وسلم] عند أحمد، وأبي داود - رحمهما الله -. وقد ذهب إلى الوجوب علي وأبو هريرة - رضي الله عنهما -، والإمامية. وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط. قالوا: وهذا الأمر المذكور في الحديث السابق مصروف عن الوجوب بحديث: " إن ميتكم يموت طاهراً؛ فحسبكم أن تغسلوا أيديكم " (¬1) ؛ أخرجه البيهقي، وحسنه ابن حجر - رحمهما الله -، ولحديث: كنا نغسل الميت؛ فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل؛ أخرجه الخطيب - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وصحح ابن حجر أيضا إسناده (¬2) ، ولما وقع من الفتيا من ¬
الإحرام
الصحابة - رضي الله عنهم - لأسماء بنت عميس - امرأة أبي بكر؛ رضي الله عنه - لما غسلته فقالت لهم: إن هذا يوم شديد البرد؛ وأنا صائمة؛ فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك - رحمه الله - في " الموطأ " (¬1) . (4 -[الإحرام] :) (وللإحرام) : لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي [صلى الله عليه وسلم] تجرد لإهلاله واغتسل؛ أخرجه الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني - وحسنه الترمذي -، وضعفه العقيلي - رحمهم الله -. ولعل وجه التضعيف كون عبد الله بن يعقوب المدني (¬2) في إسناده. قال ابن الملقن في " شرح المنهاج ": لعل الترمذي - رحمه الله - حسنه؛ لأنه عرف عبد الله بن يعقوب؛ أي: عرف حاله. وفي الباب عن عائشة - رضي الله عنها - عند أحمد - رحمه الله -، وعن أسماء - رضي الله عنها - عند مسلم - رحمه الله -. وقد ذهب إلى استحباب غسل الإحرام الجمهور. وقال الحسن البصري - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -: إنه محتمل. ¬
لدخول مكة
(5 -[لدخول مكة] :) (ولدخول مكة) المكرمة - حرسها الله تعالى -؛ لما أخرجه مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان لا يدخل مكة إلا بات بذي طُوى، حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه فعله. وأخرج البخاري - رحمه الله - معناه. قال في " الفتح ": قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء.
باب التيمم
(6 - باب التيمم) قال الله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ؛ وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية، والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله - تعالى -: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} . ( [الأسباب المبيحة للتيمم] :) فتكون الأعذار ثلاثة: السفر، والمرض، وعدم الوجود في الحضر، وهذا ظاهر على قول من قال: إن القيد إذا وقع بعد جُمل متصلة كان قيداً (¬1) لآخرها. وأما من قال: أنه يكون قيداً للجميع إلا أن يمنع مانع: فكذلك أيضا (¬2) ؛ لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء، وهو: أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب - كالصوم -. ويؤيد هذا أحاديث التيمم الواردة مطلقة ومقيدة بالحضر. ¬
فإن قلت: ما المعتبر في تسويغ التيمم للمقيم؟ هل هو عدم الوجود عند إرادة الصلاة كما هو الظاهر من الآية؟ أم عدم الوجود مع طلب مخصوص - كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل -، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم؟ قلت: الحق أن المعتبر هو ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها، فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله ومسجده وما يقرب منهما: كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم. وليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء (¬1) السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه، فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة. والواجب حمل كلام الله على ذلك مع عدم وجود عرف شرعي (¬2) ، وقد وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ما يشعر بما ذكرناه؛ فإنه تيمم في المدينة من جدار؛ كما ثبت ذلك في " الصحيحين " من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا - كما يدل على عدم وجوب الطلب - يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت. ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر، ثم وجدوا الماء، ¬
الخلاف في الصعيد الذي يتيمم به
فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال [صلى الله عليه وسلم] للذي لم يعد: " أصبت السنة "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد (¬1) ، فإنه يرد قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافراً أو مقيماً. إذا تقرر لك هذا: استرحت عن الاشتغال بكثير من التفاريع المحررة في كتب الفقه؛ فإن هذه هي ثمرة الاجتهاد. فأي فرق بين من لا يفرق بين الغث والسمين من المجتهدين، وبين من هو في عداد المقلدين؟ ! ( [الخلاف في الصعيد الذي يتيمم به] :) قال في " القاموس ": والصعيد: التراب، أو وجه الأرض. انتهى. والثاني هو الظاهر من لفظ الصعيد؛ لأنه ما صعد؛ أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: " جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "؛ وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره. وما ثبت في رواية بلفظ: " وتربتها طهوراً "؛ كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة؛ فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء،؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية. ¬
وهذا مفهوم لقب (¬1) لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام. وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره: أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما تقدم من تيممه [صلى الله عليه وسلم] من جدار. وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله - تعالى -: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} : فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذُكر، والضرورة تدفعه؛ فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات. قال الماتن في " شرح المنتقى " (¬2) : ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد، فالأمر بالتيمم منه وهو التراب، لكنه قال في " القاموس ": والصعيد: التراب أو وجه الأرض، وفي " المصباح ": الصعيد وجه الأرض؛ تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله - تعالى -: {صعيدا طيبا} هو التراب، وفي كتاب " فقه اللغة " للثعالبي: الصعيد تراب وجه الأرض، ولم يذكر غيره، وفي " المصباح " - أيضا -: ويقال: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق. ¬
ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه [صلى الله عليه وسلم] من الحائط؛ فلا يتم الاستدلال. وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب الشافعي، وأحمد، وداود. وذهب مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها. قال: واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعاً بلفظ: " وجُعلت تربتها لنا طهوراً "، وهذا خاص؛ فينبغي أن يُحمل عليه العام. وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، فلا يتم الاستدلال. ورُدّ بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ: " التراب "؛ أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: " جُعل التراب لي طهوراً "؛ أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن (¬1) . وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول، ولم يقل به إلا الدقاق، فلا ينتهض لتخصيص المنطوق. ورُدّ بأن الحديث سيق لإظهار التشريف، فلو كان جائزاً بغير التراب لما اقتصر عليه؛ وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية. ¬
ما يباح به التيمم
نعم؛ الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر، - كما سيأتي في حديث مسلم - يدل على الافتراق في الحكم. وأحسن من هذا أن قوله - تعالى - في آية المائدة: {منه} يدل على أن المراد التراب، وذلك لأن كلمة " مِن " للتبعيض (¬1) كما قال في " الكشاف ": أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن والتراب؛ إلا معنى التبعيض. انتهى. فإن قلت: سلمنا التبعيض، فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور. انتهى. ( [ما يباح به التيمم] :) (يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء) : لأن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنباً، وحكم الغسل لمن كان جنبا، يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه، ويستبيح به ما يستبيحه المغتسل بغسله، فيصلي به الصلوات المتعددة، ولا ينتقض بفراغ من صلاة، ولا بالاشتغال بغيره، ولا بخروج وقت على ما هو الحق. والخلاف في ذلك معروف. والأدلة الواردة لمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتاباً وسنة. قال في " الحجة ": ولم أجد في حديث صحيح تصريحاً بأنه يجب أن ¬
يتيمم لكل فريضة، أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه، وإنما ذلك من التخريجات (¬1) ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ؛ لأن من حق ما لا يعقل - بادي الرأي - أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج، فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية. وفي معنى المرض البرد الضار - لحديث (¬2) عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء، تتبادر إلى الذهن، وإنما لم يؤمر بمسح الرِّجْل بالتراب؛ لأن الرِّجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبيه به. انتهى. (أو خشي الضرر من استعماله) : لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني - رحمهم الله -، من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة؛ وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخبرناه بذلك؟ فقال: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ ! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل ¬
سائر جسده (¬1) ". وقد تفرد به الزبير بن خريق (¬2) - رحمه الله - وليس بالقوي، وقد صححه ابن السكن - رحمه الله -. وروي من طريق أخرى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقد ذهب إلى مشروعية التيمم بالعذر الجمهور. ¬
وذهب أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وروي عن الشافعي - رحمه الله - في قول له - أنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر. ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما (¬1) ؟ {فإن هذا الحديث يؤيده قوله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى} الآية. وكذلك حديث المسح على الجبائر (¬2) المروي عن علي - رضي الله عنه -. وكذلك حديث عمرو بن العاص: لما بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في غزوة ذات السلاسل، فاحتلم في ليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال: " يا عمرو} أصليت مع أصحابك وأنت جنب؟ "، فقال: ذكرت قوله الله - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يقل شيئاً. رواه أحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وأخرجه البخاري تعليقاً (¬3) . قال في " الحجة ": وكان عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - لا يريان التيمم عن الجنابة، وحملا الآية على اللمس (¬4) ، وأنه ينقض الوضوء، لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك. ¬
أعضاء التيمم
( [أعضاء التيمم] :) (وأعضاؤه: الوجه ثم الكفان يمسحهما) ؛ أي: الوجه والكفين؛ لما ورد من الأحاديث الصحيحة قولاً وفعلاً، وقد أشار بالعطف ب (ثم) إلى الترتيب بين الوجه والكفين. وأما الاقتصار على الكفين: فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك: منها حديث عمار بن ياسر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره بالتيمم للوجه والكفين؛ أخرجه الترمذي وغيره - وصححه -. ومنها ما في " الصحيحين " من حديث عمار - أيضا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال له: " إنما كان يكفيك هكذا "، وضرب النبي [صلى الله عليه وسلم] بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. وفي لفظ للدارقطني: " إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ". وقد ذهب إلى أنه يُقتصر من اليدين على الكفين عطاء، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث. هكذا في " شرح مسلم ". وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين. وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين. وقال الخطابي: إنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم مسح
كيفية التيمم
ما وراء المرفقين. والحق ما ذهب إليه الأولون؛ لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به، كحديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، مرفوعاً بلفظ: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين "؛ وفي إسناده علي بن ظبيان (¬1) ، قال الدارقطني: وثقه (¬2) يحيى بن [سعيد بن] القطان وهشيم وغيرهما، وقال الحافظ: هو ضعيف؛ ضعفه ابن القطان، وابن معين، وغير واحد. وأما ما ورد فيه لفظ اليدين - كما وقع في بعض روايات من حديث عمار -: فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين. واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضا بلفظ: ". . إلى الآباط "؛ وقد نسخ ذلك ما قال الشافعي. ( [كيفية التيمم] :) (مرة بضربة واحدة) : لأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة، ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح. وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور. وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين. ¬
نواقض التيمم
وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاثة ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين. (ناوياً مسمياً) لما تقدم في الوضوء؛ لأنه بدل عنه، وأدلة النية شاملة لكل عمل. ( [نواقض التيمم] :) (ونواقضه نواقض الوضوء) : لما ذكرنا من البدلية (¬1) ، ومن أثبت للتيمم شيئاً من النواقض لم يثبت في الوضوء؛ لم يقبل منه ذلك إلا بدليل، ولم نجد دليلاً تقوم به الحجة يصلح لذلك، فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء. وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم؛ فقد صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم، ثم وجدا الماء، أن الذي لم يعد أصاب السنة، والحديث معروف (¬2) . وأما قوله للذي أعاد: " لك الأجر مرتين "؛ فلكونه قد كرر العبادة معتقداً وجوب ذلك، فكان له الأجر الآخر لذلك. وليس المراد ههنا إلا الإجزاء وسقوط الوجوب، وقد أفاد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " أصبت السنة "، مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة، والتعريض (¬3) ¬
بأن ما عدا ذلك مخالف للسنة كما لا يخفى. وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله - ونحو ذلك -: فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء أو خشية الضرر من استعماله؛ فإن من تعذر عليه استعمال الماء؛ هو عادم للماء؛ إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه؛ فهو عادم، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان ينجسه - ولا محالة - إذا استعمله، وهكذا من كان يحتاجه للشرب؛ فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء. وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم! فليس على ذلك دليل، بل الواجب استعمال الماء، وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير - كالنوم والسهو ونحوهما -؛ فلم يوجب الله - تعالى - عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله - تعالى -، وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت: فعليه الوضوء وقد باء بإثم المعصية. وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة: فليس على ذلك حجة نيرة.
باب الحيض والنفاس
(7 - باب الحيض والنفاس) ( [الفصل الأول: أحكام الحيض] ) ( [عدم وجود دليل بتحديد أقل الحيض وأكثره] :) (لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطهر) ؛ لأن ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما، فهو إما موقوف ولا تقوم به الحجة، أو مرفوع ولا يصح، فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه، بل المعتبر لذات العادة المتقررة هو العادة، وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم. ( [تعمل المرأة بعادتها] :) (فذات العادة المتقررة تعمل عليها) فقد صح في غير حديث اعتبار الشارع للعادة كحديث: " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة. وأخرج مسلم وغيره من حديثها - نحو ذلك -. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أم سلمة: " أنها استفتت النبي [صلى الله عليه وسلم] في امرأة تهراق الدم؟ فقال: " لتنتظر قدر الليالي
تعمل المرأة غير المعتادة بالقرائن المستفادة من الدم
والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر (¬1) فتدع الصلاة " وهو حديث صالح للاحتجاج به. وكذلك حديث زينب بنت جحش: " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في المستحاضة: " تجلس أيام أقرائها " أخرجه النسائي (¬2) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ( [تعمل المرأة غير المعتادة بالقرائن المستفادة من الدم] :) (وغيرها ترجع إلى القرائن) المستفادة من الدم؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إن كان دم الحيض فإنه أسود يُعرف (¬3) ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي؛ فإنما هو عِرْق " أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي، والحاكم، - أيضا - بزيادة: " فإنما هو داء عرَض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع " (¬4) . ¬
صفات دم الحيض
( [صفات دم الحيض] :) (فدم الحيض يتميز عن غيره، فتكون حائضا إذا رأت دم الحيض) أخرج أبو داود، والنسائي؛ من حديث فاطمة بنت أبي حبيش، أنه قال [صلى الله عليه وسلم] : " دم الحيض أسود يُعرف " صححه ابن حزم، وأخرج النسائي من حديث عائشة مرفوعاً - نحوه (¬1) -. وأخرج الطبراني، والدارقطني من حديث أبي أمامة مرفوعاً، بلفظ: " دم الحيض لا يكون إلا أسود " (¬2) ، فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يقال للصفرة والكُدرة: دم حيض، ولا يعتد بها سواء كانت بين دمي حيض أو بعد دم الحيض، وليس التحيض بين دمي الحيض مع تخلل الصفرة والكدرة لأجلهما، بل لكون ما توسط بين دمي الحيض حيضا، كما لو لم يخرج دم أصلا بين دمي الحيض. ولا يعارض هذا ما أخرجه في " الموطأ " - وعلقه في " البخاري " -: أن ¬
تعريف المستحاضة وأحكامها
النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدِّرَجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض ليسألنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء "؛ فإن هذا - مع كونه رأيا (¬1) منها - ليس بمخالف لما تقدم؛ لأنها لم تخبرهن بأن الصفرة والكدرة حيض، إنما أمرتهن بالانتظار إلى حصول دليل يدل على أنه قد انقضى الحيض، وهو خروج القصة، فمتى خرجت لم يخرج بعدها دم حيض، ولم تأمرهن بالانتظار ما دامت الصفرة والكدرة. وهذا واضح لا يخفى. ( [تعريف المستحاضة وأحكامها) :) (ومستحاضة) ؛ وهي التي يستمر خروج الدم منها. (إذا رأت غيره) تعمل على العادة المتقررة، فتكون فيها حائضاً تثبت لها فيه أحكام الحائض، وفي غير أيام العادة تكون طاهراً لها حكم الطاهر. ( [تُعامل المستحاضة كالطاهرة] :) (وهي كالطاهرة) كما أفادت ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة من غير ¬
المستحاضة تتوضأ لكل صلاة
وجه، فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمبتدأة والملتبسة عليها عادتها؛ فإنها ترجع إلى التمييز، فإن دم الحيض أسود يُعرف - كما قال -[صلى الله عليه وسلم] فتكون إذا رأت دماً كذلك: حائضاً، وإذا رأت دماً ليس كذلك: طاهراً. وقد أطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل، وكثرت فيه التفريعات والتدقيقات، والأمر أيسر من ذلك. (وتغسل أثر الدم) لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث عائشة الثابت في " الصحيح ": " فاغسلي عنك الدم وصلي "، وقد ورد ما يفيد معنى ذلك من غير وجه. ( [المستحاضة تتوضأ لكل صلاة] :) (وتتوضأ لكل صلاة) وذلك هو الذي ورد من وجه معتبر (¬1) ، وإذا جمعت بين الصلاتين فأخرت الأولى إلى آخر وقتها، وقدمت الثانية في أول وقتها كان لها أن تصليهما بوضوء واحد. ولم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة إيجاب الغسل لكل صلاة، ولا لكل صلاتين، ولا في كل يوم، بل الذي صح إيجاب الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد، أو عند انقضاء ما يقوم مقام العادة من التمييز بالقرائن، كما في حديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ". وأما ما في " صحيح مسلم ": " أن أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة ": ¬
أحكام الحائض
فلا حجة في ذلك؛ لأنها فعلته من جهة نفسها، ولم يأمرها النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، بل قال لها: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي "؛ فإن ظاهر هذه العبارة أنها تغتسل بعد المكث قدْر ما كانت تحبسها الحيضة، وذلك هو الغسل الكائن عند إدبار الحيضة، وليس فيه ما يدل على أنها تغتسل لكل صلاة. وقد ورد الغسل لكل صلاة من طرق لا تقوم بمثلها الحجة (¬1) ، لا سيما مع معارضتها لما ثبت في " الصحيح "، ومع ما في ذلك من المشقة العظيمة على النساء الناقصات العقول والأديان، والشريعة سمحة سهلة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، {فاتقوا الله ما استطعتم} . ( [أحكام الحائض] :) (والحائض لا تصلي ولا تصوم) لما ورد في ذلك من الأدلة الصحيحة؛ كحديث: " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ! "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد - وهو مجمع عليه -، وكان هذا شأن الحائض في زمن النبوة وأيام الصحابة فمن بعدهم، أنها تدع الصلاة والصوم أيام حيضتها، وتقضي الصوم لا الصلاة بعد طهرها. ولم يخالف في ذلك غير الخوارج (¬2) ، ولا ريب أن القضاء إن كان بدليل الأصل - كما ذهب إليه البعض - فلا وجوب للأصل ههنا، ولا دليل عليه في حال الحيض، وإن كان بدليل جديد غير دليل المقضي، فلم يقم في الصلاة ¬
الحائض لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر
وقام في الصيام، فطاح القياس وذهب الإلزام. ( [الحائض لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر] :) (و) أما كونها (لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر) فذلك نص الكتاب العزيز؛ قال الله - تعالى - {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ، والأحاديث في ذلك كثيرة؛ منها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وهو في " الصحيح "، وهو مجمع على تحريم ذلك، ليس فيه خلاف. وتحريم الصلاة والصوم على الحائض كما تقدم، وكذلك وطؤها: هو إلى غاية هي الغسل بعد الطهر - كما صرحت بذلك الأدلة -. ( [الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة] :) (و) أما كونها (تقضي الصيام) فلحديث عائشة بلفظ: " فنؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وقد نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على ذلك، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة! ولا يقدح في إجماع الأمة مخالفة هؤلاء الذين هم كلاب النار (¬1) . (فصل: [أحكام النفساء] ) ( [أكثر النفاس أربعون يوماً ولا حد لأقله] :) ¬
أحكام النفساء كأحكام الحائض
(والنفاس أكثره أربعون يوماً) لحديث أم سلمة، قالت: " كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أربعين يوماً " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم (¬1) ، وللحديث طرق يقوي بعضها بعضاً. وإلى ذلك ذهب الجمهور. وقد قيل: إن أكثره ستون يوماً، وقيل: سبعون يوماً، وقيل: خمسون، وقيل: نيف وعشرون، والحق الأول، وهذا القدر هو أرجح ما قيل؛ لأن ما عداه خال عن الدليل. (و) أما كونه (لا حد لأقله) فلم يأت في ذلك دليل، بل ما دام الدم باقياً كانت المرأة نفساء، فإن انقطع قبل الأربعين اقتطع عنها حكم النفاس، فإن جاوز دمها الأربعين عاملت نفسها معاملة المستحاضة إذا جاوزت أيام العادة المتقررة. ( [أحكام النفساء كأحكام الحائض] :) (وهو) أي: النفاس (كالحيض) في تحريم الوطء وترك الصلاة والصيام، ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا تقضي النفساء الصلاة. في رواية لأبي داود من حديث أم سلمة، قالت: " كانت المرأة من نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بقضاء صلاة النفاس ". ¬
وقد تقدم الإجماع على ذلك في الحائض، وهو في النفاس إجماع كذلك. ولعل الخوارج يخالفون ههنا كما خالفوا هنالك! ولا يُعتد بهم.
الكتاب الثاني كتاب الصلاة
(الكتاب الثاني: كتاب الصلاة)
كتاب الصلاة
(2 - كتاب الصلاة) (1 - باب مواقيت الصلاة) قال الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} والأمر بمطلق الصلاة إنما يفيد الإتيان بها في زمان ومكان من دون تعيين؛ لأن مطلق الزمان والمكان من ضروريات الفعل. وأما الوقت الخاص الذي شرع الله فيه الصلاة، وكذلك كونها على هيئة مخصوصة مع شروط محصورة، فهذا لا دلالة للآية عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام (¬1) ، ولم يدل على ذلك إلا السنة الثابتة عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، وليس في القرآن من ذلك إلا النادر القليل؛ كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فإنه في هذه الآية ذكر الوضوء، وهو شرط من شروط الصلاة، وقيد الأمر به بالقيام إليها، فكان ذلك مقيداً لوجوب الفعل، ولا بد للشرطية من دليل أخص من ذلك، وقد ورد في السنة ما يفيد الشرطية، وكذلك ورد في القرآن ذكر بعض هيآت الصلاة؛ كالسجود والركوع، ولكن بدون ذكر صفة ولا عدد، ولا كون ذلك في الموضع الذي بينته السنة المطهرة. ( [بيان أول وقت الظهر وآخره] :) (أول وقت الظهر) تعيين أول الأوقات وآخرها قد ثبت في الأحاديث ¬
الصحيحة من تعليم جبرائيل - عليه السلام - له [صلى الله عليه وسلم] ، ومن تعليمه [صلى الله عليه وسلم] لمن سأله، وغير ذلك من أقواله وأفعاله. (الزوال) أي: زوال الشمس، ويبين ذلك باخضرار الجدار إلى جهة الشرق، يعرفه كل ذي عينين. (وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال) فإن قلت: أخرج النسائي وأبو داود من حديث ابن مسعود: " كان قدر صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] [الظهر] في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام " (¬1) . قلت: إنهم حملوه على الإبراد (¬2) ؛ كما قاله ابن العربي المالكي في " القبس "، وتبعه الحافظ السيوطي، وأنه حديث قد قُدح فيه؛ فإنه من رواية عبيدة بن حميد الضبي الكوفي، عن أبي مالك سعد بن طارق، عن كثير بن مدرك، عن الأسود. وفي عبيدة وشيخه سعد خلاف، ففي " الميزان " في ترجمة سعد: " وثقه أحمد وابن معين، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه في القنوت ". وقد ضعف عبد الحق حديث تقدير صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالأقدام في الشتاء والصيف. والعجب من الحافظ ابن حجر في " التخليص " لم يتكلم على لفظ ¬
بيان أول وقت العصر وآخره
الحديث ولا سنده! وذكر كلام ابن العربي وأبطله السيد محمد الأمير في " اليواقيت ". نعم؛ أيام الشتاء يحسن التأني بالظهر حتى يحصل ظن أن الشمس لو كانت في كبد السماء أن قد زالت، لأنه يدرك بالحس والمشاهدة إذا كانت من جهة الجنوب، لأن ظلها يزداد في جهة الشرق زيادة كثيرة، لكن لا إلى الحد الذي يقدّر بالأقدام، وغايته أن ينظر في أمارات تحصل الظن بالزوال، وأهل الأقدام ليس معهم إلا الظن لا غير، وليس أحد مخاطباً بظن غيره بل بظن نفسه، فتأمل. ( [بيان أول وقت العصر وآخره] :) (وهو أول وقت العصر) أي: صيرورة ظله مثله. قال ابن القيم: وأنهم كانوا يصلونها مع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة (¬1) . وقال أنس: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] العصر، فأتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله: إنا نريد أن ننحر جزوراً، وإنا نحب أن تحضرها، قال: " نعم "، فانطلق، وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس " (¬2) ، ومحال أن يكون هذا بعد المثلين. ¬
وفي " صحيح مسلم " عنه: " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر " (¬1) ، ولا معارض لهذه السنن في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فرُدّت بالمجمل من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً، فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ... " (¬2) الخ. ويا لله العجب {أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة،؟} وإنما يدل على أن من صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر، وهذا لا ريب فيه. انتهى. (وآخره) أي: آخر وقت العصر صيرورة ظله مثليه. قال الشافعي: " آخر الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثليه. وقيل: إلى أن تصفر الشمس، وآخر وقت الضرورة مغيب الشمس ". كذا في " المسوى ". وفي " الحجة البالغة ": وكثير من الأحاديث يدل على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس، وهو الذي أطبق عليه الفقهاء، فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي يستحب فيه، أو نقول: لعل الشرع نظر - أولاً - إلى المقصود من اشتقاق العصر، أن يكون الفصل بين كل صلاتين نحواً من ¬
ربع النهار، فجعل الأمد الآخر بلوغ الظل إلى المثلين، ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد. وأيضا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ الفيء الأصلي ورصده. وإنما ينبغي أن يُخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر، فنفث الله تعالى في روعه [صلى الله عليه وسلم] أن يجعل الأمد تغير قرص الشمس أو ضوئها، والله تعالى أعلم. (ما دامت الشمس بيضاء نقية) فإذا اصفرت خرج وقت العصر؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث، منها حديث ابن عمرو، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور (¬1) الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس ". أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود. ولا يخالف ما وقع في هذا الحديث - في آخر وقت العصر والعشاء - ما ورد في بعض الأحاديث " أن آخر وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه، وآخر وقت العشاء ذهاب ثلث الليل (¬2) "؛ فإن هذا الحديث قد تضمن زيادة غير منافية للأصل؛ لأن وقت اصفرار الشمس هو متأخر عن المثلين، إذ هي تبقى ¬
بيان أول وقت المغرب وآخره
بيضاء نقية بعد المثلين، وكذلك نصف الليل، وهو متضمن لزيادة غير منافية لما وقع في رواية بلفظ " ثلث الليل "، على أن الرواية المتضمنة للزيادتين هي أصح من الأخرى (¬1) . ( [بيان أول وقت المغرب وآخره] :) (وأول وقت المغرب غروب الشمس) أي: سقوط القرص، وهو وقت الاختيار الذي يجوز أن يصلى فيه من غير كراهية، والعمدة فيه حديثان: حديث جبرائيل (¬2) - عليه السلام -؛ فإنه صلى بالنبي [صلى الله عليه وسلم] يومين، وحديث بريدة (¬3) ؛ ففيه أنه [صلى الله عليه وسلم] أجاب السائل عنها - أي: عن الأوقات - بأن صلى يومين، والمفسر منهما قاض على المبهم، وما اختلف يتبع فيه حديث بريدة؛ لأنه مدني متأخر، والأول مكي متقدم، وإنما يتبع الآخر. كذا في " الحجة ". (وآخره ذهاب الشفق الأحمر) جميع كتب اللغة مصرحة بهذا، وجميع ¬
أشعار العرب ومن بعدهم، فمن زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة - أو لسان أهل الشرع - يطلق على البياض فعليه الدليل، ولا دليل. ولو فُرض وجود ما يدل على ذلك فلا يُنكر ندوره، كما لا ينكر أن الشائع في لسان العرب وأهل الشرع إطلاقه على الحمرة، والحمل على الأعم الأغلب هو الواجب، ولا يُحمل على النادر، فليس ههنا ما يسوغ اختلاف المذاهب. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق - كما في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمر - وقد تقدم -. وفي " صحيحه " - أيضا - عن أبي موسى، أن سائلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن المواقيت؟ فذكر الحديث، وفيه: " فأمره، فأقام المغرب حين وجبت الشمس، فلما كان اليوم الثاني قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم قال: " الوقت ما بين هذين ". وهذا متأخر عن حديث جبرائيل - عليه السلام -؛ لأنه كان بمكة، وهذا قول وذلك فعل، وهذا يدل على الجواز، وذاك على الاستحباب، وهذا في " الصحيح " وذاك في " السنن "، وهذا يوافق قوله [صلى الله عليه وسلم] : " وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها " (¬1) ، وإنما خُص منه الفجر بالإجماع، فما عداها من الصلوات داخل في عمومه، والفعل إنما يدل على الاستحباب، فلا يعارض العام ولا الخاص. ¬
بيان أول وقت العشاء وآخره
( [بيان أول وقت العشاء وآخره] :) (وهو) - أي: ذهاب الشفق وغروبه - (أول العشاء) للإجماع على دخوله بالشفق، والأحمر هو المتبادر منه؛ لأن وقت الاستحباب الذي يستحب أن يصلى فيه هو أوائل الأوقات؛ إلا العشاء. (وآخره نصف الليل) فالمستحب الأصلي تأخيرها، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء "، ولأنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المنسية لذكر الله - تعالى -، وأقطع لمادة السمر بعد العشاء، لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة، وتنفير القوم، وفيه قلب الموضوع، فلهذا كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كثر الناس عجّل، وإذا قلوا أخّر. كذا في " الحجة "، فهذه علامات، وكان المعلم لها جبرائيل - عليه السلام -، ثم محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للأمة. ( [بيان أول وقت الفجر وآخره] :) (وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر) أي: ظهور الضوء المنتشر، وبينه [صلى الله عليه وسلم] أشفى بيان، فقال لهم: " أنه يطلع معترضاً في الأفق "، و " أنه ليس الذي يلوح بياضه كذنب السِّرحان (¬1) "، وهذا شيء تدركه الأبصار، وقال - تعالى -: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، فجاء بلفظ التفعل، لإفادة أنه لا يكفي إلا التبين الواضح، أي: يتبين لكم شيئاً فشيئاً حتى يتضح؛ فإنه لا يتم تبينه وظهوره إلا بعد كمال ظهوره، فإنه يطلع - أولا - ¬
تباشير الضوء، ثم ذنب السِّرحان وهو الفجر الكذاب، ثم يتضح نور الصباح الذي أبداه بقدرته فالق الإصباح، ولذلك قال الشاعر: (وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب) قال ابن القيم: " إن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يقرأ بالستين آية إلى المئة، ثم ينصرف منها والنساء لا يُعرفن من الغلس (¬1) ، وأن صلاته كانت في التغليس حتى توفاه الله - تعالى -، وأنه أسفر بها مرة واحدة، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية، فرُد ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " (¬2) ، وهذا - بعد ثبوته - إنما المراد به الإسفار بها دواماً، لا ابتداء، فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا، كما كان يفعله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فقوله موافق لفعله لا مناقض له، وكيف يُظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه؟ ! " انتهى. (وآخره طلوع الشمس) : ومما ينبغي أن يُعلم: أن الله - عز وجل - لم يكلف عباده في تعريف أوقات الصلوات بما يشق عليهم ويتعسر، فالدين يسر، والشريعة سمحة سهلة، بل جعل -[صلى الله عليه وسلم]- للأوقات علامات حسية يعرفها كل أحد، فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من أوائل أجزاء النهار يعرفه كل أحد، وقال في الظهر: " إذا دحضت الشمس " (¬3) ، إذا زالت الشمس، ¬
بيان استغناء الشريعة عن علم النجوم
وقال في العصر: " والشمس بيضاء نقية "، وقال في المغرب: " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا "، وقال في العشاء: من قدّر وقت صلاته بأنه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث الشهر، وورد التقدير بالشفق، وورد (¬1) التقدير بثلث الليل وبنصفه، فهذه العلامات لا تلتبس على أكمه. ( [بيان استغناء الشريعة عن علم النجوم] :) والنظر في النجوم - وإن كنت لا أظن ثبوت ذلك - هو النظر الذي يكون في الشمس والقمر والأظلة المقترنة بالنجوم، والمراد أنه يستدل على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا، كما يكون مثل ذلك في الشمس والقمر، لا أنه النظر المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم - المؤدي إلى الوقوع في مضايق عن الشريعة بمعزل -؛ فإن هذا علم نهى عنه الشارع، وحذر عن إتيان صاحبه، حتى جعل ذلك كفراً، فكيف يجعل طريقاً إلى أمر من أمور الشريعة ومهم من مهماتها؟ ! فمن ظن أن شيئا من علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح عليه (¬2) ؛ فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة، أو مغالط قد مالت نفسه إلى ما ¬
نهى عنه الشارع، وأراد أن يدفع عن نفسه القالة، فاعتل بأنه لم يتعلق بمعرفة ذلك إلا لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات الصلوات، وكثيرا ما نسمعه - من المشتغلين بذلك - يُدلي بهذه الحجة الباطلة، فيصدقه من لم يثبت قدمه في علم الشريعة المطهرة. ومن أعظم المروجات لهذه البلية ما وقع من جماعة من المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير المنازل، والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته، إلا تأنيس المنجمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحاصل الكلام: أن هذه تكاليف موجهة، كلف الله - تعالى - بها عباده، وعيّن أوقاتها تعييناً يعرفه العالم والجاهل، والقروي والبدوي، والحر والعبد، والذكر والأنثى على حد سواء، اشترك فيه كل هؤلاء، لا يحتاج معه إلى شيء آخر. (أمع الصبح للنجوم تجل ... أم مع الشمس للظلام بقاء) قال صاحب " سبل السلام ": التوقيت في الأيام والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة، فلا يمكن عالم من علماء الدنيا أن يدعي أن ذلك كان في عصره -[صلى الله عليه وسلم]-، أو عصر خلفائه الراشدين، وإنما هو بدعة لعلها ظهرت في عصر المأمون، حين أخرج كتب الفلاسفة وعرّبها، ومنها المنطق والنجوم؛ فإنه علم أولئك الذين قال الله - تعالى - فيهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} ،
فأقل أحوال المقرين على حساب المنازل القمرية أنهم مبتدعون، وكل بدعة ضلالة. ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين، فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك، ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل " الربع المجيَّب " (¬1) ونحوه؛ يدرِّسونه ويقرءونه ويعتمدونه، وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " علم لا ينفع وجهل لا يضر " (¬2) . وهو من علم أهل الكتاب، فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب سير الشمس، ولعله دخل على المسلمين من علم اليونان وأهل الكتاب، ومات رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ، وكان أهل بيته وأصحابه - رضي الله عنهم - على ذلك؛ لا يعرفون منازل الزيادة والنقصان، ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان، ولا شيئاً من هذه الأمور التي صار ذلك التكليف المؤقت عليها يدور ". انتهى (¬3) . ¬
وقت صلاة النائم أو الساهي عنها
( [وقت صلاة النائم أو الساهي عنها] :) (ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها) ؛ أي: وقت القضاء إذا ذكر، وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة؛ كحديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره. وقد ورد المعنى من غير وجه، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله - عز وجل - يقول في كتابه العزيز: {أقم الصلاة لذكري} ". قلت: وعلى هذا أهل العلم، وقاسوا المفوت قصداً على النائم (¬1) . كذا في " المسوى ". ( [المعذور إذا أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة] :) (ومن كان معذوراً) : لأن الأوقات للصلوات قد عينها الشارع، وحدد أوائلها وأواخرها بعلامات حسية، وجعل ما بين الوقتين لكل صلاة هو الوقت لتلك الصلاة، وجعل الصلاة المفعولة في غير هذه الأوقات المعينة صلاة المنافق وصلاة الأمراء الذين يميتون الصلاة، كقوله في حديث أنس - الثابت في " الصحيح " -، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله إلا قليلاً "، وكقوله -[صلى الله عليه وسلم]- لأبي ذر: " كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة - أو يؤخرون الصلاة عن ¬
من أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة
وقتها -؟ ! "، قلت: فما تأمرني؟ قال: " صلّ الصلاة لوقتها ... " الحديث؛ ونحو ذلك. وهكذا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، فكان ما ذكرناه دليلاً على أن إدراك الركعة في الوقت الخارج عن الأوقات المضروبة - كوقت طلوع الشمس وغروبها وطلوع الفجر - هو خاص بالمعذور، كمن مرض مرضاً شديداً لا يستطيع معه تأدية الصلاة، ثم شفي وأمكنه إدراك ركعة، وكالحائض إذا طهرت وأمكنها إدراك ركعة ونحو ذلك. ( [من أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة] :) (وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها) ؛ أي: الصلاة، لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة، كحديث أبي هريرة أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. ونحو ذلك حديث عائشة عند " مسلم " وغيره، وقد ثبت من حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (¬1) ، وهذا يشمل جميع الصلوات لا يخص شيئاً منها. ¬
وجوب المحافظة على الوقت
قلت: هذا الحديث يحتمل وجوها: أحدها من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت؛ فالجميع أداء وإلا فقضاء، وهو الأصح عند الشافعية. وقال أبو حنيفة بذلك في العصر خاصة (¬1) . وثانيها: من أدرك من المعذورين من الوقت ما يسع ركعة من الصلاة؛ فقد وجبت عليه تلك الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي. وثالثها: أن الجماعة تدرك بركعة، وهو وجه للشافعية. وقال أبو حنيفة: لو أدرك التشهد كان مدركاً للجماعة. كذا في " المسوى ". فمن صلى ركعة في الوقت، والباقي خارج الوقت؛ لا يكون عند الشافعي كمن صلى الكل خارج الوقت. وقال أبو حنيفة مثله؛ إلا في صلاة العصر خاصة. وقد رد ابن القيم على من قال بكونها خلاف الأصول، ورده بالمتشابه من نهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة وقت طلوع الشمس أتم رد - في " إعلام الموقعين " -؛ فليرجع إليه. ( [وجوب المحافظة على الوقت] :) (والتوقيت واجب) : لما ورد في ذلك من الأوامر الصحيحة بتأدية الصلاة ¬
المتيمم والماسح على الجبيرة
لوقتها، والنهي عن فعلها في غير وقتها المضروب لها. (والجمع لعذر جائز) ؛ أي: بين الصلاتين إن كان صورياً (¬1) ، وهو فعل الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها، فليس بجمع في الحقيقة؛ لأن كل صلاة مفعولة في وقتها المضروب لها، وإنما هو جمع في الصورة، ومنه جمعه [صلى الله عليه وسلم] في المدينة المنورة من غير مطر ولا سفر - كما في " الصحيح " من حديث ابن عباس وغيره -؛ فإنه قد وقع التصريح في بعض الروايات بما يفيد ذلك، بل فسره من رواه بما يفيد أنه الجمع الصوري. وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة، فالمراد بالجمع الجائز للعذر هو جمع المسافر والمريض، وفي المطر، كما وردت بذلك الأدلة الصحيحة (¬2) . وقد اختلف في جواز الجمع بين الصلاتين لغير هذه الأعذار، أو مع عدم العذر. والحق عدم جواز ذلك، كما حققه المجتهد الرباني شيخنا العلامة محمد ابن علي الشوكاني في " الفتح الرباني "، وغيره من مؤلفاته المباركة عليها ولها وفيها. ( [المتيمم والماسح على الجبيرة] :) (والمتيمم وناقص الصلاة) : كمن به مرض يمنعه عن استيفاء بعض أركانها. ¬
(أو الطهارة) : كمن في بعض أعضاء وضوئه ما يمنعه من غسله بالماء. (يصلون كغيرهم من غير تأخير) : وجهه أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أولها وآخرها، ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها، وأن صلاتهم لا تجزئ إلا في آخر الوقت. ولم يعول من أوجب التأخير على شيء تقوم به الحجة، بل ليس بيده إلا مجرد الرأي البحت، كقولهم: إن صلاتهم بدلية، ونحو ذلك! وهذا لا يغني من الحق شيئاً. أقول: لم يأت ما يدل على وجوب التأخير على من كان ناقص صلاة أو طهارة من كتاب ولا سنة، بل التيمم مشروع عند عدم الماء إذا حضر وقت الصلاة، وكذلك من كانت به علة لا يتمكن معها من استيفاء الطهارة أو الصلاة؛ جاز له أن يصلي إذا حضر وقت الصلاة كيف أمكن، وذلك هو المطلوب منه والواجب عليه، ولو كان التأخير واجباً على من كان كذلك؛ لبينه الشارع؛ لأنه من الأحكام التي تعم بها البلوى. ولا فرق بين من كان راجياً لزوال العلة في آخر الوقت، ومن كان آيساً من زوالها في الوقت، ومن زعم أنه يجب تأخير صلاة من الصلوات على فرد من أفراد العباد؛ لم يُقبل منه ذلك إلا بدليل. وأما ما يقال من أن الصلاة الناقصة أو الطهارة الناقصة بدل عن الصلاة الكاملة أو الطهارة الكاملة: فكلام لا ينفق في مواطن الخلاف، ولا تقوم بمثله الحجة على أحد.
بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة
على أن البدلية غير مسلَّمة، وعلى فرض تسليمها: فلا نسلم أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدَل إلى آخر الوقت، فإنهم يجعلون الظهر أصلا والجمعة بدلا، والجمعة مجزئة في أول وقت الظهر، بل لا يجزئ في ذلك الوقت غيرها لمن لم يكن معذوراً. ثم لو سلمنا أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدل، فوقت التعذر هو وقت الصلاة مثلا، فإذا دخل أول جزء من أجزاء الوقت، والمبدل متعذر: كان البدل في ذلك الوقت مجزئا، ومن زعم غير هذا جاءنا بحجة. ( [بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة] :) (و) أما كون (أوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال، وبعد العصر حتى تغرب) : فلما ثبت في " الصحيح " عن جماعة من الصحابة مرفوعاً؛ من النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس (¬1) ، وعند الزوال، وورد في روايات أخر: النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات: وقت الطلوع، ووقت الزوال، ووقت الغروب. قال في " الحجة ": " الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر منها فليفعل " (¬2) ، غير أنه نهي عن خمسة أوقات: ثلاثة منها أوكد نهيا من الباقيين وهي الساعات الثلاث إذا طلعت الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف (¬3) للغروب حتى تغرب، لأنها أوقات صلاة المجوس. ¬
وأما الآخران فقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب " ولذلك صلى فيهما النبي [صلى الله عليه وسلم] تارة. وروي استثناء نصف النهار يوم الجمعة (¬1) . واستنبُط جوازها في الأوقات الثلاثة في المسجد الحرام من حديث: " يا بني عبد مناف! من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " (¬2) . وعلى هذا فالسر في ذلك أنهما (¬3) وقت ظهور شعائر الدين ومكانه فعارضا المانع (¬4) من الصلاة ". انتهى. وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب، وهي عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقاً، لا بما هو أعم منها من وجه، وأخص منها من وجه، كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد (¬5) ؛ فإنه من باب تعارض العمومين، والواجب المصير ¬
إلى الترجيح، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به، وإن لم يمكن؛ وجب المصير إلى الترجيح بأمور خارجة، فإن تعذّر من جميع الوجوه؛ فالتخيير أو الاطراح في مادة. إذا تقرر هذا: فما عورضت به أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين المذكورين لا يصلح للمعارضة: أما حديث الرجلين اللذين أمرهما [صلى الله عليه وسلم] بالإعادة (¬1) ؛ فقد اختلفت الرواية؛ ففي بعض الروايات أنه قال: " هذه فريضة وتلك نافلة "، وفي بعضها عكس ذلك، وعلى الرواية الأولى: لا معارضة، وعلى الثانية: غاية ما هناك أن ذلك يكون مخصصا لأحاديث النهي بمثل حال الرجلين، وهو من دخل مسجد جماعة يصلون فيه فريضة في أحد الوقتين، فإنه يتنفل معهم. وحديث: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يصلي ركعتين بعد العصر (¬2) ؛ قد تبين في روايات الحديث الثابتة في الأمهات أنه وفد عليه وفد عبد القيس، فشغلوه عن ركعتي الظهر، فصلاهما بعد العصر، وكان هديه [صلى الله عليه وسلم] أنه إذا فعل شيئاً داوم عليه، حتى سألته بعض نسائه، وقالت: هل نقضيهما إذا فاتتانا؟ فقال: " لا " (¬3) . ¬
وقد ذكر من روى ذلك وما عليه شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " (¬1) . وأما حديث: " لا تمنعوا طائفاً ... ": فهو مع كونه غير صلاة - وإن كان مشبهاً بها؛ فليس المشبه كالمشبه به هو أيضا عام مخصص بأحاديث النهي، أو خاص بنوع من أنواع الصلاة وهو الطواف؛ فليعلم. ¬
باب الأذان
(2 - باب الأذان) ( [حكم الأذان] :) أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام، وأشهر معالم الدين، فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله - سبحانه وتعالى - إلى أن مات رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : في ليل ونهار، وحضر وسفر، ولم يُسمع بأنه وقع الإخلال بها، أو الترخيص في تركها. (يشرع) : وقد اختلف في وجوبه، والظاهر الوجوب؛ لأمره [صلى الله عليه وسلم] بذلك في غير حديث. والحاصل: أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها؛ فإنها أشهر من نار على علم، وأدلتها هي الشمس المنيرة. ( [شروط المؤذن] :) (لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذناً) : وأما كون المؤذن مكلفا ذَكراً؛ فهذا هو الظاهر؛ لأن الأذان عبادة شرعية لا تجزئ إلا من مكلَّف بها، ولم يُسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع - الذي هو إعلام بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة - من امرأة قط. وأما أذان المرأة لنفسها، أو لمن يحضر عندها من النساء، مع عدم رفع
الأذان بالألفاظ المشروعة
الصوت رفعاً بالغاً: فلا مانع من ذلك، بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالأذان، ولم يأت ما تقوم به الحجة، لا في كون المؤذن طاهراً من الحدث الأكبر، ولا من الحدث الأصغر؛ لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح، وما هو موقوف على صحابي أو تابعي لا تقوم به الحجة. وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن؛ فقد كره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يرد السلام وهو محدث حدثاً أصغر حتى توضأ - كما في رواية (¬1) -، وتيمم - كما في أخرى (¬2) -، والأذان أولى بذلك من مجرد السلام. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": وظاهر الأحاديث أنه لا يصح أذان غير المتوضئ. وقد ورد حديث يدل على اشتراط كون المؤذن متوضئاً، أخرجه الترمذي بلفظ: " لا يؤذن إلا متوضئ " (¬3) ، وقد أُعل بالانقطاع والإرسال، ويشهد له (¬4) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر "، أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. ( [الأذان بالألفاظ المشروعة] :) (ينادى بألفاظ الأذان المشروعة) : لإعلامهم بمواقيت الصلاة، وللتمسك ¬
دخول الوقت شرط لصحة الأذان إلا في الفجر
بشعائر الإسلام، فقد كان الغزاة في أيام النبوة وما بعدها إذا جهلوا حال أهل القرية، تركوا حربهم حتى يحضر وقت الصلاة، فإن سمعوا أذاناً كفّوا عنهم، وإن لم يسمعوا قاتلوهم مقاتلة المشركين (¬1) . وأما غير أهل البلد، كالمسافر والمقيم بفلاة من الأرض؛ فيؤذن لنفسه ويقيم، فإن كانوا جماعة أذن لهم أحدهم وأقام. وألفاظ الأذان قد ثبتت في أحاديث كثيرة، وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص، وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي المزيد، فما ثبت من وجه صحيح مما فيه زيادة تعين قبوله، كتربيع الأذان وترجيع الشهادتين، ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى منها؛ لأنه لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح، كما وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من الأبواب، بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل، وهو مقدم على الترجيح، وقد وقع الإجماع على قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في الأصول، وأدلة إفراد الإقامة أقوى من أدلة تشفيعها، ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة من مخرج صالح للاعتبار، فكان العلم على أدلة التشفيع متعيناً. ( [دخول الوقت شرط لصحة الأذان إلا في الفجر] :) (عند دخول وقت الصلاة) : إلا الأذان للفجر قبل دخول وقتها؛ لما في " الصحيحين " من حديث سالم بن عبد الله، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أنه قال: " إن بلالا يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ". ¬
وفي " صحيح مسلم " عن سمرة، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يغرنكم نداء بلال، ولا هذا البياض، حتى ينفجر الفجر "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث ابن مسعود، ولفظه: " لا يمنع أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن - أو ينادي - ليرجع قائمكم وينبه نائمكم ". قال مالك: لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر. فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات، وبحديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك؛ فإنها أصل بنفسها، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمة للسنة لكفى في رده، فكيف والفرق قد أشار إليه -[صلى الله عليه وسلم]-؟ ! وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة، التي لا تكون في غير الفجر، وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات؛ امتنع الإلحاق. وأما حديث حماد، عن أيوب (¬1) : فحديث معلول عند أئمة الحديث، لا تقوم به حجة. كذا في " إعلام الموقعين ". وقد أطال ابن القيم في تعليل هذا الحديث، والجواب عنه وعن غيره؛ فليرجع إليه. ¬
متابعة السامع للمؤذن سنة
( [متابعة السامع للمؤذن سنة] :) (ويشرع للسامع أن يتابع المؤذن) : لما قد ثبت في " الصحيح " من حديث أبي سعيد، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا سمعتم النداء؛ فقولوا مثل ما يقول المؤذن ". وفي الباب عن جماعة من الصحابة بنحو هذا. وورد مفصلاً مبيناً من حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله - من قلبه - دخل الجنة "؛ أخرجه مسلم وغيره. وأخرج نحوه البخاري. وقد اختار بعض العلماء الجمع عند الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة، وهو جمع حسن (¬1) ؛ وإن لم يكن متعيناً. ¬
الكلام على الإقامة
( [الكلام على الإقامة] :) (ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة) : أقول: قد ثبت تشفيع الأذان وإيتار الإقامة في " الصحيحين " وغيرهما. وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة. وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها، إلا التكبير في أولها وآخرها، و: قد قامت الصلاة، فإن ذلك يكون مثنى مثنى. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكل سنة، وأيها فعلها المؤذن والمقيم؛ فقد فعل ما هو حق وسنة. قال الماتن في " شرح المنتقى " - بعد ما ذكر اختلاف الناس في ذلك، وأطال في بيانه -: إذا عرفت هذا: تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها، وأحاديث إفراد الإقامة، وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في " الصحيحين "، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم، لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها. انتهى. ثم اعلم أن هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعات، بل كل مصل عليه أن يؤذن ويقيم، لكن من كان في جماعة كفاه أذان المؤذن لها وإقامته. ثم الظاهر أن النساء كالرجال (¬1) ؛ لأنهن شقائقهم، والأمر لهم أمر لهن، ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن، فإن الوارد في ذلك في ¬
أسانيده متروكون، لا يحل الاحتجاج بهم، فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك، وإلا فهن كالرجال.
باب شروط الصلاة
(3 - باب شروط الصلاة) (ويجب على المصلي تطهير ثوبه) : (1 -[طهارة الثوب] :) لنص القرآن: {وثيابك فطهر} ، ولقوله [صلى الله عليه وسلم] لمن سأله: هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله؟ فقال: " نعم؛ إلا أن يرى فيه شيئاً، فيغسله "، أخرجه أحمد وابن ماجه، ورجال إسناده ثقات. ومثله عن معاوية، قال: قلت لأم حبيبة: هل كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم يكن فيه أذى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ بإسناد رجاله ثقات. ومنها حديث خلعه [صلى الله عليه وسلم] النعل (¬1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، وله طرق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا. ومنها الأدلة المتقدمة في تعيين النجاسات. (2 -[طهارة البدن] :) (وبدنه) : لأنه أولى من تطهير الثوب، ولما ورد من وجوب تطهيره. ¬
طهارة المكان
(3 -[طهارة المكان] :) (ومكانه من النجاسة) : لما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] من رش الذنوب على بول الأعرابي، ونحو ذلك. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة للصلاة، وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة، وذهب آخرون إلى أنه سنة، والحق الوجوب؛ فمن صلى ملابساً لنجاسة عامداً؛ فقد أخل بواجب، وصلاته صحيحة، والشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط - كما قرره أهل الأصول -؛ لا يصلح للدلالة عليها إلا ما كان يفيد ذلك، مثل نفي القبول، أو نحو: لا صلاة لمن صلى في مكان متنجس، أو النهي عن الصلاة في المكان المتنجس؛ لدلالة النهي على الفساد (¬1) . وأما مجرد الأمر فلا يصلح لإثبات الشروط؛ اللهم إلا على قول من قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فليكن هذا منك على ذُكْر، فإنك إن تفطنت له رأيت العجب في كتب الفقه، فإنهم كثيراً ما يجعلون الشيء شرطاً، ولا يستفاد من دليله غير الوجوب، وكثيراً ما يجعلون الشيء واجباً، ودليله يدل على الشرطية، والسبب الحامل على ذلك: عدم مراعاة القواعد الأصولية والذهول عنها. والحاصل: أن ما دل على الشرطية دل على الوجوب وزيادة، وهو تأثير بطلان المشروط، وما دل على الوجوب لا يدل على الشرطية؛ لأن غاية ¬
ستر العورة
الواجب أن تاركه يُذم، وأما أنه يستلزم بطلان الشيء الذي ذلك الواجب جزء من أجزائه، أو عارض من عوارضه: فلا. فمن حكم على الشيء بالوجوب، وجعل عدمه موجباً للبطلان، أو حكم على الشيء بالشرطية، ولم يجعل عدمه موجباً للبطلان: فقد غفل عن هذين المفهومين. وفي المقام أدلة مختلفة ومقالات طويلة، ليس هذا محل بسطها. (4 -[ستر العورة] :) (وستر عورته) : لقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ؛ قلت: الزينة: ما وارى عورتك ولو عباءة، قاله مجاهد، والمسجد: الصلاة، ولما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بسترها في كل الأحوال، كما في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها "، قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: " الله - تبارك وتعالى - أحق أن يُستحيا منه "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وعلقه البخاري، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم. ومن ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] لعلي: " لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والبزار؛ وفي إسناده مقال (¬1) . ¬
ولكنه يعضده حديث محمد بن [عبد الله بن] جحش، قال: مر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على معمر؛ وفخذاه مكشوفتان، فقال: " يا معمر! غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة "، أخرجه أحمد، والبخاري في " صحيحه " تعليقاً، وأخرجه - أيضا - في " تاريخه "، والحاكم في " المستدرك ". وروى الترمذي، وأحمد من حديث ابن عباس مرفوعاً: " الفخذ عورة ". وأخرج نحوه مالك في " الموطأ "، وأحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -، وعلقه البخاري. وقد عارض أحاديث: " الفخذ عورة " أحاديث أخر، وليس فيها إلا أنه [صلى الله عليه وسلم] كشف عن فخذه يوم خيبر أو في بيته، ولا يصلح ذلك لمعارضة ما تقدم. وورد في الركبة ما يفيد أنها تُستر، وما يخالف ذلك. وأما والمرأة؛ فورد حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم؛ وقد روي موقوفاً ومرفوعاً من حديث عائشة، ومن حديث أبي قتادة. ومما يفيد وجوب ستر العورة: أحاديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتق المصلي منه شيء، وفي بعضها: " فليخالف بين طرفيه "، وفي بعضها: " وإن كان ضيقا فاتزر به "، وكلها في " الصحيح "، ولكن ليس فيها ما يستفاد منه الشرطية التي صرح بها جماعة من المصنفين. وحديث الخمار إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية: فهو خاص
أشياء ورد النهي عنها في الصلاة
بالمرأة، وقد عرفت مما سلف أن الذي يستلزم عدمه عدم الصلاة - أي: بطلانها - هو الشرط أو الركن، لا الواجب، فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة، أو صلى بثياب متنجسة؛ كانت صلاته باطلة: فهو مطالب بالدليل، ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير؛ فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب. ( [أشياء ورد النهي عنها في الصلاة] :) (1 -[اشتمال الصماء] :) (ولا يشتمل الصماء) : لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يشتمل الصماء "، وهو في " الصحيحين ". وفي لفظ فيهما: " ... وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى؛ إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه ". وأخرج نحوه الجماعة من حديث أبي سعيد. واشتمال الصماء: هو أن يجلل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانباً، ولا يبقى ما يخرج منه يده. (2 -[السدل] :) (ولا يسدل) : لحديث النهي عن السدل في الصلاة؛ وهو عند أحمد وأبي داود، والترمذي، والحاكم في " المستدرك "، وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
الإسبال
والسدل: هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، بل يلتحف به، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك. (3 -[الإسبال] :) (ولا يسبل) : لما ورد من الأحاديث الصحيحة من النهي عن إرسال الإزار، والمراد بالإسبال: أن يرخي إزاره حتى يجاوز الكعبين. (4 -[كفت الثوب أو الشعر] :) (ولا يكفت) : لأنه قد ورد النهي عن أن يكفت الرجل ثوبه أو شعره، أما كفت الثوب: فكمن يأخذ طرف ثوبه، فيغرزه في حجزته أو نحو ذلك، وأما كفت الشعر: فنحو أن يأخذ منه خصلة مسترسلة، فيكفتها في شعر رأسه، أو يربطها بخيط إليه، أو نحو ذلك. (5 -[لبس ثوب الحرير] :) (ولا يصلي في ثوب حرير) : والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها يدل على المنع من لبس ثوب الحرير الخالص. وأما المشوب: فالمذاهب في ذلك معروفة؛ فبعض الأحاديث يدل على أنه إنما يحرم الخالص لا المشوب، كحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود (¬1) ، قال: إنما نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الثوب المصمت من القز. قال ابن عباس: أما السدي والعلم؛ فلا نرى به بأسا. ¬
لبس ثوب الشهرة
وبعضها يدل على المنع، كما وردت في حلة السيراء؛ فإنه غضب لما رأى عليا قد لبسها، وقال: " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء "، وهو في " الصحيح ". والسيراء - قد قيل -: إنها المخلوطة بالحرير لا الحرير الخالص، وقيل: إنها الحرير الخالص المخطط، وقيل غير ذلك. ولكنه قد ورد في طريق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة؛ فأخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجه (¬1) ، والدورقي هذا الحديث بلفظ: قال علي: أُهدي إلي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حلة مسيرة؛ إما سَداها وإما لُحمتها "؛ فذكر الحديث. (6 -[لبس ثوب الشهرة] :) (ولا ثوب شهرة) : لحديث: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا؛ ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي؛ بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر. وهذا الوعيد يدل على أن لبسه محرم في كل وقت، فوقت الصلاة أولى بذلك. وأما الثوب المصبوغ بالصفرة والحمرة: فالأدلة في ذلك متعارضة؛ فلهذا لم نذكره، وقد أفرده الماتن برسالة مستقلة. ¬
لبس الثوب المغصوب
(7 -[لُبس الثوب المغصوب] :) (ولا مغصوب) : لكونه ملك الغير، وهو حرام بالإجماع. (8 -[استقبال عين الكعبة للمشاهد وجهتها للغائب بعد التأكد] :) (وعليه استقبال عين الكعبة إن كان مشاهداً لها أو في حكم المشاهد) وجوباً؛ لأنه قد تمكن من اليقين، فلا يُعدل عنه إلى الظن. والأحاديث المتواترة مصرحة بوجوب الاستقبال، بل هو نص القرآن الكريم: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ؛ وعلى ذلك أجمع المسلمون، وهو قطعي من قطعيات الشريعة. (وغير المشاهد) ، ومن في حكمه (يستقبل الجهة بعد التحري) : لأن ذلك هو الذي يُمكنه ويدخل تحت استطاعته، ولم يكلفه الله - تعالى - ما لا يطيق، كما صرح بذلك في كتابه العزيز، وقد جعل النبي [صلى الله عليه وسلم] بين المشرق والمغرب قبلة؛ كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي، وابن ماجه. ومثل ذلك ورد عن الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم -، وقد استقبل النبي [صلى الله عليه وسلم] الجهة بعد خروجه من مكة المكرمة، وشرع للناس ذلك. أقول: استقبال القبلة هو من ضروريات الدين، فمن أمكنه استقبال القبلة تحقيقاً: فذلك الواجب عليه، مثل القاطن حولها المشاهد لها، من دون قطع مسافة، ولا تجشم مشقة، ومن لم يكن كذلك: ففرضه استقبال الجهة، وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على الخصوص، بل المراد ما أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] من كون بين المشرق والمغرب قبلة.
فمن كان في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب؛ توجه بين الجهتين، فإن تلك الجهة هي القبلة. وكذلك من كان بجهة الشام؛ يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات؛ فإن ذلك مما لم يرد به الشرع ولا كُلّف به العباد. والمحاريب (¬1) المنصوبة في المساجد والمشاهد المعمورة في بلاد المسلمين، الذين لهم عناية بأمر الدين؛ مغنية عن التكلف، وكذلك إخبار العدول المرضيين كافة، فإن من قال: هذه جهة القبلة، أو عمّر محراباً يأوي إليه الناس؛ لا شك أنه قد بلغ من التحري ما يبلغه من أراد تأدية صلاة أو صلوات في مكان من الأمكنة؛ لأن معرفة الجهة التي عرفناك بها من السير ما تراد لمعرفته لكون الجهات الأربع معلومة لكل عاقل. وقد يعرض اللبس في بعض المواطن على بعض الأفراد؛ إما لعدم ظهور ما يهتدي به في ظلمة الليل، أو حيلولة جبال عالية في أرض عالية لا يعرفها، مع تلون طرقها التي قد سلكها، فهذا فرضه أن يمعن النظر في تعريف الجهة، فإذا أعوزه الأمر توجه حيث شاء، هذا في الفرائض، وأما النوافل فقد خفف الشارع فيها وسوغ تأديتها على ظهر الراحلة إلى جهة القبلة وغير جهتها، بل سوّغ تأدية الفريضة في الأرض الندية على ظهر الراحلة، كما تجد ذلك في " المنتقى " و " شرحه ". فهذا خلاصة ما تعبدنا الله به في أمر القبلة، وهو يغنيك عن التفريعات الطويلة والتهويلات المهيلة في كتب الفقه. ¬
باب كيفية الصلاة
(4 - باب كيفية الصلاة) ( [كيفية الصلاة النبوية] :) وهي - على ما تواتر عنه [صلى الله عليه وسلم] ، وتوارثته الأمة -: أن يتطهر، ويستر عورته، ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه، ويتوجه إلى الله - تعالى - بقلبه، ويخلص له العمل، ويقول: " الله أكبر "؛ بلسانه، ويقرأ فاتحة الكتاب، ويضم معها - إلا في ثالثة الفرض ورابعته (¬1) - سورة من القرآن، ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه، حتى يطمئن راكعاً، ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائماً، ثم يسجد على الآراب السبعة: اليدين والرجلين والركبتين والوجه، ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالساً، ثم يسجد ثانيا كذلك، فهذه ركعة، ثم يقعد على رأس كل ركعتين ويتشهد، فإن كان آخر صلاته؛ صلى على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ودعا أحب الدعاء إليه، وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين، فهذه صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمداً من غير عذر في فريضة، وصلاة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة، وهي من ضروريات الملة. نعم؛ اختلف الفقهاء في أحرف منها؛ هل هي أركان الصلاة، لا يعتد ¬
النية شرط للصلاة
بها بدونها، أو واجباتها التي تنقص بتركها، أو أبعاض يُلام على تركها، وتجبر بسجدة السهو،؟ كذا في " الحجة البالغة ". ( [النية شرط للصلاة] :) (لا تكون شرعية إلا بالنية) : لقوله - تعالى -: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} . وروى مالك بإسناده - في غير رواية يحيى بن يحيى (¬1) -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إنما الأعمال بالنيات ". قلت: وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم. وعندي: أن المقدر في حديث " إنما الأعمال بالنية ": إن كان الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة - أو ما يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك الصلاة شرعية إلا به -: فالنية في مثل الصلاة شرط من شروطها،؛ لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة، وهذه خاصة الشروط. وإن كان المقدّر الكمال أو ما يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية بدونه: فليست النية بواجبة؛ فضلا عن أن تكون شرطا، لكن قد عُرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى الأول؛ لكون الحصر في " إنما " في معنى (ما الأعمال إلا بالنية) ، وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا؛ كما تقرر في علمي المعاني والأصول، والنفي يتوجه إلى المعنى الحقيقي، وهو الذات الشرعية، وانتفاؤها ممكن؛ لأن الموجود في الخارج ذات غير شرعية، وعلى فرض وجود ¬
فروض الصلاة تنقسم إلى واجبات وأركان وشروط
مانع عن التوجه إلى المعنى الحقيقي؛ فلا ريب أن الصحة أقرب إلى المعنى الحقيقي من الكمال؛ لاستلزامها لعدم الاعتداد بتلك الذات، وترجيح أقرب المجازيٍ ن متعيِّن. فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط للصلاة؛ أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها. والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره. ( [فروض الصلاة تنقسم إلى واجبات وأركان وشروط] :) (وأركانها كلها مفترضة) : لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها، وتُعدم الصورة المطلوبة بعدمها، وتكون ناقصة بنقصان بعضها، وهي: القيام، فالركوع، فالاعتدال، فالسجود، فالاعتدال، فالسجود، فالقعود للتشهد. وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها، وكان يجعلها قريبا من السواء، - كما ثبت في " الصحيح " عنه -. أقول: وجملة القول في هذا الباب: إنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول، وإرجاع فرع الشيء إلى أصله، أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام: - واجبات: كالتكبير، والتسليم، والتشهد. - وأركان: كالقيام، والركوع، والاعتدال، والسجود، والاعتدال،
والسجود، والقعود للتشهد. - وشروط: كالنية، والقراءة. أما النية: فلما قدمنا. وأما القراءة: فلورود ما يدل على شرطيتها؛ كحديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وحديث: " لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، ونحوها، فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى صحتها؛ أفاد الشرطية؛ إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط، وأصرح من مطلق النفي: النفي المتوجه إلى الإجزاء. والحاصل: أن شروط الشيء يقتضي عدمها عدمه، وأركانه كذلك؛ لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع، وما كان كذلك لا يجزئ؛ إلا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة، كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد، وإن كان الحق خلاف ما قال. وأما الواجبات: فغاية ما يستفاد من دليلها - وهو مطلق الأمر -: أن تركها معصية، لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها. إذا تقرر هذا: لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها، والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور، وهو الحق. وحقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، والمدح على الفعل، والذم على الترك: لا يستلزمان البطلان؛ بخلاف الشرط، فإن حقيقته ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت.
قعود التشهد الأوسط من سنن الصلاة
فاحفظ هذا التحقيق؛ تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفا للتأصيل، وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب، وكثيرا ما تجد العارف بالأصول، إذا تكلم في الفروع؛ ضاقت عليه المسالك، وطاحت عنه المعارف، وصار كأحد الجامدين على علم الفروع؛ إلا جماعة منهم، {وقليل ما هم} ، {وقليل من عبادي الشكور} . ( [قعود التشهد الأوسط من سنن الصلاة] :) (إلا قعود التشهد الأوسط) : لكونه لم يأت في الأدلة ما يدل على وجوبه بخصوصه، كما ورد في قعود التشهد الأخير؛ فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير. فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء، كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة، ولم يذكر فيه التشهد الأخير. قلت: لا تقوم الحجة بمثل ذلك، ولا يثبت به التكليف العام، والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء؛ فقد وردت به الأوامر، وصرح الصحابة بافتراضه، وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " إيضاحا حسنا؛ فلتراجع. ( [الاستراحة من سنن الصلاة] :) (والاستراحة) : لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها (¬1) ، وذكرها في حديث ¬
تكبيرة الإحرام من واجبات الصلاة
المسيء وهم، كما صرح بذلك البخاري (¬1) . ( [تكبيرة الإحرام من واجبات الصلاة] :) (ولا يجب من أذكارها) : أي: الصلاة (إلا التكبير) ؛ لقوله تعالى: {وربك فكبر} ، ولقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المسيء: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر "، ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير. أقول: تعيين التكبير للدخول في الصلاة؛ محكم صريح؛ لقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يقبل الله صلاة أحدكم، حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر " (¬2) ، وبما تقدم من النصوص، وهي نصوص في غاية الصحة، فردت بالمتشابه من قوله - تعالى - {وذكر اسم ربه فصلى} . ( [مشروعية رفع اليدين] :) قال في " الحجة ": فإذا كبر يرفع يديه إلى أذنيه ومنكبيه، وكل ذلك سنة. انتهى. ¬
أقول: إن الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواترا لا ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة، واختصت باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها، ومعهم من الصحابة جماهير، ونقل جماعة من الحفاظ أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة، بل اتفقوا عليه. والحاصل: أنه قد نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا إلينا أعداد ركعات الصلاة، فإن لم يثبت بمثل ما ورد فيها مشروعيتها؛ فليس في الدنيا مشروع؛ لأن كثيرا مما وقع الإطباق على مشروعيته، وصار من قطعيات المرويات؛ لم يبلغ ما بلغ إليه نقل الرفع، وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه السنة، لا من قوله [صلى الله عليه وسلم] ، ولا من فعله، ولا عن أصحابه؛ من أقوالهم، ولا من أفعالهم، وقد درج عليها خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وأما حديث البراء، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا افتتح الصلاة؛ رفع يديه ثم لم يعد: فهو قد تضمن إثبات الرفع عند الافتتاح، ولفظ: ثم لم يعد: قد اتفق الحفاظ عل أنه مدرج من قول يزيد بن أبي زياد، وقد رواه عنه بدونها جماعة من الأئمة منهم: شعبة، والثوري، وخالد الطحان، وزهير، وغيرهم، ومع هذا؛ فالحديث - من أصله - قد أطبق الأئمة على تضعيفه. وكما ثبت الرفع عند الافتتاح: ثبت عند الركوع، وعند الاعتدال منه؛ بأحاديث تقارب أحاديث الرفع عند الافتتاح. وكذلك ثبت الرفع عند القيام من التشهد الأوسط؛ بأحاديث صحيحة؛ كما سيأتي بيانه.
قراءة الفاتحة في كل ركعة شرط للصلاة
( [قراءة الفاتحة في كل ركعة شرط للصلاة] :) (والفاتحة في كل ركعة) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المسيء: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "، وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود: " ثم أقرأ بأم القرآن "، وكذلك في لفظ منه لأحمد، وابن حبان؛ بزيادة: " ثم اصنع ذلك في كل ركعة " - بعد قوله: " ثم اقرأ بأم القرآن " -، فكان ذلك بيانا ل " ما تيسر ". وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء كأحاديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وهي صحيحة. ويدل على وجوبها في كل ركعة: ما وقع في حديث المسيء؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] وصف له ما يفعل في كل ركعة، وقد أمره بقراءة الفاتحة، فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة، كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في كل ركعة، بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه [صلى الله عليه وسلم] ، فإنه قال للمسيء: " ثم افعل ذلك في الصلاة كلها "؛ وهو في " الصحيح " من حديث أبي هريرة، قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة، لا في جملة الصلاة، فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة. قال في " الحجة ": وما ذكره النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ الركنية، كقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وقوله: " لا يجزيء صلاة الرجل، حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود "، وما سمى الشارع الصلاة به؛ فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة. انتهى. ( [قراءة الفاتحة ولو مؤتما] :) (ولو كان مؤتما) : فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم؛ لما ورد من
الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام؛ كحديث: " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب "، ونحوه، ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة على كل مصل. قال في " الحجة البالغة ": " وإن كان مأموما؛ وجب عليه الإنصات والاستماع، فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة، وإن خافت فله الخيرة، فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام. وهذا أولى الأقوال عندي، وبه يجمع بين أحاديث الباب ". انتهى. وفي " تنوير العينين " (¬1) دلائل الجانبين فيه قوية، لكن يظهر بعد التأمل في الدلائل؛ أن القراءة أولى من تركها، فقد عولنا فيه على قول محمد؛ كما نقل عنه صاحب " الهداية "، وتركنا الكلام. وقال ابن القيم في " الأعلام ": ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة الفاتحة فرضا؛ بالمتشابه من قوله - تعالى -: {فاقرؤا ما تيسر منه} ، وليس ذلك في الصلاة، وإنما يدل على قيام الليل، وبقوله للأعرابي: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "؛ وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة، وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسيء في قراءتها، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها، فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه، فلا يترك الصريح. انتهى. ¬
وقال في " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء " (¬1) : روى البيهقي عن يزيد بن شريك، أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب، فقلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت ". قلت: روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر الكوفيين: أن المأموم لا يقرأ شيئا. والجمع - أن القبيح - في الأصل - أن ينازع الإمام في القرآن، وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك، ثم إن اشتغال المأموم بمناجاة ربه مطلوب، فتعارضت مصلحة ومفسدة، فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا تخدشها مفسدة فليفعل، ومن خاف المفسدة ترك، والله تعالى أعلم. انتهى. أقول: الأوجه هو الإتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام، كما تشهد له أدلة السنة الصريحة من دون تعارض، والأمر بالإنصات في قوله - تعالى -: {أنصتوا} عام يتناول فاتحة الكتاب وغيرها، وكذلك حديث: " وإذا قرأ فأنصتوا " - وإن كان فيه مقال (¬2) ؛ لا ينتهض معه للاستدلال، وعلى فرض انتهاضه؛ فغاية ما فيه أنه اقتضى أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على المؤتم، ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها. وأما حديث: " خلطتم علي ": فلا يشك عارف أن خلط المؤتم على ¬
التشهد الأخير من واجبات الصلاة
إمامه إنما يكون إذا قرأ المؤتم جهرا، وأما إذا قرأ سرا فلا خلط، وكذلك المنازعة لا تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم. وأما حديث جابر في هذا الباب: فهو من قوله، ولم يرفعه إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]- كما في " الترمذي " " والموطأ " وغيرهما -، وقول الصحابي لا تقوم به حجة (¬1) ، فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة المؤتم خلف الإمام حال قراءته؛ إلا الآية الكريمة، وحديث: " إذا قرأ فأنصتوا "، وهما عامان كما عرفت، يتناولان فاتحة الكتاب وغيرهما، والعام معرض للتخصيص، والمخصص ههنا موجود، وهو حديث عبادة بن الصامت، وهو حديث صحيح. وبناء العام على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول، فلا معذرة عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام، ولا سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في كل ركعة من ركعات صلاته (¬2) . ( [التشهد الأخير من واجبات الصلاة] :) (والتشهد الأخير) : واجب؛ لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة، وألفاظه معروفة، وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة، وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر. والحق الذي لا محيص عنه: أنه يجزئ للمصلي أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من مخرج صحيح، وأصحها التشهد الذي علمه ¬
ذكر ألفاظ التشهد
النبي [صلى الله عليه وسلم] ابن مسعود، وهو ثابت في " الصحيحين " وغيرهما من حديثه، بلفظ: " التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله "، وفي بعض ألفاظه: " إذا قعد أحدكم فليقل ... ". ( [ذكر ألفاظ التشهد] :) قال في " الحجة البالغة ": وجاء في التشهد صيغ، أصحها تشهد ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -، ثم تشهد ابن عباس، وعمر - رضي الله تعالى عنهما - وهي كأحرف القرآن؛ كلها كاف وشاف. انتهى. قلت: اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود، والشافعي تشهد ابن عباس، ومالك تشهد عمر، واختلافهم في المختار لا في الإجزاء. كذا في " المسوى ". وأما الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] التي يفعلها المصلي في التشهد: فقد وردت بألفاظ، وكل ما صح منه أجزأ، ومن أصح ما ورد؛ ما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد "؛ وزاد في " الحجة ": " اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " انتهى. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": وما ينبغي أن يعلم: أن التشهد وألفاظ الصلاة
على النبي [صلى الله عليه وسلم] وآله - عليهم السلام -؛ كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر. وتخصيص بعضها دون بعض - كما يفعله بعض الفقهاء - قصور باع وتحكم محض، وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بإجزاء غيره: فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات، وهو من صنيع المهرة بعلم الاستدلال والأدلة. انتهى. وقال في موضع آخر: التشهدات الثابتة عنه [صلى الله عليه وسلم] موجودة في كتب الحديث، فعلى من رام التمسك بما صح عنه [صلى الله عليه وسلم] أن ينظرها في دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة، ويختار أصحها ويستمر عليها، أو يعمل تارة بهذا وتارة بهذا؛ مثلا يتشهد في بعض الصلوات بتشهد ابن مسعود، وفي بعضها بتشهد ابن عباس، وفي بعضها بتشهد غيرهما، فالكل واسع، والأرجح هو الأصح، لكن كونه الأصح؛ لا ينافي إجزاء الصحيح. انتهى. قلت: عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة، وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في باب التشهد، وأن التشهد الأول ليس محلا لها. وذهب الشافعي - وحده - إلى وجوبها في التشهد الأخير، فإن لم يصل لم تصح صلاته (¬1) ، وإلى استحبابها في التشهد الأول. ¬
وجوب التعوذ من أربع
( [وجوب التعوذ من أربع] :) وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع؛ كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ". وورد نحو ذلك من حديث عائشة، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد، ثم يتخير المصلي بعد ذلك من الدعاء أعجبه، كما أرشد إلى ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . قال في " الحجة ": وورد في صيغ الدعاء في التشهد: " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ". وورد: " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ". ( [التسليم من واجبات الصلاة] :) (والتسليم) : وهو واجب؛ لكون النبي [صلى الله عليه وسلم] جعله تحليل الصلاة، فلا تحليل لها إلا به، فأفاد ذلك وجوبه، وإن لم يذكر في حديث المسيء. قال في " الحجة ": " وجب أن لا يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو
أحسن كلام الناس، أعني: السلام، وأن يوجب ذلك ". انتهى. قال ابن القيم: " إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي [صلى الله عليه وسلم] التي رواها خمس عشرة نفسا من الصحابة: أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله "؛ منهم عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن سمرة، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، ووائل بن حجر، وأبو مالك الأشعري، وعدي بن عميرة الحضرمي، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رمثة، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها، واردة في تسليمة واحدة ". انتهى. وقد أطال في الجواب عنها إلى خمسة أوراق (¬1) ، فليرجع إليه. قلت: وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله، واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ رواه أبو داود، والترمذي، ولفظه: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر "، رواه النسائي، وأحمد، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم. وفي الباب عن سهل بن سعد، وحذيفة، ومغيرة بن شعبة، وواثلة بن ¬
الأسقع، ويعقوب بن الحصين (¬1) . ووقع في " صحيح ابن حبان " من حديث ابن مسعود زيادة: " وبركاته "، وهي عند ابن ماجة أيضا، وعند أبي داود أيضا في حديث وائل بن حجر. فالعجب من ابن الصلاح؛ كيف يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث؛ إلا في رواية وائل بن حجر؟ {كذا في " التلخيص ". وقال مالك: يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة: السلام عليكم؛ لا يزيد على ذلك، ويستحب للمأموم أن يسلم ثلاثا: عن يمينه، وعن شماله، وتلقاء وجهه؛ يردها على إمامه. كذا في " المسوى ". أقول: وورود التسلمية الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه زيادة عليها، وهي أحاديث التسليمتين؛ لما عرفناك غير مرة أن الزيادة التي لم تكن منافية يجب قبولها، فالقول بتسليمتين إعمال لجميع ما ورد، بخلاف القول بتسليمة فإنه إهدار لأكثر الأدلة بدون مقتض. وأما كون التسليم واجبا أو غير واجب فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء، وأنه لا وجوب لغير ما لم يذكر فيه؛ إلا أن يثبت إيجابه بعد تاريخ حديث المسيء إيجابا، لا يمكن صرفه بوجه من الوجوه (¬2) . ¬
وجوب الطمأنينة في الصلاة
( [وجوب الطمأنينة في الصلاة] :) وأما الطمأنينة في حال الركوع والسجودين: فلا خلاف في ذلك. وأما في حال الاعتدال من الركوع وبين السجدتين: فخالف في ذلك قوم، والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في الموطنين؛ بل المشروع إطالتهما، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يدل على ذلك، كما في حديث البراء: أنه حزر أركان صلاته [صلى الله عليه وسلم] ، وعد من جملتها الاعتدال من الركوع، والاعتدال بين السجدتين، فوجدها قريبا من السواء؛ وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما يلبث في الركوع والسجود، وثبت أنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقف في اعتداله من الركوع كاعتداله من السجود، حتى يظن من رآه أنه قد نسي؛ لإطالته لهما، وثبت من أدعية فيهما ما يدل على طولهما. فالحاصل: أن أصل الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين: ركن من أركان الصلاة لا تتم بدونه. وأما طول اللبث زيادة عن الاطمئنان: فمن السنن المؤكدة؛ لأنه لم يذكر في حديث المسيء، وقد صارت هذه السنة متروكة في الاعتدال إلى غاية؛ بل صار الاطمئنان فيهما مما يقل وجوده، وما أحق من نازعته نفسه إلى اتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلا من ركوعه، ومعتدلا من سجوده، ويدعو بالأدعية المأثورة فيهما، ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه في الركوع والسجود {فذلك هو السنة التي لا يجهل ورودها إلا جاهل} والله المستعان.
