التفسير المظهري

المظهري، محمد ثناء الله

سورة الفاتحة

الجزء الأول سورة الفاتحة مكيّة وهي سبع آيات خمسة وعشرون كلمة مائة وثلثة وعشرون حرفا ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فاتحة الكتاب وأم القران سميت بهما لانها اصل القران منها يبدا- وهى السبع المثاني لانها سبع آيات بالاتفاق وتثنى في الصلاة وقيل أنزلت مرتين- بمكة والمدينة- والأصح انها مكية قبل سورة حجر- روى ابن جرير عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هى أم القران وهى فاتحة الكتاب وهى السبع المثاني انتهى- وهى سورة الكنز روى إسحاق بن راهويه عن على رضى الله عنه قال حدثنا نبى الله صلى الله عليه وسلم انها أنزلت من كنز تحت العرش- وهى سورة الشفاء لما سنذكر في الفضائل انها شفاء من كل داء بِسْمِ أسقطت الالف لكثرة استعمالها وطولت الباء عوضا- قال البغوي قال عمر بن عبد العزيز طولوا الباء واظهر والسين ودور والميم تعظيما لكتاب الله عز وجل- والاسم مشتق من السمو دون الوسم بدلالة سمى وسميت والمراد به المسمى او الاسم نفسه- والباء للمصاحبة او الاستعانة او التبرك- والاستعانة يكون بذكر الله متعلق بمقدر بعدها لما في قوله تعالى بسم الله مجريها- وليتحقق الابتداء بالتسمية تحقيقا- روى عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن ابى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم كل امر ذى بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم اقطع- يعنى بسم الله اقرأ اللَّهِ قيل جامد- والحق انه مشتق «1» من الله بمعنى المعبود حذفت الهمزة وعوضت عنها الالف واللام لزوما ومن أجل

_ (1) الاولى ان يقال مأخوذ من الله بمعنى المعبود فان الحذف والتعويض لا يسمى اشتقاقا في عرفهم- منه رحمه الله- الخطبة من الناشر

التعويض «1» اللازم قيل يا الله- إذ لا معنى للاشتقاق إلا كون اللفظين شاركين في المعنى والتركيب- ثم جعل علما لذات الواجب الوجود المستجمع للكمالات المنزه عن الرذائل ولذا يوصف ولا يوصف به- ويقال للتوحيد لا الله الا الله وقد يطلق على الأصل فيقال وهو الله في السّموت وفي الأرض الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) مشتقان من الرحمة بمعنى رقة القلب المقتضى للتفضل والإحسان- واسماء الله تعالى انما تؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي فانها انفعالات- قيل هما للمبالغة بمعنى واحد- والحق ان الرحمن ابلغ لزيادة البناء ولذا اختص بالله دون الرحيم قال ابن عباس هما اسمان رقيقان أحدهما ارقّ من الاخر والزيادة قد يعتبر بالكمية فيقال رحمن الدنيا ورحيم الاخرة فان الرحمة في الاخرة للمتقين وقد يعتبر بالكيفية فيقال رحمن الدنيا والاخرة ورحيم الدنيا فان نعم الاخرة في الاخرة للمتقين وقد يعتبر بالكيفية فيقال رحمن الدنيا والاخرة ورحيم الدنيا فان نعم الاخرة كلّها جليلة- وفي الدنيا حقيرة وجليلة وقدّم الرحمن لاختصاصه بالله كالاعلام ولتقدم عموم الرحمة فى الدنيا وهى مقدم بالزمان- ذهب قراء المدينة والبصرة وابو حنيفة وغيره من فقهاء الكوفة الى انها ليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن فقيل وليست من القران- والحق انها من القران أنزلت للفصل روى الحاكم وصححه على شرطهما عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورتين حتى ينزل بسم الله الرّحمن الرّحيم ورواه ابو داؤد مرسلا وقال والمرسل أصح وسئل محمد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفتين كلام الله تعالى قلت ولو لم تكن من القران لما كتبوها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القران كما لم يكتبوا أمين- والدليل على انها ليست من الفاتحة ما رواه الشيخان عن انس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف ابى بكر وخلف عمر فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم- وما سنذكر من حديث ابى هريرة قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين في الفضائل وما رواه احمد ان عبد الله بن مغفل قال سمعنى ابى وانا فى الصلاة اقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العلمين فلما انصرف قال يا بنى إياك والحدث فى الإسلام فانى صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يفتتحون القران ببسم الله الرحمن الرحيم ولم ار رجلا قط ابغض اليه الحدث منه- ورواه الترمذي فقال

_ (1) مجرد التعويض لا يصلح علة لذلك والا لا نتقض بالناس ونحوه فلا بد في تتميم الكلام من قيد اخر- منه رحمه الله

[سورة الفاتحة (1) : آية 2]

فيه صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان ولم يسمع منهم أحد يقولها- وذهب قراء مكة والكوفة واكثر فقهاء الحجاز الى انها من الفاتحة دون غيرها من السور وانما كتبت عليها للفصل لما روى الحاكم وقال اسناده صحيح عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال هى أم القران وقال بسم الله الرّحمن الرّحيم الاية السابعة قراها علىّ ابن عباس كما قراتها ثم قال بسم الرحمن الرحيم الاية السابعة ولما روى الترمذي عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم- قلت في الحديث الاول قول ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم الاية السابعة ظن «1» منه ليس بمرفوع وما رواه الترمذي ليس اسناده بقوى- وذهب جماعة الى انها من الفاتحة وكذا من كل سورة الا سورة التوبة وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي لانها كتبت فى المصحف بخط «2» سائر القران- قلت وهذا يدل على انها من القران لا من السورة كيف وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال سورة من القران ثلاثون اية في سورة الملك- وسنذكر هناك ان شاء الله تعالى- ولا يختلف العادون انه ثلاثون اية من غير بسملة. الْحَمْدُ هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري نعمة كان او غيرها فهو أعم من الشكر فى المتعلق فان الشكر يخص النعمة وأخص منه في المورد فان الشكر من اللسان والقلب والجوارح ولذا قال عليه السلام الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده- رواه عبد الرزاق عن قتادة عن عبد الله بن عمرو- والمدح أعم من الحمد مطلقا لانه على مطلق الجميل- والتعريف للجنس اشارة الى ما يعرفه كل أحد- او للاستغراق إذ الحمد كله له تعالى وهو خالق افعال العباد وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وفيه دليل على انه تعالى حىّ قادر مريد عالم حتى يستحق الحمد لِلَّهِ اللام للاختصاص يقال الدار لزيد- والجملة الخبرية الاسمية دالة على استمرار الاستحقاق قصد بها الثناء بمضمونها وفيه تعليم وتقديره قولوا الحمد لله حتى يناسب قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرّبّ بمعنى المالك يقال رب الدار لمالكه ويكون بمعنى التربية وهو التبليغ الى الكمال تدريجا وصف به كالصوم والعدل ولا يقال على غيره تعالى الا مقيدا كرب الدار وفيه دليل على ان العالم محتاج في البقاء ايضا- والعلمين جمع

_ (1) كون الآيات توقيفية لا مجال للعقل فيها امر مقرر عندهم فكيف يظن بابن عباس هذا الظن مع ان للموقوف حكم المرفوع فى أمثال ذلك- قلت المسألة إذا كانت روايات الصحابة فيها مختلفة لا يجوز هناك ان يقال للموقوف حكم المرفوع كذا في اصول القوم الطريق في أمثال ذلك ذكر الروايات- منه نور الله مرقده. (2) اى كتبت على كل سورة اولا بخط سائرها فهو يدل على انها جزؤ من كل سورة- منه رحمه الله

[سورة الفاتحة (1) : آية 3]

عالم لا واحد له في الاستعمال من لفظه- والعالم اسم لما يعلم به الصانع كالخاتم وهو الممكنات بأسرها قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ يعنى موسى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا وجمع بملاحظة أجناس تحته وغلّب العقلاء- وقال وهب لله ثمانية عشر الف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب الا كفسطاط في صحراء- وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقيل العالم اسم لذوى العلم من الملائكة والثقلين وتناول غيرهم استتباعا. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) أجاز القراء فيه الروم وقفا وكذا في كل مكسور- فيه دليل على ان البسملة ليست من الفاتحة كيلا يلزم التكرار «1» وقيل كرر للتعليل. ملك يوم الدّين (4) قرا عاصم والكسائي ويعقوب مالك والآخرون ملك وقرا ابو عمرو الرّحيم ملك بإدغام الميم في الميم وكذالك يدغم كل حرفين متحركين من جنس واحد- او مخرج واحد- او قريبى المخرج- امّا إذا كانا مثلين في كلمتين فذلك واقع فى سبعة عشر حرفا- الا في مواضع عديدة وهى الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة أحرف بعدها نحو لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ثالِثُ ثَلاثَةٍ لا أَبْرَحُ حَتَّى فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا جَعَلَ لَكُمُ يَعْلَمُ ما أَحْسَنُ نَدِيًّا إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ إِنَّهُ هُوَ ولا تمنع صلة الهاء نُودِيَ يا مُوسى إذا لم يكن الحرف الاول تاء المتكلم او المخاطب كنْتُ تُراباً ... فَأَنْتَ تُكْرِهُ ولا منونا نحو واسِعٌ عَلِيمٌ ولا مشددا نحو فَتَمَّ مِيقاتُ والمواضع العديدة المستثناة منها يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ لا يدغم فيه ابو عمرو لاخفاء النون قبلها اتفاقا- ومنها كل موضع التقيا فيه مثلان بسبب حذف وقع في اخر الكلمة الاولى نحو يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ إِنْ يَكُ كاذِباً يَخْلُ لَكُمْ ففى هذه الكلمات لابى عمرو وجهان الإظهار والإدغام ومنها عند البعض آلَ لُوطٍ والصحيح ادغامه ومنها واو هو إذا كان الهاء مضموما على قراءة ابى عمرو ووقع بعده واو نحو هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وذلك في ثلاثة عشر موضعا فاختلف في ادغامه لكن رواية الإدغام أقوى ومنها واو هو إذا كان الهاء ساكنا على قراءته وهو ثلاثة «2» مواضع فَهُوَ وَلِيُّهُمُ وَهُوَ واقِعٌ

_ (1) منقوض هو بنحو فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وغيرها من الآيات التي كرر تكرارها- قلت تكرار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يستحسنه الفصحاء والشعراء كما يكون في الشعر ترجيعا واما التكرار بلا نسق فليس من هذا القبيل كما لا يخفى على من له ادنى تأمل- منه رحمه الله (2) الصحيح خمسة مواضع- ابو محمد عفا الله عنه وفي القران وَما يَعْلَمُ إلخ في الأصل الاحرف في الأصل لك.

قال بعضهم فيها الإظهار بلا خلاف وقال بعضهم بخلاف والإظهار أقوى «1» - هذا إذا كان المثلان فى كلمتين واما إذا كانا في كلمة واحدة فلم يأت عنه الإدغام الا في موضعين مناسككم فى البقرة وما سلككم في المدثر هذا ادغام المثلين- واما ادغام المتقاربين في كلمة واحدة فالقاف تدغم في الكاف إذا كان قبلهما متحرك وبعدهما ميم نحو يَرْزُقُكُمْ بخلاف مِيثاقَكُمْ ونَرْزُقُكَ وحكى الخلاف في ادغام طَلَّقَكُنَّ ولا يدغم غيره- وفي كلمتين تدغم ستة عشر حرفا إذ لم يكن منونا ولا تاء مخاطب ولا مجزوما ولا مشددا- الحاء تدغم في العين في زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وروى ادغامها في العين حيث التقيا «2» نحو ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ... الْمَسِيحُ عِيسَى ... فَلا جُناحَ عَلَيْهِما والقاف في الكاف وبالعكس عند تحرك ما قبلهما نحو خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ... لَكَ قُصُوراً بخلاف فَوْقَ كُلِّ وَتَرَكُوكَ قائِماً والجيم في التاء في كلمة ذِي الْمَعارِجِ تعرج وفي الشين فى أَخْرَجَ شَطْأَهُ والشين في السين في ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا والضاد في الشين في لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ والسين في الزاء في إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وفي الشين في الرَّأْسُ شَيْباً والدال تدغم في حروف عشرة حيث جاءت نحو الْمَساجِدِ تِلْكَ عَدَدَ سِنِينَ الْقَلائِدَ ذلِكَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ يُرِيدُ ثَوابَ تُرِيدُ زِينَةَ نَفْقِدُ صُواعَ مِنْ بَعْدِ ظلم داوُدُ جالُوتَ وفي دارُ الْخُلْدِ جَزاءً خلاف ولم يلق الدال طاء في القران ولم تدغم الدال مفتوحة بعد ساكن بحرف بغير التاء فلا تدغم لِداوُدَ سُلَيْمانَ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ آلَ داوُدَ شُكْراً آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بعد ظلم بَعْدَ ثُبُوتِها وتدغم كاد تزيغ بعد توليدها ولا ثالث لهما- والتاء تدغم في تلك العشرة الا في التاء من باب المثلين وقد مر ذكره وكذا في الطاء حيث جاءت ولم يلق التاء دالا الا والتاء ساكنة نحو أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وذلك واجب الإدغام- نحو الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً الذَّارِياتِ ذَرْواً بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ولا ثانى له والنّبوّة ثمّ يقول إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً الْمَلائِكَةُ صَفًّا والْمَلائِكَةُ ظالِمِي فى النساء والنحل ليس غيرهما عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ والتاء لم تقع

_ (1) عند النحاة لا عند القراء- ابو محمد عفا الله عنه (2) وذلك شاذ.

مفتوحة بعد ساكن الا وهو حرف خطاب ولا ادغام فيه الا في مواضع وقعت بعد الف فمنها لا خلاف في ادغامه وهو أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وفي الباقي خلاف نحو حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها- وايضا خلاف في بعض تاء مكسورة آتِ ذَا الْقُرْبى ولْتَأْتِ طائِفَةٌ وفي جِئْتَ شَيْئاً مكسور التاء خلاف في ادغامه مع انه تاء خطاب ولا خلاف في الإظهار إذا كانت مفتوحة جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً والثاء تدغم في خمسة أحرف حيث جاءت نحو حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ وَالْحَرْثِ ذلِكَ وليس غيره وحَيْثُ شِئْتُمْ وحَدِيثُ ضَيْفِ وليس غيره والذال في السين والصاد فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فى الكهف في موضعين- مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً- واللام تدغم في الراء وبالعكس الا إذا انفتحا بعد ساكن فتدغم نحومَثَلِ رِيحٍ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ لا نحو فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ لكن لام قال إذا كان الراء بعده تدغم وان كان مفتوحا بعد ساكن قالَ رَبِّ قالَ رَجُلانِ قالَ رَبُّكُمْ والنون تدغم في اللام والراء إذا تحرك ما قبلها نحو إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ خَزائِنَ رَحْمَةِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ تَبَيَّنَ لَهُمُ لا إذا سكن ما قبلها نحو يَخافُونَ رَبَّهُمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ الا نون نحن تدغم في اللام حيث جاءت وان كانت بعد ساكن نحو نَحْنُ لَهُ وفَما نَحْنُ لَكَ وهو عشر مواضع والميم المتحرك ما قبلها إذا كان بعدها باء تسكن وتخفى- والباء في يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ حيث اتى تدغم في الميم وهى خمسة مواضع سوى ما فى البقرة فانه ساكن الباء في قراءة ابى عمرو وفيه الإدغام الصغير- وحيث ما يجوّز ابو عمرو الإدغام الكبير فله هناك ثلاثة أوجه اخر الإشمام والروم والإظهار غير ان الإشمام يقع في الحروف المضمومة فقط والروم في المضمومة والمكسورة دون المفتوحة والإشمام عبارة عن ضم الشفتين كقبلة المحبوب اشارة الى الضمة والروم عبارة عن الإخفاء والتلفظ ببعض الحركة لكن الإشمام والروم عنده في سائر الحروف غير الباء مع الميم وبالعكس نحو نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يَعْلَمُ ما أَعْلَمُ بِما كانُوا والإدغام لا يتاتى «1» إذا كان قبل الحرفين حرف ساكن صحيح نحو خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بَعْدِ ظُلْمِهِ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا دارُ الْخُلْدِ جَزاءُ لاجتماع الساكنين فالادغام

_ (1) هذا عند المتأخرين والنحاة واما عند المتقدمين فالادغام المحض أصح قال المحقق والإدغام الصحيح هو الثابت عند قدماء الائمة من اهل الأداء والنصوص مجتمعة عليه- ابو محمد عفا الله عنه

[سورة الفاتحة (1) : آية 5]

هناك بنطق بعض الحركة وهو الإخفاء والروم والتعبير هناك بالإدغام تجوز اما إذا كان الساكن حرف مد او لين صح الإدغام نحو فِيهِ هُدىً وقالَ لَهُمْ ويَقُولُ رَبَّنا وقَوْمُ مُوسى وكَيْفَ فَعَلَ واللَّهُ أَعْلَمُ- الملك والمالك قيل معناهما واحد الرّبّ مثل فرهين وفارهين وحذرين وحاذرين والحق ان المالك من الملك بالكسر بمعنى الرب يقال مالك الدار ورب الدار والملك من الملك بالضم بمعنى السلطان هما صفتان له تعالى والقراءتان متواترتان فلا يجوز ان يقال الملك هو المختار- وقيل الملك والمالك بمعنى القادر على الاختراع من العدم الى الوجود فلا يطلق على غيره تعالى الا مجازا- ويوم الدّين يوم القيامة والدين الجزاء ومنه كما تدين تدان وهو مثل مشهور وحديث مرفوع رواه ابن عدى في الكامل بسند ضعيف وله شاهد مرسل عند البيهقي واخرج احمد عن مالك ابن دينار انه في التورية والديلمي عن فضالة بن عبيدة مرفوعا انه في الإنجيل وقال مجاهد يوم الدين اى الحساب ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ اى الحساب المستقيم وقيل القهر منه دنته فدان اى قهرته فذل او الإسلام او الطاعة فانه يوم لا ينفع فيه الا الإسلام والطاعة- وانما خص ذلك اليوم بالذكر لان في غيرها من الأيام قد يطلق الملك لغيره تعالى مجازا- ولان فيه إنذار ودعوة الى القول ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ أضاف الصفة الى الظرف اجراء له مجرى المفعول به نحو يا سارق الليلة ومعناه الماضي على طريقة نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ فان المتيقن كالواقع فصح وقوعها صفة للمعرفة واجراء هذه الصفات على الله تعالى للتعليل على انه الحقيق بالحمد ومن لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل الحمد فضلا ان يعبد والتمهيد لقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يدل على الاختيار وينفى الإيجاب بالذات والوجوب عليه قضية لسوابق الأعمال ثم لما ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بصفات عظام مميزة عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خاطب بذلك فقال. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) أجاز القراء فيه الروم والإشمام في حالة الوقف وكذا في كل

[سورة الفاتحة (1) : آية 6]

مضموم- والمعنى يا من هو بالصفات المذكورة نخصك بالعبادة والاستعانة عليها وعلى جميع أمورنا- ومن عادة العرب التفنن في الكلام والالتفات من الغيبة الى الخطاب وبالعكس ومن التكلم إليهما وبالعكس تنشيطا للسامع- والعبادة أقصى الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد اى مذلل والضمير في الفعلين للقارى ومن معه- وفيه اشعار على التزام الجماعة- وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام والحصر قال ابن عباس معناه نعبدك ولا نعبد غيرك- رواه ابن جرير وابن ابى حاتم من طريق الضحاك عنه وقيل الواو في وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ للحال اى نعبدك مستعنين بك-. اهْدِنَا اى أرشدنا بيان للمعونة المطلوب- او افراد لما هو المقصود الأعظم- والهداية دلالة بلطف ولذلك يستعمل في الخير- وأصله ان يعدى باللام او الى وقد يعدى بنفسه- وهذا الدعاء من المؤمنين ومن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع كونهم على الهداية لطلب التثبت او طلب مزيد الهداية فان الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب اهل السنة الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) قرأ ابن كثير برواية قنبل الصراط معرفا باللام ومضافا في الفاتحة وسائر القران وكذا منكرا حيث اتى بالسين على الأصل لانه من سرط الطّعام اى ابتلعه- والطريق يسرط السابلة والباقون بالصاد وهو لغة قريش- وقرا خلف كلها بين الصاد والزاء وكذا خلاد هاهنا خاصة- والمستقيم المستوي والمراد طريق الحق- وقيل ملة الإسلام «1» - والقولان أخرجهما ابن جرير عن ابن عباس. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (5) بدل من الاول بدل الكل وفائدته التوكيد والتنصيص على ان طريقهم هو المشهود عليه بالاستقامة والمراد بالذين أنعمت عليهم كل من ثبّته الله تعالى على الايمان والطاعة مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ- قرأ حمزة عليهم- إليهم- لديهم- حيث وقع بضم الهاء وصلا ووقفا والباقون بكسرها- وضم ابن كثير كل ميم جمع مشبعا في الوصل إذا لم يلقها ساكن- وقالون يقول

_ (1) قال ابو العالية والحسن في تفسير اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط رسول الله وصاحباه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. وقال اقتدوا بالذين من بعدي ابى بكر وعمر- منه رحمه الله

بالتخيير في الإشباع وعدمه لقيها ساكن اولا «1» - وورش يشبع عند الف القطع فقط- وإذا تلقته الف الوصل وقبل الهاء كسر او ياء ساكنة نحو بِهِمُ الْأَسْبابُ وعَلَيْهِمُ الْقِتالُ ضم الهاء والميم حمزة والكسائي- وكسرهما ابو عمرو- وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله- والآخرون ضموا الميم على الأصل وكسروا الهاء لاجل الياء والكسرة- وفي الوقف يكسر الهاء عند الكل لكسرة ما قبلها او الياء الا ما ذكرنا خلاف حمزة ويعقوب ابو محمد في الكلمات الثلث غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) بدل من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ- اى المنعم عليهم هم السالمون من الغضب والضلال- او صفة له مبينة او مقيدة ان اجرى الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود- كما في قول الشاعر ولقد امرّ على اللّئيم يسبّنى- او جعل غير معرفة لاضافته الى ماله ضد واحد فيتعين- يقال عليكم بالحركة غير السكون- وعليهم في محل الرفع نائب مناب الفاعل- ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي- كانه قال لا المغضوب عليهم- والغضب ثوران النفس لارادة الانتقام وإذ أسند الى الله أريد به المنتهى- والضلالة ضد الهداية وهو العدول عن الطريق الموصل وله عرض عريض- اخرج احمد في مسنده- والترمذي وحسنه- وابن حبان في صحيحه وغيرهم عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ان المغضوب عليهم اليهود وان الضالين النصارى- واخرج ابن مردوية عن ابى ذر نحوه- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم التفسير بذلك عن ابن عباس- وابن مسعود- والربيع ابن انس- وزيد بن اسلم- قال ابن ابى حاتم- لا اعلم في ذلك خلافا بين المفسرين- واللفظ عام يعم الكفار والعصاة والمبتدعة- قال الله تعالى في القاتل عمدا- وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ- وقال-فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ- وقال- الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا- والسنة عند ختم الفاتحة ان يقول أمين مفصولا- وأمين مخفف غير مشدد- جاء ممدودا ومقصورا قال البغوي قال ابن عباس معناه اسمع واستجب- واخرج الثعلبي عنه قال سالت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال افعل- روى ابن ابى شيبة في مصنفه والبيهقي فى الدلائل عن ابى ميسرة ان جبرئيل عليه السلام اقرأ النبىّ صلى الله عليه وسلم الفاتحة فلما قال وَلَا الضَّالِّينَ قال له قل أمين- وروى ابو داود في سننه عن ابى زهير أحد الصحابة

_ (1) هذا التعميم من سباق قلم او من الناسخ لان الإشباع قبل الساكن ممنوع- ابو محمد عفا الله عنه

فصل فى فضائل الفاتحة

قال- أمين مثل الطابع على الصحيفة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فاتينا على رجل قد ألح في المسألة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أوجب ان ختم- فقال رجل من القوم باىّ شىء يختم فقال أمين- واخرج ابو داود- والترمذي- والدارقطني- وصححه ابن حبان- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرا ولا الضّالّين قال أمين- وفي الصحيحين عن ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الامام وَلَا الضَّالِّينَ فقولوا أمين فان الملائكة تقول أمين- وان الامام يقول أمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. فصل فى فضائل الفاتحة عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده ما انزل في التورية ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القران مثلها- وانها لهى السبع المثاني التي أتاني الله عز وجل- رواه الترمذي وقال حسن صحيح- والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم- وعن ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرئيل إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع جبرئيل عليه السلام بصره الى السماء فقال هذا باب فتح من السماء ما فتح قط قال فنزل منه ملك فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرا حرفا منها الا أعطيته- رواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى- قسّمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول الله حمدنى عبدى- يقول العبد الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول الله اثنى علىّ عبدى- يقول العبد مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول الله تعالى مجدنى عبدى- يقول العبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول الله هذه الاية بينى وبين عبدى ولعبدى ما سال- يقول العبد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يقول فهؤلاء لعبدى ولعبدى ما سال- رواه مسلم- وعن عبد الملك بن عمير مرسلا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاتحة الكتاب شفاء من كل داء- رواه الدارمي في مسنده والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح- وعن عبد الله بن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- الا أخبرك بأخير سورة نزلت في القران

سورة البقرة

قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاتحة الكتاب واحسبه قال فيها شفاء من كل داء- وعنه- فاتحة الكتاب شفاء من كل شىء الا السام- والسام الموت- رواه الخلعي فى فوائده- وعن ابى سعيد بن المعلى- أعظم سورة في القران الحمد لله رب العلمين- رواه البخاري والبيهقي والحاكم من حديث انس- أفضل القران الحمد لله رب العلمين- وروى البخاري في مسنده من حديث ابن عباس- فاتحة الكتاب تعدل ثلثى القران- وعن ابى سليمان قال مر بعض اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواتهم على رجل قد صرع فقرأ بعضهم في اذنه بام القران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- هى أم القران وهى شفاء من كل داء- رواه الثعلبي من طريق معاوية بن صالح عنه- وعن ابى سعيد الخدري مرفوعا- فاتحة الكتاب شفاء من السم- رواه سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب- وعنه قال- كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت ان سيد الحي سليم فهل معكم راق فقام معها رجل فرقاه بام الكتاب فبرىء فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال وما كان يدريه انها رقية- رواه البخاري- ورواه ابو الشيخ وابن حبان في الثواب عنه وعن ابى هريرة معا- وعن السائب بن يزيد قال- عوّذنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب فىّ تفلا- رواه الطبراني في الأوسط- وعن انس- إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقد امنت كل شىء الا الموت- رواه البزار. سورة البقرة مدنيّة اخرج البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة والنّساء الّا وانا عنده وهى مائتان وسبع «1» وثمانون اية وستة الف ومائة واحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون الف وخمسمائة حرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) قيل في المقطعات في أوائل السور انها اسماء السور- وقيل هى مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام واستيناف كلام اخر- وقيل هى اشارة الى كلمات منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر فقلت لها قفى فقالت لى قاف- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن

_ (1) عند اهل البصرة اما عند اهل الكوفة فمائتان وست وثمان اية- ابو محمد عفا الله عنه

ابى العالية- الالف آلاء الله- واللام لطفه- والميم ملكه- واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عنه الر وحم ون مجموعها الرحمن- وعن ابن عباس ان الم معناه انا الله اعلم- وقال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس المص انا الله اعلم وافصل والر انا الله ارى والمر انا الله اعلم وارى- وقيل اشارة الى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل- روى البخاري في تاريخه وابن جرير من طريق ضعيف انه صلى الله عليه وسلم لما اناه اليهود تلا عليهم الم البقرة فحسبوا فقالوا كيف ندخل في دين مدته احدى وسبعون سنة- فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا فهل غيره فقال المص والر- والمر- فقالوا خلطت علينا فلا ندرى بايها نأخذ- ورد هذه الأقوال بان كونها اسماء السور مستلزم لوقوع الاشتراك في الاعلام من واضع واحد وذلك ينافى المقصود بالعلمية- وايضا التسمية بثلاثة اسماء فصاعدا مستنكر وايضا تسمية بعض السور دون بعض بعيد- وبان هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للدلالة على الفصل والاستيناف- وان كان كذلك كانت على كل سورة- وبان الاقتصار على بعض حروف الكلمة غير مستعمل واما الشعر فشاذ على ان في الشعر قوله قفى في السؤال قرينة على ان قولها قاف من وقفت بخلاف أوائل السور إذ لا قرينة هناك على ان الالف من الآء الله- واللام لطفه ونحو ذلك- وما روى عن بعض الصحابة والتابعين فمصروف عن الظاهر والا فهى اقوال متعارضة- وتخصيص حرف بكلمة من الكلمات المشتملة على تلك الحروف دون غيرها ترجيح بلا مرجح وبان تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فهم اليهودي- الظاهر انه صلى الله عليه وسلم تعجب على جهله- وقيل انه مقسم بها لشرفها من حيث انها بسائط اسماء الله تعالى- ومادة خطابه وهذا التأويل يحوج الى إضمار أشياء لا دليل عليها واختار البيضاوي ان حروف التهجي لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها افتتحت السور بطائفة منها إيقاظا لمن يتحدى بالقران وتنبيها على ان المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن الإتيان بمثله وليكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز- فان النطق بأسماء الحروف من الأمي معجزة كالكتابة سيما وقد روعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الفائق في فنه حيث أورد اربعة عشر اسماء نصف عدد أسامي الحروف في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف

مشتملة على انصاف جميع أنواعها من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة وغيرها كما ذكر تفصيله- وايضا الكلام غالبا يتركب من تلك الحروف الاربعة عشر دون البواقي- قال والمعنى ان هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف- والحق عندى انها من المتشابهات «1» وهى اسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن شاء افهامه من كمل اتباعه قال البغوي قال ابو بكر الصديق رضى الله عنه في كل كتاب سر وسر الله تعالى في القران أوائل السور- وقال علىّ رضى الله عنه ان لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي- وحكاه الثعلبي عن ابى بكر وعن علىّ وكثير- وحكاه السمرقندي عن عمرو وعثمان وابن مسعود رضى الله عنهم أجمعين وحكاه القرطبي عن سفيان الثوري- والربيع بن خثعم- وابى بكر ابن الأنباري- وابن ابى حاتم وجماعة من المحدثين- قال السجاوندى المروي عن الصدر الاول في الحروف التهجي انها سر بين الله وبين نبيه صلى الله عليه وسلم- وقد يجرى بين المحرمين كلمات معميات يشير الى اسرار بينهما- وقيل انّ الله تعالى استأثر بعلم المقطعات والمتشابهات ما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من اتباعه- وهذا بعيد جدّا فان الخطاب للافهام فلو لم يكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل او الخطاب بالهندي مع العربي- ولم يكن القران باسره بيانا وهدى- ويلزم ايضا الخلف في الوعد بقوله تعالى- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ- فانه يقتضى ان بيان القران محكمه ومتشابهه من الله تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم واجب ضرورى- وروى عن ابن عباس انا من الراسخين في العلم وانا ممن يعلم تأويله- وكذا

_ (1) المتشابه فيه قولان أحدهما انه يرجى نيل المراد منه بضرب من التأويل والتأمل والثاني انه لا يرجى نيل المراد منه فعلى القول الاول الرسول وغيره في ذلك سواء والادلة التي ذكرت هاهنا يؤيد هذا القول وعلى القول الثاني هو مختار الحنفية رحمهم الله ايضا الرسول وغيره سواء والادلة المذكورة مخدوشة عندهم فينبغى تفصيل المذهبين وكذا دليل كل من الفريقين مع الجواب عن دليل المخالف حتى ينتظم الكلام- قلت المتشابه التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد بحيث لا يدرك بالطلب ولا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع فان بينه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظهر المراد منه سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة والزكوة والحج والعمرة واية الربوا ونحو ذلك وان لم يوجد البيان والتعليم من النبي صلى الله عليه وسلم سميت متشابها على اصطلاحهم- والمتشابه بهذا المعنى أخص من المتشابه بالمعنى المذكور سابقا فالمقطعات واليد والوجه والاستواء على العرش من هذا القبيل- واختلف كلام العلماء في هذا النوع فقيل يمكن تأويله وقيل لا يمكن تأويله بل يجب الايمان به وتفويض المراد منه الى الله سبحانه فقيل استأثر الله سبحانه بعلمه ما فهم النبي صلى الله عليه وسلم مراده ولا أحد من اتباعه وبه قال اكثر العلماء وقيل بل فهمه النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء افهامه من اتباعه وهو سر بين الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وهو المختار عندى وما يدل على هذا من اقوال الصحابة مذكور في الكتاب- منه برد الله مضجعه

عن مجاهد وادعى المجدد للالف الثاني رضى الله عنه (من الامة المرحومة التي لا يدرى أولها خير أم آخرها ولعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا) ان الله تعالى اظهر عليه تأويل المقطعات واسرارها لكنها مما لا يمكن بيانها للعامة فانه ينافى كونها سرّا من اسرار الله تعالى والله تعالى اعلم- وقيل انها اسماء الله تعالى أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية في الأسماء والصفات عن ابن عباس وسنده صحيح- وروى ابن ماجة عن على رضى الله عنه انه كان يقول يا كهيعص اغفر لى- وعن الربيع بن انس كهيعص معناه من يجير ولا يجار عليه- وقيل انها اسماء القران أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قالوا ولذلك اخبر عنها بالكتاب والقران قلت ان كانت اسماء لله تعالى كانت دالة على بعض صفاته تعالى- كسائر اسماء الصفات- وكذا ان كانت اسماء للقران كانت دالة على بعض صفات القران كما ان لفظ القران والفرقان والنور والحيوة والروح والذكر والكتاب تدل على صفة من صفاته- وعلى كلا التقديرين فدلالة تلك الألفاظ ليست مما يفهمه العامة بل هى مختصة بفهم المخاطب ومن شاء الله تعالى تفهيمه- والحكم بانها من اسماء الله تعالى لا يتصور الا بعد فهم معناها- فهذان القولان على تقدير صحتهما راجعان الى ما حققناه انها اسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لا يفهمه غيره الا من شاء الله من كمل اتباعه وكذلك قوله تعالى- يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ- وقوله تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ- ونحو ذلك مما يستحيل حملها على ظواهرها التي تتبعها الذين في قلوبهم زيغ من المجسمة- فان كلا منها تدل على صفة من صفات الله تعالى بحيث فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الكمل من اتباعه- وتوضيح ذلك ان لله تعالى صفاتا غير متناهية «1»

_ (1) قال البغوي انه قال ابن عباس قالت اليهود أتزعم انا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فانزل الله هذه الاية يعنى كلمات علمه وحكمته تعالى غير متناهية ومن هاهنا قال العلماء معلومات الله تعالى غير متناهية وكما ان علومه تعالى غير متناهية وان كان ذلك اللاتناهى بعدم تناهى تعلقاتها- فكذلك جزئيات سائر صفاته تعالى غير متناهية وايضا حصر الصفات فيما يعلمه الناس ممنوع كيف وما ذكر فى المتن من الحديث الصحيح يدل على ان من أسمائه تعالى ما استأثر بعلمه لم يعلّمه أحدا من خلقه فمن الجائز ان يعلم الله سبحانه رسوله من أسمائه وصفاته بالمقطعات ما لم يعلمه قبله غيره- عدم تناهى الصفات انما هو بمعنى عدم تناهى تعلقاتها وحمل الكلمات على الصفات مستبعد كل البعد ولا يجب وضع اللفظ بإزاء كل تعلق تعلق حيث يقدح تناهيها في ادراك الصفات بل اللفظ انما يوضع بإزاء معنى كلى تنطبق على جزئيات غير متناهية- ثم عدم وضع اللفظ بإزاء معنى من المعاني لا يوجب عدم درا ذلك المعنى لجواز ان يتصور المعنى من غير توسط اللفظ ولا امتناع التصور بالكنه يوجب عدم اللفظ إذ التصور بالوجه كاف- ان كان استفادة العلم الضروري بهذه الحروف بطريق الدلالة الوضعية عاد الاشكال بأصله إذ تلك الدلالة ليست موجودة لانها ليست بوضع العرب مع ان القران عربى وان كان لا بطريق الدلالة الوضعية بل بمجرد المقابلة ولزوم الروية يلزم الدرك من الحروف ما لها وضع وكلا الشقين محال قلت واضع الأسماء واللغات كلها هو الله سبحانه دون الناس- وكان ابتداء التعليم من الله سبحانه بالإلهام او البيان والا يلزم التسلسل فعلى هذا يمكن ان يكون هذه الحروف المقطعات في علم الله تعالى موضوعة للمعانى دالة عليها بالوضع فالهم الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم معنى تلك الحروف وصفتها كما الهم آدم عليه السلام معانى سائر الأسماء- منه رحمه الله [.....]

حيث قال الله تعالى- لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي- وقال عز من قائل- وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ- ولا شك ان الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني متناهية- والعقول قاصرة عن درك كنه ذات الله تعالى وكنه صفاته- وانما يتصور دركه بنوع من المعية الذاتية او الصفاتية الغير المتكيفة- هيهات هيهات عن فهم العوام بل الخواص مع دركهم لا يدركون ذلك الدرك في مرتبة الذات حيث قال رئيس الصديقين شعر- العجز عن درك الإدراك ادراك- والبحث عن سر الذات اشراك- غير ان بعض صفاته تعالى لما شارك صفات الممكنات في الغايات او بعض وجوه المشاكلات عبر عنها بالأسماء التي تدل على صفات في المخلوقات كالحيوة والعلم والسمع والبصر والارادة والرحمة والقهر وغيرها فزعم البشر انه فهمها وفي الحقيقة لم يفهم الا بعض وجوهها- وبعضها ليست بهذا المثابة- فمنها ما استأثر الله تعالى بعلمه- ومنها ما افهمه الخواص من خلقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك او أنزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به في علم الغيب عندك- رواه ابن حبان فى صحيحه- والحاكم في المستدرك واحمد- وابو يعلى في حديث ابن مسعود لمن أصابه هم- والطبراني فى حديث ابى موسى فلعل الله سبحانه من ذلك الأسماء الخفية عن العامة التي لم يوضع بإذائها ألفاظ في لغاتهم علّم والهم بعضها لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن شاء من اتباعه بهذه الحروف وخلق فيهم علما ضروريا مستفادا من هذه الحروف كما علم آدم الأسماء وخلق فيه علما ضروريا من غير سبق علمه بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى كيلا يلزم التسلسل- ويتجلى تلك الأسماء والصفات على النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الحروف- قال شيخى وامامى قدسنا الله بسره السامي انه يظهر بنظر الكشف القران كله كانه بحر ذخار للبركات الالهية ويظهر تلك الحروف في ذلك البحر كانها عيون فوارات تفور ويخرج منها البحر- فعلى هذه المكاشفة لا يبعد ان يجعل هذه الحروف اسماء للقران كانّ القران تفصيل لذلك الإجمال والله اعلم بمراده- وهذا التوجيه لا ينافى ما اختاره البيضاوي فان القران لكل اية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع- ويروى لكل حرف حد ولكل حد مطلع رواه البغوي من حديث ابن مسعود فكما ان هذه الحروف في الظاهر عنصر للقران وبسائطه وغالب

[سورة البقرة (2) : آية 2]

ما يتركب منه- وفيه لطائف الإيراد ووجوه الاعجاز- كذلك المراد من تلك الحروف إجمال للقران وعيون فوارات واسرار بين الله وبين رسوله لا يطلع عليه أحد الا المخاطب او من في معناه والله سبحانه اعلم-. ذلِكَ الْكِتابُ- اى هذا الكتاب الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم ويكذّب به المشركون فالمشار اليه ما سبق نزوله من القران على سورة البقرة او القران كله الذي سبق بعضه فذلك مبتدأ والكتاب خبره اى الكتاب المعهود الموعود- او الكتاب الكامل الذي يستأهل ان يسمى كتابا- او صفة وخبره ما بعده- وقيل هذا فيه مضمر اى هذا الذي يوحى إليك ذلك الكتاب الذي وعدنا انزاله في التورية والإنجيل- او وعدناك من قبل بقولنا- إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا- فذلك خبر مبتدأ محذوف والكتاب صفته- والكتاب مصدر بمعنى المكتوب واصل الكتب الضم والجمع يقال للجند كتيبة لاجتماعها سمى به لانه قد جمع في الكتاب حرف الى حرف- او لانه مما يكتب- والاشارة بذلك وهى للبعيد تعظيما لشأنه لا رَيْبَ فِيهِ لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب فيه العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا- وقيل خبر بمعنى النهى اى لا ترتابوا فيه- ولا لنفى الجنس وفيه خبره- او فيه صفته وللمتقين خبره وهدى نصب على الحال- او الخبر محذوف كما في لا ضير- وفيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير لا ريب فيه فيه هدى والاولى ان يقال انها جمل متناسقات يقرر اللاحقة السابقة ولذا لم يعطف- ف ذلِكَ الْكِتابُ ملة تفيد انه الكتاب المنعوت بغاية الكمال حيث لا رَيْبَ فِيهِ- وكذا قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ- قرا ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء ضمير الغائب قبلها ساكن يشبعها وصلا بالياء ان كان الساكن ياء والا بالواو نحو منه كما يشبع القراء كلهم كل هاء قبلها متحرك مكسور ياء نحو به او غير مكسور واوا نحو يضربه له ما لم يلقها ساكن فاذا لقيها ساكن سقط مدة الإشباع لاجتماع الساكنين اجماعا- نحو عليه الكتب وله الحكم غير ان الكلمة إذا كانت ناقصة حذف آخرها لاجل الجزم نحو يؤدّه ونولّه- ونصله- فالقه- ويتّقه- ويأته- ويرضه وبقي ما قبل الهاء متحركا ففيها خلاف القراء نذكرها في مواضعها ان شاء الله تعالى فقرا بعضهم بالإشباع نظرا الى تحرك ما قبلها وبعضهم بالاختلاس نظرا الى كون الحركة عارضية وتنبيها على الحرف المحذوف وبعضهم بالسكون لحلوله محل المحذوف هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اى هو هدى فهو جملة ثالثة يؤكد كونه حقا لا ريب فيه- او يكون كل جملة منها يستتبع السابقة اللاحقة استتباع الدليل للمدلول فانه لما كان بالغا حد الكمال

[سورة البقرة (2) : آية 3]

لا يسوغ فيه الريب فيكون البتة هدى- وهدى مصدر بمعنى الدلالة على الطريق الموصل او الدلالة الموصلة الى المقصود بمعنى الهادي- او ذكر مبالغة كزيد عدل- وتخصيص الهدى بالمتقين اما على المعنى الاول فلانهم هم المنتفعون به وان كانت الدلالة عامة ولذا قال- هُدىً لِلنَّاسِ- واما على الثاني فظاهر لانه لا يكون دلالة موصلة الا لمن صقل عقله كالغذاء الصالح ينفع الصحيح دون المريض ولذا قال- شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً- والمتقى من يقى نفسه عما يضره في الاخرة من الشرك وذلك أدناه- ومن المعاصي وذلك أوسطه- ومن الاشتغال بما لا يعينه ويشغله عن ذكر الله تعالى وذلك أعلاه وهو المراد بقوله تعالى- حَقَّ تُقاتِهِ- وقال ابن عمر التقوى ان لا ترى نفسك خيرا من أحد- وقال شهر بن حوشب- المتقى الذي يترك ما لا بأس به- حذرا عما به بأس- روى الشيخان وابن عدى عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه- الا وان لكل ملك حمى الا وان حمى الله في ارضه محارمه الا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسدت الجسد كله الا وهى القلب- وروى الطبراني في الصغير الحلال بين والحرام بين فدع ما يريبك الى ما لا يريبك- قلت صلاح القلب المذكور في الحديث هو المعبّر باصطلاح الصوفية بفناء القلب وهو أول مراتب الولاية وهو المستلزم لصلاح الجسد والاتقاء عن المشتبهات حذرا من ارتكاب المحرمات- فالتقوى لازم للولاية قال الله تعالى- إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وفي الاية سمى المشارف للتقوى متقيا مجازا على طريقة من قتل قتيلا-. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ- صفة مقيدة للمتقين ان فسر بالتقوى عن الشرك والا فموضحة مشتملة على اصول الأعمال من الايمان فانه رأس الأمر كله- والصلاة فانها عماد الدين- والزكوة فانها قنطرة الإسلام او مادحة- او مبتدأ وخبره أُولئِكَ عَلى هُدىً- قرا ابو جعفر وابو عمرو وورش يومنون بالواو بدلا عن الهمزة- وكذلك ابو جعفر يترك كل همزة ساكنة ويبدلها واوا بعد ضمة- وياء بعد كسرة الا في انبئهم- ونبّئهم- ونبّئنا- وابو عمرو كلها الا ما كان السكون فيه للجزم نحو يهيّئ او يكون فيه خروج من لغة الى لغة كالمؤصدة- ورءيا-

وورش كل همزة ساكنة في فاء الفعل الا تؤى- وتؤويه- ولا يترك الهمزة في عين الفعل الا باب الرّؤيا وما كان على وزن فعل مسكور العين- والايمان في اللغة التصديق كما في قوله تعالى وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا- وذلك يكون بالقلب واللسان وفي الشرع التصديق بالقلب واللسان جميعا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم قطعا- ولا يعتبر التصديق بالقلب بدون اللسان الا في حالة الإكراه- قال الله تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ- وقال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ- وقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- ولا يعتبر التصديق باللسان بدون القلب أصلا قال الله تعالى- وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ- واما الأعمال فغير داخلة في الايمان ولذا صح عطف يُقِيمُونَ الصَّلاةَ على يُؤْمِنُونَ وعطف آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- روى مسلم في الصحيح عن عمر بن الخطاب قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسند ركبتيه الى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام- قال الإسلام ان تشهد ان لا الله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا- قال صدقت فعجبنا له يسئله- ويصدقه- قال أخبرني عن الايمان- قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وتؤمن بالقدر خيره وشره- قال صدقت قال فاخبرنى عن الإحسان- قال ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- قال فاخبرنى عن الساعة- قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل- قال فاخبرنى عن اماراتها- قال ان تلد الامة ربتها- وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان- قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لى يا عمر أتدري من السائل- قلت الله ورسوله اعلم- قال فانه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم- ورواه ابو هريرة مع اختلاف وفيه- إذا رايت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن الا الله ثم قرا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الاية- متفق عليه وهذا الحديث تدل على ان الإسلام اسم لما ظهر من الأعمال- وكذا قوله تعالى- قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا- ويطلق الإسلام ايضا على الايمان

[سورة البقرة (2) : آية 4]

كما في قوله تعالى قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فهو في اصطلاح الشرع مشترك فى المعنيين- والغيب مصدر وصف به للمبالغة كالشهادة قال الله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ والمراد به ما غاب عن أبصارهم من ذات الله وصفاته والملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان وعذاب القبر وغير ذلك فهو واقع موقع المفعول به للايمان والباء صلة- او بمعنى الفاعل وقع حالا من فاعل يؤمنون يعنى يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين في حضور المؤمنين خاصة دون الغيبة وقيل عن المؤمن به- روى عن ابن مسعود انه قال ان امر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيّنا لمن راه والذي لا الله غيره ما من أحد قط أفضل ايمانا من ايمان بغيب ثم قرا الم ذلِكَ الْكِتابُ الى قوله الْمُفْلِحُونَ- وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يحافظون على حدودها وشرائطها وأركانها وصفاتها الظاهرة من السنن والآداب والباطنة من الخشوع والإقبال- من اقام العود إذا قومه- او يديمونها ويواظبون عليها- من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة والصلاة أصله الدعاء وسميت بها لاشتمالها عليه قرا ورش بتغليظ اللام إذا تحرك بالفتح بعد الصاد- او الطاء- والظاء- نحو الصّلوة- ومصلّى- وأظلم- والطّلاق- ومعطّلة- وبطل- ونحو ذلك وقرا الباقون بالترقيق الا في لفظه الله خاصة إذا انفتح او انضم ما قبله فيفخمونه «1» أجمعون- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الرزق في اللغة الحظ قال الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ- ويطلق على كل ما ينتفع به الحيوان والانفاق في الأصل الإخراج عن اليد والملك ومنه نفاق السوق حيث يخرج فيه السلعة والمراد به صرف المال في سبيل الخير هذه الاية في المؤمنين من مشركى العرب-. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعنى القران وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التورية والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- هم المؤمنون من اهل الكتاب- كذا اخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهما- فعلى هذا الآيتان تفصيل للمتقين- او المراد بهم هم الأولون من قبيل قوله شعر الى الملك القوم وابن الهمام- وليت الكتيبة في المزدحم- على معنى انهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل جملة وإتيان الشرائع وبين الايمان بما لا طريق اليه غير السمع او من قبيل عطف الخاص على العام

_ (1) فى الأصل فيفخمون 12

كقوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ- تعظيما لشأنهم- روى الشيخان عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد الحديث- والانزال نقل الشيء من الأعلى الى الأسفل ويلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها كجبرئيل- او المراد العلو والسفل في الرتبة انزل من علم الله تعالى الى علم البشر يقصر ابو جعفر وابن كثير ويعقوب والسوسي كل مد وقع بين كلمتين وقالون والدوري يمد ويقصر والباقون بمدونها ولذا سمى هذا المد المنفصل مدا جائزا بخلاف المتصل الواقع في كلمة واحدة نحو السّماء فانهم اتفقوا على مده فيسمى واجبا لكنهم اختلفوا في مقدار المتصل والمنفصل فابن كثير وابو عمرو وقالون يمدون على قدر ثلث حركات وابن عامر والكسائي على قدر اربع حركات وعاصم على قدر خمس حركات وورش وحمزه على قدر ست حركات هذا في المد الذي يقع بعد المدة همزه- اما إذا وقع بعده ساكن نحو وَلَا الضَّالِّينَ والم فجميع القراء اتفقوا على مده على قدر ست حركات ويسمى مدا لازما- الا إذا كان الساكن لعارض الوقف فاتفقوا على ان القاري مخير في مده على قدر حركتين او اربع حركات اوست حركات وفيما كان الساكن في الأصل مضموما نحو نَسْتَعِينُ يمدونها الى سبع «1» حركات- والله اعلم- وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) اى بالدار الاخرة سميت الدنيا لدنوّها- والاخرة لتاخرها فهما صفتان في الأصل غلبتهما الاسمية فصارا اسمين- والإيقان إتقان العلم بنفي الشك عنه نظرا واستدلالا- فلا يسمى الله موقنا- قرا ورش بنقل حركت الهمزة الى اللام وحذف الهمزة وكذلك كل ما وقع الهمزة أول كلمة- والسابق عليه حرف ساكن غير مدولين من اخر كلمة اخرى فانه يلقى حركت الهمزة على الساكن قبلها ويحذفها سواء كان الساكن نون تنوين او لام تعريف او غير ذلك نحو مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا- ومُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا- وكُفُواً أَحَدٌ- وبِالْآخِرَةِ الْأَرْضِ- الْأُولى - واستثنى اصحاب يعقوب عن ورش من ذلك كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ- واختلفوا فى الْآنَ في موضعين وعاداً الْأُولى - ثم ورش يمد مدّا قصيرا ومتوسط او طويلا على هذه المدة- وكذا على كل مدة وقع بعد الهمزة سواء كانت الهمزة ثابتة نحو أمن- وأوحى- وإيمانا- او محذوفة بعد نقل الحركة نحو بالاخرة- وقل اوحى- ومن أمن او مبدلة نحو هؤلاء الهة فقرا ورش هؤلاء يالهة بالابدال والمد او مسهلة نحو جاء ال- الا ياء إسرائيل تحرزا عن ثلث مدات في

_ (1) لا فرق عند القراء في المضموم وغيرها 12 ابو محمد عفا الله عنه

[سورة البقرة (2) : آية 5]

بنى إسرائيل- وبعضهم لا يرون لورش المد الا في الثابتة- وقرا حمزة من رواية خلف بالسكتة على اللام وكذا على كل ساكن غير مدة وقع اخر الكلمة وبعده همزة يسكت عليه سكتة لطيفة من غير قطع نحو من أمن- وهل اتيك- وعليهم ءانذرتهم ابني آدم وخلوا الى شيطينهم- الاخرة- الأرض- وعنه السكتة على لام التعريف وشىء وشيئا لا غير- وقدم الضمير للحصر اى هم الموقنون بالاخرة دون غيرهم من اهل الكتاب لعدم مطابقة اعتقادهم الواقع حيث قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ونحو ذلك-. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ- الجملة في محل الرفع ان جعل أحد الموصولين منفصلا عن المتقين كانه نتيجة للاحكام بالصفات المذكورة فان اسم الاشارة كاعادة الموصوف بصفاته- ففيه إيذان بان تلك الصفات موجبة لهذا الحكم- وفي كلمة على إيذان على تمكنهم وو استقرارهم على الهداية- ونكر هدى للتعظيم وأكّد التعظيم بان الله معطيه وموفقه وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) اى الفائزون بالمطلوب هذا اللفظ وما يشاركه في الفاء والعين من فلق وفلذ وفلى يدل على الشق والقطع كانّ المفلح انشق من غيره وصار بينهما بون بعيد- او صاروا مقطوعا لهم بالخير في الدنيا والاخرة كرر اسم الاشارة تنبيها على ان اتصافهم بتلك الصفاة يقتضى كل واحدة من الاثرتين ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين بخلاف قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ- أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ- وهم ضمير يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد الاختصاص- او مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك- وتمسك المعتزلة بان الحصر تدل على خلود مرتكب الكبيرة في النار- ورد بان المراد المفلحون الكاملون في الفلاح ويلزم منه عدم كمال الفلاح لمن ليس مثلهم لا عدم الفلاح مطلقا- ثم لما ورد ذكر خاصة- عباد الله وأوليائه في ضمن ذكر الكتاب او مستقلا ان جعل الموصول منفصلا عن المتقين- عقبهم أضدادهم المردة ولم يعطف لاختلاف السياق-. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- الكفر لغة ستر النعمة وفي الشرع ضد الايمان وستر نعمة الله- سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ- خبران- وسوآء اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر- وما بعده مرفوع على الفاعلية كانه قيل مستو عليهم إنذارك وعدمه-

[سورة البقرة (2) : آية 7]

او خبر لما بعده بمعنى انه إنذارك وعدمه سيان عليهم- والفعل وقع مخبرا عنه باعتبار المعنى التضمني اى الحدث مجازا- وانما عدل عن المصدر الى الفعل لايهام التجدد- والهمزة وأم جردتا عن معنى الاستفهام وذكر التقرير معنى الاستواء وتأكيده- والانذار التخويف من عذاب الله واقتصر عليه لان دفع الضرر أهم من جلب النفع- قرا ورش بابدال الهمزة الثانية الفا- وقالون وابن كثير وابو عمرو يسهّلون الثانية بين بين لكن قالون يدخل الفا بينهما مع التسهيل- وهشام يدخل الفا بينهما من غير تسهيل- والباقون يحققون الهمزتين من غير إدخال- وكذلك المقال في كل همزتين مفتوحتين في كلمة واحدة- وذكر في التيسير مذهب هشام كقالون- واما إذا اختلفتا بالفتح والكسر فى كلمة نحواء ذا كنّا ترابا فالحرميان وابو عمرو يسهلون الثانية وقالون وابو عمرو يدخلان قبلها الفا والباقون يحققون الهمزتين واختلف الرواية عن هشام في إدخال الالف بينهما ففى رواية يدخل مطلقا- وفي رواية لا الا في سبعة مواضع- أإنّكم في الأعراف وفصلت أإنّ لنا لاجرا في الأعراف والشعراء- وفي مريم أَإِذا ما مِتُّ- وفي الصّافّات أَإِنَّكَ وأَ إِفْكاً- وإذا اختلفتا بالفتح والضم فى كلمة فالحرميان وابو عمرو يسهلون الثانية- وقالون يدخل بينهما الفا- وهشام كقالون في ص أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ وفي القمر أَأُلْقِيَ- وكالجمهور في ال عمران قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ والباقون يحققون ولا رابع لها- لا يُؤْمِنُونَ (6) جملة مفسرة لاجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها او حال مؤكدة او بدل عنه- او خبر انّ والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم-. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ- فلا تعى خيرا- والقلب هو المضغة وقد يطلق على المعرفة والعقل قال الله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ- اعلم ان الله تعالى خالق الأشياء كلها اعراضها وجواهرها- والأسباب اسباب عادية يخلق الله تعالى عقيبها المسببات فالله سبحانه بعد استعمال الحواس من السمع والبصر وغيرهما يخلق علما بالمحسوسات وبعد استعمال الذهن فى ترتيب المقدمتين يخلق علما بالنتيجة جريا على عادته- ولو شاء لا يخلق ويتعطل الحواس ويتخبظ الذهن- ولو شاء يحصل العلم بالمحسوس ولا يفيد ذلك العلم اثرا في القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء- ثم قال اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك- رواه مسلم عن

عبد الله بن عمرو- فالله سبحانه لمّا لم يردان يطهر قلوب الكفار صرفهم عن التفكر في الآيات ولم يخلق فى قلوبهم تأثرا بالايمان واليقين بعد رؤية الآيات والمعجزات وعبر عن ذلك وعن عدم التأثر بالختم- والطبع- والاغفال- والاقساء- والغشاوة مجازا- او مثل قلوبهم ومشاعرهم بأشياء ضرب عليها الحجاب- او يقال ان المراد بالختم ما يخلق الله تعالى من السواد على القلوب باقتراف المعاصي- روى البغوي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وان زاد زادت حتى تعلو قلبه- فذلكم الرين الذي ذكر الله في كتابه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ- قلت وسواد القلب المذكور هو المعبر فيما مر من الحديث بفساد القلب- حيث قال وإذا فسدت فسدت الجسد وهو ضد صلاح القلب ولما كان حال ذنب المؤمن كذلك فما بال الكافر- وعبر عن احداث هذه الهيئة بالطبع- والاغفال والاقساء ونحوها- والختم في اللغة الكتم- سمى به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لانه كتم له- والبلوغ آخره سمى به نظرا الى انه اخر فعل يفعل في إحرازه- وَعَلى سَمْعِهِمْ- اى أسماعهم وحده للامن عن اللبس واعتبار الأصل فانه مصدر في أصله والمصادر لا يجمع- معطوف على قلوبهم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً- ولمّا كان درك السمع والقلب من جميع الجهات جعل مانعهما من جنس واحد وهو الختم بخلاف البصر فانه مختص بالمقابلة فجعل مانعها الغشاوة المختصة بجهة المقابلة- وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ- جمع بصر وهو ادراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع امال ابو عمرو والدوري عن الكسائي كل الف بعده راء مجرور في لام الفعل نحو وعلى أبصارهم وصلا ووقفا وكذا اثارهم- والنّار- والغار- وبقنطار- وبدينار- والأبرار- وشبهه وتابعهما ابو الحارث فيما تكررت فيه الراء من ذلك نحو الأشرار- الأبرار- وقرا ورش كل ذلك بين بين وتابعه حمزة فيما كان الراء فيه مكررا وعلى قوله القهّار حيث وقع ودار البوار لا غير- وامال ابن ذكوان الى حمارك والحمار في البقرة والجمعة لا غير- والغشاوة ما يشتمل على الشيء فيغطيه مرفوع على انه مبتدأ او فاعل للظرف وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) فى الاخرة والعذاب من أعذب الشيء إذا امسك اى عقابا يمنع الجاني عن المعاودة ثم اتسع فاطلق على كل الم وان لم يكن عقابا مانعا

[سورة البقرة (2) : آية 8]

وقيل من التعذيب بمعنى ازالة العذب- والعظيم ضد الحقير يعنى إذا قيس مع ما يجانسه قصر عنه جميعه-. وَمِنَ النَّاسِ روى عن ابى عمرو امالة فتح النّاس في موضع الجر حيث وقع بخلاف عنه وصلا ووقفا مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ اى بيوم القيامة نزلت في المنافقين عبد الله بن ابى بن سلول- ومعتب بن قشير- وجدّ بن قيس وأصحابهم وأكثرهم من اليهود- والناس أصله أناس فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف ولذا لا يجمع بينهما- جمع انسان- وقيل اسم جمع إذ لم يثبت فعال من ابنية الجمع- مشتق من انس لانهم يستأنسون بينهم- او انس لانهم ظاهرون مبصرون- كما سمّى الجنّ لاجتنانهم واللام فيه للجنس ومن موصوفة إذ لا عهد- وقيل للعهد والمعهود هم الذين كفروا- او من موصولة أريد بها ابن ابى وأمثاله حيث دخلوا في الكفار المختوم على قلوبهم واختصوا بزيادة الخداع- وتخصيص الذكر بالايمان بالله واليوم الاخر لما هو مقصود الأعظم من الايمان وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) انكار لما ادعوه وكان أصله وما أمنوا حتى يطابق قولهم في تصريح الفعل دون الفاعل لكنه عكس مبالغة في التكذيب لان إخراجهم من المؤمنين ابلغ من نفى الايمان في ماضى الزمان ولذلك أكد النفي بالباء. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا- الخدع ان توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه- من قولهم خدع الضب إذا توارى في حجره وأصله الإخفاء- وخداعهم مع الله اى مع رسوله بحذف المضاف- او من حيث ان معاملتهم مع الرسول معاملتهم مع الله من حيث انه خليفته قال عز وجل- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ- وقال عز من قائل- الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ- وهو بمعنى يخدعون وصيغة المفاعلة للمبالغة فان الفعل مع المقابل ابلغ او ان صورة صنيعهم مع الله من اظهار الايمان مع ابطان الكفر وصنع الله معهم بإجراء احكام الإسلام عليهم مع انهم أخبث الكفار وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين امر الله في إخفاء حالهم واجراء احكام الإسلام عليهم صورت صنيع المتخادعين وهو بيان ليقول او استيناف بذكر ما هو الغرض منه- وَما يَخْدَعُونَ- قراءة الحرميين وابى عمرو وما يخادعون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فانه لا يخفى على الله خافية- وهو يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهم غروا أنفسهم حيث

[سورة البقرة (2) : آية 10]

او هموا أنفسهم انهم أمنوا من العذاب والفضيحة فضرر خداعهم راجع إليهم دون غيرهم- وَما يَشْعُرُونَ (9) اى لا يحسّون لتمادى غفلتهم- الشعور الاحساس بالمشاعر الى الحواس جعل رجوع الضرر إليهم كالمحسوس الذي لا يخفى الا على ماؤف الحواس. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- لا المرض ما يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال ويضعفه ويفضيه الى الهلاك- ويطلق على الاعراض النفسانية من الجهل والحسد والكفر وسوء العقيدة مجازا فانه مانع من نيل الفضائل ومفضى الى الهلاك الابدى- وهم كانوا على أخبث الاعراض النفسانية وكانوا ايضا متالمين على فوت الرياسة واستعلاء شأن المحسودين من المؤمنين فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بتقوية تلك الاعراض الخبيثة بالختم والرين- وإنزال الآيات- فكلما كفروا باية ازدادوا كفرا- او نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفضيحهم- قرا حمزة بامالة زاد وكذا جاء وشاء- وران- وخاف- وخاب- وطاب- وحاق- حيث «1» وقع وزاغ- فى والنجم وزاغوا في الصف لا غير- سواء اتصلت هذه الافعال بضمير اولا إذا كانت ثلاثية ماضية وتابعه ابن ذكوان على امالة جاء وشاء حيث وقعا وزاد هاهنا خاصة وقيل حيث وقع وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) اى مولم وصف به العذاب مبالغة بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) ما مصدرية- قرأ الكوفيون بالتخفيف اى بكذبهم في قولهم امنّا- والباقون بالتشديد اى بتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم في السّرّ-. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ- الفساد ضد الصلاح يعمان كل ضار ونافع- وفسادهم في الأرض هيجان الحروب بمخادعة المسلمين وممالاة الكفار عليهم بإفشاء الاسرار وتعويق الناس عن الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران- قرأ الكسائي وهشام- قيل- وغيض- وجىء- وحيل- وسيق- وسيئت وسىء بالاشمام ووافق ابن عامر في الأربع الاخيرة ووافق نافع في الأخيرين- والمراد بالاشمام هاهنا ان ينحا بكسر فائها نحو الضمة واليا نحو الواو- وقيل بضم الفاء مشبعة- وقيل مختلسا- وقيل بل ايماء بالشفتين الى ضمة مقدرة مع اخلاص الكسرة- والاول أصح والباقون بالكسرة قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) وهم كاذبون ردّ للناصح على سبيل المبالغة بكلمة انما او قالوا ذلك فيما بينهم تصور والفساد بصورة الصلاح لما زين لهم سوء أعمالهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ

_ (1) ضاق ايضا منهم- ابو محمد عفا الله عنه

[سورة البقرة (2) : آية 13]

لا يَشْعُرُونَ (12) ردّ لما ادعوه ابلغ ردّ كما ادّعوه لانفسهم مع تعريض للمؤمنين بأبلغ الوجوه بالاستيناف وحرف التنبيه المفيدة للتحقيق وكلمة ان وتعريف الخبر وضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعنى المهاجرين والأنصار- او من أمن من اليهود كعبد الله بن «1» سلام- هذا من تمام النصح- فان الاعراض عن الفساد والإتيان بشرائع الايمان كمال الإنسان- وكما أمن الناس في محل النصب على المصدرية وما مصدرية او كافة كما في ربّما قالُوا فيما بينهم أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ والسفه خفة العقل وضده الحلم- وقيل السفيه من تعمد بالكذب- وانما سفهوهم اعتقادا لفساد رأيهم او تحقيرا لشأنهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فانهم مع ما كانوا يرون من المعجزات ويعرفون من التورية أهملوا عقولهم وأنكروا الرسول صلى الله عليه وسلم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وفيه رد ومبالغة كما سبق- قرأ الحرميان وابو عمرو السّفهاء الا في الوصل خاصة بتسهيل الهمزة الثانية- وكذا كل ما اجتمعا في كلمتين واختلف حركتهما نحو من الماء او ممّا- وشهداء إذ حضر- ومن يشآء الى صراط- وجاء امّة وحكم التسهيل ان يجعل بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها ما لم ينفتح وينكسر ما قبلها او ينضم فانها تبدل مع الكسرة ياء مفتوحة وو مع الضمة واو مفتوحة والمكسورة المضموم ما قبلها تبدل واوا مكسورة والباقون يحققونهما وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) انما ذكر هاهنا لا يعلمون وفيما قبله لا يشعرون لان الوقوف على امور الدين يحتاج الى فكر واما الفساد فيدرك بالحس وادنى التفات-. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كايمانكم بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صدرت به القصة سبق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم وَإِذا خَلَوْا من خلوت بفلان واليه إذا انفردت معه- او من خلاك دم اى عداك ومنه القرون الخالية إِلى شَياطِينِهِمْ اى روسائهم قال ابن عباس- وهم خمسة نفر من اليهود كعب بن اشرف بالمدينة- وابو بردة في بنى اسلم وعبد الدار في جهينة- وعوف بن عامر في بنى اسد- وعبد الله بن السوداء بالشام- والشيطان المتمرد العاتي من الجن والانس قال الله تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وقال مِنَ الْجِنَّةِ

_ (1) وعن ابن عباس- كما أمن ابو بكر وعمر وعثمان وعلى- منه نور الله مرقده

[سورة البقرة (2) : آية 15]

وَالنَّاسِ- او المراد الكهنة ولا يكون كاهن الا ومعه الشيطان تابع له والشيطان- مشتق من شطن اى بعد يقال بيرشطون اى بعيد العمق سمى لامتداده في الشر وبعده من الخير- او من شاط اى بطل ومن أسمائه الباطل- وحينئذ النون زائدة قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فى الدين والاعتقاد خاطبهم بالجملة الاسمية المؤكدة بان للدلالة على تحقيق ثباتهم على ما كانوا إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) تأكيد لما قبله لان المستهزئ بالشيء المستخف به مصر على خلافه- او بدل منه لانه من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر- او استيناف كانّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا انّا معكم ان صح ذلك فما لكم تدعون الايمان فاجابوا- والاستهزاء السخرية والاستخفاف- هزأت واستهزأت كاجبت واستجبت بمعنى وأصله الخفة ناقة تهزئ اى تسرع قرا ابو جعفر مستهزون- ويستهزون- واستهزوا- وليطفوا ليواطوا- ويستنبؤنك وخطون- وخاطين- ومتّكون- ومتّكين- فمالون- والمنشون- بترك الهمزة فيهن. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ اى يجازيهم على استهزائهم سمى الجزاء به للمقابلة قال البغوي قال ابن عباس- هو ان يفتح لهم باب من الجنة فاذا انتهوا اليه سد عنهم وردوا الى النار- وقيل هو ان يجعل للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فاذا وصل المنافقون اليه حيل بينهم وبين المؤمنين قال الله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الاية- قال الحسن- معناه ان الله يظهر على المؤمنين نفاقهم انتهى- واخرج ابن ابى الدنيا في كتاب الصمت عن الحسن- ان المستهزءين بالناس يفتح لاحدهم باب الى الجنة فيقال هلم هلم فيجىء فاذا أتاه غلق دونه فما يزال كذلك الحديث- وهذا مرسل جيد وانّما استونف ولم يعطف ليدل على ان الله تعالى كاف في مجازاتهم لا حاجة للمومنين ان يعارضوهم ولم يقل الله مستهزئ بهم لتجدد الاستهزاء بهم حينا بعد حين- أَوَلا يَرَوْنَ «1» أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ- وَيَمُدُّهُمْ يتركهم ويمهلهم- من مدّ الجيش إذا زاده وقوّاه أصله الزيادة- والمد والامداد واحد غير ان المد كثير امّا يستعمل في الشر والامداد في الخير كما في أمددناكم باموال وبنين- فِي طُغْيانِهِمْ- اى تجاوز الحد في العصيان والكفر- أماله الكسائي حيث وقع- يَعْمَهُونَ (15) يترددون- العمه في البصيرة كالعمى في البصر. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا الضَّلالَةَ- الكفر- بِالْهُدى بالايمان- فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ

_ (1) فى القرآن أفلا ترون المؤلف عفا الله عنه.