سنن الصلاة
( [سنن الصلاة] :) (وما عدا ذلك فسنن) : لأنه لم يرد فيها ما يفيد وجوبها من أمر بالفعل، أو نهي عن الترك، غير مصروفين عن المعنى الحقيقي، أو وعيد شديد يفيد الوجوب، ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء؛ إلا على وجه لا تقوم به الحجة، أو تقوم به، وقد ورد ما يفيد أنه غير واجب. والحاصل: أن مرجع واجبات الصلاة كلها هو حديث المسيء، فما ذكره [صلى الله عليه وسلم] فيه كان واجبا، وما لم يذكره فليس بواجب، لكن قد تشعبت روايات حديث المسيء، وثبت في بعضها ما لم يثبت في البعض الآخر، فعلى من أراد تحقيق الحق؛ أن يجمع طرقه الصحيحة (¬1) ، ويحكم بوجوب ما اشتملت عليه، أو شرطيته، أو ركنيته؛ بحسب ما يقتضيه الدليل، وما خرج عنه خرج عن ذلك. وقد جمع ما صح من طرقه شيخنا الحافظ الرباني العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " في موضع واحد منه؛ فمن رام ذلك فليرجع إليه (¬2) . ( [الرفع في المواضع الأربعة] :) (وهي الرفع في المواضع الأربعة) ؛ أي: عند تكبيرة الإحرام، وعند ¬
الركوع، وعند الاعتدال من الركوع، هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة، والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة، فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة. أما عند التكبير فقد روي ذلك عن النبي [صلى الله عليه وسلم] نحو خمسين رجلا من الصحابة، منهم العشرة المبشرة بالجنة، ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء. وقال الشافعي: روى الرفع جمع من الصحابة، لعله لم يرد قط حديث بعدد أكثر منهم. وقال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يرفع يديه. وقال البخاري في " جزء رفع اليدين ": روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة. وسرد البيهقي في " السنن " وفي " الخلافيات " أسماء من روى الرفع؛ نحوا من ثلاثين صحابيا. وقال الحسن، وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يرفعون أيديهم، ولم يستثن أحدا منهم. كذا في " التلخيص ". وقال النووي في " شرح مسلم ": إنها أجمعت على ذلك عند تكبيرة
الإحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك، وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري، وأبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابوري، والأوزاعي، والحميدي، وابن خزيمة (¬1) . وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه: فقد رواه زيادة على عشرين رجلا من الصحابة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] . وقال محمد بن نصر المروزي: إنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة. وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة: فهو ثابت في " الصحيح " من حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، وصححه أيضا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-. وفي " حجة الله البالغة ": فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه، وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، وهو من الهيئات التي فعلها النبي [صلى الله عليه وسلم] مرة وتركها أخرى، والكل سنة، وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة، وأهل الكوفة، ولكل واحد أصل أصيل، والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سنة، ¬
ونظيره الوتر بركعة واحدة، أو بثلاث، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع؛ فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت، غير أنه لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور، أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده، وهو قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة "؛ ولا يبعد أن يكون ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ظن أن السنة المتقررة آخرا هو تركه لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدىء به في الصلاة، أو لما تلقن من أنه فعل ينبيء عن الترك، فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة، ولم يظهر له أن تجديد التنبيه لترك ما سوى الله - تعالى - عند كل فعل أصلي من الصلاة مطلوب. والله - تعالى - أعلم. قوله: لا يفعل ذلك في السجود؛ أقول: القومة شرعت فارقة بين الركوع والسجود، فالرفع معها رفع للسجود، فلا معنى للتكرار. انتهى بحروفه. وفي " التكميل " للشيخ رفيع الدين الدهلوي - ولد صاحب " الحجة البالغة " -: اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة (¬1) ، مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب، ولا بيان فضيلة، ولا نهي الصحابة عنه قط، وعلى أنه ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فعله مدة، إلا أنه زاد ابن مسعود، فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ ! فلم يرفع يديه إلا في أول مرة، وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا، وإنما أراد تركه آخرا، كما يشعر به بعض ما ينقل عنه أن آخر الأمرين ترك الرفع، ولا يدرى مدة الترك، فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف، فظن قوم أن سنيته كانت بمجرد الفعل، فبطلت ¬
بالترك، وقوم أن الترك بعذر، وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام للفرض بالعذر؛ فهي - إذا - باقية، فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه، وإن منعه بعض المتعصبة؛ إذ ليس مما يخالف أفعال الصلاة؛ لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين، فلا نكير على فاعله لأحد، بل في بقاء سنيته بناء على الظن، فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان، وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة، ولم يتعرض [صلى الله عليه وسلم] لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام؛ حيث قال: " ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ ! "؛ وهو [صلى الله عليه وسلم] كان يرى خلفه كما يرى أمامه، فثبت بقاء سنيته. وتركه [صلى الله عليه وسلم] أحيانا؛ كما رواه ابن مسعود، والبراء بن عازب، وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده. ولم يبلغ أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - خبر هذا الجمع، إنما روى له الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -، فرجح عليه أبو حنيفة حمادا، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود: بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ، فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر؛ حيث لم يرفع إلا في التحريمة؛ بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وما يذكر (¬1) عن الشافعي من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد. انتهى. وفي " تنوير العينين " للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي - حفيد ¬
صاحب " حجة الله البالغة " -: " إن رفع اليدين عند الافتتاح، والركوع، والقيام منه، والقيام إلى الثالثة سنة غير مؤكدة من سنن الهدى، فيثاب فاعله بقدر ما فعل، إن دائما فبحسبه، وإن مرة فبمثله، ولا يلام تاركه وإن تركه مدة عمره. وأما الطاعن العالم بالحديث - أي: من ثبت عنده الأحاديث المتعلقة بهذه المسالة -: فلا إخاله إلا فيمن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ونريد بسنة الهدى ههنا فعل غير فرض، وغير مختص بالنبي -[صلى الله عليه وسلم]- فعله هو والخلفاء الراشدون - رضي الله تعالى عنهم -، أو أمروا به وأقروا عليه؛ قربة، ولم ينسخ ولم يترك بالإجماع، وبغير المؤكدة: ما فعلوه مرة وتركوه أخرى. فبقولنا: فعل؛ خرج به عدم الرفع، فإن العدم ليس بفعل، نعم؛ إذا كان العدم مستمرا في زمان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- والخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم -، فقطعه يكون بدعة، وليس في مفهوم البدعة إزالة السنة حتى يلزم كون العدم سنة، بل مفهومها فعل لم يفهم في زمنهم. وبقولنا: غير فرض؛ خرجت الفرائض كلها. وبقولنا: غير مختص؛ خرجت النوافل المختصة به -[صلى الله عليه وسلم]-؛ كالوصال في الصوم. وبقولنا: لم ينسخ؛ خرجت السنن المنسوخة؛ كالقيام للجنازة. وبقولنا: لم يترك بالإجماع؛ خرجت السنن المتروكة به كالرفع بين السجدتين. انتهى.
وفيما لا بد منه أن رفع اليدين عند الإمام الأعظم ليس بسنة، ولكن أكثر الفقهاء والمحدثين يثبتونه. انتهى. وفي " سفر السعادة ": إن الأخبار والآثار التي رويت في هذا الباب تبلغ إلى أربع مئة. انتهى. قال شارحه الشيخ عبد الحق الدهلوي: " إن الرفع وعدم الرفع كلاهما سنة ". انتهى. وقد مر الجواب عنه. وفي " سفر السعادة " - العربي (¬1) -: " وقد ثبت رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة، ولكثرة رواته؛ شابه المتواتر، فقد صح في هذا الباب أربع مئة خبر وأثر؛ رواه العشرة المبشرة، ولم يزل على هذه الكيفية حتى رحل عن هذا العالم، ولم يثبت غير هذا. انتهى بعبارته. ونقل ابن الجوزي في " نزهة الناظر للمقيم والمسافر "، عن المزني، أنه قال: سمعت الشافعي يقول: لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في رفع اليدين في افتتاح الصلاة، وعند الركوع، والرفع من الركوع أن يترك الاقتداء بفعله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وهذا صريح في أنه يوجب ذلك ". انتهى. وبالجملة: فقد ثبت رفع اليدين في المواضع الأربعة المذكورة بروايات صحيحة ثابتة، وآثار مرضية راجحة، ومذاهب حقة صادقة عن النبي - ¬
الضم
[صلى الله عليه وسلم]-، وعن كبراء الصحابة، وعظماء العلماء والفقهاء والمجتهدين، بحيث لا يشوبها نسخ ولا تعارض، حتى ادعى بعضهم التواتر، ولا أقل من أن تكون مشهورة. كذا في " التنوير ". 2 -[الضم] : (والضم) لليدين؛ أي: اليمنى على اليسرى حال القيام، إما على الصدر، أو تحت السرة، أو بينهما؛ بأحاديث تقارب العشرين في العدد، ولم يعارض هذه السنن معارض، ولا قدح أحد من أهل العلم بالحديث في شيء منها، وقد رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] نحو ثمانية عشر صحابياً، حتى قال ابن عبد البر: إنه لم يأت فيه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] خلاف. وفي " تنوير العينين ": " إن وضع اليد على الأخرى أولى من الإرسال؛ لأن الإرسال لم يثبت عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، ولا عن أصحابه، بل ثبت الوضع بروايات صحيحة ثابتة عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وعن أصحابه - رضي الله تعالى عنهم -، كما روى مالك في " الموطأ "، والبخاري في " صحيحه " عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة "؛ قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] . وروى الترمذي عن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه، قال الترمذي: وفي الباب عن وائل بن حجر، وغطيف بن الحارث، وابن عباس، وابن مسعود، وسهل بن سعد. قال أبو عيسى: حديث هلب حديث حسن.
والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] والتابعين ومن بعدهم: يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة. ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة. ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم ". انتهى. وكذلك أخرج مسلم عن وائل بن حجر، وابن مسعود. والنسائي عن وائل بن حجر. والبخاري، والحاكم عن علي. وابن أبي شيبة عن غطيف بن الحارث، وقبيصة بن هلب عن أبيه، ووائل بن حجر، وعلي، وأبي بكر الصديق، وأبي الدرداء، أنه قال: من أخلاق النبيين: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وعن الحسن، أنه قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة " (¬1) . وهكذا أخرج عن أبي مجلز، وأبي عثمان النهدي، ومجاهد، وأبي الجوزاء. ¬
وأما ما روي من الإرسال عن بعض التابعين - من نحو الحسن، وإبراهيم، وابن المسيب، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، كما أخرجه ابن أبي شيبة -: فإن بلغ عندهم حديث الوضع؛ فمحمول على أنه لم يحسبوه سنة من سنن الهدى، بل حسبوه عادة من العادات، فمالوا إلى الإرسال؛ لأصالته مع جواز الوضع، فعملوا بالإرسال بناء على الأصل؛ إذ الوضع أمر جديد يحتاج إلى الدليل، وإذ لا دليل لهم؛ فاضطروا إلى الإرسال، لا أنه ثبت عندهم الإرسال، وإلى ذلك يشير قول ابن سيرين حيث سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله؟ قال: إنما فعل ذلك من أجل الدم. كما أخرج ابن أبي شيبة. وأما ما أخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه! فهي رواية شاذة مخالفة لما روى الثقات عنه. كما أخرج أبو داود عن زرعة بن عبد الرحمن، قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة. وإن سُلّم كونها صحيحة؛ فهذه فعله، والفعل لا عموم له، ورواية الوضع عنه مرفوعة لأنه نسبه إلى السنة، وقول الصحابي: من السنة؛ في حكم الرفع، كما حُقق في كتب أصول الحديث. ومع هذا لعله لم ير الوضع من سنن الهدى، وفهم الصحابي ليس بحجة - كما مضى -، لا سيما إذا كان مخالفاً لأجله الصحابة، كأميري المؤمنين أبي بكر الصديق، وعلي المرتضى، وابن عباس، وابن مسعود، وسهل بن سعد، ونحوهم.
على أنها مخالفة للأحاديث المرفوعة المشهورة، وأعمال الصحابة المستفيضة في باب الوضع، فينبغي أن لا يعوّل عليها، وتسقط على الاعتبار ولا يلتفت إليها. وأما مالك بن أنس: فقد اضطربت الروايات عنه: فالمدنيون من أصحابه رووا عنه أمر الوضع مطلقاً، سواء كان في الفرض أو النفل، كما يشهد به حديث " الموطأ " عن سهل بن سعد، وأثره عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري. والمصريون من أصحابه رووا عنه الإرسال في الفرض والوضع في النفل. وعبد الرحمن بن القاسم روى عنه الإرسال مطلقاً. وروى أشهب عنه إباحة الوضع. وتلك الروايات - أي: روايات المصريين وابن القاسم عنه - وإن عمل بها المتأخرون من المالكية، لكنها روايات شاذة مخالفة لرواية جمهور أصحابه، فلا تخرق الإجماع والاتفاق، ولا تصادم ما ادعينا من الإطباق، ولكونها شاذة أولها ابن الحاجب في " مختصره في الفقه " بالاعتماد على الأرض إذا رفع رأسه من السجدة ونهض إلى القيام. ووضع اليدين تحت السرة وفوقها متساويان؛ لأن كلا منهما مروي عن أصحاب النبي -[صلى الله عليه وسلم]-:
أخرج أبو داود، وأحمد، وابن أبي شيبة عن علي (¬1) : السنة وضع الكف في الصلاة تحت السرة. رواه رزين وغيره. في " سفر السعادة ": وضع الكف تحت الصدر في " صحيح ابن خزيمة ". قال الترمذي: رأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم؛ كما ذكرناه سابقا. وقال الشيخ ابن الهمام: " ولم يثبت حديث صحيح يوجب (¬2) العمل في كون الوضع تحت الصدر، وفي كونه تحت السرة، والمعهود من الحنفية هو كونه تحت السرة، وعن الشافعية تحت الصدر، وعند أحمد قولان كالمذهبين، والتحقيق المساواة بينهما؛ كما ذكرنا سابقا، والله - تعالى - أعلم بأحكامه ". انتهى. وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " بعد تخريج الأخبار والآثار في وضع اليمنى على اليسرى: رُدّت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحب إليّ! ولا أعلم شيئاً ردت به سواه. انتهى. ¬
التوجه بعد تكبيرة الإحرام
وفي " حاشية الشفاء ": " ومن الغرائب أنها صارت في هذه الديار، وفي هذه الأعصار - عند العامة ومن يشابههم، ممن يظن أنه قد ارتفع عن طبقتهم - من أعظم المنكرات، حتى إن المتمسك بها يصير في اعتقاد كثير في عداد الخارجين عن الدين، فترى الأخ يعادي أخاه، والوالد يفارق ولده، إذا رآه يفعل واحدة منها - أي: من هذه السنن -، وكأنه صار متمسكاً بدين آخر، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل النفس، أو يعق أحد أبويه، أو يشهد الزور، أو يحلف الفجور: لم يجر بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسك بهذه السنن أو ببعضها، لا جرم هذه علامات آخر الزمان، ودلائل حضور القيامة وقرب الساعة ". انتهى. والإشارة بقوله: " بهذه السنن "؛ إلى رفع اليدين في المواضع الأربعة، وضم اليدين في الصلاة. قال: وأعجب من فعل العامة الجهلة وأغرب: سكوت علماء الدين وأئمة المسلمين عن الإنكار على من جعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتلاعب بالدين وبسنة سيد المرسلين. انتهى. (3 -[التوجه بعد تكبيرة الإحرام] :) (والتوجه) : فقد وردت فيه أحاديث بألفاظ مختلفة، ويجزئ التوجه بواحد منها، إذا خرج من مخرج صحيح، وأصحها الاستفتاح المروي من حديث أبي هريرة، وهو في " الصحيحين " وغيرهما، بل قد قيل: إنه تواتر لفظاً، وهو: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب،
اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ". قال في " الحجة ": " وقد صح في ذلك صيغ منها: " اللهم باعد بيني. . " إلى آخره، ومنها: " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا، شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " (¬1) ومنها: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك "، ومنها: " الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، والحمد لله كثيراً - ثلاثاً -، وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - ". والأصل في الاستفتاح حديث علي - في الجملة -، وأبي هريرة، وعائشة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم، وحديث عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة، وثوبان، وكعب بن عجرة في سائر المواضع، وغير هؤلاء ". انتهى ملخصاً. قلت: ذهب الشافعي في دعاء الافتتاح إلى حديث علي - رضي الله تعالى عنه -: " إني وجهت وجهي ... " الخ. وأبو حنيفة إلى حديث عائشة: " سبحانك اللهم وبحمدك ... " الخ. وقال مالك: لا نقول شيئاً من ذلك. ¬
التعوذ قبل القراءة
ومعنى قوله عندي؛ أنه ليس بسنة لازمة. وأشار البغوي إلى أن الاختلاف في أذكار الصلاة من دعاء الافتتاح، وذكر الركوع والسجود، وما بعد التشهد - بين الأئمة - من الاختلاف المباح. فذكر كل أصح ما عنده، وليس أحد ينكر ما عند الآخر. (بعد التكبيرة) : لأنه لم يأت في ذلك خلاف عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، بل كل من روى عنه الاستفتاح روى أنه بعد التكبيرة، ولم يأت في شيء أنه توجه قبلها، وقد أوضح ذلك العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء ". وأما ما يتوجه به: فهو الذي ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]- وفيه الصحيح والأصح، والوقوف على ذلك ممكن بالنظر في مختصر من مختصرات الحديث، وسبحان الله وبحمده {ما فعلت هذه المذاهب بأهلها؟} (4 -[التعوذ قبل القراءة] :) (و) أما (التعوذ) : فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يفعله بعد الاستفتاح قبل القراءة؛ ولفظه: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "؛ كما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " من حديث أبي سعيد الخدري. قال في " الحجة ": ثم يتعوذ؛ لقوله - تعالى -: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ، وفي التعوذ صيغ؛ منها: " أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم "، ومنها: " أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " (¬1) ، ثم يبسمل سرا؛ لما شرع الله - تعالى - لنا من تقديم التبرك باسم الله - تعالى - على القراءة، ولأن فيه احتياطاً، إذ قد اختلفت الرواية؛ هل هي آية من الفاتحة أم لا؟ فقد صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه كان يفتتح الصلاة؛ أي: القراءة ب {الحمد لله رب العالمين} ، ولا يجهر ب {بسم الله الرحمن الرحيم} . انتهى. أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات: الأولى: في كونها قرآنا في كل سورة أم لا؟ الثانية: في قراءتها في الصلاة، أو سرا في السرية وجهراً في الجهرية؟ ولأهل العلم في كل طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة، والقراء؛ منهم من يقرؤها في أول كل سورة، ومنهم من لا يقرؤها. وقد أورد شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. والحاصل: أن الحق ثبوت قراءتها، وأنها آية من كل سورة، وأنها تُقرأ في الصلاة؛ جهراً في الجهرية وسرا في السرية، وأحاديث عدم سماع جهره [صلى الله عليه وسلم] بها؛ وإن كانت صحيحة؛ فالجمع بينها وبين أحاديث الجهر ممكن؛ بأن يُحمل نفي من نفى على أنه عرض له مانع من سماعها، فإن وقت قراءة ¬
التأمين
الإمام لها وقت اشتغال المؤتم بالدخول في الصلاة، والإحرام والتوجه، وتكبير القائمين إلى الصلاة، ورواة الإسرار هم مثل أنس وعبد الله بن مغفل، وهم - إذ ذاك - من صغار الصحابة، قد لا يقفون في الصفوف المتقدمة لأنها موقف كبار الصحابة، كما ورد الدليل بذلك. وعلى كل تقدير: فالمثبت مقدم على النافي، وأحاديث الجهر و - إن كانت غير سليمة من المقال -؛ فهي قد بلغت في الكثرة إلى حد يشهد بعضها لبعض، مع كونها معتضدة بالرسم في المصاحف، وهو دليل علمي - كما قاله العضد وغيره -، فقد وافقت سائر الآيات القرآنية في ذلك، فالظاهر مع من قال بأن صفتها وصفة سائر الآيات متفقة. وأما ما في " تنوير العينين " من أن ترك الجهر بالتسمية أولى من الجهر بها؛ لأن رواية ترك جهره أكثر وأوضح من جهره (¬1) . انتهى: فقد دفعه ما تقدم آنفاً. (5 -[التأمين] :) (و) أما (التأمين) : فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثاً، وربما تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمّن إمامه، كما في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " إذا أمّن الإمام فأمنوا "؛ فيكون ما في المتن مقيدا بغير المؤتم إذا أمّن إمامه. وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم. ¬
ومما يؤكد مشروعيته: أن فيه إغاظة لليهود؛ لما أخرجه أحمد، وابن ماجه (¬1) ، والطبراني من حديث عائشة مرفوعاً: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: آمين ". قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " السنة المحكمة الصحيحة؛ الجهر بآمين في الصلاة؛ كقوله في " الصحيحين ": " إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له "، ولولا جهره بالتأمين؛ لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين. وأصرح من هذا؛ حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حُجْر بن عنبس، عن وائل بن حجر، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا قال: {ولا الضالين} ؛ قال: " آمين "، ورفع بها صوته. وفي لفظ: وطول بها؛ رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح. وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث، فقال: وخفض بها صوته. وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان؛ فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل في هذا الباب؛ أصح من حديث شعبة، وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال: عن حجر أبي العنبس {وإنما كنيته: أبو السكن، وزاد فيه: عن علقمة ابن وائل} وإنما هو: حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر؛ ليس فيه: علقمة، ¬
قراءة سورة أو آية مع الفاتحة
وقال: وخفض بها صوته، والصحيح: أنه جهر بها. قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة، إذا اختلفا؟ فقال: القول قول سفيان ... ، إلى قوله: " فرُد هذا كله بقوله - تعالى -: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} ، والذي نزلت عليه هذه الآية؛ هو الذي رفع صوته بالتأمين، والذين أمروا بها؛ رفعوا به أصواتهم، ولا معارضة بين هذه الآية والسنة بوجه ما ". اه. ثم أطال ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة وتقريرها، تركنا ذكرها مخافة الإطالة. وفي " تنوير العينين " يظهر - بعد التعمق في الروايات والتحقيق - أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه، لأن رواية جهره أكثر وأوضح من خفضه اه. (6 -[قراءة سورة أو آية مع الفاتحة] :) (وقراءة غير الفاتحة معها) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقرأ في الظهر؛ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. وورد ما يُشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين، كحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره أن يخرج، فينادي: " لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد "، أخرجه أحمد، وأبو داود؛ وفي إسناده مقال!
ولكنه قد أخرج مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً "؛ وقد أعلها البخاري في " جزء القراءة " (¬1) . وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ: أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة ب {الحمد} وسورة "؛ وهو حديث ضعيف. وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير تقييد، بل مجرد الآية الواحدة يكفي، وأما زيادة على ذلك - كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأولتين -؛ فليس بواجب، فيكون ما في المتن مقيداً بما فوق الآية. قال في " الحجة البالغة ": " ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من القرآن ترتيلا، يمد الحروف، ويقف على رؤوس الآي، يخافت في الظهر والعصر، ويجهر الإمام في الفجر والمغرب والعشاء، ويقرأ في الفجر ستين آية إلى مئة؛ تداركاً لقلة ركعاته بطول قراءته، وفي العشاء {سبح اسم ربك الأعلى} ، ¬
التشهد الأوسط
{والليل إذا يغشى} ومثلهما، وحُمل الظهر على الفجر، والعصر على العشاء، وفي بعض الروايات: الظهر على العشاء، والعصر على المغرب، وفي بعضها: وفي المغرب بقصار المفصل؛ لضيق الوقت ". انتهى. (7 -[التشهد الأوسط] :) (و) أما (التشهد الأوسط) : فلم يرد فيه ألفاظ تخصه، بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير، ولكنه يسرع بذلك. وفي " حاشية الشفاء " للشوكاني - رحمه الله -: " وأما ما يقال فيه؛ فهو ما يقال في التشهد الأخير سواء بسواء؛ إلا ما ورد تخصيصه بالآخر؛ فيختص به، وظاهر الأدلة الواردة في التشهد شامل للتشهدين جميعاً، إلا أنه ينبغي تخفيفه كما ورد الدليل بذلك، وأقل ما يقال فيه تشهد ابن مسعود، ويُضم إليه الصلاة على النبي وآله [صلى الله عليه وسلم] بأخصر لفظ، فهذا لا ينافي التخفيف المشروع ". انتهى. وقد روى أحمد، والنسائي من حديث ابن مسعود قال: إن محمداً قال: " إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه؛ فليدع به ربه - عز وجل - "، ورجاله ثقات. وأخرجه الترمذي بلفظ: علمنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا قعدنا في الركعتين.
فالتقييد بالقعود في كل ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط، ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقد شرعها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في التشهد مقترنة بالسلام على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، كما ورد بلفظ: قد علمنا كيف السلام عليك؛ فكيف الصلاة؟ وهو في " الصحيحين " من حديث كعب ابن عجرة. وفي رواية من حديث ابن مسعود: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجباً ولا قعوده لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] تركه سهوا، فسبَّح الصحابة، فلم يعد له، بل استمر وسجد للسهو، فلو كان واجباً؛ لعاد له عند ذهاب السهو بوقوع التنبيه من الصحابة؛ فلا يقال: إن سجود السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير الواجب! لأنا نقول: محل الدليل ههنا هو عدم العود لفعله بعد التنبيه على السهو. أقول: لا ريب أنه [صلى الله عليه وسلم] لازم التشهد الأوسط، ولم يثبت في حديث من الأحاديث الحاكية لفعله [صلى الله عليه وسلم] أنه تركه مرة واحدة، ولكن هذا القدر لا يثبت به الوجوب، وإن كان بيانا لمجمل واجب، وانضم إليه حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي "؛ لأن الاقتصار في حديث المسيء على بعض ما كان يفعله دون بعض يشعر بعدم وجوب ما لم يذكر فيه، وأحاديث التشهد الصحيحة التي فيها لفظ " قولوا " - وإن كان أصل الأمر للوجوب -؛ لكنه مصروف عن حقيقته بحديث المسيء. ويشكل على ذلك قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا
التشهد ... الحديث؛ فإن هذه العبارة تدل على أن التشهد من المفترضات، ويمكن أن يقال: إن فهم ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه من مجالات الاجتهادات، واجتهاده ليس بحجة على أحد (¬1) ، وأيضا: بعض التشهد تعليم كيفية، وتعليم الكيفيات - وإن كان بلفظ الأمر - لا يدل على وجوبها، وما نحن بصدده من ذلك؛ فإنه وقع في جواب: كيف نصلي عليك؟ وإنما كان كذلك؛ لأن جواب السائل عن الكيفية يكون بالأمر، وإن كانت غير واجبة إجماعاً، تقول: كيف أغسل ثوبي وأحمل متاعي: فيقول المسؤول: افعل كذا؛ غير مريد لإيجاب ذلك عليك، بل لمجرد التعليم للهيئة المسؤول عنها ب (كيف؟) ؛ فلا بد أن يكون الشيء المسؤول عن كيفيته قد وجب بدليل آخر غير تعليم الكيفية (¬2) . وقد وقع في بعض طرق حديث المسيء ذكر للتشهد فراجعه في الموطن، فإن صحت تلك الطرق؛ كانت هي المفيدة للوجوب، أما حديث: " إذا أحدث المصلي بعد آخر سجدة ": فليس مما تقوم به الحجة؛ فليعلم. ¬
الأذكار الواردة في الصلاة
(8 -[الأذكار الواردة في الصلاة] :) (و) أما (الأذكار الواردة في كل ركن) : فكثيرة جدا: منها تكبير الركوع والسجود، والرفع والخفض، كما دل عليه حديث ابن مسعود، قال: رأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] يكبر في كل رفع وخفض، وقيام وقعود. وأخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه -. وأخرج نحوه البخاري، ومسلم من حديث عمران بن حصين. وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث؛ إلا عند الارتفاع من الركوع؛ فإن الإمام والمنفرد يقولان: " سمع الله لمن حمده "، والمؤتم يقول: " اللهم ربنا {ولك الحمد " (¬1) ؛ وهو في " الصحيح " من حديث أبي موسى. قال في " حاشية الشفاء ": الظاهر من الأدلة أن الإمام والمنفرد يجمعان بين السمعلة والحمدلة، فيقولان: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا} ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "، وأما المؤتم ففيه احتمال (1) ، وقد أوضحت الصواب فيه في " شرح المنتقى ". انتهى. قال ابن القيم في " الإعلام ": السنة الصريحة في قول الإمام: " ربنا! لك الحمد "؛ كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا ¬
قال: " سمع الله لمن حمده "؛ قال: " اللهم ربنا {لك الحمد ". وفيهما - أيضا - عنه: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: " سمع الله لمن حمده " حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: " ربنا} لك الحمد ". وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا {لك الحمد ": فرُدّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا} لك الحمد ". انتهى. وأما ذكر الركوع فهو: " سبحان ربي العظيم "؛ وذكر السجود: " سبحان ربي الأعلى "، ويدعو بعد ذلك بما أحب من المأثور وغيره، وأقل ما يستحب من التسبيح في الركوع والسجود ثلاث؛ لحديث ابن مسعود: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات؛ فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات؛ فقد تم سجوده، وذلك أدناه "، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ وفي إسناده انقطاع. وأما ذكر الاعتدال: فقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عباس: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " اللهم ربنا! لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ".
الاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة
وأما الذكر بين السجدتين: فقد روى الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - من حديث ابن عباس: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقول بين السجدتين: " اللهم! اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني ". أقول: قد بين لنا [صلى الله عليه وسلم] كيفية تسبيح الركوع والسجود بيانا شافيا، نقله لنا عنه الذين نقلوا إلينا سائر الأحكام الشرعية، فقالوا: كان يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، وفي سجوده: " سبحان ربي الأعلى "، وكذلك أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] قولاً. وأما التقييد بعدد مخصوص: فلم يرد ما يدل عليه؛ إنما كان الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير مختلفة، والتطويل في الصلاة من السنن الثابتة؛ ما لم يكن المصلي إماماً لقوم؛ فإنه يصلي بهم صلاة أخفهم كما أرشد إليه -[صلى الله عليه وسلم]-. (9 -[الاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة] :) (و) الأحاديث في الأذكار الكائنة في الصلاة كثيرة جدا، فينبغي (الاستكثار من الدعاء) في الصلاة. (بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد) : والأوْلى أن يأتي بهذه الأذكار قبل الرواتب؛ فإنه جاء في بعض الأذكار ما يدل على ذلك، كقوله: " من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله ... " (¬1) الخ، وكقول الراوي: كان إذا سلم من صلاته يقول بصوته ¬
الأعلى: لا إله إلا الله ... " الخ، قال ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- بالتكبير (¬1) . وفي بعضها ما يدل ظاهراً كقوله: " دبر كل صلاة ". وأما قول عائشة: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: " اللهم أنت السلام ... " الخ فيحتمل وجوها ذكرتها في " شرح بلوغ المرام ". وبالجملة: فالأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن؛ من قرأ منها شيئا فاز بالثواب الموعود. وهذا الباب يحتمل البسط، وليس المراد هنا إلا الإشارة إلى ما يُحتاج إليه. وقد ذكر الماتن هذه المسائل والأذكار في " شرح المنتقى "، وأورد كل ما يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. ¬
باب متى تبطل الصلاة وعمن تسقط
(5 - باب متى تبطل الصلاة؟ وعمن تسقط؟) ( [الفصل الأول] ) ( [ما لا يجوز في الصلاة] :) (1 -[الكلام] :) (وتبطل الصلاة بالكلام) : لحديث زيد بن أرقم في " الصحيحين " وغيرهما، قال: كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل منا صاحبه حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} ؛ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وهكذا حديث ابن مسعود في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " إن في الصلاة لشغلا ". وفي رواية لأحمد، والنسائي، وأبي داود، وابن حبان في " صحيحه ": " إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإنه أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة ". ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته، وإنما الخلاف في كلام الساهي، ومن لم يعلم بأنه ممنوع. فأما من لم يعلم؛ فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلمي الثابت في
" الصحيح " أنه لا يعيد، وقد كان شأنه [صلى الله عليه وسلم] أن لا يحرج على الجاهل، ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال، بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه، وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء. وأما كلام الساهي والناسي؛ فالظاهر أنه لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال الصلاة. قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة، وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام ثم نسخ. وفيه بحث؛ لأن تحريم الكلام كان بمكة، وهذه القصة بالمدينة. وقال الشافعي: كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكلام العامد يبطلها ولو قل، وتأويل الحديث عنده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان ناسيا، بانيا كلامه على أن الصلاة تمت وهو نسيان، وكلام ذي اليدين على توهم قصر الصلاة؛ فكان حكمه حكم الناسي، وكلام القوم كان جوابا للرسول، وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة. وقال مالك: إن كان كلام العمد يسيرا لإصلاح الصلاة لا يبطل، مثل أن يقال: لم تكمل، فيقول: قد أكملت، وحديث: نهينا عن الكلام، و: " لا تكلموا ": خص منه هذا النوع من الكلام. كذا في " المسوى ". أقول: أما فساد صلاة من تكلم ساهيا؛ فلا أعرف دليلا يدل عليه؛ إلا عموم حديث النهي عن الكلام، وهو مخصص بمثل حديث تكلمه [صلى الله عليه وسلم] بعد أن سلم على ركعتين، كما في حديث ذي اليدين، فإنه تكلم في تلك الحال
الاشتغال بما ليس منها
ساهيا عن كونه مصليا، وهو المراد بكلام الساهي؛ لأن المراد إصدار الكلام من غير قصد. فإن قيل: إن ثم فرقا بين من تكلم وهو داخل الصلاة لم يخرج منها، وبين من تكلم وقد خرج منها ساهيا؛ فإن الأول أوقع الكلام حال الصلاة، والآخر أوقعه خارجها، واعتداده بما قد فعله قبل الخروج ساهيا؛ لا يوجب كونه بعد الخروج قبل الرجوع في الصلاة؛ وأدل دليل على ذلك: تكبيره للدخول بعد الخروج سهوا. فيقال: الأدلة الواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك العموم، فاقتضى ذلك أن المفسد هو كلام العامد لا كلام الساهي. وأما عدم أمره لمعاوية بن الحكم بالإعادة - كما في الحديث -: فيمكن أن يكون لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام الساهي، ويمكن أن يكون الجهل عذرا بمجرده. (2 -[الاشتغال بما ليس منها] :) (وبالاشتغال بما ليس منها) : وذلك مقيد بأن يخرج به المصلي عن هيئة الصلاة، كمن يشتغل مثلا بخياطة، أو نجارة، أو مشي كثير، أو التفات طويل، أو نحو ذلك. وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة المطلوبة من المصلي قد صارت بذلك الفعل متغيرة عما كانت عليه، حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده مصليا. أقول: اختلفت أنظار أهل العلم في تعريف الفعل الكثير المفسد للصلاة
والمبطل لها، والذي أراه طريقا إلى معرفة الفعل الكثير؛ أن ينظر المتكلم في ذلك إلى ما صدر منه [صلى الله عليه وسلم] من الأفعال، مثل حمله لأمامة بنت أبي العاص، وطلوعه ونزوله في المنبر وهو في حال الصلاة، ونحو ذلك مما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ؛ لا لإصلاح الصلاة، فيحكم بأنه غير كثير، وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة؛ مثل خلعه [صلى الله عليه وسلم] للنعل، وإذنه بمقاتلة الحية - وما أشبه ذلك -؛ ينبغي الحكم بأنه غير كثير بالأولى، وما خرج عن الواقع من أفعاله، والمسوغ بأقواله، فهو فعل غير مشروع، ورجع في كونه مفسدا وغير مفسد إلى الدليل، فإن ورد ما يدل على أحد الطرفين كان العمل عليه، وإن لم يرد فالأصل الصحة، والفساد خلاف الأصل، لا يصار إليه إلا لقيام دليل يدل على الفساد، ولكنه إذا صدر من المصلي من الأفعال - التي لمجرد العبث - ما يخرج به عن هيئة من يؤدي هذه العبادة؛ مثل أن يشتغل بعمل من الأعمال التي لا مدخل لها في الصلاة، ولا في إصلاحها؛ نحو حمل الأثقال، والخياطة، والنسخ ونحو ذلك: فهذا غير مصل. فإذا قال قائل بفساد صلاته؛ فهو من حيث إنه قد فعل ما ينافي الصلاة. وأما الاستدلال بحديث: " اسكنوا في الصلاة ": فهو - مع كونه لا يفيد إلا الوجوب، والواجب لا يستلزم عدمه فساد ما هو واجب فيه -: مخصص بجميع ما فعله [صلى الله عليه وسلم] ، أو أذن به، أو قرره. وما خرج عن ذلك؛ ففعله غير جائز، بل يجب تركه فقط؛ فمن تركه كان ممدوحا، ومن فعله كان مذموما.
ومن قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده (¬1) ، والنهي يقتضي الفساد - كما هو مذهب طائفة من أهل الأصول -: فغاية ما هناك أن ذلك الفعل الذي فعله ولم يتركه - كما يجب عليه - فاسد، وأما كون الصلاة التي فعل فيها ذلك الفعل فاسدة؛ فشيء آخر. قال مجد الدين الفيروزآبادي في " الصراط المستقيم ": " ولسماع بكاء الطفل كان يخفف الصلاة، وأحيانا كان يتعلق به وهو في الصلاة طفل فيحمله على عاتقه، وأحيانا كان يأتي الحسين وهو في السجود، فيركب على ظهره المبارك، فيطيل السجود لأجله، وأحيانا كانت عائشة تأتي وهو في الصلاة؛ وقد غلق الباب، فيخطو ليفتح الباب لها، وأحيانا كان يسلم عليه وهو في الصلاة، فيجيب بالإشارة باسطا يده، وقد يومئ برأسه المبارك، وكانت عائشة نائمة تجاه صلاته، فكان عند السجود يضع يده على رجلها؛ لتخلي مكان السجود بضم رجلها، وكان قد يصل إلى آية السجدة على المنبر، فيهبط إلى الأرض ليسجد ثم يصعد، واختصم وليدتان من بني عبد المطلب، فتصارعتا، فلما دنتا منه أمسكهما بيده وفرق بينهما (¬2) ، وكان يبكي في الصلاة كثيرا، ويتنحنح أحيانا لحاجة، ويصلي منتعلا وغير منتعل، وقال: " صلوا في نعالكم خلافا لليهود ". اه. قال في " الحجة البالغة ": " إن النبي [صلى الله عليه وسلم] قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للمشروع، وقرر على أشياء، فذلك وما دونه لا يبطل الصلاة. والحاصل من الاستقراء: أن القول اليسير - مثل: ألعنك بلعنة الله، ¬
ويرحمك الله، وياثكل أماه {وما شأنكم تنظرون إلي؟} والبطش اليسير مثل وضع صبية من العاتق ورفعها، وغمز الرجل، ومثل فتح الباب، والمشي اليسير؛ كالنزول من درج المنبر إلى مكان - ليتأتى منه السجود في أصل المنبر -، والتأخر من موضع الإمام إلى الصف، والتقدم إلى الباب المقابل ليفتح، والبكاء خوفا من الله - تعالى -، والإشارة المفهمة، وقتل الحية والعقرب، واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق -: لا يفسد، وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه - إذا لم يكن بفعله، أو كان لا يعلمه - لا يفسد ". اه. قلت: اتفقوا على أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة. في " العالمكيرية " (¬1) : إن حمل صبيا أو ثوبا على عاتقه؛ لم تفسد صلاته، وإن حمل شيئا يتكلف في حمله؛ فسدت. وفي " المنهاج ": الكثرة بالعرف، فالخطوتان والضربتان قليل، والثلاث كثير، وتبطل بالوثبة الفاحشة، لا الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أصابعه في سبحة، أو حك - في الأصح -. وفي " العالمكيرية ": لو فتح على غير إمامه تفسد؛ إلا إذا عنى به التلاوة دون التعليم، وإن فتح على إمامه؛ فالصحيح لا تفسد بحال. وفي " المنهاج ": " لو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم، ك {يا يحيى خذ الكتاب} ، قصد معه قراءة؛ لم تفسد، وإلا بطلت "؛ كذا في " المسوى ". ¬
ترك شرط أو ركن عمدا
(3 -[ترك شرط أو ركن عمدا] :) (وبترك شرط) : كالوضوء، فلأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط. (أو ركن) : لكون ذهابه يوجب خروج الصلاة عن هيئتها المطلوبة. (عمدا) ، وإذا ترك الركن فما فوقه سهوا فعله، وإن كان قد خرج عن الصلاة، كما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- في حديث ذي اليدين؛ فإنه سلم على ركعتين ثم أخبر بذلك، فكبر وفعل الركعتين المتروكتين. وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات؛ فلا تبطل به الصلاة؛ لأنه لا يؤثر عدمه في عدمها، بل حقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة. والحاصل: أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، نحو أن يقول الشارع: من لم يفعل كذا فلا صلاة له، أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة، أو بعدم القبول أو الأجر، أو يثبت عنه النهي عن الإتيان بالمشروط بدون الشرط؛ لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق. وأما كون الشيء واجبا: فهو يثبت بمجرد طلبه من الشارع، ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون الشيء واجبا، فتدبر هذا؛ تسلم من الخبط والخلط.
الفصل الثاني على من تجب الصلوات الخمس وعمن تسقط
( [الفصل الثاني: على من تجب الصلوات الخمس؟ وعمن تسقط؟] ) ( [تجب الصلاة على المكلف] :) (ولا تجب) الصلوات المكتوبة الخمس (على غير مكلف) : لأن خطاب التكليف لا يتناول غير مكلف، ولا خلاف في ذلك في الواجبات الشرعية. وأما ما ورد من تعويد الصبيان وتمرينهم: فالخطاب في ذلك للمكلفين، والوجوب عليهم لا على الصغار. ( [عمن تسقط الصلاة؟] :) (1 -[عن العاجز عن الإشارة] :) (وتسقط عمن عجز عن الإشارة) : لأن إيجابها على المريض مع بلوغه إلى ذلك الحد؛ هو من تكليف ما لا يطاق، ولم يكلف الله - تعالى - أحدا فوق طاقته. (2 -[عن المغمى عليه حتى خرج وقتها] :) (و) كذلك (عمن أغمي عليه حتى خرج وقتها) : فلا وجوب عليه؛ لأنه غير مكلف في الوقت. ( [كيف يصلي المريض؟] :) (ويصلي المريض قائما ثم قاعدا ثم على جنب) : لحديث عمران بن
حصين عند البخاري، وأهل " السنن "، وغيرهم قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- عن الصلاة؟ فقال: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب "؛ وقد نطق بمضمون ذلك القرآن الكريم. وإذا تعذر على المصلي صفة من صفات صلاة العليل الواردة؛ أتى بالصلاة على صفة أخرى مما ورد، ثم يفعل ما قدر عليه ودخل تحت استطاعته: {فاتقوا الله ما استطعتم} ، " وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
باب صلاة التطوع
(6 - باب صلاة التطوع) ( [دليل مشروعية سنة الظهر والعصر] :) (هي: أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر) : لما ثبت في ذلك من حديث أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من صلى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعا بعدها؛ حرمه الله على النار "؛ رواه أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان -. قال في " سفر السعادة ": وكان يفصل بين هذه الأربع بتسليمتين. قال أمير المؤمنين علي: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يصلي قبل الظهر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم (¬1) على الملائكة المقربين، ومن معهم من المسلمين والمؤمنين؛ رواه أحمد، والترمذي - محسنا -. اه. وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان وابن خزيمة -. ( [دليل مشروعية سنة المغرب] :) (وركعتان بعد المغرب) : قال في " سفر السعادة ": وفي سنة المغرب سنتان: ¬
دليل مشروعية سنة العشاء والفجر
إحداهما: أن لا يتكلم بينهما وبين الفريضة؛ لما في الحديث: " من صلى ركعتين بعد المغرب - قال مكحول: يعني قبل أن يتكلم -: رُفعت صلاته في عليين " (¬1) . الثانية: أن تكون في البيت: دخل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مسجد بني الأشهل وصلى المغرب، فلما فرغ رأى أهل المسجد اشتغلوا بصلاة السنة، فقال: " هذه صلاة البيوت " (¬2) ، وفي لفظ ابن ماجه: " اركعوا هاتين في بيوتكم " (¬3) . حاصله: أن عادة حضرة سيدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان يصلي جميع السنن في بيته؛ إلا أن يكون بسبب، وكان يقول: " أيها الناس! صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة " اه. وقال - أيضا -: وكان الصحابة يصلون قبل المغرب ركعتين، ولم يمنعهم [صلى الله عليه وسلم] من ذلك، وثبت في " الصحيحين "؛ أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " صلوا قبل المغرب "، وقال في الثالثة: " لمن شاء "؛ كراهة أن يتخذها الناس سنة، فصلاتها مندوبة مستحبة، لكن لا تبلغ درجة الرواتب. اه. ( [دليل مشروعية سنة العشاء والفجر] :) (وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر، قال: حفظت عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- ¬
ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة ". وأخرج - نحوه - مسلم في " صحيحه "، وأحمد، والترمذي - وصححه - من حديث عبد الله بن شقيق. وأخرج - نحوه - مسلم، وأهل " السنن " من حديث أم حبيبة. ولا ينافي هذا ما تقدم من الدليل الدال على مشروعية أربع قبل الظهر وأربع بعده؛ لأن هذه زيادة مقبولة. وثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر. وثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديثها: " أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها ". وفيهما أحاديث كثيرة. قال في " سفر السعادة ": وكان يحافظ على ركعتي الفجر؛ بحيث إنه كان يواظب عليهما في السفر أيضا، ولم يرو أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى في السفر شيئا من السنن الرواتب؛ إلا سنة الفجر وصلاة الوتر. وللعلماء في أفضلية سنة الفجر وصلاة الوتر قولان: قال بعضهم: سنة الفجر آكد.
دليل مشروعية سنة الضحى
وقال بعضهم: بل الوتر. وكما أن الوتر واجب عند البعض؛ كذا سنة الفجر تجب عند البعض (¬1) . وقال بعض المشايخ: سنة الفجر ابتداء العمل، والوتر ختم العمل، فلا جرم صرفنا العناية لشأنهما، ولهذا السبب شُرع فيهما قراءة سورة الإخلاص، وسورة {قل يا} (¬2) ؛ لاشتمالهما على توحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، كما بيناه في كتاب " حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص " (¬3) . اه. ( [دليل مشروعية سنة الضحى] :) (وصلاة الضحى) ؛ والأحاديث فيها متواترة عن جماعة من الصحابة. وأقلها ركعتان،؛ كما في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة؛ كما دلت على ذلك الأدلة. وفي " الحجة البالغة ": وللضحى ثلاث درجات: أقلها ركعتان، وفيها أنها تجزي عن الصدقات الواجبة على كل سلامي ابن آدم. وثانيتها: أربع ركعات، وفيها عن الله - تعالى -: " يا ابن آدم {اركع لي أربع ركعات من أول النهار؛ أكفك آخره ". وثالثها: ما زاد عليها؛ كثماني ركعات وثنتي عشرة. ¬
سنة صلاة الليل
وأكمل أوقاته؛ حين يرتحل النهار وترمض الفصال (¬1) . اه. ( [سنة صلاة الليل] :) (وصلاة الليل) ؛ والأحاديث فيها صحيحة متواترة، لا يتسع المقام لبسطها: قال - تعالى -: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا} ، وقال [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا بالليل والناس نيام ". وكانت العناية بصلاة التهجد أكثر، فبين [صلى الله عليه وسلم] فضائلها، وضبط آدابها وأذكارها، قال: " عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، مكفرة للسيئات، منهاة عن الإثم " (¬2) ؛ وغير ذلك. (وأكثرها ثلاث عشرة ركعة) ، وقد كان -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي صلاة الليل على أنحاء مختلفة، فتارة يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر بركعة، وتارة يصلي أربعا أربعا، وتارة يجمع بين زيادة على الأربع، وذلك كله سنة ثابتة. قال في " الحجة البالغة ": صلاها النبي [صلى الله عليه وسلم] على وجوه، والكل سنة. قال في " المنح " (¬3) : " قالت عائشة: ولا أعلم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح ". اه. ¬
سنة الوتر
( [سنة الوتر] :) (يوتر في آخرها بركعة) : إما منفردة أو منضمة إلى شفع قبلها. قال ابن القيم: " ووردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة، كحديث أم سلمة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يوتر بسبع وبخمس، لا يفصل بسلام ولا كلام؛ رواه أحمد، وكقول عائشة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن " متفق عليه، وكحديث عائشة: أنه يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخذه اللحم؛ أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول "، وفي لفظ عنها: فلما أسن وأخذه اللحم؛ أوتر بسبع ركعات، لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، وفي لفظ: صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن. وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها، فرُدّت بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلاة الليل مثنى مثنى "؛ وهو حديث صحيح، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس، وسنته كلها حق يصدق بعضها بعضا، فالنبي [صلى الله عليه وسلم] أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها: " مثنى مثنى "، ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة: فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة عما قبلها، وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة،؛ كان الوتر
بيان وقت الوتر
اسم الركعة المفصولة وحدها، كما قال [صلى الله عليه وسلم] : " صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة؛ توتر له ما قد صلى "، فاتفق فعله [صلى الله عليه وسلم] وقوله، وصدق بعضه بعضا ". اه. والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي، وابن عمر، وعبادة ابن الصامت، وإليه ذهب أكثر العلماء، إلا أبا حنيفة خاصة؛ فإنه واجب على الصحيح عنده، وثلاث ركعات لا يزيد ولا ينقص! قال في " المسوى ": " وأقل الوتر ركعة في قول أكثرهم، وأكثره إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، وأدنى الكمال ثلاث، وما زاد فهو أفضل ". اه. وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا صلاها ثلاثا؛ يقرأ في الأولى ب {سبح اسم ربك الأعلى} ، وفي الثانية ب {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الثالثة ب {قل هو الله أحد} والمعوذتين. ( [بيان وقت الوتر] :) أقول: دلت الأخبار على أن وقت الوتر بعد الفراغ من العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر، وهذا هو عين ما أفتى به أبو موسى، وفتواه هي الثابتة عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخرجه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أوتروا قبل أن تصبحوا ". وأخرج ابن حبان عنه [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " إذا طلع الفجر؛ فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر ".
والأحاديث في الباب كثيرة، والأحاديث الثابتة في إيتاره [صلى الله عليه وسلم] بركعة أكثر من أن تحصى، فهي صالحة لتخصيص ما هو من العمومات في أعلى طبقة، فكيف بما لا صحة له قط؟ {وحديث البتيراء لم يصح (¬1) . والذي ينبغي التعويل عليه في دفع الوجوب؛ الأحاديث المصرحة بأن الوتر غير واجب. والوتر عبارة عن آخر صلاة الليل؛ وقد ثبت في ذلك صفات متعددة بأحاديث صحيحة - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك -. والحاصل: أن لصلاة الليل - باعتبار وترها - ثلاث عشرة صفة، كما ذكر ذلك ابن حزم في " المحلى "، فالقول بأن الوتر ثلاث ركعات فقط لا يجوز أن يكون الإيتار بغيرها} ضيق عطن، وقصور باع، ولمثل هذا صار أكثر فقهاء العصر لا يعرفون الوتر إلا بأنها ثلاث ركعات بعد صلاة العشاء، حتى إن كثيراً منهم يكون له قيام في الليل وتهجد، فتراه يصلي الركعات المتعددة ويظن أن الوتر شيء قد فعله، وأنه لا يتعلق له بهذه الصلاة التي يفعلها في الليل، وهو لا يدري أن الوتر هو ختام صلاة الليل، وأنه لا صلاة بعده إلا الركعتان المعروفتان بسنة الفجر، وكثيرا ما يقع الإنسان في الابتداع وهو يظن أنه في الاتباع! والسبب عدم الشغل بالعلم وسؤال أهل الذكر. وأما ما روي عن الحسن البصري، أنه قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن (¬2) : ¬
سنة تحية المسجد
فإن أراد أن الإجماع وقع على هذا القدر، وأنه لا يجوز الإيتار بغيره: فهو من البطلان بمكان لا يخفى على عارف، فهذه الدفاتر الإسلامية الحاكية لمذاهب الصحابة الذين أدركهم الحسن البصري، ولمذاهب التابعين الذين هو واحد منهم، قاضية بخلاف هذه الحكاية، وهي بين أيدينا. وإن أراد أن هذه الصفة هي إحدى صفات الوتر: فنحن نقول بموجب ذلك، فقد روي الإيتار بثلاث، ولكنه روي النهي عن الإيتار بثلاث (¬1) كما أوضح ذلك الماتن رحمه الله - في " شرح المنتقى "، فتعارضت رواية الثلاث ورواية النهي. والعالم بكيفية الاستدلال لا يخفى عليه الصواب، وقد تقدم أن حديث البتيراء لا أصل له (¬2) ، على أن النسخ لا يتم ادعاؤه إلا بعد معرفة التاريخ؛ لأن الناسخ لا يكون إلا متأخرا بإجماع المسلمين القائلين بثبوت أصل النسخ في هذه الشريعة المطهرة، فدعوى النسخ بمجرد الاحتمال مجازفة عظيمة، ولا سيما إذا كان المدعي لذلك لم يتعب نفسه في علوم السنة المطهرة. ( [سنة تحية المسجد] :) (وتحية المسجد) : لحديث " إذا دخل أحدكم المسجد؛ فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "؛ أخرجه الجماعة من حديث أبي قتادة، وفي ذلك أحاديث كثيرة. ¬
صلاة الاستخارة
وقد وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد، وذهب أهل الظاهر إلى أنهما واجبتان، وذلك غير بعيد (¬1) ، وقد حقق الماتن المقام في " شرح المنتقى "، وفي رسالة مستقلة. ( [صلاة الاستخارة] :) (و) صلاة (الاستخارة) ، وفيها أحاديث كثيرة منها: حديث جابر عند البخاري وغيره؛ بلفظ: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها؛ كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا همّ أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم {إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم} إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به - قال -، ويسمي حاجته ". قال في " الحجة البالغة ": وعندي أن إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب بتحصيل شبه الملائكة، وضبط النبي [صلى الله عليه وسلم] آدابها ودعاءها، فشرع ركعتين، وعلّم: اللهم! إني أستخيرك ... الخ. اه. ¬
صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة
( [صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة] :) (وركعتان بين كل أذان وإقامة) : لحديث: " بين كل أذانين صلاة "، قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " لمن شاء "؛ وهو حديث صحيح. والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة تغليبا؛ كالقمرين والعمرين.
باب صلاة الجماعة
(7 - باب صلاة الجماعة) ( [حكم صلاة الجماعة] :) (هي من آكد السنن) وأعظم الشعائر الإسلامية وأفضل القرب الدينية؛ لما ورد فيها من الترغيبات، حتى إنه [صلى الله عليه وسلم] صرح بأنها تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة؛ كما في " الصحيحين "، ووقع منه الإخبار بأنه قد هم بأن يحرق على المتخلفين دورهم. قال ابن القيم: ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة، فترك الصلاة في الجماعة هو من الكبائر. اه. ولازمها [صلى الله عليه وسلم] من الوقت الذي شرعها الله - تعالى - فيه إلى أن قبضه الله - تعالى - إليه، ولم يرخص [صلى الله عليه وسلم] في تركها لمن سمع النداء، فإنه سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: " هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: " فأجب "، وكل ما ذكرناه ثابت في " الصحيح ". وثبت في " الصحيح " أيضا عن ابن مسعود، أنه قال: " لقد رأيتنا؛ وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ". قال ابن القيم: وهذا فوق الكبيرة. اه.
" ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف " (¬1) . أقول: أما كونها فريضة متحتمة؛ فالأدلة متعارضة، ولكن ههنا طريقة أصولية يجمع بها بين هذه الأدلة؛ وهي أن أحاديث أفضلية الجماعة مشعرة بأن صلاة المنفرد مجزئة، وهي أحاديث كثيرة؛ مثل حديث: " الذي ينتظر الصلاة مع الإمام؛ أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام "؛ وهو في " الصحيح ". ومنه حديث المسيء صلاته - المشهور -؛ فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفردا. ومنه حديث: " ألا رجل يتصدق على هذا؟ " عند أن رأى رجلا يصلي منفردا. ومن ذلك أحاديث التعليم لأركان الإسلام؛ فإنه لم يأمر من علمه بأن لا يصلي إلا في جماعة، مع أنه قال لمن قال له؛ لا يزيد على ذلك ولا ينقص: " أفلح - وأبيه (¬2) - إن صدق ". ونحو ذلك من الأدلة؛ فالجميع صالح لصرف: " فلا صلاة له "؛ الواقع في الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة إلى نفي الكمال، لا إلى نفي الصحة. ¬
وأما ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الهم بتحريق المتخلفين: فهو وإن لم يكن قولا ولا فعلا ولا تقريرا، لكنه لا يكون ما يهم به إلا جائزا، ولا يجوز التحريق بالنار لمن ترك ما لم يفرض عليه: فالجواب عنه قد بسطه شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ". قال في " الحجة البالغة ": لما كان في شهود الجماعة حرج للضعيف، والسقيم، وذي الحاجة: اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك؛ ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط. فمن أنواع الحرج؛ ليلة ذات برد ومطر، ويستحب عند ذلك قول المؤذن: ألا صلوا في الرحال (¬1) . ومنها حاجة يعسر التربص بها كالعشاء إذا حضر؛ فإنه ربما يتشوف إليه، وربما يضيع الطعام. وكمدافعة الأخبثين؛ فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة، مع ما به من اشتغال النفس. ولا اختلاف بين حديث: " لا صلاة بحضرة الطعام "، وحديث: " لا تؤخر الصلاة لطعام ولا غيره " (¬2) ؛ إذ يمكن تنزيل كل واحد على صورة أو معنى، والمراد نفي وجوب الحضور؛ سدا لباب التعمق، وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن شر التعمق، وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين، ¬
ما القدر الذي تنعقد به صلاة الجماعة
أو التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام أو خوف ضياع، وعدمه - إذا لم يكن كذلك - مأخوذ من حال العلة. ومنها ما إذا كانت خوف فتنة؛ كامرأة أصابت بخورا، ولا اختلاف بين قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها "، وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن؛ إذ المنهي عنه الغيرة التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة، والجائز ما فيه خوف الفتنة، وذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الغيرة غيرتان ... " (¬1) الحديث، وحديث عائشة: أن النساء أحدثن ... الحديث. ومنها الخوف والمرض، والأمر فيهما ظاهر، ومعنى قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعمى: " أتسمع النداء؟ ... " الخ: أن سؤاله كان في العزيمة، فلم يرخص له. ( [ما القدر الذي تنعقد به صلاة الجماعة؟] :) (وتنعقد باثنين) ، وليس في ذلك خلاف، وقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عباس: أنه صلى بالليل مع النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وحده، وقام (¬2) عن يساره، فأداره إلى يمينه. ( [يزداد ثواب الجماعة بازدياد العدد] :) (وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر) : لأنه قد ثبت عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " صلاة الرجل مع ¬
تصح إمامة المفضول للفاضل
الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، وصححه ابن السكن، والعقيلي، والحاكم. ( [تصح إمامة المفضول للفاضل] :) (ويصح بعد (¬1) المفضول) : لأنه -[صلى الله عليه وسلم]- قد صلى بعد أبي بكر، وبعد غيره من الصحابة؛ كما في " الصحيح "، ولعدم وجود دليل يدل على أنه يكون الإمام أفضل، والأحاديث التي فيها: " لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه " (¬2) ، ونحوها: لا تقوم بها الحجة، وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة؛ فليس فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في دينه، وليس فيها المنع من إمامة المفضول. وقد عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر، وخلف من قال: لا إله إلا الله؛ وهي ضعيفة، وليست بأضعف مما عارضها { ¬
الأولى أن يكون الإمام من الخيار
والأصل أن الصلاة عبادة تصح تأديتها خلف كل مصل، إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة، وإن كان الإمام غير متجنب للمعاصي، ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه غيره، ولهذا إن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة والعلم والسن، ولم يعتبر الورع والعدالة، فقال: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا " أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود. وفي حديث مالك بن الحويرث: " وليؤمكما أكبركما "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وقد استخلف النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم، وهو أعمى. والحاصل: أن الشارع اعتبر الأفضلية في القراءة، والعلم بالسنة، وقدم الهجرة، وعلو السن، فلا ينبغي للمفضول في مثل هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه، ولا اعتبار بالفضل في غير ذلك. ( [الأولى أن يكون الإمام من الخيار] :) (والأولى أن يكون الإمام من الخيار) : لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم "، رواه الدارقطني (¬1) . ¬
وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " إن سركم أن تقبل صلاتكم؛ فيؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم " (¬1) . قال في " منح المنة ": وكان [صلى الله عليه وسلم] يجيز إمامة الأرقاء، وكان سالم - مولى أبي حذيفة - يصلي بالمهاجرين الأولين لما نزلوا بقباء (¬2) لكونه أكثرهم قرآنا، وكان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " صلوا خلف كل بر وفاجر " (¬3) ، وكانت الصحابة يصلون خلف الحجاج (¬4) ، وقد أحصي الذين قتلهم من الصحابة والتابعين، فبلغوا مئة ألف وعشرين ألفا. اه. أقول: الأحاديث الواردة - في الصلاة خلف كل بر وفاجر، وما قابلها من الأحاديث المقتضية للمنع من الصلاة خلف الفاجر، ومن كان ذا جرأة -: لم يبلغ منها شيء إلى حد يجوز العمل عليه، فوجب الرجوع إلى الأصل. وأما عدم اعتبار قيد العدالة: فلعدم ورود دليل يدل عليه. وأما كون الصلاة خلف كامل العدالة، واسع العلم، كثير الورع؛ أفضل وأحب: فلا نزاع في ذلك؛ إنما النزاع في كون ذلك شرطا من شروط الجماعة، مع أنه قد ثبت ما يدل على عدم الاعتبار، مثل حديث: " يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فعلى أنفسهم " - أو كما قال -، وهو حديث صحيح. ¬
والحاصل: أن الدين يسر، وقد جاءنا [صلى الله عليه وسلم] بالشريعة السمحة السهلة، ولم يأمرنا بالكشف عن الحقائق، وسن لنا أن نصلي بعد من كان بالنسبة إلى الواحد منا في الحضيض، باعتبار المزايا الموجبة للفضل، فإنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بعد أبي بكر، وعتاب بن أسيد (¬1) ، وهما بالنسبة إليه لا يعدان شيئا. ولا ريب أن الذي ينبغي تقديمه لمثل هذه العبادة، ليكون وافد المؤتمين به إلى الله: هو من أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " يؤم القوم أقرأهم ... " إلى آخر الحديث. إنما الشأن فيمن يلعب به الشيطان في الوسوسة المفضية إلى إساءة الظن بأئمة الصلاة المتبعين للسنة، فيوقع في قلبه العداوة لكل واحد منهم، بمجرد خيالات مختلة وضلالات مضلة، فيقول له: هذا العالم لا يصلح للإمامة لكونه كذا {وهذا الفاضل لا يصلح لها لكونه كذا} (¬2) ثم ينقله من درجة إلى درجة، ومن واحد إلى واحد، حتى لا يجد على ظهر البسيطة من يصلح لإمامة الصلاة {فهذا مخدوع؛ قد لعب به الشيطان كيف يشاء، حتى أحرمه (¬3) فضيلة الجماعة التي هي من أعظم شعائر الإسلام، وأجل أسباب الأجور، ومع هذا؛ فهو قد أوقعه في ورطة أخرى، وهي حمل جميع المسلمين على غير السلامة، فصار ظالما لكل واحد منهم مظلمة يستوفيها منه بين يدي الجبار. ¬
الرجل يؤم النساء لا العكس
وقد ينضم إلى هذه المصائب أن هذا الذي صار في يد الشيطان يلعب به كيف يشاء؛ قد يعتقد الفضل في نفسه، وأن الإمامة لم تكن تصلح إلا له، ولم يكن يصلح إلا لها، فيجتنب الجماعة ولا يقتدي بأحد من المسلمين، بل يجمع له جماعة يكون إمامهم، فهو أشقى ممن قبله؛ لأنه اعتقد أنه لم يبق في أرض الله من عباده الصلحاء سواه، فلا حياه الله ولا بياه! ( [الرجل يؤم النساء، لا العكس] :) (ويؤم الرجل بالنساء، لا العكس) : لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما: أنه صف هو واليتيم وراء النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والعجوز من ورائهم. وقد أخرج الإسماعيلي (¬1) عن عائشة، أنها قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا رجع من المسجد صلى بنا. وقد كانت النساء يصلين خلفه [صلى الله عليه وسلم] في مسجده. وليس في صلاة النساء خلف الرجل مع الرجال نزاع، وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط، ومن زعم أن ذلك لا يصح؛ فعليه الدليل. وأما عدم صحة إمامة المرأة بالرجل؛ فلأنها عورة، وناقصة عقل ودين، والرجال قوامون على النساء، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، كما ثبت في " الصحيح "، ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته. ¬
يؤم المفترض بالمتنفل والعكس
( [يؤم المفترض بالمتنفل، والعكس] :) (والمفترض بالمتنفل، والعكس) : لحديث معاذ: أنه كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وهذا دليل على جواز ذلك؛ لأنه كان متنفلا وهم مفترضون؛ لما في بعض الروايات من تصريح معاذ بأنه كان يصلي بقومه متنفلا، وهذه الزيادة المصرحة بالمطلوب - وإن كان فيها مقال معروف (¬1) - لكنها معتضدة بما عرف من حرص الصحابة على الأوفر أجرا، والأكمل ثوابا، ولا شك أن الصلاة خلفه [صلى الله عليه وسلم] أفضل وأكمل وأتم. وأما الجواب عن حديث معاذ؛ بأنه حكاية فعل: فساقط لاستلزامه لبطلان قسم من أقسام السنة المطهرة، وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه رحى بيانات القرآن، وجماهير من أحكام الشريعة. مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا؛ لأن الحجة هي تقريره [صلى الله عليه وسلم] لمعاذ ولقومه على ذلك، لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك! وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة: فكلام صحيح، ولكن الحجة ليست فعل معاذ؛ بل تقريره [صلى الله عليه وسلم]- كما عرفت -. وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى. والحاصل: أن الأصل صحة الاقتداء من كل مصل بكل مصل، فمن ¬
تجب متابعة الإمام في غير مبطل
زعم أن ثمّ مانعاً في بعض الصور؛ فعليه الدليل، فإن نهض به صح ما يقوله، وإن لم ينهض به بطل. وأما صلاة المتنفل بعد المتنفل؛ فكما فعله [صلى الله عليه وسلم] في صلاة الليل، وصلى معه ابن عباس، وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك، والكل ثابت في " الصحيح ". ( [تجب متابعة الإمام في غير مبطل] :) (وتجب المتابعة في غير مبطل) : لحديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه " وهو ثابت في " الصحيح " من حديث أبي هريرة، وأنس، وجابر، وثابت خارج " الصحيح " عن جماعة من الصحابة. وورد الوعيد على المخالفة، كحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أما يخشى أحدكم - إذا رفع رأسه قبل الإمام - أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يحول صورته صورة حمار؟ ! - "؛ أخرجه الجماعة. ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته، نحو أن يتكلم الإمام، أو يفعل أفعالاً تخرجه عن صورة المصلي، ولا خلاف في ذلك. قال في " المسوى ": هو كذلك عند الجمهور؛ أنه يجب اتباع الإمام في جميع الحالات، وقوله: " إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً " منسوخ (¬1) . ¬
ومعنى: كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر - على الصحيح -: أنه كان ¬
لا يؤم رجل قوما يكرهونه
مسمعا لمن خلفه. في " العالمكيرية ": إذا رفع المقتدي رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام ينبغي أن يعود، ولا يصير ركوعين وسجودين. قلت: عامة أهل العلم على أن هذا الفعل منهي عنه، وصلاته مجزئة، وأكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود. ( [لا يؤم رجل قوما يكرهونه] :) (ولا يؤم الرجل قوما هم له كارهون) : لحديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من يقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً، ورجل اعتبد محررة "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه؛ وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه ضعف (¬1) . وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون "، وقد حسنه الترمذي، وضعفه البيهقي (¬2) . قال النووي في " الخلاصة ": والأرجح قول الترمذي. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا. ¬
أقول: ظاهر الأحاديث الواردة في الترهيب عن ذلك؛ أنه لا فرق بين كون الكارهين من أهل الفضل أو من غيرهم، فيكون مجرد حصول الكراهة عذرا لمن كان يصلح للإمامة في تركها. وغالب الكراهات الكائنة بين هذا النوع الإنساني - خصوصا في هذه الأزمنة - راجعة إلى أغراض دنيوية { والراجع هنا إلى أغراض دينية أقل قليل، ومع كونه كذلك؛ فغالبه صادر عن اعتقادات فاسدة، وخيالات مختلفة، كما يقع بين المتخالفين في المذاهب، فإن العصبية الناشئة بينهم تعمي بصائرهم عن الصواب، فلا يقيم أحدهم للآخر وزنا، ولا ينظر إليه إلا بعين السخط لا بعين الرضا، فيرى محاسنه مساوئ كائنة ما كانت. وقد تقع هذه العداوة بين أهل مذهب واحد؛ باعتبار الاختلاف في كون أحدهم من المشتغلين بالدين والعلم، والآخر من الجهلة المتهتكين. وكثيرا ما ترى أرباب المعاصي إذا رأوا أرباب الدين والعلم تضيق بهم الأرض بطولها والعرض، ولا يطيقونهم بغضا (¬1) . فإن كان ثَمّ دليل يدل على تخصيص الكراهة بما كان منها راجعاً إلى ما هو مختص بالله - عز وجل -، كمن يكره إنسانا لكونه مكبا على المعاصي، أو متهاونا بما أوجبه الله عليه: فهذه الكراهة هي الكبريت الأحمر} لا توجد حقيقتها إلا عند أفراد من العباد. ¬
من أم فليخفف
وإن لم يوجد دليل يخصص الكراهة بذلك: فالأولى لمن عرف أن جماعة من الناس يكرهونه - لا لسبب، أو لسبب ديني -: أن لا يؤمهم؛ وأجره في الترك يفضل أجره في الفعل. ( [من أمّ فليخفف] :) (ويصلي بهم صلاة أخفهم) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه؛ فليطول ما شاء ". وفي الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف. قال في " الحجة ": وكان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يطول ويخفف على ما يرى من المصلحة الخاصة بالوقت، واختار بعض السور في بعض الصلوات لفوائد، من غير حتم ولا طلب مؤكد، فمن اتبع فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، وقصة معاذ في الإطالة مشهورة. انتهى حاصله. وأما ارتفاع الإمام عن المأموم: فلا يضر؛ قدر القامة ولا فوقها، لا في المسجد ولا في غيره، من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض، والبعد والحائل، ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة؛ فعليه الدليل. ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة: أنه أم الناس بالمدائن على دكان ... الحديث؛ أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
لا يؤم الرجل في سلطانه
وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر؛ وفيه: قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا أمّ الرجل القوم: فلا يقم أرفع من مقامهم - أو نحو ذلك - ... " الحديث، وفي إسناده الرجل المجهول. ورواه البيهقي أيضا. ففي هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه؛ لحديث صلاته [صلى الله عليه وسلم] على المنبر كما في " الصحيحين " وغيرهما. ومن قال: إنه [صلى الله عليه وسلم] فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث: فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره. ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي [صلى الله عليه وسلم] . وقد جمع الماتن - رحمه الله تعالى - في هذا البحث رسالة مستقلة؛ جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها. ( [لا يؤم الرجل في سلطانه] :) (ويقدم السلطان ورب المنزل) : لما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعاً: " لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه "، وفي لفظ: " لا يؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه ". وورد تقييد جواز ذلك بالإذن.
الترتيب في الأحق بالإمامة
وفي لفظ لأبي داود " لا يُؤم الرجل في بيته ". وأخرج أحمد وأبو داود: والترمذي، والنسائي عن مالك بن الحويرث، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من زار قوما فلا يؤمهم، ليؤمهم رجل منهم ". ( [الترتيب في الأحق بالإمامة] :) (والأقرأ، ثم الأعلم، ثم الأسن) : لما في حديث أبي مسعود بلفظ: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة؛ فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً "، وهو في " الصحيح ". وإنما لم يذكر الهجرة في المتن؛ لأنه لا هجرة بعد الفتح، كما في الحديث الصحيح. ( [اختلال صلاة الإمام عليه فقط] :) (وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه، لا على المؤتمين به) : لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " يصلون بكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم "، أخرجه البخاري وغيره. وأخرج ابن ماجه من حديث سهل بن سعد نحوه. ( [بيان موقف المؤتمين] :) (وموقفهم) ، أي: المؤتمين (خلفه) ؛ أي: خلف الإمام (إلا الواحد فعن
إمامة النساء وسط الصف
يمينه) : لحديث جابر بن عبد الله: أنه صلى مع النبي [صلى الله عليه وسلم] فجعله عن يمينه، ثم جاء آخر، فقام عن يسار النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأخذ بأيديهما، فدفعهما حتى أقامهما خلفه. وهو في " الصحيح ". وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة؛ يقف الواحد عن يمين الإمام، والإثنان فما زاد خلفه. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك. وقال سعيد بن المسيب: إنه مندوب فقط. وروي عن النخعي: أن الواحد يقف خلف الإمام. ( [إمامة النساء وسط الصف] :) (وإمامة النساء وسط الصف) : لما روي من فعل عائشة: أنها أمّت النساء فقامت وسط الصف؛ أخرجه عبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي، وابن أبي شيبة، والحاكم (¬1) . وروي مثل ذلك عن أم سلمة؛ أخرجه الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني. ¬
قال ابن القيم: في " المسند " و " السنن " (¬1) من حديث عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت الحارث: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا. ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ": لكفى. وأخرج البيهقي بسنده عن عائشة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا خير في جماعة النساء؛ إلا في صلاة أو جنازة " (¬2) . والاعتماد على ما تقدم. فرُدّت هذه السنن بالمتشابه من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "، رواه البخاري. وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء. وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة: فلا تدخل في هذا. ومن العجب: أن من خالف هذه السنة جوّز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين {فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم، ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن؟} انتهى حاصله. ¬
بيان ترتيب المؤتمين
( [بيان ترتيب المؤتمين] :) (وتقدم صفوف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء) : لحديث أبي مالك الأشعري: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يجعل الرجال قدّام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان. أخرجه أحمد. وأخرج بعضه أبو داود؛ وفي إسناده شهر بن حوشب (¬1) . ويؤيده ما في " الصحيحين " من حديث أنس: أنه قام هو واليتيم خلف النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ وأم سليم خلفهم. (و) أما كون (الأحق بالصف الأول) هم (أولو الأحلام والنهى) : فلحديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في " الصحيح " أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي (¬2) ، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يحب أن يليه المهاجرون والأنصار؛ ليأخذوا عنه. قال في " الحجة ": ولئلا يشق على أولي الأحلام تقديم من دونهم عليهم. انتهى. ¬
على المؤتمين تسوية الصفوف
( [على المؤتمين تسوية الصفوف] :) (و) أما كون الأمر (على الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل) (¬1) : فلما رواه أبو داود (¬2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وسِّطوا الإمام، وسدوا الخلل ". وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ". وعنه أيضا في " الصحيحين ": كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر، فيقول: " تراصوا واعتدلوا ". وثبت في " الصحيح " من حديث نعمان بن بشير، أنه قال -[صلى الله عليه وسلم]-: " عباد الله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ". قلت: وهو قول أهل العلم؛ أن تسوية الصفوف سنة. ( [إتمام الصف الأول، ثم الذي يليه] :) (وأن يتموا الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم كذلك) : لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمره -[صلى الله عليه وسلم]- بإتمام الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم كذلك. ¬
فالسنة أن لا يقف المؤتم في الصف الثاني؛ وفي الصف الأول سعة، ثم لا يقف في الصف الثالث؛ وفي الصف الثاني سعة، ثم كذلك. وورد أيضا أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل. وأما الاعتداد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعا: ففيه خلاف لجماعة من الأئمة، والحق عدم الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة الفاتحة (¬1) ، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليرجع إلى: " شرح المنتقى "، و " طيب النشر "، و " السيل الجرار " و " حاشية الشفاء "، و " الفتح الرباني "، و " دليل الطالب "، فالمسألة من المعارك. وأما جعل ما أدركه مع الإمام: أول صلاته؛ فهذا هو الحق، فالهيئة المشروعة في الصلاة لا تتغير بتقديم أو تأخير؛ بل الأصل الأصيل البقاء على الصفة المشروعة، فيفعل الداخل مع الإمام - بعد أن فاته بعض الركعات - ما يفعله لو كان داخلا معه في الابتداء، أو كان منفرداً. وحديث " فاقضوا " - وإن كان صحيحاً - فحديث " أتموا " أصح منه (¬2) . ¬
وقد أمكن الجمع؛ بحمل معنى القضاء على التمام؛ لأنه أحد معانيه (¬1) ، ولكن يترك المؤتم مخالفة إمامه في الأركان، فلا يقعد في موضع ليس بموضع قعود للإمام، وإن كان موضع قعود له، ولا يدع القعود في موضع قعود للإمام، وإن لم يكن موضع قعود له؛ لأن الاقتداء والمتابعة لازمان في صلاة الجماعة، وتركهما يخرج الصلاة عن كونها صلاة جماعة، وقد ورد الأمر بالمتابعة في الأركان بيانا لقوله: " لا تختلفوا على إمامكم "، ولم يرد الأمر بذلك في الأذكار. ¬
باب سجود السهو
(8 - باب سجود السهو) سنّ رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- فيما إذا قصّر الإنسان في صلاته؛ أن يسجد سجدتين تداركاً لما فرّط، ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة، والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة؛ وسيأتي. قال في " سِفر السعادة ": " من جملة منن الحق - تعالى - ونعمه على الأمة المحمدية: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يسهو في الصلاة، لتقتدي الأمة به في التشريع، وإذ ذاك يقول: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني " وقال: " إنما أَنسى أو أُنسى لأسُنّ " (¬1) ؛ يعني: لأسُنّ ما شُرع في جبر ذلك ". انتهى. ( [ما هو سجود السهو؟] :) (هو سجدتان قبل التسليم أو بعده) ، ووجه التخيير: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صح عنه أنه سجد قبل التسليم، وصح عنه أنه سجد بعده. أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل التسليم: فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين! فليجعلها ¬
واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا {فليجعلها ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا} فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس - قبل أن يسلم - سجدتين ". وفي الباب أحاديث: منها ما هو في " الصحيح "؛ كحديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا! فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ". ومنها ما هو في غير " الصحيحين ". وأما ما صح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم: فكحديث ذي اليدين الثابت في " الصحيحين "؛ فإن فيه أنه -[صلى الله عليه وسلم]- سجد بعد ما سلم. وحديث ابن مسعود وهو في " الصحيحين " وغيرهما مرفوعا بلفظ: " إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين ". وحديث المغيرة بن شعبة: أنه صلى بقوم، فترك التشهد الأوسط، فلما فرغ من صلاته، سلم ثم سجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع بنا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-. رواه أحمد والترمذي - وصححه -. وحديث ابن مسعود الثابت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال:
" لا؛ وما ذاك؟ ! " فقالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم، وتارة بعده: تدل على أنه يجوز جميع ذلك. ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه الشارع، فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم، ويسجد بعد التسليم فيما أرشد فيه إلى السجود بعد التسليم، وما عدا ذلك؛ فهو بالخيار، والكل سنة. قال في " سفر السعادة ": وسجد للسهو قبل السلام في بعض المواضع، وبعده في بعضها، فجعله الإمام الشافعي في كل حال قبل السلام. والإمام أبو حنيفة جعله بعد السلام في كل حال. وقال الإمام مالك: يسجد لسهو النقصان قبل السلام، ولسهو الزيادة في الصلاة بعد السلام، وإن اجتمع سهوان، أحدهما زائد والآخر ناقص؛ يسجد لهما قبل السلام. " وقال الإمام أحمد: يسجد قبل السلام في المحل الذي سجد فيه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قبل السلام، وما عداه يسجد للسهو بعد السلام. وقال داود الظاهري: لا يسجد للسهو إلا في هذه المواطن الخمس التي سجد فيها رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، ولو سها في غيرها
لا يسجد للسهو، ولم يعرض له -[صلى الله عليه وسلم]- الشك في الصلاة، لكن قال: " من شك فليبن على اليقين "، ولم يعتبر الشك، ويسجد للسهو قبل السلام. وقال الإمام أبو حنيفة: إن كان له ظن بنى علي غالب ظنه، وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين. وقال الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد: بنى على اليقين مطلقا. انتهى. ولا يشك منصف أن الأحاديث الصحيحة مصرحة بأنه كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام، وفي بعضها بعد السلام، فالجزم بأن محلهما بعد السلام فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة، لا لموجب إلا لمجرد مخالفتها لما قاله فلان أو فلان! كما أن الجزم بأن محلهما قبل التسليم فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لمثل ذلك. والمذاهب في المسألة منتشرة؛ قد بسطها الماتن في " شرح المنتقى ". والحق عندي: أن الكل جائز وسنة ثابتة، والمصلي مخير بين أن يسجد قبل أن يسلم: أو بعد أن يسلم، وهذا فيما كان من السهو غير موافق للسهو الذي سجد له [صلى الله عليه وسلم] قبل السلام أو بعده. وأما في السهو الذي سجد له [صلى الله عليه وسلم] : فينبغي الاقتداء به في ذلك، وإيقاع السجود في المواضع الذي أوقعه فيه -[صلى الله عليه وسلم]- مع الموافقة في السهو، وهي مواضع محصورة مشهورة، يعرفها من له اشتغال بعلم السنة المطهرة.
بم يكون سجود السهو
( [بم يكون سجود السهو؟] :) (و) أما كون سجود السهو (بإحرام وتشهد وتحليل) : فقد ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه كبّر وسلّم؛ كما في حديث ذي اليدين الثابت في " الصحيح "، وفي غيره من الأحاديث. وأما التشهد: فلحديث عمران بن حصين: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم. أخرجه أبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين (¬1) . وقد روي نحو ذلك من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة. ( [أسباب سجود السهو] :) (1 -[لترك مسنون] :) (و) أما كونه (يشرع لترك مسنون) : فلحديث سجوده -[صلى الله عليه وسلم]- لترك التشهد الأوسط، ولحديث: " لكل سهو سجدتان " (¬2) ، ¬
والكلام فيه معروف. ونحو ذلك إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهوا؛ لأنه قد ثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان، كما في حديث أبي سعيد الثابت في " الصحيح "، ولا يكون الترغيم إلا مع السهو؛ لأنه من قبل الشيطان. وأما مع العمد: فهو من قبل المصلي، وقد فاته ثواب تلك السنة. قلت: مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن من سلم من ركعتين ساهيا أتم وسجد سجدتين، وهو في مذهب أبي حنيفة خاص بمن سلم على رأس الركعتين على ظن أنهما أربعة، فلو سلم على رأسهما على ظن أنهما جمعة أو على أنه مسافر؛ فإنه يستقبل الصلاة. كذا في " العالمكيرية " في فصل المفسدات. واستخرج له الشافعي علة، وهي فعل شيء يبطل الصلاة، عمده دون سهوه. أقول ما وقع من اصطلاح الفقهاء على تسميته هيئة؛ هو لا يخرج به عن كونه مندوبا، وتخصيص وجوب السجود للسهو بترك ما كان مسنونا دون ما كان مندوبا لا دليل عليه، ولا سيما وهذه الأسماء إنما هي اصطلاحات حادثة. وإلا؛ فالمسنون والمندوب إليه معناهما - لغة - أعم من معناهما اصطلاحا، وأيضا الفرق بين المسنون والمندوب إنما هو اصطلاح لبعض أهل الأصول دون جمهورهم. وغاية ما هناك: أن المسنون هو المندوب المؤكد، وصدق اسم السهو على
لزيادة ركعة
ترك المندوب كصدقه على ترك المسنون، فيندرج تحت حديث: " لكل سهو سجدتان "، وتحقق الزيادة والنقص حاصل لكل واحد منهما، فمدعي التفرقة بينهما مطالب بالدليل (¬1) . ولا ريب أن بعض ما عدوه من الهيئات لا يتحقق، مثل ترك نصب القدم، وترك وضع اليدين. (2 -[لزيادة ركعة] :) (و) أما كونه يشرع (للزيادة ولو ركعة سهوا) : فللحديث المتقدم، وما دون الركعة بالأولى. قال في " المسوى ": " عند الحنفية: إن سها عن القعدة الآخرة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة؛ ما لم يسجد، وتشهد ثم سجد للسهو، وإن قيد الخامسة بالسجدة بطل فرضه، ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم؛ عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة، وسلم وسجد للسهو، وإن قيدها بالسجدة تم فرضه؛ فيضم إليها ركعة أخرى لتكونا تطوعا، فإن لم يضم وقطع الصلاة لم يلزمه القضاء؛ لأنه إنما شرع ظنا. وعند الشافعية: في أية حالة ذكر أنها خامسة؛ قعد وألغى الزائد، وراعى ترتيب الصلاة مما قبل الزائد، ثم سجد للسهو، وفي معنى الركعة عنده الركوع والسجود. ويتجه على مذهب الحنفية أن يقال في حديث ابن مسعود: إنه حكاية ¬
عند الشك في العدد
حال؛ فلعله قام بعد القعدة ولم يضم السادسة؛ لبيان أنه غير واجب ". انتهى. (3 -[عند الشك في العدد] :) (و) أما (للشك في العدد) : ففيه الأحاديث المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على اليقين وسجد للسهو. قال في " الحجة البالغة ": " وهو الأول من المواضع الأربع التي ظهر فيها النص، وفي معناه الشك في الركوع والسجود. والثاني: زيادة الركعة كما سبق، وفي معناه زيادة الركن. والثالث: أنه [صلى الله عليه وسلم] سلم من ركعتين، فقيل له في ذلك؟ فصلى ما ترك وسجد سجدتين، وأيضا روي أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله، وفي معناه أن يفعل سهوا ما يبطل عمده. الرابع: أنه [صلى الله عليه وسلم] قام من الركعتين - كما مر -، وفي معناه ترك التشهد في القعود، وقوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قام الإمام من الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس، وإن استوى قائما؛ فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو ". أقول: في الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء؛ ربما يستوي؛ فإنه لا يجلس؛ خلافا لما عليه العامة " (¬1) . انتهى. وفي " المسوى ": " اختلفوا في ذلك: ¬
متابعة الإمام في سجود السهو
فعند الشافعية: إذا شك في صلاته بنى على اليقين؛ وهو الأقل؛ سواء كان شك في ركعة أو ركن. وعند الحنفية: إن كان ذلك أول مرة سها؛ يستقبل الصلاة، وإن كان يعرض له كثيرا؛ بنى على أكبر رأيه؛ لحديث ابن مسعود: " إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب ". وقال أحمد: يطرح الشك؛ إما بأخذ الأقل وإما بالتحري، فإن اختار الأول؛ سجد قبل السلام، وإن اختار الثاني؛ سجد بعده ". انتهى. ( [متابعة الإمام في سجود السهو] :) (وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم) : لأن ذلك من تمام الصلاة، ولأنه كان يسجد الصحابة إذا سجد النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقد ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق.