[سورة البقرة (2) : آية 17]

التجارة طلب الربح اى الفضل على رأس المال بالبيع والشراء- وأسند الربح إليها مجازا لتلبسها بالفاعل او لانها سبب الريح كالفاعل وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) بالتجارة إذ المقصود من التجارة حصول الربح مع سلامة رأس المال- وهم ضيعوا رأس المال وهى الفطرة وما حصلوا الفضل بإدراك الحق ونيل الكمال-. مَثَلُهُمْ- المثل- والمثل- والمثيل- بمعنى النظير- ثم قيل للقول السائر الممثل مضربة بمورده ولا يضرب الا ما فيه غرابة ثم استعير لكل حال غريب اى حالهم الغريب كَمَثَلِ الَّذِي اى الذين كما في قوله وخضتم كالّذى خاضوا وانما جاز ذلك دون القائم مقام القائمين لانه غير مقصود بالوصف بل الجملة التي هى صلة- ولانه ليس باسم تام بل كالجزء منه وحقه ان لا يجمع وليس الذين جمعه بل ذو زيادة تدلّ على زيادة المعنى ولذا جاء بالياء ابدا- اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ النار- ما حَوْلَهُ اى المستوقد- ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ جواب لمّا ولم يقل بنارهم لان النور هو المقصود- واسناد الفعل الى الله لان الكل بفعله- او لان الإطفاء حصل بسبب خفى- او سماوى- او للمبالغة- او الجواب محذوف للايجاز وعدم الالتباس كما في قوله تعالى- فَلَمَّا «1» ذَهَبُوا بِهِ- والجملة استيناف جواب سائل يقول ما بالهم شبّههم «2» - بحال من استوقد فانطفت ناره- او بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان والضمير على هذين الوجهين للمنافقين- وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) ذكر الظلمة وجمعها ونكرها ووصفها بانه لا يتراى فيها شىء للمبالغة في بيان شدته كانها ظلمات متراكمة- ولما تضمن ترك معنى صير جرى مجرى افعال القلوب- وترك مفعول لا يبصرون- كانّ الفعل غير متعد بمعنى لا يقع منهم الابصار- والاية مثل ضربه الله لمن أتاه ضربا من الهدى فاضاعه ولم يتوصل به الى نعيم الابد فبقى متحيرا متحسرا تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الاية الاولى- فانهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر- او مثل لايمانهم من حيث انه يعود عليهم بحقن الدماء والأموال ومشاركة المسلمين في المغانم- والاحكام بالنار ولذهاب اثره باهلاكهم في الاخرة او افشاء حالهم في الدنيا بإطفاء الله إياه. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ اى هم صم بكم عمى- يعنى الّذى استوقد نارا- لما ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات

_ (1) فى الأصل ولمّا 12 (2) فى الأصل شبّهتهم 12

[سورة البقرة (2) : آية 19]

ادهشتهم واختلت حواسهم فالكلام على الحقيقة- وان كان ضمير بنورهم راجعا الى المنافقين فالمعنى انهم لما لم يصيخوا الى الحق وأبوان ينطقوا به وان يتبصّروا الآيات ويتفكّروا فيه صاروا كانهم انتفت مشاعرهم وقواهم- وإطلاقها عليهم من قبيل التمثيل دون الاستعارة- لان المستعار له يعنى كلمة هم وان كان محذوفا لفظا لكنه منطوق حكما ففات شرط الاستعارة- والاية نتيجة التمثيل. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) اى هم متحيرون فلا يدرون كيف يرجعون الى حيث ابتدءوا منه- او انهم لا يعودون عن الضلالة الى الهدى الذي ضيعوه. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ- اى كاصحاب صيب وهو فيعل من الصوب بمعنى النزول يقال للمطر لنزوله وفيه مبالغة- فان الصوب فرط الانسكاب والصيغة للمبالغة والتنكير للتفخيم- وكلمة او للتساوى في الشك ثم اتسع فيها فاطلق للتساوى من غير شك يعنى التشبيه بالقصتين سواء- فانت مخير في التشبيه بايتهما شئت- كما قيل أنت مخير في خصال الكفارة- وتعريف السماء للدلالة على ان الغمام مطبق بافاق السماء كلها فان كل أفق منها يسمى سماء وقيل معناه السحاب فان ما علاك سماء- واللام لتعريف الجنس لكن الظواهر دالة على ان المطر من السماء قال الله تعالى- وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً- وقال- مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ- واخرج ابن حبان عن الحسن- انه سئل عن المطر من السماء أم من السحاب قال من السماء انما السحاب علم- واخرج ابن ابى حاتم وابو الشيخ عن خالد بن معدان قال- المطر يخرج من تحت العرش فينزل من سماء الى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا- فيجتمع في موضع يقال له الأثرم فيجىء السحاب السود فيدخله فيشربه فيسوقه الله حيث شاء- واخرجا عن عكرمة قال ينزل المطر من السماء السابعة- فِيهِ اى الصيب او السماء- والسماء يذكر ويؤنث قال الله تعالى- السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ- وانْفَطَرَتْ- ظُلُماتٍ ظلمة تتابع القطر والسحاب والليل- وَرَعْدٌ وهو الصوت الذي يسمع منه- وَبَرْقٌ وهو النار التي تخرج منه وهما مصدران ولذلك لم يجمعا- قال على- وابن عباس واكثر المفسرين الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نار يزجر به الملك السحاب- وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك- قال مجاهد الرعد اسم الملك ويقال لصوته- وجعل المطر مكانا للرعد والبرق لانهما في منحدره- وارتفاعهما بالظرف- يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ الضمير راجع الى اصحاب صيب فانه

[سورة البقرة (2) : آية 20]

منوى معنى- امال الكسائي آذانهم- وآذاننا- وطغيانهم حيث وقع- واطلق الأصابع موضع الأنامل مبالغة والجملة استيناف كانه قيل كيف حالهم مع ذلك الشدة مِنَ أجل الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون- والصعق شدة الصوت بحيث يموت من يسمعها او يغشى عليه- ويطلق على الموت والغشي الحاصل بها- قال الله تعالى- فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ- والصواعق جمع صاعقة والتاء للمبالغة- او مصدرية- ويقال لكل عذاب مهلك صاعقة- والمراد به هاهنا قصفة رعد هائل مع نار لا تمر بشىء الا أهلكته- او المراد به الرعد حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له ليجعلون- وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به- ولا يخلصون من عذابه بالخداع- يميل ابو عمرو والكسائي في رواية الدوري فتحة الكاف من الكفرين إذا كان بعد الراء ياء حيث وقع وقرا ورش ذلك بين بين. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استيناف كانه قيل ما حالهم مع تلك الصواعق- وكاد لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد لفقد شرط او مانع فهى خبر محض بخلاف عسى فانه رجاء وإنشاء- والخطف الاستلاب بسرعة كُلَّما تدل على التكرار أَضاءَ لَهُمْ لازم بمعنى لمع- او المفعول محذوف اى نور لهم ممشى مَشَوْا فِيهِ لحرصهم على المشي دون الوقوف ولذلك ذكر كلما مع الاضاءة دون الاظلام- وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وقفوا- واظلم ايضا جاء لازما ومتعديا- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق- حذف لدلالة الجواب لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فان الرعد والبرق وان كانا في الظاهر سببين لذهاب السمع والبصر لكن تأثير الأسباب كلها في الحقيقة بمشية الله تعالى- فالسبب الحقيقي هو المشية والجواهر والاعراض وافعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى- مرتبطة بمشيته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) تصريح وتقرير لما سبق والشيء مصدر شاء يطلق بمعنى الفاعل اى الشاءى- ... فيتناول الباري تعالى قال الله تعالى- قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ- وبمعنى المفعول اى الشيء وجوده وهو الممكن ومنه قوله تعالى- خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ- فهو على عمومه- وحمزه يسكت على الياء من شىء وشيئا في الوصل خاصة- والقدرة التمكن من إيجاد الشيء- والقادر هو الذي ان شاء فعل وان شاء لم يفعل «1» وفي القدير مبالغة- قلما يوصف به غير الباري تعالى-

_ (1) الاول وان لم يشأ لم يفعل لان عدم الفعل ليس لاجل المشية بل عدم المشية كاف فيه- منه رحمه الله

تمثيل لحال المنافقين من الحيرة والشدة بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق- او يقال شبّه المنافقين باصحاب الصيب- والدين القويم والقران بالصيب- وقال- فيه ظلمت- يعنى مانعة من السير عليه وهى المحن والمكاره من العبادات والجهاد وترك الشهوات روى مسلم واحمد والترمذي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات- وروى الترمذي وابو داود- والنسائي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال- لما خلق الله الجنة قال لجبرئيل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها والى ما أعد الله تعالى لاهلها فيها ثم جاء فقال اى رب وعزتك لا يسمع بها أحد الا دخلها- ثم حفها بالمكاره ثم قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال اى رب وعزتك لقد خشيت ان لا يدخلها أحد- قال فلما خلق الله النار قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها قال فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال اى رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها- فحفها بالشهوات ثم قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها- فذهب فنظر إليها فقال اى رب وعزتك لقد خشيت ان لا يبقى أحد الا دخلها- وقال الله تعالى- إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وفيه رعد يعنى آيات مخوفة من عذاب الله وبرق يعنى فتوح ومغانم كثيرة يأخذونها فيسهل به السير على الطريق ويدفع ظلمة المكاره او الحجج الواضحة الداعية الى السلوك على الطريق المستقيم والمسهلة للمكاره- يجعلون اى المنافقون أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ من أجل الرعد والصّواعق قائلين- لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ- حذر الموت بالمحن والمشقات ان أمنوا- وبالقتال ان جاهدوا كما قال في حالهم- فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ- او لانهم يزعمون ان سدهم آذانهم عن سماع آيات العذاب ينجيهم من عذاب الله كما ان الأحمق إذا هوله الرعد ويخاف صواعقه يسد آذانه مع انه لا خلاص له منها بسد الاذان وكما ان الإرنب إذا راى صائدا مقبلا ولا يرى منه مفرا يغمض عينيه زعما منه ان عدم رؤيته ينجيه من قتله- وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ لا يفوتهم ما كتب عليهم من المحن والعذاب في الدنيا بالفضيحة وغيرها وفي الاخرة بالعذاب السرمدي- اولا يفيدهم ولا ينجيهم سد الاذان من الآيات المخوفة عن وقوع العذاب كما لا ينجى الأرنب تغميض العين من الصائد بل يعينه عليه- يكاد البرق- اى الفتوح والمغانم وشوكة الإسلام لاجل حرصهم على الدنيا

يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ او الحجج الواضحة يخطف أبصارهم المؤفة وآرائهم الزائغة التي بها يبصرون الباطل حقا والحق باطلا- على ما زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ- فحينئذ يرون الحق حقا والباطل باطلا فيؤمنوا كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ البرق وظهر الفتح والدولة للمسلمين وراوا حجة الإسلام واضحة مشوا فيه واتبعوا سبيل المؤمنين- وإذا اظلم البرق اى لم يظهر الفتح وأدركوا المحنة نسوا الحجة الواضحة وقاموا ووقفوا عن سلوك والطريق- نظيره قوله تعالى- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ المؤفة بقصيف الرعد وأعطاهم السمع والابصار الصحيحة- نظيره قوله تعالى- وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ- اخرج ابن جرير من طريق السّدى الكبير عن ابى مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود- وناس من الصحابة- قال كان رجلان من المنافقين من اهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المشركين فاصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق ان ندخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما- وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه- وإذا لم يلمع لم يبصرا- فاتيا مكانهما يمشيان فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا فتأتى محمدا صلى الله عليه وسلم فنضع أيدينا في يده فاتياه فاسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما- فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة- وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ان ينزل فيهم او يذكروا بشىء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان «1» الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما- وإذا أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة او فتحا مشوا فيه وقالوا ان دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم وارتدوا كفارا- كما قام ذانك المنافقان حين اظلم عليهما البرق- انتهى رواية ابن جرير- قلت ويحتمل ان يكون الظلمات عبارة عن المتشابهات التي لا سبيل للاراء الى دركها- والبرق عن المحكمات التي تساعده الآراء- فالمؤمنون من اهل السنة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا- والَّذِينَ

_ (1) فى الأصل ذانك المنافقين الخارجين يجعلان 12

فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ سدوا آذانهم عن وعيد حرمة ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ حذر الموت- وهو القول بما لا يساعده آراؤهم ولا يوافق مذهبهم حيث يزعمونه موتا وجعلوا القران تابعا لارائهم الكاسدة- فكلّما أضاء لهم وأدرك عقولهم مشوا فيه وأمنوا به وإذا اظلم عليهم ولم تساعده عقولهم قاموا عن الايمان به ووقفوا لديه وابتغوا تأويله على حسب آرائهم الكاسدة- فمنهم من لم يدرك عقله موجودا لا يكون جسما ولا يكون كمثله شىء أنكر التنزيه وصار مجسما- ومنهم من أنكر الروية- ومنهم من أنكر عذاب القبر ووزن الأعمال والصراط ونحو ذلك- ومنهم من أنكر كون القران كلام الله غير مخلوق فصاروا اثنتين وسبعين فرقة- روافض- وخوارج- واهل الاعتزال والمجسمة ونحو ذلك قائلين نومن ببعض الكتاب ونكفر ببعض- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ حيث جعلوا كتاب الله تعالى تابعا لارائهم وعلى هذا التقدير قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ شامل لاثنين و «1» سبعين فرقة من اهل الأهواء الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يدّعون الايمان ويقولون آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وانزل الله تعالى فى كتابه وتواتر به الاخبار- يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا- بتأويلاتهم النصوص- وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ بل يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ- فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وزيغ- فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وزيغا حيث القى الشيطان في قلوبهم التأويلات الفاسدة- وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ على الله ويكذّبون ظاهر النصوص- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتحريف الكلم عن مواضعه وتعويج الدين القويم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعنى اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم واهل بيته وجمهور الناس وهم اهل السنة والجماعة فانهم اكثر الناس وللاكثر حكم الكل ويد الله على الجماعة رواه الترمذي عن ابن عباس

_ (1) مجرد هذا القول وان كان شاملا لكن بعض المعطوفات عليه مثل قوله وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الاية مختص بمن يجوز التقية في مذهبه من اهل الأهواء دون من يجاهر بها- فلا يصح الشمول لجميع الفرق- قلت عدم شمول بعض المعطوفات لجميع الفرق لا ينافى نزول الآيات في جميع اهل الأهواء كما ان قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ شامل للرجعيات والبائنات وقوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ مختص بالرجعيات- وايضا المختص ببعض الفرق انما هو وجوب التقية واما جواز التقية عند استيلاء المخالفين وخوف القتل فغير مختص حتى انه جاز عند اهل السنة ايضا التقية عند استيلاء الكفار وخوف القتل حيث قال الله تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وقال الله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- ولا شك ان الله سبحانه لكن اهل الحق اهل السنة والجماعة في البلاد وجعل اهل الأهواء مغلوبين مقهورين غالبا خائفين على أنفسهم وأموالهم فكلهم يقولون بحضور اهل السنة خوفا منهم على حسب عقائدهم- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 21]

مرفوعا- قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ فانه لا يساعد عقائدهم الآراء قالوا ذلك في شأن الصحابة صريحا كالروافض والخوارج ينسبون اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واهل بيته الى السفه والكفر او قالوا ذلك دلالة حيث خالفوهم وزعموا ان تلك العقائد غير معقولة- وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الاية بيان لما في تلك المذاهب من التقية خوفا من الذين استخلفهم الله تعالى في الأرض غالبا- ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم على حسب وعده- وقوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً يحتمل ان يكون مثلا للفريقين من المنافقين واهل الأهواء وايمان اهل الأهواء ولمعان نوره مقتصر على ما حول المستوقد وقربه يعنى فى الدنيا حيث يلتبس الحق بالباطل فاذا ماتوا ذهب الله بنورهم- ويحتمل ان يكون مثلا للمنافقين خاصة واصحاب الصيب مثل اهل الأهواء وكلمة او للتوزيع كما في قوله تعالى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ- والله تعالى اعلم فان قيل كيف يتصور حمل هذا المثل على اهل الأهواء ولم يكونوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم- قلت خطابات القران عامة للموجودين ومن سيوجد اجماعا- أليس قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ في حق اهل الأهواء- فان قيل نزول هذه الآيات كان في حق المنافقين كما تدل عليه الأحاديث وتفاسير السلف- قلت نعم لكن خصوص المورد لا يقتضى تخصيص عموم اللفظ- فالايات وان كانت نازلة في حق المنافقين لكنها بعموم ألفاظها شاملة لاهل الأهواء والله تعالى اعلم-. يا أَيُّهَا النَّاسُ- خطاب لجميع الناس من اهل الخطاب عموما الموجودين ومن سيوجد تنزيلا لهم منزلة الموجودين لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم ان مقتضى أحكامه وخطابه شامل للقبيلتين تابت الى يوم القيمة وكذا كل جمع او اسم جمع محلى باللام ويدل عليه استدلال الصحابة بعمومها شائعا قال ابن عباس- يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب اهل مكة ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب اهل المدينة فان اهل مكة لمّا كان أكثرهم كفارا والمؤمنون كانوا هناك قليلا خاطب بما يعم القبيلتين- واهل المدينة لما كان أكثرهم مؤمنون خاطبهم بعنوان الايمان إظهارا لشرفهم اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فان التربية باعثة للعبادة وشكر المنعم وان كان الله تعالى في نفسه مستحقا لها- والخطاب بوجوب العبادة شامل للمؤمنين والكفار- فالكفار مأمورون بها بعد إتيان شرطه من الايمان- وقال ابن عباس- ما ورد في القران من العبادة فمعناه التوحيد فالكفار مأمورون بإتيانها والمؤمنون

[سورة البقرة (2) : آية 22]

بالثبات عليها- الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة جرت للتعظيم والتعليل- والخلق إيجاد الشيء على غير مثال سبق- وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يتناول كل ما تقدم الإنسان- والجملة خرجت مخرج المقرر عندهم لاعترافهم به قال الله تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ- او لتمكنهم من العلم بأدنى تأمل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) حال من فاعل اعبدوا اى راجين الوقاية من عذاب الله- وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء فان الايمان يقتضى الخوف والرجاء او راجين ان تدخلوا في زمرة المتقين على ان التقوى هو التنزه عن المحرمات المستلزم لاتيان الواجبات بل التبرؤ عن كل شىء سوى الله تعالى- او من مفعول خلقكم يعنى مرجوا منكم التقوى اى في سورة من يرجى منه نظرا الى كثرة الدواعي اليه- وقيل تعليل اى لكى تتقوا- قال البيضاوي وهو ضعيف لم يثبت في اللغة- قال سيبويه- لعلّ وعسى حرفا ترج- وهى من الله تعالى واجب- قلت ان كان كذلك لزم وجود التقوى من الناس «1» كلهم وليس كذلك اللهم الا ان يقال المراد خلقكم واجبا صدور التقوى منكم ولو من بعضكم- وتعليل العبادة بالنعم السابقة تدل على ان الثواب فضل من الله تعالى غير مستحق بالعبادة فانه كالاجير استوفى اجره قبل عمله وعلى ان الطريق الى معرفته تعالى النظر فى صنعه يعنى الى معرفة صفاته- واما معرفة ذاته فامر وهبى-. الَّذِي جَعَلَ اى صيّر لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً اى بساطا ذلولا يمكن عليها القرار صفة ثانية او مدح منصوب او مرفوع او مبتدأ خبره فلا تجعلوا- وَالسَّماءَ اسم جنس يقع على الواحد والكثير- بِناءً مصدر سمى به المبنى يعنى قبّة مضروبة عليكم- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فان المطر ينزل من السماء الى السحاب ومنه الى الأرض عطف على جعل- فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ خروج الثمار بقدرة الله تعالى لكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ظاهرا عادة- ومن للتبعيض او التبيين- ورزقا مفعول بمعنى المرزوق ولكم صفة له- او رزقا مصدر للتعليل ولكم مفعوله اى رزقا إياكم- فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً اى أمثالا تعبدونهم كعبادة الله- او أضدادا والله برىء من المثل والضد- والجملة متعلق باعبدوا- نهى معطوف عليه او نفى منصوب بإضمار أن جواب له- او منصوب بلعل كما في قوله تعالى-

_ (1) لا يخفى ان مدلول لعل على تقدير كونه للوجوب لزوم وجود التقوى من كلهم فلا محذور فيه لامران فليفهم قلت العبادة عبارة عن إتيان امور تدل على الخضوع من الواجبات والمندوبات والتقوى عبارة عن الاجتناب عما نهى الله وكلا الامرين متفاوتان كما يدل عليه ترتيب التقوى على العبادة ولا لزوم بينهما فان من الناس من يأتى بالعبادات ويفرط فيها حتى يبلغ الزهد ولا ينتهى انتهاء كليا عما نهى عنه قال الله تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها- فلزوم وجود التقوى من العابدين كلهم ايضا ممنوع الا ترى الى بعض الزهاد من الجهال يعملون الرياضات الشاقة والعبادات ويتركون الجمع والجماعات- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 23]

لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ- والمعنى ان تتقوا ان لا تجعلوا لله أندادا- او متعلق بالذي جعل ان كان استينافا على انه نهى وقع خبرا على تأويل مقول فيه لا تجعلوا والفاء للسببية ادخلت لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى من جعلكم بهذه النعم ينبغى ان لا يشرك- وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) حال من ضمير تجعلوا- ومفعول تعلمون مطرح- اى حالكم انكم من اهل العلم والرأى لو تأملتم ادنى تأمل ما أشركتم- والمقصود منه التوبيخ دون التقييد او المفعول محذوف اى وأنتم تعلمون اى ان خالق هذه الأشياء واحد حيث تعترفون قال الله تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ- ثم لما بين الله سبحانه طريق معرفته التوحيد وهو النظر في صنعه- بين طريق معرفة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيّة القران المشتمل على جميع الايمائيات فقال. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك مِمَّا نَزَّلْنا يعنى نجما نجما بحسب الوقائع- وهذا موجب لريبهم قياسا على كلام الشعراء وقولهم لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً- فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه- ازاحة للشبهة وإلزاما للحجة عَلى عَبْدِنا- محمد صلى الله عليه وسلم أضاف الى نفسه تنويها لذكره- وتنبيها على انقياده لحكمه- فَأْتُوا امر تعجيز بِسُورَةٍ وهى قطعة من القران معلومة الاول والاخر منقولة من سور المدنية لانها محيطة بطائفة من القران- او من السورة بمعنى الرتبة فانه يحصل بها للقارى رتبة وشرف- والمراد بقدر سورة وهى ثلث آيات قصار- مِنْ مِثْلِهِ صفة سورة اى كائنة من مثله- والضمير لما نزل ومن للتبعيض او للتبيين او زائدة- اى مثله في البلاغة وحسن النظم- او لعبدنا ومن للابتداء اى كائنة من مثل هذا الرجل الأمي- أو صلة فاتوا والاول اولى كيلا يوهم إمكان صدوره من غير الأمي والقران معجز في نفسه- لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً- وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها وتزعمون انها تشهد لكم يوم القيامة او ادعوا ناسا يحضرونكم- مِنْ دُونِ اللَّهِ اى دون أوليائه يعنى فصحاء العرب ليشهدوا لكم ما أتيتم به مثله فان العاقل لا يرضى لنفسه ان يشهد بصحة ما اتضح فساده- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) انه من كلام البشر والجواب محذوف دل عليه ما قبله. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فيما مضى وَلَنْ تَفْعَلُوا معترضة بين الشرط والجزاء- وفيه اخبار بالغيب اعجاز اخر فَاتَّقُوا اى لما ظهر انه معجز فامنوا به واتقوا بالايمان النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا اى ما يوقد

[سورة البقرة (2) : آية 25]

به النار النَّاسُ وَالْحِجارَةُ او المضاف محذوف اى وقودها احتراق الناس والحجارة اخرج عبد الرزاق- وسعيد بن منصور- وابن جرير- وابن المنذر- والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود وابن جرير عن ابن عباس واخرج مثله ابن ابى حاتم عن مجاهد وابى جعفر ولم يحك خلافا في الصدر الاول- انها حجارة الكبريت الأسود- وقيل جميع الحجارة لتدل على عظم تلك النار- وقيل أراد به الأصنام- وذكر الله تعالى ان وهى للشك مكان إذا- فانه تعالى لم يكن شاكا تهكما بهم او خطابا معهم على حسب ظنهم فان العجز قبل التأمل لم يكن متحققا عندهم أُعِدَّتْ اى هيئت لِلْكافِرِينَ (24) استيناف او حال بإضمار قد من النار لا من ضمير وقودها للفصل بالخبر- عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- ناركم جزء من سبعين جزء من نار جهنم- متفق عليه وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أهون اهل النار عذابا من له نعلان وشرا كان من نار يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل ما يرى ان أحدا أشد منه عذابا وانه لاهونهم عذابا- متفق عليه- وعن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أوقد على النار الف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها الف سنة حعى ابيضت- ثم أوقد عليها الف سنة حتى اسودت فهى سوداء مظلمة- رواه الترمذي- وعن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- أنذرتكم النار أنذرتكم النار- فما زال بقولها حتى لو كان في مقامى هذا سمعه اهل السوق وحتى سقطت خميصة كانت عليه عند رجليه- رواه للدارمى وفي الاية والأحاديث دليل على ان النار موجودة الان-. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على الجملة السابقة على ما جرت به العادة الالهية من تشفيع الترهيب بالترغيب وبالعكس لا عطف الفعل نفسه حتى يطلب المشاكلة او على فاتّقوا يعنى فامنوا فاتقوا النار واستبشروا بالجنة ولم يخاطبهم بالبشارة صريحا تفخيما لشأنهم بعد الايمان والتقوى وإيذانا بانهم احقّاء ان يبشروا ويهنئوا- والبشارة الخير السّارّ- واما قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فعلى التهكم وقيل يستعمل في الخير والشر لكن في الخير اغلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وهى من الصفات الغالبة الجارية مجرى الأسماء والأعمال الصالحة ما حسّنه الشرع- وتأنيث الصالحات على تأويل الخصلة- قال البغوي قال معاذ رض- العمل الصالح الذي فيه اربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص- وقال عثمان بن عفان وعملوا الصّلحت اى أخلصوا الأعمال عن الرياء- وفيه دليل على ان الأعمال خارج عن الإيمان- واشعار

بان السبب التام في استحقاق البشارة الجمع بين الوصفين أَنَّ لَهُمْ منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل اليه او مجرور بإضماره جَنَّاتٍ جمع جنة بمعنى البستان سميت لاجتنانها بالأشجار- تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اى تحت أشجارها ومساكنها الْأَنْهارُ اى ماؤها على الإضمار- او المجاز او أسند الجري إليها مجازا- وفي الحديث انهار الجنة تجرى من غير أخدود- أخرجه ابن المبارك- وابن جرير والبيهقي- واللام للجنس كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا صفة ثانية لجنات او خبر مبتدأ محذوف اى فهم قالوا او جملة مستانفة تزيح حال أثمارها- وكلّما منصوب على انه ظرف لقالوا ورزقا مفعول به- ومن الاولى والثانية للابتداء او الثانية للبيان وقعتا موقع الحال اى كل حين رزقوا اى أطعموا مرزوقا مبتدأ من الجنة مبتدأ من ثمرة او ذلك المرزوق ثمرة فصاحب الحال الاولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال- وهذا اشارة الى نوع ما رزقوا المستمر بتعاقب افراده- او كان المضاف في الخبر محذوفا اى هذا مثل الذي رزقنا فحذف المثل اشعارا على استحكام الشبه كانه هو بعينه مِنْ قَبْلُ اى من قبل هذا يعنى في الدنيا جعلت متشابهة بثمار الدنيا كيلا يتنفر الطباع عن غير المألوف- ويظهر المزية- وقيل الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم والداعي لهم على تكرار هذا القول كلما رزقوا فرط تبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة- وَأُتُوا بِهِ بالرزق مُتَشابِهاً وعلى الاول الضمير راجع الى ما رزقوا في الدارين- والجملة اعتراض يقرر ما سبق- قال ابن عباس ومجاهد متشابها في الألوان مختلفا في الطعوم- وقال الحسن وقتادة متشابها يشبه بعضها بعضا في الجودة يعنى ثمار الجنة كلها خيار لا رذالة فيها- روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- اهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون ولا يبزقون يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء ورشحهم المسك- رواه مسلم- وللاية محمل اخر ان يكون المعنى هذا ثواب الذي رزقنا من قبل في الدنيا من المعارف والأعمال نظيرة في الوعيد ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- روى الترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها هذه يعنى التسبيح والتحميد والتكبير- قوله تعالى وأتوا به بالرزق متشابها اى مماثلا لمعارفهم وطاعاتهم في الشرف

والمزية متفاوتا على حسب تفاوت أعمالهم- روى الترمذي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام- وعن عبادة بن الصامت نحوه وفيه ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض- ذكره صاحب المصابيح في الصحاح ورواه الترمذي وَلَهُمْ فِيها اى في الجنان أَزْواجٌ نساء من حور العين وقال الحسن- هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا- مُطَهَّرَةٌ من الغائط والبول والحيض والبصاق والمخاط والمنى وكل قذر ومن مساوى الأخلاق فان التطهير يستعمل في الأجسام والافعال والأخلاق- والمطهرة ابلغ من طاهرة ومتطهرة للاشعار بان الله طهرهن- والزوج يقال للذكر والأنثى وفي الأصل يقال لماله قرين من جنسه كزوج الخف- وَهُمْ فِيها فى الجنان خالِدُونَ (25) دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها- لما ذكر الله سبحانه نعماء الجنة أزال عنهم خوف الزوال فانه منغض للنعمة روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ان أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درّى في السماء اضاءة لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتفلون ... ولا يمتخطون امشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الالوة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء- متفق عليه وعن ابى سعيد رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمرة تدخل الجنة يوم القيمة صورة وجوهم صورة القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على لون احسن الكواكب فى السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة ... يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللها- رواه الترمذي وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ان امرأة من نساء اهل الجنة اطلعت على الأرض لاضاءت ما بينهما- ولملئت ما بينهما ريحا- ولنصيفها على راسها خير من الدنيا وما فيها- رواه البخاري- وعن اسامة بن زيد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- الأهل من مشمر للجنة وان الجنة لا خطر لها هى ورب الكعبة نور يتلالا وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد.. وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام ابد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وصبرة ونعمة في محلة عالية بهيئة- قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها قال قولوا ان شاء الله رواه البغوي- وروى عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل الجنة جرد- مرد كحلى

[سورة البقرة (2) : آية 26]

لا يفنى شبابهم ولا يبلى ثيابهم- وروى مسلم نحوه- وعن على رضى الله عنه قال ان في الجنة لسوقا ليس فيها بيع ولا شرى الا الصور من الرجال والنساء وإذا اشتهى الرجل صورة دخلها وان فيها لمجتمع حور العين ينادين بصوت لم يسمع الخلائق بمثلها نحن الخالدات فلا نبيد ابدا- ونحن الناعمات فلا نبوس ابدا ونحن الراضيات فلا نسخط فطوبى لمن كان لنا وكناله او نحن له- رواه البغوي- وروى الترمذي نحوه عنه مرفوعا وروى احمد بن منيع عن ابى معاوية نحوه مرفوعا- وروى مسلم عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون الى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فنقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا- قلت ولما كان مطمح نظر اهل الدنيا في النعماء منحصرا على المساكن والمطاعم والمناكح اقتصر الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم غالبا في الذكر عليها وفي الحقيقة نعماء اهل الجنة أجل وأعلى- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- واقرؤا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ- متفق عليه وعنه مرفوعا- موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها- متفق عليه وعن ابى سعيد مرفوعا- يقول الله أحل عليكم رضوانى فلا أسخط بعده ابدا- متفق عليه- وروى مسلم في حديث طويل عن جابر بن عبد الله مرفوعا فيرفع الحجاب فينظرون الى وجه الله فما اعطو شيئا أحب إليهم من النظر الى ربهم ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ- وعن ابن عمر- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادنى اهل الجنة منزلة لمن ينظر الى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة الف سنة وأكرمهم على الله من ينظر الى وجهه غدوة وعشية ثم قرا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- رواه احمد والترمذي- اخرج ابن جرير عن السدى الكبير بأسانيده انه لما ضرب الله تعالى هذين المثلين للمنافقين قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ- قال المنافقون الله أعلى وأجل من ان ان يضرب هذه الأمثال فانزل الله سبحانه. إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً وقيل ان الله تعالى ذكر الهة المشركين فقال وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً وذكر كيدهم فجعله كبيت

العنكبوت فقالوا ارايت الله ذكر الذباب والعنكبوت أخرجه الواحدي من طريق عبد الغنى عن ابن عباس وعبد الغنى واه جدّا- والاية مدنية ومعارضة المشركين كانت بمكة- فالاول أصح اسنادا ومعنى- والحياء انقباض النفس من القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة وهو الجراة وعدم المبالاة بالقبائح والخجل وهو انحصار النفس عن الفعل مطلقا- وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث- ان الله يستحيى من ذى الشيبة المسلم ان يعذبه- أخرجه البيهقي في الزهد عن انس- وابن ابى الدنيا عن سلمان- وحديث ان الله حيى كريم إذا رفع اليه العبد يديه ان يردهما صفرا- رواه ابو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن سلمان فالمراد به الترك اللازم للانقباض- وإيراد لفظ الحياء هاهنا مع انه ترك مخصوص بالقبيح- وضرب المثل ليس بقبيح مبنى على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة واستقر في أذهانهم نحو جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها- وضرب المثل احتمال وأصله وقع شىء على اخر- وان بصلتها مجرور عند الخليل بإضمار من- ومنصوب عند سيبويه بافضاء الفعل اليه بعد حذفها- وما ابهامية يزيد للنكرة إبهاما ويسد عنها طريق التقييد- او مزيدة وضعت لان يذكر مع غيرها فتزيد له قوة- والبعوض فعول من البعض بمعنى القطع غلب على صغار البق كانها بعض البق والتاء للوحدة- وهو عطف بيان لمثلا- او مفعول ليضرب- ومثلا حال او هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل- فَما فَوْقَها عطف على بعوضة- ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت يعنى لا يستحيى عن ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو اكبر منه- او ما فوقها في الحقارة يعنى ما دونها في الجثة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اى المثل او ان يضرب هو الْحَقُّ الثابت على ما ينبغى الذي لا يجوز إنكاره يقال ثوب محقق اى محكم نسجه فان الشيء الحقير لا بد ان يمثل بالحقير- كالعظيم بالعظيم وان كان الممثل أعظم من كل عظيم كائنا مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فلا يعلمون ذلك لكمال جهلهم فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ما استفهامية مبتدأ وذا بمعنى الذي مع صلته خبره- او المجموع اسم واحد بمعنى اى شىء منصوب المحل على المفعولية- والارادة صفة ترجح أحد المقدورين على الاخر وفي هذا استحقار ومثلا منصوب على التميز او الحال يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جواب ماذا اى إضلال كثير وإهداء كثير- وكثرة كل فريق بالنظر الى أنفسهم ووضع الفعل موضع المصدر للاشعار بالحدوث والتجدد يعنى

[سورة البقرة (2) : آية 27]

كلما نزلت اية فامنت به قوم فاهتدوا وكفرت به قوم فضلوا- وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الخارجين عن حد الايمان وعن امر الله تعالى يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها والفسق في اصطلاح الشرع ارتكاب الكبيرة وله درجات ثلث أعلاها الكفر بما يجب الايمان به فان الكفر أعظم الكبائر وهو المراد بالفسق في القران غالبا- ثانيها انهماك الكبائر- ثالثها ارتكاب الكبيرة او الإصرار على الصغيرة مستقبحا إياها. الَّذِينَ صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق- او للتقييد ان كان المراد بالفاسقين أعم من الكفار والعصاة يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الذي عهد إليهم في التورية ان يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته ولا يكتمونه او الذي عهد إليهم بقوله- أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى - والنقض في الأصل فسخ تركيب الحبل يستعمل في ابطال العهد لان العهد يستعار له الحبل لما فيه ارتباط المتعاهدين- مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ- اى العهد- والميثاق مصدر بمعنى الوثوق- او اسم لما وثق به العهد من الآيات والكتب ومن للابتداء فان ابتداء النقض بعد الميثاق وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ- ان يوصل بدل من الضمير المجرور اى امر الله بان يوصل الايمان بالأنبياء كلهم ويقال لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ- وهم يقطعونه ويقولون نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض- او يقطعون كل ما امر الله به ان يوصل كالارحام وغيرها وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي والكفر بالقران وبمحمد صلى الله عليه وسلم ويهلكون الحرث والنسل أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) المغبونون حيث اشتروا الفساد بالصلاح- ولما ذكر أوصاف الكفار ومقالاتهم الخبيثة خاطبهم على سبيل الالتفات باستفهام إنكاري عن الحالة التي يقع عليها الكفر لان كل حالة معتورة عليهم من الأحوال الموت والحيوة بعدها- والموت بعدها- والحيوة بعدها والرجوع الى الله تعالى وغيرها من الأحوال حادثة صادرة من الواجب الوجود مقتضية للايمان به تعالى نعمة من الله مقتضية لشكره دون كفرانه ففيه انكار وتوبيخ على كفرهم بأبلغ الوجوه فقال. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ مع فيام الدلائل على وجوده وَكُنْتُمْ أَمْواتاً- عناصر واغذية واخلاطا ونطفا وعلقات ومضغات وأجساد «1» ابلا روح- وفيه دليل على ان الإنسان وان كان مركبا من الاجزاء العشرة- خمسة منها من عالم الخلق- العناصر الاربعة والنفس الحيواني

_ (1) فى الأصل أجساد

المنبعثة عنها وخمسة من عالم الأمر- القلب والروح والسر والخفي والأخفى كما يظهر بالفراسة «1» الصحيحة الاسلامية لكن العمدة فيها العناصر الاربعة لا سيما عنصر التراب ولذا قال الله تعالى- خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ- ويقول الكافر اى الشيطان الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً - ولذا اختص الإنسان بروية الله سبحانه دون غيره- ويزعمون المشاهدة القلبية كالمطروح في الطريق- فَأَحْياكُمْ بتأليف الأرواح الخمسة وتوديعها فيكم وعطف بالفاء لعدم التراخي بين الاحياء والموت اللازم للعناصر- ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد انقضاء اجالكم- وعد الاماتة الاولى من النعم لان الوجود بعد العدم خير محض فلمناسبة بالموجود الحقيقي- والاماتة الثانية لكونها وصلة الى الحيوة الابدية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم ينفخ في الصور واما في القبر فليس بحياة فان الحيوة عبارة عن تأليف الاجزاء العشرة وليست في القبور- وانتفاؤها لا ينافى الثواب والعذاب في القبر فانهما على بسائط الاجزاء ولا سبيل الى إنكاره لمن يؤمن بقوله تعالى- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ- وقوله تعالى- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ- وقوله صلى الله عليه وسلم- ان الجبل ينادى الجبل باسمه اى فلانا هل مربك أحد ذكر الله فاذا قال نعم استبشر الحديث- رواه الطبراني عن ابن مسعود- وقوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها- وليس المراد التسبيح والسجود بدلالة الحال لان قوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ- و

_ (1) الفراسة الصحيحة الاسلامية انما يدل على ان هنالك شيئا غير الجسد يسمى بالقلب تارة وبالروح اخرى وبالسر مرة وبالخفي اخرى فهى جهات واعتبارات للنفس لا انها حقائق- مجازة بجبالها واجزاء اولية من الإنسان بل الآيات والأحاديث والآثار كلها ناطقة بانحصار الإنسان في جزئين جسم وروح وان تركب الجسم من اجزاء اخر ثانوية والروح اعتبر باعتبارات فافهم- لا يخفى ان الثواب والعقاب في القبر انما هو للمكلف المطيع او العاصي وبسائط الاجزاء ليست بمكلفات ولو جاز الجزاء للاجزاء المكلف من دون التأليف لجاز يوم القيامة ايضا فلا يحتاج الى الحشر وغاية ما يثبت من الآيات والأحاديث ان لبسائط الاجزاء شعورا او حياة بمعنى الإدراك لا ان لها تكليفا وجزاء وثوابا وعقابا بل يستفاد منها انها غير مكلفة ولا ينال منها العصيان فلابد من تتميم مد الكلام ليصح- قلت دلالة الآيات والأحاديث على انحصار الإنسان في الجزئين ممنوع بل قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تدل على ان الروح امر مجرد ليس من قبيل الأجسام ولا يحيط به علم العوام وحديث براء بن عازب وابى هريرة وغيرهما مرفوعا إذا حضر المؤمن أنت ملائكة الرحمة بحرير بيضاء وأكفان الجنة فيقولون أيتها النفس الطيبة اخرجى الى مغفرة الله ورضوانه فتخرج تسيل كما تسيل الماء من السقاء فيجعلونها في ذلك الكفن- وإذا حضر الكافر يقول أيتها النفس الخبيثة اخرجى الى منحط الله وغضبه فيجعلونها في المسوح يدل على ان النفس امر جسمانى حتى يجعل في الحرير او المسوح ومن هذا قال المحققون ان النفس جسم لطيف منبعث من العناصر الاربعة سار في سائر البدن فالروح يتعلق ويمتلى في النفس كما تمتلى الشمس في المراءة ويتصرف في البدن بتوسط النفس لاجل سريانها فيه وعند الموت ينزع النفس من البدن فحينئذ ينقطع تعلق الروح بالبدن ولا يزال تعلق الروح بالنفس ابدا وهى اى النفس تعذب في القبر ويتالم به الروح وهى المشار اليه بانا وهى المكلف بالتكليفات الشرعية لكن يشترط سريانها في البدن هذا واما تعدد لطائف عالم الأمر فالشرع عنه ساكت ويثبت ذلك بكشف الأولياء وكلامهم فيه مختلف منهم من لم بظهر عليه منها الا واحد فزعم انه شىء واحد يسمى تارة بالقلب وتارة بالروح ونحو ذلك كما قال المعترض ومنهم من ظهر عليه منها اثنان او ثلثة او اربعة وظهر على المجدد رض خمسة لكل منها كالات على حدة فمن شاء زيادة الوقوف فليطالع كلام المجدد رض والمعتبر انما هو شهادة الإثبات والاختلاف مبنى على حدة البصيرة ورفعة الدرجة وفوق كل ذى علم عليم- منه نور الله مرقده-

[سورة البقرة (2) : آية 29]

قوله تعالى وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ- يأبى عنه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) بعد الحشر فيجزيكم بأعمالكم- قرا يعقوب ترجعون في كل القران بفتح التاء والياء على صيغة المبنى للفاعل- والاية مدنية خطاب بالكفار والمنافقين من اليهود العالمين بالبعث والنشور- وان كان خطابا لمنكرى البعث فذلك لتمكنهم من العلم بالبعث بعد نصب الدلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وللتنبيه على ان من أحياهم اولا قادر على ان يحييهم ثانيا. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ اى لانتفاعكم في الدنيا في مصالحكم بوسط او بغير وسط وفي دينكم بالاستدلال والاعتبار ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بيان للنعمة الاخرى مرتبة على الاولى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قال ابن عباس واكثر المفسرين من السلف اى ارتفع الى السماء- فهو من المتشابهات نحو الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وقال ابن كيسان والفراء وجماعة النحويين اى اقبل على خلق السماء وقصد من قولهم استوى اليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير ان يلوى على شىء- قال البيضاوي كلمة ثم لعله لتفاوت ما بين الخلقتين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا- لا للتراخى في الوقت فانه يخالف ظاهر قوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها- فانه تدل على تأخر دحوى الأرض المتقدم على خلق ما فيها من خلق السماء وتسويتها وذكر البغوي في تفسير قوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها- انه قال ابن عباس خلق الله الأرض بأقواتها من غير ان يدحوها قبل السماء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ثم دحى الأرض بعد ذلك- وقيل معناه والأرض مع ذلك دحيها كقوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ اى مع ذلك- وذكر البغوي في حم السجدة- خلق الأرض في يومين يوم الأحد والاثنين وقدر فيها أقواتها في يومين يوم الثلثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين اربعة ايام فقال وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ يوم الخميس والجمعة- وهذا هو المستفاد من اقوال السلف والله تعالى اعلم- فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ اى خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع- وهن ضمير السماء ان فسرت بالاجرام لانه جمع او في معنى الجمع وسبع سموت بدل منه- والا فمبهم تفسيره ما بعده كقولهم ربّه رجلا- فان قيل أليس اصحاب الارصاد اثبتوا تسعة أفلاك كلية منها الفلك الا طلس فلك الافلاك وفلك الثوابت الفلك التاسع «1» لا جزء لهما- واثبتوا للافلاك السبعة اجزاء منها ما هو مركب من ثلثة أفلاك خارج المركز وفيه الكوكب ومثمما حاويا ومتمما محويا ومنها ما هو مركب من خمسة خارج المركز ومتممين حاويين وكذا محويين وأفلاك اخر

_ (1) الصحيح الثامن لعله تحريف من الناسخ 12 [.....]

غير مجوفة ارتكزت فيها الكواكب المتحيرة يسمونها- فلك التدوير- قلت انما اثبتوا عدد الافلاك بعدد حركات الكواكب- فانهم لما راوا جميع الكواكب والشمس دائرة في يوم وليلة اثبتوا فلك الافلاك حاوية على جميع الافلاك محركة لكلها بالقسر من المشرق الى المغرب- ولما راوا حركة جميع الكواكب سوى السبعة على نسق واحد وحركات السبعة على أنحاء مختلفة في السرعة والبطء وفي العرض من البروج الشمالية الى الجنوبية وبالعكس اثبتوا على حسب حركاتها اعداد الافلاك- ولما راوا حركة السيارات غير الشمس تارة سريعة وتارة بطية وتارة الى المشرق وتارة الى المغرب وتارة متوقفة «1» ولذا يسمونها متحيرة أثبتوا التدويرات- فارتقى عدد الافلاك الى قريب من ثلثين- من أراد الاطلاع عليه فليرجع الى علم الهيئة- وهذا اعنى اثبات الافلاك على حسب حركات الكواكب باطل مبنى على امور باطلة- منها ادعاؤهم بامتناع الخرق والالتيام على الاجرام الفلكية- ومنها ان الافلاك كلها متلاصقة بعضها ببعض كتلاصق قشور البصل بعضها على بعض- وذلك يستلزم تحرك الافلاك جميعها بحركة فلك الافلاك قسرا وغير ذلك- وكل ذلك باطل فان انشقاق السماء جائز عقلا واجب سمعا- قال الله تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- ونحو ذلك وكذا عدم تلاصق السموات وبعد ما بين كل سمائين ثابت شرعا عن ابى هريرة قال بينما نبى الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذا اتى عليهم سحاب فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله اعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله الى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه- ثم قال هل تدرون ما فوقكم قالوا الله ورسوله اعلم قال فانها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ثم قال هل تدرون ما بينكم وبينها قالوا الله ورسوله اعلم قال بينكم وبينها خمسمائة عام ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله اعلم قال سما ان بعد ما بينهما خمس مائة سنة ثم قال كذلك حتى عدّ سبع سموات ما بين كل سمائين ما بين السماء والأرض- ثم قال هل تدرون

_ (1) لا يظهر جهة التوقف على هذه المقدمة فانه لو فرض الانفصال فيما بين سطوحها لا وجبت الحركات أفلاكا متفاصلة بعددها نعم لزوم تحرك المحوى من تحرك الحاوي انما يتم على التلاصق دون التفاصل وهو امر اخر وراء تعدد الافلاك- قلت وجه التوقف على كون الافلاك متلاصقة انهم زعموا ان لكل كوكب وكذا للشمس والقمر حركتان حركة قسرية تابعة لحركة الفلك التاسع بها يتم دورانها في يوم وليلة وعليها ابتناء الليل والنهار- وحركة طبعية الى المشرق بها يظهر اختلاف حركاتها وعليها ابتناء اختلاف الفصول واختلاف الشهور وغير ذلك بل لكل كوكب بالقسر حركات شتى أحدها ما ذكر بقسر فلك الافلاك ثانيها بعدد المتممات الحاوية والمحوية وحركة الطبعي للمتحيرات انما هى حركة تدويراتها وما ليس له تدوير فالحركة الطبعي حركة فلكها الذي ذلك الكوكب مرتكز فيه والحركة القسرية لا يتصور بدون التلاصق وعندى في تحقيق هذا المقام مقال لا يسعه المقام وحاصله ان الكواكب والشمس والقمر كلها في السماء الدنيا ولكل منها حركة على حدة مختلفة كل في فلك يسبحون سباحة السمك في الماء ليس شىء منها بقسر فلك اخر- ويرتبط باختلاف حركات الكواكب اختلاف الليل والنهار والفصول وغير ذلك ولهذا الكلام طول لا يسعه المقام- منه رحمه الله

ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله اعلم قال ان فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السمائين- ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا الله ورسوله اعلم قال انها الأرض- ثم قال هل تدرون ما تحت ذلك قالوا الله ورسوله اعلم قال ان تحتها ارض اخرى ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع ارضين بين كل ارضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو انكم دليتم بحبل الى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرا هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- رواه احمد والترمذي وقال الترمذي- قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاية تدل على انه أراد لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه- وعلم الله في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه- قلت قوله «1» صلى الله عليه وسلم لهبط على الله من المتشابهات كما انه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى من المتشابهات ولعل مراده صلى الله عليه وسلم لهبط على عرش الله بحذف المضاف وهذا يدل على كون العرش وكذا ما فيه من السموات السبع كرويا حاويا لجميع جهات الأرض حتى انكم لو دليتم بحبل الى الأرض السفلى لهبط على السموات السبع وعلى عرش الله- والصوفية العلية كما اثبتوا معيّة لا كيف لها وتجليات «2» خاصا لله سبحانه على قلب المؤمن وهو عرش الله سبحانه فى العالم الصغير- واثبتوا تجليا مخصوصا بالكعبة الحسناء بيت الله واختصاصا برب هذا البيت كذلك اثبتوا تجليا خاصا رحمانيا على العرش وهو قلب للعالم الكبير وذلك التجلي هو المومى اليه بقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ومن ثم قيل تجوزا لهبط على الله- كما قال الله تعالى- يسعنى قلب عبدى المؤمن- وروى الترمذي وابو داود من حديث العباس وفيه- ان بعد ما بينهما يعنى السماء والأرض اما واحدة واما اثنان او ثلث وسبعون سنة والسماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء الى سماء ثم فوق ذلك ثمانية او عال بين أظلافهن ودركهن مثل

_ (1) غرض الترمذي ايضا انه من المتشابهات وانه ماول لكنه ذكر تأويلا لا يتوقف على كروية الافلاك والعرش وايضا تأويله مطرد في جميع ما ورد من أمثاله في الأحاديث والآثار فالفضل المتقدم- وقراءة الاية تدل على ان المراد ما ذكره الترمذي فليفهم قلت نعم غرض الترمذي ايضا انه من المتشابهات وانه ماول وما ذكر الترمذي من التأويل لا يتوقف على كروية الافلاك وايضا تأويله مطّرد- لكن غرض المصنف ان كروية الافلاك المشهود عليها ببداهة الحسن ودوران الشمس والقمر لا ينافى هذا الحديث بل هذا التأويل الذي ذكرت يصاعده- فالتأويل الذي به يطابق النقل الحس والعقل اولى وليس فيه رد القول الترمذي وليس بيان احتمال آخر كما تدل عليه كلمة لعل- ولم يقل بل الصواب ونحو ذلك حتى يظهر منه رد قول الترمذي والله اعلم- منه رحمه الله (2) أقول لا معنى للتجلى عند التحقيق الا ظهور الصفات من العلم والقدرة وغيرها على وجه يكون مكشافا وعنوانا للذات فلا نزاع فيما بين الصوفية وغيرهم الا في اللفظ- قلت حمل كلام العقلاء على النزاع اللفظي بعيد من العقلاء- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 30]

ما بين سماء الى سماء ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء الى سماء ثم الله فوق ذلك- قلت هذا الاختلاف الوارد في الأحاديث في مسافة البعد اما باختلاف اعتبار السائرين- او المراد كثرة البعد لا تعيين المسافة- وقوله اما واحدة واما اثنان او ثلث شك الراوي- والله اعلم طال الكلام وحاصل المرام ان علم الهيئة باطل أساسا وبناء- والجائز عقلا والثابت شرعا ان الكواكب كلها مرتكزة في السماء الدنيا- قال الله تعالى وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ- كُلٌّ فِي فَلَكٍ اى فلك واحد يسبحون- حسب ارادة الله تعالى فى السرعة والبطوء والجهة كما يسبح السمك في الماء فحينئذ لا حركة للسموات والله اعلم- قال الله تعالى وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) فيه تعليل كانه قال لكونه عالما بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على النمط الأتم الأكمل الانفع- قرا ابو جعفر وابو عمرو والكسائي وقالون وهو وهى بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو كما هاهنا ونحو وهى تجرى بهم- أو قاء او لام نحو فهو وليّهم- انّ الله لهو الولىّ- فهى كالحجارة- لهى الحيوان- زاد الكسائي وقالون كلمة ثم نحو ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ- وقال البغوي ان في ان يملّ هو ايضا اسكن الكسائي وقالون لكن المشهور عند القراء عدم الإسكان هناك بالإجماع كذا قال الشاطبي-. وَاذكر إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ- تعداد لنعمة ثالثة- فان خلق آدم وتفضيله على الملائكة نعمة تعم ذريته وفيه حث على الإتيان باوامره تعالى- والانتهاء عن مناهيه قال البغوي خلق الله السماء والأرض والملائكة والجن واسكن الملائكة السماء- والجن الأرض- فمكثوا زمانا طويلا في الأرض- ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فافسدوا واقتتلوا- فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقالهم الجن وهم خزان الجنان اشتق لهم اسما من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما- فهبطوا الى الأرض وطردوا الجن الى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة- واعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنة فكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك الا لانى أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- ومما ذكر البغوي يظهران إبليس كان من الملائكة كما يدل عليه ظاهر الاستثناء- فان قيل روى مسلم عن ابى هريرة قال- أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد

وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس- وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في اخر الخلق واخر ساعة من النهار فيما بين العصر الى الليل- وهذا الحديث يدل على ان خلق آدم بعد خلق الأرض يوم سابعة فكيف يتصور مكث الجن زمانا طويلا في الأرض ثم طردهم الى شعوب الجبال وسكونة إبليس وجنوده من الملائكة زمانا طويلا- ثم قوله تعالى لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً- قلت لا دليل في الحديث على ان المراد بالجمعة التي خلق فيها آدم أول جمعة بعد خلق الأرض لعل ذلك الجمعة بعد مضى الدهور- ولولا هذا التأويل لزم خلق السموات والأرض في سبعة ايام والثابت بالقران خلق السموات والأرض في ستة ايام والله اعلم- والمراد بالخليفة آدم عليه السلام فانه خليفة الله في ارضه لاقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه وهداية عباده وجذبهم الى الله واعطائهم مراتب قربه تعالى وذلك لا لاحتياج من الله تعالى الى الخليفة بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه وتلقى امره بغير وسط- وكذلك كل نبى بعده خليفة الله قالُوا تعجبا واستخبارا عن مراشد أمرهم لا اعتراضا وحسدا فانهم عباد مكرمون أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ- وهم ذرية آدم- وانما عرفوا ذلك بأخبار من الله تعالى وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ حال مقررة لجهة الاشكال والمعنى أتستخلف العصاة ونحن معصومون احقّاء بالخلافة- والتسبيح تبعيد الله عن السوء من سبح في الأرض والماء اى بعد- وبحمدك في موضع الحال اى متلبسين «1» بحمدك على ما وفقتنا لتسبيحك وَنُقَدِّسُ لَكَ- والتقديس ايضا بمعنى التسبيح ويقال قدس إذا طهر اى بعد عن الاقذار- واللام زائدة اى نقدسك- او المعنى نقدس اى نطهر أنفسنا عن الذنوب لاجلك- كانهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك بالتسبيح وسفك الدماء بالتقديس- سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم اى الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده- رواه مسلم في صحيحه من حديث ابى ذر- وهو صلوة الخلق وعليها يرزقون رواه ابن ابى شيبة عن جابر والبغوي عن الحسن قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) قرا نافع وابن كثير وابو عمر وانّى بفتح الياء والباقون بالسكون- ان الملائكة كانوا يعلمون بأخبار من الله تعالى ان من البشر صالحين وعصاة وكفارا فلا جرم زعموا ان الملائكة أفضل منهم لكونهم كلهم معصومين لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فاستخلافهم اولى واستخلاف البشر موجب للفساد كما وقع من شرارهم- ولم يعلموا ان الله تعالى يستودع في قلوب بعضهم- محبة ذاتية

_ (1) فى الأصل ملتبسون-

[سورة البقرة (2) : آية 31]

منه تعالى موجبة للمعية الذاتية والمحبوبية الصرفة كما نطق به رأس المحبوبين- المرء مع من أحب- رواه الشيخان من حديث ابن مسعود وانس وابن حبان عن انس وفي الحديث القدسي- لا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحببته فاذا أجبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث- ويكون لهم قرب ومنزلة من الله تعالى لا يتصور لغيرهم- بحيث يكون التقرب الى عباد الله الصالحين موجبا للتقرب اليه تعالى روى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ان الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدته لوجدتنى عنده- يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث- اعلم انه قد تقرر عند الأكابر من الصوفية ان ضوء الشمس كما يتحملها الأرض لكثافتها دون غيرها من عناصر الخلق كذلك التجلي الذاتي لا يتحملها الا عنصر التراب واما غيرها من العناصر فلنوع من الكثافة التي فيها يتحمل التجليات الصفاتية دون الذاتية واما لطائف عالم الأمر فلا نصيب لها الا من التجليات الظلية- والإنسان لما كان مركبا من اللطائف العشرة التي هى اجزاء العالم الكبير ولم يجتمع في شىء من افرادها الا بعضها كان هو أهلا للخلافة وحاملا للامانة التي عرضها الله تعالى عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً على نفسه بتحمل ما لم يتحمله غيره جهولا لعظمة المحمول ومسمى بالعالم الصغير صورة واكبر من الكبير معنى- حيث قال الله تعالى لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن- فخلق الله تعالى آدم من أديم الأرض اى وجهها بان قبض من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسواه ونفخ فيه الروح اخرج احمد وابو داود والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم منهم الأحمر والأبيض وبين ذلك- والسهل والحزن- والخبيث والطيب- قلت والحكمة فيه استجماع استعداده- قال البغوي- لمّا قال الله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالت الملائكة- ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا أكرم منا عليه- وان كان فنحن اعلم منه لانا خلقنا قبله وراينا ما لم يره- فاظهر الله تعالى فضله عليهم. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها قال اهل التفسير المراد اسماء الخلائق- قال البغوي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة علمه اسم كل شىء حتى القصعة والقصيعة- وقيل اسم ما كان ويكون

الى يوم القيمة- وقال الربيع بن انس اسماء الملائكة- وقيل اسماء ذريته- وقيل صفة كل شىء قال اهل التأويل علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة- قلت وهذه الأقوال ليست بمرضية عندى فان مدار الفضل على كثرة الثواب ومراتب القرب من الله تعالى دون هذه الأمور- ولو كان هذه الأمور مدارا لفضله لزم فضله على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فانه قال أنتم اعلم بامور دنياكم- ولم يكن عليه السلام عالما بجميع اللغات- وعندى ان الله تعالى علم آدم الأسماء الالهية كلها- فان قيل الأسماء الالهية غير متناهية قال الله تعالى لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي- وقال سبحانه وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ- فكيف يحيط به علم البشر الممكن المتناهي- وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم- أسئلك بكلّ اسم سميت به نفسك او أنزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به في علم الغيب عندك- رواه ابن حبان- والحاكم- وابن ابى شيبة والطبراني- واحمد في حديث ابن مسعود وابى موسى الأشعري يدل على ان الله تعالى استأثر عنده ببعض الأسماء لم يعلّمها أحدا- قلت المراد «1» ان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها علما اجماليا فانه لما حصل له معية بالذات تعالت وتقدست حصل له بكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته مناسبة تامة ومعية بحيث انه كلما توجه الى اسم من أسمائه وصفة من صفاته يتجلى له ذلك الاسم والصفة كما انه إذا حصل لرجل ملكة في علم من العلوم كان بحيث كلما يتوجه الى مسئلة من مسائله يحضر تلك المسألة- وليس المراد العلم التفصيلي حتى يلزم المحذور- فان قيل لم يقل بما قلت أحد من المفسرين- فهو قول في القران بالرأى وذلك غير جائز- روى البغوي بطرق عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في القران برأيه- وفي رواية من قال في القران بغير علم فليتبوأ مقعده من النار- قلت قال البغوي قال شيخنا الامام قد جاء الوعيد فى حق من قال في القران برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم يعنى التفسير وهو

_ (1) على هذا لا يظهر فضيلة آدم عليه السلام بالنسبة الى الملا الا على والكروبيين فان ولاية الملا الا على ومن في طبقتهم ارفع بكثير على اكثر الولايات البشرية لا سيما الولاية الاسرائيلية فانها شقيقة الولاية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية- وكل ذلك مصرح به في مكتوبات الشيخ الاجل الرباني مجدد الالف الثاني قدس الله روحه- قلت الظاهر من كلام المجدد رضى الله عنه ان ولاية الملائكة ارفع درجة من ولاية الأنبياء وليس افضلية الأنبياء على الملائكة الا بالنبوة فان الولايات كلها راجعة الى تجليات الصفات- والتجليات الذاتية مختصة بالنبوة ومهبط التجلي الذاتي عنصر الطين ولخلو الملائكة من عنصر الطين اختص النبوة بالبشر وبالنبوة تفضلت الأنبياء على الملائكة وبها لبس خلعة الخلافة وبها وبالقرب الذاتي علم آدم الأسماء كلها علما اجماليا والله اعلم- منه رحمه الله

الكلام في اسباب نزول الاية وشأنها- وقصتها وذلك لا يجوز الا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل- واصل التفسير من التفسرة وهى الدليل من الماء الذي ينظر فيها الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الاية وقصتها- فاما التأويل وهو صرف الاية الى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لاهل العلم- واشتقاق التأويل من الاول وهو الرجوع يقال أولته فال اى صرفته فانصرف- روى البغوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال انزل القران على سبعة أحرف لكل اية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع- وروى الطبراني عنه بلفظ- انزل القران على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع- قال البغوي- قوله لكل حد مطلع- اى مصعد يصعد اليه من معرفة علمه- يقال المطلع الفهم- وقد يفتح الله على المتدبر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتح على غيره وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ انتهى حاصل كلامه «1» - قلت وما مر من اقوال المفسرين ليس شيئا منها مرفوعا- ولا مما لا يدرك بالرأى حتى يكون في معنى المرفوع بل تأويلات لمعنى الأسماء على حسب آرائهم ومن ثم ترى الاختلاف وما ذكرت لك كذلك- وايضا قول ابن عباس علّمه اسم كل شىء حتى القصعة والقصيعة- وما قيل علّمه اسماء ما كان وما يكون واسماء ذريته وصفة كل شىء لا ينافى تعليمه الأسماء الالهية وهى أفضل مما كان ويكون هو الاول ما كان شىء قبله والاخر لا يكون فيء بعده والظاهر لا شىء فوقه والباطن لا شىء دونه- وانما اقتصر ابن عباس على ذكر اسماء الممكنات خطابا لافهام العوام وكذلك شأن الأكابر يتكلمون الناس على قدر عقولهم والله اعلم ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ قال المفسرون الضمير راجع الى المسميات المذلول عليها ضمنا إذ التقدير اسماء المسميات فحذف المضاف اليه وعوض عنه اللام كما في قوله تعالى اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وتذكير الضمير لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء- وإذا قلت المراد بالأسماء الأسماء الالهية فالضمير راجع الى آدم وجمع الضمير

_ (1) قال الشيخ شهاب الدين السهروردي رضى الله عنه في العوارف- يخالج اسرى ان يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى- وغامض السر في الاية لكن المطلع ان يطلع عند كل اية على شهود المتكلم بها لانها مستودع وصف من أوصافه ونعت من نعوته فيتجدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها- وقال المجدد رضى الله عنه في مكتوبه المائة والعشرين من المجلد الثالث- انه يخطر ببالي ان الظهر نظم القران البالغ الى حد الاعجاز والبطن تفسيره وتأويله على اختلاف صفاء الفهم على دقيق المعاني وغامض السر والحد نهاية مراتب الكلام وهو شهود المتكلم بها وهو التجلي النعتى المنبئ عن عظيم الجلال والمطلع ما فوق ذلك التجلي النعتى وهو التجلي الذاتي المعرى عن النسبة والاعتبارات فلابد من الخطوتين خطوة من النظم الدال الى المدلول الذي هو الصفة والخطوة الثانية من الصفة الى الموصوف- وما ذكر الشيخ السهروردي قدس سره الا الخطوة الاولى وأتم بها هذا السير وقال الشيخ في العوارف- نقل عن جعفر الصادق رضى الله عنه انه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال ما زلت اردد الاية حتى سمعتها من المتكلم بها- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 32]

للتعظيم- او المراد بآدم هو والله كما يقال ربيعة ومضر- كذا قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ فى سورة يونس- ولعل الله سبحانه عرض عليهم آدم ونسمات الأنبياء من ذريته حين أخرجهم من ظهره وأخذ منهم الميثاق واشهدهم على أنفسهم وأخذ من النبيين من محمد صلى الله عليه وسلم ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام أخذ منهم ميثاقا غليظا وهذا انسب من إرجاع الضمير الى المسميات- لان المسميات غير مذكورة فيما قبل- والضمير للمذكرين العقلاء فلابد فيه من تكلفات- وقرا ابى بن كعب عرضها- وقرا ابن مسعود عرضهنّ- وعلى تينك القراءتين الضمير راجع الى الأسماء- فَقالَ تبكيتا لهم وتنبيها على عدم صلاحيتهم للخلافة أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المشار اليه هى المسميات على تقرير المفسرين وعلى ما قلت المشار اليه آدم والله والاضافة لادنى ملابسة اى الأسماء التي علمت هؤلاء- حديث كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد- رواه الطبراني عن ابن عباس وابو نعيم في الحلية وابن سعد عن ابى الجدعاء يدل على ان الله سبحانه علمه ما علمه واصطفاه نبيّا بالتجليات الذاتية المختصة بالأنبياء أصالة حين كان آدم بين الروح والجسد يعنى حين تركب روح آدم بجسده فان التجليات الذاتية البحتية كانت مشروطة بالجسد الترابي فاذا صار لادم جسد واستقر نسمات ذريته في ظهره صاروا أهلا لها- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) انى لا اخلق خلقا الا وكنتم أكرم علىّ منه وأفضل واعلم- قرا قنبل وورش بجعل الهمزة الثانية من هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ياء ساكنة- وقالون والبزي يجعلان الاولى ياء مكسورة وابو عمرو يسقطها والباقون «1» يحققون الهمزتين وكذا في كل همزتين مكسورتين اجتمعتا من كلمتين- وفي رواية عن ورش انه يجعل الثانية ياء مكسورة هاهنا وفي النور عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً واما في غيرهما فكقنبل- واما إذا اجتمعتا مفتوحتين من كلمتين نحو جاءَ أَجَلُهُمْ فورش وقنبل يجعلان الثانية مدة كما في المكسورة- وقالون والبزي وابو عمرو يسقطون الاولى والباقون يحققون الهمزتين واما إذا اجتمعتا مضمومتين من كلمتين وذلك في موضع واحد في الأحقاف أَوْلِياءُ أُولئِكَ فحكمه حكم المكسورة ورش وقنبل يجعلان الثانية واوا ساكنة وقالون والبزي يجعلان الاولى واوا مضمومة وابو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما. قالُوا إقرارا بالعجز واعترافا لفضل البشر واستحقاقهم الخلافة واظهار الشكر نعمة ما كشف لهم الحكمة في خلقه سُبْحانَكَ اى نسبحك سبحانا عن خلو افعالك عن الحكم والمصالح لا عِلْمَ لَنا

_ (1) وقرأ ابو جعفر ورويس بتحقيق الاولى وتسهيل الثانية- ابو محمد

[سورة البقرة (2) : آية 33]

لا نحيط بشىء من علمك إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بخلقك الْحَكِيمُ (32) فى أمرك وله معنيان وهو القاضي العدل والمحكم للامر لا يتطرق اليه الفساد فلما اعترفوا بعجزهم أنعم الله عليهم و. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ الضمير في بأسمائهم على قول المفسرين راجع الى المسميات- واما على ما قلت فراجع الى الملائكة اى انبئهم بالأسماء التي في وسعهم تعلمها- او التي قدرنا لهم تعلمها- ولم يقل باسمائكم لان تعلم الأسماء كلها لا يمكن الا اجمالا بالوصول الى حضرت الذات وذلك مختص بالبشر دون الملائكة فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه استذكار لقوله- أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قرأ الحر ميان وابو عمرو انّى بفتح الياء وكذلك يفتحون كل ياء إضافته بعدها الف قطع مفتوحة الا أحرفا معدودة تذكر في مواضعها ان شاء الله تعالى- ويفتح نافع وابو عمرو عند الالف المكسورة ايضا الا أحرفا معدودة تذكر ان شاء الله تعالى والباقون لا يفتحون الا أحرفا معدودة تذكر ان شاء الله تعالى وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ قال الحسن وقتادة يعنى قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها- وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) قالا قولهم لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا- قال البغوي قال ابن عباس- هو ان إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه فقال لامر ما خلق هذا ثم دخل في فيه وخرج من دبره وقال انه خلق لا يتماسك لانه أجوف ثم قال للملائكة الذين معه ان فضل عليكم وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون قالوا نطيع امر ربنا- فقال إبليس في نفسه والله لئن سلطت عليه لاهلكنه ولئن سلط علىّ لا عصينه فقال الله تعالى وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعنى ما تبديه الملائكة من الطاعة وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعنى ما كتم إبليس من المعصية وفي الاية دليل على ان خواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم كما ذهب اهل السنة والجماعة اليه- واما ما قالوا ان عوام البشر اعنى الأولياء منهم الصالحون المتقون أفضل من عوام الملائكة فثابت بالسنة- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته- رواه ابن ماجة- وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الاخرة قال الله تعالى لا اجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحى كمن قلت له كن فكان- رواه البيهقي في شعب الايمان- ويدل على أفضليتهم اختصاصهم برؤية الله سبحانه في الجنة دون الملائكة- فان قيل روية الله سبحانه في الجنة غير مختص بالأولياء بل يكون لجميع المؤمنين وان كانت على قدر تفاوت درجاتهم فمنهم من يراه غدوة وعشية ومنهم من يراه كل جمعة او بعد سنة او نحو ذلك

[سورة البقرة (2) : آية 34]

فيلزم من ذلك افضلية جميع المؤمنين وان كانوا فساقا على عوام الملائكة فان المؤمنين كلهم يدخلون الجنة ولو بعد العذاب قال الله تعالى- فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ- وقال عليه الصلاة والسلام يخرج من النار من قال لا الله الا الله وفي قلبه وزن برة من خير او من ايمان ويخرج من النار من قالها وفي قلبه وزن ذرة من خير او من ايمان- متفق عليه من حديث انس- وقال ما من عبد قالها ثم مات على ذلك الا دخل الجنة وان زنى وان سرق- وان زنى وان سرق- وان زنى وان سرق- على رغم انف ابى ذر- رواه مسلم من حديث ابى ذر- والقول بافضلية الفساق على المعصومين لا يجوز عقلا ولا شرعا قال الله تعالى- أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ- قلت دخول الجنة للفساق لا يتصور الا بعد المغفرة سواء كانت المغفرة بعد العقاب بمصائب الدنيا او بعذاب في القبر او بعذاب فى النار او بغير شىء من ذلك بالتوبة او بغير التوبة فضلا من الله تعالى وبعد المغفرة لم يبق فسق ولا معصية بل التحقوا بالأولياء المتقين الصلحاء وان كانت مراتب الأولياء أعلى وأجل فحينئذ لا محذور في أفضليتهم على الملائكة والله اعلم- وايضا في الاية دليل على ان علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وانهم يستفيدون من البشر- واما قوله تعالى- وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ- فمقتضاه عدم الترقي من مقام الى مقام- يعنى من مقام الأسماء والصفات الى مقام الذات فانه لا يجوز وصولهم الى مقام الذات بخلاف البشر فان له ترقيات من مقام الحجب والحرمان الى مقام الظلال ومنها الى مقام الصفات والأسماء والشئونات ومنها الى مقام الوصول الى الذات وفي ذلك الوصول درجات واعتبارات لا يسعه المقال والمقام-. وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ- قرا ابو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء بإعطاء حركت همزة الوصل وكذلك قل ربّ احكم بضم الباء والباقون بالكسر- والسجود في الأصل التذلل وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة- والمأمور به اما المعنى الشرعي فالمسجود له يكون بالحقيقة هو الله تعالى- وجعل آدم قبلة تفخيما لشأنه واعترافا لما أنكروا اولا من فضله- ويدل على ارادة هذا المعنى الشرعي ما رواه احمد ومسلم من حديث ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قرا ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى ويقول يا ويله امر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار- واللام في لادم حينئذ بمعنى الى كما في قول حسان في مدح الصديق (شعر) أليس أول من صلى لقبلتكم واعرف الناس بالقران والسنن او جعل آدم سببا

[سورة البقرة (2) : آية 35]

لوجوب السجود توبة لما صدر عنهم صورة الاعتراض- واللام حينئذ للسببية نحو صل لدلوك الشمس واما المعنى اللغوي وهو التواضع والتذلل لادم تحية وتعظيما كسجود اخوة يوسف قال البغوي- هذا القول أصح قال ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض انما كان انحناء فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام- قلت لعلهم انما أمروا بتعظيم آدم شكرا له وأداء لحقه في التعليم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- من لم يشكر الناس لم يشكر الله- رواه احمد والترمذي وصححه من حديث ابى سعيد- فَسَجَدُوا يعنى الملائكة كلهم أجمعين إِلَّا إِبْلِيسَ هذا يدل على ان إبليس كان من الملائكة لصحة الاستثناء كما مر عن ابن عباس فعلى هذا لا يكون الملائكة كلهم معصومين بل الغالب منهم العصمة كما ان بعضا من الانس معصومون والغالب منهم عدم العصمة- وقيل كان جنيا نشأ بين الملائكة ومكث فيهم ألوف سنين فغلبوا عليه ويحتمل كون الجن ايضا مامورين بالسجود مع الملائكة لكنه استغنى عن ذكرهم بذكر الملائكة لان الأكابر لما أمروا بالسجود فالاصاغر اولى- ولعل ضربا من الملائكة كانوا متحدى الحنس بالشياطين مختلفين بالعوارض وما روى مسلم عن عائشة خلقت الملائكة من نور وخلقت الجن من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم- يحمل على اختلاف حقيقة بعض الملائكة من حقيقة الجن دون بعضهم وهم الذين لا يوصفون بالذكورة والأنوثة ولا يتوالدون- او يقال النّار والنور حقيقة واحدة والامتياز بينهما بالتهذيب والصفاء وبدونه- وقوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً- وهو قولهم الملائكة بنات الله دليل على اتحاد حقيقتهما والله اعلم بحقيقة الحال- أَبى امتنع من السجود وَاسْتَكْبَرَ من ان يعظّم آدم- او يتخذه وصلة في عبادة ربه- وَكانَ فى علم الله او صار مِنَ الْكافِرِينَ (34) باستقباحه امر الله تعالى إياه بالسجود لادم اعتقادا منه انه أفضل من آدم حيث قال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لا بترك الواجب وحده-. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ- قال البغوي ان آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق الله زوجته حواء من قصيرى شقه الأيسر فلما هب من نومه راها جالسة عند رأسه كاحسن ما خلق الله فقال لها من أنت قالت زوجتك خلقنى الله لك تسكن الىّ واسكن إليك- وانما لم يخاطبهما اولا تنبيها على انه هو المقصود بالحكم وَكُلا مِنْها رَغَداً واسعا كثيرا حَيْثُ شِئْتُما اين شئتما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) منع عن قرب الشجرة مبالغة في النهى عن أكله لان قرب الشيء يورث داعية وميلانا الى ذلك الشيء فيلهيه

[سورة البقرة (2) : آية 36]

عما هو مقتضى العقل والشرع- فالاقتراف بما هو يقرب الى المعصية مكروه والشجرة هى السنبلة على قول ابن عباس ومحمد بن كعب- والعنب على قول ابن مسعود والتين على قول ابن جريح والكافور على قول علىّ وقال قتادة شجرة العلم وفيها من كل شىء- فقيل وقع النهى على جنس من الشجرة- وقيل على شجرة مخصوصة- والظَّالِمِينَ اى الضّارّين أنفسكما بالمعصية واصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها اى اصدر زلتهما عن الشجرة اى بسبب الشجرة ومن أجل أكلها- او ازلّهما اى اذهبهما اى أبعدهما عن الجنة ويعضده قراءة حمزة فازالهما اى نحاهما- والشيطان من الشطن بمعنى البعد سمى به لبعده من الخير والرحمة- واختلفوا في انه كيف لقى إبليس آدم بعد ما قيل له فَاخْرُجْ ... فَإِنَّكَ رَجِيمٌ- قال البغوي ان إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس آدم وحواء فمنعته الخزنة- فاتته الحية وكانت صديقة لابليس وكانت من احسن الدواب لها اربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسالها إبليس ان يدخله في فمها فادخلته فمرت به على الخزنة وهم لا يعلمون فادخلته الجنة- وكذا اخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وابى العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس- وقال الحسن انما راهما على باب الجنة لانهما كانا يخرجان منها- وقال البغوي وقد كان آدم لما دخل الجنة قال لو ان خلدا- فلما دخل الشيطان الجنة وقف بين آدم وحواء وهما لا يعلمان انه إبليس فبكى وناح نياحة احزنتهما وهو أول من ناح- فقالا ما يبكيك قال ابكى عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما فقال إبليس هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ فابى ان يقبل منه فقاسمهما بالله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فاغترا وما ظنا ان أحدا يحلف بالله كاذبا- فبادرت حواء الى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها- وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر فلما أسكر قادته إليها فاكل- فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم قال ابن عباس وقتادة قال الله تعالى لادم الم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب ولكن ما ظننت ان أحدا يحلف بك كاذبا- وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الله تعالى يا آدم ما حملك على ما صنعت- قال يا رب زينته لى حواء قال فانى أعقبتها ان لا تحمل الا كرها ولا تضع الا كرها وديتها في الشهر مرتين- فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك- وَقُلْنَا اهْبِطُوا اى انزلوا الى الأرض يعنى آدم وحواء وإبليس والحية- بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حال استغنى

[سورة البقرة (2) : آية 37]

عن الواو بالضمير اى متعادين- روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال- لا اعلم الا رفع الحديث انه كان يأمر بقتل الحيات وقال من تركهن خشية او مخافة ثائر فليس منا- وفي رواية- ما سالمناهن منذ حاربناهن- وروى عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ان بالمدينة جنا قد اسلموا فان رايتم منهم شيئا فاذنوه ثلثة ايام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانه شيطان- وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ موضع قرارا واستقرار وَمَتاعٌ اى تمتع إِلى حِينٍ (36) الى انقضاء اجالكم-. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قرا ابن كثير آدم بالنصب وكلمت بالرفع يعنى جاءت الكلمات آدم من ربه وكانت سبب توبته- وقرا الباقون بالعكس اى تعلّم- والكلمات رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الاية- كذا قال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن وقيل غير ذلك من كلمات الدعاء والاستغفار والتضرع قال ابن عباس- بكى آدم وحواء مائتى سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما- ولم يقرب آدم حواء مائة سنة وروى عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا ولو ان دموع اهل الأرض جمعت لكان دموع داود اكثر حيث أصاب الخطيئة- ولو ان دموع داود مع دموع اهل الأرض جمعت لكان دموع آدم اكثر- قال شهر بن حوشب بلغني انه مكث ثلاثمائة سنين لا يرفع رأسه حياء من الله عز وجل- فَتابَ عَلَيْهِ اى قبل توبته- والتوبة عبارة عن الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على ان لا يعود- واكتفى بذكر آدم لان حواء كانت تبعا له في الحكم ولذلك طوى ذكر النساء في اكثر القران والسّنن إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرجاع على عباده بالمغفرة- واصل التوبة الرجوع فمن العبد الرجوع من المعصية ومن الله الرجوع عن العقوبة الى المغفرة الرَّحِيمُ (37) المبالغ في الرحمة. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً- قيل الهبوط الاول من الجنة والثاني من السماء الى الأرض- وقيل كرر للتأكيد او لاختلاف المقصود فان المقصود من الاول العقاب على المعصية ومن الثاني التكليف- وجميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فلا يستدعى اجتماعهم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الفاء للعطف وان حرف شرط وما زائدة أكدت به ان- ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وان لم يكن فيه معنى الطلب يعنى ان يأتى لكم منى هدى يعنى رسول وكتاب- الخطاب به الى ذرية آدم فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الشرط الثاني مع جزائه جزاء للشرط الاول

[سورة البقرة (2) : آية 39]

وانما جاء بان حرف الشك لانه محتمل في نفسه غير واجب عقلا- امال الكسائي هداى ومثواى- ومحياى- حيث وقع ورءياك في أول يوسف خاصة- وابو عمرو ورش قرا رءياك خاصة بين بين- قال البيضاوي كرر لفظ الهدى ولم يضمر لانه أراد بالثاني أعم من الاول وهو ما اتى به الرسل واقتضاه العقل اى تبع ما أتاه مراعيا فيه ما شهده العقل- فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) على ما خافوا فان الخوف على المتوقع والحزن على الواقع- او المعنى لا خوف عليهم فى الاخرة بحلول مكروه ولا هم يحزنون في الاخرة بفوات محبوب نفى عنهم العذاب واثبت لهم الثواب على ابلغ الوجوه- قرا يعقوب فلا خوف بالفتح باعمال لا والآخرون بالرفع والتنوين. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عطف على من تبع كانه قال ومن لم يتبع هداى بل كفروا به وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بالقران وغيره من الكتب أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يوم القيامة هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) لا يخرجون منها ولا يموتون فيها- فى القصة دليل على ان الجنة مخلوقة وانها في جهة عالية وان عذاب النار للكفار مخلد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام قالوا كان آدم نبيا وارتكب المنهي عنه- وأجيب بانه لم يكن نبيا حينئذ والمدعى يطالب بالبرهان- او كان النهى للتنزيه وانما سمى نفسه ظالما وخاسرا لانه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الاولى- او انه فعل ناسيا لقوله تعالى- فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً- لعله لما قاله إبليس ما نهاكما ربّكما وقاسمهما أورث فيه ميلانا طبعيا ثم انه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله الى ان نسى ذلك وزال شعوره بشرب الخمر فحمله الطبع عليه وانما عوتب بترك التحفظ عن اسباب النسيان- ولعله وان حط عن الامة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم- ويحتمل ان يكون رفع الخطاء والنسيان خاصة لهذه الامة- وسيجيئ المسألة اخر السورة- او فعله بسبب خطاء في اجتهاده حيث ظن النهى للتنزيه- او الاشارة الى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها وكان المراد في النهى الاشارة الى النوع وانما جرى عليه ما جرى على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة كتناول السم على الجهل والله اعلم- ولما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد والنبوة وخاطب الناس عامة وعدّ انعاماته العامة- خاطب بنى إسرائيل خاصة وذكّرهم النعماء التي اختصت بهم لان السورة مدنية وكان غالب الخطاب في المدينة مع اليهود لانهم كانوا اهل علم والناس تبع لهم فلو اعترفوا بالنبوة اعتراف غيرهم

[سورة البقرة (2) : آية 40]

بتقليدهم وكان حجة على غيرهم- فقال. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اى أولاده والابن من البناء لانه مبنى أبيه ولذلك ينسب المصنوع الى الصانع- ويقال ابو الحرب وبنت فكر- وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية عبد الله وايل هو الله- وقيل صفوة الله- وقرا ابو جعفر إسرائيل بغير همزة اذْكُرُوا احفظوا- والذكر يكون بالقلب وباللسان فانه دليل على ذكر القلب وقيل اشكروا لان فى الشكر ذكرا- قال الحسن- ذكر النعمة شكرها- نِعْمَتِيَ لفظها واحد ومعناها جمع الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ- قيد النعمة بهم حتى يحملهم على الرضاء والشكر- واما النعمة على غيرهم فقد يوجب الغيرة والحسد قال قتادة هى النعم التي خصت بها بنوا إسرائيل من فلق البحر وانجائهم من فرعون باغراقه وتظليل الغمام في التيه- وإنزال المن والسلوى- وبعث الأنبياء فيهم- وجعلهم ملوكا وإنزال التورية وغيرها- وقال غيره هى جميع النعم على العباد وَأَوْفُوا بِعَهْدِي بالايمان والطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بالاثابة- والعهد يضاف الى المعاهد والمعاهد- ولعل اولا أضاف الى الفاعل وثانيا الى المفعول فان الله تعالى عهد إليهم بالايمان ووعدهم بالثواب- او في كليهما أضاف الى المفعول اى أوفوا بما عاهدتمونى أوف بما عاهدتكم- اخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال- أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أوف بعهدكم في رفع الاصار والاغلال- قال البغوي قال الكلبي عهد الله الى بنى إسرائيل على لسان موسى انى باعث في بنى إسماعيل نبيا اميا فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتى به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى في امر محمد صلى الله عليه وسلم- قلت وهذا قوله تعالى في جواب ما قال موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ- الى قوله إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ- الاية- وقال قتادة ومجاهد أراد بها ما ذكر في المائدة وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً الى ان قال لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الاية- وقال الحسن هو قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ- فهو شريعة التورية- قلت وان هذين القولين راجعان الى ما قال ابن عباس والكلبي فان في الاول وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ- وكذلك شريعة التورية حاكمة بالايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

[سورة البقرة (2) : آية 41]

والا فهى منسوخة وَإِيَّايَ منصوب بفعل مقدر بعده يفسّره فَارْهَبُونِ (40) فخافون في نقض العهد وفي كل فعل وترك- والرهبة خوف معه تحرز- وهذا أكد في إفادة التخصيص من ايّاك نعبد لما فيه من تقديم المفعول وتكريره وتكرير الفعل تقديرا ولفظا والفاء الجزائية- تقدير الكلام ان كنتم راهبين فاياى ارهبوا فارهبونى- والاية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وان المؤمن ينبغى ان لا يخاف أحدا الا الله- اثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل فارهبون فاتّقون- واخشون كلها وجملتها احدى وستون ياء لا غير- واثبت نافع في رواية ورش منها في الوصل سبعا وأربعين وفي رواية قالون عشرين- واختلف عن قالون في اثنين وهما التّلاق- والتّناد- فى غافروا ثبت ابن كثير في الوصل والوقف احدى وعشرين واختلف عنه في ست تقبّل دعاء في ابراهيم- يدع الدّاع في القمر- بالواد- وأكرمن- وأهانن في الفجر فاثبت الخمس البزي في الحالين- واثبت قنبل انّه من يتّق في يوسف في الحالين وبالواو في الفجر في الوصل فقط وفيه خلاف عنه واثبت ابو عمرو من ذلك في الوصل خاصة أربعا وثلثين وخير في أكرمن وأهانن- واثبت الكسائي ياءين يوم يأت في هود وما كنّا نبغ في الكهف لا غير- واثبت حمزة في الوصل خاصة وتقبّل دعاء في ابراهيم- وفي الحالين أتمدّونن في النمل لا غير وحذف كلهن عاصم واختلف عنه في يائين في النمل فما ءاتان الله فتحها حفص فى الوصل وأثبتها ساكنة في الوقت وفي الزخرف يعباد لا خوف فتحها ابو بكر في الوصل وأسكنها في الوقف وشعبة بحذف الاولى كحفص في الاخرى- واثبت ابن عامر في رواية هشام ثمّ كيدون في الأعراف وفي رواية ابن ذكوان في الكهف فلا تسئلنى- وسياتى جميع ما ورد من ذلك الاختلاف في أماكنها ان شاء الله تعالى-. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ يعنى القران عطف تفسيرى على أوفوا او تخصيص بعد التعميم فان الايمان هو العمدة في الوفاء بالعهود مُصَدِّقاً اى موافقا في القصص وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ونعته وفي الوعد والوعيد والدعوة الى التوحيد- والايمان بالأنبياء بلا تفريق بينهم وبما جاءوا به من ربهم والى امتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي- او شاهدا على كونها من الله تعالى لِما مَعَكُمْ من الكتب الالهية التورية وغيرها- وفي التقييد بكون القران مصدّقا لمّا معهم تنبيه على ان اتباعها يوجب الايمان به ولذلك عرّض بقوله وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ-

[سورة البقرة (2) : آية 42]

بل الواجب ان تكونوا أول من أمن به كما ان ورقة بن نوفل لما كان عالما بالتورية صار أول من أمن به- فالمراد به التعريض دون الحقيقة كقولك اما انا فلست بجاهل فلا يقال كيف نهوا عن التقدم في الكفر مع سبق مشركى مكة فيه- او المراد ولا تكونوا أول كافر من اهل الكتاب او أول من كفر بما معه فان الكفر بالقران كفر بما يصدقه- قلت او المراد بالاولية الاولية بالذات «1» يعنى كونهم سببا لكفر غيرهم فان ايمان العلماء والأحبار والرؤساء سبب لايمان غيرهم وكفرهم سبب لكفر غيرهم- فلذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- الا ان شر الشرار شرار العلماء- وان خير الخيار خيار العلماء رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم عن أبيه- والمعنى لا تكونوا سببا لكفر اتباعكم فيكون عليكم اثم الأريسيين وأول كافر خبر من ضمير الجمع بتأويل أول فريق- او بتأويل أول فريق- او بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر كقولك كسانا حلة- وأول افعل لا فعل له من لفظه- وقيل أصله أوال من وال على وزن سأل أبدلت همزته واوا من غير قياس او ااول من أول قلبت الهمزة واوا وأدغمت- قال البغوي نزلت الاية في كعب بن اشرف وأصحابه من علماء اليهود وَلا تَشْتَرُوا اى لا تستبدلوا بِآياتِي اى بالايمان بايات القران اولا تستبدلوا بايات التورية ببيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثَمَناً اى عرضا من الدنيا قَلِيلًا فان اعراض الدنيا وان جلت فهى قليلة رذيلة بالاضافة الى ما يفوتهم من حظوظا لاخرة وذلك ان رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم وجهّالهم يأخذون كل عام منهم شيئا معلوما من ذروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا فواتها ان بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه- فاختاروا الدنيا على الاخرة وغير وانعته وكتموا اسمه وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) بالايمان واختيار الاخرة على الدنيا- وهذا مثل فايّاى فارهبون- غير ان في الاية السابقة خطاب لعوام بنى إسرائيل ولذا فصلت بالرهبة التي هى مقدمة التقوى وفي الثانية خطاب لعلمائهم ولذلك فصلت بالتقوى الذي هو منتهى الأمر-. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ اى

_ (1) لا يخفى ان الاولية بالذات يستلزم التقدم بحسب الزمان او المعية بحسبه فالاشكال بسبق مشركى مكة فيه باق كما كان ويحتاج في بيان سببية كفرهم لكفر غيرهم من التخصيص باتباعهم وهو تطويل للمسافة بلا طائل قلت كفر اهل الكتاب سبب لكفر غيرهم من الأميين حيث يزعمون لو كان الإسلام حقّا لما تركه اهل الكتاب فهو سبب لثبات مشركى مكة على كفرهم- فسبق كفر مشركى مكة بالزمان لا ينافى اولية كفر اهل الكتاب بالذات وكونه سببا لكفرهم يعنى لثباتهم على الكفر والله اعلم- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 43]

لا تخلطوا- واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره- يعنى لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل الذي تكتبونه بايديكم من التغير حتى لا يمين بينهما- وقال مقاتل ان اليهود أقرّوا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضا ليصدّقوا فى ذلك فالحق إقرارهم وبيانهم والباطل كتمانهم- وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم داخل تحت حكم النهى اى لا تكتموا- او منصوب بإضمار ان بعد الواو للجمع اى لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) انه نبى مرسل وانكم تكتمون صفته فانه أقبح فان الجاهل قد يعذر-. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ اى صلوة المسلمين وزكاتهم- فيه دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع- والزكوة مشتق من زكا الزرع إذ انما- او من تزكّى اى تطهر فان فيه تطهير المال وتنميته قال الله تعالى- يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ- وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه- ذكر بلفظ الركوع وهو ركن من اركان الصلاة لان صلوة اليهود لم يكن فيه ركوع- وفيه حث على الصلاة بالجماعة (مسئلة) الجماعة ركن عند داود- وقال احمد فريضة وليست بركن وعند الجمهور سنة مؤكدة قريب من الواجب يترك سنة الفجر مع كونها أكد السنن عند خوف فواتها- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة الجماعة تفضل صلوة الفرد بسبع وعشرين درجة- متفق عليه من- حديث ابن عمر. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ- اى بالطاعة وفيه تقرير مع توبيخ وتعجيب والبرّ التوسع في الخير مشتق من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير- قال البغوي نزلت في علماء اليهود وذلك ان الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا ساله عن امر محمد صلى الله عليه وسلم اثبت على دينه فان امره حق وقوله صدق- وكذا اخرج الواحدي عن ابن عباس- وقيل هو خطاب لاحبارهم حيث أمروا اتباعهم بالتمسك بالتورية وهم خالفوا التورية وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيه- وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها من البر كالمنسيات- وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ التورية وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وفيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل وترك البر أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) قبح صنعكم او أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون قبح عاقبته- والعقل في الأصل الحبس ومنه

[سورة البقرة (2) : آية 45]

عقال الدابة- فان العقل يمنع الإنسان عما يضره يعنى ما تفعلون مخالف للعلم والعقل- روى البغوي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رايت ليلة اسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب- وروى ايضا عن اسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق اقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع اهل النار عليه فيقولون اى فلان ما شأنك الست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت أمركم بالمعروف ولا اتيه وأنهاكم عن المنكر واتية- قال البيضاوي المراد بالآية حث الواعظ على تزكية النفس وتكميله لا منع الفاسق عن الوعظ فان الإخلال بأحد الامرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالاخر- قلت فمعنى قوله تعالى. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ان معصية العالم اكبر مقتا عند الله من معصية الجاهل لا ان امره بالمعروف ممقوت- والله اعلم ثم لمّا أمرهم الله تعالى بما شق عليهم من ترك الرياسة والاعراض عن الدنيا ارشدهم بما يعينهم على ذلك ويكفيهم في إنجاح حوائجهم فقال. وَاسْتَعِينُوا على ما يستقبلكم من الحوائج وانواع البلاء بِالصَّبْرِ بانتظار النجح والفرح توكّلا على الله وحبس النفس عن الجزع فانه لا يغنى من القدر شيئا وحبس النفس عن المعاصي وعلى الطاعات فانه تعالى يقول ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ- وقال مجاهد أراد بالصبر الصوم ومنه سمى شهر رمضان شهر الصبر وذلك ان الصوم يزهده في الدنيا والصلاة يرغبه في الاخرة- وَالصَّلاةِ قيل الواو بمعنى على اى استعينوا بالصبر على الصلاة- قال الله تعالى- وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها- او هى بمعناها وللصلوة مدخلا فى دفع الهموم وإنجاح الحوائج- روى احمد وابو داود وابن جرير من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان انه عليه الصلاة والسلام- كان إذا خرّ به امر فزع الى الصلاة- ويجوز ان يراد بها الدعاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له حاجة الى الله او الى أحد من بنى آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه ثم ليصل ركعتين ثم يثنى على الله ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم- وليقل لا الله الا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العلمين أسئلك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل اثم لا تدع لى ذنبا الا غفرته ولا هما الا فرجته

[سورة البقرة (2) : آية 46]

ولا حاجة هى لك رضا الا قضيتها يا ارحم الراحمين- رواه الترمذي من حديث عبد الله بن ابى اوفى- والحاكم في المستدرك نحوه- وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ اى الاستعانة بهما- او جملة ما أمروا بها ونهوا عنها- او كل واحد من الخصلتين كما في قوله تعالى- كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها اى كل واحدة منهما او الصلاة ان كانت الواو في والصّلوة بمعنى على وقيل خصت الصلاة برد الضمير إليها لعظم شأنها- او استجماعها ضروبا من الصبر كما قال الله تعالى- وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ- ان رضاء الرسول داخل في رضاء الله تعالى وقيل معناه استعينوا بالصبر وانه لكبير وبالصلوة وانها لكبيرة اى ثقيلة شاقة فحذف أحدهما اختصارا إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (45) والخشوع السكون ومنها الخشعة للرملة المتطأمنة- وهو في الصوت والبصر قال الله تعالى- خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ- وقال- خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ- والخضوع اللين والانقياد- ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب- والمراد المؤمنين الساكنين الى طاعة الله تعالى الخائفين المتواضعين-. الَّذِينَ يَظُنُّونَ اى يتوقعون لقاء الله او يستيقنون به- قال البغوي- الظن من الاضداد يكون شكا ويقينا يعنى مشترك بينهما- او يقال اطلق على اليقين مجازا لما شابهه في الرجحان قلت وفي إيراد لفظ الظن هاهنا دون العلم واليقين اشعار بان من كان غالب ظنه انه ملاقى الله وان الله تعالى مجازيه على اعماله فالعقل الصحيح يهوّن عليه الصبر على الطاعة وعن المعصية مخافة الضرر الا ترى ان من كان غالب ظنه ان ماء القدح مسموم فهو يصبر على مشقة العطش ولا يشرب من ذلك الماء وكذا من كان غالب ظنه ان ما في القدح يورث الشفاء والقوة فهو يصبر على مرارته ويشربه- فكيف من كان يؤمن بالله وبجزائه فانه يستحقر المشقة نظرا الى تحصيل رضائه وعظم جزائه بل يستلذ بامتثال امر المحبوب وتوقع لقائه ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام جعلت قرة عينى في الصلاة- أخرجه الحاكم والنسائي- أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ اى معاينوه يرونه في الاخرة- والصلاة معراج المؤمن تكون للعبد وسيلة الى رؤية الله قال الله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وعن ربيعة بن كعب قال كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتيته بوضوئه وحاجته فقال لى سل فقلت أسئلك مرافقتك في الجنة قال او غير ذلك قال هو ذاك قال فاعنّى على نفسك بكثرة السجود- رواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- اقرب ما يكون العبد الى الرب وهو ساجد-

[سورة البقرة (2) : آية 47]

رواه مسلم وقيل المراد باللقاء الصيرورة والحشر اليه-. وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) فيجازيهم بأعمالهم- وملاحظة الرجوع الى الله يهون الصبر عليه ولذلك سن للمصاب قول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ-. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرره للتأكيد وتذكير التفضيل وهو أجل النعم وربطه بالوعيد الشديد وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ يريد تفضيل ابائهم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام وبعده ما لم يغيروا دينهم- فضلهم الله تعالى بما سنح عليهم من النبوة والكتاب والايمان والعلم والأعمال الصالحة والملك والعدالة ومناصرة الأنبياء وانما عد نعمة عليهم لان فضل الآباء يوجب شرفا في الأبناء- وفيه حثهم على تحصيل ذلك الفضل إذ لم يكن فضلهم الا باتباع الوحى والأنبياء والكتاب ويمكنهم تحصيله باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقران وفيه اتباع موسى والتورية عَلَى الْعالَمِينَ (47) اى على عالمى زمانهم كذا اخرج ابن جرير عن مجاهد وابى العالية وقتادة- او على من لم يستجمع ذلك الفضائل من العالمين. وَاتَّقُوا يَوْماً اى ما فيه من العذاب لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ كافرة- للايات والأحاديث الدالة على الشفاعة لاهل الكبائر وعليه انعقد الإجماع شَيْئاً من الحقوق فنصبه على المفعولية او لا تجزى شيئا من الجزاء فنصبه على المصدرية- وقيل لا تغنى شيئا من الإغناء وقيل لا تكفى شيئا من الشدائد- والعائد محذوف تقديره لا تجزى فيه ومن لم يجوز حذف العائد قال اتسع فيه فحذف الجار وأجري مجرى المفعول به ثم حذف وَلا يُقْبَلُ قرا ابن كثير وابو عمرو ويعقوب بالتاء المنقوطة من فوق والباقون بالياء فان الفاعل مؤنث غير حقيقى يجوز فيه التذكير والتأنيث مِنْها اى من العاصية او من الشافعة شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ اى فدية وقيل البدل وأصله التسوية وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) يمنعون من عذاب الله تعالى- والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة فى سياق النفي الدالة على العموم والكثرة- أريد بالآية نفى ان يدفع العذاب عن أحد من الكفار أحد بوجه من الوجوه- فانه اما ان يكون قهرا فهو النصرة- او بلا قهر مجانا وهو الشفاعة- او بأداء ما كان عليه وهو ان يجزى عنه او بغيره وهو ان يعطى عنه عدلا- والاية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم ان آباءهم يشفعهم-. وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ- اى اسلافكم تفصيل لما أجمله من النعم عطف على نعمتى عطف الخاص

[سورة البقرة (2) : آية 50]

على العام وفيه منة عليهم حيث نجوا بنجاتهم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ اى اتباعه واهل دينه أصله اهل بدليل اهيل خص بالاضافة الى العظماء من الأنبياء والملوك- وفرعون لقب لملك العمالقة وكان فرعون موسى وليد بن مصعب بن الريان عمّر اكثر من اربعمائة سنة- وفرعون يوسف ريان وكان بينهما اكثر من اربعمائة سنة- يَسُومُونَكُمْ يكلفونكم ويذيقونكم- واصل السوم الذهاب في طلب الشيء وقيل معناه يصرفونكم في اصناف العذاب كالابل السائمة في البرية وذلك ان فرعون جعل بنى إسرائيل أصنافا في الأعمال يبنون ويحرثون- ويحملون الأثقال- ويؤدون الجزية والنساء يغزلن لهم سُوءَ الْعَذابِ اى أشده وسواه وهو مصدر ساء يسوء- مفعول ليسومونكم والجملة حال من الضمير في نجينكم- او من ال فرعون- او منهما جميعا يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ بيان ليسومونكم ولذلك لم يذكر بالعطف بل على البدل وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ- قال البغوي وذلك ان فرعون راى في منامه كانّ نارا أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصروا حرقت لكل قبطى بها ولم يتعرض لبنى إسرائيل فهاله ذلك وسال الكهنة عن رؤياه فقالوا يولد في بنى إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك- كذا اخرج ابن جرير عن السدى- قال البغوي- فامر فرعون بقتل كل غلام يولد في بنى إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يولد غلام من بنى إسرائيل الا قتل ولا جارية الا تركت حتى قيل انه قتل في طلب موسى اثنى عشر الف صبى- وقال وهب- بلغني انه ذبح تسعون الفا «1» - ثم اسرع الموت في مشيخة بنى إسرائيل فدخل رءوس القبط على فرعون وقالوا ان الموت قد وقع في بنى إسرائيل فيذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك ان يقع العمل علينا فامر فرعون ان يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وموسى في السنة التي يذبحون فيها وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ البلاء معناه الاختبار فتارة تكون بالشدة والعذاب يختبر مصابرتهم- وتارة بالنعمة والرخاء يختبر به شكرهم قال الله تعالى- وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً- فالواجب الشكر عند الرخاء والصبر عند الشدة- والمشار اليه بذلكم اما انجاؤهم من ال فرعون فالمراد به الثاني- واما سومهم سوء العذاب فالمراد به الاول مِنْ رَبِّكُمْ بتسليط فرعون او ببعث موسى وتوفيقه تخليصكم عَظِيمٌ (49) صفة بلاء-. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فلقناه بدخولكم- وقيل معناه فرقنا لكم وذلك انه لما دنا هلاك فرعون وامر الله موسى ان يسرى ببني إسرائيل امر موسى قومه ان يسيروا بالليل ويسرّجوا

_ (1) فى الأصل تسعون الف 12

فى بيوتهم- واخرج الله كل ولد زنا في القبط من بنى إسرائيل إليهم وبالعكس والقى الموت على القبط واشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا وطلعت الشمس وخرج موسى في ستمائة الف او اكثر- وكانوا دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا- فلما أرادوا السير في الليل ضرب عليهم التيه فلم يدراين يذهبون- فسال مشيخة بنى إسرائيل فقالوا ان يوسف لما حضره الموت أخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فسالهم عن قبره فلم يعلموا فنادى موسى انشد الله كل من يعلم موضع قبر يوسف الا أخبرني به ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولى- فلم يسمع الا عجوز فقالت لو دللت أتعطيني كل ما سالتك فابى وقال حتى اسئل ربى فامره الله- فقالت لا أستطيع المشي فاخرجنى من مصر وفي الاخرة لا تنزل في غرفة من الجنة الا نزلتها معك قال نعم- قالت «1» انه في جوف النيل فدما الله فحسر عنه فاخرجه في صندوق وحمله ودفنه بالشام- فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم- وامر فرعون قومه ان لا يخرجوا في طلب بنى إسرائيل حتى يصيح الديك فو الله ما صاح ديك تلك الليلة- فخرج فرعون وعلى مقدمته هامان في الف الف وسبعمائة الف- وكان فيهم سبعون الفا من دهم- فسارت بنوا إسرائيل الى البحر والماء في غاية الزيادة- فاذا هم بفرعون حين أشرقت فتحيروا- فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ موسى كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فاوحى الله اليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وظهر فيه اثنا عشر طريقا بعدد الأسباط وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى يبس الطرق وخاضت كل سبط بنى اسراءيل في طريق ولا يرى بعضهم بعضا بحجاب الماء فخافوا على إخوانهم بالغرق- فاشتبك الماء بإذن الله حتى يرى بعضهم من بعض ويسمع فعبروا سالمين. فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ- وذلك ان فرعون لما راى البحر منفلقا قال هذا من هيبتى حتى أدرك عبيدى الآبقين- وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون أنثى فجاء جبرئيل على فرس أنثى فاقتحم البحر فلما اشتم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في اثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من امره شيئا واقتحم الخيول جملة خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم ويقول الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم وكان بين طرفى البحر اربعة فراسخ وهو بحر قلزم بحر من بحار فارس

_ (1) فى الأصل قال 13

[سورة البقرة (2) : آية 51]

قال قتادة بحر من وراء مصر يقال له اساف وذلك بمراء من بنى إسرائيل فذالك قوله تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) الى مصارعهم-. وإذ وعدنا- قرا ابو جعفر وابو عمرو وعدنا ووعدنكم حيث وقع بلا الف والباقون واعدنا بالألف ومعناهما واحد نحو عاقبت اللص- وقال الزجاج كان من الله الأمر ومن موسى القبول ومن ثم ذكر المواعدة- وقيل وعد الله الوحى ووعده موسى «1» المجيء الى الطور مُوسى قرا حمزة والكسائي بالامالة وكذا يميلان كل ما كان من الأسماء والافعال من ذوات الياء نحو موسى وعيسى ويحيى والموتى- وطوبى- وأخرى- وكسالى وأسارى- ويتمى وفرادى ونصرى- والأيامى والحوايا وبشرى وذكرى- وضيزى وشبهها مما الفه للتانيث وكذلك العمى والهدى والضّحى والرّؤيا- ومأويه وماويكم- ومثويه- ومثويكم وما كان مثله من المقصور وكذلك الأدنى- وازكى واولى وأعلى وشبهها من الصفات وكذا نحو اتى وسعى وزكّى- فسوّى- ويخفى ويرضى- ويهوى وشبهها من الافعال مما الفه منقلبة من ياء وكذلك اما لا انّى التي بمعنى كيف نحو انّى شئتم وانّى لك- وكذلك متى وبلى وعسى حيث كان وكذلك ما أشبهه مما هو مرسوم بالياء ما خلا حمس وهى حتّى ولدى وعلى والى وما زكى فانها مفتوحات اجماعا- وكذلك مفتوح بالإجماع جميع ذوات الواو من الأسماء والافعال نحو الصّفا وسنا برقه وبدا ودنا وعفا وعلا وشبهها ما لم يقع بين ذوات الياء فى سورة اواخر ايها ياء او تلحقه زيادة نحو تدعى- وتبلى- فمن اعتدى ومن استعلى وانجيكم ونجّينا ونجّيكم- وزكّيها وشبهها فانها بالزيادة التحقت بذوات الياء- وقرا ابو عمرو بالامالة مما تقدم ما كان فيها راء بعدها ياء وما كان راس اية في سورة او اخر ايها على ياء هاء والف او كان على وزن فعلى بفتح الفاء «2» او الكسر او الضم ولم يكن فيه راء قراها بين اللفظين وما عدا ذلك بالفتح- وقرا ورش جميع ذلك بين بين الا ما كان في سورة او اخر ايها على هاء والف فانه أخلص الفتح فيه- وامال ابو بكر رمى في الأنفال وأعمى في الموضعين في سبحان وتابعه ابو عمرو على امالة أعمى في الاول لا غير وفتح ما عدا ذلك وامال حفص مجريها في هود لا غير- وروى عن ابى عمرو يويلتى يحسرتى وانّى إذا كان استفهاما بين اللفظين ويا سفى بالفتح- وكلما ذهب الالف الممال لاجتماع الساكنين وصلا لا يمال وصلا ويمال وقفا نحو هدى للمتّقين- وموسى الكتب فعند الوقف على هدى

_ (1) في الأصل الموسى (2) فى الأصل بفتح العين وهو سبق قلم او من الناسخ- ابو محمد عفا الله عنه

وموسى يمال لا وصلا- وروى اليزيدي عن ابى عمرو امالة الراء مع الساكن وصلا نحو يرى ويرى الذين أمنوا- والنّصرى المسيح- والكبرى اذهب- والقرى الّتى وشبهها- وتفرد الكسائي بامالة أحيا- فاحيا به- وأحياها حيث وقع وخطيكم- وخطيهم وخطينا- ورؤيا ورءياى- ومرضات الله ومرضاتى حيث وقع وحقّ تقته في ال عمران قد هدان في الانعام ومن عصانى في ابراهيم- وما أنسانيه في الكهف وآتاني الكتب وأوصاني بالصّلوة في مريم ممّا آتان الله في النمل- ومحياهم في الجاثية- دحيها فى النازعت- تلها وطحيها في والشمس وسجى في والضحى واتفق الكسائي مع حمزة في امالة يحيى- ولا يحيى- وأمات وأحيا إذا كان منسوقا بالواو ولا غير والدّنيا والعليا والحوايا- والضّحى وضحيها والرّبوا وانّنى هدينى وآتاني في هود ولو انّ الله هدينى- ومنهم تقة- ومزجية واناه وتابعهما هشام في امالة اناه فقط وفتح الباقون جميع ذلك- أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثلثون من ذى القعدة وعشر من ذى الحج- لما عادوا الى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى ان ينزل عليه التورية فقال موسى انّى ذاهب الى ربّى وواعدهم أربعين ليلة واستخلف هارون وجاء جبرئيل على فرس الحيوة لا يصيب شيئا الا احيى ليذهب بموسى الى ربه فلما راى السامري موضع الفرس يخضر وكان رجلا صائغا من اهل باجرمى وقيل من اهل كرمان وكان منافقا اظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر أخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرئيل وكان بنوا إسرائيل استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلة عرس لهم فاهلك الله فرعون وبقيت الحلي عندهم- فلما فصل موسى قال السامري ان الحلي التي استعرتم من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفرة وادفنوا فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه- وقال السدى أمرهم بها هرون- فاخذ السامري وصاغها عجلا في ثلثة ايام والقى فيها القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبرئيل فخرجت عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر يخور خورة ويمشى- فقال السامري هذا إل هكم وإله موسى فنسى- وكان «1» بنوا إسرائيل عدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضت عشرون يوما ولم يرجع موسى قالوا مات فوقعوا في الفتنة بروية العجل وأضلهم السامري- وقيل كان موسى وعد لهم ثلثين ليلة ثم زيدت العشرة وفيها فتنتهم فعبدوا العجل كلهم الا هارون مع اثنى عشر الف رجل- ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الها- اظهر ابن كثير وحفص الذال من أخذت واتّخذت وما ورويس بخلاف عنه- ابو محمد

_ (1) فى الأصل وكانت.

[سورة البقرة (2) : آية 52]

كان من لفظه حيث وقع والباقون يدغمونها مِنْ بَعْدِهِ اى موسى يعنى بعد ذهابه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ضارون أنفسكم واضعون العبادة في غير موضعه. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ حين تبتم- والعفو محو الجريمة من عفا إذا درس- مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاتخاذ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) لكى تشكرون- قيل الشكر هو الطاعة ويكون بالقلب واللسان والجوارح قال الحسن- شكر النعمة ذكرها- وقال سيد الطائفة جنيد شكر النعمة صرفها في رضاء المنعم- وقيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر- قال البغوي حكى عن موسى قال- الهى أنعمت علىّ النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وانما شكرى إياك نعمة منك- قال الله تعالى يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه علم حسبى من عبدى ان يعلم انّ ما به من نعمة فهو منى- وقال داود سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى التورية. وَالْفُرْقانَ قيل هى التورية ذكرها باسمين وقال الكسائي الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة يعنى الفارق بين الحق والباطل وقيل أراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المحق والمبطل- او الشريعة الفارقة بين الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) بتدبر الكتاب-. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أضررتم أنفسكم بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا فارجعوا إِلى بارِئِكُمْ اى من خلقكم بريّا من التفاوت وميّز بعضكم عن بعض بصور وهيات مختلفة- واصل التركيب لخلوص الشيء من غيره اما على سبيل التقضي نحو برىء المريض والمديون او الإنشاء نحو برا لله آدم من الطين قرا ابو عمرو بارئكم في الحرفين ويأمركم- ويأمرهم- وينصركم- ويشعركم باختلاس حركة الاعراب وقيل بالإسكان فيصير الهمزة ياء «1» على مذهبه وقرا الباقون بتمام الحركة وامال الكسائي بارئكم بالحرفين والبارئ المصوّر- وسارعوا- ويسارعون ويسارع حيث وقع والجار في الموضعين وجبّرين في الموضعين والجوار في الشورى والرحمن وكورت ومن انصارى الى الله في المكانين وكمشكوة في النور وقرا ورش الجار والجبّارين بين بين- فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ اى ليقتل البريء منكم المجرم تماما لتوبتكم- ويجوز ان يكون الفاء لتفسير التوبة يعنى فاقتلوا أنفسكم هذه توبتكم

_ (1) والمختار بل الصحيح عدم الابدال واليه ذهب المحققون جميعا- ابو محمد [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 55]

ذلِكُمْ اى القتل خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ لانه طهرة من الشرك ووصلة الى الحيوة الابدية والبهجة السرمدية- فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر بامر الله- فجلسوا في الافنية محتبين وقيل من حل حبوته أو مد طرفه الى قاتله- او اتقاه بيد او رجل فهو ملعون مردود توبته وسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه فلم يمكنهم المضي لامر الله تعالى قالوا يا موسى كيف نفعل فارسل الله ضبابة يعنى بخارا متصاعدا من الأرض او سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا وكانوا يقتلون الى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا يا رب هلكت بنوا إسرائيل فكشف الله السحابة وأمرهم ان يكفوا عن القتل فتكشف عن ألوف من القتلى- روى عن على انه قال كان عدد قتلى سبعين الفا فاشتد ذلك على موسى فاوحى الله تعالى اليه اما يرضيك ان ادخل القاتل والمقتول في الجنة وكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفرا عنه ذنوبه فَتابَ عَلَيْكُمْ فتجاوز عنكم متعلق بمحذوف- فان كان من كلام موسى فتقديره ان فعلتم القتل فقد تاب الله عليكم- والا فتقديره على طريقة الالتفات من الغيبة الى الخطاب ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم- إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ القابل للتوبة يكثر قبولها او يكثر توفيق التوبة الرَّحِيمُ (54) . وَإِذْ قُلْتُمْ حين امر الله موسى ان يأتيه في ناس من بنى إسرائيل معتذرين اليه من عبادة العجل فاختار سبعين رجلا من خيارهم- وقال لهم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا فخرج بهم الى طور سيناء فقالوا له اطلب لنا نسمع كلام ربنا- فلما دنا موسى من الجبل وقع عليهم عمود الغمام وتغشى الجبل كله فدخل في الغمام وقال لهم حين دخلوا في الغمام خروا سجدا- وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد ان ينظر اليه فضرب دونهم الحجاب فسمعوه وهو يكلم بأمره وينهاه- وأسمعهم الله انى انا الله لا اله الا انا ذو بكة أخرجتكم من ارض مصر بيد شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى- فلما فرغ موسى وانكشف الغمام واقبل إليهم- قالوا يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ اى لاجل قولك- او لن نقر لك ان الله الذي اعطاك التورية وكلمك او انك نبى حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً- عيانا وهى في الأصل مصدر جهرت بالقراءة- استعير للمعاينة ونصبها على المصدر لانها نوع من الرؤية او الحال من الفاعل او المفعول به

[سورة البقرة (2) : آية 56]

فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ اى الموت وقيل نار جاءت من السماء فاحرقتهم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ينظر بعضكم الى بعض ما أصابكم بنفسه او اثره- فلما هلكوا جعل موسى عليه السلام يبكى ويتضرع ويقول ماذا أقول لبنى إسرائيل وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا- فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلا بعد رجل بعد ما ماتوا يوما وليلة ينظر بعضهم الى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم والبعث اثارة الشيء من محله مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قال قتادة أحياهم ليستوفوا بقية اجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا الى يوم القيامة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) نعمة البعث او ما كفرتموه لما رايتم بأس الله بالصاعقة-. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ الغمام من الغم أصله التغطية وهو يغطى وجه الشمس لما لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا الى موسى عليه السلام فارسل الله غما ما ابيض رقيقا أطيب من غمام المطر فظلّهم من الشمس- وجعل لهم عمدا من نور تضىء لهم بالليل إذا لم يكن قمر- وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ فى التيه قيل هو الخبز الرقاق- والأكثرون على انه الترنجبين وقال مجاهد هو شىء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد فقالوا يا موسى قتلنا هذا لمن بحلاوته فادع لنا ربك يطعمنا اللحم فانزله الله وَالسَّلْوى وهو طائر يشبه السمانى- وقيل هو السمانى بعث الله تعالى سحابة فمطرت السمانى في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض وكان ينزل المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر الى طلوع الشمس فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يومه وليلته فاذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين ولم يكن ينزل يوم السبت وقلنا لهم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلالات لذيذات ما رَزَقْناكُمْ ولا تدخروا لغد ففعلوا فقطع الله ذلك عنهم وفسد ما ادخروه- روى احمد والشيخان عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- لولا بنوا إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم- ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها- وَما ظَلَمُونا فيه اختصار وأصله فظلموا بكفران النعمة وما ظلمونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) باستيجابهم عذابى وقطع مادة الرزق الذي ينزل عليهم بلا مشقة في الدنيا ولا حساب في الاخرة-. وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ قال ابن عباس هى أريحا وهى قرية الجبارين كان

[سورة البقرة (2) : آية 59]

فيها بقية عاد يقال لهم العمالقه- وقال مجاهد بيت المقدس- وقيل ايليا وقيل الشام فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً- واسعا نصبه على المصدر او الحال من الواو اى موسعا عليكم- وَادْخُلُوا الْبابَ اى بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب سُجَّداً اى خضعا منحنين قال وهب اى إذا دخلتموه فاسجدوا لله شكرا- وَقُولُوا حِطَّةٌ اى مسئلتنا حطة اى تحط عنا خطايانا- قال ابن عباس قولوا لا الله الا الله لانها تحط الذنوب- نَغْفِرْ لَكُمْ من الغفر وهو الستر قرا نافع بالياء المضموم وفتح الفاء- وقرا ابن عامر بالتاء المضموم وفي الأعراف قرا كلاهما. ويعقوب بالتاء المضموم والباقون بالنون المفتوح وكسر الفاء فيهما خَطاياكُمْ أصله خطاىء على وزن ذبايح أبدلت الياء الزائدة همزة واجتمعت الهمزتان فابدلت الثانية ياء عند سيبويه وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء فصار خطاءى- وعلى التقديرين أبدلت الياء الفا وكانت الهمزة بين الفين فابدلت ياء- وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) ثوابا- جعل الامتثال ثوبته للمسىء وزيادة ثواب للمحسنين- أخرجه عن صورة الجواب إيهاما بان الامتثال يفعله المحسن البتة-. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ظاهر الاية تدل على ان بنى إسرائيل لم يبدّلوا كلهم ولذا لم يضمروا بل بدّل بعضهم بما أمروا به من التوبة والاستغفار طلب ما يشتهون من اعراض الدنيا- روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لبنى إسرائيل ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعيرة فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا- كرره مبالغة في تقبيح أمرهم واشعارا بان الانزال عليهم بسبب ظلمهم بوضع غير المأمور به في موضعه- وإتيانهم موجب هلاكهم- قلت ولعله لتخصيص ذلك العذاب بالذين ظلموا منهم دون سائرهم رِجْزاً عذابا اخرج ابن جرير عن ابن عباس كل شىء في القران من الرجز عنى به العذاب- والرجز فى الأصل ما يعاف عنه ويتنفر عنه الطبع وكذلك الرجس مِنَ السَّماءِ قيل أرسل عليهم طاعون فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون الفا- واخرج ابن جرير عن ابن زيد- الطاعون رجز نزل على من كان قبلكم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) اى يخرجون من امر الله تعالى-. وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ- لما عطشوا في التيه فسالوا موسى فَقُلْنَا اضْرِبْ

[سورة البقرة (2) : آية 61]

بِعَصاكَ وكانت من أس الجنة طولها عشرة اذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا حملها آدم من الجنة فتوارثت الأنبياء حتى وصلت الى شعيب فاعطاها موسى الْحَجَرَ اللام فيه للعهد قال ابن عباس كان حجرا مربعا مثل رأس الرجل كان يضعه في مخلاته- وقال عطاء- كان للحجر اربعة وجوه لكل وجه ثلث أعين لكل سبط عين- قال سعيد بن جبير هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه ليغتسل ففرّ بثوبه «1» ومر به على ملإ من بنى إسرائيل حين رموه بالادرة- فلما وقف أتاه جبرئيل فقال ان الله عزّ وجلّ يقول ارفع هذا الحجر فلى فيه قدرة ولك فيه معجزة- فرفعه ووضعه في مخلاته- وقصة فرار الحجر في الصحيحين وليس فيهما انه لما وقف أتاه جبرئيل الى آخره- واخرج عبد بن حميد عن قتادة انه كان حجرا من الطور يحملونه معهم- قيل كان الحجر من الرخام وقيل كان من الكدان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع كل حفرة عين ماء عذب فاذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء- وكان يسقى كل يوم ستمائة الف- او كان اللام للجنس كما قال وهب- انه لم يكن حجرا معينا بل كان موسى يضرب اىّ حجر كان فينفجر عيونا- قال عطاء- كان موسى يضربه ثنتى عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدى المرأة يعرق منه ثم ينفجر الأنهار ثم يسيل- فَانْفَجَرَتْ متعلق بمحذوف تقديره فان ضربت انفجرت او فضرب فانفجرت- قال اكثر المفسرين انفجرت- وانبجست بمعنى واحد وقال ابو عمرو انبجست عرقت وانفجرت سالت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً على عدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط مَشْرَبَهُمْ موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه- وقلنا لهم كُلُوا من المن والسلوى وَاشْرَبُوا من الماء فهذا كله مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الذي يأتيكم بلا مشقة وَلا تَعْثَوْا العثى أشد الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) حال مؤكدة وقال البيضاوي- انما قيد لان العثى وان غلب في الفساد فانه قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المتعدى بفعله- ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة- قلت ويمكن ان يراد بالعثى مطلق التبذير كما في حديث عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسرى وقيصر يعثيان فيما يعثيان فيه وأنت هكذا يعنى يبذّران المال تبذيرا- وحينئذ قوله تعالى مفسدين تقييد-. وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ يعنى ما رزقوا في التيه

_ (1) فى الأصل ثوبه-

من المن والسلوى وأرادوا بالواحد ما لا يتبدل ولا يتغير ألوانه فَادْعُ لَنا رَبَّكَ سله يُخْرِجْ لَنا مجزوم في جواب ادع مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من للتبعيض وأسند الفعل الى الأرض مجازا اقامة للقابل مقام الفاعل مِنْ بَقْلِها وهو ما أنبته الأرض من الخضر وَقِثَّائِها وَفُومِها قال ابن عباس الفوم الخبز وقال عطاء الحنطة وَعَدَسِها وَبَصَلِها الظرف بيان وقع موقع الحال وقيل بدل باعادة الجار قالَ لهم الله او موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى اخس واردا- واصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد في الشرف والرفعة بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعنى المن والسلوى فانه أفضل واشرف لكونه بلا تعب في الدنيا وحساب في الاخرة وانفع للبدن فان أبيتم الا ذلك فانزلوا من التيه واهْبِطُوا مِصْراً من الأمصار وقال الضحاك هو مصر فرعون وانصرف لسكون أوسطه- فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اى أحيطت بهم احاطة القبة بمن ضربت عليه او الصقت بهم من ضرب الطين على الحائط مجازاة لهم على كفران النعمة الذِّلَّةُ الهوان وَالْمَسْكَنَةُ اى الفقر فانه يقعد المرء عن الحركة ويسكنه فترى اليهود وان كانوا مياسير كانهم فقراء بلباس الذلة وقيل هى فقر القلب والحرص على المال وَباؤُ رجعوا ولا يستعمل الا في الشر بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ الغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بالإنجيل والقران وآيات التورية التي في نعت محمد صلى الله عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ قرا نافع بهمزة النّبيئين- والنّبىء- والأنبياء- والنّبوءة- وترك قالون الهمز في الأحزاب للنّبىّ ان أراد- وبيوت النّبىّ الّا ان يؤذن في الوصل خاصة بناء على أصله في الهمزتين المكسورتين- وإذا كان مهموزا فمعناه المخبر من أنبأ ينبئ ونبأ ينبىء والباقون بترك الهمز- فحينئذ ترك الهمزة اما ان يكون للتخفيف لكثرة الاستعمال او يكون معناه الرفيع من النّبوة وهى المكان المرتفع بِغَيْرِ الْحَقِّ- يعنى في اعتقادهم إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز القتل وانما حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا- وانما قلت ذلك لان قتل النبي لا يكون الا بغير الحق روى ان اليهود قتلت سبعين نبيا في يوم واحد أول النهار ذلِكَ اى الكفر والقتل وانما جاز الاشارة الى اثنين بالمفرد بتأويل ما ذكر والذي حسّن ذلك ان تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها ليست على الحقيقة ولذلك جاز الذي بمعنى الجمع بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) يعنى كثرة المعاصي والاعتداء

[سورة البقرة (2) : آية 62]

فيه افضاهم الى الكفر وقتل الأنبياء وقيل كرر الاشارة للدلالة على ان لحوق الغضب بهم كما هو بسبب الكفر كذلك بالمعاصي واعتداء حدود الله-. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم أعم من ان يؤمنوا بقلوبهم أو لم يؤمنوا فدخل فيهم المنافقون وَالَّذِينَ هادُوا اى تهوّدوا- يقال هاد إذا دخل في اليهودية ويهود اما عربى من هاد بمعنى تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل- او لقولهم انّا هدنا إليك واما معرّب يهودا سموا بذلك اسم اكبر أولاد يعقوب عليه السلام وَالنَّصارى جمع نصران كندمان والياء في النصراني للمبالغة كما في أحمري سموا بذلك لانهم نصروا المسيح او لانهم نزلوا مع المسيح في قرية يقال لها ناصرة او نصران- وَالصَّابِئِينَ قرا اهل المدينة بغير الهمزة والباقون بالهمزة وأصله الخروج يقال صبا فلان إذا خرج من دين الى اخر- وصبا ناب البعير إذا خرج- وهم خرجوا من كل دين- قال عمرو ابن عباس هم قوم من اهل الكتاب- فقال عمر يحل ذبائحهم وقال ابن عباس لا يحل ذبائحهم ولا مناكحتهم- وقال مجاهدهم قوم نحو الشام بين اليهود والمجوس من اهل الكتاب- وقال الكلبي هم بين اليهود والنصارى- وقال قتادة ... هم قوم يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلّون الى الكعبة أخذ ومن كل دين شيئا مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مع محمد صلى الله عليه وسلم بالقلب واللسان- وقيل المراد بالذين أمنوا المخلصين من امة محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل هم المؤمنون من الأمم الماضية- وقيل هم الذين أمنوا قبل البعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار- وقس بن ساعدة- وزيد بن عمرو بن نفيل- وورقة بن نوفل- والبراء الشنّى- وابى ذر الغفاري وسلمان الفارسي- وبحيرا الراهب- ووفد النجاشي فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه قال الخطيب الّذين أمنوا بإبراهيم عليه السلام وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الذين كانوا على دين موسى وعيسى قبل النسخ- وحينئذ المراد بمن أمن اى مات منهم على الايمان- قلت ويمكن ان يكون من أمن اشارة الى الذين «1» كمل ايمانهم بتصفية القلب وتزكية النفس والقالب وهم الصوفية- كما في قوله عليه السلام ... لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده والناس أجمعين- رواه الشيخان واحمد والنسائي وابن ماجة عن انس

_ (1) لكن يلفو حينئذ ذكر العمل الصالح لان كمال الايمان بتصفية لقلب وتزكية النفس والقالب ليس وراءه مرتبة يعز عنها بالعمل الصالح- قلت العمل الصالح لازم لتصفية القلب وتزكية النفس والقالب ومترتب عليه لاغيره قال عليه السلام ان في جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله فجاز العطف وذكر العمل الصالح- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 63]

مرفوعا- وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه. رواه الشيخان واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن انس- وحديث لا يبلغ العبد حقيقة الايمان- حتى يحزن من لسانه- رواه الطبراني وصححه- قال البغوي ويجوز ان يكون الواو مضمرة اى ومن أمن بعدك- وَعَمِلَ صالِحاً على حسب امر الله تعالى فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وعد لهم يعنى الجنة لجميع المؤمنين ومراتب القرب والتسنيم وعينا يشرب بها المقربون الكاملين وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضيع العمر وتفويت الدرجات ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم والجملة خبر انّ- او بدل من اسم ان وخبره فلهم أجرهم- والفاء لتضمن المسند اليه معنى الشرط ومنع سيبويه دخولها في خبر ان- ورد بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ باتباع موسى والعمل بالتورية وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وهو الجبل بالسريانية- قال البغوي وذلك ان الله تعالى انزل التورية على موسى عليه السلام فامر موسى قومه ان يقبلوها ويعملو باحكامها فابوا ان يقبلوها للاصار والاغلال التي فيها وكانت شريعة ثقيلة فامر الله تعالى جبرئيل فقلع جبلا على قدر عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ فرفعه فوق رءوسهم مقدار قامة الرجل كالظلة وقال لهم ان لم تقبلوا التورية أرسلت هذا الجيل عليكم- كذا اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس وقال عطاء عن ابن عباس رفع الله فوق رءوسهم الطور وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلقهم انتهى- وقلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التورية بِقُوَّةٍ بجد واجتهاد وَاذْكُرُوا وادرسوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) لكى تتقوا المعاصي- او رجاء منكم ان تكونوا متقين- او لكى تتقوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في الاخرة- فلما راوا ان لا مهرب قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود- فصارت سنة في اليهود يسجدون على انصاف وجوههم ويقولون بهذا السجود رفع العذاب عنا. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، يعنى بالامهال وتأخير العذاب- ويمكن ان يراد لولا فضل الله عليكم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعله رحمة للعالمين