باب القضاء للفوائت
(9 - باب القضاء للفوائت) ( [الاختلاف في قضاء الفوائت المتروكة] :) (إن كان الترك عمدا - لا لعذر - فدين الله تعالى أحق أن يقضى) : وقد اختلف أهل العلم في قضاء الفوائت المتروكة لا لعذر: فذهب الجمهور إلى وجوب القضاء. وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا قضاء على العامد غير المعذور، بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة، وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية. ولم يأت الجمهور بدليل يدل على ذلك، ولم أجد أنا دليلا لهم من كتاب ولا سنة؛ إلا ما ورد في حديث الخثعمية؛ حيث قال لها النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " فدين الله أحق أن يقضى "، وهو حديث صحيح، وفيه من العموم الذي يفيده المصدر المضاف ما يشمل هذا الباب؛ فهذا الدليل ليس بأيدي الموجبين سواه (¬1) . وقد اختلف أهل الأصول: هل القضاء يكفي فيه دليل وجوب المقضي؟ ¬
أم لا بد من دليل جديد يدل على وجوب القضاء؟ والحق أنه لا بد من دليل جديد؛ لأن إيجاب القضاء هو تكليف مستقل غير تكليف الأداء، ومحل الخلاف هو الصلاة المتروكة لغير عذر عمدا. وأقول: حكمه ما في الأحاديث الصحيحة: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فمن فعل ذلك؛ فقد عصم دمه وماله إلا بحقه "، ومن لم يفعل فلا عصمة لدمه وماله؛ بل نحن مأمورون بقتاله، كما أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، والمقاتلة تستلزم القتل، ثم التوبة مقبولة، فتارك الصلاة إن تاب وأناب؛ وجب علينا أن نخلي سبيله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فمن علمنا أنه ترك صلاة من الصلوات الخمس؛ وجب علينا أن نؤذنه بالتوبة، فإن فعل فذاك، وإن لم يفعل قتلناه؛ حكم الله {ومن أحسن من الله حكما} . وأما إطلاق اسم الكفر عليه؛ فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وتأويلها لم يوجبه الله علينا؛ ولا أذن لنا فيه (¬1) . ومن غرائب بعض الفقهاء التردد في إطلاق اسم الفسق عليه، معللا ذلك بأن التفسيق لا يجوز إلا بدليل قطعي! مع أنه يرمي بالكفر من خالفه في أدنى معتقداته التي لم يأذن الله لنا باعتقادها، فضلا عن التكفير بها، والله المستعان. وأما كيفية القضاء؛ فأقول: لا شك أن تقديم المقضية على المؤداة، ¬
وجوب الإيمان بالصلاة المتروكة لعذر
وتقديم الأولى من المقضيات على الأخرى: هو الأولى والأحب، ولو لم يرد في ذلك إلا فعله [صلى الله عليه وسلم] في يوم الخندق؛ لكان فيه كفاية. وإنما الشأن في كون ذلك متحتما لا يجوز غيره. ( [وجوب الإيمان بالصلاة المتروكة لعذر] ) (وإن كان) ؛ أي: الترك (لعذر) : من نوم، أو سهو، أو نسيان، أو اشتغال بملاحمة القتال مع عدم إمكان صلاة الخوف والمسايفة (فليس بقضاء) ، بل تجب تأدية تلك الصلاة المتروكة عند زوال العذر، وذلك وقتها، وفعلها فيه أداء، كما يفيد ذلك أحاديث: " من نام عن صلاة أو سها عنها؛ فوقتها حين يذكرها " (¬1) - وقد تقدمت في أول كتاب الصلاة -؛ وفي ذلك خلاف. والحق أن ذلك هو وقت الأداء، لا وقت القضاء؛ للتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] أن وقت الصلاة المنسية، أو التي نام عنها المصلي؛ وقت الذكر. وأما المتروكة لغير نوم وسهو، كمن يترك الصلاة لاشتغاله بالقتال - كما سبق -؛ فقد شغل النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر، وما صلوهما إلا بعد هوي (¬2) من الليل، كما أخرجه أحمد، والنسائي من حديث أبي سعيد. وهو في " الصحيحين " من حديث جابر. ¬
وليس فيه ذكر الظهر، بل العصر فقط، ولذلك قال الماتن: (بل أداء في وقت زوال العذر، إلا صلاة العيد) المتروكة لعذر؛ وهو عدم العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد. (ففي ثانيه) ؛ أي: تفعل في اليوم الثاني، ولا تفعل في يوم العيد بعد خروج الوقت، إذا حصل العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد؛ لحديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أنه غم عليهم الهلال، فأصبحوا صياما، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في " صحيحه "، وصححه ابن المنذر، وابن السكن، وابن حزم، والخطابي، وابن حجر في " بلوغ المرام " (¬1) . أقول: وأما الكافر إذا أسلم: فلا يجب عليه القضاء على كل حال؛ لأن القائل بأنه غير مخاطب بالشرعيات ينفي عنه الوجوب حال الكفر، والقائل أنه مخاطب؛ يجعل الخطاب باعتبار الثواب والعقاب، لا باعتبار وجوب الأداء أو القضاء، فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف. والظاهر أن المرتد حكمه حكم غيره من الكفار في عدم وجوب القضاء؛ لأن الدليل يصدق عليه كما يصدق على غيره من الكفار. ¬
باب صلاة الجمعة
(10 - باب صلاة الجمعة) ( [الجمعة فريضة من فروض الأعيان] :) (تجب على كل مكلف) : لأن الجمعة فريضة من فرائض الله - تعالى -، وقد صرح بذلك كتاب الله - عز وجل -، وما صح من السنة المطهرة، كحديث أنه [صلى الله عليه وسلم] هم بإحراق من يتخلف عنها (¬1) ، وهو في " الصحيح " من حديث ابن مسعود، وكحديث أبي هريرة: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين "؛ أخرجه مسلم وغيره. ومن ذلك حديث حفصة مرفوعا: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم "؛ أخرجه النسائي بإسناد صحيح. وحديث طارق بن شهاب: " الجمعة حق واجب على كل مسلم "؛ أخرجه أبو داود وسيأتي. وقد واظب عليها النبي [صلى الله عليه وسلم] من الوقت الذي شرعها الله - تعالى - فيه إلى أن قبضه الله - عز وجل -. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين. ¬
وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الأمة. وقال ابن قدامة في " المغني ": أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وإنما الخلاف: هل هي من فروض الأعيان؟ أو من فروض الكفايات؟ ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب. قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على فرضية الجمعة، وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان، واتفقوا على أنه لا جمعة في العوالي، وأنه يشترط لها الجماعة، وأن الوالي إن حضر فهو الإمام، ثم اختلفوا في الوالي، وشرط الموضع، والجماعة. قال الشافعي: كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا أحرارا مقيمين؛ تجب عليهم الجمعة، ولا تنعقد إلا بأربعين رجلا كذلك، والوالي ليس بشرط. وقال أبو حنيفة: لا جمع إلا في مصر جامع أو في فنائه، وتنعقد بأربعة، والوالي شرط. وقال مالك: إذا كان جماعة في قرية، بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه؛ وجبت عليهم الجمعة. وفي " مختصر ابن الحاجب ": لا تجزيء الأربعة ونحوها، ولا بد من قوم تتقرى بهم القرية، ولا يشترط السلطان على الأصح. قال في " العالمكيرية ": القروي إذا دخل المصر، ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول الوقت، أو بعد دخوله؛ لا جمعة عليه " (¬1) . انتهى. ¬
لا تجب الجمعة على المرأة والعبد والمسافر والمريض
( [لا تجب الجمعة على المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض] :) (إلا المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض) : لحديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة؛ إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض " أخرجه أبو داود (¬1) من حديث طارق بن شهاب، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وقد أخرجه الحاكم من حديث طارق، عن أبي موسى. قال الحافظ: وصححه غير واحد. وفي حديث أبي هريرة وحديث جابر: ذكر المسافر. وفي الحديثين مقال معروف. والغالب أن المسافر لا يسمع النداء، وقد ورد أن الجمعة على من سمع النداء، كما في حديث ابن عمرو عند أبي داود (¬2) . قال في " المسوى ": " واتفقوا على أنه لا جمعة على مريض، ولا مسافر، ولا امرأة، ولا عبد، وأنه إن صلاها منهم أحد سقط الفرض، وعلى أنه إن أم مريض أو مسافر جاز. وفي " المنهاج ": وتصح خلف العبد، والصبي، والمسافر - في الأظهر -، إذا تم العدد بغيره. ¬
الجمعة لا تخالف الصلوات إلا في مشروعية الخطبة قبلها
وفيه أيضا: ولا جمعة على معذور مرخص [له] في ترك الجماعة. وفي " العالمكيرية ": " المطر الشديد والاختفاء من السلطان الظالم؛ مسقط ". قال في " المنح ": " وكان -[صلى الله عليه وسلم]- يرخص في تركها وقت المطر، ولو لم يبتل أسفل النعلين (¬1) ، وكان يرخص في السفر يوم الجمعة لا سيما للجهاد ". انتهى. ( [الجمعة لا تخالف الصلوات إلا في مشروعية الخطبة قبلها] :) (وهي كسائر الصلوات لا تخالفها) : لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها في غير ذلك. وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل: إنه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم، والمصر الجامع، والعدد المخصوص! فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها؛ فضلا عن وجوبها؛ فضلا عن كونها شروطا، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة؛ فقد فعلا ما يجب عليهما. فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط (¬2) ، ولولا حديث طارق بن شهاب - المذكور قريبا - من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة، ومن عدم إقامتها في زمنه [صلى الله عليه وسلم] في غير جماعة: لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات. ¬
وأما ما يروى من: " أربعة إلى الولاة ... ": فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة (¬1) ، ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة، حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله، وإنما هو من كلام الحسن البصري. ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله - تعالى - عليهم في الأسبوع، وجعلها شعارا من شعائر الإسلام، وهي صلاة الجمعة؛ من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائغة، والاجتهادات الداحضة (¬2) : قضى من ذلك العجب. فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وإن من فاتته لم تصح جمعته؛ وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها من عضد بعض (¬3) ، أن " من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته "، ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة. وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام { وقائل يقول: بأربعة} وقائل يقول: بسبعة { وقال يقول: بتسعة} وقائل يقول: باثني عشر! ¬
وقائل يقول: بعشرين { وقائل يقول: بثلاثين} وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين { وقائل يقول: بخمسين} وقائل يقول: لا تنعقد إلا بسبعين { وقائل يقول: فيما بين ذلك} وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد { وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع} وحدّه بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف { وآخر قال أن يكون فيه جامع وحمام} وآخر قال: أن يكون فيه كذا وكذا { وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم، فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه؛ لم تجب الجمعة ولم تشرع. ونحو هذه الأقوال، التي عليها أثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله - تعالى - ولا في سنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة الجمعة، أو فرضا من فرائضها، أو ركنا من أركانها. فيا لله العجب} ما يفعل الرأي بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم من
الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم، وما يخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة، وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل؟ ! يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة، وكل متصف بصفة الإنصاف، وكل من ثبت قدمه، ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال. ومن جاء بالغلط؛ فغلطه رد عليه مضروب به في وجهه، والحكم بين العباد هو كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله -[صلى الله عليه وسلم]- كما قال - سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} . فهذه الآيات ونحوها تدل أبلغ دلالة، وتفيد أعظم فائدة؛ أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله، وحكم الله هو كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله - تعالى - هو سنته؛ ليس غير ذلك، ولم يجعل الله - تعالى - لأحد من العباد - وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ، وجمع منه ما لا يجمع غيره -، أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، والمجتهد - وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل -؛ فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان. وإني - كما علم الله - لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين، وتصديره في كتب الهداية، وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به، وهو على شفا جرف هار، ولم يختص هذا بمذهب من المذاهب، ولا بقطر من الأقطار، ولا
مشروعية الخطبتين
بعصر من العصور، بل تبع فيه الآخر الأول كأنه أخذه من أم الكتاب، وهو حديث خرافة، وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإشارة إليها؛ بلا برهان، ولا قرآن، ولا شرع، ولا عقل! والبحث في هذا يطول جدا (¬1) . قال الماتن - رحمه الله -: وقد جمعت فيه مصنفين؛ مطولا ومختصراً، ولله الحمد. ( [مشروعية الخطبتين] :) (إلا في مشروعية الخطبتين قبلها) : لأن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- سنّ في الجمعة خطبتين يجلس بينهما، وما صلى بأصحابه جمعة من الجمع إلا وخطب فيها. إنما دعوى الوجوب إن كانت بمجرد فعله المستمر: فهذا لا يناسب ما تقرر في الأصول، ولا يوافق تصرفات الفحول، وسائر أهل المذهب المنقول، وأما الأمر بالسعي إلى ذكر الله: فغايته أن السعي واجب، وإذا كان هذا الأمر مجملا فبيانه واجب، فما كان متضمنا لبيان نفس السعي إلى الذكر: يكون واجبا؛ فأين وجوب الخطبة (¬2) ؟ ¬
فإن قيل: إنه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى؛ فيقال: ليس السعي لمجرد الخطبة، بل وإليها وإلى الصلاة، ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة، فلا تتم هذه الأولوية. وهذا النزاع في نفس الوجوب، وأما في كون الخطبة شرطا للصلاة؛ فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى على عارف؛ فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في عدم المشروط، فهل من دليل يدل على أن عدم الخطبة يؤثر في عدم الصلاة؟ (¬1) ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده -[صلى الله عليه وسلم]- من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت. وأما اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسول الله، أو قراءة شيء من القرآن، فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته -[صلى الله عليه وسلم]- لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم. ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ، دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه -[صلى الله عليه وسلم]-، وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالا، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله. وما أحسن هذا وأولاه! ولكن ليس هو المقصود؛ بل المقصود ما بعده، ¬
وقت الجمعة وقت الظهر
ولو قال قائل: إن من قام في محفل من المحافل خطيباً ليس له باعث على ذلك؛ إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً، بل كل طبع سليم يمجه ويرده. إذا تقرر هذا: عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب؛ فقد فعل الأمر المشروع؛ إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية: كان أتم وأحسن (¬1) . ( [وقت الجمعة وقت الظهر] :) (ووقتها وقت الظهر) : لكونها بدلا عنه، وقد ورد ما يدل على أنها تجزئ قبل الزوال كما في حديث أنس: أنه كان -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي الجمعة، ثم يرجعون إلى القائلة يقيلون. وهو في " الصحيح ". ومثله من حديث سهل بن سعد في " الصحيحين ". وثبت في " الصحيح " من حديث جابر: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يصلي الجمعة، ثم يذهبون إلى جمالهم، فيريحونها حين تزول الشمس. وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل؛ وهو الحق. ¬
حكم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة
وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت الظهر! ( [حكم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة] :) (وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس) ؛ إلا إذا كان إماماً، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها إلا بتخط، كما نقله المحلي عن " الروضة "؛ لحديث عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ والنبي [صلى الله عليه وسلم] يخطب، فقال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اجلس فقد آذيت "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره. ولحديث أرقم بن أبي الأرقم المخزومي، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام؛ كالجارّ قُصبه (¬1) في النار "؛ أخرجه أحمد، والطبراني في " الكبير "، وفي إسناده مقال. (¬2) وفي الباب أحاديث: منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي، وابن ماجه، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ اتخذ جسرا إلى جهنم "، قال الترمذي: حديث غريب (¬3) ، والعمل عليه عند أهل العلم. ¬
الإنصات حال الخطبتين واجب
وفي " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ": ومنها: تخطي رقاب الناس يوم الجمعة؛ كذا عده الشيخ شمس الدين ابن القيم من الكبائر، وقد صرح النووي وغيره بأنه حرام. انتهى. قلت: وفي الباب عن عثمان وأنس - أيضا -. ( [الإنصات حال الخطبتين واجب] :) (وأن ينصت حال الخطبتين) : لحديث أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت؛ والإمام يخطب؛ فقد لغوت "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث علي، قال: من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت؛ كان عليه كفل (¬1) من الوزر، ومن قال: صه؛ فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم [صلى الله عليه وسلم] . وفي إسناده مجهول. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. أقول: وحاصل ما يستفاد من الأدلة: أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهيا عاما، وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في صلاة التحية؛ من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء، والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحة (¬2) ، ¬
فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية، إن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة، والوفاء بما دلت عليه الأدلة؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] أمر سُليكا الغطفاني - لما وصل إلى المسجد حال الخطبة، فقعد ولم يصل التحية - بأن يقوم فيصلي، فدل هذا على كون ذلك من المشروعات المؤكدة، بل من الواجبات، كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في رسالة مستقلة، وبينت أنا في " دليل الطالب إلى أرجح المطالب " وجوب صلاة التحية. ومن جملة مخصصات صلاة التحية حديث: " إذا جاء أحدكم والإمام يخطب؛ فليصل ركعتين "، وهو حديث صحيح متضمن للنص في محل النزاع. وأما ما عدا صلاة التحية؛ من الأذكار، والأدعية، والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] : فلم يأت ما يدل على تخصيصها من ذلك العموم (¬1) . والمتابعة في الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم]- وإن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها -: فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من وجه، وأخص منها من وجه؛ فيتعارض العمومان، وينظر في الراجح منهما، وهذا إذا كان اللغو المذكور في حديث: " ومن لغا فلا جمعة له " يشمل جميع أنواع الكلام (¬2) . وأما إذا كان مختصا بنوع منه (¬3) - وهو ما لا فائدة فيه -: فليس فيه ما يدل على منع الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم] . ¬
وأما حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام يخطب؛ فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام ": فقد أخرجه الطبراني في " الكبير " عن ابن عمر، وفي سنده ضعف، كما قاله صاحب " مجمع الزوائد "، فلا تقوم به الحجة. ولكنه قد روي ما يقويه: فأخرج أبو يعلى، والبزار عن جابر (¬1) ، قال: قال سعد بن أبي وقاص لرجل: لا جمعة لك، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " لم يا سعد؟ ! "، فقال: لأنه تكلم وأنت تخطب، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " صدق سعد "؛ وفي إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف عند الجمهور. وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة. وقد ذكر العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " أحاديث تفيد معنى هذا الحديث؛ فليراجع. ويقويها ما يقال: إن المراد باللغو المذكور في الحديث التلفظ، وإن كان أصله ما لا فائدة فيه؛ بقرينة أن قول من قال لصاحبه: أنصت؛ لا يعد من اللغو؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سماه النبي [صلى الله عليه وسلم] لغوا. ويمكن أن يقال: إن ذلك الذي قال: أنصت؛ لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه المقالة؛ فكان كلامه لغوا حقيقة من هذه الحيثية. ¬
يندب التبكير للجمعة
( [يُندب التبكير للجمعة] :) (ونُدب له التبكير) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح؛ فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية؛ فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة؛ فكأنما قرب كبشا أقرن (¬1) ، ومن راح في الساعة الرابعة؛ فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة؛ فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ". وفي الباب أحاديث في مشروعية التبكير. قال في " المسوى شرح الموطأ ": " الأصح أن هذه الساعات ساعات لطيفة بعد الزوال (¬2) ، لا الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار ". انتهى. ( [يُندب التطيب والتجمل للجمعة] :) (والتطيب والتجمل) : لحديث أبي سعيد، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " على كل مسلم الغسل يوم الجمعة، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود. وهو في " الصحيحين " بلفظ: " الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبا إن وجد ". وأخرج أحمد، والبخاري وغيرهما من حديث سلمان الفارسي، قال: ¬
يندب الدنو من الإمام
قال النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يروح إلى المسجد، ولا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت للإمام إذا تكلم: إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى ". وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة، حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له، ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يصلي: كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى "؛ ورجال إسناده ثقات (¬1) . وفي الباب أحاديث. ( [يندب الدنو من الإمام] :) (والدنو من الإمام) : لحديث سمرة عند أحمد، وأبي داود، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها " وفي إسناده انقطاع (¬2) . وفي الباب أحاديث. ومن جملة ما يشرع يوم الجمعة الغسل، وقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل. ¬
من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها
( [من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها] :) (ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها) : لحديث: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته ". فهذا - وإن كان فيه مقال - غايته الإعلال بالإرسال، فقد ثبت رفعه من طريق جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة؛ فإنه روي عنه من ثلاث عشرة طريقا، ومن ثلاث طرق (¬1) عن ابن عمر، وبعضها يؤيد بعضا، فهي لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن أبي هريرة، وقال فيها: " على شرط الشيخين ". (¬2) فالعجب من أن يُؤْثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب، ويدعم بتلك العصا التي لا يأخذها إلا الزمن، أو من ضاقت عليه المسالك، فيقال: ولم يرد خلافه عن أحد من الصحابة! والحال أن أول المخالفين له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ بعموم قوله وخصوصه. والحاصل: أن الحديث له طرق كثيرة يصير بها حسنا لغيره، وقد قدمنا ¬
صلاة الجمعة يوم العيد رخصة
أنها كسائر الصلوات، وليست الخطبة شرطا من شروط الجمعة حتى يتوقف إدراك الصلاة على إدراك الخطبة، فمن زعم أن صلاة الجمعة تختص بحكم يخالف سائر الصلوات؛ فعليه الدليل. وقد أوضح الماتن المقال في أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام، مشتملة على ما يحتاج إليه في هذا البحث؛ فليرجع إلى ذلك فهو مفيد جدا. ( [صلاة الجمعة يوم العيد رخصة] :) (وهي في يوم العيد رخصة) : لحديث زيد بن أرقم، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى العيد في يوم جمعة، ثم رخص في الجمعة، فقال: " من شاء أن يجمع فليجمع "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وصححه علي بن المديني (¬1) . وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة؛ وإنا مجمعون " (¬2) ؛ وقد أعل بالإرسال، وفي إسناده أيضا بقية بن الوليد. وفي الباب أحاديث عن ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما. ¬
وظاهر أحاديث الترخيص يشمل من صلى العيد ومن لم يصل (¬1) بل روى النسائي، وأبو داود أن ابن الزبير في أيام خلافته لم يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد، فقال ابن عباس لما بلغه ذلك: أصاب السنة؛ وفي إسناده مقال (¬2) . أقول: الظاهر أن الرخصة عامة للإمام وسائر الناس، كما يدل على ذلك ما ورد من الأدلة. وأما قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ونحن مجمعون ": فغاية ما فيه أنه أخبرهم بأنه سيأخذ بالعزيمة، وأخذه بها لا يدل على أن لا رخصة في حقه، وحق من تقوم بهم الجمعة؛ وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته - كما تقدم -، ولم ينكر عليه الصحابة ذلك. ¬
باب صلاة العيدين
(11 - باب صلاة العيدين) ( [صلاة العيدين سنة] :) قد اختلف أهل العلم: هل صلاة العيد واجبة أم لا؟ والحق الوجوب؛ لأنه [صلى الله عليه وسلم] مع ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها، كما في حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] للناس أن يغدوا إلى مصلاهم، بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال، وهو حديث صحيح. وثبت في " الصحيح " من حديث أم عطية، قالت: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن نُخرج في الفطر والأضحى العواتق (¬1) والحُيّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب (¬2) ، والرجال أولى من النساء بذلك؛ لأن الخروج وسيلة إليها، ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه، بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد؛ كما ذكره أئمة التفسير في قوله - تعالى -: {فصل لربك وانحر} ؛ فإنهم قالوا: المراد صلاة العيد. ¬
صلاة العيد ركعتين
ومن الأدلة على وجوبها: أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجباً. ( [صلاة العيد ركعتين] :) (هي ركعتان) : يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ عند إرادة التخفيف: {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك} ، وعند الإتمام: {ق} و {اقتربت الساعة} . وعند الشافعي: تشرع صلاة العيد جماعة للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر، ولا يخطب المنفرد، ويخطب إمام المسافرين. وعند أبي حنيفة: تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة، ويشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة. كذا في " المسوى " وغيره. ( [التكبير في الركعة الأولى سبع، وفي الثانية خمس قبل القراءة] :) (في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك) : لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كبّر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة؛ سبعا في الأولى وخمسا في الثانية؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه. وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذه. قال العراقي: إسناده صالح. ونقل الترمذي في " العلل " - المفردة - عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح.
وفي رواية لأبي داود، والدارقطني: " التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخيرة، والقراءة بعدهما كلتيهما "؛ وإسناد الحديث صالح، وقد صححه البخاري. وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كبّر في العيدين! في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة؛ وقد حسنه الترمذي، وأُنكر عليه تحسينه؛ لأن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده؛ وهو متروك. قال النووي: لعله اعتضد بشواهد وغيرها. انتهى. قال العراقي: إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري، فقد قال في كتاب " العلل " المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول. انتهى. وقد أخرجه ابن ماجه بدون ذكر القراءة. وأخرجه الدارقطني، وابن عدي، والبيهقي؛ وفي إسناده كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده. قال الشافعي، وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب. وقال ابن حبان: له نسخة موضوعة، عن أبيه، عن جده. وأخرج ابن ماجه من حديث سعد القرظ (¬1) المؤذن: أن رسول الله ¬
-[صلى الله عليه وسلم]- كان يكبّر في العيدين؛ في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة. قال العراقي: وإسناده ضعيف. وفي الباب أحاديث تشهد لذلك، والجميع يصلح للاحتجاج به. وفي المسألة عشرة مذاهب؛ هذا أرجحها (¬1) . قال في " الحجة ": يكبر في الأولى سبعا قبل القراءة، والثانية خمسا قبل القراءة ". وعمل الكوفيين؛ أن يكبر أربعا كتكبير الجنائز في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها، وهما سنتان وعمل الحرمين أرجح ". انتهى. أقول: الذي دلت عليه الأدلة؛ أن يكون التكبير مقدما على القراءة في الركعتين، كما ثبت ذلك من فعله -[صلى الله عليه وسلم]- في حديث عمرو بن عوف المزني المتقدم (¬2) ، ولم يأت من قال بمشروعية تقديم القراءة في الركعتين، أو تأخيرها في الأولى وتقديمها في الثانية بحجة قط. ثم اعلم أن الحافظ قال في " التلخيص ": قوله: ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة؛ روي مثل ذلك عن ابن مسعود قولا وفعلا. قلت: رواه الطبراني والبيهقي موقوفاً؛ وسنده قوي، وفيه عن حذيفة. ¬
الخطبة بعد صلاة العيد
وأبي موسى مثله، وعن عمر أنه كان يرفع يديه في التكبيرات؛ رواه البيهقي؛ وفيه ابن لهيعة. واحتج ابن المنذر والبيهقي بحديث روياه من طريق بقية (¬1) ، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه في الرفع عند الإحرام والركوع والرفع منه، وفي آخره: يرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع ". انتهى قال في " شرح المنتقى ": " والظاهر عدم وجوب التكبير - كما ذهب إليه الجمهور -؛ لعدم وجدان دليل يدل عليه ". انتهى. والحاصل: أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا. قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا. قالوا: وإن تركه لا يسجد للسهو. وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه يسجد للسهو. والحق الأول. ( [الخطبة بعد صلاة العيد] :) (ويخطب بعدها) ؛ يأمر بتقوى الله - تعالى - ويُذكِّر ويعظ، لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يخرج يوم ¬
التجمل بالثياب في العيد مستحب
الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس؛ والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثا (¬1) أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف ". وفي الباب من حديث جابر عند مسلم وغيره. وأول من خطب قبل الصلاة في العيد، مروان، وأنكر عليه ذلك. وأخرج النسائي، وابن ماجة، وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب، قال: شهدت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] العيد فلما قضى الصلاة قال: " إنا نريد أن نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب " (¬2) . ( [التجمل بالثياب في العيد مستحب] :) (ويستحب) في العيد (التجمل) بالثياب، فقد ثبت في " الصحيحين ": أن عمر وجد حلة في السوق من إستبرق (¬3) تباع، فأخذها، فأتى بها النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: يا رسول الله! ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد، فقال: " إنما هذه لباس من لا خلاق (¬4) له ". ¬
السنة صلاة العيدين في المصلى
وأخرج الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس برد حبرة (¬1) في كل عيد. وشيخ الشافعي ضعيف، ولكنه قد تابعه سعيد بن الصلت، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس ... بمثله. أخرجه الطبراني (¬2) . وأخرج ابن خزيمة (¬3) عن جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس البرد الأحمر في العيدين وفي الجمعة. ( [السنة صلاة العيدين في المصلى] :) (والخروج إلى خارج البلد) : لمواظبته [صلى الله عليه وسلم] على ذلك (¬4) ، وصلى بهم [صلى الله عليه وسلم] صلاة العيد في المسجد لمطر وقع؛ كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم؛ وفي إسناده مجهول. ( [يستحب مخالفة الطريق] :) (ومخالفة الطريق) : لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كان يوم العيد خالف الطريق (¬5) . ¬
يستحب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى
وأخرج أبو داود، وابن ماجة نحوه من حديث ابن عمر. وفي الباب أحاديث غير ما ذكر. ( [يستحب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى] :) (والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى) : لما ثبت في " الصحيح " من حديث أنس، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا. وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث بريدة، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع. زاد أحمد: فيأكل من أضحيته. وفي الباب أحاديث. ( [بيان أول وقت صلاة العيدين] :) (ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال) : لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في " كتاب الأضاحي " (¬1) من حديث جندب، قال: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي بنا يوم الفطر؛ والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح ". ¬
بيان آخر وقت صلاة العيدين
وأخرج أبو داود، وابن ماجة (¬1) من حديث عبد الله بن بسر - صاحب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا فرغنا ساعتنا هذه؛ وذلك حين التسبيح - أي: حين وقت صلاة العيد -. وأخرج الشافعي - مرسلا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران، أن عجل الأضحى وأخر الفطر. وفي إسناده إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي؛ وهو ضعيف. وقد وقع الإجماع على ما أفادته الأحاديث؛ وإن كانت لا تقوم بمثلها الحجة (¬2) . ( [بيان آخر وقت صلاة العيدين] :) وأما آخر وقت صلاة العيدين: فزوال الشمس. وإذا كان الغدو من بعد طلوع الشمس إلى الزوال - كما قال بعض أهل العلم -: فحديث أمره [صلى الله عليه وسلم] للركب أن يغدوا إلى مصلاهم يدل على ذلك. قال في " البحر ": وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال. ولا أعرف فيه خلافا. ¬
لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين
( [لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين] :) (ولا أذان فيها ولا إقامة) : لما ثبت في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة قال: صليت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] غير مرة ولا مرتين بغير أذن ولا إقامة. وثبت في " الصحيحين " عن ابن عباس، أنه قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. وفي الباب أحاديث. وأما تكبير أيام التشريق: فلا شك في مشروعية مطلق التكبير في الأيام المذكورة، ولم يثبت تعيين لفظ مخصوص، ولا وقت مخصوص، ولا عدد مخصوص، بل المشروع الاستكثار منه دبر الصلوات وسائر الأوقات. فما جرت عليه عادة الناس اليوم - استنادا إلى بعض الكتب الفقهية - من جعله عقب كل صلاة فريضة ثلاث مرات، وعقب كل صلاة نافلة مرة واحدة، وقصر المشروعية على ذلك فحسب! ليس عليه أثارة من علم فيما أعلم، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة؛ أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى. وأما صفة التكبير: فأصح ما ورد فيه؛ ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان، قال: كبروا، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا. قال في " شرح المنتقى " - نقلا عن " الفتح " -: وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك؛ لا أصل لها. انتهى.