[سورة البقرة (2) : آية 65]

فبوجوده صلى الله عليه وسلم أمهل الكفار واخر عنهم العذاب ورفع عنهم الخسف والمسخ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) المغبونين المعذبين في الحال كما كنتم معذبين الهالكين بوقوع الطور لو لم تقبلوا حكم الله حينئذ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام موطية للقسم- والسبت في الأصل القطع لان الله تعالى قطع فيها الخلق- او لان اليهود أمروا بقطع الأعمال فيه والتجرد للعبادة والقصة انهم كانوا زمن داود عليه السلام نحوا من سبعين «1» الفا بأرض حاضر البحر يقال لها ايلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت وابتلاهم بانه إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر الا اجتمع هناك يخرجون خراطيمهم من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها- ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فاحتالوا للصيد وحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول فاذا كان يوم السبت اقبل الموج بالحيتان الى الحياض فلا يقدرن على الخروج منها لبعد عمقها وقلة مائها فيصطادون يوم الأحد- وقيل كانوا ينصبون الحبائل والشصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد- وصار اهل القرية ثلثة اصناف صنف امسك ونهى وصنف امسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة- وكان الناهون اثنى عشر الفا فلما ابى المجرمون قبول نصحهم لعنهم داود وغضب الله عليهم فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا امر تكوين قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) باعدين مطرودين. فَجَعَلْناها اى تلك العقوبة نَكالًا عبرة تنكل اى تمنع المعتبر ومنه النكل للقيد لِما بَيْنَ يَدَيْها اى لمعاصريهم وَما خَلْفَها اى من بعدهم فما بمعنى من او لاجل ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر- وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناها وما خلفها اى ما أعد لهم من العذاب في الاخرة نكالا لمّا بين يديها من ذنوبهم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) للمؤمنين من امة محمد صلى الله عليه وسلم. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أول هذه القصة قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها- وانما قدمت عليه ليدل بالاستقلال على نوع اخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة الى الامتثال- والقصة انه كان في بنى إسرائيل رجل غنىّ اسمه عاميل وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال له موته قتله ليرثه وحمله

_ (1) فى الأصل الف

الى قرية اخرى وألقاه بفنائهم- ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس يدّعى عليهم القتل- فسالهم موسى عليه السلام فجحدوا فاشتبه الأمر على موسى فسالوه ليبين لهم بدعائه فقال موسى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً- مأخوذ من البقر بمعنى الشق وهى تبقر الأرض للحراثة قالُوا استبعادا لما قاله واستخفافا به أَتَتَّخِذُنا هُزُواً مصدر بمعنى المفعول اى مهزوّا بنا- او حمل مبالغة او بحذف المضاف اى اهل هزو- قرا حفص هزوا- وكفوا بضم الزاء والفاء من غير همز- وحمزة بإسكان الزاء والفاء «1» وبالهمز وصلا فاذا وقف أبدل الهمزة واوا على أصله «2» والباقون بالضم والهمزة- قالَ موسى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) فان الاستهزاء والجواب لا على وفق السؤال من عادة الجهال- نفى عن نفسه ما رمى به على طريقة البرهان واخرج فى صورة الاستعاذة استعظاما له- فلما علم القوم ان ذبح البقرة عزم من الله عز وجل وكان حصول المقصود من ذبح البقرة مستبعدا عندهم وزعموا انها بقرة عظيمة الشأن فاستوصفوها ولم يكن ذلك الا لفرط حماقتهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ذبحوا اى بقرة أرادوا لاجزتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم- رواه سعيد بن منصور عن عكرمة مرسلا وأخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا وكان لله تعالى فيه حكمة- وذلك انه كان في بنى إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل اتى بها الى غيضة وقال اللهم انى استودعك هذه العجل لابنى حتى يكبر ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا وكانت تهرب من كل من راها- فلما كبر الابن كان بارا بوالدته وكان يقسّم الليلة ثلاثة أثلاث يصلى ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس امه ثلثا فاذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتى به الى السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطى والدته ثلثه فقالت له امه يوما ان أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق فادع الله ابراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام ان يردها عليك وعلامتها انك إذا نظرت إليها تخيل إليك ان شعاع الشمس يخرج من جلدها- وكانت تلك البقرة تسمّى المذهّبة لحسنها وصفرتها- فاتى الفتى الغيضة فراها ترعى فصاح بها وقال اعزم عليك باله ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب- فاقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها- فتكلمت بإذن الله تعالى وقالت ايها الفتى البار

_ (1) قرأ يعقوب ايضا كفؤا بإسكان الفاء- ابو محمد (2) اصل الحمزة في أمثاله النقل وإسقاط الهمزة- ابو محمد

[سورة البقرة (2) : آية 68]

بوالدته اركبنى فان ذلك أهون عليك- فقال الفتى ان أمي لم تأمرنى ولكن قالت خذ بعنقها- فقالت البقرة باله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر علىّ ابدا فانطلق فانك لو أمرت الجبل ان ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بامك- فسار الفتى الى امه فقالت له انك فقير لا مال لك وشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة- قال بكم أبيعها- قالت- بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتى- وكانت ثمن البقرة ثلثة دنانير- فانطلق بها الى السوق فبعث الله ملكا ليرى خلقه قدرته وليختبر كيف بره بامه وكان به خبيرا فقال الملك- بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي- فقال له الملك خذ ستة دنانير ولا تستأمر والدتك- فقال الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم أخذ الا برضا أمي فردها الى امه وأخبرها فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضى منى- فانطلق بها الى السوق واتى الملك فقال استأمرت أمك- فقال الفتى انها أمرتني ان لا أنقصها من ستة على ان استأمرها- فقال الملك انى أعطيك اثنى عشر على ان لا تستأمرها- فابى الفتى ورجع الى امه وأخبرها بذلك- فقالت ان الذي يأتيك ملك يأتى في صورة آدمي ليختبرك فاذا اتى فقل له أتأمرنا ان نبيع هذه البقرة أم لا- ففعل- فقال له الملك اذهب الى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فان موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منكم لقتيل يقتل في بنى إسرائيل فلا تبيعوها الا بملا مسكها دنانير- فامسكوها وقدر الله تعالى على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها- فما زالوا يستوصفون حتى وصف لهم تلك مكافاة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة- فذلك قوله تعالى. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اى ما حالها- كان حقه ان يقول اى بقرة- او كيف هى لان السؤال بما يكون عن الجنس غالبا لكنهم لما راوا ظهور القتل بذبح اىّ فرد من جنس البقرة مستبعدا وزعموا انها بائنة عن سائر البقرات بونا بعيدا حتى يكون كانه جنس اخر أجروه مجرى ما لا يعرفون حقيقته- قالَ موسى إِنَّهُ اى الشأن يَقُولُ يعنى الله تعالى إِنَّها اى البقرة المأمور بها- فان قيل عود الضمر إليها تدل على ان المراد من أول الأمر كانت بقرة معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب- قلت تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز- وانما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة- وايضا عود الضمير إليها لا يدل على ان المراد كان من أول الأمر ذلك- كيف والمطلقة تدل على الإطلاق ولا دليل هناك على التقييد ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ذبحوا اىّ بقرة اجزتهم

[سورة البقرة (2) : آية 69]

لكن يدل على جواز تقييد المطلق المأمور به بعد ما كان جاريا على إطلاقه ويكون التقييد في حكم النسخ ان كان متراخيا كما في ما نحن فيه ويجوز النسخ قبل إتيان المأمور به كما في خمسين صلوة وجبت ليلة الاسراء ويكون تخصيصا ان لم يكن متراخيا كما في قوله تعالى فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في قراءة الجمهور في كفارة اليمين- وثلثة ايّام متتابعات في قراءة ابن مسعود رضى الله عنه- ولذلك ذهب ابو حنيفة الى ان المطلق لا يجوز حمله على المقيد ان كانتا في حادثتين كما في قوله تعالى تحرير رقبة في كفارة الظهار ورقبة مؤمنة في كفارة القتل- وكذا ان كانا فى حادثة واحدة وكان الإطلاق والتقييد في السبب نحو قوله صلى الله عليه وسلم أدوا عن كل حر وعبد وفي حديث اخر أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين- فعندنا يجب صدقة الفطر عن عبد مسلم بالحديثين جميعا وعن عبد كافر بالحديث الاول فقط لكن ان كانا في الحكم والحادثة الواحدة «1» يحمل المطلق على المقيد البتة إذ لا سبيل الى الجمع بينهما الا به والمطلق يحتمل التقييد ولذا قلنا بوجوب التتابع في صيام الكفارة في اليمين- روى ابن جرير عن ابى هريرة انه لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قال عكاشة بن محصن أكل عام فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلثا فقال لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم- وهذا يدل على ان المطلق يحتمل التقييد بَقَرَةٌ لا فارِضٌ مسنة لا تلد يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض بمعنى القطع كانها انقطعت سنها وَلا بِكْرٌ صغيرة لم تلد قط وتركيب البكر للاولية ومنه الباكورة وحذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض- عَوانٌ اى نصف قال الأخفش العوان التي نتجت مرارا يقال عونت المرأة إذا زادت على الثلثين- بَيْنَ ذلِكَ اى ما ذكر من الفارض والبكر فانه يضاف الى متعدد فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) اى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به او أمركم اى مأموركم- وفيه حث الى المسارعة فى الامتثال وتوبيخ على تكرار السؤال. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها- فاقع تأكيد لصفرة لونها مرفوع على الفاعلية قال ابن عباس شديد الصفرة وقال الحسن الصفراء السوداء- وليس بشىء فان الفقوع خلوص الصفرة ولذلك يؤكد به فيقال اصفر فاقع كما يقال اسود حالك- واحمر قانى- واخضر ناضر وابيض تقق للمبالغة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) إليها «2» - اى تعجبهم والسرور لذة في القلب عند حصول نفع او توقعه. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ تكرير للسوال الاول واستكشاف

_ (1) فى الأصل واحدة- (2) فى الأصل إليهم

[سورة البقرة (2) : آية 71]

زائد وقوله إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا اعتذار عنه اى البقرة الموصوفة بما ذكر كثيرة فاشتبه علينا ما يحصل به مقصودنا ولم يقل تشابهت لتذكير لفظ البقر وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) الى ذبحها او الى القاتل واحتج به أصحابنا على ان الحوادث بارادة الله تعالى والمعتزلة والكرامية على حدوث الارادة وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يستثنوا لما بينت لهم اخر الابد- رواه البغوي عن ابى هريرة وأخرجه ابن جرير معضلا. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ اى غير مذللة بالعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ لا زائدة والفعلان صفتا ذلول يعنى لا ذلول مثيرة وساقية مُسَلَّمَةٌ سلمها الله تعالى من العيوب او أهلها من العمل لا شِيَةَ فِيها اى لون يخالف لون جلدها- وهى في الأصل مصدر على وزن عدة من وشى يشى وشيا وشية فهو واش إذا خلط بلونه لونا اخر قال الجزري الوشي النقش قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ اى بحقيقة وصف البقرة وتمام بيانها- وطلبوها بكمال أوصافها فلم يجدوها الا مع الفتى فاشتروها بملا مسكها ذهبا فَذَبَحُوها فيه اختصار تقديره فحصلوا البقرة فذبحوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) لكثرة مراجعاتهم او لاختلافهم فيما بينهم او لخوف الفضيحة في ظهور القاتل او لعدم وجدانها بتلك الصفات او لغلاء ثمنها. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هذا أول القصة فَادَّارَأْتُمْ فِيها اى تدارأتم وتدافعتم يحيل بعضكم على بعض ويدفع عن نفسه وَاللَّهُ مُخْرِجٌ اى مظهر اعمل لانه حكاية مستقبل كما أعمل باسط ذراعيه لانه حكاية حال ماضية ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فان القاتل يكتم القتل. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ عطف على ادّارءتم وبينهما اعتراض والضمير المنفس بتأويل الشخص بِبَعْضِها اى ببعض البقرة اىّ بعض كان وفيه اختصار تقديره فضرب فحيى قال ابن عباس- ضربوه بالعظم الذي يلى الغضروف وهو المقتل- وقيل بعجب الذنب وقيل بلسانها وقيل بفخذه الايمن فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما وقال قتلنى فلان- ثم سقط ميتا فحرم قاتله الميراث وفي الحديث ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة كَذلِكَ مثل احياء ذلك القتيل يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى خطاب لمن حضر حيوة القتيل او نزول الاية والظاهر هو الاول بدليل قوله وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

[سورة البقرة (2) : آية 74]

ايها الحمقاء من بنى إسرائيل فان القادر على احياء نفس قادر على احياء الأنفس كلها- ولعله تعالى انما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما جرى عادته تعالى في الدنيا بتعليق الأشياء بالأسباب الظاهرة ولما فيه من التقرب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على ان من حق الطالب ان يقرب قربة- والمتقرب ينبغى ان يتحرى الأحسن ويغالى في ثمنه اخرج ابو داود عن عمر رضى الله عنه انه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة والمراد به خروج الرحمة واللين والخير عن قلوبهم ويترتب عليه طول الأمل ونسيان الذكر واتباع الشهوات وكلمة ثم لاستبعاد القسوة بعد موجبات الرقة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعنى احياء القتيل او جميع ما عد من الآيات قال الكلبي قالوا بعد ذلك نحن لم نقتله فَهِيَ فى القساوة كَالْحِجارَةِ أَوْ بل هى أَشَدُّ أزيد منها قَسْوَةً او انها مثلها بل مثل ما هو أشد منها قسوة فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه- وفي أشد من المبالغة في القساوة ما ليس في أقسى- ويكون او للتخيير في التشبيه او للترديد بمعنى من عرف حالها شبهها بالحجارة او بما هو أقسى منها وترك ضمير المنفصل عليه لعدم اللبس- وانما ذكر الحجارة دون الحديد والنحاس لان الحديد ونحوها تلين بالنار دون الحجارة ثم بين وجه الخير في الحجارة دون القلب القاسي فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ يعنى عيونا دون الأنهار فينتفع بها عباد الله بخلاف قلوب الكفار حيث لا منفعة فيها أصلا وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقلوبكم لا تلين ولا تخشع- فان قيل الحجر جماد فكيف يتصور منه الخشية قال البيضاوي الخشية مجاز عن انقيادها للاوامر التكوينية- قلت وهذا ليس بشىء فان الانقياد للاوامر التكوينية موجود في قلوب الكفار ايضا قال الله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ- فهم انقادوا للختم وقال- وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً- وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك- رواه مسلم- والتحقيق ما قال البغوي ان مذهب اهل السنة والجماعة ان لله تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره- فلها صلوة وتسبيح وخشية قال الله تعالى- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا

[سورة البقرة (2) : آية 75]

يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ - وقال- وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ- وقد مر الكلام في هذا الباب في ذكر عذاب القبر في تفسير قوله تعالى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ قال البغوي روى ان النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عنى فانى أخاف ان تؤخذ على فيعاقبنى الله تعالى بذلك- وقال له جبل حراء الىّ الىّ يا رسول الله وروى البغوي بسنده عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ قبل ان ابعث وانى لا عرفه الان هذا حديث صحيح أخرجه مسلم- قال وصح عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه- وعن ابى هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم اقبل على الناس بوجهه فقال بينا رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت انا لم نخلق لهذا انما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانى او من به وابو بكر وعمرو ماهما ثم- وقال بينا رجل في غنم له إذ عدا الذئب على الشاة منها فادركها صاحبها فاستنقذها فقال الذئب فمن لها يوم السبع يوم لا راعى لها غيرى فقال الناس سبحان الله ذئب تتكلم فقال او من به وابو بكر وعمر وما هما ثم متفق عليه وصح عن ابى هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء وابو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهدأ فما عليك الا نبى او صديق او شهيد أخرجه مسلم- وروى بسنده عن على قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر فلم نمر بشجرة ولا جبل الا قال السلام عليك يا رسول الله- وروى بسنده عن جابر بن عبد الله يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم استند الى جذع نخلة من سوارى المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية تحن كحنين الناقة حتى سمعها اهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت- وقال قال ... مجاهد لا ينزل الحجر من أعلى الى أسفل الا من خشية الله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) وعيد قرا ابن كثير يعملون بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية. أَفَتَطْمَعُونَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أَنْ يُؤْمِنُوا يعنى اليهود لَكُمْ اى لاجل دعوتكم او يصدقوكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يعنى التورية ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ اى فهموه بلا ريب

[سورة البقرة (2) : آية 76]

كنعت محمد صلى الله عليه وسلم واية الرجم وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) انهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة- وعكرمة- والسدى وجماعة او المراد قد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه وهذا ما قال ابن عباس انها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه فهم لمّا رجعوا بعد ما سمعوا كلام الله الى قومهم فاما الصادقون منهم فادوا كما سمعوا وقالت طائفة منهم سمعنا يقول في اخر كلامه ان استطعتم ان تفعلوا فافعلوا وان شئتم فلا تفعلوا فهذا تحريفهم وهم يعلمون انه الحق. وَإِذا لَقُوا يعنى من اليهود الذين كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وقد مر ذكرهم من قبل الَّذِينَ آمَنُوا من اهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم قالُوا آمَنَّا يعنى صدقنا في أنفسنا بان رسولكم هو المبشر به في التورية فاتبعوه وأمنوا به- وقال ابن عباس المراد بهم المنافقون من اليهود وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كايمانكم وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الى كعب بن الأشرف ووهب بن يهود او غيرهم من رؤساء اليهود لاموهم على ذلك وقالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وعلمه وبيّنه في التورية لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة انهم كانوا يعلمون بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ويأمروننا باتباعه ومع ذلك كفروا به علانية او سرّا- وأشار البيضاوي الى البحث في هذا التقرير وقال وقيل عند ربّكم في القيامة وفيه نظر إذا لا خفاء لا يدفعها- قلت نعم الإخفاء لا يدفعها لكنهم لكمال حماقتهم قالوا هذا كما قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مع ادعائهم بانزال التورية على موسى- وقد مر في قصصهم من أقوالهم وأفعالهم بعد ما راووا الآيات البينات من موسى عليه السلام ما لا يقولها إلّا مجنون- وكما ان اصحاب الصيب يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ مع ان جعلهم الأصابع في الاذان لا يجديهم من الصواعق شيئا ويؤيد هذا التفسير تذئيل الاية أَفَلا تَعْقِلُونَ والاية الذي بعده- او المراد لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ اى ليحتج اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عليكم بما انزل ربكم في كتابه جعل محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده مجازا- كما يقال عند الله كذا ويراد به في كتابه وحكمه كذا- او كان بحذف المضاف اى عند كتاب ربكم- او عند رسول ربكم- وارتضى البيضاوي هذه التأويلات- وحمل الاية على مقال المنافقين دون من يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم من المجهرين بالكفر قلت وهذه التأويلات مع ما فيها

[سورة البقرة (2) : آية 77]

من التكلفات مشكلة لان احتجاج المؤمنين على المنافقين لا يتصور في الدنيا فانهم مستسلمون فى الظاهر لا يتصور معهم الخصومة الا في الاخرة- وقيل انهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله على الجنايات فقال بعضهم لبعض أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اى بما انزل الله عليكم من العذاب نظيره قوله تعالى لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ اى أنزلنا عليهم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ اى ليرووا الكرامة لانفسهم عليكم عند ربكم قال الله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ (86) ايها الحمقاء من اليهود ان احتجاج المؤمنين عليكم عند الله لا يتوقف على تحديثكم به في الدنيا- او خطاب للمؤمنين متصل بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ او كان من تمام كلام اللائمين وتقديره أَفَلا تَعْقِلُونَ انهم يحاجوكم. أَوَلا يَعْلَمُونَ هؤلاء اللائمين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) فاخفاؤهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنهم الاحتجاج- ويحتمل ان يكون ضمير يعلمون الى المنافقين فان نفاقهم وان كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لا يعلمونه فا الله يعلمه ويجازيهم عليه- او الى اليهود أجمعين فان الله تعالى يعلم اسرار بعضهم بالكفر وإعلان بعضهم وإخفاء نعت محمد صلى الله عليه وسلم وتحريف الكلم وسائر ما يعملون من موجبات غضب الله وعذابه في السر والعلانية. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ اى جهاتهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ التورية إِلَّا أَمانِيَّ استثناء منقطع- والأماني جمع امنية وهى في الأصل ما يقدّره الإنسان في نفسه من منىّ والمراد الأكاذيب التي افتروها أحبارهم كذا قال مجاهد وقتادة- قال الفراء الأماني الأحاديث المفتعلة ومنه قول عثمان رضى الله عنه ما تمنيت منذ أسلمت اى ما كذبت- او المراد الّا ما تمناه أنفسهم من غير حجة مثل قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى - وقولهم- لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ كذا قال الحسن وابو العالية- او المراد به الا ما يقرءون الكتاب بألسنتهم غير عارفين بمعاني الكتاب منه قوله تعالى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ كذا قال ابن عباس- قرا ابو جعفر أماني بتخفيف الياء في كل القران والباقون بالتشديد وَإِنْ هُمْ ما هم إِلَّا قوم يَظُنُّونَ (88) بالتقليد لا علم عندهم. فَوَيْلٌ اى تحسر وهلك قال الزجاج ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة- وقال ابن عباس شدة العذاب- وقال سعيد بن المسيب ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال جهنم لانماغت ولذابت من شده حره- وروى البغوي بسنده عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

[سورة البقرة (2) : آية 80]

الويل «1» واد في جهنم يهوى به الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره والصعود جبل من تار جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فهو كذلك «2» لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرف بِأَيْدِيهِمْ تأكيد كقوله كتبته بيمينى- ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا عرضا من اعراض الدنيا فانه وان جل فهو قليل بالنسبة الى ما استوجبوه من العذاب- وذلك ان أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم فعمدوا الى صفته في التورية وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر اكحل العينين ربعة- تغيروها وكتبوا طوال ازرق سبط الشعر- فاذا سالهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوه فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرف وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ () من المال والأعمال. وَقالُوا اى اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً- المس إيصال الشيء بالبشرة بحيث يتاثر به الحاسة- قال ابن عباس كانت اليهود يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وانما نعذب بكل الف سنة يوما- وقال قتادة وعطاء يعنون أربعين يوما التي عبد فيها اباؤهم العجل- وقال الحسن وابو العالية قالوا ان ربّنا عتب علينا في امر فاقسم ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار الا أربعين يوما تحلة القسم- فقال الله تعالى لتكذيبهم قُلْ يا محمد أَتَّخَذْتُمْ استفهام انكار- قرا ابن كثير وحفص بإظهار الذال في اتخذتم وأخذتم وما كان مثله من لفظه وادغم الباقون عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً عهده إليكم ان لا يعذب الا هذا المقدار فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ جواب شرط محذوف اى ان اتخذتم عهدا فلن يخلف- وفيه دليل على ان الخلف في وعد الله محال وانه من الرذائل قال ابن مسعود عهدا بالتوحيد يدل عليه الا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعنى قول لا الله الا الله يعنى ما قلتم الا اله الا الله حتى يكون لكم عند الله عهدا أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ () كذبا- أم يحتمل ان تكون متصلة ومنقطعة. بَلى اثبات لما نفوه من مساس النار زمانا طويلا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً معصية والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على سبيل التهكم نحو فبشّرهم بعذاب اليم وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ اى استولت عليه وشملت جملة أطرافه حتى صار كالمحاط بها لا يخلوا عنها شىء من جوانبه- فهذا لا يصدق الا على الكفار لا على من في قلبه

_ (1) اخرج الترمذي وغيره بسند حسن عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره- منه رحمه الله (2) في الأصل الويل في جهنم.

وزن ذرة من ايمان ومن ثم قال ابن عباس والضحاك وابو العالية والربيع وجماعة هى الشرك الذي يموت عليه صاحبه- فلا يصح للمعتزلة والخوارج الاحتجاج بها على ادعاء خلود مرتكب الكبيرة النار- قرا اهل المدينة خطيئته بالجمع والباقون بالإفراد- وقرا حمزة في الوقف بابدال الهمزة ياء والإدغام وكذلك كلما تحركت الهمزة المتوسط وما قبلها ياء ساكنة زائدة نحو هنيئا- مريئا- بريؤن- خطيئة- خطيئتكم وشبهها- واما إذا كان قبلها ساكن «1» غيرها حركتها ان لم يكن الفا بحركة الهمزة وألقيت الهمزة نحو شيئا وخطئا- والمشئمة- وتجئرون ويسئلون- وسئل- والظّمان- والقرءان- ومذءوما ومسئولا وسيئت والموءودة- وان كان الساكن الفا سواء كانت مبدلة او زائدة جعلت الهمزة بعدها بين بين وأنت مخير في مد الالف وقصرها نحو نسائكم- وابنائكم وماء وغثآء- وسواء- وآباؤكم- وهاؤم اقرءوا ومن آبائهم- وملئكته- وإذا كان قبل الهمزة متحركا فانفتحت وانكسر ما قبلها او انضم أبدلتها مع الكسرة ياء ومع الضمة واوا نحو ننشئكم- وانّ شانئك ولؤلؤا ويؤدّه- والا جعلتها بين بين ما لم يكن صورتها ياء نحو انبّئكم وسنقرئك فانك تبدلها ياء مضمومة واما إذا كانت الهمزة توسطت ساكنة فهى تبدل حرفا خالصا حال تسهيلها نحو المؤمنون ويؤفكون والرّؤيا- فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها في الاخرة كما انهم ملازموا أسبابها في الدنيا هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا فى التورية مِيثاقَ العهد الشديد بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قرا ابن كثير وحمزة والكسائي لا يعبدون بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب- وهذا اخبار في معنى النهى كقوله تعالى لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فحسن عطف أحسنوا وقولوا عليه- وقال البغوي معناه ان لا تعبدوا فلما حذف ان صار الفعل مرفوعا وعلى هذا بدل من الميثاق او معمول له بحذف الجار- قرا أبيّ بن كعب لا تعبدوا على النهى- وقيل انه جواب قسم دل عليه المعنى تقديره حلّفناهم لا يعبدون- وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلق بمحذوف اى تحسنون بالوالدين او أحسنوا بالوالدين ويكون معطوفا على لا تعبدون- او ووصيناهم بالوالدين إحسانا فيكون معطوفا على أخذنا- والإحسان بهما البر بهما والعطف عليهما وامتثال أمرهما ما لم يخالف امر الله تعالى- وَذِي الْقُرْبى عطف على الوالدين والقربى كالحسنى مصدر وَالْيَتامى جمع يتيم وهو الطفل الّذى لا اب له وَالْمَساكِينِ

_ (1) فى الأصل ساكنا

[سورة البقرة (2) : آية 84]

جمع مسكين مفعيل من السكون كانّ الفقر المسكنة والإحسان بهم الرحمة عليهم وأداء حقوقهم وَقُولُوا لِلنَّاسِ معطوف على أحسنوا او تقديره قلنا لهم قولوا عطفا على أخذنا حُسْناً اى قولا حسنا قرا حمزة والكسائي ويعقوب حسنا بفتح الحاء والسين على انه صفة والباقون على المصدر والحمل على المبالغة كزيد عدل- وهذا شامل لكل كلام محمود خبر صادق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبيان صفته كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيره او امر بمعروف ونهى عن منكر كما قال الثوري او قول لين في المعاشرات او شهادة بحق او غير ذلك مما يثاب عليه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن العهد فيه التفات عن الغيبة الى الخطاب خاطب به الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يعنى الذين أمنوا منهم كعبد الله بن سلام وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) اى قوم عادتهم الاعراض عن وفاء العهود والمعنى ثم تولّت آباؤكم الا قليلا منهم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه وأسند الفعل اليه وحينئذ المعنى وأنتم معرضون كاعراض ابائكم. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق من لا تعبدون اى لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والاجلاء وانما جعل قتل الرجل او إخراجه غيره قتل نفسه وإخراجه لاتصاله نسبا ودينا كذا يطلقون في محاوراتهم وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم وقيل معنى لا تخرجوا لا تسيؤا في الجوار فتلجؤهم بسوء جواركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بهذا العهد وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) على أنفسكم بالميثاق فهو تأكيد- او المعنى وأنتم ايها الموجودون تشهدون على اقرار اسلافكم فحينئذ أسند الإقرار إليهم مجازا-. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق أنتم مبتدأ وهؤلاء خبره والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون كقولك أنت ذلك الرجل الّذى فعل كذا- نزّل تغيير الصفة منزلة تغيير الذات والجملة بعده حال والعامل فيه معنى الاشارة- او بيان لجملة أنتم هؤلاء او يقال أنتم مبتدأ وهؤلاء تأكيد والخبر الجملة بعده او يقال هؤلاء بمعنى الذي والجملة صلته والمجموع خبر أنتم او يقال أنتم يا هؤلاء تقتلون تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قرا عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء بحذف تاء التفاعل وكذا في التحريم والباقون بالإدغام بين التاء من التاءين

والظاء- والتظاهر التعاون من الظهر حال من فاعل يخرجون او مفعوله او كليهما وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى قرا حمزة اسرى وكلاهما جمع أسير تُفادُوهُمْ اى تبادلوهم بمعنى مفاداة الأسير بالأسير وقرا ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحمزة وابو جعفر «1» تفدوهم بفتح التاء اى بالمال وتنقذوهم وقيل معنى القراءتين واحد قال السدّى ان الله تعالى أخذ على بنى إسرائيل في التورية ان لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد وامة وجدتموهم من بنى إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه- فكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج وكانوا يقتتلون في حرب سمين فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم النضير وحلفاءهم- وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم منها- وإذا اسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وان كان الأسير من عدوهم فتعيرهم العرب ويقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم- قالوا انا أمرنا ان نفديهم فيقولون فلم تقاتلونهم قالوا انا نستحيى ان يستذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى بقوله تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ الاية فهم خالفوا في ثلثة من الاحكام ترك القتل والإخراج والمظاهرة وأخذوا واحدا اى الافداء وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ الضمير للشان او راجع الى ما دل عليه يخرجون من المصدر- او الى محذوف تقديره وان يأتوكم اسرى تفدوهم مع ما صدر منكم إخراجهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ- وعلى التقديرين إخراجهم تأكيد- او الضمير مبهم يفسره قوله تعالى إِخْراجُهُمْ ووجه اتصال هذه الجملة بما سبق انهم حين انقيادهم للحكم بالافداء ارتكبوا المحرم وهو الإخراج فطاعتهم لا يخلو عن المعصية فضلا عن معصيتهم الخالصة- وبهذا يظهر وجه تخصيص تحريم الإخراج بالاعادة دون تحريم القتل وقال البيضاوي ان الجملة متعلق بقوله تعالى تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ وما بينهما اعتراض وحينئذ لا يظهر وجه تخصيص ذكر تحريم الإخراج والله اعلم أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يعنى وجوب الفداء وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ يعنى حرمة القتل والإخراج- قال مجاهد يقول ان وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ اى الايمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض مِنْكُمْ يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ عذاب وهو ان واصل الخزي ذل يستحيى منه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزى قريظة القتل والسبي وخزى النضير الاجلاء الى أذرعات وأريحا وضرب الجزية هناك عليهم وعلى غيرهم- وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ اى النار المخلد وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) قرا ابن كثير ونافع

_ (1) قرأ ابو جعفر كالنافع فعده مع ابن كثير وغيره لعله من الناسخ او من سباق قلم- ابو محمد

[سورة البقرة (2) : آية 86]

وابو بكر بالغيبة على ان الضمير لمن والباقون بالخطاب. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ يهون عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) لا يمنعون من عذاب الله-. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ اى أرسلنا قفاه رسلا تترى فقوله من بعده تأكيد لمعنى قفينا لتضمنه معنى البعدية يعنى يوشع واشموئيل وشمعون وداؤد وسليمان وأيوب وشعيا وارميا وعزيرا «1» وحزقيل- واليسع- يونس وزكريا- ويحيى والياس وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين-. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الدلالات الواضحات من إبراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وغير ذلك او المراد الإنجيل وَأَيَّدْناهُ قويناه- بِرُوحِ الْقُدُسِ قرا ابن كثير بسكون الدال والآخرون بضمها- والمراد بالروح جبرئيل- او الروح الذي نفخ في عيسى- والقدس الطهارة مصدر بمعنى الفاعل اى الطاهر- وهو الله تعالى اضافه الى نفسه تكريما- نحو بيت الله وناقة الله نظيره فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا- او الاضافة على طريقة حاتم الجود فيكون الطهارة في المعنى صفة للروح وطهارة جبرئيل وعيسى لاجل عصمتهما ولطهارة عيسى عن مس الشيطان عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها- متفق عليه ولانه لم يشتمل عليه أصلاب الفحول ولا أرحام الطوامث- وتائيد عيسى بجبرئيل انه امر ان يسير معه حيث سار حتى صعد به الى السماء- وقيل المراد بالروح اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يحيى به الموتى ويرى الناس العجائب وقيل المراد به الإنجيل نظيره أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا- فان كتاب الله تعالى سبب لحيوة القلوب وعلى هذين التأويلين اضافة الروح الى الله وتوصيفه بالطهارة ظاهرة- قال البغوي فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت- فأتنا بما اتى به عيسى ان كنت صادقا فقال الله تعالى أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اى بما لا تحبه يقال هوى بالكسر إذا أحب وبالفتح إذا سقط معطوف على الجمل السابقة- ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا

_ (1) فى الأصل عزير

من شأنهم- ويحتمل ان يكون استينافا والفاء للعطف على مقدر كانّ السائل يقول فما فعلوا بهم فاجاب فكفروا بهم وقال توبيخا أكفرتم بهم فكلما جاءكم الاية اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الايمان واتباع الرسل فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى ومحمد وغيرهما عليهم الصلوات والسلام والفاء للسببية او للتفصيل- وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) اى قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم ذكر بلفظ المضارع على حكايت الحال الماضية استحضارا لها في النفوس فان الأمر فظيع ومراعاة للفواصل وللدلالة على انكم تريدون قتل محمد عليه السلام حيث سحرتموه وتقاتلونه لكى تقتلوه- عن عائشة قالت- سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انه ليخيل اليه انه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم عندى دعا الله ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة ان الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته جاءنى رجلان جلس أحدهما عند رأسى والاخر عند رجلى ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال فيما ذا قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال فاين هو قال في بئر ذروان- فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه الى البئر فقال هذه البئر التي أريتها- وكان ماؤها نقاعة الحناء وكان نخلها رؤس الشياطين فاستخرجه- متفق عليه قلت ويجوز ان يكون تقتلون بمعناه الاستقبالى اى وفريقا تقتلون في المستقبل يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم فانه مات شهيد الاجل الشاة المسمومة التي أهدتها يهودية من اهل خيبر وحينئذ يكون ذكر من مضى قتلهم من الأنبياء متروكا- او مقدرا تقديره وفريقا قتلتم وفريقا تقتلون- عن جابر رضى الله عنه- ان يهودية من اهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فاكل منها وأكل رهط من أصحابه معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا ايديكم وأرسل الى اليهودية فدعاها فقال- سممت هذه الشاة- فقالت من أخبرك قال أخبرتني هذه في يدى الذراع- قالت نعم قلت ان كان نبيا فلن يضره وان لم يكن نبيا استرحنا منه فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها وتوفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة- رواه ابو داؤد والدارمي وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما زال أجد الم الطعام الذي أكلت بخيبر وهذا او ان وجدت «1»

_ (1) اضافه الى الفعل بتأويل المصدر- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 88]

انقطاع أبهري من ذلك السم- رواه البخاري فان قيل المقتولون منهم داخلون فيمن كذّبهم اليهود فما وجه تخصيص التكذيب بفريق منهم- قلت يظهر بتخصيص التكذيب بفريق منهم انهم لم يكذبوا فريقا منهم مثل يوشع وعزير ولا يضركون بعضهم داخلا في كلا الفريقين إذ العطف بالواو والله اعلم. وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع الا غلف وهو الّذى عليه غشاوة خلقية فلا تعى ولا تفقه ما تقول نظيره قوله تعالى قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ- كذا قال مجاهد وقتادة- وقيل أصله غلف بضم اللام خفف ويؤيده قراءة الأعرج وما قرا ابن عباس بضم اللام وهو جمع غلاف اى قلوبنا اوعية لكل علم فلا نحتاج الى علمك كذا قال ابن عباس وعطاء وقال الكلبي معناه اوعية لكل علم فهى لا يسمع حديثا إلا وعته الا حديثك فلا يعقله ولا تعيه ولو كان فيه خيرا لوعته وفهمته فرد الله قولهم اى ليس قلوبهم مغشاة في اصل الخلقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابوه يهودانه وينصرانه ويمجسانه الحديث متفق عليه من حديث ابى هريرة- وليست اوعية للعلم ايضا بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم وابعدهم عن كل خير وخذلهم بِكُفْرِهِمْ كما قال الله تعالى فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ- فانى لهم دعوى العلم والاستغناء فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (88) نصب قليلا على الحال وما مزيدة للمبالغة ومعناه فيؤمنون حال كونهم اقل قليل اى لا يؤمن منهم الا اقل قليل فان من أمن من المشركين اكثر ممن أمن من اليهود كذا قال قتادة- او منصوب على المصدرية يعنى إيمانا قليلا يؤمنون- او بنزع الخافض اى بقليل مما وجب الايمان به يؤمنون وهو ايمانهم ببعض الكتاب- وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للاخر ما اقل ما تفعل كذا اى لا تفعله أصلا- فالقلة مجاز عن العدم. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعنى القران مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعنى التورية وجواب لمّا محذوف دل عليه جواب لمّا الثانية وَكانُوا اى اليهود مِنْ قَبْلُ اى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا اى على مشركى العرب ويقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في اخر الزمان الذي نجد صفته في التورية- وكانوا ينصرون وكانوا يقولون لاعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وارم او المعنى ان اليهود كانوا يفتحون على المشركين نعت النبي صلى الله عليه وسلم ويعرّفونهم ان نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه والسين حينئذ

[سورة البقرة (2) : آية 90]

للمبالغة- والاشعار ان الفاتح كانه يسئل عن نفسه ذلك فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا ما موصولة فاعل جاء والعائد محذوف اى ما عرفوه يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم اعرفوه بنعته في التورية كَفَرُوا بِهِ حسدا او خوفا على المال والرياسة فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) اى عليهم- اتى بالمظهر للدلالة على سبب استحقاقهم اللعنة فاللام للعهد ويجوزان يكون للجنس وهم داخلون فيهم. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ما بمعنى شيئا تميز لفاعل بئس المضمر فيه واشتروا صفته بمعنى باعوا وأنفسهم مفعول اشتروا الى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم من الاخرة- او المعنى اشتروا به أنفسهم في ظنهم حيث خلصوها عن الذل بترك الرياسة أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هو المخصوص بالذم بَغْياً مفعول له ليكفروا «1» «2» دون اشتروا للفصل- واصل البغي الطلب والفساد يقال بغى يبغى بغيا إذا طلب وبغى الجرح إذا فسد- ويطلق الباغي على الظالم لانه مفسد وعلى الخارج على الامام لانه مفسد وطالب للظلم وعلى الحاسد فانه يظلم المحسود ويطلب ازالة نعمته- والمعنى انهم يكفرون حسدا وطلبا لما ليس لهم وفسادا في الأرض أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ القران متعلق ببغيا بتقدير اللام- قرا ابن كثير وابو عمرو ينزل وبابه إذا كان مستقبلا مضموم الاول بالتخفيف من الانزال حيث وقع واستثنى ابن كثير وما ننزّله في الحجر- وننزّل من القران- وحتّى تنزّل علينا في الاسراء واستثنى ابو عمرو على أن ينزّل اية في الانعام- والذي في الحجر ما ننزّل الملئكة الّا بالحقّ مجمع عليه بالتشديد- والباقون بالتشديد من التنزيل في الجميع غير ان حمزة والكسائي يخففان ينزل الغيث في موضعين أحدهما فى لقمان والثاني في الشورى مِنْ فَضْلِهِ بلا سبق عمل يقتضيه- عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم فَباؤُ بِغَضَبٍ بسبب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران عَلى غَضَبٍ قد سبق عليهم بكفرهم بعيسى والإنجيل وترك العمل بالتورية وعبادة العجل وقولهم عزير ابن الله والاعتداء في السبت وغير ذلك وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) يراد به إذلالهم بخلاف عذاب العصاة من المؤمنين فانه لتطهيرهم عن الذنوب. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القران وسائر الكتب الالهية قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا اى التورية وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ حال عن الضمير في قالوا- والوراء فى الأصل مصدر جعل ظرفا ويضاف الى الفاعل فيراد ما يتوارى به وهو خلفه- والى المفعول ويراد

_ (1) فى الأصل مفعول له يكفرون [.....] (2) فيه تسامح لانه غير داخلة في الضابطة لانه في قرارة ابن كثير ومن معه بفتح الاول- لعله رحمه الله أراد به وما ننزله وصدر من سباق قلم هذا- ابو محمد عفا الله عنه

[سورة البقرة (2) : آية 92]

به ما يواريه وهو قدامه ولذلك عدّ من الاضداد- وقد يطلق بمعنى سواء كقوله تعالى فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ اى سواه وَهُوَ الْحَقُّ الضمير لما وراءه يعنى القران والإنجيل مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التورية حال مؤكدة فيه رد لمقالهم- فانه لمّا كفروا بما يوافق التورية فقد كفروا بها- قُلْ لهم يا محمد فَلِمَ أصله لما حذف الالف فرقا بين الخبر والاستفهام كقولهم- فيم- وبم- وعمّ- تَقْتُلُونَ اى قتلتم وانما أسند إليهم مع انه فعل ابائهم لانهم راضون به وهم في صدد قتل نبيهم- أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ اى قبل هذا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) بالتورية والتورية تحكم بانه إذا جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ- وتنهى عن تكذيبهم فضلا عن قتلهم والجزاء محذوف دل عليه ما قبله. وَلَقَدْ جاءَكُمْ قرا ابو عمرو وحمزة والكسائي وهشام بإدغام دال قد في الجيم حيث وقع- وكذا حيث وقع في الذال نحو لقد ذّرانا- والزاء نحو لقد زيّنّا- والسين نحو قد سمع- والشين نحو قد شّغفها- والضاد المعجمة نحو فقد ضلّ- والظاء المعجمة نحو فقد ظلم- واما الطاء المهملة فلم يقع في القران بعد دال قد والا لادغمت- وكذا ادغموا غير هشام «1» فى الصاد المهملة حيث وقع نحو لقد صرّفنا- وتابعهم ابن ذكوان فى الاربعة في الذال والزاء والضاد والظاء لا غير وورش في الأخيرين فقط وقرا ابن كثير وعاصم وقالون بغير ادغام في الاحرف الثمانية كلها ويدغم الدال في الدال اجماعا نحو قد دخلوا- وكذا في التاء اجماعا نحو قد تبيّن الا ان الحسين روى عن نافع الإظهار عند التاء مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالدلالات الواضحات وهى تسع ايت بيّنت وغيرها من المعجزات ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الها مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد مجيى موسى او ذهابه الى الطور وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) حال بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته- او اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم- وسياق الاية وما بعدها للرد عليهم فى قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا- والتنبيه على ان طريقتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة ابائهم مع موسى لا لتكرير القصة. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وقلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا يعنى استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والاستجابة سمعا إطلاقا للسبب على المسبب قالُوا سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك قال اهل المعاني انهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لمّا تلقوه بالعصيان نسب ذلك الى القول قلت

_ (1) ادغم هشام في الصاد ايضا بلا خلاف لكن له في الظاء في سورة ص اظهار من طرق الشاطبية- ابو محمد

[سورة البقرة (2) : آية 94]

وهو الظاهر فانهم لو قالوا ذلك لم يرفع عنهم الطور- وَأُشْرِبُوا يعنى تداخل كما يتداخل الصبغ الثوب فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ اى حبه بِكُفْرِهِمْ اى بسبب كفرهم- وذلك انهم لفرط حماقتهم كانوا مجسمة او حلولية ولم يروا جسما اعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سوّل لهم السّامرىّ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بالتورية والمخصوص محذوف يعنى هذا الأمر او ما تفعلون من القبائح الظاهرة القباحة المذكورة في الآيات الثلث إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) تقدير للقدح في دعواهم والجواب محذوف يدل عليه ما قبله تقديره ان كنتم مؤمنين بالتورية فبئسما يأمركم به ايمانكم بها هذا الأمر لان المؤمن لا يتعاطى الا ما يقتضيه إيمانه لكن الايمان لا يأمر به فلستم بمؤمنين بها او ان كنتم مؤمنين بالتورية ما فعلتم تلك القبائح لكنكم فعلتم فلستم بمؤمنين- ولما كانت اليهود يدّعون دعاوى باطلة مثل قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ- ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى - ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كذّبهم الله تعالى بقوله. قُلْ لهم يا محمد إِنْ كانَتْ لَكُمُ خبر كان الدَّارُ الْآخِرَةُ اسمها عِنْدَ اللَّهِ ظرف خالِصَةً يعنى خاصة بكم منصوب على الحال من الدار مِنْ دُونِ النَّاسِ سائرهم واللام للاستغراق او الجنس- او المسلمين واللام للعهد فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ يعنى فاسئلوه لانه من أيقن انه من اهل الجنة ومن أحباء الله تعالى تمنى التخلص إليها من الدار ذات الشوائب واشتاق الى لقاء الله تعالى اخرج ابن المبارك في الزهد والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحفة المؤمن الموت- والديلمي عن جابر مثله وعن الحسين بن على مرفوعا مثله بلفظ الموت ريحانة المؤمن- وقال حبان بن الأسود الموت جسر يوصل الحبيب الى الحبيب- وهذه الاية والأحاديث تدل على ان القبر أول منزل من منازل الاخرة رواه الترمذي وابن ماجة عن عثمان مرفوعا- وعلى ان الوصل بلا كيف مع الله تعالى يحصل بعد الموت قبل القيامة فوق ما كان حاصلا في الدنيا ولولا ذلك لما كان في تمنى الموت فائدة ولم يكن الموت جسرا موصلا الى الحبيب- وقيل معنى الاية ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة فهى نظيرة اية الابتهال- روى عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قال لو تمنوا الموت لغض كل انسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودى الا مات أخرجه البيهقي في الدلائل وكذا أخرجه البخاري والترمذي عنه مرفوعا بلفظ لو تمنوا الموت لماتوا واخرج ابن ابى حاتم

وابن جرير عنه موقوفا نحوه- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) فيما ادعيتم والجزاء محذوف دل عليه ما قبله- (فصل) هل يجوز التمني بالموت والدعاء به- والجواب انه ان كان لضرّ نزل به في مال او جسم او اهل او ولد فلا يجوز لحديث انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به فان كان ولا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحيوة خيرا لى وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى- متفق عليه وفي رواية لهما إذا مات أحدكم انقطع عمله وانه لا يزيد عمره إلا خيرا- وعن ابى هريرة مرفوعا لا يتمنين أحدكم الموت امّا محسنا فلعل ان يزداد وامّا مسيئا فلعل ان يستعتب رواه البخاري وعنه لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل ان يأتيه انه إذا مات انقطع عمله وانه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا رواه مسلم وروى النهى عن تمنى الموت احمد والبزار والبيهقي عن جابر والمروزي عن القاسم مولى معاوية وعن ابن عباس- واحمد وابو يعلى والحاكم والطبراني عن أم الفضل واحمد عن ابى هريرة كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولا بد ان يعلم ان المنهي عنه انما هو التمني للموت باللسان والسؤال به دون التمني بالقلب والرغبة اليه فان الكف عنه غير مقدور فلا تكليف عليه- واما ان كان التمني لخوف الفتنة في الدين فلا بأس به- اخرج مالك والبزار عن ثوبان في دعائه صلى الله عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون- واخرج مالك عن عمر رضى الله عنه انه قال اللهم قد ضعفت قوتى وكبر سنى وانتشر رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مقصد- فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض- واخرج الطبراني عن عمرو بن عنبسة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يتمنى أحدكم الموت الا ان لا يثق بعمله فان رايت في الإسلام ست خصال فتمنوا الموت وان كانت نفسك في يدك فارسلها اضاعة الدم وامارة الصبيان وكثرة الشرط وامارة السفهاء وبيع الحكم ونشوء يتخذ القران مزامير- واخرج ابن عبد البر في التمهيد انه تمنى الموت فلما قيل له لم تتمنى وقد نهى عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بادروا بالموت ستا امرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم ونشوء يتخذون القران مزامير- واخرج الحاكم عن ابن عمر وابن سعد عن ابى هريرة نحوه- وقد تمنى بالموت لخوف الفتنة بعض السلف- رواه ابن سعد عن خالد بن معدان- وابن عساكر وابو نعيم عنه وعن مكحول

وابن ابى الدنيا عن ابى الدرداء- وابن ابى شيبة وابن ابى الدنيا عن ابى جحيفة- وابن ابى الدنيا والخطيب وابن عساكر عن ابى بكرة- وابن ابى شيبة والبيهقي عن ابى هريرة- والطبراني وابن عساكر عن العرباض بن السارية- واما ان كان التمني شوقا الى لقاء الله تعالى فذلك محمود- اخرج ابن عساكر عن ذى النون المصري قال الشوق أعلى المقامات وأعلى الدرجات إذا بلغها العبد استبطأ الموت شوقا الى ربه وحبا الى لقائه والنظر اليه شعر أروم وقد طال المدى منك نظرة- وكم من دماء دون مرماى ظلت قلت وهو المقصود بالخطاب الى اليهود حيث قال إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ شوقا الى لقاء ربكم ان كنتم صدقين وروى ابن سعد والشيخان عن عائشة قالت كنت اسمع انه لا يموت نبى حتى يخير بين الدنيا والاخرة قالت أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدة فى مرضه فسمعته يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فظننت انه خير وروى النسائي عنها قالت أغمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجرى فجعلت امسحه وادعوا له بالشفاء بهذه الكلمات اذهب البأس رب الناس فافاق فانتزع يده من يدى فقال بل اسئل الله الرفيق الأعلى- واخرج الطبراني ان ملك الموت جاء الى ابراهيم ليقبض روحه فقال ابراهيم يا ملك الموت هل رايت خليلا يقبض روح خليله- فعرج ملك الموت الى ربه فقال قل له هل رايت خليلا يكره لقاء خليله فرجع فقال اقبض روحى الساعة- وقال يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ- وعن على رضى الله عنه انه قال لا أبالي أسقط على الموت او أسقط الموت على- أخرجه ابن عساكر في تاريخه وعن عمار رضى الله عنه انه قال بصفين الان الاقى الاحبة محمدا صلى الله عليه وسلم وحزبه- أخرجه الطبراني في الكبير وابو نعيم في الدلائل وقال حذيفة حين احتضر جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم- أخرجه ابن سعد عن الحسن- فان قيل روى احمد عن ابى امامة قال جلسنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكّرنا ورققنا فبكى سعد بن ابى وقاص فاكثر البكاء فقال يا ليتنى مت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد أعندي تتمنى الموت فردد ذلك ثلث مرات ثم قال يا سعد ان كنت خلقت للجنة فما طال عمرك وحسن عملك فهو خير لك- وهذا الحديث يدل على ان تمنى الموت لا يجوز وان لم يكن لاجل ضرّ نزل به في ماله او جسمه او نحو ذلك فان سعدا لم يتمن الا لخوف عذاب الله- قلت نعم لكن الموت لا يغنى من عذاب الله

[سورة البقرة (2) : آية 95]

شيئا بل لا بد لذلك من الاستغفار والمبادرة في الأعمال الصالحة والاجتناب عن المعاصي ومن ثم نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمنى الموت- والتحقيق في ذلك ان التمني بالموت عنه خوف المعصية والتقصير في الطاعة جائز قطعا لا ريب فيه- واما من غير ذلك بل شوقا الى لقاء المحبوب فقد وقع عن بعض السلف عند الاحتضار كما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن خليل الرحمن عليه السلام وعن عمار وحذيفة وغيرهم انه إذا حضرهم الموت ولم يبق لهم طمع في ازدياد الأعمال اشتاقوا الى لقاء ذى الجلال- عن عبادة ابن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة او بعض أزواجه انا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر «1» برضوان الله وكرامته فليس شىء أحب اليه مما امامه فاحب لقاء الله فاحب الله لقاءه وان الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شىء اكره اليه مما امامه فكره لقاء الله فكره الله لقاءه- متفق عليه- واما في حالة الصحة فلم يرد عن السلف التمني بالموت الا عند خوف الفتنة والتقصير كما روينا عن عمر رضى الله عنه ويحمل عليه ما روى عن على رضى الله عنه او عند غلبة الحال وذلك في الأولياء غالبا دون الأنبياء ومن في معنا هم من اصحاب الصحو من الصديقين والأولياء فانهم مع شدة شوقهم الى لقاء الرحمن يغتنمون ازدياد الحسنات شعر فانى في الوصال عبيد نفسى- وفي الهجران مولى للموالى واما اليهود فلشدة جهلهم وعنادهم لما كانوا يدّعون انهم أحباء الله تعالى وانهم غير محتاجين الى الأعمال قيل لهم ان كنتم صادقين في دعواكم لا بد لكم من تمنى المنى ولما كانوا كاذبين في دعواهم رد الله تعالى عليهم قولهم وقال. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً فى هذه الجملة اخبار بالغيب ومعجزة على اليهود بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران وتحريف التورية وغير ذلك من الأعمال- ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان فمعز الدولة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها اكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة وعن القدرة اخرى وَاللَّهُ عَلِيمٌ

_ (1) البشارة برضوان الله عنا اقتراب الموت للاولياء اما يكون بالكشف وكلام الهاتف ونحو ذلك واما يكون بذوقهم كثرة نزول البركات عليهم في ذلك الحالة واما عند رؤية ملائكة الموت وملائكة الرحمة واما البشارة للكافر بالعذاب فلا يكون الا عند رؤية ملائكة الموت والعذاب- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 96]

بِالظَّالِمِينَ (95) تهديد لهم وتنبيه على انهم ظالمون في دعواهم. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ اللام لام القسم والنون لتأكيد القسم وتجد من افعال القلوب مفعوله الاول ضمير الغائب ومفعوله الثاني احرص- وبتنكير حيوة أريد فرد من افرادها وهى المتطاولة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا- معطوف على الناس من حيث المعنى كانه قال احرص من الناس ومن الذين أشركوا او على احرص ويكون متعلقا بمحذوف دل عليه ما قبله يعنى احرص من الذين أشركوا- وافرادهم بالذكر مع دخولهم في الناس للمبالغة والاهتمام كما في عطف جبرئيل على الملائكة فان حرص المشركين شديد إذ لم يعرفوا الا الحيوة الدنيا وزيادة حرصهم على الدنيا مع اعراضهم عن الاخرة وهم عالمون بالجزاء بخلاف المشركين دليل على كمال مصابرتهم على النار ففيه زيادة توبيخ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قيل لو مصدرية بمنزلة ان الّا انها لا تنصب فهو مفعول يود وقال البيضاوي لو بمعنى ليت وكان أصله لو اعمّر فاجرى على الغيبة لقوله يود كقولك حلف بالله ليفعلن- فحينئذ كلمة التمني حكاية لو دادهم فحذف مفعول يود لما يدل عليه ما بعده وفيه بيان لزيادة حرصهم على سبيل الاستيناف ويحتمل ان يكون جملة يود صفة لمبتدأ محذوف والظرف المستقر يعنى من الذين أشركوا خبره تقديره ومن الّذين أشركوا أناس يودّ أحدهم لو يعمّر الف سنة- والمراد من الذين أشركوا اليهود القائلون عزير ابن الله- وقال ابو العالية والربيع أراد بالذين أشركوا المجوس فان تحية بينهم- زى هزار سال- فقال سبحانه اليهود احرص الناس فهم احرص من المجوس والمجوس يريد تعمير الف سنة- واصل سنة سنوة بدليل سنوات وقيل سنهة- وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ بمباعده مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ضمير هو راجع الى أحدهم وان يعمر فاعل مزحزحه والمعنى وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره او الى مصدر يعمر ويعمر بدل منه- او ضمير مبهم ان يعمر تفسيره- فان قيل طول العمر في الدنيا مباعد للعذاب الأخروي البتة فكيف يحكم بعدم التبعيد- قلت لما كان الف سنة بل تمام عمر الدنيا بالنسبة الى الاخرة المؤبدة كساعة من النهار او كلمح البصر بالنسبة الى الزمان المتناهي لم يعتد التبعيد الحاصل بتعمير الف سنة تبعيدا إذ المراد بنفي تبعيده من العذاب تبعيده بالعمل الصالح ففيه زيادة توبيخ حيث لا يزيدهم طول عمرهم الا العذاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (92) فيجازيهم- قرا يعقوب بالتاء للخطاب مع اليهود والباقون بالياء للغيبة انتهى-

[سورة البقرة (2) : آية 97]

اخرج اسحق بن راهويه في مسنده وابن ابى شيبة- وابن ابى حاتم- وابن جرير من طرق عن الشعبي عن عمر انه كان يأتى اليهود فيسمع من التورية فيتعجب كيف يصدق ما في القران قال فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نشدتكم بالله أتعلمون انه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عالمهم- نعم نعلم انه رسول الله قلت فلم لا تتبعونه قالوا سالناه من يأتيه بنبوته فقال عدونا جبرئيل لانه ينزل بالغلظة والشدة والحرب والهلاك- قلت فمن سلمكم من الملائكة قالوا ميكائيل ينزل بالقطر والرحمة- قلت وكيف منزلتهما من ربهما قالوا أحدهما عن يمينه والاخر بالجانب الاخر- قلت فانه لا يحل لجبرئيل انه يعادى ميكائيل ولا يحل لميكائيل ان يسالم عدو جبرئيل وانى اشهد انهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا- ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وانا أريد ان أخبره فلما لقيته قال الا أخبرك بايات نزلت علىّ فقرا. قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ حتى بلغ الكفرين قلت يا رسول الله والله ما قمت من عند اليهود الا إليك لا خبرك بما قالوا لى وقلت لهم فوجدت الله قد سبقنى- واسناده صحيح الى الشعبي واعتضد الطرق بعضها ببعض لكن الشعبي لم يدرك عمر واخرج ابن جرير من طريق السدى عن عمر- ومن طريق قتادة عن عمرو هما ايضا منقطعان واخرج ابن ابى حاتم من طريق اخر عن عبد الرحمن بن ابى ليلى ان يهوديا لقى عمر بن الخطاب فقال ان جبرئيل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا فقال عمر من كان عدوّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكيل فان الله عدوه- قال فنزلت على لسان عمر- وقد نقل ابن جرير الإجماع على ان سبب نزول الاية ذلك- وروى البخاري عن انس قال سمع عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ارض يحترف فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال انى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبى ما أول اشراط الساعة- وما أول طعام اهل الجنة- وما ينزع الولد الى أبيه والى امه- قال أخبرني بهن جبرئيل آنفا قال نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة فقرا هذه الاية- قال الشيخ ابن حجر ظاهر السياق ان النبي صلى الله عليه وسلم قرا الاية ردا على قول اليهود ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ وهذا هو المعتمد- واخرج احمد والترمذي والنسائي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال أقبلت اليهود الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم انا نسئلك عن خمسة أشياء فان انبأتنا بهن عرفنا انك نبى فذكر الحديث-

[سورة البقرة (2) : آية 98]

وفيه انهم سالوا عما حرم إسرائيل على نفسه وعن علامة النبي وعن الرعد وصوته وكيف تذكر المرأة وتؤنث وعمن يأتيه بخبر السماء الى ان قالوا فاخبرنا من صاحبك قال جبرئيل قالوا ذلك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فنزلت وقال البغوي بلا سند انه قال ابن عباس ان حبرا من الأحبار يقال له عبد الله بن صوريا قال للنبى صلى الله عليه وسلم اىّ ملك يأتيك من السماء قال جبرئيل قال ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لا منابك ان جبرئيل عادانا مرارا انزل على نبينا ان بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بخت نصر وأخبرنا بوقته فبعثنا رجلا ليقتل بخت نصر حين كان غلاما مسكينا ببابل فدفع عنه جبرئيل وكبر بخت نصر وخرب بيت المقدس- وقال مقاتل قالت اليهود ان جبرئيل عدونا لانه امر ان يجعل النبوة فينا فجعل في غيرنا- قلت ولعل القصتين وقعتا معا قبل نزول الاية لقى عمر مع اليهود فكلهم ما كلمهم ولقى اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فكلموه فنزل الاية- قرا ابن كثير جبريل هنا في الموضعين وفي التحريم بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز- وقرا ابو بكر بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء جبرئل وقرا حمزة والكسائي مثله الا انهما يجعلان ياء بعد الهمزة جبرءيل والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز جبريل فَإِنَّهُ يعنى جبرئيل نَزَّلَهُ يعنى القران- والإضمار من غير ذكر المرجع لفخامة شأنه وتبادر الذهن اليه كانه لم يحتج الى سبق فى الذكر عَلى قَلْبِكَ يا محمد فان القابل للوحى اولا القلب وكان الحق قلبى ولكنه جرى على حكاية كلام الله تعالى بِإِذْنِ اللَّهِ بامره حال من فاعل نزل مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) احوال من مفعوله والظاهر ان جواب الشرط فانّه نزّله والمعنى من كان عدو الجبرئيل فانه خلع عن عنقه ربقة الانصاف وكفر بما معه من الكتاب لان جبرئيل نزل القران مصدقا لما بين يديه من الكتاب فحذف الجواب وأقيم علته مقامه- او المعنى من عاداه فالسبب في عداوته انه نزل عليك وقيل جواب الشرط محذوف فليمت غيظا- او فهو عدو لى وانا عدوه يدل عليه ما بعده. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ خصّهما بعد التعميم لاظهار فضلهما «1» كانهما من جنس اخر- ولان الكلام كان فيهما- وللتنبيه على ان

_ (1) اخرج الحاكم عن ابى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وزير اى من اهل السماء جبرئيل وميكائيل ومن اهل الأرض ابو بكر وعمر- واخرج الطبراني بسند حسن عن أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان في السماء ملكين أحدهما يأمر بالشدة والاخر يأمر باللين فكل مصيب وذكر جبرئيل وميكائيل ونبيان أحدهما يأمر باللين والاخر يأمر بالشدة وكل مصيب وذكر ابراهيم ونوحا ولى صاحبان أحدهما يأمر باللين والاخر بالشدة وكل مصيب وذكر أبا بكر وعمر- منه رحمه الله تعالى

[سورة البقرة (2) : آية 99]

معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى- قرا حفص ويعقوب وابو عمر وميكيل بغير همز ولا ياء- ونافع بهمزة بلا ياء وميكئل والباقون بالياء بعد الهمز ميكئيل فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان الله تعالى عاداهم لكفرهم وعلى ان عداوة الملائكة والرسل كفر- اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس انه قال قال ابن صوريا ما جئتنا بشىء نعرفه فانزل الله تعالى. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (99) المتمردون في الكفر فان الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كانه متجاوز عن حده واللام للجنس او العهد اشارة الى اليهود واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس انه قال قال مالك بن الضيف لمّا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم والله ما عهد إلينا في مجد ولا أخذ علينا الميثاق- فانزل الله تعالى. أَوَكُلَّما الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره اكفروا بالآيات وكلما عاهَدُوا يعنى اليهود عَهْداً لان خرج محمد صلى الله عليه وسلم لنؤمنن به يدل عليه قراءة ابى الرجاء العطاردي او كلّما عوهدوا- وقال عطاء- هى العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود ان لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بنى قريظة والنضير قوله تعالى الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ نَبَذَهُ نقضه وطرحه فَرِيقٌ مِنْهُمْ وان لم ينقض كلهم- ولما توهم هذا الكلام ان النابذين هم الأقلون قال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) بالله او بالتورية فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التورية نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ يعنى التورية وَراءَ ظُهُورِهِمْ ولم يعملوا به ولو عملوا به لامنوا بكل نبى- مثل لاعراضهم وعدم التفاتهم الى احكام التورية في الايمان والنصر لمن جاء بعدها من الأنبياء باعراض من يرمى شيئا خلفه فلا يلتفت اليه كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) انه كتاب الله أولا يعلمون بما فيه ولكنهم يتجاهلون عنادا. وَاتَّبَعُوا اى عملوا يعنى اليهود وتحدثوا وتعلموا عطف على نبذ اى نبذوا كتاب الله واتبعوا

كتب السحر والشعوذة بل عطف على الشرطية فان تقييد الاتباع بمجى الرسول غير ظاهر ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ حكاية حال ماضية معناه ما تلت والعرب يستعمل الماضي موضع المستقبل وبالعكس مجازا- وتتلوا اما مشتق من التلاوة بمعنى القراءة او من التلو بمعنى التبعية يعنى اتبعوا كتب السحر التي كانت تقراها الشياطين من الجن والانس وتتبعها وتعمل بها عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ متعلق بتتلوا على تضمين الافتراء اى تتلوا الشياطين مفتر بين على ملك سليمان قائلين بان ملكه كان به وحينئذ يرتبط ما كفر سليمن ارتباطا تاما او يكون على بمعنى في اى في وقت سلطنته- قال البغوي قال السدى كانت الشياطين تصعد الى السماء فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها- فاكتتب الناس وفشا ذلك في بنى إسرائيل ان الجن تعلم الغيب- وبعث سليمان عليه السلام وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال لا اسمع أحدا يقول ان الشيطان يعلم الغيب الا ضربت عنقه- فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون امر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة انسان فاتى نفرا من بنى إسرائيل فقال هل أدلكم على كنز لا تأكلونه ابدا احفروا تحت الكرسي فاراهم المكان وقام ناحية وذلك انه لم يكن يدنو شيطان من الكرسي الا احترق- فحفروا واخرجوا الكتب قال الشيطان ان سليمان كان يضبط الجن والانس والشياطين والطير بهذه ثم طار الشيطان وفشا في الناس ان سليمان كان ساحرا- وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك اكثر ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برّا الله تعالى سليمان من ذلك- قلت والظاهر ان ما دفنه سليمان كان كتب السحر دون ما ألقته الشياطين الى الكهنة مما سمعته من الملائكة في الحوادث اليومية فان ذلك الكهانة ولا يفيد ذلك بعد مضى الدهور حين استخرجوها بعد موت سليمان- وقال الكلبي ان الشياطين كتبوا السحر والنير نجات على لسان اصف بن برخيا هذا ما علّم اصف بن برخيا سليمان الملك ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس انما ملككم سليمان بهذا- فاما علماء بنى إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا معاذ الله ان يكون هذا من علم سليمان واما السفلة فقالوا هذا علم سليمان واقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان حتى برّاه الله في القران وقال وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعنى ما سحر سليمان

فيكفر عبّر عن السحر بالكفر ليدل على ان السحر كفر وان من كان نبيا كان معصوما عنه وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا قرا ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف نون لكن ورفع الشّيطين والباقون بالنون المشددة ونصب الشّيطين وكذلك ولكن البرّ «1» وكذلك في الأنفال ولكن الله قتلهم ولكن الله رمى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ حال من الضمير في كفروا- والسحر علم بألفاظ واعمال يتقرب بها الإنسان الى الشياطين تصير بها الشياطين مسخرات له فيعينونه على ما يريد وتؤخر تلك الألفاظ والأعمال في النفوس والأبدان بالامراض والموت والجنون وتخيل في الاسماع والابصار كما سمعت في سحرة فرعون انهم القوا حبالهم وعصيّهم يخيّل الى موسى من سحرهم انّها تسعى- وليس تلك التأثيرات الا بخلق من الله تعالى ابتلاء منه وقيل انها تؤثر في قلب الأعيان ايضا فيجعل الإنسان حمارا والحمار كلبا قال البغوي السحر وجوده حق عند اهل السنة ولكن العمل به كفر وقال الشيخ ابو منصور القول بان السحر كفر على الإطلاق خطا بل يجب البحث عن حقيقته فان كان في ذلك رد ما ثبت بالشرع قطعا فهو كفر والا فلا- قال البغوي حكى عن الشافعي رضى الله عنه انه قال السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه- فاذا تلقاه منه استعمله في غيره انتهى- وقول الشافعي ايضا يدل على ان السحر بعضها كفر دون بعض- وكذا ما في المدارك حيث قال ان السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور دون الإناث يعنى عند الحنفية كما في المرتد وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوى فيه الذكور والإناث ويقبل توبته إذا تاب وان كان سحره كفرا ومن قال لا يقبل توبته فقد غلط فان سحرة فرعون قبلت توبتهم مع كونهم كفارا انتهى- قلت وتعبير الله سبحانه السحر بالكفر وقوله وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وقوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كل ذلك يدل على ان ألفاظ السحر واعماله كلها او عامتها من موجبات الكفر ومناقضا لشرائط الايمان وينبغى ان يكون كذلك فان الشيطان لا يرضى من الإنسان الا بالكفر فلا يتصور التقرب اليه وتسخيره الا به نعوذ بالله منه وما قال الشافعي والشيخ ابو منصور رحمهما الله فمبنى على الاحتمال العقلي (فائدة) واعلم انه من قتل إنسانا لا يحل قتله او اضره بسلب نعمة البدنية او المالية او غير ذلك بالسيفى والدعاء وان كان ذلك بأسماء الله تعالى الجلالية وان لم يكن ذلك كفرا فهو فاسق البتة وحكمه حكم قطاع الطريق قال الله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ

_ (1) لعله من سباق قلم لانه قرأه بالتخفيف نافع وابن عامر والباقون بالتشديد- ابو محمد

الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً- وقال عليه الصلاة والسلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده- متفق عليه- من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ومن هذا القبيل دعوة بلعم بن باعور على موسى عليه السلام وسيجيئ قصته في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الاية- وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على السحر او على ما تتلوا والمراد بالمعطوف والمعطوف عليه واحد والعطف لتغائر الاعتبار او لانه نوع اخر أقوى منه بِبابِلَ ظرف او حال من الملكين او من الضمير في انزل قال ابن مسعود بابل ارض الكوفة وقيل جبل دماوند- وهذا يدل على ان السحر ايضا من العلوم المنزلة من السماء ابتلاء من الله تعالى فان الله تعالى هو الهادي والمضل يفعل ما يشاء- والمأمور به غير ما أراد وشاء- فالله تعالى امتحن الناس بالملكين فمن شقى تعلم السحر منهما وكفر بالله ومن سعد تركه وبقي على الايمان وكان الملكين يذكران بطلان السحر ويصفانه ويأمران بالاجتناب عنه والله اعلم وقيل ما نافية وقد كانت اليهود يقولون ان السحر من العلوم المنزلة من السماء على الملكين فرد الله سبحانه تعالى قولهم وقال وَما أُنْزِلَ يعنى السحر على الملكين عطفا على ما كفر سليمن وحينئذ قوله تعالى بِبابِلَ متعلق ب يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان للملكين على التقدير الاول كما هو الظاهر- وقيل بدل من الشياطين بدل البعض على تقدير كون ما نافية وَما يُعَلِّمانِ يعنى هاروت وماروت مِنْ أَحَدٍ يعنى أحدا ومن زائدة حَتَّى يَقُولا ناصحين على تقدير كونهما ملكين إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ابتلاء من الله وامتحان فَلا تَكْفُرْ اى لا تتعلم السحر فتكفر اطلق المسبب على السبب- قيل انهما كانا يقولان ذلك سبع مرات قال عطاء والسدىّ فان ابى الا التعلم قالا له ايت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك الايمان والمعرفة وينزل شىء اسود شبيه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله نعوذ بالله منه- وعلى التقدير الثاني ما يعلمانه حتى يقولا انا مفتونان فلا تكن مثلنا- قلت وهذا القول نصيحة يستبعد ان يصدر من الشياطين ومن ثم قلنا ان الاول هو الظاهر فَيَتَعَلَّمُونَ الضمير لما دل عليه من أحد مِنْهُما اى هاروت وماروت والجملة معطوفة على مقدر وتقديره فيأبون فيتعلمون او هى معطوفة على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ اى يعلمونهم فيتعلمون ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ اى من السحر ما يبغض كل واحد منهما صاحبه وَما هُمْ اى السحرة او الشياطين

بِضارِّينَ به اى بالسحر مِنْ أَحَدٍ اى أحد إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعنى بقضائه وقدره ومشيته فان الأسباب كلها اسباب ظاهرية عادية غير مؤثرة بالذات- بل جرت عادة الله سبحانه بخلق التأثيرات والتأثرات بعد وجود الأسباب ان شاء وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ اى السحر فانه موجب لكفرهم وَلا يَنْفَعُهُمْ شيئا وفيه اشارة الى ان تعلّم العلوم الغير النافعة كالطبيعى والرياضي ونحو ذلك مكروه لاضاعة الوقت ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم انى أعوذ بك من علم لا ينفع رواه الحاكم فى المستدرك في حديث ابن مسعود فائدة العلم الذي لا ينفع نوعان نوع منه لا ينفع أحدا من الناس حيث لا يتصور الانتفاع منه كالطبيعى ونحوه ونوع منه لا ينفع العالم إذا لم يعمل بعلمه والله اعلم واما العلوم الضارة فلا شك في حرمتها كالسحر والشعبدة والإلهيات الفلاسفة الا إذا كانت بنية صالحة وذكر البغوي عن ابن عباس والكلبي وقتادة وغيرهم في شأن هاروت وماروت قصة ان الملائكة لما راوا ما يصعد الى السماء من سيات بنى آدم عيروهم فقال الله تعالى لو انزلتكم الى الأرض وركّبت فيكم مثل ما ركّبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا فقالوا سبحانك ما لنا ان نعصيك قال فاختاروا من خياركم فاختاروا هاروت وماروت وعزائيل- فركّب الله فيهم الشهوات واهبطهم الى الأرض وأمرهم ان يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنى وشرب الخمر- فاما عزائيل لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربه وسأل ان يرفعه الى السماء فاقاله فسجد أربعين سنة ولم يزل بعد مطاطيا رأسه حياء- واما الآخران فكانا يقضيان بين الناس فاذا امسيا ذكرا اسم الله تعالى الأعظم وصعدا الى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا وذلك انه اختصم إليهما ذات يوم امرأة تسمى زهرة وزوجها وكانت ملكة من اهل فارس فعشقا عليها فراوداها عن نفسها فابت وقالت لا الا ان تعبدا الصنم وتقتلا النفس تعنى زوجها وتشربا الخمر فعرضت عليهما حتى شربا الخمر وزنيابها فراهما انسان فقتلاه فمسخ الله الزهرة شهابا فلما امسى هاروت وماروت بعد ما ارتكبا المعاصي وأراد الصعود ما طاوعتهما أجنحتهما فقصدا إدريس النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم وسالاه ان يشفع لهما الى الله فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعها- فهما ببابل يعذبان معلقان بشعورهما في جب ملئت نارا- روى ابن راهويه وابن مردوية عن على قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله الزهرة فانما هى التي فتنت الملكين هاروت وماروت- والله اعلم-

وهذه القصة من اخبار الآحاد بل من الروايات الضعيفة الشاذة ولا دلالة عليها في القران بشىء وفي بعض روايات هذه القصة ما يأباه النقل والعقل وهو ما حكى عن الربيعة بن انس انه مسخ الله الزهرة كوكبا وصعدت الى السماء حين تعلمت الاسم الأعظم وتكلمت به ولم يستطع هاروت وماروت الصعود الى السماء مع كونهما معلمين الزهرة ومساواتهما لها في ارتكاب المعصية بل كان كفرهما دون كفر زهرة لاجل سكرهما والله اعلم- قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد قال الشيخ كمال الدين- وائمة النقل لم يصححوا لهذه القصة ولا اثبتوا روايتها عن على ولا عن ابن عباس رضى الله عنهما- قال العاصي ان هذه الاخبار لم يرو منها شىء صحيح ولا سقيم عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال وهذه الاخبار من كعب اليهود وافترائهم- قال الصالحي ذكروا في تأويل الاية ان الله تعالى كان قد امتحن الناس بالملكين فان السحر كان قد ظهر وظهر قول اهله فانزل الله تعالى ملكين يعلمان الناس حقيقة السحر ويوضحان امره ليعلم الناس ذلك ويميّزوا بينه وبين المعجزة والكرامات فمن جاء يطلب ذلك منهما انذراه وأعلماه انما أنزلنا فتنة لتعليم السحر فمن تعلّمه ليجتنبه ويعلم الفرق بينه وبين المعجزات والكرامات وما يظهره الله تعالى على أيدي عباده المؤمنين فذلك هو المرضى ومن تعلمه لغير ذلك ادّى به الى الكفر- فلهذا كان الملكان «1» يقولان انما نحن فتنة فلا تكفر ثم يقولان له إذا فعل الساحر كذا فرق بين المرء وزوجه- فعلى هذا يكون فعل الملكين طاعة لامر الله تعالى ولا ينافى عصمة الملائكة- قال البيضاوي هذه القصة محكى عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوى البصائر- أقول في حله لعل المراد بالملكين القلب والروح وسائر لطائف عالم الأمر وانما ذكر الاثنين مع انها خمسة لارادة التعدد دون العدد المعين او لانه قد ينكشف على بعض السالكين الاثنين منها القلب والروح دون البواقي- فكنى ذلك الرجل عما انكشف عليه والمراد بالمرأة النفس المنبعثة من العناصر فانها الامّارة بالسوء- ولما زوج الله سبحانه بحكمته البالغة لطائف عالم الأمر مع النفس وجعل بينها محبة وعشقا اسودت اللطائف وانكدرت وغفلت عن خالقها وهى محبوسة منكوسة في القالب الظلماني الذي امتلأت من نار الشهوات وذلك هو المراد بالجب ببابل مملوة نارا- ثم إذا مات الإنسان وقامت قيامة واستدركه الرحمة خلصت من السجن ان بقي فيها نور الايمان- واما النفس الكائنة في قالب رجل من الأبرار فبمجاورة لطائف عالم الأمر والرياضات المأمورة وذكر اسم الله الأعظم صعدت

_ (1) فى الأصل ملكين-

[سورة البقرة (2) : آية 103]

الى السماء كانها كوكب درى تتوقد بيضاء حتى قيل لها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي- فالنفس وان كانت خبيثة شريرة في الابتداء قبل الاهتداء لكنها تفضلت على جميع لطائف عالم الأمر بالقوة الاستعدادية المستودعة في الغبراء فان خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا من كلام سيد الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والتسليمات واحسن الثناء رواه مسلم عن ابى هريرة وَلَقَدْ عَلِمُوا يعنى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ اى استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى- واللام للابتداء علقت علموا عن العمل ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ نصيب وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ يعنى باعوا به حظوظ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) ذلك ويتفكرون فيه والجواب محذوف دل عليه ما قبله يعنى ما شروه- فان قيل أليس قد قال الله تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على التأكيد القسمي فما معنى قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ- قيل معناه انهم لما لم يعملوا بما علموا فكانهم ما علموا وقيل المثبت العقل العزيزي والعلم الإجمالي بقبح الفعل وترتب العقاب والمنفي العلم بحقيقة ما يلحقه من العذاب والمختار عندى ان العلم علمان علم يتعلق بظاهر القلب وذا لا يستتبع العمل ومنه علم اليهود يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يجديهم معرفتهم شيئا مثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وعلم وهبى يتخلص الى صميم القلب بعد انجلائه والى النفس بعد اطمينانه وهو المعنى في قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وقوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء يحبهم اهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا الى يوم القيامة- رواه ابن النجار عن انس- وأشار الى كلا العلمين أفضل الأنبياء عليه الصلاة والثناء خير الخيار خيار العلماء وشر الشرار شرار العلماء- رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم وعن الحسن قال العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم- رواه الدارمي. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران وَاتَّقَوْا عذاب الله بترك المعاصي والسحر لَمَثُوبَةٌ يعنى ادنى ثواب سمى الجزاء ثوابا ومثوبة لان المحسن يثوب ويميل اليه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب لو واصله لا ثيّبوا مثوبة من عند الله خيرا ممّا شروا به أنفسهم او مما سواه فحذف الفعل وجعل الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من ان

[سورة البقرة (2) : آية 104]

ينسب اليه او للتعميم وعدم تخصيص التفضيل بشىء مما سواه- وقيل لو للتمنى ولمثوبة كلام مبتدأ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) ان ثواب الله خير والكلام فيه كالكلام فيما سبق- اخرج ابن المنذر انه كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله من المراعاة اى ارعنا سمعك اى فرّغ سمعك لكلامنا يقال أرعى الى الشيء وأرعاه وراعاه إذا أصغى اليه واستمعه- او المعنى راعنا اى راقبنا وتانّ بنا فيما تلقينا حتى نفهمه- والرعي حفظ الغير لمصلحته- وكان هذا اللفظ سبّا قبيحا بلغة اليهود قيل كان معناه اسمع لا سمعت وقيل كان معناه يا أحمق من الرعونة فسمع اليهود فخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بنية السب ويضحكون فيما بينهم لعنهم الله ففطن بها سعد بن معاذ رضى الله عنه فقال لان سمعتكم تقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا قتلنكم فقالوا ولستم تقولونها فانزل الله تعالى. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا يعنى انظر إلينا واسمع كلامنا او انتظر وتأنّ بنا حتى نفهم كلامك وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به وأطيعوا والمعنى أحسنوا الاستماع مع جمع حتى لا تحتاجوا الى طلب المراعاة وَلِلْكافِرِينَ يعنى اليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنهم الله عَذابٌ أَلِيمٌ (104) اى مولم- كان المسلمون يقولون لحلفائهم من اليهود أمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود ما هذا الذي تدعوننا اليه بخير مما نحن عليه ولو دونا لو كان خيرا فانزل الله تعالى تكذيبا لهم. ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ الود محبة الشيء مع تمنيه ولذلك استعمل في كل منهما- ومن للبيان ولا زائدة عطف على اهل الكتاب أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ مفعول يودّ من الاولى مزيدة للاستغراق والثانية للابتداء والخير الوحى- والمعنى انهم يحسدونكم ولا يودون ان ينزل عليكم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ- بنبوته مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (106) الفضل ابتداء احسان بلا علة- ولمّا قال المشركون ان محمدا صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بامر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ما يقوله الا من تلقاء نفسه فانزل الله تعالى. ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ من بيانية- والنسخ عبارة عن شيئين أحدهما النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب وثانيهما الرفع والازالة يقال نسخت الشمس الظل والمراد هاهنا الثاني وهو في الحقيقة بيان لانتهاء التعبد بقراءتها فقط دون حكمها مثل اية الرجم-

[سورة البقرة (2) : آية 107]

او بحكمها المستفاد منها فقط دون قراءتها مثل اية الوصية للاقارب واية عدة الوفاة بالحول- او بهما جميعا كما قيل انها كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكما- ثم المنسوخ حكمها منها ما أقيم غير ذلك الحكم مقامه كما في وصية الأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة بالحول نسخت الى اربعة أشهر وعشر ومنها ما لم يقم غيره مقامه كامتحان النساء- والنسخ انما يعترض الأوامر والنواهي دون الاخبار- قرا الجمهور بفتح النون والسين من نسخ اى نرفعها- وقرا ابن عامر بضم النون وكسر السين من الانساخ اى نأمرك او جبرئيل بنسخها او تجدها منسوخة وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة على المفعولية أَوْ نُنْسِها قرا ابن كثير وابو عمرو بفتح النون الاول والسين مهموزا اى نؤخرها من النساء اى نؤخر حكمها ونرفع تلاوتها كما في اية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الاول بمعنى رفع التلاوة والحكم- او المعنى تؤخرها في اللوح المحفوظ يعنى لم ننزلها عليك- فمعنى النسخ الرفع بعد الانزال ومعنى النساء عدم الانزال وقرا الباقون ننسها بضم النون وكسر السين من الانساء والنسيان ضد الحفظ اى نمحّها عن قلبك روى عن ابى امامة بن سهل بن حنيف- ان قوما من الصحابة رضى الله عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها الا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا الى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك سوره رفعت بتلاوتها وأحكامها- وقيل معناه نتركها اى لا ننسخها كما قال الله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ يعنى تركوه فتركهم وهذا غير مستقيم لقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فانها تدل على إزالتها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فى النفع للعباد وبالسهولة او كثرة الثواب لان اية خير من اية فان كلام الله واحد وكله خير أَوْ مِثْلِها فى ذلك أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) استفهام تقرير اى انك تعلم واحتج بهذه الاية من يمنع النسخ بلا بدل او بدل أثقل منه او نسخ الكتاب بالسنة- وأجيب بانه قد يكون عدم الحكم أصلح وان ما هو الأثقل فهو انفع من حيث الثواب- وان السنة ايضا مما أتاه الله تعالى وعلّمه لنبيه صلى الله عليه وسلم. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهو كالدليل على قوله تعالى أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وعلى جواز النسخ ولذلك ترك العاطف وَما لَكُمْ يا معشر الكفار عند نزول العذاب مِنْ دُونِ اللَّهِ مما سواه مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) الولي القريب وهو قد يضعف عن النصر والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه والله اعلم-

[سورة البقرة (2) : آية 108]

اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد اتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه او فجر لنا الأرض عيونا نتبعك ونصدقك فانزل الله تعالى. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ وقال البغوي نزلت في اليهود حين قالوا اتنا بكتاب من السماء جملة كما اتى موسى بالتورية- وقيل نزلت في المشركين حين قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ- واخرج ابن جرير عن مجاهد قال ... سالت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم ان يجعل لهم الصفا ذهبا فقال نعم وهو لكم كالمائدة لبنى إسرائيل ان كفرتم فابوا ورجعوا فنزلت- واخرج السدى قال سالت العرب محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة فنزلت- وكذا قال البغوي انه قيل سالوه فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ... تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا- واخرج السدى عن ابى العالية قال قال رجل يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بنى إسرائيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اعطاكم الله خيرا «1» كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفاراتها فان كفّرها كانت له خزى في الدنيا وان لم يكفّرها كانت له خزى في الاخرة وقد اعطاكم الله خيرا من ذلك قال الله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً والصلاة الخمس والجمعة الى الجمعة كفارات لما بينهن- فانزل الله تعالى أم تريدون الاية- وأم منقطعة ومعناه بل أتريدون والمراد به التوصية بعدم الاقتراح بالسؤال- قال البغوي أم بمعنى الهمزة يعنى أتريدون والميم زائدة وقيل بل تريدون ويمكن ان يقال انها متصلة داخلة على الجملة للتسوية بين الجملتين معطوفة على الهمزة في قوله تعالى الم تعلم والخطاب فيه وان كان الى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لكن المراد به هو وأمته امة الاجابة او الدعوة لقوله تعالى وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ- وانما أفرد لانه صلى الله عليه وسلم أعلمهم ومبدا علمهم فالتقدير ألم تعلموا انّ الله له ملك السماوات والأرض قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد أم تعلمون ذلك وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى- وهذا انما يستقيم ان كان نزول الآيتين في واقعة دفعة واحدة واما على تقدير اختلاف شأن نزولهما فلا- ومنع السكاكي كونها متصلة وقال علامة كون أم متصلة وقوع المفرد بعدها وكونها منقطعة وقوع الجملة بعدها كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ساله قومه أرنا الله جهرة وَمَنْ يَتَبَدَّلِ اى يستبدل الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ

_ (1) فى الأصل خير

[سورة البقرة (2) : آية 109]

اى ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) حتى وقع في الكفر بعد الايمان والمعنى لا تقترحوا فتضلوا- قال البغوي قال نفر من اليهود لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا الى ديننا فنحن اهدى سبيلا منكم الحديث فنزلت. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس انها نزلت في حييّ وابى ياسر بنى اخطب من اليهود وكانا من أشد يهود حسدا للعرب إذا خصهم الله تعالى برسوله وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ يا معشر المؤمنين- لو مصدرية تنوب ان في المعنى دون العمل في اللفظ فهو مفعول ودّ- او هو بمعنى ليت حكاية وبيان لودادهم مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً مرتدين جال من ضمير المخاطبين حَسَداً منصوب على انه علة ود- او على المصدرية اى يحسدونكم حسدا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ متعلق بود اى تمنوا ذلك من خبث أنفسهم لم يأمرهم الله تعالى بذلك- او بحسد اى حسدا منبعثا من عند أنفسهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالمعجزات ومعرفة النعوت المذكورة فى التورية فَاعْفُوا فاتركوهم وَاصْفَحُوا وتجاوزوا- كان هذا قبل الأمر بالقتال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الذي هو الاذن في القتال وضرب الجزية وقيل قتل قريظة واجلاء بنى النضير إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) فيقدر على الانتقام منهم. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا يعنى اتركوهم وخالفوهم بالإلجاء الى الله تعالى بالعبادة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ صلوة او صدقة او غير ذلك تَجِدُوهُ اى ثوابه عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) . وَقالُوا اى اهل الكتاب من اليهود والنصارى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى لف بين قولى الفريقين اعتمادا بفهم السامع- اى قالت اليهود لن يدخل الجنة الا من كان هودا ولا دين الا دين اليهودية- وقالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصارى ولا دين الا النصرانية حين اجتمع وفد نجران في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود فكذّب بعضهم بعضا قال الفرّاء هودا بمعنى يهودا حذف الياء الزائدة- وقال الأخفش اليهود جمع هائد كعود جمع عائد وحّد ضمير اسم كان وجمع الخبر نظرا الى اللفظ والمعنى تِلْكَ يعنى مودتهم ان لا ينزل عليكم خير من ربكم المستفادة من قوله تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الاية وقوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ

[سورة البقرة (2) : آية 112]

أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ الآية- وان لا يدخل الجنة الا هم- او المضاف محذوف اى أمثال تلك الامنية يعنى لا يدخل الجنة الا هم أَمانِيُّهُمْ اى شهواتهم الباطلة جمع امنية افعولة من التمني كالاضحوكة والاعجوبة والجملة معترضة قُلْ يا محمد هاتُوا أصله أتوا قلبت الهمزة هاء بُرْهانَكُمْ على اختصاصكم بدخول الجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) فى دعويكم فان الدعوى على امر مستقبل بلا برهان باطل كاذب والجواب محذوف دل عليه ما قبله. بَلى يعنى ليس كما قالوا مَنْ أَسْلَمَ اى أخلص وَجْهَهُ والمراد به نفسه او قصده لِلَّهِ وحده وَهُوَ مُحْسِنٌ يعبد ربه بالإخلاص كانه يراه كذا مر تفسير الإحسان في المتفق عليه من حديث تعليم جبرئيل فَلَهُ أَجْرُهُ الذي وعده على عمله ثابتا عِنْدَ رَبِّهِ والجملة جواب من ان كانت شرطية وخبرها ان كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط والوقف على بلى وبهاتم الرد ان كانت شرطية وكذا يحتمل ان كانت موصولة- ويحتمل ان يكون الموصول مع صلتها فاعل فعل محذوف اى بلى يدخلها من اسلم- وحينئذ فله أجره جملة مبتدأة معطوفة على ما سبق وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) فى الاخرة اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس انه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شىء وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل وقال رجل من اهل نجران لليهود ما أنتم على شىء وجحدوا بنبوة موسى عليه السلام والتورية فانزل الله تعالى. وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ يصح ويعتد به وَهُمْ والحال انهم يَتْلُونَ الْكِتابَ اى التورية التي تصدق عيسى والإنجيل- او الإنجيل التي يصدق موسى والتورية كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ اى مشركوا العرب وغيرهم من عبدة الأوثان والمجوس والقرون الخالية من الكفار حيث كذّب كل طائفة غيرها وان كانوا على الحق مِثْلَ قَوْلِهِمْ بيان لمعنى ذلك فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ اى يقضى بين الفريقين وغيرهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) اى يكذّبهم ويدخلهم النار ويصدّق اهل الحق ويدخلهم الجنة- اخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد ان مشركى مكة لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية انزل الله تعالى. وَمَنْ أَظْلَمُ من مبتدأ استفهام واظلم خبره والمعنى لا أحدا ظلم

[سورة البقرة (2) : آية 115]

مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ انما أورد لفظ الجمع وان كان المنع واقعا على مسجد وأحد لان الحكم عام وان كان المورد خاصا أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ثانى مفعولى منع كما في قوله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ- او الخافض محذوف اى من ان يذكر او منصوب على العلية اى كراهة ان يذكر وَسَعى فِي خَرابِها بالتعطيل عن ذكر الله فانهم لما منعوا من يعمّره بالذكر فقد سعوا في خرابه وكذا ذكر البغوي عنه وعن عطاء- وذكر عن قتادة والسدى ان المراد بمن مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ ... وَسَعى فِي خَرابِها طيطوس بن اسبسيانوس الرومي وأصحابه حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوس فغزوا اليهود فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرّقوا التورية وخربوا بيت المقدس وذبحوا فيه الخنازير والقوا فيه الجيف وكان بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم- قلت ولعل الغرض من ذلك تعيير النصارى بما فعل اباؤهم وهم به راضون كما ان الغرض من ذكر ما صدر من أسلاف اليهود من عبادة العجل وغير ذلك تعييرهم أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ فى علم الله وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فيه وعد للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم وقد أنجز الله وعده حين فتح مكة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وامر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى الا لا يحجن بعد العام مشرك وفتح الروم على عمر بن الخطاب وكان بيت المقدس خرابا فبناه المسلمون- وقيل هذا خير بمعنى الأمر او النهى اى قاتلوهم حتى لا يدخلها أحد منهم الا خائفا من القتل والسبي او لا تمكنوهم من الدخول في المساجد- وقيل المعنى ما كان ينبغى لهم ان يدخلوها الا بخشية وخضوع فضلا عن تخريبها وحينئذ الجملة في محل النصب على الحال من فاعل منع وسعى- لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل وسبى وذلة بضرب الجزية وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) النار المؤبدة بكفرهم وظلمهم. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ اى له الأرض كلها مشارقها ومغاربها ملكا وخلقا والمخلوقات كلها مظاهر وجوده ومجال نوره وهو نور السموات والأرض وقيم الأشياء فلا يختص به مكان دون مكان- وانما امر القبلة امر تعبدي والتكليف انما هو بقدر الطاقة فاذا لم تقدروا على استقبال القبلة في الفرائض لعدوّ- او اشتبه القبلة وتحريتم فيها وغلطتم فيه- او تحرجتم في نوافل السفر فى النزول عن المراكب والامتناع من السير والنوافل أسهل من امر الفرائض فَأَيْنَما شرط تُوَلُّوا مجزوم به اى الى اى جهة تولوا يعنى وجوهكم والجواب فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ اى جهة المأمور

[سورة البقرة (2) : آية 116]

باستقبالها يعنى قبلة الله كذا قال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل- وقيل رضأ الله- وقيل هى من المتشابهات كقوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ- اخرج مسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على راحلته تطوعا أينما توجهت به وهو جاء من مكة الى المدينة ثم قرا ابن عمرو لله المشرق والمغرب- وقال مجاهد أنزلت هذه الاية واخرج الحاكم عنه قال أنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ان يصلى حيثما توجهتك راحلتك في التطوع- وقال صحيح على شرط مسلم- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس نزول هذه الاية حين تحولت القبلة وقالوا ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها- واسناده قوى- قلت والاول أصح سندا ومعنى فان جواب ما وليهم نازل هناك حيث قال قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- وفي شأن نزول الاية روايات اخر ضعيفة منها ما اخرج الترمذي وابن ماجة والدارقطني حديث ربيعة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر اين القبلة فصلى كل رجل منا على خياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت- وما اخرج الدارقطني والبيهقي حديث جابر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سالنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت وانزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الاية- واخرج ابن مردوية عن ابن عباس نحوه وفيه فاخذتهم ضبابة فلم يهتدوا الى القبلة- ومنها ما اخرج ابن جرير عن مجاهد قال لمّا نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا الى اين فنزلت الاية إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ بإحاطة نوره ووجوده الأشياء كلها منها مشارق الأرض ومغاربها احاطة غير متكيفة ولا مدركا كنهها قال المجدد رضى الله عنه فى حقيقة الصلاة انها وسعة ذاتية بلا كيف لا تدرك كنهها عَلِيمٌ (115) باعذار العباد ومصالحهم ونياتهم. وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في يهود المدينة قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وفي نصارى نجران قالوا المسيح ابن الله وفي مشركى العرب قالوا الملائكة بنات الله- قرا ابن عامر قالوا بلا واو باعتبار انه استيناف قصة اخر والجمهور بالواو عطفا على قالت اليهود او على منع او على مفهوم من اظلم يعنى ظلموا وقالوا.... سُبْحانَهُ أسبحه سبحانا وانزهه تنزيها من ذلك فان التوليد يقتضى التشبه والتجزى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له ذلك فامّا

[سورة البقرة (2) : آية 117]

تكذيبه إياي فزعم انى لا اقدر ان أعيده كما كان واما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة ولا ولدا- رواه البخاري وروى عن ابى هريرة نحوه وفيه اما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون على من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الأحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا فكيف يتصور التوالد حيث لا مجانسة بين المخلوق الممكن المحتاج في الوجود وتوابعه الهالك في نفسه والخالق الواجب الغنى القيوم المتأصل بوجوده كُلٌّ ما في السموات والأرض لَهُ قانِتُونَ (116) اى قائمون بالشهادة على توحيده مقرّون بعبوديته فان الممكن يشهد ويدل انه عبد محتاج الى خالق واجب واحد لا يماثله ممكن فهو نظير قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لا يفقه شهادتهم وتسبيحهم وتحميدهم الا ارباب القلوب بمشاعر قلوبهم التي يدرك بها حياتهم او ارباب العقول المستدلين بذواتهم واحتياجاتهم- واصل القنوت القيام قال عليه الصلاة والسلام أفضل الصلاة طول القنوت- رواه مسلم واحمد والترمذي- والمعنى انهم مطيعون روى احمد بسند حسن عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كل حرف من القران يذكر فيه القنوت فهو الطاعة قلت يعنى لا يمتنعون عن مشيته وتكوينه وكلما هذا شأنه لا يجانس الواجب- وجاء بما لشموله لما لا يعقل وقال قانتون تغليبا لذوى العقول او لانه لما اثبت لهم القنوت التي هى هيئة ارباب العقول جمعهم على هيئتهم وقيل معناه كلما زعموه الها من المسيح وعزير والملائكة كلهم له قانتون مطيعون مقرّون بالعبودية فيكون إلزاما بعد اقامة الحجة-. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مبدعهما وخالقهما وخالق كل شىء كما هو خالق ما فيهما او المعنى بديع سمواته وارضه وَإِذا قَضى أَمْراً اى أراد شيئا- واصل القضاء الفراغ ومنه إطلاقه على إتمام الشيء قولا كقوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ- او فعلا كقوله تعالى فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ويطلق على تعلق الارادة الالهية بوجود شىء من حيث انه يوجبه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) من كان التامة لعدم الخبر اى أحدث فيحدث- واما كون الشيء موصوفا بصفة فليس مدلولا لهذه الاية- قرا الجمهور فيكون بالرفع استينافا او عطفا على يقول في جميع المواضع غير ان الكسائي تابع ابن عامر في النحل ويس فنصب- وقرا ابن عامر فيكون بالنصب في جميع المواضع «1»

_ (1) يعنى هنا وفي ال عمران فيكون ونعلمه وفي النحل ومريم ويس وغافر- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : آية 118]

الا في ال عمران كن فيكون الحقّ- وفي سورة الانعام كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ- وانما نصبها بتقدير ان بعد الفاء في جواب الأمر- وهاهنا مباحث أحدها انه لا يجوز الخطاب مع المعدوم وأجيب بانه لما قدر وجوده كان كالموجود فصح الخطاب- وقال ابن الأنباري معنى انما يقول له اى لاجل تكوينه فعلى هذا لم يبق معنى الخطاب- وقال البيضاوي ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال بل تمثيل لحصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف وفيه تقرير لمعنى الإبداع- ثانيها انه نصب يكون بتقدير ان يقتضى ان يكون صيغة الأمر بمعناه حتى يقدر بعده بعد الفاء ان في جوابه وليس الأمر كذلك بل هو على سبيل تمثيله بسرعة حصول المراد فكيف يتصور النصب- وأجيب بان نصبه على جواب الأمر بالفاء في ظاهر اللفظ وان لم يكن في المعنى كذلك- ثالثها ان من شرائط تقدير ان سببيّة ما قبل الفاء لما بعده- وحينئذ يلزم ان يكون للمكن كونان وأجيب عنه بان المراد بالكون الاول الوجوب مجازا إطلاقا بالمسبب على السبب فان الممكن ما لم يجب لم يوجد فتقديره ليكن وجوب ذلك الشيء موجودة- قلت ويمكن الجواب بان المراد بالكونين كونه في دار العمل السبب وكونه في دار الجزاء المسبب لكن هذا التأويل يقتضى الاختصاص بالمكلفين وسياق الاية يقتضى العموم- والصواب ان يقال في الجواب المراد بالكونين كونه في «1» مرتبة الأعيان الثابتة لوجود علمى وكونه في الخارج الظلي بوجود ظلى كذا قالت الصوفية العلية ولا يلزم منه كون مرتبة الأعيان الثابتة حادثة حدوثا زمانيا بل حدوثا ذاتيا- وعلى هذا التأويل هذا الاية تدل على التوحيد الشهودى كما قال به المجدد رضى الله عنه دون التوحيد الوجودي كما قال به الشيخ الأكبر محى الدين العربي قدس سره ان الممكنات ما شمت رائحة الوجود يعنى في الخارج والله اعلم. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال ابن عباس المراد به اليهود- وكذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عنه انه قال قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه- وقال مجاهد المراد به النصارى- وانما نفى العلم عن الفريقين لتجاهلهم- وقال قتادة المراد به الأميون من مشركى العرب لَوْلا هلّا وكذا كل ما في القران لولا فهو بمعنى هلّا الا في قوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ معناه فلو لم يكن يُكَلِّمُنَا اللَّهُ كما يكلم الملائكة وكلم موسى فلا يحتاج الى رسول او يكلمنا بانّك رسوله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ حجة على صدقك والاول استكبار والثاني جحود لما أتاهم من الآيات استهانة

_ (1) فى الأصل في المرتبة

[سورة البقرة (2) : آية 119]

وعنادا كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى أسلاف اليهود والنصارى مِثْلَ قَوْلِهِمْ فقالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وقالوا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ اى تشابهت قلوب الأخلاف قلوب الاسلاف في العمى والعناد قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) اى يطلبون اليقين بما هو الحق عند الله تعالى خصهم لان منفعة الآيات راجعة إليهم لا الى المجادلين عتوا وعنادا. إِنَّا أَرْسَلْناكَ متلبسا بِالْحَقِّ ومؤيدا به قال ابن عباس المراد بالحق القران قال الله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ بَشِيراً لاهل الطاعة وَنَذِيراً مخوفا لاهل المعصية وَلا تُسْئَلُ قرا نافع ويعقوب على صيغة النهى المبنى للفاعل- والباقون بالرفع على النقي المبنى للمفعول عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) هو معظم النار والمعنى على قراءة الجمهور انه لا تسئل انهم لم لم يؤمنوا انما عليك البلاغ وعلينا الحساب وعلى قراءة نافع النهى عن السؤال كناية عن شدة عقوبة الكفار يقال لا تسئل عن شر؟؟ فانه فوق ما تحسب او انه عسير مفزع سماعها- وما ذكر البغوي انه قال عطاء عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم ليت شعرى ما فعل أبواي فنزلت هذه الاية- وقال عبد الرزاق أخبرني الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عنه- واخرج ابن جرير من طريق ابن جريح أخبرني داود بن عاصم عنه فذكرا نحوه فليس بمرضى عندى وليس بقوى- ولو صح ذلك فهذا زعم من ابن عباس فانه لو سلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ليت شعرى ما فعل أبواي ونزلت في هذا اليوم تلك الاية اتفاقا فلا دليل فيه على ان المراد باصحاب الجحيم أبواه صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير التسليم فتلك الاية لا تدل على كفرهما فان المؤمن قد يكون من اصحاب الجحيم لاكتساب بعضى المعاصي حتى تدركه المغفرة بشفاعة شافع او دون ذلك او يبلغ الكتاب اجله- وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري من حديث ابى هريرة وقال صلى الله عليه وسلم ما افترق الناس فرقتين الا جعلنى الله فى خيرهما فاخرجت من بين أبوي ولم يصبنى شىء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح لم اخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت الى ابى وأمي فانا خيركم نفسا وخيركم أبا- ورواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث انس وابو نعيم في دلائل النبوة من حديث ابن عباس نحوه- وقد صنف الشيخ

[سورة البقرة (2) : آية 120]

الاجل جلال الدين السيوطي رضى الله عنه في اثبات اسلام اباء النبي صلى الله عليه وسلم رسائل وأخذت من تلك الرسائل رسالة فذكرت فيها ما يثبت إسلامهم ويفيد اجوبة شافية لما يدل على خلافه فلله الحمد. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ الملة ما شرع الله لعباده على لسان أنبيائه- من أمللت الكتاب إذا املاته- قيل انهم كانوا يسئلون الهدنة ويطمعونه انه ان امهلهم يؤمنوا فنزلت- واخرج الثعلبي عن ابن عباس ان يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلّى الى قبلتهم فلما صرف القبلة الى الكعبة ايئسوا منه فنزلت- وفي الاية مبالغة في اقناط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم يعنى انهم يريدون ان تتبع ملتهم فكيف يتبعونك- ولعلهم قالوا مثل ذلك ولذا القن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم جوابهم حيث قال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى اى الحق لا ما يدعون اليه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الهوى رأى يتبع الشهوة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اى الوحى او الدين المعلوم صحته ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) يدفع عنك عقابه. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى القران قال قتادة وعكرمة هم اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم المؤمنون عامة او المراد به مؤمنوا اهل الكتابين قال ابن عباس نزلت في اهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن ابى طالب وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا- وقال الضحاك هم الذين أمنوا من اليهود منهم عبد الله بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسيد وأسد ابنا كعب بن يامين وعبد الله بن صوريا فحينئذ الموصول للمعهود يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الضمير راجع الى الكتاب اى يتلون الكتاب بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر فى معناه والعمل بمقتضاه «1» - وقال الكلبي الضمير راجع الى محمد صلى الله عليه وسلم اى يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس- وهذا على تقدير كون المراد بالموصول مومنوا اهل الكتاب- وقوله تعالى يتلونه حق تلاوته حال مقدرة والخبر ما بعده او خبر وقوله تعالى أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبر بعد خبر اى بكتابهم او بمحمد صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى بالكتاب بالتحريف-

_ (1) اخرج الخطيب بسند فيه مجاهيل عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يتبعونه حق اتباعه- وعن عمر في قوله تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال إذا مر بذكر الجنة سال الله الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار- منه رحمه الله

[سورة البقرة (2) : الآيات 122 إلى 123]

او بالكفر بما يصدقه او بمحمد صلى الله عليه وسلم فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) حيث اشتروا الكفر بالايمان. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) لمّا صدر قصتهم بالأمر بذكر النعمة والقيام بحقوقها والحذر عن اضاعتها والخوف عن الساعة وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وإيذانا بانه فذلكة القصة والمقصود منها-. وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ- قرا هشام إبرهم في جميع هذه السورة وهى خمسة عشر وفي النساء ثلثة وهى الاخيرة وفي الانعام الحرف الأخير وفي التوبة الحرفان الآخران وفي ابراهم حرف وفي النحل الحرفان وفي مريم ثلثة أحرف وفي العنكبوت الحرف الأخير وفي الشورى حرف وفي الذاريات حرف وفي النجم حرف وفي الحديد حرف وفي الممتحنة الحرف الاول- فذلك ثلثة وثلثون حرفا وجملته تسع وستون «1» وقرا ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين «2» والباقون ابراهيم بالياء في الجميع والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء وهو يستلزم الاختبار فظن ترادفهما والمراد بالكلمات مدلولاتها وهى الأوامر والنواهي قال عكرمة عن ابن عباس هى ثلثون سهما هن شرايع الإسلام لم يبتل أحد بهذا الدين فاقامه كلّه الا ابراهيم فكتب له البراءة فقال وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى- عشرة في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وعشر في الأحزاب ان الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ- وعشر في المؤمنين وسال سائل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ الاية الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ

_ (1) هكذا في الأصل لعله سبق قلم- ابو محمد عفا الله عنه (2) فى الأصل الوجهين-

لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ- وقال طاؤس ابتلاه الله بعشرة أشياء هى الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في البدن تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء- وقال الربيع وقتادة ... مناسك الحج- وقال الحسن ابتلاه الله بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فاحسن فيها النظر وعلم ان ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها- وقال سعيد بن جبير هو قول ابراهيم وإسماعيل إذ يرفعان قواعد البيت رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا فرفعاه بسبحان الله والحمد لله ولا الله الا الله والله اكبر- وقال يمان بن رباب هن محاجة قومه قال الله تعالى وحاجّه قومه الى ان قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ- وقيل هى قوله الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الى اخر الآيات- وقيل المراد بالكلمات ما تضمنه الآيات التي بعدها- قلت والجمع بين هذه الأقوال اولى فالمراد به والله تعالى اعلم ان الله ابتلاه بالأوامر والنواهي كلها منها الثلاثون ومنها العشرة ومنها السبعة وغير ذلك فَأَتَمَّهُنَّ اى فاداهن كلهن كملا وقام بهن حق القيام وقالَ الله تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً كلمة قال فعل تعلق به الظرف المتقدم اعنى إذ ابتلى معطوفة على ما قبلها- وان كان الظرف متعلقا بمحذوف يعنى اذكر فهى استيناف كانه قيل فماذا قال ربه حين اتمهن فاجيب بذلك او بيان لقوله ابتلى فيكون الكلمات ما ذكره من الامامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام وجاعل من الجعل الذي له مفعولان والمراد بالامامة هاهنا النبوة او ما هو أعم منه اعنى من يؤتم به ويجب اطاعته- وليس المراد به السلطنة او الامامة بالمعنى الأخص الذي اخترعه الامامية وليس له في اللغة والشرع اصل- وقد جعل الله تعالى لابراهيم عليه السلام امامة عامة حتى قال لسيد الأنبياء اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قالَ ابراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف اى بعض ذريتى- والذرية نسل الرجل فعليّة او فعّولة قلبت راءها الثالثة ياء كما في دسّها- مشتق من الذر بمعنى التفرق- او فعولة او فعيلة من الذرء بمعنى الخلق قلبت

[سورة البقرة (2) : آية 125]

همزتها ياء قالَ الله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي يعنى الامامة قرا حفص وحمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الظَّالِمِينَ (124) من ذريتك أجاب دعاءه وخص ذلك بالمتقين- والمراد بالظالم الفاسق ان كان المراد بالامامة النبوة لان العصمة شرط في النبوة اجماعا- او المراد به الكافر ان كان المراد بالامامة أعم من النبوة كل من يؤتم به ويقتدى فان الكافر لا يجوز ان يؤخذ أميرا ولا مطاعا حيث قال الله تعالى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وقال وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً- ولو قلنا ان المراد بالامامة كونه مطاعا وبالظالم الفاسق قلنا معنى قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ان الفاسق وان كان أميرا فلا يجوزا طاعته في الظلم والمعصية لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- رواه مالك واحمد من حديث عمران والحكيم بن عمرو الغفاري وروى البخاري ومسلم وابو داود والنسائي من حديث علىّ بلفظ لا طاعة لاحد في معصية الله انما الطاعة في المعروف «1» - واما النصوص الواردة في وجوب إطاعة اولى الأمر كقوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ- وقوله عليه الصلاة والسلام اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا كانّ رأسه زبيبة- فمختصة بما لم يخالف أمرهم امر الشارع فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليس في الاية حجة للروافض على كون العصمة شرطا في الامامة والله اعلم-. وَاذكر إِذْ جَعَلْنَا ادغم ابو عمرو وهشام الذال من إذ في الجيم هاهنا وحيث وقع وكذا فى الزاء نحو إذ زيّن وفي السين نحو إذ سمعتموه- والصاد نحو إذ صرفنا- والتاء نحو إذ تبرّا والدال نحو إذ دخلوا- وادغم ابن ذكوان في الدال وحدها وخلف «2» في الدال والتاء واظهر خلاد والكسائي عند الجيم فقط ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون الذال عند ذلك كله الْبَيْتَ الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ اى مرجعا يثوبون اليه من كل جانب- او موضع ثواب لهم بحج وعمرة وصلوة فيها قال عليه الصلاة والسلام صلاته في المسجد الحرام بمائة الف صلوة- رواه ابن ماجة وَأَمْناً اى مأمنا يأمنون فيه من إيذاء المشركين فانهم كانوا لا يتعرضون لاهل مكة ويقولون هم اهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد

_ (1) واخرج ابن مردوية بسند ضعيف عن على بن ابى طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال لا طاعة الا في المعروف- منه رحمه الله (2) وكذا خلف في اختياره- ابو محمد عفا عنه [.....]

حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة وانه لن يحل القتال فيه لاحد ولم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته الا من عرّفها ولا يختلى خلاها- فقال العباس يا رسول الله الا الاذخر فانه لقينهم ولبيوتهم فقال الا الاذخر- متفق عليه من حديث ابن عباس وفي رواية ابى هريرة نحوه- وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى والمراد به الركعتان بعد الطواف روى مسلم فى حديث طويل عن جابر بن عبد الله حتى إذا اتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلثا ومشى أربعا ثم تقدم الى مقام ابراهيم عليه السلام فقرا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فجعل المقام بينه وبين البيت والله اعلم- وكلمة من للتبعيض ان كان المراد بمقام ابراهيم الحرم كله كما قال ابراهيم النخعي- او المسجد كما قال ابن يمان- او مشاهد الحج كلها عرفة ومزدلفة وغيرهما كما قال به بعض الناس- وللابتداء ان كان المراد بمقام ابراهيم الحجر الذي في المسجد يصلى اليه الائمة- وذلك الحجر هو الذي قام عليه ابراهيم عند بناء البيت وكان اثر أصابع رجليه عليه بينا فاندرس بكثر المسح بالأيدي وهذا القول أصح ويدل عليه ما ذكرنا من حديث جابر- فتقديره واتخذوا مصلى قريبا من مقام ابراهيم يعنى في المسجد او في الحرم- قرا نافع وابن عامر بفتح الخاء على الماضي عطفا على جعلنا- وقرا الآخرون بالكسر على الأمر فهو معطوف على جعلنا بتقدير وقلنا اتّخذوا- او على المقدر عاملا لاذ يعنى واذكروا إذ جعلنا واتخذوا او اعتراض معطوف على مقدر تقديره توبوا اليه واتخذوا- وعلى التقديرين الأخيرين خطاب لامة محمد صلى الله عليه وسلم عن انس قال قال عمر بن الخطاب وافقت ربى في ثلث ووافقنى ربى في ثلث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام ابراهيم عليه السلام مصلى فانزل الله واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى- وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فانزل الله تعالى اية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت ان انتهيتن او ليبدّلن الله رسوله خيرا منكن فانزل الله عز وجل عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الاية- رواه البخاري وهذه الاية حجة لابى حنيفة ومالك في القول بوجوب الركعتين بعد كل أسبوع من الطواف لان صيغة الأمر للوجوب والاخبار ادل على الثبوت والوجوب وكان القياس فرضية الركعتين للنص القطعي لكن لما كان ورد الاية

فى تلك الصّلوة ثابتا بأحاديث الآحاد قلنا بالوجوب دون الفرضية- وايضا ثبت الركعتين بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما من غير ترك مرة ولا مرتين مع قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عنى مناسككم- عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج او العمرة أول ما تقدم سعى ثلثة ومشى اربعة ثم سجد سجدتين ثم تطوف بين الصفا والمروة- متفق عليه وفي البخاري تعليقا قال اسمعيل بن امية قلت للزهرى ان عطاء يقول يجزيه المكتوبة من ركعتى الطواف قال السنة أفضل لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم اسبوعا قط الأصلي ركعتين- وصله عبد الرزاق عن الزهري كما ذكرنا- ووصله ابن ابى شيبة عن الزهري بلفظ مضت السنة ان مع أسبوع ركعتين وقال احمد بن حنبل الأمر للاستحباب وهى رواية عن مالك وللشافعى قولان- ولا يجوز حمل الأمر على الاستحباب لانه مجاز الا عند عدم تصور الوجوب ويجوز ركعتى الطواف في جميع المسجد بل خارج المسجد ايضا اجماعا- وفي الصحيحين في حديث أم سلمة- قال ص إذا أقيمت صلوة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون قالت ففعلت ذلك- ولم تصل يعنى أم سلمة بعد الطواف حتى خرجت اى من المسجد او من مكة- وروى البخاري تعليقا ان عمر رضى الله عنه صلى ركعتى الطواف خارج الحرم بذي طوى رواه مالك قلت وذلك للزوم الحرج غالبا في تقييد الصلاة بموضع معين- الا ترى انه كان القياس عدم جواز الصلاة والصوم والحج والزكوة إذا لم يقترن النية والإخلاص مع جميع اجزائها مقارنا للاداء لقوله تعالى فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ- وقوله عليه الصلاة والسلام انما الأعمال بالنيات- متفق عليه من حديث عمر لكنه للزوم الحرج في ذلك جازت الصلاة والحج بوجود النية عند الإحرام والزكوة بوجودها عند إفراز قدر الواجب عن المال- ولما كان في اشتراط النية عند أول جزء من الصيام يعنى عند طلوع الفجر وهو أوان نوم وغفلة غالبا حرج جاز الصوم بالنية من الليل بل عند ابى حنيفة رحمه الله يجوز النية في الصوم الى الضحوة الكبرى كذلك كان القياس تقييد ركعتى الطواف بالمقام لظاهر الاية لكنه جازت ركعتا «1» الطواف في المسجد بل في الحرم كلها للزوم الحرج في تعيين المصلى مع كثرة الطائفين- وقد سمى الله تعالى الحرم كله بالمسجد حيث قال الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ الاية- وقال ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- واما صلوة عمر رضى الله عنه بذي طوى فكانه قضاء للواجب للضرورة- او نقول ذكر مقام

_ (1) فى الأصل ركعتى-

ابراهيم وقع اتفاقا جريا على الغالب عند عدم الازدحام كما في قوله تعالى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وذلك لان أسبوع الطواف ينتهى على الحجر الأسود عند المقام فالغالب الصلاة عند المقام ان لم يمنع مانع كما ان الغالب كون الربائب في الحجور والله اعلم- قال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما اتى ابراهيم بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة وأتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امراة وماتت هاجر استأذن ابراهيم سارة ان يأتى هاجر فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل- فقدم ابراهيم عليه السلام وقد ماتت هاجر فذهب الى بيت إسماعيل فقال لامراته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها ابراهيم هل عندك ضيافة قالت ليست عندى وسالها عن عيشهم فقالت نحن في ضيق وشدة وشكت اليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرايه السلام وقولى له فليغير عتبة بابه- وذهب ابراهيم فجاء إسماعيل عليهما السلام فوجد ريح أبيه فقال لامراته هل جاءك أحد قالت جاءنى شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك قالت قال اقرئي زوجك السلام وقولى فليغير عتبة بابه- قال ذاك ابى وقد أمرني ان أفارقك الحقي باهلك فطلقها وتزوج منهم اخرى فلبث ابراهيم عليه السلام ما شاء الله ان يلبث ثم استأذن سارة ان يزور إسماعيل فجاء ابراهيم حتى انتهى الى باب إسماعيل فقال لامراته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وهو يجىء ان شاء الله تعالى فانزل رحمك الله قال هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن واللحم- وسالها عن عيشهم فقالت نحن بخير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر او شعير او تمر لكانت اكثر ارض الله برا وشعيرا وتمرا- وقالت له انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل- فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الايمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولته الى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقى اثر قدميه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرايه السلام وقولى له قد استقامت عتبة بابك فاضبطها فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامراته هل جاءك أحد قالت نعم شيخ احسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فقال لى كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال ذلك ابراهيم وأنت العتبة أمرني ان امسكك- ثم لبث عنهم ما شاء الله تعالى ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل عليه السلام يبرىء نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم فلما راه قام اليه فصنعا كما يصنع

[سورة البقرة (2) : آية 126]

الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال يا إسماعيل ان الله أمرني بامر أتعيننى عليه قال أعينك عليه- قال ان الله تعالى أمرني ان ابني بيتا فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتيه بالحجارة وابراهيم عليهما السلام يبنى فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام ابراهيم على حجر المقام وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- وفي الحديث- الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة- رواه مالك عن انس مرفوعا وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لاضاء اما بين المشرق والمغرب- رواه الترمذي وذكر البغوي بلفظ لولا ما مسته أيدي المشركين لاضاءتا ما بين المشرق والمغرب- ولاهل الاعتبار هاهنا استنباط وهو ان في كل مكان مكث فيه رجل من اهل الله تعالى حينا من الدهر ينزل هناك بركات من السماء وسكينة تجذب القلوب الى الله تعالى ويتضاعف هناك اجر الحسنات وكذا وزر السيئات والله اعلم- وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ اى امرناهما وأوصينا إليهما أَنْ طَهِّرا اى بان طهرا ويجوز ان يكون ان مفسرة لتضمين العهد معنى القول بَيْتِيَ اضافه اليه تفضيلا يعنى ابنيا على الطهارة والتوحيد قال سعيد بن جبير وعطاء طهراه من الأوثان والريب وقول الزور- وقيل بخراه وخلّقاه- قرا نافع وهشام وحفص بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج وزاد حفص في سورة نوح لِلطَّائِفِينَ حوله وَالْعاكِفِينَ المقيمين عنده او المعتكفين فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) جمع راكع ساجد يعنى المصلين. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا المكان بَلَداً آمِناً ذا أمن كقوله عيشة راضية اى ذات رضية- او أمنا من فيه كقولك ليل نائم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ دعا بذلك لانه كان واديا غير ذى زرع- وفي القصص ان الطائف كانت من مدائن الشام بأردن- فلما دعا ابراهيم عليه السلام أمر الله جبرئيل حتى اقتلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا ثم وضعها هاهنا ومنها اكثر ثمرات مكة مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من اهله بدل البعض خصهم بالدعاء كيلا يكون امانة للكفار على كفرهم قالَ الله تعالى وَمَنْ كَفَرَ عطف على من أمن والمعنى وارزق من كفر وتم الكلام- وفيه تنبيه على ان الرزق الذي هو رحمة دنيوية يعم المؤمن والكافر ولذلك يقال رحمن الدنيا

[سورة البقرة (2) : آية 127]

ورحيم الاخرة بخلاف النبوة وكونه مطاعا في الدين او يكون من كفر مبتدأ تضمن معنى الشرط خبره فَأُمَتِّعُهُ قرا ابن عامر مخففا من الافعال والباقون مشددا من التفعيل ومعناهما واحد قَلِيلًا اى متاعا قليلا فان متاع الدنيا قليل بالنسبة الى الاخرة او قليل رتبة عند الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء- رواه الترمذي وصححه وايضا عن سهل بن سعد- او في زمان قليل الى مدة اجالهم- فان قيل الكفر لا يكون سببا للتمتع فكيف ادخل الفاء على خبره أجيب بانه سبب لتقليل التمتع حيث يجعل نعماء الدنيا مقصورة على حظوظها العاجلة ويمنع كونها وسائل لنيل درجات الاخرة بخلاف المؤمن فان ما أنعم الله عليه في الدنيا لاجل شكره عليه وصرفه في مرضات ربه سبب لنيل درجات الاخرة المؤبدة- ويمكن ان يقال متاع الحيوة الدنيا خبيثة ملعونة عند الله فيمكن ان يكون الكفر سببا لحصوله الم تسمع قوله تعالى- وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا- يعنى ان المقتضى الأصلي للكفر متاع الحيوة الدنيا ولولا مانع كون الناس امة واحدة لاقتضى الكفر كون بيوتهم وأبوابهم وسررهم فضة وذهبا- قال عليه الصلاة والسلام الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما- رواه ابن ماجة عن ابى هريرة والطبراني بسند صحيح في الأوسط- وفي الكبير بسند صحيح عن ابى الدرداء بلفظ الا ما ابتغى به وجه الله عز وجل ثُمَّ أَضْطَرُّهُ اى ألجئه والزه لزة المضطر لكفره وصرفه المتاع فى غير مرضات ربه معطوف على أمتعة إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) هو اى العذاب قال مجاهد وجد عند المقام مكتوبا انا الله ذوبكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة املاك يأتيها رزقها من ثلثة سبل مبارك لها في اللحم والماء-. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية جمع قاعدة وهى الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات مجاز من القعود ضد القيام- ورفعها البناء عليها فانه ينقلها من هيئة الانخفاض الى هيئة الارتفاع وقال الكسائي القواعد الجدر وكل جدار قاعدة ما وضع فوقه ورفعها بناؤها وَإِسْماعِيلُ عطف على ابراهيم وسبب فصله عنه

بتقديم المفعول ان الباني لم يكن الا ابراهيم ولذا أفرده اولا بالذكر وكان إسماعيل يناوله الحجارة فكان له مدخل في البناء ولذا عطف عليه ثانيا- قال البغوي روت الرواة ان الله سبحانه خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما اهبط الله تعالى آدم عليه السلام الى الأرض استوحش فشكا الى الله عز وجل فانزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد اخضر باب شرقى وباب غربى فوضعه على موضع البيت وقال يا آدم انى أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش وتصلى عنده كما يصلّى عند عرشى- وانزل الحجر وكان ابيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية- فتوجه آدم من ارض الهند الى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدل له على البيت- فحج البيت واقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام- قال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند الى مكة على رحلته- فكان على ذلك الى ايام الطوفان فرفعه الله تعالى الى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون الف ملك ثم لا يعودون اليه- وبعث جبرئيل حتى خبا الحجر الأسود في جبل ابى قبيس- صيانة له من الغرق- فكان موضع البيت خاليا الى زمن ابراهيم عليه السلام- ثم ان الله تعالى امر ابراهيم عليه السلام بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء البيت يذكر فيه فسأل الله عز وجل ان يبين موضعه فبعث السكينة لتدله على موضع البيت- وهى ريح خجوج لها رأسان شبيه الحية- وامر ابراهيم ان يبنى حيث يستقر السكينة- فتبعها ابراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت كتطوى الجحفة هذا قول على والحسن- وقال ابن عباس بعث الله تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وابراهيم يمشى في ظلها الى ان وافت مكة ووقفت على موضع البيت فنودى منها ابراهيم ان ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص- وقيل أرسل الله جبرئيل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ- فكان ابراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجر- قال ابن عباس بنى البيت من خمسة اجبل طور سينا وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنى قواعد من حرا وهو جبل بمكة فلما انتهى الى موضع الحجر الأسود قال لاسماعيل ايتني بحجر حسن يكون للناس علما فاتاه بحجر فقال ايتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل بطلبه فصاح ابو قبيس يا ابراهيم ان لك عندى وديعة فخذها فاخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه- وقيل ان الله تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى ضراح وامر الملائكة ان يبنوا

[سورة البقرة (2) : آية 128]

الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله- وقيل أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان ثم أظهره الله تعالى لابراهيم عليه السلام حتى بناه رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ (127) بنياتنا. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ اى منقادين لجميع او أمرك ظاهرا وباطنا قال عليه الصلاة والسلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده- متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر والمعنى من لا يصدر عنه معصية فيسلم هو من عذاب الله ويسلم غيره من إيذائه او من خبث صحبته وهذا هو الإسلام الكامل المعبر بالإسلام الحقيقي ولا يتصور الا بعد اطمينان النفس وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ من للتبعيض دعوالهم بشفقة الابوة وخصا «1» بعضهم لما علما مما سبق ان يكون بعضهم كفارا- ويحتمل ان يكون من للبيان فصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ- وَأَرِنا اى عرّفنا أصله أرانا على وزن اكفنا- قرا ابن كثير وابو شعيب أرنا وأرنى ساكن الراء حيث وقع بحذف الهمزة مع كسرتها للتخفيف وقرا ابو عمر بالاختلاس والباقون مكسور الراء بحذف الهمزة بعد نقل بعض حركتها او كلها الى الراء مَناسِكَنا اى شرائع ديننا واعلام حجنا والنسك في الأصل غاية العبادة شاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا- قال البغوي فاجاب الله دعوتهما وبعث جبرئيل فاراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغا عرفات قال عرفت يا ابراهيم قال نعم فسمى الوقت والمكان عرفة وَتُبْ عَلَيْنا قالا ذلك الدعاء هضما لانفسهما وإرشادا لذريتهما إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) لمن تاب إليك. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ من أنفسهم فاجاب الله دعونهما وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم- عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال انى عند الله مكتوب خاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته وساخبركم باول امرى دعوة ابراهيم وبشارة عيسى عليهما السلام ورؤيا أمي التي رات حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام- رواه البغوي في شرح السنة واحمد عن ابى امامة عن قوله ساخبركم الى آخره يَتْلُوا عَلَيْهِمْ يقرا آياتِكَ الدلائل على التوحيد والنبوة وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القران وَالْحِكْمَةَ ما يكمل نفوسهم من المعارف والاحكام وقيل هى السنة- وقيل هى القضاء وقيل الفقه وَيُزَكِّيهِمْ اى يطهرهم من الشرك والذنوب- وقيل يأخذ الزكوة من أموالهم وقال ابن كيسان يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة

_ (1) فى الأصل خص-

[سورة البقرة (2) : آية 130]

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قال ابن عباس العزيز من لا يوجد مثله وقال الكلبي المنتقم- وقيل المنيع الذي لا يناله الأيدي ولا يصل اليه شىء- وقيل الغالب الذي لا يغلبه أحد الْحَكِيمُ (129) ذو الحكمة البالغة والله اعلم- قال ابن عساكر روى ان عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا الى الإسلام وقال لهما قد علمتهما ان الله عز وجل قال في التورية انى باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد فمن أمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة وابى مهاجران يسلم فانزل الله تعالى. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ استبعاد وانكار لان يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء اى لا يرغب أحد عن ملته- والرغبة إذا عدى بالى فالمراد به الارادة وان عدى بعن فالمراد به الترك إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ السفه في الأصل الخفة ويقال لمن يتعجل في الافعال باتباع الهوى والشهوة من غير تدبر وتفكر في منافعه ومضاره خفيف وسفيه- وضده الحليم- ويسند السّفه بهذا المعنى الى نفس الشخص والى رأيه فيقال زيد سفيه وسفه نفسه وسفه رأيه اى خف نفسه فيأتى بالافعال على خلاف ما اقتضاه العقل وخف رأيه وحينئذ لا يتعدى الى مفعول وقد يستعمل بحرف الجر فيقال سفه زيد في نفسه وفي رأيه ولمّا كان السفه والخفة مستلزم لاهانة النفس واهلاكها وخفة الرأى مستلزم للجهل فيستعار ويقال سفه نفسه اى أهانها او أهلكها او جهلها فحينئذ يتعدى الى مفعول- او يقال تعدى الى مفعول بتضمين معنى أهلك- او أهان او جهل ولهذا قيل في تفسير الاية سفه نفسه اى جعلها مهانا وذليلا حيث كفر بخالقه وعبد مخلوقا مثله- وقال ابو عبيدة أهلك نفسه- وقال الأخفش نصب بنزع الخافض وإفضاء الفعل اليه والمعنى سفه في نفسه- وقال الفراء أصله سفه نفسه بالرفع فلما أسند الفعل الى صاحبها نصب على التميز كما يقال ضقت به ذرعا وطاب زيد نفسا في ضاق ذرعى وطاب نفس زيد- وقال ابن كيسان والزجاج معناه جهل نفسه وذلك انه من عبد غير الله فقد جهل نفسه لانه لم يعرف الله خالقها- وقد جاء من عرف نفسه فقد عرف ربه- قلت ومعنى من عرف نفسه فقد عرف ربه انه من عرف حقيقة نفسه انه ممكن لا يقتضى ذاته وجوده ولا بقاءه لا يتصور له في نفسه وجود ولا قيام ولا بقاء- ولا يجوز حمله على نفسه حملا أوليا نحو زيد زيد الا بعد انتسابه الى واجب وجوده قائم بنفسه قيوم لغيره لو لاه لم يوجد غيره وهو كالاصل للظلال وهو نور السموات والأرض قيم الأشياء واقرب الى الأشياء من أنفسها

[سورة البقرة (2) : آية 131]