قال الشوكاني: " والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام؛ كما تدل على ذلك الآثار (¬1) " انتهى. ¬
باب صلاة الخوف
(12 - باب صلاة الخوف) (وقد صلاها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على صفات مختلفة) ؛ قيل: على ستة عشر، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: أقل من ذلك. وقد صح منها أنواع: (1 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعتين بسلام] :) فمنها: أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بكل طائفة ركعتين، فكان للنبي [صلى الله عليه وسلم] أربع، وللقوم ركعتان. وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث جابر. (2 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة] :) ومنها: أنه صلى بكل طائفة ركعة؛ فكان له ركعتان، وللقوم ركعة. وهذه الصفة أخرجها النسائي بإسناد رجاله ثقات. (3 -[اشتراك الطائفتين مع الإمام، وتقدم الثانية، وتأخر الأولى، والسلام جميعا] :) ومنها: أنه صلى بهم جميعا، فكبر وكبروا، وركع وركعوا، ورفع
صلاة الإمام بكل طائفة ركعة وقضاء كل طائفة ركعة
ورفعوا، ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي [صلى الله عليه وسلم] السجود والصف الذي يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، وفعلوا كالركعة الأولى، ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدما، والمقدم مؤخرا، ثم سلم النبي [صلى الله عليه وسلم] وسلموا جميعا. وهذه الصفة ثابتة في " صحيح مسلم " وغيره من حديث جابر، ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد، وأبي داود، والنسائي. (4 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، وقضاء كل طائفة ركعة] :) ومنها: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- صلى بإحدى الطائفتين ركعة؛ والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة. وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث ابن عمر. (5 -[اشتراك الطائفتين مع الإمام في القيام والسلام] :) ومنها: أنها قامت مع النبي -[صلى الله عليه وسلم]- طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى القبلة، فكبر فكبروا جميعا: الذين معه والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد، فسجدت التي تليه؛ والآخرون قيام مقابل العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت
صلاة الإمام بكل طائفة ركعة وانتظاره لقضاء كل طائفة ركعة
مقابل العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا؛ ورسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قاعد ومن معه، ثم كان السلام؛ فسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- ركعتان، وللقوم لكل طائفة ركعتان. وهذه الصفة أخرجها أحمد، والنسائي، وأبو داود. (6 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، وانتظاره لقضاء كل طائفة ركعة] :) ومنها: أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بطائفة ركعة، وطائفة وجاه العدو، ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم. وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث سهل بن أبي حثمة. وإنما اختلفت صلاته [صلى الله عليه وسلم] في الخوف؛ لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. (وكلها مجزئة) : لأنها وردت على أنحاء كثيرة، وكل نحو روي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فهو جائز، يفعل الإنسان ما هو أخف عليه، وأوفق بالمصلحة حالتئذ؛ كذا في " الحجة ". أقول: من زعم من أهل العلم أن المشروع من صلاة الخوف ليس إلا صفة من الصفات الثابتة دون ما عداها: فقد أهدر شريعة ثابتة، وأبطل سنة
قائمة بلا حجة نيرة، وغالب ما يدعو إلى ذلك ويوقع فيه: قصور الباع، وعدم الاعتناء بكتب السنة المطهرة. فالحق الحقيق بالقبول: جواز جميع ما ثبت من الصفات. وقد ذكر هنا صاحب " المنتقى " أنواعا هي حاصل ما ذكره المحدثون مما بلغ إلى رتبة الصحيح، وثم صفات أخر ليست ببالغة إلى تلك الرتبة. فإن قلت: ما الحكمة في وقوع هذه الصلاة على أنواع مختلفة؟ قلت: أمران: الأول: اقتضاء الحادثة لذلك، والمقتضيات مختلفة؛ ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض؛ لما يكون فيها من أخذ الحذر، والعمل بالحزم ما يناسب الخوف العارض، فقد يكون الخوف في بعض المواطن شديدا والعدو متصلا أو قريبا، وفي بعض المواطن قد يكون الخوف خفيفا والعدو بعيدا، فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن، وهذه أولى بهذا الموطن. الأمر الثاني: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- فعلها متنوعة إلى تلك الأنواع لقصد التشريع وإرادة البيان للناس. وأما صلاة المغرب: فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر. ووقع الخلاف: هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين، والثانية ركعة أو العكس؟
الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإيماء
ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-. وقد روي (¬1) أن عليا - رضي الله تعالى عنه - صلاها ليلة الهرير (¬2) . واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال؛ والظاهر أن الكل جائز، وإن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات، فهو: صواب؛ قياسا على فعله في غيرها، وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض؛ كما سبق. ( [الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإيماء] :) (وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراجل والراكب - ولو إلى غير القبلة - ولو بالإيماء -) ؛ ويقال لصلاة الخوف عند التحام القتال: صلاة المسايف. أخرج البخاري عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ: فإن كان خوف أشد من ذلك: صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . ¬
وهو في " مسلم " من قول ابن عمر؛ بنحو ذلك. وقد رواه ابن ماجة عن ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] وصف صلاة الخوف وقال: " فإن كان خوف أشد من ذلك: فرجالا وركبانا ". وأخرج أحمد، وأبو داود - بإسناد حسن (¬1) - عن عبد الله بن أنيس، قال: بعثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: " اذهب فاقتله "، قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي، أوميء إيماء نحوه، فلما دنوت منه ... الحديث. ومن البعيد؛ أن لا يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، ولو أنكره لذكر ذلك. ¬
باب صلاة السفر
(13 - باب صلاة السفر) ( [وجوب القصر في السفر] :) (يجب القصر) : لحديث عائشة الثابت في " الصحيح "، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال (¬1) : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين؛ فزيدت في الحضر، وأقرت في السفر ". فهذا يشعر بأن صلاة السفر باقية على الأصل، فمن أتم؛ فكأنه صلى في الحضر الثنائية أربعا، والرباعية ثمانيا عمدا. وثبت أيضا في " الصحيح " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته ". وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] يقتصر في جميع أسفاره على القصر. قلت: اتفقت الأمة على جواز القصر في السفر. واختلف المفسرون في قوله - تعالى -: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح} : أنزلت في السفر؛ وقيد الخوف اتفاقي؟ أو في الخوف وقيد السفر اتفاقي؟ والمراد في القصر؛ الإيماء في الركوع والسجود؟ ¬
فذهب إلى الأول جماعات من المفسرين. وإلى الثاني يشير قول ابن عمر، ويدل عليه بناء قوله - تعالى -: {وإذا كنت فيهم} على آية القصر من غير ذكر الخوف ثانيا. ثم مذهب الأكثرين أن القصر واجب. وقال الشافعي: " إن شاء أتم، وإن شاء قصر؛ والقصر أفضل ". كذا في " المسوى ". أقول: الحق وجوب القصر، والأحاديث مصرحة بما يقتضي ذلك، وأما ما يروى عن عائشة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يقصر في الصلاة ويتم، ويفطر ويصوم: فلم يثبت؛ كما صرح به جماعة من الحفاظ (¬1) . وكذلك ما روي عنها: أنها فعلت ذلك ولم ينكر عليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة بما تسقط به حجيته (¬2) . وكذلك ما روي من أن عثمان أتم الصلاة بمنى! فلا حجة في ذلك، وقد صح إنكار بعض الصحابة عليه، واعتذاره عن ذلك؛ فلم يبق في المقام ما يوجب التردد. والظاهر من الأدلة في القصر والإفطار: عدم الفرق بين من سفره في ¬
وجوب القصر لمن خرج من بلده قاصدا للسفر دون بريد
طاعة، ومن سفره في معصية، لا سيما القصر؛ لأن صلاة المسافر شرعها الله كذلك، فكما أن الله شرع للمقيم صلاة التمام - من غير فرق بين من كان مطيعا ومن كان عاصيا بلا خلاف -: كذلك شرع للمسافر ركعتين من غير فرق. وأدلة القصر متناولة للعاصي تناولا زائدا على تناول أدلة الإفطار له؛ لأن القصر عزيمة، وهي لم تشرع للمطيع دون العاصي، بل مشروعة لهما جميعا، بخلاف الإفطار؛ فإنه رخصة للمسافر، والرخصة تكون لهذا دون هذا في الأصل، وإن كانت هنا عامة، وإنما المراد بطلان القياس، والركعتان في السفر تمام غير قصر. ومعناه عند الحنفية: أنه لا يكون فرض المسافر غير ركعتين، وإن صلى أربعا ولم يقعد للتشهد بطلت صلاته، وإن قعد أتمها أربعا والأخريان نفل. وعند الشافعية: أن المسافر إذا قصر في السفر؛ فليس عليه ما تركه إذا صار مقيما بخلاف الصوم، فإنه يعيد ما أفطر إذا صار مقيما. ( [وجوب القصر لمن خرج من بلده قاصدا للسفر دون بريد] :) وإيجاب القصر (على من خرج من بلده قاصدا للسفر وإن كان دون بريد) (¬1) وجهه أن الله - تعالى - قال: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم ¬
جناح أن تقصروا من الصلاة} ، والضرب في الأرض يصدق على كل ضرب، لكنه خرج الضرب - أي: المشي - لغير السفر؛ لما كان يقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر. ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا، ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل يعد في مسيره إليه مسافرا: قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد. ولم يأت من اعتبر البريد، واليوم، واليومين، والثلاثة، وما زاد على ذلك بحجة نيرة، وغاية ما جاءوا به حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم "، وفي رواية: " يوما وليلة "، وفي رواية: " بريدا " (¬1) ، وليس في هذا الحديث ذكر القصر، ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين (¬2) . وأحسن ما ورد في التقدير: ما رواه شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال - أو ثلاثة فراسخ -: صلى ركعتين - والشك من شعبة -. أخرجه مسلم وغيره. فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون ¬
محرم: هو كونه [صلى الله عليه وسلم] سمى ذلك سفرا. قلت: تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا، فقد سمى النبي [صلى الله عليه وسلم] مسافة الثلاث سفرا، كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث؛ باعتبار اختلاف الرواية، وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا. فإن قلت: أخرج الدارقطني، والبيهقي، والطبراني من حديث ابن عباس أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " (¬1) . قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة؛ فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر؛ وهو متروك. (2) قال الماتن: وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي. وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام. وفي " العالمكيرية ": الصحيح أنه لا يشترط سير كل اليوم إلى الليل، فلو بكر في كل يوم ومشى إلى الزوال ثم نزل؛ يصير مسافرا. وقال الشافعي: أربعة برد. وقال مالك: وذلك أحب ما سمعت يقصر فيه الصلاة إلي، وتفسيرها ستة عشر فرسخا. ¬
ويتجه على هذا أن قولهما متقاربان. قال الأوزاعي: عامة الفقهاء يقولون: مسيرة يوم تام، وإنما يحل القصر إذا خرج من بيوت القرية. قال العلماء: إذا جاوز عمران المصر: قصر. أقول: مسألة أقل السفر قد اضطربت فيها الأقوال، وطال فيها النزاع، وتشعبت فيها المذاهب، وليس في ذلك شيء يستند إليه؛ إلا مجرد قول الرواة: قصر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في كذا؛ من دون بيان لمقدار يرجع إليه. وأصرح ما في ذلك؛ ما قاله بعض الرواة: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقصر إذا سافر ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ؛ هكذا على الشك! مع أنه لم يبين مقدار المسافة التي هي انتهاء سفره، وغاية ما وقع التعويل عليه أحاديث: " لا يحل لامرأة ... " كما تقدم، والمعمول عليه ههنا رواية البريد؛ لأن ما فوقها يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب. لكن؛ لا ملازمة بين اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على غيرها من المسافرين؛ لأن علة مشروعية المحرم غير علة مشروعية القصر، فلم يبق في المسألة ما يصلح للاستناد إليه، فوجب الرجوع إلى ما يصدق عليه مسمى الضرب في الأرض على وجه يخالف ما يفعله المقيم من ذلك، وهو يصدق على من أراد سفرا زائدا على الميل، لا ما كان ميلا فما دون، فقد يتردد المقيم في الجوانب المقاربة لبلد إقامته، وقد كان -[صلى الله عليه وسلم]- يخرج
مدة القصر للمتردد
إلى البقيع لزيارة الأموات ولا يقصر، وإن كان هذا لا يتم الاحتجاج به إلا بعد تسليم أنه خرج إلى هنالك، وحضر وقت الصلاة فصلى تماما {وهو ممنوع، فالتعويل في استثناء الميل هو ما قدمنا، وفيه ما فيه، لولا أنه أوجب الرجوع إليه البقاء على الأصل، والفرار من التحكمات التي لا ترجع إلى شيء؛ كما يقول بعض أهل العلم: إن مسافة القصر ما بين الشام والعراق} ونحو ذلك. فالحاصل: أن الواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة أو عرفا لأهل الشرع، فما كان ضربا في الأرض يصدق عليه أنه سفر؛ وجب فيه القصر. وأما ما رواه سعيد بن منصور (¬1) : أنه كان -[صلى الله عليه وسلم]- إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة؛ فهو أيضا لا ينفي السفر فيما دون ذلك. ( [مدة القصر للمتردد] :) (وإذا أقام ببلد مترددا قصر إلى عشرين يوما) ثم يتم، وجهه أن من حط رحله بدار إقامة؛ فقد ذهب عنه حكم السفر، وفارقته المشقة، فلولا أن الشارع سمى من أقام كذلك مسافرا، فقال: " أتموا يا أهل مكة! فإنا قوم سفر " (¬2) : لما كان حكم السفر ثابتا له، فالواجب الاقتصار في القصر مع الإقامة على المقدار ¬
أقصى مدة يقصر فيها المسافر إذا أقام
الذي سوغه الشارع، وما زاد عليه؛ فللمسافر حكم المقيم، يجب عليه أن يتم صلاته؛ لأنه مقيم لا مسافر، وقد أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بمكة في غزوة الفتح؛ قيل: ثماني عشرة ليلة، وقيل: تسع عشرة ليلة، وقيل: أقل من ذلك، وفي " صحيح البخاري " وغيره: تسع عشرة ليلة. وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث جابر، قال: أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. وأخرجه أيضا ابن حبان، والبيهقي، وصححه ابن حزم، والنووي (¬1) ؛ فوجب علينا أن نقتصر على هذا المقدار ونتم بعد ذلك. ولله در الحبر ابن عباس {ما أفقهه وما أفهمه للمقاصد الشرعية} فإنه قال فيما رواه عنه البخاري وغيره: لما فتح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- مكة: أقام فيها تسع عشرة، يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة؛ قصرنا، وإن زدنا أتممنا ". وأقول: هذا هو الفقه الدقيق، والنظر المبني على أبلغ تحقيق، ولو قال له جابر: أقمنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتبوك عشرين ليلة نقصر الصلاة؛ لقال بموجب ذلك. قال الماتن: وفي المسألة مذاهب؛ هذا أرجحها لدي. انتهى. ( [أقصى مدة يقصر فيها المسافر إذا أقام] :) أقول: الظاهر فيمن أقام ببلد وحط الرحل يوما بعد يوم، وليلة بعد ¬
ليلة: أنه لا يقصر الصلاة؛ لأنه غير مسافر، فلو لم يرد الدليل الدال على أن من أقام عازما على السفر؛ كان له حكم المسافر: لم يثبت القصر في حقه، فينبغي أن يقتصر على ما ورد ولا يجاوز، أما مع التردد وعدم العزم على إقامة أيام معينة: فلا يزال يقصر المسافر حتى يبلغ مدة إقامته مقدار المدة التي أقامها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمكة بعد الفتح، وأكثر ما قيل: عشرون ليلة، وقد روي أنه أقام في غزوة تبوك بمكان نحو ذلك، وروي أكثر. فإن قيل: إن الاقتصار على مقدار إقامته [صلى الله عليه وسلم] ، وعدم تجويز القصر فيما زاد عليها؛ لا يصلح للتمسك به؛ لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على قصر الجواز على تلك المدة، ومن أين لنا أنه لو عرض له ما يوجب إقامته فوق تلك المدة لما قصر الصلاة، بل كان يتمها؟ فيقال: هذا صحيح، ولم نقل: إن هذا الفعل يدل بمجرده على ذلك، بل قلنا: إن من حط رحله بمحل؛ فالظاهر أنه في ذلك الوقت غير مسافر فيما كان من الإقامة زائدا على ما يعتاده المسافرون؛ من الإراحة لأنفسهم ودوابهم يوما أو بعض يوم، وليلة أو بعض ليلة، فإذا سمي بعد إقامته أياما مسافرا؛ فهذه التسمية غير مناسبة لما هو الظاهر، فوجب الاقتصار على مقدار المدة التي أقامها الشارع وقصر الصلاة فيها، وقال: " إنا قوم سفر "، ومن زعم جواز القصر فيما زاد عليها؛ فعليه الدليل. وأما إذا نوى إقامة أيام معينة: فقد وقع الاضطراب في ذلك؛ فقيل: أربعة أيام، فإن نوى إقامة أكثر منها قصر، واستدل هذا القائل بإقامته [صلى الله عليه وسلم] في مكة في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة، ووجه الاستدلال بهذا؛ كالوجه
مدة القصر لمن عزم على إقامة أربع
الذي ذكرناه مع التردد سواء بسواء، وهو أشف ما قيل. وغاية ما تمسك به أهل الأقوال الآخرة: ما روي عن جماعة من الصحابة من الاجتهادات المختلفة، ولا حجة في ذلك، وما يقال من: أنها بمنزلة المرفوع لكونها ليست من مسارح الاجتهاد {فمردود على أن التقدير بالأربع مع كونه أشف ما قيل - كما ذكرنا -؛ يمكن أن يقال عليه: إنما يتم الاستدلال به بعد ثبوت أنه [صلى الله عليه وسلم] عزم على إقامة الأربع، ولم ينقل ذلك} ويمكن أن يجاب بأن أعمال الحج لا يمكن الإتيان بها في دون تلك المدة، فالعزم على الإقامة قدرها لا بد منه. وأما ما روي عن أنس، أنه قال: أقمنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] عشرا؛ فهو محمول على جميع أيام الإقامة بمكة ونواحيها، وأما نفس الإقامة بمكة؛ فليست إلا أربعة أيام؛ فليعلم. ( [مدة القصر لمن عزم على إقامة أربع] :) (وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها) : وجهه ما عرفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة المسافر؛ إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع، ويجب الاقتصار عليه، وقد ثبت عنه مع التردد ما قدمنا ذكره. وأما مع عدم التردد، بل العزم على إقامة أيام معينة: فالواجب الاقتصار على ما اقتصر عليه -[صلى الله عليه وسلم]- مع عزمه على الإقامة في أيام الحج؛ فإنه ثبت في " الصحيحين ": أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم
الثامن، ثم خرج إلى منى، فلما أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة - مع كونه لا يفعل ذلك إلا عازما على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج -: كان ذلك دليلا على أن العازم على إقامة مدة معينة؛ يقصر إلى تمام أربعة أيام، ثم يتم، وليس ذلك لأجل كون النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لو أقام زيادة على الأربع لأتم؛ فإنا لا نعلم ذلك، ولكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم على إقامة مدة معينة لا يقصر إلا بإذن، كما أن المتردد كذلك، ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك، ولا ثبت عن الشارع غيره. قال الشافعي: لو نوى إقامة أربعة أيام بموضع؛ انقطع سفره بوصوله. قال في " المنهاج ": ولا يُحسب منها يوما دخوله وخروجه على الصحيح. وقال أبو حنيفة: لا يزال على حكم السفر، حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما. وقول أكثر أهل العلم: إنه يقصر أبدا ما لم يجمع إقامة (¬1) . واختلف أصحاب الشافعي في حكاية مذهبه. وحكاية البغوي: أنه إذا لم يجمع الإقامة، فزاد مكثه على أربعة أيام وهو عازم على الخروج أتم؛ إلا أن يكون في خوف أو حرب فيقصر. وقد قصر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عام الفتح ¬
للمسافر الجمع تقديما أو تأخيرا بأذان وإقامتين
بحرب هوازن تسعة عشر أو ثمانية عشر يوما. وله قول آخر موافق للجمهور. قال الماتن: " واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب؛ هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان، وقد اضطربت فيها المذاهب اضطراباً شديداً، وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا ". انتهى. ( [للمسافر الجمع تقديما أو تأخيرا بأذان وإقامتين] :) (وله الجمع تقديما وتأخيرا) : وجهه ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أنس، قال: " كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب. وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني - وحسنه الترمذي - من حديث معاذ (¬1) : أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر؛ يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس؛ صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار ". وأخرج أحمد من حديث ابن عباس نحوه؛ وزاد: المغرب والعشاء. وأخرجه أيضا البيهقي، والدارقطني، وصحح إسناده ابن العربي، ¬
وتُعقِّب بأن في إسناده من لا يحتج بحديثه. وللحديثين طرق يقوي بعضها بعضا، وليس فيها من المقال ما يبطل الاحتجاج بمجموعها. ومن الجمع بين المغرب والعشاء: حديث ابن عمر الثابت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان إذا جد به السير؛ أخر المغرب حتى يغيب الشفق، ثم يجمع بينها وبين العشاء. قال ابن القيم: " وكل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها، فرُدّت بأنها أخبار آحاد وأوقات الصلوات ثابتة بالتواتر، كحديث إمامة جبريل - عليه السلام - للنبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقوله للسائل عن المواقيت، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات، مجمع عليها بين الأمة، وأحاديث الجمع غير صريحة؛ لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل وفي الوقت، فكيف يترك المبين للمجمل؟ ! والجواب أن يقال: الجميع حق، والذي وقت هذه المواقيت وبينها بفعله وقوله؛ هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله، فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها؛ فأحاديث الجمع مع أحاديث الأفراد، بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات، فالسنة يبين بعضها بعضا، لا يرد بعضها ببعض. ومن تأمل أحاديث الجمع: وجدها كلها صريحة في جمع الوقت، لا في جمع الفعل، وألفاظ السنة الصريحة ترده ".
كذا في " إعلام الموقعين ". قال في " المسوى ": أكثر أهل العلم على جواز الجمع في السفر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما. وقالت الحنفية: لا يجوز، ومعنى الحديث عندهم: أن يؤخر إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها، ويعمل الأخرى في أول وقتها، فيحصل الجمع صورة (¬1) ، رووا ذلك عن علي، وسعد بن أبي وقاص. وأما الجمع للحاج فمتفق عليه ". انتهى. (بأذان وإقامتين) : لثبوت ذلك في " الصحيحين " في جمع مزدلفة. ¬
باب صلاة الكسوفين
(14 - باب صلاة الكسوفين) ( [صلاة الكسوفين سنة] :) وهي صلاة الآيات (وهي سنة) . قال الماتن في " شرحه ": أي: لعدم ورود ما يفيد الوجوب، ومجرد الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونا. انتهى. وزاد في " السيل الجرار ": " اعلم أنه قد اجتمع ههنا في صلاة الكسوف الفعل والقول، ومن ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما كذلك؛ فافزعوا إلى المساجد "، وفي رواية: " فصلوا وادعوا "، والظاهر الوجوب؛ فإن صح ما قيل من وقوع الإجماع على عدم الوجوب؛ كان صارفا؛ وإلا فلا ". انتهى (¬1) . قال في " الحجة البالغة ": " قد صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه صلاها جماعة، ¬
أصح ما ورد في صفة صلاة الكسوفين
وأمر أن ينادى بها: أن الصلاة جامعة، وجهر بالقراءة، فمن اتبع فقد أحسن، ومن صلى صلاة معتدا بها في الشرع؛ فقد عمل بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا ". انتهى. ورجح ابن القيم الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف لحديث عائشة في " صحيح البخاري ": أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ قراءة طويلة، يجهر بها في صلاة الكسوف. وأما قول سمرة: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في كسوف، ولم نسمع له صوتا. فقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. ( [أصح ما ورد في صفة صلاة الكسوفين] :) (وأصح ما ورد في صفتها ركعتان؛ في كل ركعة ركوعان) : لثبوت ذلك في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة، وابن عمر، وابن عباس (وورد ثلاثة) ركوعات في ركعة: فثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وغيره. ومن حديث ابن عباس عند الترمذي - وصححه -. ومن حديث عائشة عند أحمد، والنسائي. (و) ورد (أربعة) في كل ركعة؛ لما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديث ابن عباس.
القراءة بين الركوعين
(و) ورد (خمسة) ركوعات في كل ركعة؛ أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي بن كعب. قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف، تكرار الركوع في كل ركعة؛ لحديث عائشة، وابن عباس، وجابر، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري؛ كلهم روى عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- تكرار الركوع في الركعة الواحدة، والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددا، وأجل، وأخص برسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الذين لم يذكروه ". انتهى. ( [القراءة بين الركوعين] :) (يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل ركعة ركوع) فقط في " صحيح مسلم " من حديث سمرة (¬1) . وأخرجه أبو داود، وأحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه ابن عبد البر والحاكم من حديث النعمان بن بشير. ¬
وأخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث قبيصة (¬1) . قلت: وأجاب ابن القيم عن هذه الروايات من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصح إسنادا، وأسلم من العلة والاضطراب، ولا سيما حديث عبد الله بن عمرو الذي في " الصحيحين "، وهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع، فلم يبق إلا حديث سمرة ونعمان؛ وليس منهما شيء في " الصحيح ". والثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر، وأحفظ وأجل من سمرة ونعمان بن بشير؛ فلا ترد روايتهم بها. الثالث: أنها متضمنة لزيادة؛ صح الأخذ بها. انتهى. وأقول: قد رويت هذه الصلاة من فعله -[صلى الله عليه وسلم]- على أنواع: - ركعتين كسائر الصلوات في كل ركعة ركوع واحد. - وركوعين في كل ركعة. - وثلاثة وأربعة وخمسة كما تقدم. والكل سنّة؛ أيها فعل المكلف؛ فقد فعل ما شرع له، واختيار الأصح منها على الصحيح هو دأب الراغبين في الفضائل، العارفين بكيفية الدلائل. ¬
ماذا يندب عند الكسوفين
وقد أورد على هذه الروايات المنسوبة إلى فعله -[صلى الله عليه وسلم]- إشكال، هو: أنه لم يصلها -[صلى الله عليه وسلم]- غير مرة واحدة، فكيف تشعبت الروايات إلى هذه الصفات. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة؛ ذكرها الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ". وقد ثبت الجهر بالقراءة وثبت الإسرار، والجهر أصح. والقيام بهذه السنة جماعة أفضل، وليست الجماعة شرطا فيها؛ لما في الأحاديث الصحيحة بلفظ: " فصلوا "، ولما في حديث قبيصة الهلالي يرفعه: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة "؛ أخرجه أحمد، والنسائي (¬1) . ( [ماذا يندب عند الكسوفين؟] :) (ونُدب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار) : لحديث أسماء: " فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا "؛ وهو في " الصحيحين ". وفي حديث أبي موسى بلفظ: " فإذا رأيتم شيئا من ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره "؛ وهو في " الصحيحين " أيضا. وفي حديث المغيرة: " فإذا رأيتموهما؛ فادعوا الله وصلوا، حتى تنجلي "؛ وهو أيضا في " الصحيحين ". ¬
باب صلاة الاستسقاء
(15 - باب صلاة الاستسقاء) قال في " الحجة " (¬1) : " وقد استسقى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته؛ أن خرج بالناس إلى المصلى، متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا، فصلى لهم ركعتين جهر بهم فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو، ورفع يديه وحوّل رداءه ". انتهى. ( [متى تسن صلاة الاستسقاء؟ وكم عدد ركعاتها؟] :) وهذه الصلاة مسنونة (تسن عند الجدب) : لعدم ورود ما يدل على الوجوب. (ركعتان بعدهما خطبة) لكونه [صلى الله عليه وسلم] خرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر ... الحديث بطوله، وفيه الدعاء وتحويل الرداء؛ وهو في " سنن أبي داود ". وأخرجه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، وصححه ابن السكن (¬2) . وأخرج أحمد، وابن ماجه (¬3) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: ¬
خرج النبي [صلى الله عليه وسلم] يوما يستسقي، فصلى بنا ركعتين، بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله - عز وجل -، وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه؛ فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن. وفي الباب أحاديث بمعنى ما ذكر، وهي متضمنة للدعاء برفع الجدب وبنزول المطر، وتحويل الأردية؛ من الإمام وغيره. وروى سعيد بن منصور في " سننه " (¬1) : أن عمر استسقى، فلم يزد على الاستغفار. قال أبو حنيفة: لا تسن الصلاة في الاستسقاء. وقال الشافعي: ثبت من حديث عبد الله بن زيد، وابن عباس، أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى. وروي ذلك من حديث جعفر بن محمد: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وأبي بكر، وعمر (¬2) . قال في " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء ": " الأوجه عندي: أن من دعا ولم يصل؛ فقد أصاب أصل الاستسقاء، وقد فعل ذلك النبي [صلى الله عليه وسلم] وعمر، ومن صلى ودعا؛ فقد أصاب الأكمل الأفضل؛ فإن الدعاء أرجى في حرمة الصلاة، وقد ثبت عن النبي [صلى الله عليه وسلم] وعمر ". انتهى. وقد كان [صلى الله عليه وسلم] يرفع يديه في الاستسقاء، حتى يُرى بياض إبطيه، وكان الصحابة فمن بعدهم يستسقون بأهل الصلاح، ولا سيما من كان من قرابة النبي ¬
ماذا تتضمن الخطبة
[صلى الله عليه وسلم] ؛ كما فعل عمر؛ فإنه استسقى بالعباس (¬1) - رضي الله تعالى عنهما -. ( [ماذا تتضمن الخطبة؟] :) (تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة، والزجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار والدعاء برفع الجدب) : لأن روح هذه الصلاة، وأساسها، وعمادها الذي لا تقوم بدونه: هو الاستكثار من الاستغفار قبلها وبعدها، وإخلاص التوبة من الذنوب التي يقارفها الإنسان، والخروج من التبعات والظلامات في الدماء والأموال والأعراض، وذلك غير مختص بفرد من الأفراد، بل يفعله كل أحد، ويشرع للإمام - أو من يقوم مقامه - أن يخطب الناس، ويذكرهم بما يفعلونه من الأسباب الموجبة للرحمة، وقد روي عنه [صلى الله عليه وسلم] أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعدها؛ فالكل سنة. ومن جملة أدعيته [صلى الله عليه وسلم] : " اللهم {أغثنا، اللهم} أغثنا "؛ كما في " الصحيحين " من حديث أنس. ومن أدعيته [صلى الله عليه وسلم] : " اللهم! اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً (¬2) مَريعاً (¬3) طبقاً (¬4) غدقاً (¬5) عاجلاً غير رائث (¬6) "، وهذا لفظ ابن ماجه من حديث ابن عباس. ¬
ما يصنع المصلون بأرديتهم
وهذه الألفاظ ثابتة من رواية غيره من الصحابة في غير " سنن ابن ماجه " (¬1) . ومنها: " اللهم {أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء؛ أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين "؛ وهو في " سنن أبي داود " بإسناد صحيح (¬2) من حديث عائشة. ومن دعائه: " اللهم} اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت " (¬3) ؛ إلى غير ذلك. ( [ما يصنع المصلون بأرديتهم؟] :) (ويحولون جميعا أرديتهم) : لما روي في ذلك - ما تقدم - من جعل الأيمن أيسر والأيسر أيمن. وروي: أنه قلبه ظهرا لبطن وحول الناس معه؛ أخرجه أحمد (¬4) من حديث عبد الله بن زيد؛ وأصله في " الصحيح ". ¬
الكتاب الثالث كتاب الجنائز
(الكتاب الثالث: كتاب الجنائز)
كتاب الجنائز
(3 - كتاب الجنائز) (الفصل الأول: أحكام المحتضر) ( [دليل مشروعية زيارة المريض] :) (من السنة عيادة المريض) : لأن الأحاديث في مشروعيتها متواترة، وقد جعلها الشارع من حقوق المسلم على المسلم. ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس ". وزاد مسلم: " النصيحة ". وزاد البخاري من حديث البراء: " نصر المظلوم، وإبرار القسم ". ( [تلقين المحتضر] :) (وتلقين المحتضر) ؛ وهو في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة. (الشهادتين) : فوجب أن يحث على الذكر، والتوجه إلى الله - تعالى -؛
توجيه المحتضر للقبلة
لتفارق نفسه وهي في غاشية من الإيمان، فيجد ثمرتها في معاده. ودليله حديث أبي سعيد الثابت في " الصحيح "، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ". وفي الباب أحاديث. ( [توجيه المحتضر للقبلة] :) (وتوجيهه) (¬1) إلى القبلة؛ لحديث عبيد بن عمير، عن أبيه، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال - وقد سأله رجل عن الكبائر؟ - فقال: " هن تسع: الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام: قبلتكم أحياء وأمواتا "؛ أخرجه أبو داود (¬2) ، والنسائي، والحاكم. ¬
وقد أخرج البغوي في " الجعديات " (¬1) من حديث ابن عمر نحوه؛ وفي إسناده أيوب بن عتبة، وهو ضعيف. وقد استدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها؛ لقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " قبلتكم أحياء وأمواتا "، وفيه نظر؛ لأن المراد بقوله: " أحياء " عند الصلاة، وبقوله: " أمواتا " في اللحد، والمحتضر حي غير مصل، فلا يتناوله الحديث، وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي، وعدم اختصاصه بحال الصلاة! وهو خلاف الإجماع. والأوْلى الاستدلال بما رواه الحاكم، والبيهقي، عن أبي قتادة: أن البراء بن معرور أوصى أن يُوجَّه إلى القبلة إذا احتضر، فقال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " أصاب الفطرة ". (¬2) ¬
تغميض عيني المحتضر إذا مات
وقد اختلف في الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها، فقيل: يكون مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه، وقيل: على جنبه الأيمن؛ وهو الأولى. أقول: وهو الصفة التي يوجه عليها في قبره، والصفة التي أمر -[صلى الله عليه وسلم]- النائم أن ينام عليها. ومن ذلك فعل البتول - رضي الله عنها (¬1) -، ولا وجه لاختيار الاستلقاء، إلا وهم أنه أكمل. ( [تغميض عيني المحتضر إذا مات] :) (وتغميضه إذا مات) : لحديث شداد بن أوس عند أحمد، وابن ماجة، والحاكم (¬2) ، والطبراني، والبزار، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إذا حضرتم موتاكم؛ فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا؛ فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت ". وأخرج مسلم في " صحيحه ": أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ¬
قراءة يس عند المحتضر
دخل على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر ". ( [قراءة يس عند المحتضر] :) (وقراءة يس عليه) : لحديث: " اقرأوا على موتاكم {يس} "؛ أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان - وصححه - من حديث معقل بن يسار مرفوعا؛ وقد أعل (¬1) . وقد أخرج نحوه صاحب " مسند الفردوس " من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر. وأخرج نحوه أيضا أبو الشيخ في " فضل القرآن " من حديث أبي ذر وحده (¬2) . قال ابن حبان في " صحيحه ": المراد بقوله: " اقرأوا على موتاكم {يس} ": من حضرته المنية لا الميت، وكذلك: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ". ( [المبادرة بتجهيز الميت] :) (والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته) : لما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن وحوح (¬3) : أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ¬
المبادرة بقضاء دين الميت
يعوده، فقال: " إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت؛ فآذنوني به وأعجلوا (¬1) ؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله ". وأخرج أحمد، والترمذي (¬2) من حديث علي مرفوعا بلفظ: " ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفأ ". وأما إذا كان يظن أنه لم يمت؛ فلا يحل دفنه حتى يقع القطع بالموت؛ كصاحب البرسام وغيره. ( [المبادرة بقضاء دين الميت] :) (والقضاء لدينه) : لحديث امتناعه -[صلى الله عليه وسلم]- من الصلاة على الميت الذي عليه دين، حتى التزم بذلك بعض الصحابة؛ والحديث معروف (¬3) ، وحديث: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وحسنه - من حديث أبي هريرة. ( [تسجية الميت] :) (وتسجيته) : لما وقع من الصحابة من تسجية رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عند موته ببرد حبرة، وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة. ¬
جواز تقبيل الميت
وذلك لا يكون إلا بجري العادة بذلك في حياته -[صلى الله عليه وسلم]-. ( [جواز تقبيل الميت] :) (ويجوز تقبيله) : لتقبيله -[صلى الله عليه وسلم]- لعثمان بن مظعون وهو ميت، كما في حديث عائشة عند أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -. وفي " الصحيح " من حديثها، وحديث ابن عباس: أن أبا بكر قبل النبي [صلى الله عليه وسلم] بعد موته. ( [على المريض أن يحسن الظن بربه] :) (وعلى المريض أن يحسن الظن بربه) ، والأحاديث في ذلك كثيرة، ولو لم يكن منها إلا حديث النهي عن أن يموت الميت؛ إلا وهو حسن الظن بربه (¬1) ، وحديث المريض الذي زاره النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: " كيف تجدك؟ " فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: " ما اجتمعا في قلب امريء في مثل هذا الموطن؛ إلا دخل الجنة " (¬2) . - أو كما قال -. ( [على المريض أن يتوب من ذنوبه] :) (ويتوب إليه) ، والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في ذلك لا يتسع ¬
على المريض أن يتخلص مما عليه من حقوق وأقله بالوصية
المقام لبسطها. وفي " الصحيحين ": " أن الله يفرح بتوبة عبده "، وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق. ( [على المريض أن يتخلص مما عليه من حقوق، وأقله بالوصية] :) (ويتخلص عن كل ما عليه) ، ووجوب ذلك معلوم. وإذا أمكن - بإرجاع كل شيء لمن هو له؛ من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك -: فهو الواجب. وإن لم يكن في الحال: فالوصية المفصلة هي أقل ما يجب. وورد الأمر بالوصية، وأنه لا يحل لأحد أن يبيت إلا ووصيته عند رأسه؛ كما في الأحاديث الصحيحة.
فصل غسل الميت
(2 - فصل: غسل الميت) ( [وجوب غسل الميت على الأحياء] :) (ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء) ؛ وهو مجمع عليه، كما حكى ذلك النووي، والمهدي في " البحر ". ومستند هذا الإجماع أحاديث الأمر بالغسل والترغيب فيه، كالأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الذي وقصته (¬1) ناقته، وبغسل ابنته زينب؛ وهما في " الصحيح ". ( [القريب أولى بغسل قريبه] :) (والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه) : لحديث: " ليليه أقربكم إن كان يعلم، فإن لم يكن يعلم؛ فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة "؛ أخرجه أحمد (¬2) ، والطبراني، وفي إسناده جابر الجعفي، والحديث إن كان لا يصلح للاحتجاج به، ولكن للقرابة مزية وزيادة حنو وشفقة، توجب كمال العناية، ولا شك أنها وجه مرجح؛ مع علم القريب بما يحتاج إليه في الغسل. ( [أحد الزوجين أولى بالآخر] :) (وأحد الزوجين بالآخر) أولى؛ لقوله [صلى الله عليه وسلم] لعائشة: " ما ضرك لو مت ¬
قبلي فغسلتك وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك؟ {" أخرجه أحمد، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وفي إسناده محمد بن إسحاق، ولم ينفرد به؛ فقد تابعه عليه صالح بن كيسان (¬1) . وأصل الحديث في " البخاري " (¬2) بلفظ: " ذاك لو كان وأنا حي؛ فأستغفر لك وأدعو لك ". وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما غسل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلا نساؤه "؛ أخرجه أحمد وابن ماجة وأبو داود (¬3) . وقد غسلت الصديق زوجته أسماء - كما تقدم في الغسل لمن غسل ميتا -؛ وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه (¬4) . وغسل علي فاطمة؛ كما رواه الشافعي، والدارقطني، وأبو نعيم، والبيهقي بإسناد حسن. ¬
غسل الميت ثلاثا أو خمسا أو أكثر
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. قال في " المسوى ": " اتفقوا على جواز غسل المرأة زوجها، واختلفوا في غسل الزوج امرأته. قالت الحنفية: لا يجوز، فإن لم يكن إلا الزوج يممها. وقال الشافعي: يجوز؛ لما مر ". ( [غسل الميت ثلاثا أو خمسا أو أكثر] :) (ويكون الغسل ثلاثا أو خمسا أو كثر بماء وسدر) (¬1) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] للنسوة الغاسلات لابنته زينب: " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك - إن رأيتن - بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورا "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث أم عطية. وفي لفظ لهما أيضا: " اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك؛ إن رأيتن ". وفيه دليل على تفويض عدد الغسلات إلى الغاسل. قال في " الحجة ": " إنما أمر بالسدر وزيادة الغسلات؛ لأن المريض مظنة الأوساخ والرياح المنتنة ". اه. (وفي الآخرة كافور) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " واجعلن في الآخرة كافورا "، كما ¬
تقديم الميامن في غسل الميت
سبق، وإنما أمر بالكافور في الآخرة؛ لأن من خاصيته أن لا يسرع التغير فيما استعمل [فيه] . ويقال: من فوائده أنه لا يقرب منه حيوان مؤذ. ( [تقديم الميامن في غسل الميت] :) (وتقدم الميامن) : ليكون غسل الموتى بمنزلة غسل الأحياء، وليحصل إكرام هذه الأعضاء. ودليله قوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث أم عطية هذا: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ". قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس الميت ثلاث ضفائر، كقوله في " الصحيحين " في غسل ابنته: " اجعلوا رأسها ثلاثة قرون "، قالت أم عطية: ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها، ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها. فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا {وإنما يرسل شعرها شقتين على ثديها} ! وسنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أحق بالاتباع. اه. ( [الشهيد لا يغسل] :) (ولا يغسل الشهيد) : بل يدفن في ثيابه ودمائه؛ تنويها بما فعل، وليتمثل صورة بقاء عمله بادي الرأي، وهذا هو الحق؛ لما ثبت في شهداء أحد أنه
-[صلى الله عليه وسلم]- أمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، وهو في " الصحيح ". وما قيل بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال: فمردود بما عند أحمد (¬1) في هذا الحديث عنه [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال في قتلى أحد: " لا تغسلوهم؛ فإن كل جرح أو كل دم؛ يفوح مسكا يوم القيامة ". وأخرج أبو داود عن جابر، قال: رمي رجل بسهم في صدره - أو في حلقه -، فمات؛ فأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وإسناده على شرط مسلم. وعن ابن عباس عند أبي داود، وابن ماجة، قال: أمر النبي [صلى الله عليه وسلم] بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم؛ وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي، وقد تكلم فيه جماعة، وفيه أيضا عطاء بن السائب؛ وفيه مقال (¬2) . وفي الباب أحاديث. وبالجملة: فقد جرت السنة في الشهيد أن لا يغسل، ولم يرو أنه [[صلى الله عليه وسلم]] غسل شهيدا؛ وبه قال الجمهور. وأما من أطلق عليه اسم الشهيد - كالمطعون والمبطون (¬3) والنفساء ونحوهم -: فقد حكى في " البحر " الإجماع على أنهم يغسلون. ¬
فصل تكفين الميت
(3 - فصل: تكفين الميت) ( [تكفين الميت واجب ولو لم يملك غير الكفن] :) (ويجب تكفينه) : الأصل في التكفين التشبه بحال النائم المسجى بثوبه. أكمله في الرجل: إزار وقميص وملحفة أو حلة، وفي المرأة: هذه مع زيادة ما؛ لأنها يناسبها زيادة الستر. (بما يستره) : لأمره -[صلى الله عليه وسلم]- بإحسان الكفن؛ كما في حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه "؛ وهو في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي قتادة (¬1) ، والكفن الذي لا يستر ليس بحسن (¬2) . (ولو لم يملك غيره) ؛ أي: الكفن؛ لأمره -[صلى الله عليه وسلم]- بتكفين مصعب بن عمير في النمرة (¬3) التي لم يترك غيرها؛ كما في ¬
جواز الزيادة في الكفن مع القدرة من دون مغالاة
" الصحيحين " وغيرهما من حديث خباب بن الأرت. ( [جواز الزيادة في الكفن مع القدرة من دون مغالاة] :) (ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة) : لما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- في كفن ابنته؛ فإنه كان يناول النساء ثوبا ثوبا؛ وهو عند الباب، فناولهن الحقو (¬1) ، ثم الدرع، ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر؛ أخرجه أحمد (¬2) ، وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية. وقد كفن -[صلى الله عليه وسلم]- في ثلاثة اثواب سحولية (¬3) جدد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة؛ أدرج فيها إدراجا "؛ وهو في " الصحيحين ". وأخرج أبو داود (¬4) من حديث علي (¬5) : " لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سريعا ". ¬
أقول: أراد العدل بين الإفراط والتفريط، وأن لا ينتحلوا عادة الجاهلية في المغالاة. والحاصل: أنه لا ريب في مشروعية الكفن للميت، ولا شك في عدم وجوب زيادة على الواحد، ولم يثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] كون الكفن على صفة من الصفات، أو عدد من الأعداد؛ إلا ما كان منه [صلى الله عليه وسلم] في تكفين ابنته أم كلثوم. وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال - لكنه لا يخرج به عن حد الاعتبار. فغاية ما يقال: إنه يستحب أن يكون كفن المرأة على هذه الصفة (¬1) ، وأما كفن الرجل؛ فلم يثبت عنه إلا الأمر بالتكفين في الثوب الواحد، كما في قتلى أحد، وفي الثوبين؛ كما في المحرم الذي وقصته ناقته. وليس تكثير الأكفان والمغالاة في أثمانها بمحمود؛ فإنه لولا ورود الشرع به: لكان من إضاعة المال؛ لأنه لا ينتفع به الميت، ولا يعود نفعه على الحي، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال: " إن الحي أحق بالجديد (¬2) "؛ لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: " إن هذا خلق " (¬3) . ¬
الشهيد يكفن في ثيابه التي قتل فيها
والأولى أن يكون الكفن من الأبيض؛ لحديث: " البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، والشافعي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن القطان. وفي معناه أحاديث أخر عن عمران، وسمرة، وأنس، وابن عمر، وأبي الدرداء. ( [الشهيد يكفن في ثيابه التي قتل فيها] :) (ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها) : فقد كان ذلك صنعه -[صلى الله عليه وسلم]- في الشهداء المقتولين معه. وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة من حديث ابن عباس، قال: أمر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يوم أحد بالشهداء؛ أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال: " ادفنوهم بدمائهم وثيابهم " (¬1) . وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن ثعلبة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال يوم أحد: " زملوهم في ثيابهم " (¬2) . ( [تطييب بدن الميت وكفنه سنة] :) (وندب تطييب بدن الميت وكفنه) : لحديث جابر عند أحمد، والبيهقي (¬3) ، ¬
والبزار - بإسناد رجاله رجال الصحيح -، قال: " قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أجمرتم الميت؛ فأجمروه (¬1) ثلاثا ". ولقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: " ولا تمسوه بطيب "؛ وهو في " الصحيح " من حديث ابن عباس؛ فإن ذلك يشعر أن غير المحرم يطيب، ولا سيما مع تعليله [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " فإنه يبعث ملبيا ". قال في " الحجة ": " فوجب المصير إليه ". وإلى هذه النكتة أشار النبي [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها (¬2) ". وأما ما قيل: تتبع بالطيب مساجده {} فلعل وجه ما قاله ابن مسعود ومن بعده، تكريم هذه الأعضاء لكون الاعتماد عليها في أشرف طاعات الله وهي الصلاة، ولم يرد في ذلك من المرفوع شيء، ولكنه يحسن لستر ما لعله يظهر من روائح الميت التي يتأذى بها المتولون لتجهيزه. ¬
فصل صلاة الجنازة
(4 - فصل صلاة الجنازة) ( [الصلاة على الجنازة فرض كفاية] :) (وتجب الصلاة على الميت) : لأن اجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت؛ له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه. والصلاة على الأموات ثابتة ثبوتا ضروريا من فعله [صلى الله عليه وسلم] وفعل أصحابه، ولكنها من واجبات الكفاية؛ لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته [صلى الله عليه وسلم] ولا يؤذونه (¬1) ؛ كما في حديث السوداء التي كانت تقم (¬2) المسجد، فإنه لم يعلم النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا بعد دفنها، فقال لهم: " ألا آذنتموني؟ ! "؛ وهو في " الصحيح "، وامتنع من الصلاة على من عليه دين، وأمرهم بأن يصلوا عليه. ( [يقف الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة] :) (ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة) : لحديث أنس بن مالك: أنه صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة، فصلى عليها، فقام وسطها، فسئل عن ذلك، وقيل له: هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن ماجة. ¬
التكبير أربعا أو خمسا على الجنازة
ولفظ أبي داود: " هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصلي على الجنازة كصلاتك؛ يكبر عليها أربعا، ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. وفي " الصحيحين " من حديث سمرة، قال: صليت وراء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في الصلاة وسطها ". والخلاف في المسألة معروف، وهذا هو الحق. أقول: الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] ؛ أنه كان يقف مقابلا لرأس الرجل، ولم يثبت عنه غير ذلك. وأما المرأة؛ فروي أنه كان يقوم مقابلا لوسطها، وروي أنه كان يقوم مقابلا لعجيزتها، ولا منافاة بين الروايتين، فالعجيزة يصدق عليها أنها وسط. وإيثار ما ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند أئمة الفن، الذين هم المرجع لغيرهم؛ واجب. ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة - أو من غيرهم - على قول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى. ( [التكبير أربعا أو خمسا على الجنازة] :) (ويكبر أربعا أو خمسا) : لورود الأدلة بذلك. أما الأربع فثبتت ثبوتا متواترا من طريق جماعة من الصحابة: أبي
هريرة، وابن عباس، وجابر، وعقبة بن عامر، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم -. وأما الخمس؛ فثبتت في " الصحيح " من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا؛ وإنه كبر على جنازة خمسا، فسألته؟ فقال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكبرها "؛ أخرجه مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ". وأخرج أحمد عن حذيفة: أنه صلى على جنازة، فكبر خمسا، ثم التفت، فقال: ما نسيت ولا وهمت، ولكن كبرت كما كبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، صلى على جنازة فكبر خمسا؛ وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري؛ وهو ضعيف. وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة: فذهب الجمهور إلى أنه أربع، وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس. وقال القاضي عياض: اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع. قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع؛ على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم؛ فشذوذ لا يلتفت إليه (¬1) . اه. وهذه الدعوى مردودة؛ فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى ¬
الآن، ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية؛ إلا أن يصح ما رواه ابن عبد البر في " الاستذكار " من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا، حتى جاء موت النجاشي، فخرج فكبر أربعا، ثم ثبت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- على أربع، حتى توفاه الله - تعالى - (¬1) . على أن استمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الخمس؛ ما لم يقل قولا يفيد ذلك. وقد أخرج الطبراني في " الأوسط " (¬2) عن جابر مرفوعا: " صلوا على موتاكم بالليل والنهار، والصغير والكبير، والدنيء والأمير؛ أربعا "؛ وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي؛ تفرد به عن ابن لهيعة، وما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت! وقد روى البخاري عن علي: أنه كبر على سهل بن حنيف ستا، وقال: إنه شهد بدرا. وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة، أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا. ¬
بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة وسورة
( [بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة وسورة] :) (ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة) : لحديث ابن عباس عند البخاري وأهل " السنن ": أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنه من السنة. ولفظ النسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر، فلما فرغ قال: سنة وحق. وروى الشافعي في " مسنده " عن أبي أمامة بن سهل: أنه أخبره رجل من أصحاب النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: أن السنة في الصلاة على الجنازة؛ أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرا في نفسه؛ قال في " الفتح ": وإسناده صحيح. وقد أخرجه عبد الرزاق، والنسائي بدون قوله: بعد التكبيرة، ولا قوله: ثم يسلم سرا في نفسه. قال في " الحجة ": " ومن السنة قراءة الفاتحة؛ لأنها خير الأدعية وأجمعها، علمها الله - تعالى - عباده في محكم كتابه " أهـ. والحاصل: أن الموطن موطن دعاء، لا موطن قراءة قرآن، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة، ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء.