حيث لم يجز حمل أنفسها عليها الا بعد انتسابها اليه فقد عرف ربا واجبا واحد قيوما نورا مبينا قريبا ومن سفه نفسه اى جهلها جهل ربه وفي الاخبار ان الله تعالى اوحى الى داود اعرف نفسك وأعرفني- فقال يا رب كيف اعرف نفسى وكيف أعرفك- فاوحى الله تعالى اليه اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء وأعرفني بالقوة والقدرة والبقاء- واعلم ان الجهل يكون ضد العلم الذي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع المتعلق بالنسبة الحكمية التي بين القضية فيقتضى المفعولين- والعلم يحصل بالبداهة او بالاستدلال او الوحى او الإلهام وضده الجهل وهو عدم أصلي يستند الى عدم تلك الأشياء ويكون ضد المعرفة التي يقتضى مفعولا واحدا وهو من باب التصورات ويحصل المعرفة بالبداهة او البصيرة الموهوبة لارباب القلوب والمراد بالسفه هو الجهل بالمعنى الثاني حيث عدى الى مفعول واحد اى لم يعرف نفسه بالبصيرة والله اعلم- وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ نديما وخليلا فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الأنبياء الصَّالِحِينَ (130) فى مراتب القرب- الصلاح ضد الفساد وذلك بالمعاصي القلبية او القالبية فكمال الصلاح بالعصمة ودون ذلك بدون ذلك والمراد هاهنا كماله وفي هذه الاية حجة وبيان لما سبق فانه من كان هذا شأنه فلا يرغب عن اتباعه إلا سفيه جاهل ضعيف العقل. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ يعنى نفسك الى الله عز وجل وفوض أمورك اليه كذا قال عطاء وقال الكلبي أخلص دينك وعبادتك له- قال ابن عباس قاله ذلك حين خرج من السرب- والظرف متعلق باصطفيناه تعليل له او منصوب بإضمار اذكر كانه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم انه المصطفى قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) فوضت اليه أموري- ومقتضى هذا التسليم انه عليه السلام لما رمى مغلولا بالمنجنيق في نار نمرود قال له جبرئيل هل لك حاجة- فقال اما إليك فلا- فقال- فاسئل ربك- قال حسبى من سوالى علمه بحالي- فجعل الله تعالى ببركة تفويض أموره الى الله تعالى حظيرة النار روضة ولم يحترق منه إلا وثاقه رواه ( «1» ) . وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ قرا اهل المدينة واهل الشام واوصى من الافعال وكذلك في مصاحفهم والباقون وصّى من التفعيل مثل نزّل وانزل والتوصية هو التقدم الى الغير بفعل فيه صلاح وقربة- أصلها الوصلة يقال وصّاه إذا وصله- وفصّاه إذا فصله كانّ الموصى يصل فعله بفعل الموصى- والضمير في بها راجع الى الملة او بقوله أسلمت على تأويل الكلمة بَنِيهِ الثمانية إسماعيل وامه هاجر القبطية وإسحاق وامه سارة

_ (1) هكذا بياض في الأصل-

[سورة البقرة (2) : آية 133]

وستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها ابراهيم بعد وفاة سارة وَيَعْقُوبُ عطف على ابراهيم ووصّى بها ايضا يعقوب بنيه اثنى عشر يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصي عند الكوفيين لانه نوع منه إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى اختار لَكُمُ الدِّينَ دين الإسلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) مؤمنون مخلصون مفوضون أموركم الى الله تعالى- والنهى في الظاهر وقع على الموت- وفي الحقيقة نهى عن ترك الإسلام في حين من الأحيان كيلا يقع الموت في تلك الحين وهو موت لا خير فيه ومن حقه ان لا يحل لهم- قالت اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم- الست تعلم ان يعقوب يوم مات اوصى بنيه باليهودية فنزلت. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ اى قاربه فام منقطعة تقديره ليس الأمر كما قلتم ايها اليهود بل أكنتم يعنى ما كنتم حاضرين فلم تدّعون دعاوى باطلة- وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شهدتم ذلك وانما علمتموه بالوحى إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إذ حضر ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي اى اى شىء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم قال عطاء ان الله تعالى لم يقبض نبيا حتى خيره بين الموت والحيوة فلما خير يعقوب قال أنظرني حتى اسئل ولدي واوصيهم ففعل ذلك فجمع ولده وولد ولده وقال لهم قد حضر اجلى فما تعبدون بعدي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لابائك وكان اسمعيل عمالهم والعرب يسمى العم أبا كما يسمى الخالة امّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عم الرجل صنو أبيه- رواه الترمذي وصححه من حديث على والطبراني عن ابن عباس- وقال عليه السلام في عمه العباس ردوا على ابى فانى أخشى ان تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود وذلك انهم قتلوه إِلهاً واحِداً بدل من المضاف في إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشي من تكرير المضاف تتعذر العطف على المجرور به بدونه- او منصوب بمقدر اى نريد بإلهك واله آبائك إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) حال من فاعل نعبد او مفعوله او منهما- ويحتمل ان يكون اعتراضا. تِلْكَ أُمَّةٌ اى جماعة يعنى ابراهيم ويعقوب وابناءهما- والامة في الأصل المقصود سمى بها الجماعة لان الفرق تأمّها قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ من العمل وَلَكُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 135]

ما كَسَبْتُمْ فلا ينفع حسناتهم إياكم بانتسابكم إليهم ما لم توافقوهم فيها وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) بل يسئل كل عن عمله دون عمل غيره- اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال ابن صوريا لنبى الله صلى الله عليه وسلم ما الهدى الا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدى وقالت النصارى مثل ذلك- وقال البغوي قال ابن عباس ان رءوس يهود بالمدينة كعب بن اشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وابى ياسر بن اخطب ونصارى اهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين وزعمت كل فرقة انها أحق بدين الله فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التورية أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقران- وقالت النصارى نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بمحمد والقران وقال كلا الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين الا ذلك فانزل الله تعالى. وَقالُوا اى اليهود والنصارى كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى كلمة او للتنويع يعنى مقالهم أحد هذين القولين تَهْتَدُوا جواب للامر قُلْ يا محمد بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعنى لا نكون هودا ولا نصارى بل تكون ملة ابراهيم اى اهل ملته او على ملته فحذف على فصار منصوبا- او المعنى بل نتبع ملة ابراهيم او المعنى بل اتبعوا أنتم ايها اليهود والنصارى ملة ابراهيم حَنِيفاً أصله من الحنف بمعنى الميل عن الطريق يعنى مائلا من الأديان كلها الى الإسلام منصوب على الحال من المضاف اى ملة مائلة من الباطل او من المضاف اليه يعنى ابراهيم مائلا كما في قوله تعالى وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً وعند نحاة الكوفة منصوب على القطع أراد بل ملة ابراهيم الحنيف فلما أسقطت الالف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فنصب وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) تعريض باهل الكتابين فانهم يدّعون اتباعه وهم مشركون. قُولُوا ايها المؤمنون آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعنى القران قدم لانه سبب لنا للايمان بغيره وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهو عشر صحف أنزلت على ابراهيم فتعبد بها هو وبنوه وأحفاده ولذا نسب انزالها إليهم كما نسب إنزال القران إلينا بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم والأسباط بمعنى الجماعات من بنى إسرائيل كالقبائل من العرب

[سورة البقرة (2) : آية 137]

والشعوب من العجم وكانت بنوا إسرائيل اثنى عشر سبطا لكل ولد من أبناء يعقوب سبط- وقيل المراد بالأسباط أبناء يعقوب اثنا عشر سموا بذلك لانه ولد لكل منهم سبط وجماعة- او لان سبط الرجل حافده ومنه قيل للحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهما وأبناء يعقوب كانوا «1» أحفادا لإبراهيم عليه السلام وَما أُوتِيَ مُوسى يعنى التورية وَعِيسى يعنى الإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ كلهم مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كما فرّق اليهود والنصارى امنت كل فرقة ببعض دون بعض وَنَحْنُ لَهُ اى لله مُسْلِمُونَ (136) وهذا هو الإسلام الذي كان ملة لابراهيم الحنيف ودينا لكل نبى من الأنبياء ودينا لمحمد صلى الله عليه وسلم لا ما زعمته اليهود والنصارى فانه اشراك- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم في الاولى والاخرة الأنبياء اخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبى متفق عليه قلت معنى قوله عليه السلام الأنبياء اخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد ان أصلهم واحد وهو الوحى من الله تعالى واستعداداتهم مختلفة فلاجل اختلاف الاستعدادات التي هى بمنزلة الأمهات اختلفوا في فروع الشرائع ودينهم واحد وهو اتباع او امر الله تعالى ونواهيه على ترك الهوى والايمان بذاته وصفاته وأحكامه واخباره في المبدا والمعاد- عن ابى هريرة قال كان اهل الكتاب يقرءون التورية بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الإسلام فقال عليه السلام لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا أمنا بالله الاية- رواه البخاري. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ اى أمنوا إيمانا مثل ايمانكم فالباء زائدة كما في قوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها- او لفظ المثل مقحم كما في قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ اى عليه ويشهد له قراءة ابن عباس فان آمنوا بما آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا اى اعرضوا عنه فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ اى خلاف من الحق وشق غير شق الحق وقيل في عداوة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «2» وعد بالحفظ والنصر للمؤمنين وقد أنجز وعده بإجلاء النضير وقتل قريظة وضرب الجزية على اليهود والنصارى وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوال المؤمنين والكفار الْعَلِيمُ (137) بنياتهم وأحوالهم كلهم يجزى

_ (1) روى من طرق متعددة ان المصريين لما دخلوا على عثمان كان المصحف بين يديه فضربوه بالسيف على يديه فجر الدم على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فقال عثمان والله انها لاول يدخطت المفصل- قيل فما مات منهم رجل سويا- منه رحمه الله (2) كتب في الأصل كما في قوله تعالى ثم حك منه لفظ تعالى لعله من الناسخ وهذه الجملة موجودة ابن القران في سورة يونس في اية 27- ابو محمد عفا الله منه

[سورة البقرة (2) : آية 138]

كلهم بما كسب. صِبْغَةَ اللَّهِ اى دين الله كذا قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن سمى الدين صبغة لظهور اثر الدين على المتدين كالصبغ على الثوب فهو منصوب على انه مصدر مؤكد لقوله امنّا- او على البدل من ملة ابراهيم- او على الإغراء اى عليكم صبغة الله وقيل المراد بصبغة الله الختان لانه يصبغ صاحبه بالدم فهو منصوب على الإغراء اى الزموا صبغة الله الختان قال ابن عباس كانت النصارى إذا ولد لهم ولد فاتت عليه سبعة ايام غمسوه في ماء لهم يقال له المعبودى يزعمون تطهيره بذلك يفعلونه مكان الختان فاذا فعلوا به ذلك قالوا الان صار نصرانيا حقا فاخبر الله تعالى ان دينه الإسلام وأحكامه من الختان وغيره وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً دينا وتطهيرا يعنى لا احسن منه وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) تعريض لهم اى لا نشرك كشرككم معطوف على امنّا على تقدير كون صبغة الله منصوبا على المصدرية والا فهو معطوف على صبغة الله او على اتبعوا ملة ابراهيم بتقدير قولوا- يعنى الزموا صِبْغَةَ اللَّهِ وَقولوا نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ او المعنى اتبعوا ملة إبرهم وقولوا. قُلْ يا محمد لليهود والنصارى أَتُحَاجُّونَنا تجادلوننا فِي اللَّهِ اى في دينه واصطفائه نبيا من العرب دونكم وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم يصطفى بالنبوة من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لكل واحد جزاء عمله وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) وأنتم به مشركون فنحن أحق به منكم قال سعيد بن جبير الإخلاص ان يخلص العبد دينه وعمله لله فلا يشرك به في دينه ولا يرائى بعمله قال الفضل ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص ان يعافيك الله عنهما. أَمْ منقطعة والهمزة للانكار وقيل أم بمعنى الهمزة فقط للتوبيخ تَقُولُونَ قرا ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص على الخطاب والآخرون على الغيبة إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وقد اخبر الله تعالى انه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً بخلاف اليهود والنصارى فانهم مشركون- واما الذين كانوا على الدين الحق لموسى وعيسى قبل النسخ كانوا اتباعا لابراهيم في الدين وما كانوا مشركين وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فكيف يتبع ابراهيم وموسى وعيسى بل

[سورة البقرة (2) : آية 141]

يتبعانه وقد علمت اليهود والنصارى بهذا لكنهم كتموا الشهادة بالحق وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة في التورية عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ من للابتداء متعلق بشهادة يعنى لا أحد اظلم ممن كتم شهادة الله تعالى لابراهيم بالحنفية والبراءة من اليهودية والنصرانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة التي هى في التورية والإنجيل وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) وعيد لهم. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عن الافتخار بالآباء والاتكال عليهم- وقيل الخطاب فيما سبق لهم وفي هذه الاية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم وقيل المراد بالآية الاولى الأنبياء وبالثانية أسلاف اليهود والنصارى والله اعلم. سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الذين خف عقولهم حيث ضيعوها بالتقليد والاعراض عن النظر الصحيح او العناد وهم المنافقون واليهود والمشركون ما وَلَّاهُمْ صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعنى البيت المقدس وفائدة تقديم الاخبار توطين النفس واعداد الجواب- والقبلة في الأصل هى الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة نقل الى المكان المتوجه اليه عند الصلاة- نزلت في اليهود ومشركى مكة لما طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس الى مكة اخرج ابن جرير من طريق السدى بأسانيده قال لما صرف الله النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته الى بيت المقدس قال المشركون من اهل مكة تحير محمد في دينه فتوجه بقبلته إليكم وعلم انكم اهدى منه سبيلا ويوشك ان يدخل في دينكم- وذكر البغوي انه قال رؤساء اليهود لمعاذ بن جبل رضى الله عنه ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لا يختص به مكان دون مكان وانما امر القبلة امر تعبدى والعبرة فيها لامر الله تعالى لا دخل فيه لخاصية في المكان يَهْدِي مَنْ يَشاءُ من عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) اى الى ما يرتضيه. وَكَذلِكَ اشارة الى مفهوم الاية المتقدمة اى هديناكم الى صراط مستقيم- او الى ما مر سابقا اى كما اصطفينا ابراهيم فى الدنيا وجعلناه في الاخرة من الصالحين جَعَلْناكُمْ يا امة محمد صلى الله عليه وسلم أُمَّةً وَسَطاً- «1» خيارا ممن عداهم عدولا مزكين بالعلم والعمل والمعرفة- وهو في الأصل اسم للمكان

_ (1) اخرج احمد والحاكم وصححاه عن ابى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى امّة وسطا قال عدولا- اخرج الدارمي عن ابن عباس- انه سال كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التورية قال كعب- نجده محمد بن عبد الله يولد بمكة ويهاجر منه الى طابة ويكون ملكه بالشام وليس بفحاش ولا سحاب في الأسواق ولا يكافى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر أمته الحمّادون يحمدون الله في كل السراء والضراء ويكبرون على كل نجد ويوضعون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم ويصفّون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم دويهم في مساجدهم كدوى النحل يسمع مناديهم- واخرج الدارمي عن كعب الأحبار في السطر الاول محمد رسول الله عبدى المختار لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وفي السطر الثاني- محمد رسول الله أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء يحمدون الله في كل منزلة ويكبرون على كل شرف رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة ويأتزرون على أوساطهم ويوضعون أطرافهم أصواتهم بالليل في جو السماء كاصوات النحل- منه رحمه الله

الذي يستوى اليه المساحة من الجوانب ثم استعير لخير الخصال والمحمودة منها لوقوعها بين طرفى افراط وو تفريط كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور والجبن ثم اطلق على المتصف بها- مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي يوصف بها قال الله تعالى قال أوسطهم اى خيرهم وقال الكلبي حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه اى اهل دين وسط بين الغلو والتقصير- واستدل به على حجية الإجماع لان بطلان ما اجمعوا عليه ينافى عدالتهم- فان قيل ان اخطأ مجتهد في اجتهاده لا ينتفى منه عدالته فمالك تحكم بها إذا اتفقوا على الخطاء اتفاقا- قلت قد سمعت ان لفظ الوسط استعير اولا للخصال ثم اطلق على المتصف بها كما يقال زيد عدل وعلى قول الكلبي انما هو صفة لدينهم فاطلاق الامة الأوسط عليهم يدل على ان شرائع دينهم وخصالهم المتفقة عليها كلها محمودة فعلى تقدير وقوع الخطاء في إجماعهم وان كانوا معذورين في ذلك غير متصفين بالفسق لكن بعض خصالهم المتفق عليها مذموم البتة فكيف يكون خصالهم كلها محمودة والله اعلم- عن ابى سعيد الخدري قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا الى يوم القيامة الا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان قال اما انه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها الا كما بقي من يومكم هذا إلا وإن هذه الامة توفى سبعين امة هى أخيرها وأكرمها على الله عز وجل رواه البغوي- وروى الترمذي وابن ماجة والدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده نحوه والحمد لله رب العلمين لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يوم القيامة ان الرسل قد بلغتهم تعليل لجعلهم عدولا ودليل على ان العدالة شرط للشهادة وَيَكُونَ الرَّسُولُ محمد صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُمْ اى على عدالتكم شَهِيداً يعنى يكون معدّلا ومزكيا لكم- ولما كان الشهيد كالرقيب جىء بكلمة الاستعلاء وان كان حق المقام اللام- ذكر البغوي ان الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ فيقولون ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فيسئل الأنبياء

عليهم السلام عن ذلك فيقولون كذبوا قد بلغناهم فيسئلهم البينة وهو اعلم بهم اقامة للحجة فيؤتى بامة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم انهم قد بلّغوا فيقول الأمم الماضية من اين علموا وانهم أتوا بعدنا فيسئل هذه الامة فيقولون أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا اخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسئل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم- وروى البخاري والترمذي والنسائي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فيسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته قال محمد صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فتشهدون له بالابلاغ واشهد عليكم- واخرج احمد والنسائي والبيهقي عنه بلفظ يجىء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان واكثر من ذلك فيقال لهم هل بلغتم فيقولون نعم فتدعى قومهم فيقال لهم هل بلغوكم فيقولون لا فيقال للنبيّن من يشهد لكم انكم بلغتم فيقولون امة محمد صلى الله عليه وسلم فتدعى امة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون انهم قد بلغوا فيقال لهم وما أعلمكم انهم قد بلغوا فيقولون جاءنا نبينا بكتاب أخبرنا انهم قد بلغوا فصدقناه فيقال صدقتم- وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها الجعل اما متعد الى مفعول واحد فحينئذ الموصول مع الصلة صفة للقبلة والمضاف محذوف يعنى ما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها وهى بيت المقدس- واما متعد الى مفعولين ومفعوله الثاني محذوف اى ما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة- ويحتمل ان يكون القبلة مفعوله الاول والموصول مع الصلة بمعنى الجهة التي كنت عليها مفعوله الثاني والمراد بالموصول البيت المقدس- والمعنى ما جعلنا في سابق الزمان القبلة الجهة التي كنت عليها يعنى ان اصل أمرك ان تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك في سابق الزمان بيت المقدس الا لنعلم- ويحتمل ان يكون كنت عليها بمعنى أنت عليها الان يعنى الكعبة الا لنعلم- وقيل في تفسيره وما جعلنا القبلة الان الجهة التي كنت عليها قبل الهجرة وهى الكعبة- وهذا مبنى على انه صلى الله عليه وسلم كان يصلى قبل الهجرة الى الكعبة وهذا التأويل يستلزم النسخ مرتين ويخالف سياق قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فان

المراد هناك بالموصول بيت المقدس لا غير- وكان القياس ان يقال وما جعلنا التي كنت عليها قبلة لكن قدم القبلة وجعل أول المفعولين للاهتمام به او هو من باب القلب إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فى الصلاة حيثما توجه بامر الله تعالى مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد كما في الحديث ان القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين الى اليهودية وقالوا رجع محمد صلى الله عليه وسلم الى دين ابائه- والعلم اما بمعنى المعرفة ومن يتبع الرسول مفعوله وممن ينقلب متعلق به او هو متعلق لما في من معنى الاستفهام- او يكون من موصولة مفعوله الاول وممن ينقلب مفعوله الثاني اى لنعلم من يتبع الرسول مميزا ممن ينقلب- فان قيل علم الله تعالى قديم فكيف يتصور غاية لتحويل القبلة أجيب عنه بوجوه منها ما قال اهل المعاني ان اللام للتعليل لا لبيان الغاية وصيغة المضارع بمعنى الماضي كما في قوله تعالى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ فالمعنى الا لما علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه يعنى لما سبق في علمنا ان تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين- ومنها ما قيل ان المراد بالعلم رسولنا واولياؤنا حذف المضاف وأسند الفعل الى نفسه مجازا كما مر في الحديث القدسي مرضت فلم تعدنى إظهارا لشرفهم واختصاصهم وفي هذه التأويلات قول بالمجاز وتكلفات والتحقيق ما قال الشيخ ابو منصور الماتريدى رحمه الله ان المعنى الا لنعلم كائنا موجودا ما قد علمنا انه يكون ويوجد فالله سبحانه عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده انه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيها ولا يجوزان يقال انه عالم في الأزل بانه موجود كائن في الحال لانه ليس بموجود فكيف يعلمه موجودا كائنا على خلاف الواقع والتغير على المعلوم لا على العلم وهو المراد بما قيل في هذا وأشباهه ان المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو مناط الجزاء ومعنى الا لنعلم اى ليتعلق علمنا بوجوده وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إن مخففة من المثقلة واللام فاصلة بينها وبين الشرطية قال سيبويه ان تأكيد شبيه باليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها- وقال الكوفيون ان نافية واللام بمعنى الا والضمير المرفوع راجعة الى ما دل عليه جعلنا القبلة من الجعلة او الى التحويلة او الى القبلة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ اى هداهم الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ اى ثباتكم على ايمانكم او ايمانكم بالقبلة المنسوخة وقيل المراد بالايمان الصلاة وذلك ان حيى بن اخطب وأصحابه من اليهود

[سورة البقرة (2) : آية 144]

قالوا للمسلمين أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ان كانت هدى فقد تحولتم عنها وان كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ومن مات منكم عليها- فقال المسلمون انما الهدى ما امر الله به والضلالة ما نهى عنه- قالوا فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا- وقد كان مات قبل ان تحول القبلة اسعد بن زرارة من بنى النجار والبراء بن معرور من بنى سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم الى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله قد صرفك الله الى قبلة ابراهيم عليه السلام فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون الى بيت المقدس فانزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ اى صلاتكم الى بيت المقدس وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال مات قبل ان تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فانزل الله الاية إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (43) قرا نافع وابن كثير وابن عامر وحفص لرءوف مشبعا على وزن شكور والآخرون بالاختلاس على وزن فعل- والرأفة أشد الرحمة قدمه على الرحيم لرعاية الفواصل-. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد وجهك في جهة السماء تطلّعا للوحى- كان يودّ ان يحوله الله الى الكعبة لانها قبلة أبيه ابراهيم عليه السلام وادعى للعرب الى الايمان ومخالفة اليهود- وهذا أول القصة وامر القبلة أول ما نسخ من امور الشرع بعد الهجرة- واختلف العلماء في كيفية قبلته صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بمكة فقال قوم انه صلى الله عليه وسلم كان يصلى وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه- رواه احمد عن ابن عباس ورواه ابن سعد ايضا وسنده جيد واطلق آخرون وقالوا انه كان يصلى الى بيت المقدس- وقال البغوي كان يصلى الى الكعبة فلما هاجر الى المدينة استقبل بيت المقدس- روى ابن جرير وغيره بسند جيد قوى عن ابن عباس قال لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة امره الله ان يستقبل بيت المقدس- وقال ابن جريح انه صلى الله عليه وسلم أول ما صلى الى الكعبة ثم صرف الى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر الى المدينة- والاول أصح وأقوى وعند الجمع يؤل اليه الأحاديث- واختلف الرواية في انه كم صلى بعد الهجرة الى بيت المقدس فعند ابى داود وغيره عن ابن عباس سبعة عشر شهرا وعند الطبراني والبزار عن عمرو بن عوف وعند ابن ابى شيبة، وابى داود وغيرهما عن ابن عباس وعنه الامام مالك وغيره عن سعيد بن المسيب ستة عشر شهرا وعند البخاري عن البراء بن عازب

ستة عشرا وسبعة عشر شهرا بالشك- والحق انه كان ستة عشر شهرا وأياما فانه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين خامس ربيع الاول ودخل المدينة يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الاول وكان التحويل بعد الزوال خامس عشر من رجب من السنة الثانية قبل وقعة بدر بشهرين على الصحيح وبه جزم الجمهور ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس فمن اعتبر الأيام شهرا كاملا عد سبعة عشر وإلا فستة عشر- وما روى ثلثة عشر او تسعة عشر او ثمانية عشر او شهرين او سنتين فضعيف والله اعلم- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه ان تكون قبلته قبل الكعبة لان اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبعنا قبلتنا- فقال عليه السلام لجبرئيل عليه السلام وددت لو حولنى الله تعالى الى الكعبة فانها قبلة ابى ابراهيم- فقال جبرئيل انما انا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فاسئل أنت ربك فانك عند الله بمكان- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الله ويكثر النظر الى السماء ينتظر امر الله تعالى فانزل الله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً اى نمكننك من استقبالها- من وليته بمعنى صيرته واليا- او المعنى فلنجعلنك تلى جهتها- او المعنى فلنحولنك الى قبلة تَرْضاها تحبها لاغراض صحيحة مرضية لله تعالى فَوَلِّ حول وَجْهِكَ من البيت المقدس عند الصلاة شَطْرَ الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء من شطر إذا انفصل ودار شطور منفصلة عن الدور ثم استعمل لجانبه وان لم ينفصل منصوب بنزع الخافض اى الى شطره وقيل منصوب على الظرفية اى اجعل تولية الوجه تلقاء الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى في جهته وسمته والحرام بمعنى المحرم فيه القتال والاصطياد وقطع الشجر والشوك ونحو ذلك- وذلك هو الحرم وانما ذكر الحرم او المسجد دون الكعبة مع انها هى القبلة اشارة الى ان الواجب على النائى استقبال جهة الكعبة دون عينه- روى الترمذي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بين المشرق والمغرب قبلة قلت أراد بالمشرق مشرق اقصر ايام السنة وبالمغرب مغرب اقصر الأيام وذلك جهة الجنوب وهى قبلة اهل المدينة وكذا لاهل كل قطر قبلة فلاهل الهند القبلة بين المغربين مغرب رأس السرطان ومغرب رأس الجدى- ذكر فى المواهب وسبيل الرشاد انه صلى الله عليه وسلم زارام بشر بن براء بن معرور في بنى سلمة يعنى بعد ما مات براء بن معرور فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

بأصحابه في مسجد هناك الظهر فلما صلى ركعتين نزل جبرئيل فاشار اليه ان صلى الى البيت فاستدار الى الكعبة واستقبل الميزاب فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين- قال الواحدي هذا عندنا اثبت- فصلى الظهر أربعا ثنتين الى بيت المقدس وثنتين الى الكعبة فخرج عباد بن بشر رضى الله عنه وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر على قوم من الأنصار ببني حارثة وهم راكعون في صلوة العصر فقال اشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت- فاستداروا- وفي صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب انه صلى الله عليه وسلم صلى أول صلوة صلاها الى الكعبة صلوة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على اهل مسجد وهم راكعون فقال اشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل مكة- فمحمول على ان البراء لم يعلم صلاته صلى الله عليه وسلم فى مسجد بنى سلمة الظهر- او المراد انه أول صلوة صلاها كاملا الى الكعبة- او أول صلوة صلى في مسجده صلى الله عليه وسلم هو العصر- واما اهل قبا فلم يبلغهم الخبر الا في صلوة الفجر من الغد كما في الصحيحين عن ابن عمر بينما الناس بقبا في صلوة الصبح إذ جاءهم ات فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمران نستقبل الكعبة فاستقبلوها- وكانت وجوههم الى الشام فاستداروا الى الكعبة وقال رافع بن خديج انه أتانا ات ونحن نصلى في بنى عبد الأشهل فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمران يوجه الى الكعبة فادارنا امامنا الى الكعبة ودرنا معه- وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ خطاب للامة فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خص الرسول صلى الله عليه وسلم اولا بالخطاب تعظيما له وذلك الخطاب وان كان شاملا للامة لكن بعد ذلك خوطب الامة تصريحا لعموم الحكم وتأكيدا لامر القبلة روى البخاري عن ابن عباس قال لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة- وفي الصحيحين عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو واسامة وبلال وعثمان بن طلحة وأغلقها عليه ثم مكث فيها- قال ابن عمر سالت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلثة اعمدة وراءه ثم صلى- وكان البيت يومئذ على ستة اعمدة- قلت وهذين الحديثين الواقعتين «1» فلا تعارض

_ (1) فى الأصل واقعتين-

[سورة البقرة (2) : آية 145]

وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يعنى التحويل او التوجه الى الكعبة الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كانوا يعلمون من التورية ان خاتم النبيين يصلى الى القبلتين وانما أنكروا ذلك تعنتا وعنادا وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) قرا ابو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية خطابا للمؤمنين والباقون بالياء التحتانية حكاية عما يفعل اليهود ففيه وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين- ولما قالت اليهود والنصارى اتنا باية على ما تقول انزل الله تعالى. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ برهان على ان الكعبة قبلة واللام موطية للقسم ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعنى الكعبة جواب قسم مقدر ساد مسد جواب الشرط يعنى انما تركوا قبلتك عنادا لا لاجل شبهة تزيلها بالحجة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يعنى امر القبلة محكم مستمر لا ينسخ ابدا- وفيه قطع لاطماعهم في رجوعه صلى الله عليه وسلم الى قبلتهم- وقبلتهم وان تعددت لكنها متحدة من جهة البطلان ومخالفة امر الله تعالى وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لان اليهود يستقبل بيت المقدس وهو في المغرب من المدينة والنصارى يستقبل مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فى امر القبلة وظهر لك من الحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) صدق الشرطية لا يقتضى صدق طرفيها كما فى قوله تعالى قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فلا ينافي العصمة- والمقصود من الاية نهى الامة وتهديدهم عن اتباع الأهواء على خلاف العلم الذي جاء من الله تعالى بأبلغ الوجوه حيث أورد الله سبحانه الشرط مؤكدا بالقسم المقدر واللام الموطئة وتعليق الفعل بكلمة ان فانه يدل على انه اىّ جزء يوجد من الاتباع فهو ظلم- والخطاب الى النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه حبيبا لله تعالى فغيره اولى بالتهديد- والتفصيل بعد الإجمال في قوله ما جاءك من العلم- وتعظيم العلم بذكره معرفا باللام والجزاء بانّ المؤكدة- واللام في خبرها- والجملة الاسمية- والتعبير بإذن- وكلمة من فان قولك زيد من العلماء ابلغ من قولك زيد عالم- وتعريف الظالم المستلزم لنسبة كمال الظلم اليه لان المطلق محمول على الكامل- وتعميم الظلم حيث حذف متعلقة. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنى علماءهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم

[سورة البقرة (2) : آية 148]

انه هو الذي وصف في التورية وأخذ الميثاق على الايمان به ونصرته فالضمير المنصوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وان لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه وقيل للعلم او القران او تحويل القبلة والاول اظهر بقرينة قوله تعالى كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فانه لا يلتبس من ولد على فراشه بغيره عندهم فمن أنكر منهم انما أنكر تعصبا وعنادا ولو كان الضمير في يعرفونه الى القران لكان المناسب ان يقول كما يعرفون التورية قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام رضى الله عنهما ان الله تعالى قد انزل على نبيه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكيف هذه المعرفة- قال عبد الله يا عمر لقد عرفته حين رايته كما اعرف ابني ومعرفتى بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتى بابني- فقال عمر وكيف ذلك فقال اشهد انه رسول الله حق وقد نعته الله في كتابنا ولا أدرى ما تصنع النساء- فقال عمر وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعنى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وامر الكعبة وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق خبر مبتدأ محذوف اى هذا الحق ومن ربك حال او خبر بعد خبر او هو فاعل فعل مقدر اى جاءك الحق من ربك او مبتدأ خبره من ربك اى الحق ما ثبت من ربك كالذى أنت عليه لا غير ذلك كالذى عليه اهل الكتاب فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) من الشاكّين في انه من ربك او من الذين كتموا الحق عالمين به وجعلوا أنفسهم من الممترين مع كونهم من المستيقنين- وليس المراد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشك لانه غير متوقع منه وايضا الشك مما لا اختيار فيه ولا في الكف عنه- بل المراد انه امر محقق بحيث لا يشك فيه ناظرا او يقال انه امر لامته بمصاحبة العارفين واكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ والاجتناب عن مصاحبة الشاكين فان مصاحبتهم يورث الشكوك والأوهام-. لِكُلٍّ وِجْهَةٌ التنوين في كل عوض من المضاف اليه والوجهة اسم للمتوجه اليه اى لكل امة من اهل الأديان قبلةوَ الضمير راجع الى كل وقال الأخفش كناية عن الله تعالى وَلِّيها أحد المفعولين محذوف اى مولّيها وجهه اى مقبلها عليه يقال وليته ووليت اليه إذا أقبلت عليه ووليت عنه إذا أدبرت عنه- وقرا ابن عامر هو مولّيها اى مصروف إليها يعنى ان الله تعالى يولى الأمم الى قبلتهم جعل لموسى عليه السلام قبلة ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبلة ولكل نبى قبلة فامر القبلة امر تعبدى لا يدرك بالرأى ولا يجوز فيه النزاع وليس ذلك لاقتضاء مكان كونه قبلة حتى يبحث عن ترجيح

[سورة البقرة (2) : آية 149]

بعضها على بعض اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعنى بادروا بامتثال كلما أمركم الله وان كان قدم أمركم في بعض الأحيان بالاستقبال الى بيت المقدس وفي بعضها الى الكعبة فانه تعالى يحكم ما يشاء فلا تنازعوا في امر القبلةيْنَ ما تَكُونُوا فى مكان مرضى لله تعالى من حيث الاستقبال او غير مرضى أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يقبض الله تعالى أرواحكم ثم يحشركم الى الجزاء فيجازيكم على حسب أعمالكم ولو قبض أرواحكم وأنتم في الصلاة او فارغ الذمة من الواجب فذلك غاية السعادة او المعنى ان لكل من المسلمين قبلة وهى جانب الكعبة هو مولى وجهه «1» إليها ان علم بها وان غم عليه جهة القبلة فقبلته جهة التحري وان كان متنفلا خارج المصر على الدابة فاىّ جهة استقبلتها دابته فهى قبلته امر الله تعالى بالتولية إليها فاستبقوا الخيرات وبادروا بالصلوات ولا تؤخروها عن أوقاتها عند اشتباه القبلة اين ما تكونوا من أقطار الأرض شرقا او غربا يأت بكم الله تعالى يعنى بصلاتكم الى القبلة ويجعلها الى جهة واحدة كانها بحذاء الكعبةنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) . وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ كلمة حيث متروك الاضافة والجار مع المجرور متعلق بخرجت والمعطوف عليه مقدر تضمّن معنى الشرط فادخل الفاء في الجواب تقديره أينما كنت ومن حيث اى من اىّ مكان خرجت فول- وقيل من حيث خرجت بمعنى اين ما كنت وتوجهت مجازا- وقال التفتازانيّ حيث مضاف الى خرجت والجار مع المجرور متعلق بقوله تعالى فول وما بعد الفاء في مثله يعمل فيما قبله- لكن يلزم حينئذ اجتماع الواو والفاء الا ان يقدر المعطوف عليه تقديره فول وجهك اين ما كنت ومن حيث خرجت فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت كرر هذا الحكم لبيان ان حكم صلوة السفر والحضر واحد عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء- رواه مسلم وفي رواية لمسلم فضلت على الأنبياء بستة الحديث وَإِنَّهُ وان هذا الأمر لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) قرا ابو عمرو بالياء التحتانية والباقون بالفوقانية. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قيل كرر هذا الحكم لتعدد علله فانه تعالى ذكر للتحويل ثلث علل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته وجرى العادة الالهية على ان يولى كل امة من

_ (1) فى الأصل وجيها

[سورة البقرة (2) : آية 151]

امم اولى العزم من الرسل الى قبلة يستقبلها- ودفع حجج المخالفين- وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله- وايضا القبلة لها شأن والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحرىّ ان يؤكد أمرها ويكرر ذكرها لِئَلَّا يَكُونَ علة لقوله فولوا لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يعنى لليهود فانهم يعلمون من التورية ان الكعبة قبلة ابراهيم وان محمدا صلى الله عليه وسلم سيحوّل إليها فلولا التحويل لاحتجوا بها- وللمشركين من اهل مكة فانهم ايضا كانوا يعلمون ان قبلة ابراهيم كانت الكعبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدّعى انه على ملة ابراهيم حنيفا فلولا التحويل لقالوا ان محمدا يدّعى ملة ابراهيم ويخالف قبلته إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ استثناء من الناس اى لئلا يكون لاحد من الناس حجة الا للمعاندين- فاما الظالمون من قريش فقالوا رجع محمد الى الكعبة لانه علم انا اهدى منه وسيرجع الى ديننا- واما الظالمون من اليهود فقالوا انه لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بانه الحق الا حسدا وانه يعمل برأيه- وسمى هذه حجة كقوله تعالى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ لانهم يسوقونهم مساقها- وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج- وقيل الاستثناء للمبالغة في نفى الحجة رأسا للعلم بأن الظالم لا حجة له- والموصول على هذه التأويلات في موضع الجر بدلا من الناس- وقيل الاستثناء منقطع معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل فَلا تَخْشَوْهُمْ فانى وليّكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة ومطاعنهم لا يضركم وَاخْشَوْنِي فلا تخالفوا امرى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) معطوف على لئلا اى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ- لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ... وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ- ويحتمل ان يكون معطوفا على محذوف يعنى واخشوني لا حفظكم ولاتم نعمتى ولكى تهتدوا- عن معاذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار- رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وعن على رضى الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام-. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ يا معشر قريش- خاطبهم والناس تبع لهم لقوله تعالى لابراهيم إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ يعنى ابراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ولقوله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش- متعلق بأتم يعنى لاتم نعمتى إتماما كما اتممتها بإرسال رسول منكم- قال محمد بن جرير دعا ابراهيم دعوتين أحدهما اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ والثانية ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ- فمعنى الاية أجيب دعوة ابراهيم فيكم بان أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم

نعمتى عليكم كما أجبت دعوته حيث أرسلت فيكم رسولا- او هو متعلق بما بعده اى كما ذكرتكم بالإرسال فيكم اذكروني أذكركم وبهذا يتضح ان ذكر العبد له تعالى محفوف بذكرين منه تعالى إياه ذكر سابق بالتوفيق وذكر لا حق بالاثابة رَسُولًا مِنْكُمْ محمدا صلى الله عليه وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعنى ظاهرهما وقد مر شرحه في دعاء ابراهيم عليه السلام- قدّم التزكية هاهنا باعتبار القصد وأخره هناك باعتبار الفعل وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) تكرار الفعل يدل على ان هذا التعليم من جنس اخر ولعل المراد به العلم اللدني المأخوذ من بطون القران ومن مشكوة صدر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا سبيل الى دركه الا الانعكاس واما درك دركه فبعيد عن القياس قال رئيس الصديقين والعجز عن درك الإدراك ادراك عن حنظلة بن الربيع الأسيدي قال لقينى ابو بكر رضى الله عنه فقال كيف أنت يا حنظلة- قلت نافق حنظلة- قال سبحان الله ما تقول- قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنة كانا رأى عين فاذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا- قال ابو بكر فو الله انا لنلقى مثل هذا- فانطلقت انا وابو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول الله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك- قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأى عين فاذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفي الذكر لصافحتكم الملائكة- على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلث مرات رواه مسلم وعن ابى هريرة قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين فاما أحدهما فبثثته فيكم واما الاخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم يعنى مجرى الطعام- رواه البخاري- قيل المراد من الوعاء الذي لم يبثثه الأحاديث التي بيّن فيها اسماء أمراء الجور كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وامارة الصبيان مشيرا الى امارة يزيد بن معاوية قلت اطلاق الوعاء على علم بجزئيات معدودة غير مستحسن ولا يتصور جعله قسيما ونظير العلوم الشريعة بل المراد به العلم اللدني- فان قيل فما معنى قوله فلو بثثته لقطع هذا البلعوم- قلت معناه انه لو بثثته باللسان لقطع هذا البلعوم لان تلك العلوم والمعارف لا يمكن تعليمها ولا تعلمها بلسان المقال بل انما تدرك بالانعكاس ولسان الحال- كيف والتعلم باللسان يتوقف على

[سورة البقرة (2) : آية 152]

امور منها كون المعلوم مما يدرك بالعلم الحصولى- ومنها كون اللفظ موضوعا بإزائه- ومنها كون الوضع معلوما للسامع- وليس شىء منها متحققا في المعارف المدنية- فان إدراكها تكون بالعلم الحضوري الذي لا يمكن ذهولها- بل سبيل ذلك وراء العلم الحصولى والحضوري وانّى هناك وضع الألفاظ وهيهات هيهات للسامعين العلم بوضعها- ومن أراد أن ينطق بتلك المعارف فلا بد له من إيراد مجازات واستعارات لا يهتدى الى مرامها العوام فيتخبط به عقولهم ويفهمون غير مراد المتكلم فيفسقونه ويكفرونه- كما ترى للعوام ينكرون على اولياء الله تعالى من غير سبيل الى درك مرادهم وذلك يفضى الى قطع البلعوم- فان قيل إذا كان ذلك العلم بحيث لا يمكن اخذه ولا إعطاؤه بالبيان ويفضى الى تلك المفسدة وقطع البلعوم النطق باللسان فاىّ ضرورة في التكلم بها- وما بال القوم يصنفون فيها مجلدات كالفصوص والفتوحات واىّ فائدة في تلك التصنيفات قلت ليس الغرض من تلك التصنيفات إعطاء تلك العلوم ولا يحصل بمطالعة تلك الكتب شىء من القرب والولاية بل الغرض منها تنبيه العارفين المحصلين تلك العلوم بالجذب والسلوك على بعض تفاصيلها- وتطبيق احوال المريدين ومواجيدهم على احوال الأكابر ومواجيدهم كى يظهر صحة أحوالهم وتطمئن به قلوبهم- وكثيرا ما يتكلمون بتلك المعارف في غلبة الحال- فالطريق السوي للعوام عند مطالعة كتبهم وسماع كلامهم عدم الإنكار وحمله على ظاهر الشريعة مهما أمكن بالتأويلات فان كلامهم رموز وإشارات او تفويض علمه الى علام الغيوب كما هو شأن المتشابهات فان في كلامهم مجازات واستعارات مصروفة عن الظاهر وليس شىء منها مخالفا للشرع بل هى لب الكتاب والسنة رزقنا الله سبحانه بفضله ومنه- ولما كان طريق تحصيل تلك المعارف منحصرا في الإلقاء والانعكاس وكان كثرة الذكر والمراقبة اما في ملإ من الذاكرين او في خلإ من الناس يفيد للقلب والنفس صلاحية تلك الانعكاس من مشكوة صدر النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة او بوسائط- عقب الله سبحانه لقوله. فَاذْكُرُونِي «1» قرا ابن كثير بفتح الياء والباقون بالإسكان أَذْكُرْكُمْ- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى في نفسه ذكرته في نفسى وان ذكرنى في ملإ ذكرته في ملا خير منه وان تقرب الى شبرا تقرّبت اليه ذراعا وان تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا وان أتاني يمشى أتيته هرولة متفق عليه- وروى البغوي عن انس عنه وفيه قال سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله

_ (1) اخرج ابو الشيخ والديلمي في مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ- يقول اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتى- منه رحمه الله تعالى

[سورة البقرة (2) : آية 153]

عليه وسلم عدد انا ملى هذه العشرة- وعن عبد الله بن شقيق عنه صلى الله عليه وسلم قال ما من ادعى الا لقلبه بيتان في أحدهما الملك وفي الاخر الشيطان فاذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره في قلبه فوسوس له- رواه ابن ابى شيبة وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات- رواه مسلم فاعلم ايها الأخ السعيد ان الذكر عبارة عن طرد الغفلة والغفلة هى الموجبة للقساوة فكل امر مشروع من قول او فعل او تفكر أريد به وجه الله تعالى بالإخلاص والحضور فهو ذكر وما كان بلا اخلاص فهو شرك وما كان بغفلة فغير معتد به قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ- وفَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ- وأفضل الذكر لا الله الا الله وأفضل الدعاء الحمد لله- رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان ومالك بسند صحيح عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الكلام اربع سبحان الله والحمد لله ولا الله الا الله والله اكبر- رواه مسلم وفي رواية هى أفضل الكلام بعد القران وهى من القران رواه احمد وفي الحديث القدسي من شغله القران عن ذكرى ومسئلتى أعطيته أفضل ما اعطى السائلين وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه- رواه الترمذي والدارمي من حديث ابى سعيد ومن أجل ذلك الاخبار اختار الصوفية العلية التهليل بالقلب او باللسان جهرا او اخفاتا واما المجدد رضى الله عنه فالمختار عنده تلاوة القران لما ذكرنا من فضله ولان القران صفة حقيقية قائمة بالله تعالى بلا واسطة طرقه بيد الله وطرفه بايدينا فمن استهلك فيه فلا مزيد عليه والصلاة فانها معراج المؤمن- لكن هذا بعد فناء النفس واما قبل الفناء فالمختار عنده الاقتصار على النفي والإثبات لقوله تعالى لا يمسه يعنى القران الا المطهرون يعنى من رذائل النفس والله اعلم وَاشْكُرُوا لِي على ما أنعمت عليكم من إرسال الرسول والهداية والجذب وتوفيق السلوك وغير ذلك وَلا تَكْفُرُونِ (152) بجحد النعم وتكذيب الرسل او عصيان الأمر او اضاعة الوقت والاعراض عن الذكر-. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على قضاء حوائجكم الدينية والدنيوية خصوصا على نيل درجات القرب والمعارف اللدنية بِالصَّبْرِ عن الشهوات فان النار محفوفة بها- وعلى المكاره في النفوس والأموال فان الجنة محفوفة بها وعلى الذكر والطاعات والعزلة عن سوء

[سورة البقرة (2) : آية 154]

المجالسات حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن- رواه البخاري وَالصَّلاةِ خصها بعد التعميم لرفعة شأنها فانها أم العبادات جامعة للطاعات معراج للمؤمن- عن على مرفوعا الصلاة عماد الدين- رواه صاحب مسند الفردوس- وعن انس مرفوعا الصلاة نور المؤمن- رواه ابن عساكر قال المجدد رضى الله عنه غاية مقامات العابدين حقيقة الصلاة والترقي هناك بكثرة الصلاة- وقد مر ذكر صلوة الحاجة فيما مر إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) قيل بالعون والنصر واجابة الدعوة- قلت بل معية غير متكفية يتضح على العارفين ولا يدرك كنهه غير احسن الخالقين. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ اى هم أموات نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا اربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار- كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا فانزل الله هذه الاية بَلْ أَحْياءٌ يعنى ان الله تعالى يعطى لارواحهم قوة الأجساد فيذهبون من الأرض والسماء والجنة حيث يشاؤن وينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم ان شاء الله تعالى ومن أجل ذلك الحيوة لا تأكل الأرض أجسادهم ولا أكفانهم قال البغوي قيل ان أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة- قال عليه السلام ان الشهداء إذا استشهدوا انزل الله جسدا كاحسن جسد ثم يقال لروحه ادخلى فيه فينظر الى جسده الاول ما يفعل به ويتكلم فيظن انهم يسمعون كلامه وينظر إليهم فيظن انهم يرونه حتى تأتيه أزواجه من الحور العين فيذهبن به- رواه ابن منذر مرسلا- وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا أرواح الشهداء عند الله في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى قناديل تحت العرش- فذهب جماعة من العلماء الى ان هذه الحيوة مختص بالشهداء والحق عندى عدم اختصاصها بهم بل حيوة الأنبياء أقوى منهم وأشد ظهورا اثارها في الخارج حتى لا يجوز النكاح بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بخلاف الشهيد- والصديقون ايضا أعلى درجة من الشهداء والصالحون يعنى الأولياء ملحقون بهم كما يدل عليه الترتيب في قوله تعالى مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ولذلك قالت الصوفية العلية أرواحنا أجسادنا وأجسادنا أرواحنا- وقد تواتر عن كثير من الأولياء انهم ينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم ويهدون الى الله تعالى من يشاء الله تعالى- وقد

[سورة البقرة (2) : الآيات 155 إلى 156]

ذكر المجدد رضى الله عنه- ان ارباب كمالات النبوة بالوراثة أقلت وهم الصديقون والمقربون في لسان الشرع) يعطى لهم من الله تعالى وجودا موهوبا- ويدل على ان أجساد الأنبياء والشهداء وبعض الصلحاء لا يأكلها الأرض ما أخرجه الحاكم وابو داود عن أوس بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله حرم على الأرض ان تأكل أجساد الأنبياء- واخرج ابن ماجة عن ابى الدرداء نحوه- واخرج مالك عن عبد الرحمن ابن صعصعة انه بلغه ان عمرو بن الجموح وعبد الله بن جبير الأنصاري كان قد حفر السبيل قبرهما وكان قبرهما مما يلى السيل وكانا في قبر واحد وهما ممن استشهد يوم أحد- فحفرا ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كانهما ماتا بالأمس وكان بين أحد وبين حفر عنهما ست وأربعون «1» سنة- واخرج البيهقي ان معاوية لما أراد ان يجرى كظامة نادى من كان له قتيل بأحد فليشهد فخرج الناس الى قتلاهم فوجدهم رطايا ينبتون فاصابت المسحات رجل رجل منهم فانبعث دما ولقد كانوا يحفرون التراب فحفروا نثرة من تراب ناح عليهم ريح المسلك- هكذا اخرج الواقدي عن شيوخه واخرج ابن ابى شيبة نحوه واخرج البيهقي عن جابر وفيه فاصابت المسحات قدم حمزة فانبعث دما- واخرج الطبراني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن المحتسب كالشهيد المتشخط في دمه إذا مات لم يدود في قبره- واخرج ابن مندة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات حامل القران اوحى الله الى الأرض ان لا تأكل لحمه فيقول الأرض اى رب كيف أكل لحمه وكلامك في جوفه- قال ابن مندة وفي الباب عن ابى هريرة وابن مسعود قلت لعل المراد بحامل القرآن الصديق فان مساس بركات القران مختص به حيث قال الله تعالى لا يمسّه إلّا المطهّرون- واخرج المروزي عن قتادة قال بلغني ان الأرض لا تسلط على جسد الذي لم يعمل خطيئة- قلت لعل المراد بالذي لم يعمل خطيئة الصّالحون من عباد الله اعنى الأولياء لما كانوا محفوظين من الخطايا ومغفورين حتى صلحت قلوبهم وأجسادهم والله اعلم وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) فيه تنبيه على ان حياتهم ليست من جنس ما يحسّه كل أحد وانما هى امر لا يدرك بالعقل ولا بالحس بل بالوحى او الفراسة الصحيحة المقتبسة من الوحى-. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ اى لنصيبنكم يا امة محمد إصابة من يختبر لاحوالكم هل تصبرون للبلاء وتستسلمون للقضاء حتى يفاض عليكم بركات من السماء وانما أخبرهم بذلك قبل وقوعه لتوطينهم عليه نفوسهم بِشَيْءٍ قليل وانما قلله بالاضافة الى ما وقاهم عنه وذكر بالتنكير للتقليل ليخفف عليهم

_ (1) فى الأصل أربعين-

[سورة البقرة (2) : آية 157]

ويريهم رحمة لا يفارقهم مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ عن ابن عباس الخوف خوف العدو والجوع القحط وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ عطف على شىء او الخوف يعنى الخسران والهلاك وَالْأَنْفُسِ يعنى بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب وَالثَّمَراتِ يعنى الجوايح في الثمار- وحكى عن الشافعي انه قال الخوف خوف الله عز وجل والجوع صيام رمضان ونقص من الأموال أداء الزكوة والصدقات والأنفس الأمراض والثّمرات موت الأولاد- عن ابى موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته اقبضتم ولد عبدى قال فيقولون نعم قال اقبضتم ثمرة فواده قالوا نعم قال فماذا قال قالوا استرجع وحمدك قال ابنوا لعبدى بيتامى الجنة وسموه بيت الحمد- رواه الترمذي وحسنه وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ عبيدا وملكا وكل ما أعطانا من النعم فهو من مواهبه الهنيئة وعواريه المستودعة فحق علينا ان نرضى بقضائه ولا نكفر عند استرداد أماناته فان المالك يتصرف في ملكه كيف يشاء وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (155) فى الاخرة وكذا في الدنيا بالذكر والمراقبة فيعطينا ان شاء الله أفضل مما استرد منا الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يأتى منه البشارة- والمصيبة كل ما يصيب الإنسان من مكروه- انقطع نعال النبي صلى الله عليه وسلم فاسترجع فقالوا مصيبة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة- رواه الطبراني في الكبير من حديث ابى امامة وله شواهد مرفوعة وموقوفة- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع فانه المصاب- رواه البيهقي في شعب الايمان وفي الحديث من استرجع عند المصيبة خير الله مصيبته واحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه- أخرجه ابن ابى حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الايمان قال سعيد بن جبير ما اعطى أحد في المصيبة ما اعطى هذه الامة يعنى الاسترجاع ولو اعطى أحد لاعطى يعقوب الا تسمع قوله في فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ. أُولئِكَ اى اهل هذه الصفة عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل الدعاء ومن الله ما يترتب عليه من البركة والمغفرة والرحمة جمعها للتنبيه على كثرة أنواعها وذكر الرحمة بعدها تأكيدا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) للحق والصواب حيث استرجع ورضى بقضاء الله سبحانه- كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الى معاذ يعزيه في ابن له قبضه

[سورة البقرة (2) : آية 158]

منك بأجر كثير الصلاة والرحمة والهدى ان احتسبت- رواه الحاكم في المستدرك وابن مردوية- وقال عمر رضى الله عنه نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية- وقد وردت الاخبار في حق ثواب اهل البلاء واجر الصابرين- منها ما روى عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يودّ اهل العافية يوم القيامة حين يعطى اهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب- وعن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله بها من خطاياه- متفق عليه- وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم انها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مصيبة يصيب عبدا فيقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللهم أجرني في مصبتى واخلف لي خيرا منها الا اجره الله في مصيبته واخلف له خيرا منها- رواه مسلم وعن محمد بن خالد السلمى عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده او في ماله او في ولده ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله- رواه احمد وابو داود- وعن سعد قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم اى الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الا مثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلب اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة هون عليه فما زال كذلك حتى يمشى على الأرض ماله ذنب- رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجة والدارمي وفي الباب أحاديث كثيرة لا تحصى-. إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلين بمكة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة وهى العلامة- والمراد هاهنا المناسك الّتى جعلها الله تعالى اعلاما لطاعته فان الطواف بينهما واجب في الحج والعمرة اجماعا الا في رواية عن احمد فقال سنة لقوله تعالى فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فان نفى الجناح تدل على الإباحة وكذا قوله فَمَنْ تَطَوَّعَ- والحق ان الإباحة والتطوع كل واحد منهما أعم من الوجوب فلا ينفيانه والحج لغة القصد والاعتمار الزيارة وفي الشرع عبارتان عن العبادتين المعروفتين والجناح بمعنى الميل عن القصد والمعنى لا اثم عليه- واصل يطوّف يتطوّف أدغمت التاء فى الطاء والمعنى ان يدور بهما- وسبب نزول هذه الاية انه كان على الصفا والمروة صنمان اساف ونائلة فكان اساف على الصفا ونائلة على المروة وكان اكثر اهل الجاهلية يطوفون بينهما تعظيما للصنمين و

يتمسحون بهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعى بين الصفا والمروة لاجل الصنمين وكانت الأنصار قبل الإسلام يعبدون المناة ويهلون لها وكان من اهلّ لها يتحرج ان يطوف بالصفا والمروة فلما اسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا كنا نتحرج ان نطوف بين الصفا والمروة فنزلت الاية في الفريقين- اما الاول فقد رواه الحاكم عن ابن عباس قال كانت الشياطين فى الجاهلية تعرف الليل اجمع بين الصفا والمروة وكان بينهما أصنام لهم فلما جاء الإسلام قال المسلمون يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة فانه شىء كنا نصنعه في الجاهلية فانزل الله الاية واخرج البخاري عن عاصم قال سألت أنسا عن الصفا والمروة قال كنا نرى انهما من امر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ الاية- واما الثاني ففى الصحيحين عن عروة عن عائشة قال قلت أرأيت قول الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي انها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه ان لا يطوف بهما ولكنها «1» انما نزلت في الأنصار قبل ان يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية وكان من اهلّ لها يتحرج ان يطوف بالصفا والمروة فسالوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله كنا نتحرج ان نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فانزل الله ان الصفا والمروة الاية- ويدل على وجوب السعى حديث صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت تجراه قالت رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم بطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى ارى ركبتيه من شدة اسعى يدور به إزاره وهو يقول اسمعوا ان الله عز وجل كتب عليكم السعى- أخرجه الشافعي واحمد- وفي اسناده عبد الله بن مؤمل يضعفه الدارقطني وجماعة لكن قال ابن الجوزي قال يحيى ليس به بأس- ورواه الدارقطني من طريق منصور بن عبد الرحمن قال ابو حاتم لا يحتج به وقال يحيى بن معين ثقة وقال الذهبي ثقة مشهور من رجال مسلم- قال الحافظ لهذا الحديث طرق اخرى عند الطبراني عن ابن عباس إذا انضمت الى الاولى قويت- وقد يستدل على الوجوب بحديث ابى موسى المتفق عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم فطف بالبيت وبالصفا والمروة- فان الأمر للوجوب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا- فذهب ابو حنيفة على أصله ان ادلة الوجوب إذا كانت ظنية لا يزاد بها على الكتاب فقال- هو واجب في الحج ليس بركن فينجبر بالدم وقال الشافعي وغيره انه ركن لعدم التفرقة عندهم بين الفرض والواجب- واجمع العلماء على ان السعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط- وعلى ان

_ (1) فى الأصل ولكنهما-

الذهاب من الصفا الى المروة شوط والعود من المروة الى الصفا شوط اخر- وحكى عن جرير الطبري وابى بكر الصوفي من الشافعية والطحاوي من الحنفية ان الذهاب من الصفا الى المروة ثم العود منها الى الصفا شوط واحد قياسا على الطواف بالبيت حيث كان المنتهى الى المبدء- وقيل الرجوع الى الصفا ليس معتبرا من الشوط بل لتحصيل الشوط الثاني- لنا حديث جابر الطويل وفيه فلما كان اخر طوافه بالمروة قال لو استقبلت من امرى الحديث- رواه مسلم وعمل الجمهور المبنى على النقل المستفيض يكفى لنا حجة واجمعوا على ان للسعى شرائط منها الترتيب وهى البداية من الصفا والختم على المروة وما قيل انه ليس بشرط عند ابى حنيفة باطل- والحجة على الترتيب مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك- وقوله فى حديث جابر ابدا بما بدا لله فبدا بالصفا فرقى عليه- رواه مسلم ورواه احمد ومالك وابو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والنسائي بلفظ- نبدا- وروى الدارقطني بلفظ ابدءوا على صيغة الأمر وصححه ابن حزم فلو ثبت صيغة الأمر فهو اظهر للايجاب والا فهو حجة على الوجوب إذا ضم اليه قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عنى مناسككم فانى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى- رواه مسلم- ومنها كونه مرتبا على أحد الطوافين اما طواف القدوم او طواف الزيارة والفصل لا يضره ما لم يكن بينهما وقوف بعرفة- فمن سعى قبل طواف القدوم لا يعتد به اجماعا الا ما روى عبد الرزاق عن عطاء انه قال لو سعى ثم طاف جاز- والحجة لهذا القول حديث اسامة بن شريك ورد فيه السؤال عن السعى قبل الطواف فقال النبي صلى الله عليه وسلم افعل ولا حرج- والجواب ان الامة ترك العمل بهذا الحديث فهو شاذ- لنا انه عبادة غير معقولة فيقتصر على كيفية ما ورد عليها الشرع- وعن عائشة قالت قدمت مكة وانا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة قالت فشكوت ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال افعلي كما يفعل الحاج غير ان لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى- متفق عليه- وهذا صريح في ان النبي صلى الله عليه وسلم منع عائشة عن الطواف واجازها في غيره من المناسك وانها امتنعت عن الطواف والسعى جميعا وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال لها يجزئ عنك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة عن حجك وعمرتك- فبهذا ظهر ان السعى بين الصفا والمروة تابع للطواف- ويبتنى على هذا انه من طاف للزيارة ولم يسع أصلا لا بعد طواف القدوم ولا بعد طواف الزيارة يجب عليه الدم لترك السعى ولا يقضى السعى لان السعى لم يدرك عبادة الا بعد الطواف- واما من

[سورة البقرة (2) : آية 159]

فاته الطواف والسعى جميعا يجب عليه قضاء الطواف والسعى جميعا- والسنة انه إذا وقف على الصفا يكبر ثلثا ويقول لا الله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعوا ويصنع على المروة مثل ذلك- وإذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه ثم إذا رقي المروة مشى كنا في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وغيره وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً- قرا حمزة والكسائي يطّوّع بالياء التحتانية وتشديد الطاء على صيغة المضارع المجزوم وكذلك فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا- ووافق يعقوب في الاولى فقط وقرا الجمهور بالتاء وفتح العين على الماضي- ومعناه فعل طاعة فرضا كان او نفلا- وقال مجاهد معناه فمن تطوع بالطواف بين الصفا والمروة- بناء على انه سنة- وقال مقاتل والكلبي فمن تطوع زاد في الطواف بعد الواجب- وقيل- من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه- وقال الحسن أراد سائر الأعمال يعنى فعل غير المفترض عليه من صلوة وزكوة وطواف وغيرها من انواع الطاعات- وخيرا منصوب على انه صفة مصدر محذوف- او بحذف الجار وإيصال الفعل اليه- او بتعدية الفعل لتضمنه معنى اتى- فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) يثيب على الطاعة ولا يخفى عليه شىء والله اعلم- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال سال معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة ابن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التورية فكتموهم إياه وأبوا ان يخبروهم فانزل الله تعالى. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ الشاهدة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وَالْهُدى اى ما يهدى الى الطريق المستقيم واتباع محمد صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ اى التورية أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) اصل اللعن الطرد- ومعنى يلعنهم اللّاعنون انهم يسئلون الله لعنهم- واللّاعنون الذين يأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة وللمسلمين من الجن والانس ودواب الأرض كلها- عن البراء بن عازب قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال ان الكافر يضرب بين عينيه فيسمعه كل دابة غير الثقلين فيلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ- أخرجه ابن ماجة وابن ابى حاتم وابن جرير قال ابن عباس جميع الخلائق الا الجن والانس- وقال قتادة هم الملائكة وقال عطاء الجن والانس- وقال الحسن جميع عباد الله- وقال مجاهد اللّاعنون البهائم

[سورة البقرة (2) : آية 160]

يلعن عصاة بنى آدم إذا سننت السنة وامسك المطر وقالت من شوم بنى آدم. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن الكتمان وغيره من المعاصي وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا بالتدارك وَبَيَّنُوا ما في التورية فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أتجاوز عنهم فان التوبة من العبد الرجوع من المعصية ومن الله الرجوع من العقوبة وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) المبالغ في قبول التوبة والرحمة- عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه- متفق عليه وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب اليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فايس منها فاتى شجرة فاضطتجع في ظلها قد ايئس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فاخذ بحطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدى وانا ربك من شدة الفرح- رواه مسلم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ يعنى ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) قال ابو العالية هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم يلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس- فان قيل الملعون من الناس فكيف يلعن نفسه قيل قال الله تعالى يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً- وقيل انهم يلعنون الظالمين وهم منهم. خالِدِينَ فِيها اى في اللعنة او في النار واضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) لا يمهلون من الانظار- او لا ينتظرون ليعتذروا- او لا ينظر إليهم نظر رحمة- قال البغوي ان كفار قريش قالوا يا محمد صف وانسب لنا ربك فانزل الله تعالى سورة الإخلاص وقوله تعالى. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وصف الإله بالواحد للتأكيد مع دلالة تنوين الله على الوحدة وفيه تقدير للوحدانية ما ليس في قولك إلهكم واحد والخطاب عام اى المستحق للعبادة منكم ايها العالمين الله واحد لا يمكن له نظير ولا شريك- ويجوزان يكون خطابا للكاتمين زجرا لهم على معاملتهم مع الله تعالى حيث يكتمون التوحيد ويقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله بعد زجرهم على كتمان الرسالة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لتقرير الوحدانية وتأكيدها بعد تقرير- او هو خبر إلهكم بعد خبر الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) خبران آخران لقوله إِلهُكُمْ- او المبتدأ محذوف- وفيه اشارة الى الحجة على استحقاقه العبادة فانه المنعم على الإطلاق مولى النعم كلها أصولها وفروعها

[سورة البقرة (2) : آية 164]

وما سواه منعم عليه- عن اسماء بنت يزيد انها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ان في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي- واخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في شعب الايمان عن ابى الصخر قال لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- تعجب المشركون وقالوا الها واحدا فليأتنا باية ان كان من الصادقين- فانزل الله تعالى-. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وما فيها من الشمس والقمر والكواكب- واخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية من طريق جيد موصول عن ابن عباس قال قالت قريش للنبى صلى الله عليه وسلم- ادع الله ان يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فاوحى الله تعالى الى النبي صلى الله عليه وسلم انى معطيهم ولكن ان كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال رب دعنى وقومى فادعوهم يوما بيوم- فانزل الله تعالى هذه الاية يعنى انهم كيف يسئلون الصفا ذهبا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم منه في الوجود ومثله في الإمكان وَالْأَرْضِ وما فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر وانواع النباتات والحيوانات واختلاف التأثيرات والأقطار والأقاليم- وانما جمع السموات وأفرد الأرض لان تعدد السموات كان مقررا عند المخاطبين بناء على مشاهدتهم تعدد حركات الكواكب بخلاف الأرض فان تعددها لم يثبت الا بالشرع والاستدلال انما هو بما هو معلوم عندهم- وقيل لان السموات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين فان كلها من جنس واحد وهو التراب- وقيل لان طبقات السموات متفاصلة بخلاف الأرضين وهذا ليس بشىء فان الثابت بالسنة كون كل واحد من السموات والأرضين متناصلة كما روينا الأحاديث سابقا في تفسير قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ اى تعاقبهما في الذهاب والمجيء وقصر الليالى وطول الأيام في الصيف وعكسها في الشتاء وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ كيف سخرها الله تعالى لكم تحمل الأثقال ولا ترسب في البحر- والفلك واحد وجمعه سواء فاذا أريد به الجمع تؤنث صفته وإذا أريد به المفرد يذكر نحو أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - وكُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ- وتَجْرِي فِي الْبَحْرِ- بِما يَنْفَعُ النَّاسَ اى ينفعهم او بالذي ينفعهم من الركوب عليها والحمل فيها في التجارات والمكاسب وانواع المطالب وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ من الاولى للابتداء والثانية للبيان فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها وجذوبتها

[سورة البقرة (2) : آية 165]

وَبَثَّ اى نشر فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ صغيرة لا يكاد يبصر وكبيرة لا يتصور تسخيرها الا بحول الله وقوته عطف على انزل او على أحيا فان الدواب ينمون من الخصب ويعيشون بالماء وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ الى المشرق والمغرب والجنوب والشمال مفيدة ومضرة- لينة وعاصفة- حارة وباردة- اعلم ان الريح كلما وقع في القران المعرف باللام اختلف القراء في جمعها وافرادها الا في الذاريات الرّيح العقيم فانهم اتفقوا على الافراد- والا في الحرف الاول من سورة الروم الرّياح مبشّرت فانهم اجمعوا على جمعها- فقرا حمزة والكسائي تصريف الريح هنا وفي الكهف والجاثية والأعراف والنمل والثاني من الروم وفاطر بالإفراد وتابعهما ابن كثير في الاربعة الاخيرة- وقرا ابن كثير في الفرقان وحمزة في الحجر بالإفراد والباقون في جميعها بالجمع- وقرا نافع في ابراهيم والشورى بالجمع والباقون بالإفراد- وقرا ابو جعفر «1» كل ما ذكر على الجمع جميعا- وكل ريح في القران منكر فهو بالإفراد اجماعا والله اعلم وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا ينزل ولا ينقشع مع ان الطبع يقتضى أحدهما حتى يأتى امر الله وايضا هو مسخر فى الجو يقلبه الله حيث يشاء قال ابن وهب ثلثة لا يدرى من اين يجىء الرعد والبرق والسحاب لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) يتفكرون فيها وينظرون الى انها امور حادثة ممكنة في ذواتها لا يقتضى ذواتها وجوداتها ولا شيئا من اثارها موجودة على وجوه مخصوصة من وجوه كثيرة كلها محتملة فلا محالة من وجود صانع يقتضى ذاته وجوده حى عليم حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد متصف بصفاة الكمال منزه عن النقص والزوال متعال عن مماثل ومعارض إذ لو كان معه اله يقدر على ما يقدر عليه لزم اما اجتماع المؤثرين على اثر واحد بالشخص وهو محال او عجز أحدهما او التمانع الموجب للفساد- وينظرون الى ما في تلك المخلوقات من اثار رحمة الله تعالى فيعرفون انه تعالى هو المستحق للعبادة والشكر دون غيره- اخرج ابن ابى الدنيا في كتاب التفكر عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم قال ويل لمن قرا ولم يتفكر فيها- وقيل للاوزاعى فما غاية التفكر فيهن قال يقرا وهو يعقلهن- والله اعلم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أصناما او رؤساءهم الذين كانوا يطيعونهم او ما هو أعم منهما يعنى كل ما كان مشغلا عن الله تعالى مانعا عن امتثال او امره يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم ويطيعونهم كَحُبِّ اللَّهِ كتعظيمهم لله اى يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة والمحبة

_ (1) وقرا ابو جعفر ايضا بالجمع في الاسراء والأنبياء وسبا وص وعنه خلاف في الحج- ابو محمد

ميل القلب كذا قال الزجاج او المعنى يحبون الهتهم كحب المؤمنين الله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حب الكافرين الهتهم لانه لا ينقطع محبة المؤمنين ولا يعرضون عن الله تعالى في السراء والضراء والشدة والرخاء بخلاف الكفار فان محبتهم لاغراض موهومة فاسدة تزول بأدنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن الهتهم عند الشدائد الى الله تعالى ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه الى غيره قال سعيد بن جبير ان الله عز وجل يأمر يوم القيامة من احرق نفسه في الدنيا على روية الأصنام ان يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون ثم يقول للمؤمنين بين يدى الكافرين ان كنتم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون «1» فيها وينادى منادى من تحت العرش وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ- قلت ويمكن ان يكون المعنى الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حب كل أحد لكل أحد لان محبتهم فيما بينهم اما لتوقع جلب منفعة او دفع مضرة او لالتذاذ يحصل بروية الجمال او لانتسابهم الى أنفسهم بالنبوة او الابوة فهى في الحقيقة محبة لانفسهم لا للمحبوبين ومن ثم ترى زوالها بزوال تلك الأسباب- ثم الكفار منهم اقتصر نظرهم على الحظوظ العاجلة ولا يعرفون لله سبحانه الا وجودا موهوما وينسبون المنافع والمضار الى العباد او الكواكب او اسماء سموها هم واباؤهم فيحبونهم كحب الله او أشد منه- والذين يدّعون الإسلام من اهل الأهواء كالمعتزلة والروافض والخوارج فلاعتقادهم بالمنافع والمضار المختصة بالدار الاخرة واعترافهم بان مالك يوم الدين هو الله الواحد القهار يحبون الله تعالى أشد من حبهم لغيره تعالى حيث يزعمون ان منافعهم ومضارهم مختصة بالدنيا- ومن اختار الدنيا على الاخرة منهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فلا كلام فيه فهؤلاء الناس مشركون غيره تعالى به تعالى في اصل الحب المبنى على إيصال النفع والضرر المبنى على اعتقادهم بان افعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى- فهم بسبب اقتدارهم بقاذورات الفلاسفة اكفاء للمشركين ومجوس في هذه الامة واما اهل السنة والجماعة فلاعتقادهم بان افعال العباد مخلوقة لله تعالى وان الله تعالى هو الضار النافع دون غيره فكما انهم لا يعبدون غير الله تعالى كذلك لا يحمدون غيره الا بنوع من التجوز باذنه وامره وكذلك لا يحبون غيره تعالى الا لله تعالى فحمدهم وحبهم كلها راجعة الى الله تعالى انما الحب الحب لله وانما البغض البغض لله غير ان حب عامتهم راجع الى اغراض صحيحة اخروية مرضية لله تعالى- واما اهل التحقيق منهم وهم الصوفية العلية الرضية فكل حب مبنى على خوف او طمع

_ (1) وهؤلاء إذا اقتحموا في النار يجدوها بردا وسلاما- منه رحمه الله

دنيوى او اخروى لا يسمونه حبا- بل الحب عندهم نار يشتعل في قلوب المحبين تحرق ما سوى المحبوب لا تبقى ولا تذر حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فكيف ينظر نفعه وضرّه وما سواه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً نعم رب قد اتى على الإنسان حين مستمر من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ولا مخطورا- والسرّ في ذلك ان اقرب الأشياء عند العوام أنفسهم فهم لا يحبون الا أنفسهم او لاجل أنفسهم واما المحققون فاقرب الأشياء إليهم هو الله سبحانه الذي قال نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ايها العوام فهم لا يحبون أحدا الا الله سبحانه ويحبون أنفسهم لاجله تعالى لا بالعكس ويحبون كل محبوب لاجله تعالى وأولئك هم الصادقون في دعوى المحبة الذاتية- وإذا بلغت المحبة الى هذه المثابة يكون إيلام المحبوب عندهم كانعامه بل احلى وألذ فإن في إيلامه اخلاص ما ليس في انعامه- وهؤلاء هم الذين يقال لهم يوم القيامة بين يدى الكافرين ان كنتم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادى مناد من تحت العرش وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ- أليس تعلم انه من كان يعبد الله تعالى خوفا من جهنم وطمعا في الجنة كيف يختار النار المؤبدة ابتغاء مرضات الله ولا يتصور ذلك الا من له محبة ذاتية وهو حامل امانة الله التي حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا وَلَوْ يَرَى قرا نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء على انه خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم او لكل مخاطب ومفعوله بعده- وقرا الباقون بالياء وفاعله ضمير السامع يعنى لو يرى السامع او فاعله بعده الَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذ الانداد وحبهم كحب الله ومفعوله محذوف يعنى أنفسهم إِذْ يَرَوْنَ الكفار الْعَذابَ يوم القيامة قرا ابن عامر بضم الياء على البناء للمفعول والباقون بالفتح- وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فظيعا عظيما- او لندموا ندامة شديدة- وفائدة الحذف انّ لو إذا جاء فيما يشوق اليه او يخوف منه فيحذف الجواب هناك يذهب القلب فيه كل مذهب ويستفاد منه كمال الشوق او كمال الفظع- ولو وإذ تدخلان على الماضي وانما دخلتا على المستقبل لان في اخبار الله تعالى المستقبل كالماضى في التحقق أَنَّ يعنى لان الْقُوَّةَ الغلبة «1» لِلَّهِ جَمِيعاً حال وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) اى شديد عذابه يتعلق بالجواب المحذوف على قراءة العامة- وقرا ابو جعفر ويعقوب أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ بكسر الهمزة في ان في الجملتين فهذا استيناف والكلام قد تم عند قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ ويحتمل على قراءة لو يرى الّذين ظلموا على الغيبة ان يكون الروية بمعنى الروية القلبية

_ (1) فى الأصل والغلبة-[.....]

[سورة البقرة (2) : آية 166]

والذين ظلموا فاعله وان القوة الى آخره ساد مسد مفعوليه- والمعنى ولو يعلم الذين ظلموا حين يرون العذاب والمصائب في الدنيا ان القوة لله جميعا وان الله تعالى هو الضارّ والنافع وان افعال العباد لم يوجد الا بقدرته ومشيته وخلقه وان الله شديد العذاب في الدنيا والاخرة لا مانع لما يعطيه ولا معطى لما منعه ولا راد لقضائه أحدكما يعلم المؤمنون لما اتخذوا أندادا وما أحبوا غير الله تعالى كالمؤمنين- او المعنى لو يعلم الذين ظلموا ان القوة لله جميعا حين يرون العذاب يوم القيامة لندموا أشد ندامة- ويحتمل ان يكون ان القوة لله جميعا جواب لو والمعنى ولو يرى الذين ظلموا اندادهم لا ينفع لعلموا ان القوة لله جميعا-. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا منصوب بتقدير اذكر او بدل من إذ يرون وَرَأَوُا الْعَذابَ الواو للحال وقد مضمرة او للعطف على تبرا وكذا في قوله تعالى وتقطّعت وذلك التبري يوم القيامة حين يجمع الله القادة والاتباع فيتبرا بعضهم من بعض وقيل الشياطين يتبرءون من الانس وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ اى عنهم الْأَسْبابُ (166) اى اسباب المحبة التي كانت بينهم في الدنيا وهى توقعات فاسدة في النفع ودفع الضرر- واصل السبب ما يوصل به الى شىء من ذريعة او قرابة او مودة ومنه يقال للجبل وللطريق سبب. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً اى رجعة الى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ منصوب على جواب لو بمعنى ليت مِنْهُمْ اى من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ الاراءة يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ ندامات عَلَيْهِمْ حسرات ثالث مفاعيل يرى ان كان من روية القلب والا فحال ما تركوا من الحسنات واتباع الرسول يندمون على تضييعها وما اثروا من السيئات واختاروا الدنيا على الاخرة يتحسرون على إتيانها- قال السدى يرفع لهم الجنة فينظرون إليها والى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ثم يقسم بين المؤمنين فبذلك يندمون ويتحسرون وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) أصله ما يخرجون فعدل الى الجملة الاسمية للمبالغة في الخلود والاقناط عن الخلاص والرجوع الى الدنيا. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر ابن صعصعة وبنى مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والانعام والبحيرة

[سورة البقرة (2) : آية 169]

والسّائبة والحام والوصيلة حَلالًا مفعول كلوا او حال من ما في الأرض ومن للتبعيض- والحلال ضد الحرام اى ما لم يمنعه الشرع فان الأصل في الأشياء الحل لقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً طَيِّباً مستلذا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحلوا الحرام قرا ابو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وهما لغتان في جمع خطوة وهى ما بين قدمى الخاطي- وخطوات الشيطان اثارها وزلاتها يعنى طرقه «1» فى المعاصي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) ظاهر العداوة عند اهل البصيرة وان كان يظهر الموالات لمن يغويه ولذلك سماه وليّا في قوله أولياؤهم الطّاغوت- او مظهرها حيث ابى من سجود آدم وأخرجه من الجنة وحلف لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ- وابان يكون لازما ومتعديا- ثم ذكر عداوته. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ السوء في الأصل اسم لما يسوء صاحبه يقول ساءه يسوءه سواء ومساءة اى أحزنه وسأته فسىء اى حزنته فحزن- والفحشاء مصدر على وزن بأساء وضراء والمراد بهما الإثم والعطف لاختلاف الوصفين فانه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء لاستقباحه إياه وقيل السوء مطلق المعصية والفحشاء الكبيرة او ما فيه حد- والمراد بامره وسوسته وذالا يقتضى سلطانه الا على من اتبعه من الغاوين عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فادناهم منه منزلة أعظم فتنة يجىء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا- ثم يجىء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت- رواه مسلم وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فاما لمة الشيطان فايعاد بالشر وتكذيب بالحق واما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله فليحمد الله ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرا الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ- رواه الترمذي وفى حديث ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي رد امره الى الوسوسة- رواه ابو داود- وَأَنْ تَقُولُوا في موضع الجر عطفا على السوء عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) من تحريم الحرث والانعام-. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اى لليهود اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قصة مستانفة والضمير عن غير مذكور- اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الى

_ (1) في الأصل طروقه

[سورة البقرة (2) : آية 171]

الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عن عذاب الله ونقمته «1» فقال رافع بن حريملة ومالك بن عوف بل تتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا اعلم وخيرا منا فانزل الله تعالى- والمراد ب ما أَنْزَلَ اللَّهُ القران او التورية فانها ايضا تأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل هى نازلة في مشركى العرب وكفار قريش والضمير راجع الى قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ- وقيل الضمير راجع الى الناس في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا- وعدل عن الخطاب عنهم إيذانا على ضلالتهم كانه التفت الى العقلاء وقال قال لهم انظروا الى هؤلاء الحمقاء ماذا يجيبون قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ قرا الكسائي بل نتّبع بإدغام اللام فى النون فانه يدغم لام هل وبل في ثمانية أحرف التاء- والثاء- والزاء- والسين- والطاء- والظاء- والضاد- والنون- نحو هل نعلم- وهل ثّوّب- وبل زيّن- وبل سوّلت- بل طبع- بل ظننتم- بل ضلّوا- هل ندلّكم- هل ننبّئكم- وهل نحن وشبهه وادغم حمزة في التاء والثاء والسين فقط واختلف عن خلاد عند الطاء في قوله تعالى بل طبع الله- واظهر هشام عند النون والضاد وعند التاء في الرعد هل تستوى لا غير وادغم ابو عمرو هل ترى من فطور في الملك- فهل ترى لهم فى الحاقة لا غير واظهر الباقون اللام في الثمانية ما أَلْفَيْنا ما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من اتباع التورية او من التحريم والتحليل أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) الواو فى الأصل واو العطف ويقال في هذا المقام واو التعجب دخلت عليها الف الاستفهام للتوبيخ يعنى أيتبعون آباءهم لو كان اباؤهم يعقلون ولو كان اباؤهم لا يعقلون فحذف صدر الجملة- والجملة حال وكلمة لا يعقلون عام ومعناه الخصوص اى لا يعقلون شيئا من امر الدين لانهم كانوا يعقلون امر الدنيا- فان قيل نزول الاية في اليهود فكيف يتصوران آباءهم لا يعقلون شيئا فانهم كانوا متبعين للتورية- قلت بل لم يكونوا متبعين للتورية ولو كانوا متبعيها لما كفروا بعيسى عليه السلام- او يقال فيه تعريض بانهم لعلهم ألفوا آباءهم على تحريف التورية فحرفوها إذ لو وجدوهم على التورية لوجدوهم طالبين لدين محمد صلى الله عليه وسلم منتظرين له-. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً النعق والنعيق صوت الراعي بالغنم والاية ان كانت في عبدة الأوثان فلا حاجة في تأويلها ومعناه مثل الذين كفروا فى عبادتهم ودعائهم للاوثان حيث لا يسمعون دعاءهم كمثل الذي ينعق

_ (1) فى الأصل ونعمته-

[سورة البقرة (2) : آية 172]

بما لا يسمع كما في قوله تعالى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ- والتمثيل من باب التمثيل المركب فلا محذور في قوله تعالى الّا دعاء ونداء- وان كانت الاية في اليهود فالتوجيه ان مثل الذين كفروا من اليهود في جواب دعائك إياهم الى الإسلام بقولهم بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا- كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ من البهائم فانه كما ان الناعق لا يقصد بصوته معنى بل يتكلم بمهل كذلك الكافر لا يقول جوابا مقبولا بل يقول صوتا غير مغن- او الغرض منه تشبيه الكفار بالبهائم فحينئذ لا بد من التأويل فتقديره مثلك ومثل الذين كفروا- او مثل داعى الذين كفروا بحذف المضاف في المشبه- او تقديره ومثل الذين كفروا كمثل المنعوق به فالكلام خارج على الناعق والمراد به المنعوق به وهو فاش في كلام العرب يقلّبون الكلام يقولون فلان يخافك خوف الأسد وقال الله تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ وانما العصبة تنوء بالمفاتيح- والمعنى ان الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم الى ما يتلى عليهم ولا يتاملون فيه كالبهائم التي ينعق عليها فيسمع الصوت ولا يفهم معناه- او المعنى مثل الذين كفروا في اتباع ابائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها كمثل المنعوق به من البهائم التي يسمع الصوت ولا يفهم ما تحته فان آباءهم الذين كانوا قبل نسخ التورية كانوا يتبعون ما انزل الله في التورية ينتظرون محمدا صلى الله عليه وسلم والقران وهؤلاء يدّعون اتباع التورية بعد ما نسخت ويخالفون التورية في انكار القران صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم اى لا يسمعون سماع تفكر ولا ينطقون بالخير ولا يبصرون الهدى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) امر الدين للاخلال عن النظر ولما امر الله تعالى الناس بأكل الحلال الطيب والكف عن اتباع الشيطان وطال الكلام فيما يتعلق بالكف وكان لاكل الحلال الطيب غاية وهو الشكر وأراد الله تعالى ذكره أعاد الأمر بالأكل ليتصل به قوله واشكروا ولما كان الشكر مختصا باهل التوحيد والايمان خاطب هنا بخطاب اهل الايمان فقال. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلالات مستلذات ما رَزَقْناكُمْ عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله طيب لا يقبل الا الطيب وان الله امر المؤمنين بما امر المرسلين فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً- وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ- ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمديده الى السماء يا رب يا رب اشعث اغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام فانى يستجاب لذلك- رواه مسلم وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) يعنى ان صح انكم تخصونه بالعبادة

[سورة البقرة (2) : آية 173]

وتقرون بانه مولى النعم كلها فاشكروه فان عبادتكم لا يتم الا بالشكر عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى انى والانس والجن في نبإ عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى- أخرجه الطبراني في مسندات الشاميين والبيهقي في شعب الايمان والديلمي من حديث ابى الدرداء-. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ قرا ابو جعفر الميّتة في كل القران بالتشديد والباقون انما شددوا البعض وسنذكرها ان شاء الله تعالى فان قيل كلمة انما الحصر وكم من حرام لم يذكر- قلنا المختار عند الحنفية ما قال نحاة الكوفة ان كلمة انما ليست للقصر بل هى مركبة من انّ للتحقيق وما الكافة وعلى تقدير التسليم فالقصر إضافي بالنسبة الى ما حرمه الكفار من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام ونحوها والله اعلم- والميتة حيوان مات من غير ذكوة وقد كان من شانها الذكوة فالسمك والجراد غير داخلتين فيها او هما خصتا منها بالحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل لنا ميتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال- أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمرو الحق بها بالسنة ما أبين من الحي اخرج ابو داود- والترمذي وحسنه عن ابى واقد الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميتة- واجمعوا على انه لا يجوز بيع الميته ولا أكل ثمنه ولا الانتفاع بشحمه ولا بجلده قبل الدباغ عن جابر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة ان الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله ارايت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال عند ذلك قاتل الله اليهود ان الله لمّا حرم شحومها اجملوه ثم باعوه فاكلوا ثمنه- متفق عليه وعن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها- متفق عليه وعن عبد الله ابن عكيم قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب رواه احمد والشافعي واصحاب السنن الاربعة- وفي رواية للشافعى واحمد وابى داود «1» - قبل موته بشهر وفي رواية احمد بشهر او شهرين قال الترمذي حسن صحيح- وعن جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينتفع من الميتة بشىء- رواه ابو بكر الشافعي واسناده حسن وعن اسامة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع- رواه ابو داود والنسائي والحاكم وصححه وزاد وان يفترش- وعن معاوية بلفظ نهى عن ركوب النمار- رواه ابو داود والنسائي وعن المقدام بن معديكرب قال نهى رسول الله صلى الله

_ (1) فى الأصل ابو داود

عليه وسلم عن الحرير والذهب ومناثر النمور- رواه احمد والنسائي- وعن ابى هريرة مرفوعا لا تصحب الملائكة رقعة فيها جلد نمر- رواه ابو داود واختلفوا في جلد الميتة بعد الدباغ فقال ابو حنيفة والشافعي رحمهما الله يطهر بالدباغ فيجوز بيعه والانتفاع به وقال مالك واحمد لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به- لنا أحاديث منها حديث ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة فقال الا استمتعتم بجلدها فقالوا يا رسول الله انها ميتة قال انما حرم أكلها او ليس في الماء والقرظ ما يطهر- وفى بعض الروايات- الا استمتعتم بجلدها- وفي بعضها- انما حرم لحمها ورخص لكم في مسكها- قال الدارقطني أسانيده صحاح- وحديثه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اى إهاب دبغ فقد طهر- رواته مسلم وعن ابن عمر مرفوعا مثله رواه الدارقطني بسند حسن- وعن سفيان مثله رواه مسلم وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم طهور كل أديم دباغه- وعنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر ان ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت- وعن سودة ماتت شاة لنا فدبغنا مسكها- رواه البخاري واحتج اصحاب مالك واحمد بما ذكرنا سابقا من الأحاديث انه لا يجوز الانتفاع من الميتة بشىء قالوا هذا اخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد في حديث عبد الله بن عكيم أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر او شهرين- قلنا حديث عبد الله بن عكيم مضطرب سنده ومتنه فلا يصادم ما روينا من الصحاح فلا يكون ناسخا على ان الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ ونحن نقول بحرمة الانتفاع به- فان قيل ورد في حديث عبد الله بن عكيم عند الطبراني في الأوسط وابن عدى- قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في ارض جهينة انى كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب- قلنا هذا الطريق لا يصح فان فيه فضالة بن مفضل قال ابو حاتم الرازي لم يكن باهل ان يكتب منه اهل العلم- واختلفوا في شعر الميتة وعظمها وعصبها وقرنها وحافرها فقال ابو حنيفة طاهر يجوز بيعه والانتفاع به- وقال الشافعي نجس- واحمد ومالك معنا في الشعر ومعه في العظم والعصب- وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم لا ينتفع من الميتة بشىء- واحتج الشافعي على نجاسة الشعر بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفنوا الأظفار والدم والشعر فانه ميتة- والجواب ان الحديث الثاني فيه عبد الله بن عزيز قال ابو حاتم الرازي أحاديثه منكرة وليس محله الصدق عندى- وقال على بن الحسين بن الجنيد

لا يساوى فلسا يحدث بأحاديث كذب- واما الحديث الاول فقد تكلّم عليه ولو سلم عن التكلم فهو معارض بما تقدم من حديث ابن عباس المتفق عليه انما حرم أكلها وطرقه متكثرة- ولنا ايضا حديث ابن عباس بلفظ انما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمها فاما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به- لكن فيه عبد الجبار ضعيف وذكره ابن حبان في الثقات وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الا كلّ شىء من الميتة حلال الا ما أكل منها فاما الجلد والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال وفيه ابو بكر الهذلي متروك قال غندر كذاب وقال يحيى وعلى ليس بشىء- وحديث ثوبان اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج- فيه حميد وسليمان مجهولان- ولنا من الآثار ما ذكره البخاري معلقا قال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها لا يرون به بأسا- قلت أسلاف الزهري هم الصحابة رضى الله عنهم او كبار التابعين وقال حماد بن ابى سليمان لا بأس بريش الميتة- وقال ابن سيرين وابراهيم لا بأس بتجارة العاج- والله اعلم وَالدَّمَ أراد به الجاري منه اجماعا كما في قوله تعالى او دما مسفوحا وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ اجمعوا على ان الخنزير نجس عينه لا يجوز بيع شىء من اجزائه حتى شعره- وانما خص اللحم بالذكر لانه معظم ما يقصد من الحيوان وسائر اجزائه كالتابع له- ويدل على حرمة عينه قوله تعالى فانّه رجس وسنذكر تفسيره في سورة الانعام ان شاء الله تعالى وهل يجوز الانتفاع بشعره قال ابو حنيفة ومالك يجوز الانتفاع به للخزر للضرورة- ومنع منه الشافعي وكرهه احمد- ولو وقع في الماء القليل أفسده وعند محمد لا يفسد لان اطلاق الانتفاع دليل طهارته- ولابى يوسف ان الإطلاق للضرورة ولا يظهر الضرورة الا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع بغايرها- كذا في الهداية وقال الفقيه ابو الليث لو لم يوجد الا بالشراء جاز شراؤه- وقال ابن همام قد قيل ايضا أن الضرورة ليست ثابتة في الخرز به بل يمكن ان يقام بغيره وقد كان ابن سيرين لا يلبس خفا خرز بشعر الخنزير قال ابن همام فعلى هذا لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قال الربيع بن انس يعنى ما ذكر عند ذبحه اسم غير الله والإهلال أصله روية الهلال يقال اهل الهلال ثم لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عند روية الهلال سهى لرفع الصوت مطلقا الإهلال- وكان الكفار إذا ذبحوا لالهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وان لم يجهر مهلّ- واما متروك

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 إلى 175]

لتسمية فسنذكرها في سورة الانعام ان شاء الله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ قرا عاصم وابو عمرو وحمزة بكسر النون هاهنا ومن أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وأَنِ احْكُمْ ولكِنِ انْظُرْ وأَنِ اغْدُوا وشبهه وكسر الدال من لقد استهزىء والتاء من قالَتِ اخْرُجْ والتنوين من فتيلان انظر ومبينان اقتلوا وشبهه إذا كان بعد الساكن الثاني ضمة لازمة وابتدأت همزة الوصل بالضم- ووافقهم ابن عامر في التنوين فقط وكذا قرا عاصم وحمزة بكسر اللام والواو مثل قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ وتابعهما يعقوب الا فى الواو- وقرا الباقون بالضم في كلها بضمة أول الفعل- وقرا ابو جعفر بكسر الطاء اتباعا لكسر النون والمعنى انه من اضطر الى أكل الميتة او نحوه مما ذكر سواء كان الاضطرار لاجل المخمصة او الإكراه او غير ذلك حل له أكلها بالإجماع غَيْرَ باغٍ حال اى أكل غير باغ للذة وشهوة وَلا عادٍ اى متجاوز قدر الحاجة فالحاصل انه لا يجوز للمضطر الاكل منه الا قدر سد الرمق- وفي قول للشافعى يجوز له الشبع- وهو قول مالك واحدى «1» الروايتين عن احمد- والراجح من مذهب الشافعي انه ان توقّع حلالا قريبا لم يجز غير سد الرمق وانّ للمنقطع ان يشبع ويزوّد- وقال بعض اصحاب الشافعي في تأويل الاية غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق او فساد في الأرض- قال البيضاوي وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول احمد- وقال البغوي وهو قول ابن عباس رضى الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقالوا لا يجوز للعاصى بسفر ان يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا ان يترخص برخص المسافرين حتى يتوب- قلت والظاهر ان البغي والعدوان راجعان الى الاكل- وقال مقاتل بن حبان غير باغ اى مستحل لها ولا عاد اى مقصر في طلب ما أبيح له- فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فى أكلها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما أكل في حالة الاضطرار رَحِيمٌ (173) حيث رخص العباد في ذلك- وهذا يدل على ان المضطر ان لم يأكل الميتة ونحوها حتى مات فلا اثم عليه ايضا فان الاكل عند الاضطرار مباح رخصة من الله تعالى وليس بواجب وهو أصح قول الشافعي- وقال ابو حنيفة بل يأثم ويجب عليه حينئذ أكله لقوله تعالى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ- حيث استثنى ما اضطررتم اليه من المحرم فبقى على الأصل مباحا والمباح واجب أكله عند خوف الهلاك وانما سمى ذلك رخصة مجازا. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ يعنى آيات التورية في شأن محمد صلى الله عليه وسلم- نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمأكل-

_ (1) فى الأصل أحد-

[سورة البقرة (2) : آية 176]

وكانوا يرجون ان يكون النبي المبعوث منهم- فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا الى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم- فلما نظرت السفلة الى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه ذكره البغوي وكذا اخرج الثعلبي عن ابى صالح عن ابن عباس- واخرج ابن جريح عن ابن عباس- ان هذه الاية والتي في ال عمران نزلتا جميعا في اليهود وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعنى اعراض الدنيا فانها وان جلت فهى قليلة بالنسبة الى ثواب الاخرة أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ سمّى الرشوة والحرام نارا لانه يودى إليها- او لانه صير نارا في الاخرة- او المعنى ما يأكلون في الاخرة الا النار- ومعنى في بطونهم ملاء بطونهم وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالرحمة وبما يسرهم او هى كناية عن غضبه عليهم نعوذ بالله منه وَلا يُزَكِّيهِمْ اى لا يثنى عليهم او لا يطهرهم من دنس الذنوب بخلاف عصاة المؤمنين فانهم ان عذبوا بالنار كان ذلك تطهيرا لذنوبهم وإعدادا لهم لدخول الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فى الدنيا. وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فى الاخرة بكتمان الحق لاغراض دنيّة دنيوية فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) يعنى ما أشد صبرهم عليها تعجيب للمؤمنين على اختيارهم موجبات النار مع علمهم بتحقيق المصير إليها كانهم صبروا عليها والا فاىّ صبر. ذلِكَ العذاب ومحله الرفع وقيل محله النصب يعنى فعلنا ذلك بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ يعنى التورية او جنس الكتاب التورية والقران وغيرهما بِالْحَقِّ فاختلفوا- وقيل معناه ذلك الاجتراء من اليهود على الله وصبرهم على النار من أجل ان الله تعالى نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اللام للجنس واختلافهم ايمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض- او للعهد والاشارة اما الى التورية واختلافهم فيه اتباعهم بعض أحكامه وتركهم بعضه وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم- واما الى القران واختلافهم فيه قولهم انه سحر او كلام يقوله بشرا وأساطير الأولين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (172) عن الحق-. لَيْسَ الْبِرَّ قرا حفص وحمزة بالنصب على انه خبر ليس واسمها ما بعده والباقون بالرفع بعكس التركيب- والبر كل فعل مرضى لله تعالى أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال كانت اليهود يصلى قبل المغرب يعنى الى بيت المقدس والنصارى

قبل المشرق فانزل الله تعالى هذه الاية يعنى ليس البر ما عليه اليهود والنصارى فان قبلتهم منسوخة ودينهم كفر- وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن ابى العالية- قال البغوي هذا قول قتادة ومقاتل بن جبان وقيل المراد به المسلمون وذلك ان الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا اتى بالشهادتين وصلى الصلاة الى اىّ جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحدّت الحدود وصرّفت القبلة الى الكعبة انزل الله تعالى هذه الاية يعنى ليس البر كله مقتصرا في ان تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا غير ذلك ولكن البر ما ذكر في هذه الاية قال البغوي هذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك- قلت واخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه- قلت ذكره تعالى بتولية الوجوه وعدم تسميته بالصلوة قرينة على ان المخاطبين «1» بها اليهود والنصارى دون المؤمنين وقد قال الله تعالى للمؤمنين انّ الله «2» لا يضيع ايمانكم يعنى صلاتكم وَلكِنَّ الْبِرَّ قرا نافع وابن عامر لكن مخففة والبر بالرفع في الموضعين والباقون بالتشديد والنصب فيهما مَنْ آمَنَ لا بد للحمل ان يعتبر المصدر بمعنى الفاعل مبالغة او يقدر المضاف في الاسم او الخبر يعنى لكن البار او ذا البر من أمن او لكن البرّ برّ من أمن وهذا أوفق بالسياق بِاللَّهِ المتوحد بجلال ذاته وكمال صفاته المنزه عن وسمة الحدوث والمناقص بحيث لا يتصور ثناؤه الا بما اثنى به نفسه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى يوم القيامة فانه اخر الأيام والمراد به من وقت النشور الى الابد المشتمل على البعث والحساب والميزان والصراط والجنة وما فيها والنار وما فيها والشفاعة والمغفرة وخلود الثواب والعذاب وكل ما ثبت بالكتاب والسنة وَالْمَلائِكَةِ بانهم خلقوا من نور أجسام ذوو أرواح أولوا اجنحة مثنى وثلث ورباع- وراى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل وله ستمائة جناح- لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون قوتهم التسبيح والتهليل لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يموتون ثم يبعثون ومنهم رسل يأتون بالوحى على الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات وجزاء أعمالهم رضوان الله تعالى منهم ومراتب قربهم عند الله تعالى حيث قال عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ فهم غير محتاجين في جزاء أعمالهم الى دخول الجنة بل خزنة النار وملائكة العذاب ايضا يوفون أجورهم وهم لا يظلمون- فلا يذهب عليك ان عوام المؤمنين أفضل من الملائكة أجمعين حيث يدخلون الجنة لاجل الجزاء دون الملائكة نعم خواص البشر يعنى الأنبياء والرسل منهم أفضل من جميع الملائكة لاجل التجليات الذاتية المختصة بالبشر لاختصاصها بالتراب- وكما ان جزاء اعمال الملائكة غير متوقفة بدخول

_ (1) فى الأصل ان المخاطبون (2) وفي القران وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ

الجنة كذلك بعض الأصفياء من البشر يحصل لهم في الدنيا بعض ما يحصل لهم في الجنة قال الله تعالى فى حق خليله عليه السلام آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَالْكِتابِ والمراد به الجنس او المراد به القران فان الايمان به مستلزم لجميع الكتب المنزلة- والقران وغيره من الكتب والصحف كلام الله غير مخلوق- والحق انه النظم والمعنى جميعا- وتعاقبه وترتبه على السنة البشر وأسماعهم المقتضى للحدوث لا يستلزم كونه كذلك قائما به سبحانه وتعالى- وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى - وَالنَّبِيِّينَ- أجمعين لا نفرق بين أحد من رسله أولهم آدم عليه السلام وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين ولا يجوز تعيين العدد في الايمان بالنبيين لان الله سبحانه قال مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ والعدد انما ورد في بعض أحاديث الآحاد وذا لا يفيد القطع ومبنى الايمان على القواطع- كلهم معصومون من الصغائر والكبائر يصدق بعضهم بعضا لا خلاف بينهم في الايمانيات انما الخلاف في فروع الأعمال بناء على نسخ الاحكام ومن هاهنا يظهر بطلان قول الروافض حيث يجعلون الايمان بالائمة داخلا في الايمان إذ لو كان كذلك لذكر الله تعالى ذلك كما ذكر الايمان بالأنبياء والملائكة والله اعلم وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ الجار والمجرور في موضع الحال والضمير راجع الى الله سبحانه فان كل ما اعطى لوجه الله فثوابه على الله وما كان لغير الله فالله سبحانه منه برىء عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ثلثة نفر ثالثهم رجل وسع الله وأعطاه من اصناف المال كله فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت فيها قال ما تركت من سبيل تحب ان ينفق فيه في سبيل الله الا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار- رواه مسلم- وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم- رواه مسلم- وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه- وفي رواية فانا منه برىء هو الذي عمله- رواه مسلم- او الضمير راجع الى المال اى اعطى المال في حال صحته ومحبته المال كذا قال ابن مسعود- وعن ابى هريرة قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اى الصدقة أعظم اجرا قال ان تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر

وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان- متفق عليه ويؤيد إرجاع الضمير الى المال قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ- ويحتمل ان يكون حينئذ معناه اعطى المال حال كون ذلك المال أحب الأموال اليه فهو نظير قوله تعالى أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ- «1» وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ الاية- او الضمير راجع الى المصدر يعنى تعطى المال على حب الإعطاء بسخاوة القلب وشرح الصدر ذَوِي الْقُرْبى القربى مصدر بمعنى القرابة قدمهم لان إيتاءهم اولى وأحق ويدخل في ذوى القربى ذوى القربى النسبي والسببى من الزوج والزوجة والمملوك- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقته على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها اجرا الذي أنفقته على أهلك- رواه مسلم وعن زينب امراة ابن مسعود قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدّقن يا معشر النساء ولو من حليكم فقالت هى وامراة اخرى اتجزى الصدقة عنهما على ازواجهما وعلى أيتام في حجورهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما أجران اجر القرابة واجر الصدقة متفق عليه وعن سلمان بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهى على ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة- رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وَالْيَتامى إذا فقد الصبى أباه قبل البلوغ فهو يتيم - قال البيضاوي في ذوى القربى واليتامى يريد المحاويج منهم ولم يقيد لعدم الالتباس- قلت هذا التقييد غير ظاهر فان الكلام في إيتاء المال تطوعا او ما هو أعم من الفريضة والتطوع واما الزكوة المفروضة فسيرد ذكره بعد ذلك والإيتاء تطوعا لا يتقيد بالمحاويج فان صلة الرحم وتفريح اليتيم قد يكون مع كون المعطى له غنيا بل لا يتوقف الصلة على اسلام المعطى له قال الله تعالى وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً- عن اسماء بنت ابى بكر قالت قدمت على أمي وهى مشركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صليها- متفق عليه- وعن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان ال ابى فلان ليسوا لى باولياء انما وليي الله وصالحوا المؤمنين ولكن لهم رحم ابلها ببلالها- متفق عليه وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ لكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها- رواه البخاري- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا وكافل اليتيم في الجنة هكذا- وفي رواية-

_ (1) وفي القران ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا إلخ

كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى- رواه البخاري واحمد وابو داود والترمذي وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قال مجاهد هو المسافر المنقطع عن اهله يمر عليك- وقيل هو الضيف عن ابى شريح قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه- متفق عليه وَالسَّائِلِينَ عن أم عبيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ردوا السائل ولو بظلف محرق- وفي رواية ان لم تجدى الّا ظلفا محرقا فادفعيه اليه- رواه احمد وابو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح- وعن الحسين بن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائل حق وان جاء على فرسه رواه احمد- واخرج ابو داود من حديث على واسناده جيد- وابن راهويه في مسنده من حديث فاطمة الزهراء عليها السلام والطبراني من حديث الهرماس بن زياد- واخرج احمد في الزهد عن سالم بن ابى الجعد قال قال عيسى بن مريم عليه السلام ان للسائل حقا وان أتاك على فرس مطوق بالف ضة- قلت وهذا الحديث يدل على ان إعطاء السائل لا يتوقف على كونه محتاجا فان السؤال وان كان حراما على غير المحتاج لكن على المسئول منه حق ان يعطيه وَفِي الرِّقابِ يعنى المكاتبين فهو نظير قوله تعالى وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ- وقيل عتق النسمة فهو نظير قوله تعالى فَكُّ رَقَبَةٍ- وقيل فداء الأسارى قال الله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً- وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة والنافلة يعنى ادّاها بحقوقها ورعاية سننها وآدابها- وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة وفيما سبق كان ذكر الصدقات النوافل او ما هو أعم من الفريضة والنافلة فذكر الفريضة بعدها لمزيد الاهتمام- وقيل المقصود منه ومما سبق واحد وهى الزكوة المفروضة لكن الغرض مما سبق بيان مصارفها وبالثاني أداؤها والحث عليها- قلت والاول اولى لان الكلام في بيان البر وهو من الافعال ما هو مرضى لله تعالى فريضة كانت او نافلة ويؤيده حديث فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان في المال لحقا سوى الزكوة ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الاية- رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي والمراد بالحق أعم من ان يكون واجبا او منه وبا بالإجماع «1» لحديث طلحة بن عبيد الله قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الإسلام فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكوة- فقال هل عليّ غيرها قال لا الا ان تطوع- متفق عليه-

_ (1) فى الأصل اجماع-

[سورة البقرة (2) : آية 178]

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما بينهم وبين الله تعالى يوم الميثاق وفي الحيوة الدنيا إذا حلفوا او نذروا أوفوا- وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا انجزوا وإذا قالوا صدقوا وإذا اؤتمنوا أدوا وإذا استشهدوا على الحق شهدوا عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اية المنافق ثلث إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا اؤتمن خان- متفق عليه- زاد مسلم وان صام وصلى وزعم انه مسلم- وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر- متفق عليه معطوف على من أمن وَالصَّابِرِينَ ايضا معطوف على من أمن ونصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب تغيير الاعراب إذا طال الكلام كذا قال ابو عبيدة- ومثله في المائدة والصّابئون وفي سورة النساء والمقيمين الصّلوة- وقال الخليل منصوب على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال لان أفضل الأعمال أدوم وذلك بالصبر وتقديره اخصّ الصابرين بمزيد البرا وامدح الصابرين بمزيد البر- فحينئذ من عطف الجملة على الجملة- وقيل منصوب عطفا على ذوى القربى يعنى واتى الصابرين- نظيره قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ فِي الْبَأْساءِ اى الشدة والفقر وَالضَّرَّاءِ المرض والزمانة وَحِينَ الْبَأْسِ اى القتال والحرب أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى الايمان والبر وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) عن الكفر وسائر الرذائل والاية جامعة للكمالات الانسانية صريحا او ضمنا دالة على صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس وهذا منصب الأبرار واما الصديقون المقربون فمزيد فضلهم مبنى على الفضل والاجتباء ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ-. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى القصاص المساوات والمماثلة- قال البغوي قال الشعبي والكلبي وقتادة نزلت هذه الاية في حيين من احياء العرب اقتتلوا فى الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام قال مقاتل بن حبان كانت بين القريظة والنضير- وقال سعيد بن جبير كانت بين الأوس والخزرج- قالوا جميعا- وكان لاحد الحيين على الاخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهود

فاقسموا لنقتلن بالعبد «1» منا الحرّ وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفى جراحات أولئك فرفعوا أمرهم الى النبي صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الاية وامر بالمساوات فرضوا وسلموا- كذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير- قلت ورضاؤهم وتسليمهم وخطاب الله تعالى إياهم بقوله يا ايها الذين أمنوا دليل على ان المخاطبين به هم الأوس والخزرج الذين صاروا أنصار الله دون قريظة والنضير فانهم كانوا اعداء الله كفارا- وفي قوله تعالى كتب عليكم القصاص حجة لابى حنيفة رحمه الله على قوله ان الواجب في القتل العمد القصاص فقط دون الدية وانه لا يجوز أخذ المال الا برضاء القاتل- ويؤيده قوله عليه السلام في العمد القود- رواه الشافعي وابو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابن عباس في حديث طويل واختلف في وصله وإرساله وصحح الدارقطني الإرسال والمرسل عندنا حجة ورواه الدارقطني من طريق عبد الله بن ابى بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا العمد قود والخطاء دية- وفي اسناده ضعف ولكل واحد من مالك والشافعي واحمد في المسألة قولان أحدهما ان الواجب هو القود لكن يجوز لورثة المقتول ان يعفو عن القود الى الدية من غير رضاء الجاني- وثانيهما ان الواجب أحدهما لا بعينه اما القصاص واما الدية- والفرق بين القولين يظهر إذا عفى مطلقا من غير ذكر الدية فعلى القول الاول يسقط القصاص بلادية وعلى القول الثاني يثبت الدية- واحتجوا على جواز أخذ المال من غير رضاء الجاني بأحاديث- منها حديث ابى شريح الكعبي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة بعد مقامى هذا فاهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا العقل- رواه الترمذي والشافعي وروى ابن الجوزي والدارمي عن ابى شريح الخزاعي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أصيب بدم او خبل والخبل الجرح فهو بالخيار بين احدى ثلاث فان أراد الرابعة فخذوا على يديه بين ان يقتص او يعفوا ويأخذ العقل فان أخذ من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ابدا- ومنها حديث ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قتل له قتيل فهو بخير النظرين اما ان يفدى واما ان يقتل- متفق عليه- ومنها حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل متعمدا دفع الى اولياء المقتول فان شاء واقتلوه وان شاءوا أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها- رواه احمد والترمذي وابن ماجة- قال اصحاب ابى «2» حنيفة رحمه الله في الجواب عن هذه الأحاديث ان المراد ان اولياء المقتول

_ (1) فى الأصل العبد منا الحر والمرأة- (2) فى الأصل ابو حنيفة

بالخيار في القود والصلح والصلح لا يكون الا برضاء القاتل والظاهر ان القاتل يرضاه لحقن دمه فترك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رضاء القاتل بناء على الظاهر والله اعلم الْحُرُّ يقتل بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وهذا لا يدل على ان الحر لا يقتل بالعبد- والعبد لا يقتل بالحر- والأنثى لا يقتل بالذكر- او الذكر لا يقتل بالأنثى- فان ذلك الاحكام مسكوت عنها في هذه الاية ولا عبرة بالمفهوم عند ابى حنيفة رحمه الله مطلقا- وكذا فى هذه الاية عند القائلين بالمفهوم إذا المفهوم عندهم انما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم- وكان الغرض هاهنا دفع استطالة أحد الحيين على الاخر فالمفهوم المعتبر من هذه الاية على ما يقتضيه القصة ان الحر إذا تفرد بقتل الحر يقتل القاتل وحده ولا يقتل معه غيره لاجل شرف المقتول وكذا العبد إذا قتل العبد يقتل ذلك العبد القاتل بالعبد المقتول ولا يقتل حر مكان ذلك لاجل شرف المقتول وكذا الأنثى إذا قتل الأنثى قتلت القاتلة لا رجل مكان امراة والله اعلم- بقي المبحث عن الاحكام المسكوت عنها في تلك الاية- فقال ابو حنيفة رحمه الله يقتل النفس حرا كانت او رقيقا- ذكرا كانت او أنثى- مسلما كان او ذميّا بالنفس كيف ما كانت لعموم قوله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- والاحكام الالهية في الكتب المنزلة السّابقة إذا ثبتت عندنا حكايتها بالقران او السنة ولا عبرة بقول الكفار من اليهود والنصارى فهى باقية واجبة اتباعها إذ الحاكم واحد والشرع واحد قال الله تعالى فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال الله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى - ولا يختلف الاحكام الا لاجل النسخ سواء كان في كتاب واحد او كتب وما لم يظهر النسخ يبقى الحكم- ويدل ايضا على بقاء هذا الحكم حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله الا بإحدى ثلاث النفس بالنفس- والثيب الزاني- والمارق لدينه التارك للجماعة- متفق عليه- وحديث ابى امامة ان عثمان اشرف يوم الدار فقال أنشدكم بالله أتعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان او كفر بعد اسلام او قتل نفسا «1» بغير حق- الحديث رواه الشافعي واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وفي الباب عن عائشة رواه مسلم وابو داود وغيرهما- لكن قال ابو حنيفة لا يقتل رجل يقتل عبده ولا مدبره ولا مكاتبه وبعبد ملك

_ (1) فى الأصل نفس-

بعضه ولا بعبد ولده لانه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه- وبه قال الجمهور خلافا لداود محتجا بما روى الترمذي وابو داود وابن ماجة والدارمي عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه- قال الجمهور هذا الحديث محمول على السياسة والحديث مرسل لم يسمع الحسن عن سمرة وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقد به وامره ان يعتق رقبة- لكن فيه اسمعيل بن عياش ضعيف والله اعلم- واما غير ابى حنيفة رحمه الله فاتفقوا على ان العبد يقتل بالحر والأنثى بالذكر والكافر بالمسلم لان في كل ذلك تفاوت الى نقصان والناقص يجوز ان يستوفى بالكامل دون عكسه- واتفقوا ايضا على ان الذكر يقتل بالأنثى لما روى عن عمرو بن حزم ان النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه الى اهل اليمن ان الذكر يقتل بالأنثى هذا طرف من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم- وهو مشهور رواه مالك والشافعي- واختلف اهل الحديث فى صحة هذا الحديث- قال ابن حزم- صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا يقوم بها حجة وسليمان بن داود «1» راويه متفق على تركه- وقال ابو داود سليمان بن داود وهم انما هو سليمان بن أرقم- وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي- ونقل عن احمد انه قال ارجوا ان يكون صحيحا- وقد اثنى على سليمان بن داود ابو زرعة وابو حاتم وجماعة من الحفاظ- وصحح الحديث جماعة من الائمة لا من حيث الاسناد بل من حيث الشهرة فقال الشافعي في رسالته- لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم انه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند اهل السير معروف ما فيه عند اهل العلم- بقي الاختلاف في انه هل يقتل الحر بالعبد عبد غيره فقال مالك والشافعي واحمد لا يقتل وقال ابو حنيفة يقتل- احتجوا بحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقتل حر بعبد رواه الدارقطني والبيهقي- وحديث على قال من السنة ان لا يقتل حر بعبد- رواه ايضا الدارقطني والبيهقي- والجواب ان حديث ابن عباس فيه جويبر وعثمان البزي ضعيفان متروكان كذا قال ابن الجوزي والحافظ ابن حجر وحديث على فيه جابر الجعفي كذاب- وفي انه هل يقتل المسلم بالكافر الذمي- فقال الشافعي واحمد لا يقتل احتجا بحديث ابى جحيفة عن على قال سالت عليا هل عندكم شىء ليس في القران قال والذي فلق الحبة وبرىء النسمة ما عندنا الا ما في القران الا فهما

_ (1) فى الأصل هاهنا سليمان بن ابى داود

يعطى الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة قلت وما في الصحيفة- قال العقل وفكاك الأسير وان لا يقتل مسلم بكافر- رواه البخاري ورواه احمد بلفظ لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده- وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى- لا يقتل مسلم بكافر رواه احمد واصحاب السنن الا النسائي ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر- وروى الشافعي عن عطاء وطاءوس والحسن ومجاهد مرسلا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح لا يقتل مؤمن بكافر ورواه البيهقي من حديث عمران بن حصين- وحديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل قتل مسلم الا في احدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل او يصلب او ينفى من الأرض- رواه ابو داود والنسائي وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه ان مسلما قتل رجلا من اهل الذمة فرفع الى عثمان فلم يقتله به وغلظ عليه الدية- قال الحافظ قال ابن حزم هذا في غاية الصحة ولا يصح عن أحد من الصحابة فيه بشىء غير هذا الا ما رويناه عن عمر انه كتب في مثل ذلك ان يقاد به ثم الحقه كتابا فقال لا تقتلوه ولكن اعتقلوه- والجواب ان المراد بالكافر في قوله صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر الحربي دون الذمي ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ولا ذو عهد في عهده- يعنى لا يقتل الذمي في عهده بكافر ولا شك ان الذمي يقتل بالذمي اجماعا فالمراد بالكافر هو الحربي لا غير وفتوى عثمان وعمر رضى الله عنهما كان بالرأى ولذا اختلف الجواب عن عمر رضى الله عنه- واما قيد الإسلام في حديث عائشة فقد وقع اتفاقا- واحتج صاحب الهداية على وجوب قتل المسلم بالذمي بما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي- قلت وهذا الحديث رواه الدارقطني عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال انا أكرم من اوفى بذمته- قال الدارقطني لم يسنده غير ابراهيم بن يحيى وهو متروك الحديث- قال ابن الجوزي ابراهيم بن يحيى كذاب والصواب عن ابن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وابن سليمان ضعيف لا يقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله- قلت والاولى بالاحتجاج ما ذكرنا سابقا النفس بالنفس- وحديث ابن مسعود وعثمان وعائشة واختلفوا في انه هل يقتل الوالد بولده قال مالك إذا اضتجعه فذبحه قتل به وقال داود لا يقتل به «1»

_ (1) فى الأصل والنقول ولا يظهر منه الفرق بين مذهب داود ومذهب ابى حنيفة ومن معه فعل مذهب داود يقتل بكل حال

بكل حال- وقال ابو حنيفة والشافعي واحمد لا يقتل- لنا حديث عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقاد الوالد بالولد رواه الترمذي وفي اسناده الحجاج بن ارطاة- وله طريق اخر عنه احمد واخر عند الدارقطني والبيهقي أصح منهما وصحح البيهقي سنده- ورواه الترمذي ايضا من حديث سراقة واسناده ضعيف وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمرو قيل عن سراقة وعند احمد عن عمرو بن شعيب بلا واسطة وفيه ابن لهيعة ضعيف- ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عباس وفيه إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف لكن تابعه الحسن بن عبد الله العنبري عن عمرو بن دينار قاله البيهقي وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شىء وقال الشافعي- حفظت عن عدد من اهل العلم ان لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول والله اعلم- واتفق أكثرهم على انه إذا قتل الجماعة واحدا قتلوا- وقال داود وهو رواية عن احمد لا يقتلون ويجب الدية- روى عن سعيد بن المسيب ان إنسانا قتل بصنعاء وان عمر قتل به سبعة نفر وقال لو قالا عليه اهل صنعاء لقتلتهم به- رواه مالك في المؤطا والشافعي عنه ورواه البخاري من وجه اخر نحوه ... واختلفوا في واحد قتل جماعة فقال ابو حنيفة ومالك- ليس عليه الا القود لجماعتهم ولا يجب عليه شىء اخر- وقال الشافعي ان قتل واحدا بعد واحد قتل بالأول وللباقين الديات وان قتلهم في حالة واحدة اقرع بين اولياء المقتولين فمن خرجت قرعته قتل له وللباقين الديات- وقال احمد ان حضر الأولياء وطلبوا القصاص قتل بجماعتهم ولا دية عليه وان طلب بعضهم القصاص وبعضهم الدية قتل لمن طلب القصاص ووجب الدية لمن طلبها وان طلبوا كلهم الدية كان لكل واحد منهم دية كاملة- واتفقوا على انه لا قصاص في الخطاء انما القصاص في العمد- واختلفوا في تفسير العمد فقال ابو حنيفة رحمه الله- هو ما تعمد ضربه بسلاح او ما جرى مجرى السلاح كالمحدد من الخشب والمروة ونحو ذلك والنار- وقال الشعبي والنخعي والحسن البصري- لا عمد الا بحديد فحسب ولا قود في غيره واما ما تعمد ضربه بما ليس بسلاح ولا ما اجرى مجرى السلاح فهو شبه العمد لا قود فيه وفيه الدية- وقال ابو يوسف ومحمد والشافعي واحمد إذا ضربه بحجر عظيم او بخشبة عظيمة يقتل به غالبا فهو عمد وفيه القود وكذا ان أغرقه في الماء او خنقه او منعه من الطعام والشراب أياما يموت فيه غالبا فمات- وقال مالك ان تعمد ضربه بعصا او سوط او حجر صغير لا يقتل به غالبا فمات به فهو ايضا عمد وفيه القود

وقال الجمهور هو خطاء العمد لا قود فيه وفيه الدية- غير ان الشافعي قال ان تكرر الضرب حتى مات فعليه القود- والحجة للجمهور في وجوب القصاص بالقتل بالمثقل ما في الصحيحين عن انس بن مالك ان يهوديا رضخ رأس امراة بين حجرين فقتلها فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين- وما روى احمد عن ابن عباس عن عمر انه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين فجاء ابن مالك فقال كنت بين امرأتين فضربت أحدهما الاخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وان تقتل بها- والحجة لهم في عدم القود في قتيل السوط والعصا حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان قتيل الخطا شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة ابل منها أربعون فى بطونها أولادها- رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان وعن ابى هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان دية جنينها غرة عبدا ووليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها- متفق عليه- وعن المغيرة بن شعبة نحوه رواه مسلم- وعن ابن عباس من قتل في عميا في رمى يكون بينهم بالحجارة او جلد بالسياط او ضرب بعصا فهو خطا وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود- رواه ابو داود والنسائي- واما حجة ابى حنيفة على عدم القود بالمثقل فحديث على مرفوعا لا قود في النفس وغيرها الا بحديدة- رواه الدارقطني وفي سنده معلى بن هلال قال يحيى ابن معين كان يضع الحديث- وقال الجمهور ان صح فهو محمول على انه لا قود الّا بالسيف وقد ورد حديث لا قود الا بالسيف- وفي رواية الا بالسلاح من حديث ابى هريرة وابن مسعود وراويهما ابو معاذ سليمان بن أرقم متروك- وروى مثله من حديث ابى بكرة والنعمان بن بشير وراويهما مبارك ابن فضالة كان احمد لا يعبأ به وفي الباب حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم كل شىء خطأ الا السيف وفي كل خطأ أرش- وفي رواية كل شىء خطأ إلا بحديدة وفي رواتهما جابر الجعفي كذاب- واختلفوا في انه هل يجوز القصاص بمثل ما قتله القاتل فقال ابو حنيفة واحمد لا قود الا بالسيف وقد مر سنده وما فيه من البحث- وقال الشافعي ومالك واحمد في قوله الثاني يقتل بمثل ما قتله- لقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ- والقصاص هو المساوات ولما مر من حديث انس في الصحيحين ان يهوديا رضخ رأس امراة بين حجرين فقتلها فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين- ولما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه رواه البيهقي في المعرفة من حديث عمرو بن نوفل بن

يزيد بن البراء عن أبيه عن جده وفي اسناده بعض من يجهل- فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قال صاحب القاموس العفو الصفح وترك عقوبة المستحق عفى عنه ذنبه وعفى له ذنبه ومن هذه العبارة يستفادان العفو يتعدى الى الذنب بنفسه والى الجاني بعن واللام وعلى هذا من مبتدأ اما شرطية او موصولة والمراد به القاتل- ومن في مِنْ أَخِيهِ اما للابتداء والظرف لغو والمراد بالأخ ولى المقتول- واما للتبعيض يعنى من دم أخيه بحذف المضاف والمراد بالأخ المقتول والظرف مستقر وقع حالا مقدما- وشىء مفعول به للعفو أسند اليه الفعل والمراد به الجناية- والمعنى من عفى له من القاتلين شىء من الجناية كائنة من دم أخيه- او عفى له من ولى المقتول شىء من الجناية فاتباع بالمعروف- وقال البيضاوي عفا لازم وما قيل انه بمعنى ترك وشىء مفعول به ضعيف إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل اعفى عنه ويتعدى بعن الى الجاني والى الذنب قال الله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ- وعفا عنها فاذا عدى به الى الذنب عدى الى الجاني باللام وعليه ما في الاية كانه قيل من عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعنى ولى الدم شىء من العفو فهو مسند الى المصدر وحينئذ من في من أخيه للابتداء- وعلى هذين التركيبين تنكير شىء ليدل على ان المتروك بعض الجناية- او الموجود بعض العفو لا كله ولذا صح اسناد الفعل الى المصدر لانه مفعول مطلق للنوع والمراد عفو قليل نحو إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا- فلا يدل الاية على ان بعد عفو كل الجناية من جميع الأولياء يجب الدية- فليس فيه حجة الشافعي رحمة الله ومن معه- وقال الأزهري العفو في الأصل الفضل ومنه يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ- يقال عفوت لفلان بمالى إذا أفضلت له وأعطيت وعفوت له عن مالى عليه- وحينئذ المراد بالأخ ولى المقتول والمعنى من عفى له يعنى من اعطى له من اولياء المقتول من أخيه يعنى من مال أخيه يعني القاتل شىء صلحا- وانما ذكر القاتل او المقتول او ولى المقتول بلفظ الاخوة الثابتة بالجنسية او الإسلام ليرق له ويعطف عليه- وفيه دليل على ان القاتل لا يصير كافرا بالقتل حيث ذكر الاخوة الاسلامية بين القاتل والمقتول وايضا خاطب بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَاتِّباعٌ اى فليكن من ولى المقتول- او فالامر لولى المقتول اتباع بِالْمَعْرُوفِ فلا يعنف وَعلى القاتل أَداءٌ إِلَيْهِ يعنى الى ولى المقتول بِإِحْسانٍ بلا مطل وبخس ذلِكَ اى الحكم المذكور من جواز الصلح او وجوب الدية لبعض الورثة بعد عفو البعض تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ اخرج ابن جرير عن قتادة ان رحم الله هذه

[سورة البقرة (2) : آية 179]

الامة وأطعمهم الدية وأحل لهم ولم يحل لاحد قبلهم- وكان على اهل التورية انما هو القصاص او العفو ليس بينهم أرش- وكان على اهل الإنجيل انما هو العفو أمروا به وجعل الله لهذه الامة القتل والعفو والدية فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعنى قتل بعد العفو او بعد أخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (170) فى الاخرة لما مر من حديث ابى شريح الخزاعي فان أخذ من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ابدا- وقال ابن جريح يتحتم قتله في الدنيا حتى لا يقبل العفو لما روى سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعافي أحدا قتل بعد اخذه الدية- رواه ابو داود. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ عرّف القصاص ونكّر الحيوة ليدل على ان في هذا الجنس من الحكم نوعا عظيما من الحيوة- وذلك لان العلم به يردع القاتل عن القتل فيكون سببا لحيوة نفسين ولانهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة فاذا اقتص من القاتل سلم الباقون ويصير ذلك سببا لحياتهم- وعلى الاول التقدير ولكم في شرع القصاص حيوة- وعلى الثاني ولكم في القصاص حيوة للباقيين- وايضا في القصاص حيوة للقاتل في الاخرة فانه إذا اقتص منه فى الدنيا لم يؤاخذ في الاخرة فيحيى هناك حيوة طيبة- وخاطب اولى الألباب لانهم هم الذين يفهمون الحكم والمصالح في الاحكام الشرعية لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) عن القتل مخافة القود او تتقون بالقصاص عن عذاب الاخرة او تتقون عن ترك القصاص بالاطلاع على الحكمة-. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى حضر أسبابه وغلب على الظن اقترابه إِنْ تَرَكَ خَيْراً ذكر الماضي وأراد المستقبل يعنى ان كان له خير يتركه- والخير هو المال قال الله تعالى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ- وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ- وقيل المراد بالخير المال الكثير لما روى عن على رضى الله عنه ان مولى له أراد ان يوصى وله تسعمائة درهم فمنعه وقال قال الله تعالى ان ترك خيرا والخير هو المال الكثير- رواه ابن ابى شيبة في المصنف وعن عائشة- ان رجلا أراد ان يوصى فساكته كم مالك فقال ثلاثة آلاف فقالت كم عيالك قال اربعة قالت انما قال الله تعالى ان ترك خيرا وان هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك- الْوَصِيَّةُ مفعول سد مسد الفاعل لكتب وترجح تذكير الفعل مع جواز التأنيث لوجود الفصل او على تأويل ان يوصى او الإيصاء ولذلك ذكّر الراجع في قوله فمن بدّله والعامل في إذا الافتراض المدلول لكتب لا الوصية لتقدمه عليها لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ متعلق بالوصية

وبهذه الاية كانت الوصية للاقارب فريضة في بدو الإسلام ثم نسخت الاية- قالوا نسخت هذه الاية اية المواريث وقوله صلى الله عليه وسلم ان الله قد «1» اعطى كل ذى حق حقه الا لا وصية لوارث وفيه نظر لان اية المواريث لا يعارضه بل يؤكده فانها تدل على تقديم الوصية على الإرث- فكيف تكون ناسخة- والحديث حديث الآحاد لا يجوز به نسخ الكتاب- والتحقيق ان الاية منسوخة الحكم للاجماع على عدم جواز الوصية لوارث الا عند رضاء الورثة- ولاتفاق الائمة الاربعة وجمهور العلماء على عدم وجوب الوصية لغير الوارث من الأقارب- وما روى عن الزهري وابى بكر الحنبلي وبعض اصحاب الظواهر وجوبها في حق من لا يرث من الأقارب فلا عبرة به لمخالفتهم الجمهور وإذا ثبت الإجماع ظهر انه ثبت عندهم دليل قطعى ناسخ للاية به تركوا نص الكتاب وإلا ما تركوه وان لم يصل ذلك الناسخ إلينا بطريق قطعى- ونورد هاهنا أحاديث يصلح ان يكون سندا للاجماع- منها حديث ابى امامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة حجة الوداع ان الله قد اعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث- رواه ابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الحافظ حسن الاسناد وكذا رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن خارجة ورواه ابن ماجة من حديث سعيد بن ابى سعيد عن انس والبيهقي من طريق الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا وصية لوارث- ورواه الدارقطني من حديث جابر وصوب إرساله من هذا الوجه- ومن حديث على واسناده ضعيف- ومن حديث ابن عباس بإسناد حسن- وروى الدارقطني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا وصية لوارث الا ان يجيزه الورثة- وروى بهذا اللفظ ابو داود عن عطاء الخراسانى مرسلا ووصله يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رواه الدارقطني وهذه الأحاديث تدل على ان الاية منسوخة في حق الورثة- واما فى حق غير الورثة من الأقارب فلا دلالة لهذه الأحاديث على نفيها ولا إثباتها- وأورد لهذا الحكم ابن الجوزي حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما حق امرئ يبيت ليلتين- وفي رواية لمسلم ثلاث ليال وله مال يريد ان يوصى فيه الا ووصيته مكتوبة عنده- متفق عليه- وجه الحجة انه علق الوصية بالارادة فدل على انه ليس بواجب والله اعلم وبعد اتفاقهم على ما ذكرنا واتفاقهم على جواز الوصية لغير الوارث من الأقارب كالاجنبى بل اولى وأحب فان الصدقة على ذى رحم صدقة وصلة اتفقوا على ان الوصية لا يجوز فيما زاد على الثلث الا برضاء الورثة خلافا لاحد قولى الشافعي في الاستثناء حيث قال لا يصح عند رضاء الورثة

_ (1) فى الأصل ان الله اعطى [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 182]

ايضا- وفي الباب حديث سعد بن ابى وقاص جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودنى من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله قد بلغ الوجع ما ترى اوصى بما لى كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت الثلث قال الثلث والثلث كثير انك ان تدع ورثتك اغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس- متفق عليه وحديث ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعل لكم زكوة في أموالكم- رواه الدارقطني والبيهقي وفيه إسماعيل بن عياش وشيخه ضعيفان- ورواه احمد من حديث ابى الدرداء وابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث ابى هريرة واسناده ضعيف وفي الباب عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه رواه العقيلي من طريق حفص بن عمرو هو متروك بِالْمَعْرُوفِ بالعدل لا يرجح بعض الأقرباء على بعض ولا يوصى للغنى ويدع للفقير حَقًّا منصوب على المصدرية يعنى حق حقا او على المفعولية يعنى جعل الله الوصية حقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ اى غير الإيصاء من الأوصياء والأولياء والشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ اى بعد سماع قول الموصى او وصل اليه وتحقق عنده فَإِنَّما إِثْمُهُ فاثم الإيصاء المغيّر او اثم التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ على مبدليه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بما اوصى به الموصى عَلِيمٌ (181) بتبديل المبدل. فَمَنْ خافَ اى توقع وعلم كقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ مِنْ مُوصٍ قرا حمزة والكسائي وابو بكر ويعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد من التفعيل والباقون بسكون الواو والتخفيف من الافعال جَنَفاً ميلا من الحق خطا أَوْ إِثْماً ظلما عمدا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ قال مجاهد معناه ان الرجل إذا حضر مريضا وهو يوصى فراه يميل عن الحق فامره بمعروف ونهاه عن منكر كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن ابى وقاص عن زيادة الوصية على الثلث ونهى على وعائشة عن اصل الوصية كما مرو عن النعمان بن بشير ان أباه اتى به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انى نحلت ابني هذا غلاما فقال أكل ولدك نحلت مثله قال لا قال فارجعه وفي رواية قال لا اشهد على جور- متفق عليه- وقال الآخرون معناه انه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جاف متعمدا فوليه او وصيه او والى امور المسلمين يردّ الوصية الى العدل والحق ولا ينفذ الوصية الباطلة- قلت والاولى ان يراد به أعم المعنيين فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بل كان الإثم على الموصى وللمصلح اجر الإصلاح- عن ابى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فيجب لهما النار- رواه ابو داود