الأدعية المأثورة في الصلاة على الميت
( [الأدعية المأثورة في الصلاة على الميت] :) (ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة) : منها ما أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، قال: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إذا صلى على جنازة قال: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم {من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ". زاد أبو داود، وابن ماجه: " اللهم} لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده ". وأخرجه أيضا النسائي، وابن حبان، والحاكم، قال: وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه. وأخرج هذا الشاهد الترمذي، وأعله بعكرمة بن عمار. وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك، قال: سمعت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر، وعذاب النار ". وقد وردت أدعية متنوعة في أحاديث صحيحة؛ هي أولى من الاستحسانات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم من عند أنفسهم، فإنهم لم يقصدوا أنها أولى من الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] ، ولكن فن الرواية هم عنه بمعزل، فضاقت عليهم المسالك؛ وهي واسعة.
قال في " الحجة البالغة ": ومن دعاء النبي [صلى الله عليه وسلم] على الميت: " اللهم {إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك؛ فقه من فتنة القبر وعذاب النار؛ وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم} اغفر له وارحمه؛ إنك أنت الغفور الرحيم " (¬1) . وأما الصلاة على الجنائز في المساجد: فغاية ما استدل به من قال بالكراهة؛ ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من صلى على جنازة في المسجد؛ فلا شيء عليه " (¬2) . وأخرجه ابن ماجه بلفظ: " فليس له شيء ". وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة: منها: أنه ضعيف؛ كما قاله جماعة من الحفاظ؛ فإن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - (¬3) . ومنها: أن الذي في النسخ المشهورة الصحيحة من " سنن أبي داود " بلفظ: " فلا شيء عليه " كما تقدم. وعلى فرض ثبوت الرواية باللفظ الآخر؛ فيجب تأويلها؛ لما ثبت من صلاته [صلى الله عليه وسلم] على ابني بيضاء في المسجد. ¬
بل أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة (¬1) : أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد. وأما إنكار من أنكر على عائشة (¬2) فلا حجة فيه، ولا سيما وقد انقطع عند أن قامت عليه الحجة. وأما الصلاة على الجنازة فرادى؛ فأقول: الاستدلال ممن قال باشتراط التجميع فيها بأنه [صلى الله عليه وسلم] ما صلى على جنازة إلا في جماعة: لا تتم به الحجة؛ لأن الأصل في كل صلاة مشروعة أن تكون كالصلوات الخمس في إجزائها فرادى كما تجزئ جماعة. ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل. ولو كان فعلها منه [صلى الله عليه وسلم] في جماعة تقوم به الحجة؛ للزم في صلاة الفرائض الخمس أن لا تصح إلا جماعة؛ لأنه [صلى الله عليه وسلم] لم يؤدها إلا جماعة. إذا تقرر هذا: فالاقتصار في الاستدلال لصحة صلاة الجنازة فرادى على ما ذكرناه مغن عن غيره؛ فإن تحقيق إجماع الصحابة على تجويز الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم] عند موته فرادى (¬3) ممنوع؛ لأنهم قد تفرقوا بعض تفرق في تلك الحال، وإن كان الباقون في المدينة جمهورهم وأكابرهم. ثم لو فرض الإجماع على ذلك: فهو إجماع سكوتي، وانتهاضه ¬
لا يصلى على الغال
للاحتجاج فيه ما لا يخفى على عارف بالأصول. ثم هذا مبني على صدور ذلك، ولم يرد إلا بإسناد ضعيف أنهم فعلوا ذلك. وأما ما يقال: إنه [صلى الله عليه وسلم] أوصاهم بأن يصلوا عليه فرادى، ففي إسناده عبد المنعم بن إدريس؛ وهو - كما قيل - كذاب، وصرح بعض الحفاظ بأن الحديث موضوع. ( [لا يصلى على الغال] :) (ولا يصلى على الغال) (¬1) : لامتناعه [صلى الله عليه وسلم] في غزاة خيبر من الصلاة على الغال (¬2) ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. ¬
لا يصلى على قاتل نفسه
( [لا يصلى على قاتل نفسه] :) (وقاتل نفسه) : لحديث جابر بن سمرة عند مسلم، وأهل " السنن ": أن رجلا قتل نفسه بمشاقص (¬1) ، فلم يصل عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] . ( [لا يصلى على الكافر] :) (والكافر) ، وذلك هو المعلوم منه [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإنه لم ينقل عنه أنه صلى على كافر، وقد صرح بذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل - {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} . ( [لا يصلى على الشهيد] :) (والشهيد) ، وقد اختلفت الروايات في ذلك، وقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يصل على شهداء أحد. وأخرجه أيضا أهل " السنن ". وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم من حديث أنس أنه [صلى الله عليه وسلم] لم يصل عليهم. أقول: لا يشك من له أدنى إلمام بفن الحديث؛ أن أحاديث الترك أصح إسنادا وأقوى متنا، حتى قال بعض الأئمة: إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه، لكن الجهة التي جعلها المجوزون وجه ترجيح وهي الإثبات؛ لا ريب أنها من المرجحات الأصولية؛ ¬
يصلى على القبر وعلى الغائب
إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي؛ لأن الترجيح فرع المعارضة. والحاصل: أن أحاديث الإثبات مروية من طرق متعددة؛ لكنها جميعا متكلم عليها. وقد أطال الماتن الكلام على هذا في " شرح المنتقى "، وسرد الروايات المختلفة واختلاف أهل العلم في ذلك؛ فليرجع إليه؛ فإن هذا المقام من المعارك. ( [يصلى على القبر وعلى الغائب] :) (ويصلى على القبر وعلى الغائب) : لحديث - أنه -[صلى الله عليه وسلم]- انتهى إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعا؛ وهو في " الصحيحين " من حديث ابن عباس. وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد؛ وهو أيضا في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة. وصلى على قبر أم سعد، وقد مضى لذلك شهر؛ أخرجه الترمذي (¬1) . وصلى على النجاشي هو وأصحابه؛ كما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، وأبي هريرة، وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بالمدينة. ¬
والخلاف في الصلاة على القبر والغائب (¬1) معروف؛ ولم يأت المانع بشيء يُعتد به. أقول: الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتا لا يقابله أهل العلم بغير القبول. أما فيمن لم يصل عليه؛ فالأمر أوضح من أن يخفى، ولا تزال الصلاة مشروعة عليه؛ ما علم الناس أنه لم يصل عليه أحد. وأما فيمن قد صُلي عليه: فلمثل حديث السوداء المتقدم، ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره [صلى الله عليه وسلم] بدون صلاة عليه. وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقا: فأشف ما استدلوا به؛ ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] في حديث السوداء المذكور، أنه قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم " (¬2) . قالوا: فهذا يدل على اختصاصه [صلى الله عليه وسلم] بذلك. وتُعقِّب بأنه [صلى الله عليه وسلم] لم ينكر على من صلى معه على القبور، ولو كان خاصا به لأنكر عليهم. وأجيب عن هذا التعقب؛ بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للاستدلال به على الفعل أصالة. ¬
وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة؛ بأنها مدرجة في هذا الحديث، كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد (¬1) . على أنه يمكن الجواب بأن كون الله ينور القبور بصلاة رسوله [صلى الله عليه وسلم] عليها لا ينفي مشروعية الصلاة من غيره تأسيا به، لا سيما بعد قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا كما رأيتموني أصلي ". قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " رُدت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها "، وهذا حديث صحيح، والذي قاله هو الذي صلى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الآخر؛ فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان؛ بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه؛ فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين. ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض، وبين كونه في بطنها؛ بخلاف سائر الصلوات؛ فإنها لم تشرع في القبور، ولا إليها؛ لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد. وقد لعن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من فعل ذلك، فأين ما لعن فاعله وحذر منه، وأخبر أن أهله شرار الخلق - كما قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة ¬
وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " - إلى ما فعله [صلى الله عليه وسلم] مراراً متكررة؟ ! وبالله التوفيق ".
المشي بالجنازة
(5 - المشي بالجنازة) ( [المشي بالجنازة سريعا] :) (ويكون المشي بالجنازة سريعاً) : لحديث أبي بكرة عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والحاكم، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا (¬1) . وأخرج البخاري في " تاريخه " (¬2) ، قال: أسرع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة؛ قربتموها إلى الخير، وإن كان غير ذلك؛ فشر تضعونه عن رقابكم ". وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب، وقال ابن حزم بوجوبه (¬3) . وذهب بعض أهل العلم إلى أن المستحب التوسط؛ لحديث أبي موسى، قال: مرت برسول الله [صلى الله عليه وسلم] جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله ¬
[صلى الله عليه وسلم] : " عليكم القصد "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والبيهقي؛ وفي إسناده ضعف. وأخرج الترمذي، وأبو داود من حديث ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن المشي خلف الجنازة؟ فقال: " ما دون الخبب؛ فإن كان خيرا عجلتموه، وإن كان شرا؛ فلا يبعد إلا أهل النار "؛ وفي إسناده مجهول (¬1) . ولا يخفاك أن حديث أبي موسى لا يصلح للاحتجاج به، على فرض عدم وجود ما يعارضه، فكيف وقد عارضه ما هو في " الصحيحين " بلفظ الأمر؟ ! وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع، لأن الخبب هو ضرب من العدو، وما دونه إسراع. أقول: والحق هو القصد في المشي، فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإسراع؛ ليس المراد بها الإفراط في المشي الخارج عن حد الاعتدال، والأحاديث التي فيها الإرشاد إلى القصد؛ ليس المراد بها الإفراط في البطء، فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإفراط والتفريط، يصدق عليها أنه إسراع بالنسبة إلى الإفراط في البطء، وأنها قصد بالنسبة إلى الإفراط في الإسراع، فيكون المشروع دون الخبب، وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم. ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي، وأبو داود (¬2) عن ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عن المشي خلف ¬
المشي مع الجنازة سنة
الجنازة؟ فقال: ما دون الخبب. وقد ضعفه جماعة بأبي ماجد المذكور في إسناده، قيل: إنه مجهول، وقيل: منكر الحديث، والراوي عنه يحيى الجابري؛ وهو ضعيف. وأخرج أحمد، والنسائي، والحاكم عن أبي بكرة، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا " (¬1) ؛ فمعنى: نكاد نرمل؛ أي: نقارب الرمل. ( [المشي مع الجنازة سنة] :) (والمشي معها) سنة، وهو ظاهر لأنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يمشي مع الجنائز هو وأصحابه، كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي، والأحاديث الآتية في التقدم والتأخر على الجنازة، ولحديث أبي هريرة الثابت في " الصحيح ": " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا ... " الحديث. ( [حمل الجنازة سنة] :) (والحمل لها سنة) : لحديث ابن مسعود، قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها؛ فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع؛ أخرجه ابن ماجة، وأبو داود الطيالسي، والبيهقي من رواية أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عنه (¬2) . ¬
المتقدم على الجنازة والمتأخر عنها سواء
وفي الباب عن جماعة من الصحابة (¬1) ، والأحاديث يقوي بعضها بعضا، ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل. ( [المتقدم على الجنازة والمتأخر عنها سواء] :) (والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء) : لما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره: أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح (¬2) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وابن حبان - وصححه أيضا -، والحاكم - وقال: على شرط البخاري (¬3) - من حديث المغيرة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها؛ قريبا منها؛ عن يمينها أو عن يسارها ". ولفظ أبي داود: " والماشي يمشي خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريبا منها ". وفي لفظ لأحمد، والنسائي، والترمذي: " الراكب خلف الجنازة، ¬
الركوب مع الجنازة مكروه
والماشي حيث شاء منها ". وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان - وصححه - من حديث ابن عمر: أنه رأى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل، وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل. أقول: فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل: فأقل الأحوال أن يكون مساويا للمشي خلفها في الفضيلة، ولم يأت حديث صحيح ولا حسن؛ أن المشي خلف الجنازة أفضل، وأقوال الصحابة مختلفة، فالحق أن ذلك سواء. ولا ينافيه رواية من روى أنه -[صلى الله عليه وسلم]- مشى أمامها أو خلفها؛ فذلك سواء؛ لأن المشي مع الجنازة إنما يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها، وقد أرشد إلى ذلك النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كما تقدم، فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه. قال في " الحجة ": " وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها؟ وهل يحملها أربعة أو اثنان؟ وهل يسل من قبل رجليه، أو من القبلة؟ المختار: أن الكل واسع، وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر " (¬1) أه. ( [الركوب مع الجنازة مكروه] :) (ويكره الركوب) : لحديث ثوبان، قال: خرجنا مع رسول الله - ¬
[صلى الله عليه وسلم]- فرأى ناسا ركبانا، فقال: " ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب "؛ أخرجه ابن ماجة، والترمذي (¬1) . وأخرج أبو داود (¬2) من حديث ثوبان - أيضا -: أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أتي بدابة وهو مع جنازة، فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة، فركب، فقيل له؟ ! فقال: " إن الملائكة كانت تمشي، فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت ". وقد خرج -[صلى الله عليه وسلم]- مع جنازة ابن الدحداح ماشيا، ورجع على فرس؛ كما في حديث جابر بن سمرة عند الترمذي - وقال: صحيح -. ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله: " الراكب خلف الجنازة؛ لأنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز مع الكراهة، أو المراد بأن كون الراكب خلفها ¬
يحرم النعي على الميت
أن يكون بعيدا على وجه لا يكون في صورة من يمشي مع الجنازة. ( [يحرم النعي على الميت] :) (ويحرم النعي) : لحديث حذيفة عند أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن النعي (¬1) . وحديث ابن مسعود، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إياكم والنعي؛ فإن النعي عمل الجاهلية "؛ أخرجه الترمذي؛ وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور، وليس بالقوي. وفي الباب أحاديث. والذي في " الصحاح " و " القاموس " و " النهاية " وغيرها من كتب اللغة: أن النعي: الإخبار بموت الميت، فظاهره تحريم ذلك، وإن لم يصحبه ما يستنكر كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. ولكنه قد ثبت أنه [صلى الله عليه وسلم] نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه؛ أي: أخبرهم، وأخبر بقتلى مؤتة، وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد: " ألا أخبرتموني بموتها؟ ! "؛ فدلت هذه الأحاديث على جواز الإعلام بمجرد الموت؛ لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة، والمنع منه لغير ذلك. ¬
تحرم النياحة على الميت
( [تحرم النياحة على الميت] :) (والنياحة) : لحديث: " من نيح عليه يعذب (¬1) بما نيح عليه "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث المغيرة. وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء، وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وفي " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ". وأخرج أحمد، ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري: " النائحة - إذا لم تتب قبل موتها - تقام يوم القيامة؛ وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب ". وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ: أنا بريء مما بريء منه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بريء من الصالقة (¬2) ، والحالقة، والشاقة ". ¬
يحرم اتباع الجنازة بنار
أقول: الأحاديث في هذا الباب قد اختلفت، فمنها ما فيه الإذن بمطلق البكاء، ومنها ما فيه النهي عن مطلق البكاء، ووردت أحاديث مصرحة بالنهي عن النوح، كما تقدم بعض ذلك؛ ولم يأت ما يدل على جوازه. واختلف الناس في الجمع بين الأحاديث، فالذي يترجح: الجزم بتحريم نفس النوح؛ لأنه أمر زائد على البكاء. وأما ما لا يستطاع دفعه من دمع العين، وما عجز الطبع عن كتمه من الصوت فلا مانع منه، وعليه تحمل أحاديث الإذن بالبكاء، وفيها ما يرشد إلى هذا؛ فليعلم. ( [يحرم اتباع الجنازة بنار] :) (واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور) : لحديث أبي بردة، قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت، فقال: لا تتبعوني بمجمر، قالوا: أو سمعت فيه شيئا؟ ! قال: نعم، من رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ أخرجه ابن ماجة؛ وفي إسناده مجهول (¬1) . وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية. وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم] ¬
السنة أن لا يقعد المتبع للجنازة حتى توضع
قال: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ". ( [السنة أن لا يقعد المتبع للجنازة حتى توضع] :) (ولا يقعد المتبع لها حتى توضع) : لحديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن اتبع؛ فلا يجلس حتى توضع "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة نحوه. وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعدا، كحديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، حتى تخلفكم أو توضع "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره. وأخرج مسلم من حديث علي، قال: قام النبي -[صلى الله عليه وسلم]-؛ يعني: في الجنازة؛ ثم قعد. وفي رواية من حديثه، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس؛ رواه أحمد، وابن ماجة، وأبو داود، وابن حبان. وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار من حديث عبادة بن الصامت: أن يهوديا قال - لما كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يقوم للجنازة -: هكذا نفعل، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اجلسوا وخالفوهم "؛ وفي إسناده بشر بن أبي رافع، وليس
القيام للجنازة منسوخ
بالقوي - كما قال الترمذي -، وقال البزار: تفرد به بشر وهو لين. فأفاد ما ذكرناه: ( [القيام للجنازة منسوخ] :) (أن القيام لها) إذا مرت (منسوخ) ، وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض: فمحكم لم ينسخ (¬1) . قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا. أقول: وهذا الحديث - بلفظ: ثم قعد -؛ لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره [صلى الله عليه وسلم] لنا بالقيام، وعلل ذلك بأن الموت فزع، وقام لجنازة، فقيل: إنها جنازة يهودي! فقال: " أليست نفسا؟ " (¬2) ؛ فغاية ما يدل عليه قعوده - من بعد - هو أن القيام ليس بواجب عليه، وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلا - لم يظهر منه التأسي به فيه، وكان ذلك مخالفا لما قد أمر به الأمة أو نهاها عنه -؛ فإنه يكون مختصا به، ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله (¬3) . ¬
ولفظ: أمرنا بالجلوس (¬1) ؛ إن بلغ إلى حد الاعتبار صلح للنسخ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت المتقدم - وفيه ما تقدم -، والمقام عندي من المضايق. ¬
فصل دفن الميت
(6 - فصل: دفن الميت) ( [مواراة الميت ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا] :) (ويجب دفن الميت) ، أي: مواراة جيفته (في حفرة) قبر؛ بحيث لا تنبشه السباع، و (تمنعه من السباع) ، ولا تخرجه السيول المعتادة. ولا خلاف في ذلك، وهو ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا. وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " احفروا وأعمقوا وأحسنوا "؛ أخرجه النسائي (¬1) ، والترمذي - وصححه -. ( [جواز الضرح واللحد، مع أن اللحد أولى] :) (ولا بأس بالضرح، واللحد أولى) : لأن اللحد أقرب من إكرام الميت، وإهالة التراب على وجهه - من غير ضرورة - سوء أدب. ودليله حديث: أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح، وأن أبا طلحة كان يلحد "، وقد أخرجه ابن ماجة (¬2) من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف. ¬
وأخرج أحمد، وابن ماجة من حديث أنس، قال: لما توفي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان رجل يلحد وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا له "، وإسناده حسن (¬1) . فتقريره [صلى الله عليه وسلم] للرجلين في حياته 0 هذا يلحد وهذا يضرح -؛ يدل على أن الكل جائز. وأما أولوية اللحد: فلحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : اللحد لنا والشق لغيرنا "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن السكن؛ مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر؛ وهو ضعيف. وأخرج أحمد، والبزار، وابن ماجة من حديث جرير نحوه، وفيه عثمان ابن عمير؛ وهو ضعيف (¬2) . وقد ذهب إلى ذلك الأكثر. وحكى النووي في " شرح مسلم " (¬3) اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق. وعلى كل حال: اللحد أولى للخروج من الريبة، وإن كان المقام مقام احتمال. ¬
كيف يدخل الميت في قبره
( [كيف يدخل الميت في قبره؟] :) (ويدخل الميت من مؤخر القبر) : لحديث عبد الله بن يزيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجلي القبر، وقال: هذا من السنة؛ أخرجه أبو داود (¬1) وأخرج ابن ماجة (¬2) من حديث أبي رافع، قال: سل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] سعد بن معاذ سلا. وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس، وأبو بكر النجاد (¬3) من حديث ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سل من قبل رأسه سلا. وقد روى البيهقي من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وبريدة: أنهم أدخلوا النبي [صلى الله عليه وسلم] من جهة القبلة (¬4) ؛ وقد ضعفها البيهقي. ولا يعارض السنة ما وقع من بعض الصحابة عند دفنه [صلى الله عليه وسلم] ( [كيف يوضع الميت في قبره؟] :) (ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلا) ؛ وهو مما لا أعلم فيه خلافا. ¬
يستحب لكل حاضر الحثو ثلاثا
( [يستحب لكل حاضر الحثو ثلاثا] :) (ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات) : لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا؛ أخرجه ابن ماجة، وأبو داود؛ وإسناده صحيح، لا كما قال أبو حاتم (¬1) { وأخرج البزار، والدارقطني من حديث عامر بن ربيعة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] حثى على قبر عثمان بن مظعون - ثلاثا - (¬2) . وفي الباب غير ذلك. ( [لا يرفع القبر زيادة على شبر] :) (ولا يرفع القبر زيادة على شبر) : لحديث علي عند مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ": أنه بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، ولا قبرا مشرفا إلا سواه. وفي " مسلم " - أيضا - وغيره - من حديث جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبنى على القبر. وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي من حديث جعفر بن محمد، عن ¬
أبيه: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رش على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء، ورفعه شبرا (¬1) . أقول: الأحاديث الصحيحة وردت بالنهي عن رفع القبور، وقد ثبت من حديث أبي الهياج ما تقدم، فما صدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف - لغة -: فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها؛ من غير فرق بين نبي وغير نبي، وصالح وطالح، فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يرفع قبورهم، بل أمر عليا بتسوية المشرف منها، ومات -[صلى الله عليه وسلم]- ولم يرفع قبره أصحابه، وكان من آخر قوله: " لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، ونهى أن يتخذوا قبره وثنا. فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشدهم إليه -[صلى الله عليه وسلم]-! وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها؛ تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل؛ فإنهم لو تكلموا لضجوا من اتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها؛ ¬
لأنهم لا يرضون بأن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته، فإن رضوا بذلك في الحياة - كمن يوصي من بعده أن يجعل على قبره بناء، أو يزخرفه -؛ فهو غير فاضل، والعالم يزجره علمه عن أن يكون على قبره ما هو مخالف لهدي نبيه -[صلى الله عليه وسلم]-. فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها {وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند موته، فجعلوا قبره على هذه الصفة التي هو عليها الآن} وقد شد من عضد هذه البدعة؛ ما وقع من بعض الفقهاء من تسويغها لأهل الفضل، حتى دونوها في كتب الهداية، والله المستعان { ومثل هذا التسويغ: الكتب على القبور بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة (¬1) ؛ كأنه لم يكف الناس ابتداعهم في مطعمهم ومشربهم وملبوسهم وسائر أمور دنياهم، فجعلوا على قبورهم شيئا من هذه البدع؛ لتنادي عليهم بما كانوا عليه حال الحياة، وتغالوا في ذلك حتى جعلوه مختصا بأهل العلم والفضل؛ اللهم غفرا} ¬
زيارة القبور مشروعة للرجال والنساء
وما جعلوه وجها لرفع القبور - وهو تمييزها لأجل الزيارة -: فهذا ممكن بوضع حجر على القبر، أو بوضع قضيب، أو نحو ذلك، لا بتشييد الأبنية، ورفع الحيطان والقبب، وتزويق الظاهر والباطن. ( [زيارة القبور مشروعة للرجال والنساء] :) (والزيارة للموتى مشروعة) ، أي: زيارة القبور؛ لحديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه؛ فزوروها فإنها تذكر الآخرة "، أخرجه الترمذي - وصححه -؛ وهو في " صحيح مسلم ". وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة بنحو ذلك. وفي الباب أحاديث. وقد قيل باختصاص ذلك بالرجال؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لعن زوارات القبور؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، وابن حبان في " صحيحه ". وفي الباب عن حسان بن ثابت عند أحمد، وابن ماجة، والحاكم. وعن ابن عباس عند أحمد، وأهل " السنن "، والحاكم، والبزار؛ بإسناد فيه صالح - مولى التوأمة -؛ وهو ضعيف. وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز، وهي تقوي المنع من الزيارة.
وروى الأثرم في " سننه "، والحاكم (¬1) من حديث عائشة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] رخص لهن في زيارة القبور. وأخرج ابن ماجة عنها مختصرا: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] رخص في زيارة القبور. فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فزوروها "؛ كما سبق، فلا يكون في ذلك حجة؛ لأن الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص. لكنه يؤيد ما روته عائشة: ما في " صحيح مسلم " عنها، أنها قالت: يا رسول الله {كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين ... " الحديث. وروى الحاكم: أن فاطمة - رضي الله تعالى عنها - كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة (¬2) . ويجمع بين الأدلة: بأن المنع لمن كانت تفعل في الزيارة ما لا يجوز من نوح ونحوه، والإذن لمن لم تفعل ذلك. ¬
أقول: استدلوا للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة، وغير خاف على عارف بالأصول؛ أن الأحاديث الواردة في النهي للنساء عن الزيارة، والتشديد في ذلك، حتى لعن [صلى الله عليه وسلم] من فعلت ذلك؛ بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن اتباع الجنائز (¬1) ، فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأولى، وشدد في ذلك حتى قال للبتول - رضي الله عنها -: " لو بلغت معهم - يعني: أهل الميت - الكدى؛ ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " (¬2) ؛ فهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة. لكنه يشكل على ذلك أحاديث أخر: منها: حديث عائشة المتقدم: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] علمها كيف تقول إذا زارت القبور (¬3) . ومنها: ما أخرجه البخاري: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] مر بامرأة تبكي على قبر، ولم ينكر عليها الزيارة. ¬
كيف يقف الزائر للقبور
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث؛ إنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لما تقتضيه الصيغة من المبالغة - يعني: لفظ " زوارات " -. قال: ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج. ( [كيف يقف الزائر للقبور؟] :) (ويقف الزائر مستقبلا للقبلة) : لحديث: أنه جلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مستقبل القبلة لما خرج إلى المقبرة؛ أخرجه أبو داود (¬1) من حديث البراء، وهو [صلى الله عليه وسلم] خرج في هذا الحديث مع جنازة؛ فأفاد مشروعية قعود من خرج مع الجنازة مستقبلا حتى يدفن، وكذلك مشروعية الاستقبال للزائر؛ لكونه قد خرج إلى المقبرة كما يخرج من معه جنازة، وقعد كما يقعد. ( [ماذا يقول الزائر للقبور؟] :) وقد كان [صلى الله عليه وسلم] يقول عند الزيارة: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين {وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية "؛ فينبغي للزائر أن يقول كذلك. وقال في " الحجة ": وفي رواية " السلام عليكم يا أهل القبور} يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا ونحن بالأثر (¬2) "؛ والله - تعالى - أعلم. ¬
يحرم اتخاذ القبور مساجد
( [يحرم اتخاذ القبور مساجد] :) (ويحرم اتخاذ القبور مساجد) ، الأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما، ولها ألفاظ منها: " لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وفي لفظ: " قاتل الله اليهود ... " الحديث. وفي لفظ: " لا تتخذوا قبري مسجدا ". وفي آخر: " لا تتخذوا قبري وثنا ". واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. (¬1) وفي " مسلم ": " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها " (¬2) . قال البيضاوي: " وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا لتعظيم له، ولا لتوجه نحوه: فلا يدخل في ذلك الوعيد " {انتهى. وتعقبه في " سبل السلام " وقال: قوله: لا لتعظيم له} يقال: اتخاذ ¬
يحرم زخرفة القبور
المسجد بقربه، وقصد التبرك به تعظيم له، ثم أحاديث النهي مطلقة، ولا دليل على التعليل بما ذكر، والظاهر أن العلة سد الذريعة، والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان التي تعظم الجمادات التي لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها، الملعون فاعله، ومفاسد ما بني على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقد أخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن ابن عباس: لعن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم] زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (¬1) "؛ وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة. انتهى. ( [يحرم زخرفة القبور] :) (وزخرفتها) : لحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ما أمرت بتشييد المساجد "؛ أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان. قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى (¬2) . والتشييد: رفع البناء وتزيينه بالشيد، وهو الجص، والحديث ظاهر في الكراهة، أو التحريم؛ لقول ابن عباس: كما زخرفت اليهود والنصارى؛ فإن التشبه بهم محرم؛ وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس ¬
من الحر والبرد، وتزيينه يشغل القلوب عن الإقبال على الطاعة، ويذهب الخشوع الذي هو روح جسم العبادة، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل! قال المهدي في " البحر ": إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا - أي: من العلماء -؛ وإنما فعله أهل الدول الجبابرة، من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل، وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا. وهو كلام حسن. وفي قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ما أمرت ": إشعار بأنه لا يحسن؛ فإنه لو كان حسنا لأمره الله - تعالى - به -[صلى الله عليه وسلم]-. وأخرج البخاري من حديث ابن عمر: أن مسجده -[صلى الله عليه وسلم]- كان على عهده مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالأحجار المنقشة، والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. قال ابن بطال: وهذا يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر - رضي الله تعالى عنه - مع كثرة الفتوحات في أيامه، وكثرة المال عنده؛ لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده؛ لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم قال عند عمارته: أكن
يحرم تسريج القبور
الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، ثم كان عثمان المال في زمنه أكثر، فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه. وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك؛ خوفا من الفتنة؛ فتأمل. ( [يحرم تسريج القبور] :) (وتسريجها) : لحديث: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وفي إسناده أبو صالح باذام، وفيه مقال. (¬1) وأخرج أحمد، ومسلم، وأهل " السنن " عن جابر، قال: نهى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. وزاد الترمذي: وأن يكتب عليه، وأن يوطأ - وصححه -. وأخرج النهي عن الكتابة - أيضا - النسائي. وقال الحاكم: إن الكتابة - وإن لم يخرجها مسلم -: فهي على شرطه. ( [يحرم القعود على القبور] :) (والقعود عليها) : لما أخرجه مسلم، وأحمد، وأهل " السنن " من حديث ¬
يحرم سب الأموات
أبي هريرة، (¬1) قال: " لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر ". (¬2) وأخرج أحمد بإسناد صحيح، (¬3) عن عمرو بن حزم، قال: رآني رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- متكئا على قبر، فقال: " لا تؤذ صاحب هذا القبر ". قال في " الحجة البالغة ": ومعنى: أن لا يقعد عليه؛ قيل: أن يلازمه المزورون، وقيل: أن يطأوا القبور، وعلى هذا؛ فالمعنى إكرام الميت، فالحق التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك، وبين الإهانة وترك الموالاة به. ( [يحرم سب الأموات] :) (وسب الأموات) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا "؛ أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة. وأخرج أحمد، والنسائي من حديث ابن عباس: " لا تسبوا أمواتنا؛ فتؤذوا أحياءنا "؛ وفي إسناده صالح بن نبهان؛ وهو ضعيف، ولكنه يشهد له ما ورد بمعناه من حديث سهل بن سعد، والمغيرة (3) . ¬
التعزية مشروعة بألفاظ مأثورة
أقول: أما السباب للأموات من الشافعين لهم، القائمين بالصلاة عليهم: فما لهذا حمل الحاملون الجنازة إليهم؛ فإذا كان لا يستجيز الدعاء للميت، كمن يكون - مثلا - معلوم النفاق؛ فيدعو المصلي لنفسه، ولسائر المسلمين إذا ألجأته الضرورة إلى الصلاة عليه، و " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "؛ و " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس (¬1) . قال بعض المقصرين لرجل من أهل العلم: ألا تلعن فلانا؟ {قال: وهل تعبدنا الله بذلك؟} قال: نعم، قال: فمتى عهدك بلعن الشيطان وفرعون؛ فإنهما من رؤوس هذه الطائفة التي زعمت أن الله تعبدك بلعنها؟ قال: لا أدري {قال: لقد فرطت فيما تعبدك الله به، وتركت ما هو أحق بما تفعل} فعرف ذلك المقصر خطأه (¬2) . ( [التعزية مشروعة بألفاظ مأثورة] :) (والتعزية مشروعة) : لحديث: " من عزى مصابا فله مثل أجره "، أخرجه ابن ماجة، والترمذي، والحاكم من حديث ابن مسعود، وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم (¬3) . ¬
وأخرج ابن ماجة من حديث عمرو بن حزم، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة؛ إلا كساه الله - عز وجل - من حلل الكرامة يوم القيامة "؛ ورجال إسناده ثقات (¬1) . وأخرج الشافعي من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لما توفي رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- وجاءت التعزية؛ سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب "؛ وفي إسناده القاسم بن عبيد الله بن عمرو؛ وهو متروك (¬2) . وأخرج البخاري، ومسلم من حديث أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأرسلت إليه إحدى بناته؛ تدعوه وتخبره أن صبيا لها - أو ابنا لها - في الموت، فقال للرسول: " ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ". فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في " الصحيح "، ولا يعدل عنها إلى ¬
إهداء الطعام لأهل الميت مشروع
غيرها (¬1) . ( [إهداء الطعام لأهل الميت مشروع] :) (وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت) : لحديث عبد الله بن جعفر، قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل؛ قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ فقد أتاهم ما يشغلهم "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن السكن، وحسنه الترمذي. (¬2) وأخرج نحوه أحمد، والطبراني، وابن ماجة من حديث أسماء بنت عميس - أم عبد الله بن جعفر -. وأخرج أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح (¬3) من حديث جرير، قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. ولا يعارض هذا ما قد ثبت (¬4) عن النبي -[صلى الله عليه وسلم] وشرف وكرم -. ¬
الكتاب الرابع كتاب الزكاة
(الكتاب الرابع: كتاب الزكاة)
كتاب الزكاة
(4 - كتاب الزكاة) ( [الزكاة ركن من أركان الإسلام] :) وهي فريضة من فرائض الدين، وركن من أركانه، وضروري من ضرورياته؛ ولكنها لا تجب إلا فيما أوجب فيه الشارع الزكاة من الأموال، وبينه للناس؛ فإن ذلك هو بيان لمثل قوله: {خذ من أموالهم صدقة} و {آتوا الزكاة} ، كما بين للناس قوله - تعالى -: {أقيموا الصلاة} ما شرعه الله - تعالى - من الصلوات التي بينها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للناس. قال الماتن: وقد توسع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها، بل صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- في بعض الأموال بعدم الوجوب، كقوله: " ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة ... " (¬1) . وقد كان للصحابة أموال وجواهر، وتجارات وخضراوات، ولم يأمرهم -[صلى الله عليه وسلم]- بتزكية ذلك، ولا طلبها منهم، ولو كانت واجبة في شيء من ذلك؛ لبين للناس ما نزل إليهم، فقد أوردنا في هذا المختصر ما تجب فيه، وأشرنا إلى أشياء من الأموال التي لا زكاة فيها، مما قد جعله بعض أهل العلم من الأموال التي تجب فيها الزكاة؛ كما ستسمع ذلك. ا. هـ ¬
تجب الزكاة على المالك المكلف
(تجب في الأموال التي ستأتي) - ببيانها عن قريب -. واجتمعت الأمة على أن منع الزكاة كبيرة. قال في " العالمكيرية ": " هي فريضة محكمة، يكفر جاحدها، ويقتل مانعها ". قال مالك: الأمر عندنا: أن كل من منع فريضة من فرائض الله - تعالى -، فلم يستطع المسلمون أخذها: كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه، وبلغه (¬1) أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال: " لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه "؛ كذا في " المسوى ". ( [تجب الزكاة على المالك المكلف] :) (إذا كان المالك مكلفا) : اعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها؛ فإذا راجع الإنصاف، ووقف حيث أوقفه الحق؛ علم أن هذا هو الحق. وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام، ودعائمه وقوائمه، ولا خلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان - التي الزكاة خامستها - على غير مكلف، فإيجاب الزكاة عليه؛ إن كان بدليل: فما هو؟ ! فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة. كما يروى عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه أمر ¬
اختلاف الصحابة بوجوب الزكاة في مال اليتيم
بالاتجار في أموال الأيتام؛ لئلا تأكلها الزكاة، فلم يصح ذلك في شيء مرفوعا إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فليس مما تقوم به الحجة (¬1) . ( [اختلاف الصحابة بوجوب الزكاة في مال اليتيم] :) وأما ما روي عن بعض الصحابة: فلا حجة فيه أيضا، وقد عورض بمثله؛ كما روى البيهقي (¬2) عن ابن مسعود قال: من ولي مال يتيم، فليحص عليه السنين، فإذا رفع إليه ماله؛ أخبره بما فيه من الزكاة؛ فإن شاء زكى، وإن شاء ترك. وروي نحو ذلك عن ابن عباس. وإن قال قائل: إن الخطاب في الزكاة عام، كقوله: {خذ من أموالهم} ، ونحوه: فذلك ممنوع، وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب، وهم المكلفون، وأيضا؛ بقية الأركان - بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف -: الخطابات بها عامة للناس، والصبي من جملة الناس، فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين؛ لكان العموم في غيرها كذلك، وأنه باطل بالإجماع، وما استلزم الباطل باطل. مع أن تمام الآية - أعني: قوله - تعالى -: {خذ من أموالهم صدقة} يدل على عدم وجوبها على الصبي؛ وهو قوله: {تطهرهم وتزكيهم بها} ؛ فإنه لا معنى لتطهير الصبي والمجنون، ولا لتزكيته، فما جعلوه مخصصا لغير المكلفين ¬
الراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات
في سائر الأركان الأربعة؛ لزمهم أن يجعلوه مخصصا في الركن الخامس - وهو الزكاة -. وبالجملة: فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة، لا يحللها إلا التراضي، وطيبة النفس، أو ورود الشرع كالزكاة، والدية، والأرش، والشفعة، ونحو ذلك، فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله - سيما من كان قلم التكليف عنه مرفوعا -؛ فعليه البرهان. والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع، حتى يزحزحه عنه الدليل. ولم يوجب الله - تعالى - على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما، ولا أمره بذلك، ولا سوغه له، بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب، وترجف لها الأفئدة. ( [الراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات] :) أقول: وأما اشتراط الإسلام: فالراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات، لكنه منع صحتها منهم مانع الكفر، فليس الإسلام شرطا في الوجوب، بل الكفر مانع عن الصحة، والمكلف مخاطب برفع الموانع التي لا يجزيء عنه ما وجب عليه مع وجودها؛ فخذ هذه قاعدة كلية في كل باب من الأبواب التي يجعلون الإسلام فيها شرطا للوجوب. واما اشتراط الحرية: فلا ريب أن هذا الاشتراط؛ إنما يتم على قول من قال: إن العبد لا يملك، وهي مسألة قد تعارضت فيها الأدلة بما لا يتسع المقام لبسطه.
وهذه شرطية حقيقية عند القائل بعدم تملك العدم؛ لأنه لا يجب على العبد أن يسعى في تحرير نفسه لتجب عليه الزكاة؛ لما تقرر أن تحصيل شرط الواجب ليجب: لا يجب، فلا وجوب على العبد حال العبودية، بخلاف الكافر؛ فإن الوجوب ثابت عليه في حال كفره، ولكنه لا تتم تأدية الواجب؛ إلا بإزالة المانع؛ وهو الكفر، وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه. ومن ههنا يتبين لك الفرق بين هاتين القاعدتين: فالاولى: تستعمل قبل وجوب ذلك الواجب على الشخص. والثانية: بعد وجوبه عليه مع مانع يمنعه عنه. ومما ينبغي أن يجعل شرطا في وجوب الزكاة: التكليف - كما فعل الماتن - رحمه الله -، مع أنها مشروعة للتطهرة والتزكية؛ كما نطق بذلك القرآن، وهما لا يكونان لغير المكلفين، فمن أوجب على الصبي زكاة في ماله - تمسكا بالعمومات -؛ فليوجب عليه بقية الأركان الأربعة تمسكا بالعمومات! وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحرمة: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه "، ولا سيما أموال اليتامى؛ فإن القوارع القرآنية، والزواجر الحديثية - فيها - أظهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فلا يأمن ولي اليتيم - إذا أخذ الزكاة من ماله - من التبعة؛ لأنه أخذ شيئا لم يوجبه الله على المالك، ولا على الولي، ولا على المال: أما الأول: فلأن المفروض؛ أنه صبي لم يحصل له ما هو مناط التكاليف
الشرعية، وهو البلوغ. وأما الثاني: فلأنه غير مالك للمال؛ والزكاة لا تجب على غير مالك. وأما الثالث: فلأن التكاليف الشرعية مختصة بهذا النوع الإنساني، لا تجب على دابة ولا جماد؛ والله أعلم.
باب زكاة الحيوان
(1 - باب زكاة الحيوان) ( [تجب الزكاة في الأنواع الثلاثة من الحيوانات] :) (إنما تجب منه في النعم) ، أي: الماشية، وهي في أكثر البلدان الإبل، والبقر، والغنم، ويجمعها اسم الأنعام. وأما الخيل فلا تكثر صرمها (¬1) ، ولا تناسل نسلا وافرا؛ إلا في أقطار يسيرة، كتركستان؛ كذا في " الحجة ". (وهي الإبل والبقر والغنم) : " فتؤخذ من كل صرمة من الإبل ناقة، ومن كل قطيع من البقر بقرة، ومن كل ثلة من الغنم شاة مثلا، ثم يعرف كل واحد من هذه بالمثال، والقسمة، والاستقراء؛ ليتخذ ذلك ذريعة إلى معرفة الحدود الجامعة المانعة ... "؛ كذا في " الحجة ". وكونها لا تجب في غير الثلاثة الأنواع من الحيوانات: فلأن الذي بين للناس ما نزل إليهم لم يوجبها عليهم في غيرها. وأما ما ورد من ذكر حق الله - تعالى - في الخيل؛ فالمراد به الجهاد. ¬
فصل نصاب الإبل
(1 - فصل: [نصاب الإبل] ) (إذا بلغت الإبل خمسا ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض (¬1) أو ابن لبون (¬2) ، وفي ست وثلاثين ابنة لبون (¬3) ، وفي ست وأربعين (¬4) حقة، وفي إحدى وستين جذعة (¬5) ، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة) . ( [التفصيل في بيان نصاب الإبل] :) هذا التفصيل في فرائض الصدقة؛ هو الثابت في حديث أنس: أن أبا بكر كتب لهم أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- على المسلمين، ثم ذكر فيه ما يجب في كل عدد - كما في هذا المختصر -، ثم قال فيه: فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات؛ فمن بلغت عنده صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة؛ فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده، ¬
وعنده ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين؛ إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده إلا حقة؛ فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده ابنة لبون، وعنده ابنة مخاض؛ فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين؛ إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض، وليس عنده إلا ابن لبون ذكر؛ فإنه يقبل منه، وليس معه شيء، ومن لم تكن معه إلا أربع من الإبل؛ فليس شيء إلا أن يشاء ربها. وقد أخرج هذا الحديث أحمد، والنسائي، وأبو داود. وأخرجه - أيضا - البخاري مفرقا في " صحيحه ". قال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء، ولم يخالفه أحد، وصححه ابن حبان وغيره. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي نحو ما اشتمل عليه المختصر من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قد كتب الصدقة، ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، فأخرجها أبو بكر، فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده، فعمل بها، قال: فلقد هلك عمر يوم هلك؛ وإن ذلك لمقرون بوصيته ... ثم ذكر الحديث. قال في " الحجة ": وقد استفاض ذلك من رواية أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وعمرو بن حزم، وغيرهم، بل صار متواترا بين المسلمين. انتهى.
فصل نصاب البقر
(2 - فصل: نصاب البقر) (ويجب في ثلاثين من البقر تبيع (¬1) أو تبيعة، وفي أربعين مسنة (¬2) ثم كذلك (¬3)) : يدل على ذلك ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - (¬4) من حديث معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، فإذا زادت على الأربعين؛ فلا شيء في الزائد، حتى يبلغ سبعين وفيها تبيع ومسنة إلى ثمانين، وفيها مسنتان، ثم كذلك. وقال ابن عبد البر في " الاستذكار ": لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقرة على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه. (3 - فصل: [نصاب الغنم] ) (ويجب في أربعين من الغنم شاة، إلى مائة وإحدى وعشرين وفيها شاتان، إلى مائتين وواحدة وفيها ثلاث شياة، إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها أربع، ثم في كل مائة شاة) : هذا التفصيل هو الثابت في حديث أنس، وحديث ابن عمر - اللذين تقدم تخريجهما في باب زكاة الإبل -، وقد وقع الإجماع على ذلك. ¬
فصل في الجمع والتفريق والأوقاص
(4 - فصل: في الجمع والتفريق، والأوقاص) ( [لا يجوز الجمع بين مفترق، ولا التفريق بين مجتمع] :) (ولا يجمع بين مفترق من الأنعام ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) : لنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن ذلك، كما في كتاب أبي بكر المحكي عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- وقد تقدمت الإشارة إليه -، وكذلك في حديث ابن عمر حاكيا لكتاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في ذلك، كما سبقت الإشارة إليه، وكذلك وقع التصريح بالنهي عن ذلك في غير الحديثين المذكورين؛ فإن فيه النهي كذلك. ومعنى التفريق بين مجتمع؛ أن يكون لثلاثة أنفار - لكل واحد أربعون شاة - فإذا لم يجمعوها كان على كل واحد شاة، وإذا جمعوها لم يجب فيها إلا شاة. وصورة الجمع بين مفترق، أن يكون لرجلين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة، ونحو ذلك من الصور. وهذا على اعتبار المسرح والمراح والخلطة، وإن اختلف المالكون، كما دلت على ذلك الأدلة. ( [لا شيء فيما دون النصاب] :) (ولا شيء فيما دون الفريضة) ، ولا خلاف في ذلك (ولا في الأوقاص) ؛
تراجع الخليطين بالسوية
وهي ما بين الفريضتين، فلا خلاف في ذلك أيضا؛ إلا في رواية عن أبي حنيفة. وفي حديث معاذ عند أحمد وغيره: أن الأوقاص لا فريضة فيها. ( [تراجع الخليطين بالسوية] :) (وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية) : لما وقع في الكتابين المذكورين من قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وما كان من خليطين؛ فإنهما يتراجعان بالسوية ". والمراد: أنهما إذا خلطا ما يملكانه من المواشي فبلغت النصاب؛ أخرجا زكاة تلك الماشية المخلوطة، وكان على كل واحد بحساب ماشيته. وصورة ذلك: أن يكون لكل واحد منهما عشرون شاة، فيأخذ المصدق - من الأربعين - شاة من ملك أحدهما، فيرجع على صاحبه بنصف قيمتها. وهذا على أن مجرد خلط الشريكين بملكيهما يصيرهما بمنزلة الماشية المملوكة لرجل واحد، وهو الحق كما دلت على ذلك الأدلة. ( [الأنواع التي نهي المصدق عن أخذها] :) (ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار ولا عيب ولا صغيرة ولا أكولة ولا ربى ولا ماخض، ولا فحل غنم) : لما في كتاب أبي بكر بلفظ: " ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس ". وفي كتاب عمر المحكي عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-:
" لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب ". وفي حديث عبد الله بن معاوية الغاضري - مرفوعا - بلفظ: " ولا تعطي الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط (¬1) اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم "؛ أخرجه أبو داود، والطبراني بإسناد جيد. وأخرج مالك في " الموطأ "، والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي: أن عمر بن الخطاب نهى المصدق أن يأخذ الأكولة، والربى، والماخض، وفحل الغنم. وقد روى ذلك عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ابن أبي شيبة في " مسنده ". والهرمة: الكبيرة التي سقطت أسنانها. وذات العوار: - بفتح العين المهملة وضمها -؛ قيل: هي العوراء، وقيل: هي المعيبة. وقد شمل قوله: " ولا عيب " كل ما فيه عيب يعد عند العارفين بالمواشي نقصا؛ فإنه لا يخرج في الصدقة، فتدخل في ذلك الدرنة - بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون -؛ وهي: الجرباء. والشرط اللئيمة: هي صغار المال وشراره. ¬
واللئيمة: البخيلة باللبن وغيرها. وأما الأكولة: فهي - بفتح الهمزة وضم الكاف -؛ العاقر من الشاة. والربى: - بضم الراء وتشديد الباء الموحدة -؛ الشاة التي تربى في البيت للبنها. والماخض: الحامل (¬1) . وفحل الغنم: هو الذي ينزو عليها؛ لأن المالك يحتاج إليه، وإن لم يكن من الخيار. ¬
باب زكاة الذهب والفضة
(2 - باب زكاة الذهب والفضة) ( [النصاب والحول شرطان لوجوب زكاة الذهب والفضة] :) لا خلاف في وجوب الزكاة في الذهب ولا الفضة مع النصاب والحول، ولهذا قال الماتن - رحمه الله -: (إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر) ؛ وذلك لأن الكنوز أنفس المال، يتضررون بإنفاق المقدار الكثير منها، فمن حق زكاته أن يكون أخف الزكوات، والذهب محمول على الفضة. (نصاب الذهب عشرون دينارا، ونصاب الفضة مائتا درهم) : لحديث علي، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة؛ من كل أربعين درهما درهما، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين؛ ففيهما خمسة دراهم "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وفي لفظ: " وليس فيما دون المائتين زكاة "؛ وفي إسناده مقال، وقد حسنه ابن حجر، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه (¬1) . وأخرج أحمد، ومسلم من حديث جابر، قال: قال رسول الله - ¬
[صلى الله عليه وسلم]-: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة ". وأخرجه أحمد، والبخاري من حديث أبي سعيد. وأخرج أبو داود من حديث علي، قال: إذا كان لك مائتا درهم، وحال عليها الحول؛ ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني: في الذهب -، حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول؛ ففيها نصف دينار "؛ وفي إسناده مقال، ولكنه حسنه الحافظ ابن حجر، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه - كالحديث الأول - (¬1) . وقد وقع الإجماع على أن نصاب الفضة مئتا درهم، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حبيب الأندلسي، والخمس الأواقي المذكورة في الحديث: هي مئتا درهم؛ لأن وزن كل أوقية أربعون درهما. وذهب إلى أن نصاب الذهب عشرون دينارا الجمهور. وقد روي عن الحسن وطاوس ما يخالف ذلك؛ وهو مردود. وذهب إلى اعتبار الحول الأكثر. وذهب ابن عباس، وابن مسعود، وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال؛ تمسكا بما دل على مطلب الوجوب؛ وهو ¬
الأدلة في زكاة الحلي متعارضة
إهمال للقيد. ( [الأدلة في زكاة الحلي متعارضة] :) (ولا شيء فيما دون ذلك) : قال في " الحجة ": " وهل في الحلي زكاة؟ الأحاديث فيه متعارضة، وإطلاق الكنز عليه بعيد، ومعنى الكنز حاصل، والخروج من الاختلاف أحوط ". وفي " الموطأ " (¬1) : كانت عائشة تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحلي؛ فلا تخرج من حليهن الزكاة. قال مالك: من كان عنده تبر أو حلي - من ذهب أو فضة - لا ينتفع به للبس؛ فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، بوزن فيؤخذ ربع عشره؛ إلا أن ينقص من وزن عشرين دينارا عينا، أو مئتي درهم، فإن نقص من ذلك؛ فليس فيه زكاة. وإنما تكون الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس، فأما التبر والحلي المكسور، الذي يريد أهله صلاحه ولبسه؛ فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على اهله فيه زكاة (¬2) . قال مالك: ليس في اللؤلؤ، ولا في المسك، ولا في العنبر زكاة. ¬
لا تجب الزكاة في الجواهر
قلت: قال به الشافعي في أظهر قوليه، وخصه بالمباح. وأما المحظور - كالأواني وكالسوار والخلخال للرجل -: فتجب فيه الزكاة بكل حال. وعند الحنفية: تجب في الحلي إذا كان من ذهب أو فضة، دون اللؤلؤ ونحوه. ( [لا تجب الزكاة في الجواهر] :) (ولا زكاة في غيرهما من الجواهر) كالدر، والياقوت، والزمرد، والألماس (¬1) واللؤلؤ، والمرجان ونحوها؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والبراءة الأصلية مستصحبة، وقد تقدم في أول كتاب الزكاة ما يفيد هذا. أقول: ليس من الورع ولا من الفقه؛ أن يوجب الإنسان على العباد ما لم يوجبه الله عليهم؛ بل ذلك من الغلو المحض، والاستدلال بمثل: {خذ من أموالهم صدقة} ؛ يستلزم وجوب الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدق عليه اسم المال، ومنه الحديد، والنحاس، والرصاص، والثياب، والفراش، والحجر، والمدر، وكل ما يقال له: مال؛ على فرض أنه ليس من أموال التجارة، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين، وليس ذلك لورود أدلة تخصص الأموال المذكورة من عموم: {خذ من أموالهم} ، حتى يقول قائل: إنها تجب زكاة؛ ما لم يخصه دليل؛ لبقائه تحت العموم، بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده؛ هو أموال مخصوصة، وأجناس معلومة، ولم يوجب عليهم ¬
حكم الزكاة في أموال التجارة
الزكاة في غيرها. فالواجب حمل الإضافة في الآية الكريمة على العهد؛ لما تقرر في علم الأصول والنحو والبيان: أن الإضافة تنقسم إلى الأقسام التي تنقسم إليها اللام، ومن جملة أقسام اللام: العهد، بل قال المحقق الرضي: إنه الأصل في اللام. إذا تقرر هذا: فالجواهر، واللآليء، والدر، والياقوت، والزمرد، والعقيق، واليسر، وسائر ما له نفاسة وارتفاع قيمة: لا وجه لإيجاب الزكاة فيه، والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة؛ ليس عليه أثارة من علم {ولو كان ذلك صحيحا؛ لكان في المصنوعات من الحديد - كالسيوف والبنادق ونحوها -، ما هو أنفس وأعلى ثمنا، ويلحق بذلك الصين، والبلور، واليشم، وما يتعسر الإحاطة به من الأشياء التي فيها نفاسة، وللناس إليها رغبة. فما أحسن الإنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع، وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان} على أن الآية التي أوقعت كثيرا من الناس في إيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله - وهي {خذ من أموالهم} - قد ذكر أئمة التفسير؛ أنها في صدقة النفل، وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها. ( [حكم الزكاة في أموال التجارة] :) (وأموال التجارة) لما قدمنا من عدم قيام دليل يدل على ذلك، وقد كانت التجارة في عصره -[صلى الله عليه وسلم]- قائمة في أنواع مما يتجر
به، ولم ينقل عنه ما يفيد ذلك. وأما ما أخرجه أبو داود، والدارقطني، والبزار من حديث جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يأمرنا بأن نخرج الزكاة فيما نعد ": فقال ابن حجر في " التلخيص ": إن في إسناده جهالة. وأما ما رواه الحاكم، والدارقطني عن عمران - مرفوعاً - بلفظ: " في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته " - بالزاي المعجمة (¬1) - فقد ضعف الحافظ في " الفتح " جميع طرقه، وقال في واحدة منها: هذا إسناد لا بأس به. ولا يخفاك أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى. على أنه قد قال ابن دقيق العيد: إن الذي رآه في " المستدرك " في هذا الحديث: " البر " - بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة -، قال: والدارقطني رواه بالزاي، لكن من طريق ضعيفة، وهذا مما يوجب الاحتمال، فلا يتم الاستدلال، فلو فرضنا أن الحاكم قد صحح إسناد هذا الحديث - كما قال المحلي في " شرح المنهاج " -؛ لكان مجرد الاحتمال مسقطا للاستدلال، فكيف إذا قد عورض ذلك التصحيح بتضعيف الحفاظ لما صححه الحاكم؛ مع تأخر عصرهم عنه واستدراكهم عليه؟ ! ¬
ويؤيد عدم الوجوب: ما ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]- في " الصحيح " من حديث أبي هريرة: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه "؛ وظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في جميع الأحوال. وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة، وهذا النقل ليس بصحيح، فأول من يخالف في ذلك الظاهرية، وهم فرقة من فرق الإسلام. أقول: وأما الاستدلال بقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وأما خالد؛ فقد حبس أدراعه وأعتده (¬1) في سبيل الله ": فلا تقوم به الحجة؛ إلا إذا كانت المطالبة له بزكاة ذلك الذي حبسه مع كونه للتجارة، فعرّفهم النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أنها قد صارت محبسة، وأنه لا زكاة فيها بعد التحبيس، وليس الأمر كذلك، بل الظاهر أنهم لما أخبروا النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بأن خالدا امتنع من الزكاة رد عليهم بذلك. والمراد: أن من بلغ في التقرب إلى الله إلى هذا الحد - وهو تحبيس أدراعه وأعتده -؛ يبعد كل البعد أن يمتنع من تأدية ما أوجبه الله عليه من الزكاة، مع كونه قد تقرب بما لا يجب عليه، فلا يكون في ذلك دليل على وجوب زكاة التجارة. وأما الاستدلال بقول عمر (¬2) ؛ فهو (¬3) ممن لا يقول بحجية قول ¬
لا تجب الزكاة في المستغلات
الصحابي، ولكنه إذا وافق قول الصحابي ما يعتقده؛ ضم إليه دعوى الإجماع السكوتي مجازفة. إذا تقرر هذا: علمت أنه لا دليل يدل على وجوب زكاة التجارة، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يقوم دليل ينقل عنها. وأما ما حكاه ابن المنذر من الإجماع على زكاة التجارة: فلا أدري كيف تجاسر على هذا؟ ولو سلمناه لما قامت به حجة؛ إلا على من يقول بحجية الإجماع. وقد عرفت ما هو الصواب في هذا الباب في كتابنا " حصول المأمول من علم الأصول " (¬1) . وقد حقق الماتن - رحمه الله - المقام في كتابه " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول "؛ فليراجع. ( [لا تجب الزكاة في المستغلات] :) (والمستغلات) : كالدور التي يكريها مالكها، وكذلك الدواب ونحوها؛ لعدم الدليل - كما قدمنا -، وأيضا حديث: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه "؛ يتناول هذه الحالة، أعني: حالة استغلالهما بالكراء لهما، وإن كان لا حاجة إلى الاستدلال؛ بل القيام مقام المنع يكفي. أقول: هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة؛ ¬
باعتبار ما لهم من المناقب (¬1) ؛ فإن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق - كالدور، والعقار، والدواب ونحوها - بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها - مما لم يُسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فضلا أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة، وقد كانوا يستأجرون، ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم، ولم يخطر ببال أحدهم أنه يخرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره أو عقاره أو دوابه {وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المئة الثالثة، فقال بذلك من قال بدون دليل؛ إلا مجرد القياس على أموال التجارة، وقد عرفت الكلام في الأصل؛ فكيف يقوم الظل والعود أعوج؟} مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه؛ منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع؛ فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين. وأما العمومات التي أوردوها؛ فهي عن الدلالة على المطلوب بمراحل، والأمر أوضح من أن تُستغرق الأوقات في إبطاله ودفعه. وأما ما زعموه من أن الموجب أولى من المسقط: فذلك - على عدم تسليمه - إنما هو بعد الاتفاق على أن الموجب والمسقط اجتمعا في أمر قد قضى الشرع بالوجوب في أصله، والأمر ههنا بالعكس؛ فإن الشرع لم يوجب في أعيان الدور والعقار - التي هي أصل الاستغلال - شيئا، ثم أين هذا الموجب؟ وما هو؟ ¬
باب زكاة النبات
(3 - باب زكاة النبات) ( [تجب الزكاة في الأصناف الخمسة من النبات] :) (يجب العُشر في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب) : وجوب الزكاة من هذه الأجناس، لشمول الأدلة الصحيحة لها، وللتنصيص عليها في حديث أبي موسى ومعاذ، حين بعثهما -[صلى الله عليه وسلم]- إلى اليمن، يعلمان الناس أمر دينهم، فقال: " لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر "، أخرجه الحاكم، والبيهقي (¬1) ، والطبراني. قال البيهقي: رواته ثقات؛ وهو متصل. وأخرج الطبراني عن عمر، قال: إنما سن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها. وأخرج ابن ماجه، والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، بلفظ: إنما سن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب - زاد ابن ماجه -، والذرة؛ وفي ¬
ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بالمسني فنصف العشر
إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي (¬1) ؛ وهو متروك. وأخرج البيهقي من طريق مجاهد، قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إلا في خمسة ... فذكرها (¬2) . وأخرج أيضا من طريق الحسن، فقال: لم يفرض الصدقة النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا في عشرة ... فذكر الخمسة المذكورة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة. وأخرج أيضا عن الشعبي، أنه قال: كتب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى أهل اليمن: " إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب "؛ قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة، وهي يؤكد بعضها بعضا، ومعها حديث أبي موسى، ومعها قول عمر، وعلي، وعائشة: ليس في الخضروات زكاة (¬3) . انتهى. ( [ما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بالمسني فنصف العشر] :) (وما كان يسقى بالمسني منها ففيه نصف العشر) : وجهه حديث جابر، عن النبي ¬
[صلى الله عليه وسلم] ، قال: " فيما سقت الأنهار والغيم عشر، وفيما سقي (¬1) بالسانية نصف العشر "؛ رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، قال (¬2) : " الأنهار والعيون ". وأخرج البخاري، وأحمد، وأهل " السنن " من حديث ابن عمر، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " فيما سقت السماء والعيون - أو كان عثريا - العشر، وفيما يسقى بالنضح نصف العشر "؛ فإن الذي هو أقل تعانيا وأكثر ريعا أحق بزيادة الضريبة، والذي هو أكثر تعانيا وأقل ريعا أحق بتخفيفها. والعثري - بفتح العين المهملة والمثلثة وكسر الراء المهملة -: هو الذي يشرب بعروقه، وقيل: الذي في سواقي العيون ونحوها. والحق وجوب الزكاة من العين، ولا يسوغ إخراج القيمة إلا لعذر مسوع، لحديث: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم - وصححه على شرط الشيخين (¬3) - ¬
نصاب النبات خمسة أوسق
وأما قول معاذ؛ فهو فعل صحابي لا حجة فيه، على أنه منقطع كما صرح بذلك الحفاظ (¬1) . وأما الاعتذار عن الحديث بأنه لا ظاهر له؛ فهذه إحدى العصي التي يتوكأ عليها المقلدة! ( [نصاب النبات خمسة أوسق] :) (ونصابها خمسة أوسق) : لحديث أبي سعيد في " الصحيحين " وغيرهما عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ". وفي رواية لأحمد، وابن ماجه (¬2) : أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الوسق ستون صاعا ". وفي رواية لأحمد، وأبي داود: " الوسق ستون مختوما " (¬3) . قال في " الحجة البالغة ": " وإنما قُدر من الحب والتمر خمسة أوسق؛ ¬
لأنها تكفي أهل بيت إلى سنة، وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة، وثالث - خادم أو ولد بينهما -، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل، أو مد من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار؛ كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم " انتهى. قال ابن القيم (¬1) : " وقد رُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله: " فيما سقت السماء العشر، وما سقي بنضح أو غرب (¬2) ؛ فنصف العشر "، قالوا: وهذا يعم القليل والكثير، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدم الأحوط وهو الوجوب {فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا، ولا تعارض بينهما بحمد الله - تعالى - بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: " فيما سقت السماء العشر "، إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب. وأما مقدار النصاب؛ فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم - الذي لا يحتمل غير ما أُوِّل عليه البتة - إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلق فيه بعموم، لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين، كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص؟} ". انتهى. ¬
أقول: الأحاديث القاضية بإيجاب العشر أو نصف العشر تقتضي التسوية بين القليل والكثير. وأحاديث: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق " تقتضي اختصاص الوجوب بمقدار معلوم، هو الخمسة الأوسق، وعدم الوجوب فيما دونها. فالأحاديث الأولة (¬1) عامة لقليل ما أخرجت الأرض من الأنواع المخصوصة ولكثيره، والأحاديث الثانية خاصة ببعض ذلك الخارج دون بعض، مصرحة بنفي الوجوب عن دون الخمسة الأوسق بمنطوقها، مثبتة لوجوبها في الخمسة فصاعدا بمفهومها، وهي أحاديث صحيحة، فإهمالها - مع كونها خاصة، والرجوع إلى العامة - خارج عن سنن الإنصاف، ولم يكن بيد من أهملها شيء يدفعها؛ إلا مجرد تكليف العباد بما هو أشق الشكوك، كشكوك الموسوسين في الطهارة. وهذا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة "؛ ثبت هذا عنه في حديث واحد، فكان على من أوجب الزكاة فيما دون خمسة أوسق أن يوجبها فيما دون خمس أواق وخمس ذود؛ بل يوجبها فيما دون الأربعين من الغنم، والثلاثين من البقر، تمسكا بالعمومات القاضية بوجوب أصل الزكاة في الأموال، فإنه لا فرق بينها وبين حديث: ¬
" فيما أخرجت الأرض العشر " (¬1) ، وليست المكيلات بالشك أولى من غيرها، والله المستعان. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض (¬2) ، والمقام وإن كان حقيقا بأن يقع الإجماع عليه، لكن الخلاف لجماعة من العلماء أشهر من نار على علم، وكيف خفي على ابن المنذر مذهب أبي حنيفة - رحمه الله -، وهو متداول عند جميع أهل المذاهب، حتى قال ابن العربي المالكي: " إن أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين مذهب أبي حنيفة، وهو التمسك بالعموم "؟ {انتهى. وهذه غفلة من مثل هذا الحافظ، ناشئة عن الوسوسة التي قدمنا لك ذكرها، فإن الشارع أشفق بفقراء أمته من كل أحد، وأي قوة وأحوطية في شيء مخالف لنصه الصريح} ؟ وكيف يخفى على عالم أن هذه - الشفقة التي هي المستندة لهذه المقالة - مستلزمة لظلم الأغنياء وأخذ أموالهم بدون طيبة من أنفسهم وأكلها بالباطل، وسيوف السلاطين تابعة لأقلام العلماء، فإذا أجبروا أهل الأموال على تسليم زكاة دون الخمسة الأوسق استناداً إلى قول من قال بذلك بمجرد الشك، والشفقة على الفقراء لا لما يقتضيه الاجتهاد؛ فهم شركاء في هذه المظلمة، التي هي محض أكل أموال الناس بالباطل. وما أحسن الوقوف على الحدود الشرعية، والمشي على الطريقة النبوية! ¬
لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل والبغال والحمر
فذلك هو الورع الخالص، وخير الهدي هدي محمد -[صلى الله عليه وسلم]-. ( [لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل والبغال والحمر] :) (ولا شيء فيما عدا ذلك) ؛ قال المجد في " الصراط المستقيم ": " ولم يكن من العادة النبوية أخذ الزكاة من الخيل، والرقيق، والبغال، والحمر، والبقول، والبطيخ، والخيار، والعسل، والفواكه التي لا تدخل المكيال ولا تصلح للادخار؛ إلا الرطب والعنب، فإنه كان يأخذ الزكاة منهما، لا يفرق بين الرطب واليابس ". انتهى. ( [لا زكاة في الخضراوات] :) (كالخضراوات وغيرها) : حديث الخضراوات أخرجه الدارقطني، والحاكم، والأثرم في " سننه ": أن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقول: " ليس في ذلك صدقة "؛ وهو مرسل قوي (¬1) . وقد أخرجه الدارقطني، والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ؛ بلفظ: وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقصب؛ فعفو عفا عنه رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-. ¬
قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع (¬1) . وروى الترمذي بعضه من حديث موسى بن طلحة، عن معاذ. وقد رواه ابن عدي من وجه آخر عن أنس. والدارقطني من حديث علي، ومن حديث محمد بن جحش، ومن حديث عائشة. ورواه أيضا البيهقي عن علي وعمر موقوفا. [و] في طرق حديث الخضروات مقال، لكنه روي من طرق كثيرة يشهد بعضها لبعض؛ فينتهض للاحتجاج به، وإذا انضم إلى ما تقدم في وجوب الزكاة في تلك الأجناس الأربعة، أو الخمسة؛ انتهض الجميع للاحتجاج بلا شك ولا شبهة. وقد رويت تلك الروايات بلفظ الحصر على تلك الأجناس كما سبق، وكان ذلك هو البيان منه -[صلى الله عليه وسلم]- لما أنزله الله - تعالى -، فلا تجب في غير ذلك من النباتات. وقد ذهب إلى ذلك الحسن البصري، والحسن بن صالح، والثوري، والشعبي. وأيضا: يمكن الجمع بطريق أخرى، وهي: أن هذه الأدلة المذكورة هنا مخصصة لعمومات القرآن والسنة، وذلك واضح، ولا يصح جعل ذلك من ¬
باب التنصيص على بعض أفراد العام؛ لما في ذلك من الحصر تارة، والنفي لما عدا ما ذُكر أخرى. أقول: العمومات الشاملة للخضراوات كقوله - تعالى -: {وآتوا حقه يوم حصاده} ، وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} ، وقوله [صلى الله عليه وسلم] : " فيما سقت السماء العشر "؛ قد خُصصت بمخصصات كثيرة، منها: حديث الأوساق، ومنها: الأحاديث القاضية بأن الزكاة لا تجب إلا في الأربعة الأنواع: الشعير، والحنطة، والتمر، والزبيب، هذا في الأشياء التي تنبت على وجه الأرض، وفيما عداها السوائم الثلاث والذهب والفضة؛ والواجب بناء العام على الخاص، كما هو إجماع من يُعتد به من أهل العلم، فلا وجوب فيما عدا هذه الثلاثة الأمور، سواء كان من الخضراوات أو غيرها. بل قد ورد في الخضراوات بخصوصها ما يدل على عدم وجوب الزكاة فيها من طرق يشهد بعضها لبعض، كما أوضح ذلك الماتن في " شرح المنتقى ". فليكن هذا البحث منك على ذُكر؛ فإن الاحتجاج بمثل هذه العمومات قد كثر في أهل العلم مع عدم الالتفات إلى الأدلة الخاصة، والذهول عن وجوب بناء العام على الخاص. والحاصل: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد بين للناس ما نُزّل إليهم، ففرض على الأمة فرائض في بعض أملاكهم، ولم يفرض عليهم في البعض الآخر، ومات على ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول، فمن زعم أنها تجب الزكاة في غير ما بينه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] متمسكا بالعمومات القرآنية؛ كان محجوجا بما ذكرناه، هذا على فرض أنه لم يثبت عنه إلا مجرد
تجب الزكاة في العسل
البيان من دون ما يفيد عدم الوجوب في البعض المسكوت عنه، فكيف وقد ثبت عنه ما يفيد ذلك؟ ! كحديث أبي موسى، ومعاذ، عند الحاكم والبيهقي والطبراني: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم؛ قال: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر "؛ قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل (¬1) . وأخرج الطبراني عن عمر، قال: إنما سن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها. ونحوه عن جماعة من الصحابة، وفي بعضها ذكر الذرة (¬2) ، ولكن من طريق لا تقوم بمثلها الحجة. ( [تجب الزكاة في العسل] :) (ويجب في العسل العشر) : وجهه حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : أنه أخذ من العسل العشر؛ أخرجه ابن ماجه. وقال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث، وابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب. ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرو بن شعيب. ¬
يجوز تعجيل الزكاة
ومثله حديث أبي سيارة عند أحمد، وابن ماجه، وأبي داود (¬1) ، والبيهقي، قال: قلت: يا رسول الله! إن لي نحلا، قال: فأد العشور؛ وهو منقطع. وأخرج الترمذي عن ابن عمر: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال في العسل: " في كل عشرة أزقاق زق؛ وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً، بلفظ: " أدوا العشر في العسل "، وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف. والجميع لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به (¬2) . وفي العسل أحاديث أخرى لم ينتهض شيء منها للاحتجاج به، وقد جمعها الماتن في " شرح المنتقى "؛ فليراجع. ( [يجوز تعجيل الزكاة] :) (ويجوز تعجيل الزكاة) : لحديث علي: أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي [صلى الله عليه وسلم] في تعجيل صدقته قبل أن تحل؟ فرخص له في ذلك "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وقد قيل: إنه مرسل (¬3) . وقد روي عن علي بلفظ آخر من طريق أخرى؛ أخرجها البيهقي، أن ¬
توزع زكاة كل محلة على فقرائها
النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنا كنا احتجنا، فأسلفنا العباس صدقة عامين؛ ورجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعاً. وفي " الصحيح " من حديث أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في زكاة العباس: " هي عليّ ومثلها معها "؛ لما قيل: إنه منع من الصدقة، وقد قيل: إنه كان تسلف منه صدقة عامين، فدل على أنه يجزئ عن المعجل أن يسقط الوجوب عند الاتصاف به، ولا شك أن التعجل لا يكون تعجيلا إلا إذا كان قبل الوجوب. ( [توزع زكاة كل محلة على فقرائها] :) (وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم) : وجهه حديث أبي جحيفة، قال: قدم علينا مصدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت غلاما يتيما، فأعطاني منها قلوصا؛ أخرجه الترمذي - وحسنه -. وحديث عمران بن حصين: أنه استُعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ ! أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ووضعناه حيث كنا نضعه؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه. وعن طاوس، قال: كان في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف؛ فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته؛ أخرجه الأثرم، وسعيد بن منصور بإسناد صحيح (¬1) . ¬
تجزئ الزكاة وإن دفعت لسلطان جائر
وفي " الصحيحين " عن معاذ: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما بعثه إلى اليمن قال له: " خذها من أغنيائهم، وضعها في فقرائهم ". ( [تجزئ الزكاة وإن دفعت لسلطان جائر] :) (ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرا) : لحديث ابن مسعود في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله {فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". وأخرج مسلم، والترمذي - وصححه - من حديث وائل بن حُجر، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟} فقال: " اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُملتم ". وأخرج أبو داود من حديث جابر بن عتيك (¬1) - مرفوعاً - بلفظ: " سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون؛ فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم ". وأخرج الطبراني (¬2) عن سعد بن أبي وقاص - مرفوعاً -: " ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس ". ¬
وفي الباب آثار عن الصحابة؛ حتى أخرج البيهقي عن عمر، أنه قال: ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمر؛ وإسناده صحيح. وأخرج أحمد (¬1) من حديث أنس: أن رجلا قال لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] : إذا أديت الزكاة إلى رسولك؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال: " نعم، إذا أديتها إلى رسولي؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها ". وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة: إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك، فإن اعتدى عليك؛ فوله ظهرك ولا تلعنه وقل: اللهم {إني أحتسب عندك ما أخذ مني. وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة الجمهور، وأن الدفع إلى السلطان أو بأمره يجزي المالك، وإن صرفها في غير مصرفها، سواء كان عادلاً أو جائراً. أقول: لا ريب أن مجموع الأدلة يقتضي أن أمر الزكاة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإن قوله - تعالى -: {خذ من أموالهم} خطاب له، إن سُلم أنه في صدقة الفرض، وقد تقدم ما فيه. وأنص من الآية على المطلوب حديث: " أمرت أن آخذها من أغنيائكم "، وأحاديث بعثه [صلى الله عليه وسلم] للسعاة، وأمره لهم بأخذ الصدقات. ¬
ومن ذلك الأدلة الواردة في الاعتداد بما أخذه سلاطين الجور، فإنها متضمنة لوجوب الدفع إليهم، والاجتزاء بما دفع إليهم: ومن ذلك حديث: " من أعطاها مؤتجرا فله أجره، ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله " (¬1) . ومنها الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة أولي الأمر. ولكن لا يخفى أن مجموع هذه الأدلة وإن أفاد أن للأئمة والسلاطين المطالبة بالزكاة وقبضها، ووجوب الدفع إليهم عند طلبهم لها؛ فليس فيها ما يدل على أن رب المال إذا صرفها في مصرفها قبل أن يطالبه الإمام بتسليمها لا تجزئه، ولا يجوز له ذلك؛ لأن الوجوب على أرباب الأموال، والوعيد الشديد لهم، والترغيب تارة والترهيب أخرى، لمن عليه الزكاة إذا لم يخرجها، يستفاد من مجموعه أن لهم ولاية الصرف. أما مع عدم الإمام: فظاهر. وأما مع وجوده من غير طلب منه: فكذلك أيضا، ويؤيد ذلك حديث: " أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله "؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] أجاب بذلك على من قال له: إن خالداً منع من تسليم الزكاة. وأما مع المطالبة من الإمام؛ فالظاهر أنه لا يجوز لرب المال الصرف؛ لأنه عصيان لمن أمر الله بطاعته، ولكن؛ هل يجزئه ذلك أم لا؟ ¬
الظاهر الإجزاء؛ لأنه لا ملازمة بين كونه عاصيا لأمر الإمام، وبين عدم الإجزاء، ومن زعم ذلك طولب بالدليل. فإن قيل: الدليل ما تقدم من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ... ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله ": فيقال: الحديث - على ما فيه من المقال - لا يصلح للاستدلال به على هذا؛ لأن المراد أنه منع الزكاة؛ ولم يسلمها إلى الإمام، ولا صرفها في مصارفها، كما هو مدلول المنع الواقع على ضمير الزكاة في الحديث، كما في أحاديث الوعيد لمانع الزكاة، فإن المراد به المانع لها عن الإخراج مطلقاً. ومما يؤيد ثبوت الولاية لرب المال قوله - تعالى -: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} ؛ ففي هذه الآية أعظم متمسك وأوضح مستند، ومن زعم أنها في صدقة النفل بدليل السياق؛ فلم يصب؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول. نعم؛ تطبيق الأدلة الواردة منه [صلى الله عليه وسلم] على من بعده من الأئمة والسلاطين حتى يكون لهم مثل الذي له في أمر الزكاة؛ يحتاج إلى فضل نظر، ولا يقنع الناظر بمجرد الإجماع السكوتي الواقع من الناس بعد عصره [صلى الله عليه وسلم] . وأما قتال الصحابة لمانعي الزكاة؛ فلكونهم ارتدوا بذلك، وصمموا على منع إخراجها، وقد أمر [صلى الله عليه وسلم] أمته بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويفعلوا سائر أركان الإسلام. وأعظم ما يُستأنس به ما ورد في طاعة السلاطين؛ وإن ظلموا، وأن
دفعها إليهم من الطاعة لهم؛ كما في حديث ابن مسعود، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها "، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم "، أخرجه الشيخان وغيرهما. وعن وائل بن حُجر، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ قال: " اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم "، أخرجه مسلم وغيره. وفي الباب أحاديث كثيرة، وهي تفيد وجوب طاعتهم فيما طلبوا إذا كان في معروف غير معصية، وطلبهم للزكاة من المعروف إذا كانوا يجعلونها في أمر غير معصية الله، والأمر بالطاعة فرع ثبوت الولاية، وثبوتها يستلزم الإجزاء، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة فمن بعدهم. ويؤيد ذلك حديث جابر بن عتيك عند أبي داود مرفوعاً بلفظ " سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون؛ فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم ". وأخرج الطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا: " ادفعوا إليهم؛ ما صلوا الخمس ". ويغني عن جميع هذا؛ التكليف بطاعة سلاطين الجور ما أقاموا الصلاة، وفي بعض الأحاديث الأمر بالطاعة للظلمة ما لم يظهروا كفرا؛ فمن طلب الزكاة منهم؛ لم تتم الطاعة له التي كلفنا الله بها إلا بالدفع إليه، والله أعدل
أن يجمع على رب المال في ماله زكاتين: زكاة للظالم المأمور بطاعته، وزكاة أخرى تصرف إلى غيره.
باب مصارف الزكاة
(4 - باب مصارف الزكاة) ( [مصارف الزكاة ثمانية] :) (هي ثمانية كما في الآية) الكريمة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} ؛ فإنها تضمنت الثمانية الأنواع، الذين هم مصارف الزكاة. وقد أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك "؛ وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه مقال (¬1) . قال في " المسوى ": الفقير: هو - عند الشافعي - من لا مال له، ولا حرفة تقع منه موقعا. وعند أبي حنيفة من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب، أو قدر نصاب ¬
غير تام وهو مستغرق في الحاجة. والمسكين: هو - عند الشافعي - من له مال أو حرفة تقع منه موقعاً، ولا يغنيه. وعند أبي حنيفة: من لا شيء له، فيحتاج إلى المسألة لقوته، أو ما يواري بدنه. والعامل: له مثل عمله سواء كان فقيرا أو غنيا؛ وعليه أهل العلم. والمؤلفة قلوبهم قسمان: من أسلم ونيته ضعيفة، أو له شرف يُتوقع بإعطائه إسلام غيره، فيُعطون من الزكاة - على الأصح من مذهب الشافعي -. وقال أبو حنيفة: سقط سهمهم لغلبة الإسلام. والرقاب: هم المكاتبون؛ عند الشافعية والحنفية. والغارم: هو - عند أبي حنيفة - من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه، أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه. وعند الشافعي قسمان: من استدان لنفسه في غير معصية، والأظهر اشتراط الحاجة، أو استدان لإصلاح البين ويعطى مع الغنى. وسبيل الله: غزاة لا فيء لهم، ويشترط فقرهم عند أبي حنيفة. وعند الشافعي: يعطون مع الغنى. وابن السبيل: هو الغريب المنقطع عن ماله عند الحنفية، أو منشئ سفر،
أو مجتاز له حاجة عند الشافعية. وشرط هؤلاء الأصناف الإسلام عند أهل العلم. وعند الشافعي: يجب استيعاب الأصناف الثمانية إن كان هناك عامل؛ وإلا فاستيعاب السبعة، وتجب التسوية بين الأصناف لا بين آحاد الصنف. وعند أبي حنيفة: لو صرف الكل إلى صنف واحد أو شخص واحد؛ يجوز. قال مالك: الأمر عندنا في قسم الصدقات: أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي، فأي الأصناف كانت الحاجة فيه والعدد: أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي، وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام، فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك، وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم. انتهى. قال الماتن: " وقد أطال أئمة التفسير والحديث والفقه الكلام على الأصناف الثمانية، وما يعتبر في كل صنف، والحق أن المعتبر صدق الوصف شرعا، أو لغة؛ فمن صدق عليه أنه فقير كان مصرفا، وكذلك سائر الأوصاف، وإذا لم يكن للوصف حقيقة شرعية؛ وجب الرجوع إلى مدلوله اللغوي، وتفسيره به؛ فما