[سورة البقرة (2) : آية 183]

والترمذي وحسنه- وانما قال فلا اثم عليه لان الفعل كان من جنس ما يؤثم يعنى تبديل الوصية المنهي عنه- قال الكلبي كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الاية وان استغرق المال كله ولم يبق للورثة شىء ثم نسخها الله تعالى بقوله فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الاية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) وعد للمصلح- وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم والله اعلم-. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ اى فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ والصوم في اللغة الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة لان الشمس إذا بلغت كبد السماء يرى كانها وقفت ساعة- وفي الشرع عبارة عن الإمساك عن الاكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص كما سيظهر فيما بعد كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء والأمم والظاهر ان التشبيه فى نفس الوجوب- وذلك لا يقتضى المشابهة من كل جهة في الكيفية والوقت وغير ذلك قال سعيد بن جبير كان صوم من قبلنا من العتمة الى الليل القابلة- وكذلك كان في ابتداء الإسلام فاشتبها- وقال جماعة من اهل العلم ان صيام رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فربما كان يقع في الحر الشديد فيشق عليهم لاجل العطش او في البرد الشديد فيشق عليهم لاجل الجوع- فاجتمع علماؤهم ورؤساؤهم فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة ايام كفارة لما صنعوا فصار أربعين- ثم اشتكى ملكهم فجعل لله عليه ان برىء من مرضه ان يزيد في صومهم اسبوعا فبرىء فزاد فيه اسبوعا ثم ولا هم ملك اخر فقال اتموه خمسين يوما- وقال مجاهد أصابهم موتان فقالوا زيدوا في صيامكم.. فزادوا عشرا قبل وعشرا بعد- قال الشعبي لو صمت السنة كلها لا فطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال من شعبان ويقال من رمضان وذلك ان النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبل الثلثين يوما وبعدها يوما ثم لم يزل القرن الاخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا الى خمسين يوما- كذا قال البغوي وأخرجه ابن جرير عن السّدى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) المعاصي فان الصوم يكسر الشهوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر وأحصن للفرج- ومن لم يستطع فعليه بالصوم- متفق عليه من حديث ابن مسعود- او المعنى تتقون الإخلال بالصوم. أَيَّاماً منصوب بمقدر اى صوموا لا بالصيام للفصل بالاجنبى

مَعْدُوداتٍ يعنى قلائل فان القليل يعد في العادة دون الكثير- قيل ان المراد بذلك الأيام صوم ثلثة ايام من كل شهر وصوم عاشورا فانه كان واجبا في ابتداء الهجرة من ربيع الاول الى شهر رمضان سبعة عشر شهرا ثم نسخ بصوم رمضان قال ابن عباس- أول ما نسخ بعد الهجرة أم القبلة والصوم ويقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وايام- وكان غزوة بدر يوم الجمعة بسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية من الهجرة- عن عائشة قالت- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بالصوم يوم عاشورا فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر- متفق عليه- وعن سلمة بن الأكوع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادى في الناس يوم عاشورا ان من أكل فليتم او فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل فان اليوم يوم عاشورا- متفق عليه- وقيل المراد بقوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ شهر رمضان والاية غير منسوخة- قال الحافظ والّذى يترجح من اقوال العلماء ان عاشورا لم يكن فرضا من الله تعالى قط بل كان النبي صلى الله عليه وسلم استحبه باجتهاده او كان يفعله ويأمر به على عادته- عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فراى اليهود يصوم يوم عاشورا- فقال ما هذا قالوا هذا يوم صالح نجى الله بنى إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال انا أحق بموسى منكم فصامه وامر بصيامه- متفق عليه وعن عائشة قالت كان يوم عاشورا يصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه فلمّا فرض رمضان نزك يوم عاشورا- متفق عليه قال السيوطي رحمه الله اخرج احمد وابو داود والحاكم عن معاذ بن جبل يعنى وجوب عاشورا وثلثة ايام من كل شهر لكن كان ذلك قبل نزول هذه الاية وانه نسخ بهذه الاية- فالمراد بايّام معدودات شهر رمضان لا غير والله اعلم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً خاف زيادة مرضه او امتداده وكذا من كان في معناه وهو ضعيف غلب على ظنه حدوث المرض بالصوم وحامل ومرضع خافتا على أنفسهما او على ولدهما- اعلم ان جواز الفطر للمريض مجمع عليه غير ان احمد قال لا يجوز له الفطر بالجماع ويجوز بالأكل والشرب- ولو جامع المريض او المسافر فعليه الكفارة عنده الا ان أفطر بغير الجماع قبل الجماع- وما قيدنا المريض بخوف زيادة المرض او الامتداد ايضا متفق عليه الا ما روى عن ابن سيرين انه قال- يبيح الفطر ادنى ما يطلق عليه اسم المرض للاطلاق في الاية- وقال الحسن وابراهيم هو المرض الذي يجوز معه الصلاة قاعدا أَوْ عَلى سَفَرٍ

يعنى راكب سفر- وفيه ايماء على ان من سافر في أثناء اليوم لم يفطر وعليه انعقد الإجماع الا ما روى عن داود فانه قال يجوز في السفر القصير والطويل- واختلفوا على مقدار مسافة السفر المرخص للفطر وقصر الصلاة- فقال مالك والشافعي واحمد ادنى مسافة السفر ستة عشر فرسخا اربعة برد بحديث ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا اهل مكة لا تقصروا الصلاة في ادنى من اربعة برد من مكة الى غسفان رواه الدارقطني فيه إسماعيل بن عياش ضعيف وعبد الوهاب أشد ضعفا قال احمد ويحيى ليس عبد الوهاب بشىء- وقال الثوري هو كذاب- وقال النسائي متروك الحديث- وقال الأوزاعي- يقصر في مسيرة يوم وقال ابو حنيفة مسيرة ثلثة ايام ولياليها سير الإبل ومشى الاقدام- وقدر ابو يوسف بيومين واكثر اليوم الثالث- احتج ابو حنيفة بحديث على بن ابى طالب انه سئل عن المسح على الخفين قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثة ايام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم- رواه مسلم الحديث صحيح والاستدلال به ضعيف- واطلاق الاية يدل على ان سفر المعصية ايضا يبيح الفطر وبه قال ابو حنيفة رحمه الله وقال مالك والشافعي واحمد سفر المعصية لا يبيح مستدلا بقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ والحق ان البغي والعدوان ليس في نفس السفر بل ملاصق به- وقد ذكرنا تفسير غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ وان لا دلالة فيه على مرادهم فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعنى فكتب عليه او فالواجب عليه صيام عدة ايام مرضه وسفره من ايام اخر ان أفطر حذف الفعل او المبتدأ والمضاف والمضاف اليه والشرط للعلم بها بدلالة المقام- وبإطلاق الاية تثبت ان التتابع ليس بشرط في القضاء وعليه انعقد الإجماع- وقال داود يجب التتابع- ويؤيد اطلاق الاية حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء رمضان قال- ان شاء فرق وان شاء تابع- رواه الدارقطني متصلا ومرسلا وحديث محمد بن المنكدر قال بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان فقال ذلك إليك- الحديث رواه الدارقطني مرسلا واسناده حسن وقد روى موصولا ولا تثبت وروى الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو في اسناده الواقدي وابن لهيعة ضعيفان- وروى سعيد بن منصور عن انس نحوه واخرج البيهقي حديث ابى عبيد ومعاذ بن جبل وانس وابى هريرة ورافع بن خديج- واحتج داود بحديث ابى هريرة قال من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه- رواه الدارقطني فيه عبد الرحمن بن ابراهيم بن العاص قال ابن معين ليس بشىء- وقال الدارقطني ضعيف ليس بالقوى-

[سورة البقرة (2) : آية 185]

واختلفوا في الحامل والمرضع إذا أفطر تاهل يجب عليهما الفدية مع القضاء أم لا مع اتفاقهم على ان المريض والمسافر لا يحب عليهما مع القضاء فدية فقال ابو حنيفة لا وهو رواية عن مالك- وفي رواية عن مالك يجب على المرضع دون الحامل وقال احمد وهو الراجح من مذهب الشافعي انه يجب ولا سند يعتمد عليه لهذا القول والمروي عن ابن عمرو ابن عباس ان على الحامل والمرضع يجب الكفارة دون القضاء- ومن اخّر قضاء رمضان من غير عذر حتى جاء رمضان اخر قال مالك والشافعي واحمد وجبت عليه الفدية مع القضاء- وقال ابو حنيفة لا يجب عليه الا القضاء ولو ادّى بعد سنين لامتناع الزيادة على الكتاب من غير قاطع- ومن اخر بعذر مرض او سفر حتى جاء رمضان اخر فعليه القضاء فقط بالإجماع- وروى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما بطرق صحيحة- عن نافع عن ابن عمر قال من تابعه رمضانان وهو مريض لم يصح بينهما قضى الاخر منهما بصيام وقضى الاول منهما باطعام- قال الطحاوي تفرد بهذا القول ابن عمر قال الحافظ وعند عبد الرزاق عن ابن جريح عن يحيى ابن سعيد قال بلغني مثل ذلك عن عمر لكن المشهور عن عمر خلافه- احتجوا بحديث ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل مرض في رمضان فافطر ثم صح فلم يصم حتى أدركه رمضان اخر يصوم الذي أدركه ثم يصوم الذي أفطر فيه ويطعم عن كل يوم مسكينا رواه الدارقطني وهذا الحديث لا يصح فيه ابراهيم بن نافع قال ابو حاتم كان يكذب وفيه عمر بن موسى كان يضع الحديث قال الحافظ لم يثبت فيه شىء مرفوع انما ثبت فيه اثار الصحابة وسمى صاحب المهذّب منهم عليا وجابرا «1» والحسين بن على ولم اطلع على سند صحيح عنهم غير ابى هريرة وابن عباس- ولو كان الحديث المرفوع فيه صحيحا فحينئذ ايضا لم يجز به الزيادة على الكتاب لكونه من الآحاد- وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يعنى الصوم فِدْيَةٌ قال البغوي اختلف العلماء في تأويل هذه الاية وحكمها فذهب أكثرهم الى ان الاية منسوخة وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما- وذلك انهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين ان يصوموا وبين ان يفطروا ويفتدوا خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم فانهم لم يكونوا معتادين بالصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ- قلت وعلى هذا التقدير فالمريض والمسافر كانا حينئذ مخيرين في ثلثة امور الصوم والفطر بنية القضاء والفدية ثم إذا انسخت الفدية بقي لهما التخييريين الصوم والقضاء- وقال قتادة هى خاصة في الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له في ان يفطر ويفدى ثم نسخ بذلك

_ (1) فى الأصل جابر-

وقال الحسن هذا في المريض الذي يستطيع الصوم خير بين ان يصوم وبين ان يفطر ويفدى ثم نسخ بذلك وعلى هذه الأقوال كلها لم يثبت حكم الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم بنص القران ومن ثم قال مالك والشافعي في أحد قوليه ان الشيخ الفاني يجوز له الفطر للعجز حيث لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا يجب عليه الفدية لان إيجاب الفدية لا بد له من دليل والمثل الغير المعقول لا يثبت بالرأى- وذهب جماعة الى ان الاية غير منسوخة ومعناه وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر الفدية بدل الصوم- وهذا التأويل لا يصاعده نظم الكلام- وقال الشيخ الاجل جلال الدين في تفسير الاية بتقدير لا يعنى وعلى الّذين لا يطيقونه فدية- كما في قوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا اى لان لا تضلّوا- قلت وتقدير لا ايضا بعيد فانه ضد ما هو ظاهر العبارة حيث يجعل الإيجاب سلبا- فان قيل مذهب ابى حنيفة واحمد والأصح من مذهب الشافعي وبه قال سعيد بن جبير ان الواجب على الشيخ الفاني الفدية مكان الصوم ومبنى هذه الأقوال ليس الا هذه الاية ولولا ذلك التأويل الذي لم ترتض منه فبم تقول بوجوب الفدية على الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه- قلت والله اعلم ان التأويل هو الاول وحاصله ان حكم الاية كان في ابتداء الإسلام التخيير بين الصوم والفدية للذين يطيقون الصوم وللذين لا يطيقونه بدلالة النص بالطريق الاولى لانه سبحانه لما خير المطيقين فضلا وتيسيرا فغير المطيقين اولى بالتخيير ومن ثم قلت ان المريض والمسافر كانا حينئذ مخيرين بين ثلثة امور- ثم لما نزل فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً «1» الاية نسخ حكم الفدية في حق الذين كانوا يطيقونه حالا وفي حق الذين يطيقونه مالا وهم المرضى والمسافرين الذين يرجون القضاء بعد الشفاء وصار أداء الصوم او قضاؤه حتما في حقهم وبقي حكم من لا يطيقونه لا في الحال ولا في المال على ما كان عليه من جواز الفدية ثابتا بدلالة النص لعدم دخولهم في قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يعنى صحيحا مقيما فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً يرجوا الشفاء أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وانما قيدنا المريض بقولنا يرجوا الشفاء بدلالة العقل- فان من لا يرجوا الشفاء تكليفه بالقضاء تكليف بما لا يطيق- ومنسوخية الحكم الثابت بعبارة النص لا يستدعى منسوخية الحكم الثابت بالدلالة والله اعلم طَعامُ مِسْكِينٍ قرا نافع وابن ذكوان فدية طعام مسكين بإضافته فدية وجمع المسكين بفتح النون- وهشام بتنوين فدية ورفع طعام على البدل وجمع مسكين والباقون بتنوين فدية ورفع طعام وتوحيد مسكين بكسر النون- والفدية الجزاء وإضافته الى الطعام

_ (1) فى الأصل ومن كان منكم مريضا-

بيانية وهو نصف صاع من بر او صاع من شعير او تمر على قول ابى حنيفة قياسا على صدقة الفطر وقال الشافعي كل يوم مسكينا مدا من الطعام من غالب قوة البلد- وقال احمد نصف صاع من شعيرا ومد من بر وقال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوّيه يومه الذي أفطره- وقال ابن عباس يعطى كل مسكين عشاءه وسحوره وسيجيئ عنقريب تحقيق طعام الفدية في تفسير قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ان شاء الله تعالى فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد في الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ من اصل الفدية وَأَنْ تَصُومُوا ايها المطيقون خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية- هذا صريح في ان المراد ب الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هم المطيقون لا غير المطيقين من الشيخ والمريض فان كون صومهم خيرا لهم ممنوع وهذه الاية تدل على ان المسافر إذا لم يكن له بالصوم ضرر بين فالافضل في حقه الصوم كذا قال الجمهور خلافا لاحمد والأوزاعي وسعيد بن المسيب والشعبي احتجوا بالأحاديث منها ما روى عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فراى ازحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم- فقال ليس من البر الصوم في السفر- متفق عليه وعنه- انه صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح الى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس اليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك ان بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة- روا مسلم عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر- رواه ابن ماجة قلنا هذه الأحاديث «1» في حق من يتضرر بالصوم غاية التضرر ولا شك ان الفطر فى حقه أفضل سواء كان مسافرا او مريضا- وكذا الفطر أفضل إذا اقترب الجهاد لحديث ابى سعيد انه صلى الله عليه وسلم قال انكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم- قال وكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا اخر فقال انكم تصبحون «2» عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا- فكانت عزيمة فافطرنا- رواه مسلم وأخرجه مالك في المؤطا عن بعض اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- واخرج «3» الشافعي عنه في المسند وابو داود- وصححه الحاكم وابن عبد البر واما إذا لم يتضرر بالصوم فالصوم أفضل بهذه الاية وحديث ابى الدرداء انه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قال وان أحدنا نضع يده على رأسه من شدة الحر وما منا صائم الا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة- متفق عليه- قلت وما ذكرنا من التفصيل انما هو في حق المسافر لان الرخصة له دائرة على نفس السفر سواء كانت له مشقة في الصوم

_ (1) فى الأصل هذا الأحاديث (2) فى الأصل تصبحوا (3) فى الأصل واخرج عنه الشافعي عنه-

اولا واما الشيخ والمريض والضعيف والحامل والمرضع فالرخصة في حقهم دائرة على نفس المشقة والتضرر بالصوم فلولا التضرر لا رخصة لهم وإذا تضرروا بالصوم وهو خوف زيادة المرض او حدوثه فحكمه حكم المتضرر بالسفر والله اعلم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ما في الصوم من الفضيلة- وجواب «1» ان محذوف دل عليه ما قبله يعنى اخترتموه على الفطر والفداء عند التخيير واما بعد نسخ التخيير فمن أفطر في رمضان بلا عذر فان كان مستحلا يكفر والا يفسق ويجب عليه القضاء لوجوب التدارك بقدر الإمكان وبدلالة ما ورد في المعذور بالطريق الاولى من قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ويجب عليه الاستغفار بالإجماع وقال النخعي لا يقضى صوم رمضان إذا أفطر من غير عذرا لا بألف عام- وقال على وابن مسعود رضى الله عنهما لا يفيد صوم الدهر- شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره ما بعده او خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك شهر رمضان او بدل من الصيام على حذف المضاف اى كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان وذلك على تقدير كون هذه الاية متصلا في النزول بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ لا على تقدير كونه متراخيا عنه ناسخا لما سبق والشهر مشتق من الشهرة ورمضان مصدر رمض إذا احترق فاضيف اليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والالف والنون- عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما سمى رمضان لان رمضان يرمض الذنوب- رواه الاصبهانى في الترغيب الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ سمى القران قرانا لانه تجمع السور والاى والحروف وجمع فيه القصص والأمر والنهى والوعد والوعيد واصل القران «2» الجمع او هو مشتق من القراءة بمعنى المقر وقرا ابن كثير القران وقرانا- وقرانه حيث وقع بحذف الهمزة بعد إلقاء الحركة على الراء ووافقه حمزة وقفا فقط- والباقون بالهمزة قال البغوي كان يقرا الشافعي غير مهموز ويقول ليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتورية والإنجيل- قال البغوي روى مقسم عن ابن عباس انه سئل عن قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ- وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ- وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وقد نزل في سائر الشهور وقال الله تعالى قُرْآناً فَرَقْناهُ فقال- انزل القران جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان الى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل به جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة فذلك قوله تعالى عز وجل بِمَواقِعِ النُّجُومِ- وقال داود بن ابى هند قلت الشعبي شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اما كان ينزل في سائر السنة قال بلى ولكن جبرئيل عليه السلام

_ (1) فى الأصل وجواب لو (2) فى الأصل واصل القرا

كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وانزل عليه فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء- وروى عن ابى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال انزل صحف ابراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان- ويروى في أول ليلة من رمضان وأنزلت تورية موسى في ست ليال مضين من رمضان وانزل الإنجيل في ثلاث عشرة مضت من رمضان وانزل زبور داود في ثمان عشر ليلة من رمضان وانزل القران على محمد صلى الله عليه وسلم في الاربعة وعشرين لست بقين بعدها- واخرج احمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع نزلت صحف ابراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التورية لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقران لاربع وعشرين- والله اعلم والموصول بصلته خبر لشهر رمضان على تقدير كونه مبتدأ وصفته على تقدير كونه خبرا او بدلا ويحتمل ان يكون صفة للمبتدأ وخبره فمن شهد والفاء لوصف المبتدأ بما يتضمن معنى الشرط وعلى هذا التقدير معنى قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اى في شأنه القران وهو قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حتى يتحقق كون الانزال سببا لاختصاصه بوجوب الصوم هُدىً لِلنَّاسِ من الضلالة باعجازه وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ اى دلالات واضحات مما يهدى الى الحق من الحلال والحرام والحدود والاحكام ويفرق بين الحق الذي من الله وبين الباطل الذي من شياطين الجن والانس حالان من القران فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يعنى أدرك الشهر صحيحا مقيما طاهرا من الحيض والنفاس- اما المريض والمسافر فخصا منه بالآية اللاحقة- واما الحائض والنفساء فبالنقل المستفيض وعليه انعقد الإجماع- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب قولها وما نقصان دينها يا رسول الله أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم- متفق عليه ((فائدة)) اجمعوا على ان الحائض يحرم عليها الصوم ولو صامت لم يصح ولزمها القضاء والله اعلم فَلْيَصُمْهُ البتة لا يكفيه الفدية كما كان في بدء الإسلام- قال البغوي اختلف اهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر روى عن على انه قال لا يجوز له الفطر وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ اى الشهر كله- وذهب اكثر الصحابة والفقهاء الى انه إذا إنشاء السفر في شهر رمضان جاز له ان يفطر بعد ذلك اليوم- قلت وعليه انعقد الإجماع- ومعنى الاية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يعنى فليصم ما شهد منه ان شهد كله فكله وان شهد بعضه فبعضه ويؤيد ذلك التأويل ما مر من حديث جابر وحديث ابن عباس قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الى مكة عام الفتح في رمضان فصام

حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه وكانوا يأخذون بالأحدث فالاحدث من امر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسئلة ولو كان مقيما في أول النهار ثم سافر لا يجوز له الفطر من ذلك اليوم عند ابى حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله لهذه الاية لانه شهد أول اليوم فليصمه وقال احمد وداود جاز له الفطر في ذلك اليوم ايضا- احتج ابن الجوزي بحديث ابن عباس المذكور حتى إذا بلغ كراع الغميم أفطر- وحديث ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرا في رمضان حتى اتى عسفان فدعى اناء من شراب نهارا ليرى الناس ثم أفطر حتى قدم- قلنا لم يكن صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم مقيما أول النهار فان كراع الغميم وعسفان لم يكونا في أول مرحلة من المدينة مسئلة ولو أصبح مسافر او مريض صائمين ثم أراد الفطر جاز عند احمد وكذا ذكر صاحب المنهاج مذهب الشافعي رحمه الله وقال ابن الهمام مذهب ابى حنيفة ان اباحة الفطر المسافر إذا لم ينو الصوم فاذا نواه ليلا وأصبح من غير ان ينقص عزيمته قبل الفجر أصبح صائما فلا يحل فطره في ذلك اليوم لكن لو أفطر فيه لا كفارة عليه كما في المسألة السابقة لمكان الشبهة- وحديث كراع الغميم حجة لاحمد والشافعي في هذه المسألة كما لا يخفى وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ اى فالواجب عليه عدة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ كرر ذلك الحكم ليدل على ان المنسوخ انما هو الفدية دون الفطر والقضاء للمعذور ولو لم يكن حكم الفدية منسوخا وكان المراد بقوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هو شهر رمضان لا غير فحينئذ لم تكن لتكرار حكم المريض والمسافر فائدة- فائدة ويلحق بالمريض والمسافر في حق وجوب القضاء الحائض والنفساء بالإجماع والأحاديث عن معاذة العدوبة انها قالت لعائشة ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة قالت عائشة كان تصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة- رواه مسلم- مسئلة وبهذه الاية يثبت ان المسافر والمريض إذا صح واقام فعليه قضاء الصيام عدد ما أدرك من الأيام صحيحا مقيما طاهرا بعد رمضان فمن فاته عشرة من صيام رمضان وأدرك بعد الصحة والاقامة يومين من غير رمضان ثم مات يجب عليه قضاء يومين فحسب واختلفوا في انه من أدرك عدة من ايام اخر ولم يقض حتى مات هل يجب على الوارث الفدية او القضاء فقال ابو حنيفة ومالك لا يجب على الوارث شىء الا ان يوصى الميت بالفدية فيجب إنفاذ وصيته من الثلث لا فيما زاد على الثلث الا برضاء الورثة وكذا إذا كان عليه صوم نذر او كفارة- وقال الشافعي في القديم صام عنه وليه سواء كان من رمضان او من نذر وفي الجديد

انه يطعم فيهما الولي القريب- وقال احمد في صوم رمضان يطعم ولا يصام وإذا كان عليه نذر صام عنه وليه- احتجوا على وجوب الصوم على الولي بحديث ابن عباس قال أتت النبي صلى الله عليه وسلم امراة فقالت يا رسول الله ان أمي ماتت وعليها صوم شهر فاقضى عنها قال ارايت لو كان على أمك دين اما كنت تقضيه قالت بلى قال فدين الله عز وجل أحق- متفق عليه- وعن عائشة- انها سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن مات وعليه صيام فقال يصوم عنه وليه- متفق عليه- وحديث بريدة عن أبيه ان امراة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت «1» يا رسول الله أمي كان عليها صوم شهرا فتجزئها ان أصوم عنها قال نعم- رواه احمد- وحديث ابن عباس ان امراة ركبت البحر فنذرت ان الله عز وجل ان نجاها ان تصوم شهرا فانجاها الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت «2» قرابة لها فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال صومى- وحديث ابن عباس ان سعد بن عبادة سال النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على امه توفيت قبل ان تقضيه فقال اقضه عنها- فمن هذه الأحاديث ما هو صريح في النذر وما هو مطلق فقال احمد بوجوب الصيام في النذر ويحمل ما ليس فيه ذكر النذر على صوم النذر- قلت لا وجه للحمل على النذر مع اطلاق اللفظ بل الأحاديث المذكورة الصحيحة تدل على جواز صوم الولي عن الميت مطلقا سواء كان الصوم عن نذر او رمضان فلا بد من اتباعها «3» - وليس شىء منها تدل على وجوب الصوم على الوارث فلا يكون حجة على ابى حنيفة كيف وقد قال الله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فكيف يعذب الوارث بترك الصوم عن الميت واحتجوا على وجوب الإطعام عن الميت بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومن مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا- رواه الترمذي وقال لا نعرفه مرفوعا الا من هذا الوجه يعنى من طريق الأشعث بن سوار وهو ليس بشىء ومحمد بن عبد الرحمن بن ابى ليلى وهو ضعيف مضطرب الحديث- والصحيح انه موقوف على ابن عمر- ووجه قول ابى حنيفة ان الطاعة لا يجرى فيها النيابة لان المقصود منه النية والامتثال وهو مناط الثواب والعذاب ووجوب الصوم او المال على الوارث يمنعه قوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فلا يجب عليه شىء غير انه إذا اوصى به المورث فانفاذ وصيته واجب بقوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ والمرجو من فضل الله سبحانه ان يقبل منه والله اعلم- قلت والتحقيق في المقام ان الوارث ان تطوع عن الميت بالصوم او الصدقة فالثابت بالأحاديث ان الله تعالى يقبله بفضله ويفك رقبة الميت ولكن ليس ذلك واجبا

_ (1) فى الأصل فقال (2) فى الأصل فجاء (3) فى الأصل اتباعها-

على الوارث لما ذكرنا وقد ورد في رواية البزار في حديث عائشة فليصم عنه وليه إنشاء- وهذا اظهر لكن الرواية ضعيفة لانها من طريق ابن لهيعة- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ بإباحة الفطر والقضاء في المرض والسفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ قرا ابو جعفر العسر واليسر ونحوهما بضم السين والباقون بالسكون- وهذه الاية تدل على ان الفطر للمريض والمسافر رخصة لاجل اليسر وليس هو العزيمة حتى لو صام المريض والمسافر صح اجماعا الا ما روى عن ابن عباس وابى هريرة وعروة ابن الزبير وعلى بن الحسين رضى الله عنهم انهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء لظاهر قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ حيث جعل الله تعالى الواجب صيام عدة من ايام اخر لا غير فمن صام في الحال فقد صام قبل وجوبه فلا يجوز- قلنا سبب الوجوب الشهر والسفر مانع لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب فمن صام فقد صام بعد نفس الوجوب فصح كمن ادى الزكوة قبل حولان الحول ويؤيد مذهب الجمهور حديث ابى سعيد غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشر مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم الفطر ولا للفطر الصائم- رواه مسلم- فحديث جابر عند مسلم وحديث انس في المؤطا وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ اى عدد شهر رمضان بقضاء ما أفطر منه عن ابن عمر رضى الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين- متفق عليه قرا ابو بكر بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهو مع ما عطف عليه معطوف على اليسر اما لان اليسر علة معنى وتقديره شرعنا ذلك الاحكام يعنى اباحة الفطر للمريض والمسافر ووجوب القضاء بعدد ايام المرض من ايام اخر ليسهل عليكم الأمر ولتكملوا العدة- او بان يجعل اللام زائدة للتأكيد وتكملوا مع ان مقدرة معطوف على اليسر مفعول به ليريد تقديره يريد الله بكم اليسر وان تكملوا وان تكبروا وان تشركوا- لو متعلق بفعل محذوف معطوف على يريد الله بكم اليسر في اباحة الفطر ويأمركم بالقضاء لتكملوا العدة وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ ما مصدرية او موصولة اى على إرشادكم او على الذي أرشدكم اليه مما تكسبوا به مرضات ربكم وفراغ ذمتكم وجزيل المثوبة- قال ابن عباس هو تكبيرات ليلة الفطر روى الشافعي عن ابن المسيب وعروة وابى سلمة انهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بها- وقيل تكبيرات يوم الفطر قلت ويمكن ان يراد بالتكبير صلوة العيد او تكبيرات

صلوة العيد فحينئذ تجب تكبيرات العيد وتجب الصلاة ايضا بالالتزام لان التكبير خارج الصلاة في يوم الفطر او ليلة الفطر لم يجب اجماعا فنحمله على تكبيرات الصلاة او على الصلاة تسمية الكل باسم الجزء كما في قوله تعالى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ والله اعلم- ولم يفترض صلوة العيد لمكان الاحتمال- وتايّد وجوب الصلاة بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم والله اعلم وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ولكى تشكروا على وجوب الصوم فانه وسيلة لنيل الدرجات وعلى اباحة الفطر للمريض والمسافر فان فيه تخفيفا ورخصة معطوف على لتكبروا- فصل في فضائل شهر رمضان وصيامه- عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال- إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادى مناديا باغي الخيرا قبل ويا باغي الشرا قصر ولله عتقاء من النار وذلك فى كل ليلة- رواه الترمذي وابن ماجة واحمد- وفي الصحيحين نحوه اقصر منه- وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه- متفق عليه- وعن سلمان رضى الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اخر يوم من شعبان فقال يا ايها الناس قد أظلكم شهر عظيم وفي رواية اطلكم بالطاء المهملة بمعنى اشرف شهر مبارك شهر فيه ليلة القدر خير من الف شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليلة تطوعا ومن تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه ومن ادى فيه فريضة كان كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه- وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزداد فيه الرزق من فطّر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل اجره من غير ان ينقص من اجره شىء- قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطّر به الصائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى الله هذا الثواب لمن فطّر صائما على مذقة لبن او تمرة او شربة من ماء ومن أشبع صائما سقاه الله عز وجل من حوضى شرية لا يظمأ حتى يدخل الجنة وهو شهر اوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار فاستكثروا فيه بأربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى بكم عنهما اما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة ان لا الله الا الله وتستغفرونه واما اللتان لاغنى

[سورة البقرة (2) : آية 186]

بكم عنهما فتسئلون الجنة وتعوذون به من النار- رواه البغوي وروى البيهقي في شعب الايمان الى قوله عتق من النار وفيه ومن خفف عن مملوكة غفر الله له واعتقه من النار- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عمل ابن آدم تضاعف الحسنات بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف قال الله تعالى الا الصوم فانه لى وانا اجزى به- يدع طعامه وشرابه وشهوته من اجلى للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه- ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة- فاذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فان سابّه أحدا وقاتله فليقل انى امرا صائم- متفق عليه وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيام والقران يشفعان العبد تقول الصيام رب انى منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعنى فيه ويقول القران رب انى منعته النوم بالليل فشفّعنى فيه فيشفعان- رواه البيهقي في شعب الايمان- وعن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال يغفر لامته في اخر ليلة من رمضان قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال لا ولكن العامل انما يوفى اجره إذا قضى عمله «1» - رواه احمد والله اعلم- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردوية وابو الشيخ وغيره من طرق عن جرير بن عبد الحميد عن عبد السجستاني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن جبيرة عن أبيه عن جده ان اعرابيّا اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فسكت عنه فانزل الله تعالى. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يعنى فقل لهم انى قريب- واخرج عبد الرزاق عن الحسن سال اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ابن ربنا فانزل الله- وهذا مرسل قلت ولعل السائل هو الاعرابى- واخرج ابن عساكر عن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجزوا عن الدعاء فان الله انزل علىّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا لا نعلم اىّ ساعة ندعوا فنزلت الى قوله يرشدون- قال البغوي روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال قال يهود المدينة يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم ان بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وان غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الاية قلت والظاهر ان تشريف السائل بالاضافة الى نفسه في قوله تعالى وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي يأبى ان يكون السائل يهوديا متعنتا في السؤال والله اعلم

_ (1) اخرج الطبراني في الأوسط عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذاكر الله في رمضان مغفور له وسائل الله لا يخيب- منه رحمه الله

ونزول هذه الاية في جواب السائل أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ارشاد على الذكر الخفي دون الجهر كما لا يخفى- وعن ابى موسى الأشعري قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى خيبر اشرف الناس على وادفر فعوا أصواتهم بالتكبير لا الله الا الله والله اكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم- رواه البخاري- قال المفسرون معناه انى قريب منهم بالعلم لا يخفى علىّ شىء- قال البيضاوي هو تمثيل لكمال علمه بافعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم- قلت وهذا التأويل منهم مبنى على ان القرب عندهم منحصر في القرب المكاني والله تعالى منزه عن المكان ومماثلة المكانيات والحق انه سبحانه قريب من الممكنات قربا لا يدرك بالعقل بل بالوحى او الفراسة الصحيحة وليس من جنس القرب المكاني ولا يتصور شرحه بالتمثيل إذ ليس كمثله شىء واقرب التمثيلات ان يقال قربه الى الممكنات كقرب الشعلة الجوالة بالدائرة الموهومة فان الشعلة ليست داخلة في الدائرة للبون البعيد بين الموجود الحقيقي والموجود فى الوهم وليست خارجة عنها ولا عينها ولا غيرها وهو اقرب الى الدّائرة من نفسها حيث ارتسمت الدائرة بها ولا وجود لها في الخارج بل في الوهم بوجود تلك النقطة في الخارج والله اعلم أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ قرا اهل المدينة غير قالون وابو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفهما وصلا ووقفا وكذا اختلف القراء في اثبات الباءات المحذوفة من الخط وحذفها في التلاوة ويثبت يعقوب جميعا وصلا ووقفا واتفقوا على اثبات ما هو مثبت في الخط وصلا ووقفا فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي اى ليطلبوا منى اجابة دعواتهم- وانما عدى باللام لان طلب الحاجة والدعاء عبادة من العبد لله تعالى- وقيل الاستجابة بمعنى الاجابة اى فليجيبوا لى بالطاعة إذا دعوتهم للايمان والعبادة كما أجيبهم إذا دعونى لحوائجهم والاجابة في اللغة إعطاء ما سئل فهو من الله تعالى العطاء ومن العبد الطاعة وَلْيُؤْمِنُوا بِي قرا بفتح الياء ورش والباقون بالإسكان- امر بالثبات والمداومة على الايمان إذ اصل الايمان ثابت في المؤمنين- والاولى ان يحمل على انه طلب الايمان الحقيقي المترتب على فناء النفس بعد الايمان المجازى فان التنصيص اولى من التأكيد لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) راجين إصابة الرشد او لكى يرشدوا ويهتدوا- والرشد ضد الغى وهو النيل الى المقصود والوصل العريان ان شاء الله تعالى- فان قيل أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وعد بالاجابة لا يجوز خلفه وقد يدعوا العبد كثيرا ولا يجاب قال البغوي في الجواب اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء هاهنا

[سورة البقرة (2) : آية 187]

الطاعة ومعنى الاجابة الثواب فلا إيراد- وقيل معنى الآيتين خاص وان كان لفظهما عاما تقديرهما أجيب دعوة الداعي ان شئت نظيره قوله تعالى فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ فحينئذ المقصود من الاية رد قول الكفار الذين زعموا ان الله لا يسمع دعاءنا وانه غائب- او تقديرهما أجيب ان كانت الاجابة خيرا له- عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يستجيب الله لاحدكم ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم او يستعجل- قالوا وما الاستعجال يا رسول الله قال يقول قد دعوتك يا رب قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لى فيخسر عن ذلك فيدع الدعاء- رواه مسلم او تقديره أجيبه ان لم يسئل محالا- وقيل هو عام لكن معنى قوله أجيب انى اسمع وليس في الاية اكثر من اجابة الدعوة فاما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها- وقيل معنى الاية انه يجيب دعاءه فان قدر له ما سال أعطاه وان لم يقدر له ادخر ثوابه في الاخرة او كف عنه سوءا عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ما على الأرض رجل مسلم يدعوا الله بدعوة الا أتاه الله إياه او كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم- رواه البغوي- وروى احمد عن ابى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم ما من مسلم ينصب وجهه لله تعالى في مسئلة الا أعطاها إياه اما ان يعجلها له واما ان يدخرها له- وروى الترمذي عن جابر مرفوعا مثله بلفظ الا أتاه الله ما سال او كف من السوء مثله ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم- وقيل ان الله يجيب دعوة المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لانه يبغض صوته وقيل ان للدعاء آدابا وشرائط وهى اسباب الاجابة فمن استكملها كان من اهل الاجابة ومن اخلّ بها كان من اهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الاجابة- وقد مر حديث ابى هريرة انه صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر يمد يده الى السماء يا رب اشعث اغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فانى يستجاب لذلك رواه مسلم والتحقيق في الباب عندى ان ما ذكرنا من الأقوال كلها صحيحة وانه ليس كل دعاء مستجاب ومدلول الاية ان مقتضى الدعاء الاجابة فانه تعالى جواد كريم قادر على كل شىء ومن كان هذا صفته لا يمنع مسئوله عقلا ونقلا روى الترمذي وابو داود عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ربكم حى كريم- يستحيى من عبده إذا رفع يديه ان يردهما صفرا- وانما يظهر تخلف الاستجابة عن الدعاء او تاخره عنه اما لحكمة او لمانع من الاستجابة او فقد شرط عقوبة للداعى والله اعلم-. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الرفث كناية عن الجماع-

قال الزجاج الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء- وعدى بالى لتضمنه معنى الإفضاء روى احمد- وابو داود- والحاكم من طريق عبد الرحمن بن ابى ليلى عن معاذ بن جبل قال كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فاذا ناموا امتنعوا ثم ان رجلا من الأنصار يقال له صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فاصبح مجهودا وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فانزل الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الى قوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ- الحديث مشهور عن ابن ابى ليلى وهو لم يسمع من معاذ وله شواهد- اخرج البخاري عن البراء قال كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل ان يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى وان قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار اتى امرأته فقال عندك طعام فقالت لا ولكن انطلق فاطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه وجاءت امرأته فلما رات قالت خيبة- فلما انتصف النهار غشى عليه فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية- واخرج البخاري عن البراء قال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فانزل الله «1» عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ- واخرج احمد وابن جرير وابن ابى حاتم من طريق عبد الله بن كعب عن أبيه قال كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فامسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده وأراد من امرأته فقالت انى قد نمت قال ما نمت ووقع عليها- وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر الى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره فنزلت وقال البغوي كان في ابتداء الأمر إذا صلى العشاء او رقد قبلها حرم عليها الطعام والشراب والجماع الى القابلة وان عمر بن الخطاب واقع اهله بعد العشاء فاعتذر الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ استيناف بيان لسبب التحليل وهو قلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة- ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس- او لان اللباس كما يستر صاحبه كذلك يكون كل واحد منهما لصاحبه ستراعما لا يحل- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تزوج فقد احرز ثلثى دينه عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ

_ (1) فى الأصل علم انكم

كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ اى تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء او بعد النوم بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب- والاختيان ابلغ من الخيانة فَتابَ عَلَيْكُمْ لما تبتم وَعَفا عَنْكُمْ محا ذنوبكم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ جامعوهن حلالا كنى بالمباشرة عن الجماع وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الولد تدل الاية على انه ان جامع رجل امرأته ينبغى ان يريد به الولد دون قضاء الشهوة فحسب حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فانى مكاثر بكم الأمم رواه ابو داود والنسائي عن معقل بن يسار- وعلى ان العزل مكروه وعلى ان اباحة الجماع مقتصر على محل الولد- قال البغوي قال معاذ بن جبل ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعنى ليلة القدر قلت وهذا بعيد من السياق وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ يعنى بياض النهار من سواد الليل- سميا خيطين لان كل واحد منهما إذا بدا في الابتداء امتد جنوبا وشمالا كالخيط- وقوله من الفجر حال من الخيط الأبيض بيان له- ولم يبين الخيط الأسود لظهوره بظهور الخيط الأبيض- ومن للبيان او للتبعيض اى كائنا الفجر او كائنا بعض الفجر- ولم يقل حتى يتبين لكم الفجر دلالة على حرمة الاكل عند ظهور خيطه يعنى أول جزء منه- ولم يقل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر بلا ذكر الخيط الأسود ليدل على ان المراد بالفجر هو الفجر الصادق لانه خيط ابيض معترض جنوبا وشمالا يلاصقه خيط اسود معترض في الجانب الغربي هو طرف لسواد الليل بخلاف الفجر الكاذب فانه خيط ابيض مستطيل شرقا وغربا يحيط به السواد من الجوانب كلها ويحتمل ان يكون قوله من الفجر بيانا لمجموع الخيطين فان في الفجر سوادا وبياضا وهذا اولى حيث لا يلزم حينئذ الفصل بين الحال وصاحبه بالاجنبى والله اعلم- عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق- رواه الترمذي وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان بلالا ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم «1» رجلا أعمى لا ينادى حتى يقال له أصبحت أصبحت- فان قيل قد صح عن على رضى الله عنه انه صلى الصبح ثم قال الان يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود- رواه ابن المنذر بإسناد صحيح وكذا روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابى بكر الصديق انه قال لولا الشهوة لصليت الغداة ثم لتسحرت- وروى ابن المنذر وابن ابى شيبة من طريق عن ابى بكر انه امر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر- فهذه الآثار تدل على جواز الاكل بعد انتشار الصبح فما وجه هذه الأقوال- قلت والله اعلم لعل وجه هذه الأقوال ان أبا بكر و «2» عليّا رضى الله عنهما زعما ان من للسببية والخيط في معناه الحقيقي- لكن ثبت بالسنة ان من للبيان والمراد بالخيط الأبيض هو الصبح وعلى ذلك انعقد الإجماع عن عدى بن حاتم قال لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ

_ (1) فى اصل حتى ينادى ابن أم مكتوم رجلا أعمى (2) فى الأصل وعلىّ-[.....]

لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت الى عقال اسود والى عقال ابيض فجعلتهما تحت وسادتى فجعلت انظر في الليل فلا يستبين لى فغدوت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال انما ذلك سواد الليل وبياض النهار- متفق عليه وفي رواية- انك لعريض القفا انما ذلك بياض النهار وسواد الليل- وعن سهل بن سعد قال أنزلت كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل قوله من الفجر وكان الرجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رويتهما فانزل الله تعالى بعد قوله من الفجر فعلموا انه يعنى بهما الليل والنهار متفق عليه- فان قيل حديث سهل بن سعد يدل على ان نزول قوله تعالى من الفجر كان متاخر او متراخيا عما سبق ويلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك غير جائز قلت استعمال الخيط الأبيض والأسود في سواد الليل وبياض النهار كان مشتهرا ظاهر الدلالة غير واجب البيان وان خفى على البعض لقلة تدبرهم فهو من باب المشكل الذي خفى مراده من جهة الصيغة باستعمال تجوز او غير ذلك بحيث يدرك المراد بالتأمل والطلب ونزول قوله تعالى من الفجر انما هو للاحتياط وحفظ القاصرين وإغناء السامعين عن الطلب والتأمل ولم يكن من باب المجمل الذي لا يتصور درك مرامه الا من جهة الشارع فلا محذور فى تراخى نزوله- ولو سلمنا انه من باب المجمل فلعل بيانه صدر من الشارع في الوحى الغير المتلو وثبت بالسنة كما يدل عليه حديث عدى بن حاتم ثم نزل قوله من الفجر لتأئيد ما ثبت بالسنة وتأكيده- وقال الطحاوي انه من باب النسخ وان الحكم كان على ظاهر المفهوم من الخيطين ويؤيد قول الطحاوي حديث حذيفة تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار غير ان الشمس لم تطلع رواه سعيد بن منصور وكذا عند الطحاوي- فلعل تسحر حذيفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول قوله تعالى- من الفجر- فان قيل قوله من الفجر غير مستقل والناسخ انما يكون كلاما مستقلا فكيف يتصور كونه ناسخا- وعلى تقدير كونه متراخيا لا يتصور كونه من باب القصر لغير المستقل لان من ضروراته الاتصال فكيف التوجيه- قلت التوجيه عندى انه نزل اولا تمام الاية من غير تقييد بقوله من الفجر ثم بعد مدة نزل الاية مرة ثانية مع قوله تعالى من الفجر فنسخت الاية الاولى حكما وتلاوة والله اعلم (فائدة) حديث عدى بن حاتم انما كان بعد نزول قوله تعالى من الفجر- البتة لان إسلامه في السنة التاسع وكان نزول اية الصيام في السنة الثانية ونزول قوله تعالى

من الفجر بعد ذلك بيسير بسنة او نحوه فما كان من عدى بن حاتم جعل الخيطين تحت وسادثه لم يكن الا زعما منه ان من للسببية والله اعلم (فائدة) وفي تجويز المباشرة الى الفجر دليل على جواز تأخير الغسل للمجنّب الى ما بعد الصبح وصح صوم من أصبح جنبا بالإجماع ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ بيان لاخر وقته عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم- رواه البخاري فبهذه الاية ظهر حقيقة الصوم انه الإمساك من المفطرات الثلث من الصبح المعترض الى غروب الشمس مع النية- ووجوب النية مستفاد من قوله تعالى ثم أتموا فان الإتمام فعل اختياري او لانه عبادة فلا بد له من النية لقوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ- وقوله صلى الله عليه وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى الدنيا نصيبها او امراة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه- أخرجه الجماعة كلهم غير مالك في المؤطا الا ان مالكا روى عنه البخاري والحديث متواتر بالمعنى ولفظه تواتر عن يحيى بن سعيد انفرد هو عن محمد بن ابراهيم وهو عن علقمة ابن وقاص وهو عن عمرو قد تلقته «1» الامة بالقبول واجمعوا على ان كل عبادة مقصودة لا يصح الا بالنية وكان القياس ان يشترط اقتران النية بتمام العبادة لكن سقط ذلك للزوم الحرج فاشترط في الصلاة اقترانها بجزئها الاول اعنى التحريمة حتى تعتبر باقيه حكما مع جميع اجزائها- ولم يشترط ذلك في الصوم اجماعا لان الجزء الاول من الصوم حين طلوع الفجر او ان غفلة غالبا فجوزوا الصوم بنية سبقت من شروعه وتعتبر باقية اجماعا ما لم يرفض- واختلفوا في انه هل يجوز الصوم بنية بعد طلوع الفجر أم لا- فقال ابو حنيفة يصح أداء صوم رمضان والنذر المعين والنفل بنية قبل نصف النهار الشرعي وقال الشافعي واحمد يصح النفل بنية قبل الزوال لا غير وقال مالك لا يصح شىء من الصيام بنية من النهار وهو القياس- ويؤيده حديث حفصة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له- رواه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وابن ماجة والدارقطني والدارمي- وفي رواية فلا يصوم وفي رواية لا صيام لمن لم يفرضه من الليل وفي رواية من لم يثبت الصيام قبل الفجر فلا صيام له- فان قيل قال ابو داود لا يصح رفعه- وقال الترمذي الموقوف أصح- قلنا رفعه ابن جريح وعبد الله بن ابى بكر كلاهما عن الزهري عن سالم عن

_ (1) فى الأصل تلقت

أبيه عنها- وابن جريح وعبد الله بن ابى بكر من الثقات والرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ومن عادة المحدثين الوقوف عند الموقوف والمرسل- وكون الموقوف أصح لا ينافي صحة المرفوع- وقال الحاكم في المرفوع انه صحيح على شرط الشيخين- وقال في المستدرك صحيح على شرط البخاري- وقال البيهقي والدارقطني رواته كلهم ثقات- وفي الباب حديث عائشة من لم يثبت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له- رواه الدارقطني وقال رجاله ثقات- لكن فيه عبد الله بن عباد ذكره ابن حبان في الضعفاء وفيه يحيى بن أيوب ليس بالقوى- وحديث ميمونة بنت سعد مرفوعا من اجمع الصوم من الليل فليصم ومن أصبح فلم يجمعه فلا يصم- رواه الدارقطني وفيه الواقدي ليس بشىء- واحتجوا على جواز النقل بنية من النهار بحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علىّ قال هل عندكم طعام فاذا قلنا الا قال انى صائم فدخل علىّ يوما فقلت يا رسول الله اهدى لنا حيس فقال ادنيه ولقد أصبحت صائما- وفي رواية لمسلم قال هل عندكم شىء قلت ما عندنا شىء قال فالى صائم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهديت لنا هدية فلما رجع قالت أهديت لنا هدية قال ما هو قلت حبس قال هاتيه فجئت به فاكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما- وأجيب بانه لا يدل هذا الحديث على ان النبي صلى الله عليه وسلم نوى الصوم من النهار بعد ما لم يكن ناويا للصوم من الليل بل الظاهر انه كان يصبح صائما ناويا للصوم من الليل ثم يأتى اهله فقد يفطر الصوم النافلة- ويدل عليه قوله قد كنت أصبحت صائما- وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ- العكوف هو الاقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الاقامة في المسجد على عبادة الله تعالى مع النية- قال البغوي الاية نزلت في نفر من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد فاذا عرضت لرجل منهم الحاجة الى اهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع الى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع يفسد به الاعتكاف ويحرم فيه اجماعا غيران الشافعي يقول بالوطى ناسيا لا يفسد الاعتكاف قياسا على الصوم قلنا ان حالة الاعتكاف مذكرة بخلاف الصوم وعن الحسن البصري والزهري من باشر اهله معتكفا فعليه كفارة اليمين والإجماع على انه لا كفارة عليه- ولو قبّل او لمس بشهوة فانزل يبطل الاعتكاف بالإجماع وان لم ينزل يحرم اجماعا ولا يبطل الاعتكاف الا عند مالك- واما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ

فلا بأس به- عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف ادنى الىّ رأسه فارجّله- متفق عليه- وكان لا يدخل البيت الا لحاجة الإنسان- رواه مسلم- وقوله تعالى وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ يدل على ان الاعتكاف لا يكون الا في المسجد وهو مسجد الجماعة دون مسجد البيت- وإطلاقه يدل على انه يجوز الاعتكاف في كل مسجد ولا يختص بالمسجد الحرام او مسجد النبي صلى الله عليه وسلم- او المساجد الثلاثة يعنى المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمسجد الجمعة- وروى عن حذيفة الاختصاص بالمساجد الثلاثة وعن عطاء بمسجد مكة وعن ابن المسيب بمسجد المدينة وعند مالك يختص بمسجد الجمعة وأوى اليه الشافعي في القديم- قال ابن عباس ابغض الأمور البدع وان من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور- أخرجه البيهقي- وعن على قال لا اعتكاف الا في مسجد جماعة- رواه ابن ابى شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما- وعن حذيفة قال اما انا قد علمت انه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة- رواه الطبراني- وروى ابن الجوزي عن حذيفة مرفوعا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مسجد له مؤذن وامام فالاعتكاف فيه يصلح قال ابن الجوزي هذا في نهاية الضعف- وعن عائشة قالت السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امراة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا ما لا بد منه ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع رواه ابو داود وفي رواية لا اعتكاف الا في مسجد جماعة (مسئلة) الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنة مؤكدة لحديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى يتوفاه الله عز وجل ثم اعتكفه أزواجه من بعده- متفق عليه وحديث ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان- يتفق عليه وعن انس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف العشرين- رواه للترمذى ورواه ابو داود وابن ماجة عن ابى بن كعب- قلت لكن تركه اكثر الصحابة قال ابن نافع انه كان كالوصال وأراهم تركوه لشدته ولم يبلغنى عن أحد من السلف انه اعتكف الا عن ابى بكر بن عبد الرحمن- وقال الحافظ قد حكيناه عن غير واحد من الصحابة- قلت ومن أجل تركه من اكثر الصحابة قال بعض الحنفية انه سنة على الكفاية والله اعلم تِلْكَ الاحكام التي ذكرت من حرمة الاكل والشرب والجماع في الصوم وحرمة المباشرة

[سورة البقرة (2) : آية 188]

فى الاعتكاف حُدُودُ اللَّهِ اى ما منع الله عنها واصل الحد المنع فَلا تَقْرَبُوها نهى عن اقترابها فضلا ان يتخطى عنها مبالغة في المنع وقد مرّ في أوائل السورة قوله صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في ارضه محارمه- متفق عليه ولاجل حرمة الاقتراب بالمحرم الحق الائمة دواعى الجماع من اللمس بشهوة ونحوها بالجماع فقالوا بحرمتها في الصوم والاعتكاف وان انزل باللمس او القبلة فسد الصوم والاعتكاف والله اعلم- كَذلِكَ اى كما بينا تلك الاحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ سائر آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) اى لكى يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي- فيتقون من النار. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ كالدعوى الزور والشهادة بالزور او الحلف بعد إنكار الحق او الغصب والنهب والسرقة والخيانة او القمار واجرة المغني ومهر البغي وحلوان الكاهن وعسب التيس والعقود الفاسدة او الرشوة وغير ذلك من الوجوه الّتى لا يبيحه الشرع- وبين منصوب على الظرف او الحال من الأموال والاية بنزلت في امر القيس بن عابس الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا انه غلبنى عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمى ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق يحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- اما ان حلف على ماله ليأكل ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض- كذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على المنهي- او نصب بإضمار أن اى ولا تلقوا حكومتها الى الحكام- قال مجاهد يعنى لا تخاصم وأنت ظالم وقال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم به الى الحاكم ليحلف كاذبا- وقال الكلبي هو ان يقيم الشهادة الزور- قلت واللفظ يعم ذلك كله لِتَأْكُلُوا بالتحاكم فَرِيقاً طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ اى بما يوجب الإثم كالشهادة الزور واليمين الكاذبة او متلبسين «1» بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) انكم مبطلون بخلاف الحكام فانهم لا يعلمون بحقيقة الحال

_ (1) فى الأصل متلبسين

[سورة البقرة (2) : آية 189]

وانما يحكمون بالظاهر فالحاكم ان حكم على حسب الشرع من غير ميل الى أحدهما فهو مأجور وان كان المحكوم له اثما وبهذا يظهران قضاء القاضي لا يحل حراما عن أم سلمة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال انما انا بشر وأنتم تختصمون الىّ ولعل بعضكم ان يكون الحسن بحجته من بعض فاقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذنه فانما اقطع له قطعة من النار- رواه الشافعي عن مالك وفي الصحيحين نحوه وقال ابو حنيفة رحمه الله فى حرمة المال على المبطل بنحو ما قالوا غير انه يقول- قضاء القاضي في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا خلافا للجمهور احتج ابو حنيفة بما روى ان شاهدين شهدا عند على عليه السلام على امراة بالنكاح فقضى به فقالت المرأة انه لم يكن بيننا نكاح فان كان ولا بد فزوجنى منه فقال على عليه السلام- شاهداك زوجاك- والله اعلم. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الانصاريين قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلى نورا ثم يعود دقيقا كما بدا لا يكون على حال واحد- كذا ذكر البغوي- وأخرجه ابو نعيم وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق السدى الصغير عن ابن عباس- واخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عنه قال سال الناس عن الاهلة فنزلت- واخرج ابن ابى حاتم عن ابى العالية قال- بلغنا انهم قالوا يا رسول الله لم خلقت الاهلة فنزلت قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ- ان كان السؤال عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل امره فقد طابق الجواب السؤال حيث امر الله سبحانه بان يجيب بان الحكمة الظاهرة في ذلك ان يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم ومعالم للعبادات الموقتة كالحج والصوم وغير ذلك يعرف بها أوقاتها- وان كان السؤال عن علة تبدل احوال القمر وهو الظاهر فهو جواب على اسلوب الحكيم تنبيها بان اللائق بحال السائل ان يسئل بالفائدة دون العلة إذ لا فائدة في ذلك السّؤال إذ حينئذ يلزمه الاشتغال بما لا يعنيه وهذا يدل على ان الاشتغال بالعلوم الغريبة كالهيئة والنجوم وغير ذلك مما ليس فيه فائدة دينية معتدة بها لا يجوز والمواقيت جمع ميقات اسم فمعز الدولة من الوقت والمراد به ما يعرف به اوقات الحج والصوم وآجال الديون وانقضاء العدة وغير ذلك-

وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ قرا ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي البيوت «1» والعيون والشيوخ وابن عامر وحمزة والكسائي جيوبهن وحمزة وابو بكر الغيوب بكسر اوائلهن لمكان الياء والباقون بالضم على الأصل مِنْ ظُهُورِها روى البخاري عن البراء قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فانزل الله الاية- واخرج ابن ابى حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب فى الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا يا رسول الله ان قطبة رجل فاجر وانه خرج معك من الباب فقال ما حملك على ما فعلت. قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال انى رجل احمسى قال فان دينى دينك فانزل الله- واخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه- واخرج عبد بن حميد عن قيس بن جبير نحوه ولكن فيه رفاعة بن نابوت مكان قطبة بن عامر- وذكر البغوي انه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل رفاعة على اثره من الباب الحديث- وقال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شىء وكان الرجل يخرج مهلّا بالعمرة فيبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته حتى بلغ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على اثره من الأنصار من بنى سلمة الحديث- ووجه العطف وعدم الفصل اما انهم سالوا الامرين معا في حادثة واحدة- او انه لما سالوه عما لا يعنونه ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنونه ويختص بعلم النبوة عقب بذكره كانّه قال اللائق ان يسئلوا أمثال ذلك- ويمكن ان يقال السؤال عن حقائق الممكنات على وجه لا يفيد يشبه دخول البيت من ظهرها فان الخوض في العلوم بمنزلة الدخول في البيت فكما ان الموضوع

_ (1) البيوت قراء قالون وابن كثير وابن عامر ابو بكر وحمزة والكسائي وخلف والعيون والشيوخ قراهما ابن كثير وابن ذكوان وابو بكر وحمزة والكسائي جيوبهن قراه ابن كثير وابن ذكوان وحمزة والكسائي الغيوب إلخ- ابو محمد عفا الله عنه

[سورة البقرة (2) : آية 190]

لاجل الدخول في البيت انما هو الباب ليستمتع بمنافع البيت كذلك الموضوع للخوض والتفكر في الحقائق وجوه منافعها والاستدلال على صانعها دون افعال النفس فيما لا يجد به من مسائل الهيئة وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قد مرّ وجه الحمل واختلاف القراء فيما سبق وَأْتُوا الْبُيُوتَ فى حالة الإحرام مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما حرم عليكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) لكى تفوزوا بالبر اخرج الواحدي عن ابى صالح عن ابن عباس لما صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية ثم صالحه المشركون على ان يرجع عامه «1» ويأتى القابل- فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ان لا يفىء قريش بذلك وان يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام فانزل الله تعالى. وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى طاعة الله الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى الذين يتوقع منهم القتال وَلا تَعْتَدُوا بقتل النساء والصبيان والشيوخ الكبار والرهبان ومن القى إليكم السلم- عن بريدة رضى الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا قال اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا امراة ولا وليدا ولا شيخا كبيرا- رواه البغوي وروى مسلم في حديث طويل وفيه ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا- وعن عبد الله بن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان- متفق عليه وعن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال انطلقوا بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امراة ولا تغلوا وضموا غنائكم وأصلحوا وأحسنوا ان الله يحب المحسنين- رواه ابو داود فعلى هذا التأويل الاية محكمة غير منسوخة وهو قول ابن عباس ومجاهد- وقيل كان في ابتداء الإسلام امر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتل المشركين ثم لمّا هاجر الى المدينة امره بقتال من قاتلهم منهم بهذه الاية قال الربيع هذه اوّل اية نزلت في القتال ثم امر بقتال المشركين كافة قاتلوا او لم يقاتلوا بقوله تعالى وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً- فحينئذ معنى قوله تعالى وَلا تَعْتَدُوا اى لا تبدوهم بالقتال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) اى لا يريد بهم الخير. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ قال مقاتل بن حبان هذه الاية منسوخة

_ (1) فى الأصل على الا يرجع عامة القابل 12

[سورة البقرة (2) : آية 192]

بقوله تعالى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- قلت بل هى مخصصة لاجل اقترانهما مثل قوله تعالى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا إذا الناسخ انما يكون متراخيا- الثقف الحذق بالشيء في إدراكه علما كان او عملا فهو يتضمن معنى الغلبة فالمعنى حيث تمكنتم على قتلهم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعنى من مكة وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح وَالْفِتْنَةُ يعنى شركهم بالله تعالى وصدهم إياكم عن المسجد الحرام أَشَدُّ أعظم وزرا عند الله مِنَ الْقَتْلِ اى قتلكم إياهم ومن ثم اباحه الله تعالى لكم كذا اخرج ابن جرير عن مجاهد والضحاك وقتادة والربيع وابن زيد وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعنى في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فى الحرم فَاقْتُلُوهُمْ فيه- قرا حمزة والكسائي ولا تقتلوهم حتّى يقتلوكم فان قتلوكم بغير الف فيهن من القتل على معنى ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم يقول العرب قتلنا بنوا فلان يعنى قتل بعضنا وقرا الباقون بالألف- قيل كان هذا في ابتداء الإسلام كان لا يحل بدايتهم بالقتال فى البلد الحرام ثم صار منسوخا بقوله تعالى وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذا قول قتادة وقال مقاتل نسخها اية السيف في براءة والحق عندى ان هذه الاية محكمة ولا يجوز ابتداء القتال في الحرم وبه قال مجاهد وجماعة- ويؤيده ما رواه الشيخان عن ابن عباس وابى هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة وانه لن يحل القتال فيه لاحد قبلى ولم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده الحديث- وعن جابر مرفوعا لا يحل لاحدكم ان يحمل بمكة السلاح رواه مسلم كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) يفعل بهم مثل ما فعلوه. فَإِنِ انْتَهَوْا عن القتال والكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لهم ما قد سلف رَحِيمٌ (192) بالعباد. وَقاتِلُوهُمْ يعنى المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اى شرك وفساد وَيَكُونَ الدِّينُ الطاعة والعبادة لِلَّهِ وحده ولا يعبد غيره عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا الله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة

[سورة البقرة (2) : آية 194]

ويؤتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى- متفق عليه ولا دليل في هذه الاية على ان الوثني لا يقبل منه الا الإسلام فان ابى قتل كما قال البغوي إذ لا فرق بين الوثني والمجوسي والكتابي فان الدين عند الله الإسلام والفتنة كما يكون بالوثنى يكون بالكتابي والمجوسي ايضا وينتهى منهما بالانقياد وقبول الجزية ولولا قوله تعالى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ لما قبل من أحد منهم الجزية- ثم لما ثبت أخذ الجزية عن اهل الكتاب بهذه الاية مع كونهم على الدين الباطل ثبت أخذ الجزية عن المجوسي والوثني ايضا بالقياس عند ابى حنيفة رحمه الله خلافا لغيره وسنذكر مسئلة الجزية فى سورة التوبة ان شاء الله تعالى فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك او الحرب بإعطاء الجزية فَلا عُدْوانَ الفاء الاول للتعقيب والثانية للجزاء اى لا سبيل الى القتل والاسر والنهب إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) اى على الذين بقوا على الشرك والحرب كذا قال ابن عباس في تأويل العدوان كما في قوله تعالى أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ او يقال سمى جزاء العدوان عدوانا للمشاكلة كما في قوله تعالى. فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ قلت ويحتمل ان يقال فى التأويل فان انتهوا فلا عدوان اى لا اثم العدوان الا على الظالمين فانكم ان تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر- عن المقداد بن الأسود انه قال يا رسول الله ارايت ان لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب احدى يدى بالسيف فقطعها ثم لازمنى بشجرة فلما أهويت لا قتله قال لا الله الا اللهء أقتله بعد ان قالها- قال لا تقتله قال يا رسول الله انه قطع احدى يدى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل ان تقتله وأنت بمنزلته قبل ان يقول كلمة التي قال- متفق عليه واخرج ابن جرير عن قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خرجوا معتمرين ومعهم الهدى في ذى القعدة سنة ست فصده المشركون بالحديبية فصالح اهل مكة على ان ينصرف عامه ذلك ويأتى من قابل فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى عمرته في ذى القعدة سنة سبع واقام بمكة ثلث ليال وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه فانزل الله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ يعنى ذى القعدة اللاتي دخلتم بمكة فيه وقضيتم عمرتكم بِالشَّهْرِ الْحَرامِ

[سورة البقرة (2) : آية 195]

الذي صددتم فيه وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ والقصاص المساواة يعنى كل حرمة يجرى فيها القصاص والمساواة وقيل هذه الاية في محل التعليل لما سبق من قوله تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا- يعنى لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون ان لا يف المشركون بعهدهم ويصدوهم عن البيت كما فعلوا في العام الماضي ويقع القتال في الحرم والإحرام والشهر الحرام فامرهم الله تعالى بالقتال وقال الشهر الحرام بالشهر الحرام يعنى ان هتكوا حرمة الحرم والشهر ويقاتلوكم فقاتلوهم فيه فانه قصاص لما فعلوا وهذا التأويل أوفق بالسياق حيث قال الله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ في الحرم والشهر الحرام وأنتم محرمون فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ سمى الجزاء باسم الابتداء للمشاكلة وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما لم يرخص لكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) فينصرهم ويصلح شأنهم-. وَأَنْفِقُوا أموالكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى الجهاد وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ قيل الباء زائدة وعبر بالأيدي عن الأنفس وقيل فيه حذف اى لا تلقوا أنفسكم بايديكم يعنى باختياركم والإلقاء طرح الشيء وعدى بالى لتضمن معنى الانتهاء- والقى بيده لا يستعمل الا في الشر إِلَى التَّهْلُكَةِ اى الهلاك- قيل كل شىء يصير عاقبته الى الهلاك فهو التهلكة وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه روى البخاري عن حذيفة قال نزلت هذه الاية في النفقة واخرج ابو داود والترمذي وصححه ابن حبّان والحاكم وغيرهم عن ابى أيوب الأنصاري رضى الله عنه قال نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصاري لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا ان أموالنا قد ضاعت وان الله تعالى قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فاصلحنا ما ضاع منها- فانزل الله تعالى يردّ علينا ما قلنا فكانت التهلكة الاقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو- قلت المعنى انكم لو تركتم الغزو يغلب عدوكم عليكم فتهلكون- قال البغوي فما زال ابو أيوب رضى الله عنه يجاهد في سبيل الله حتى كان اخر غزوة غزاها بقسطنطنية فاستشهد ودفن في اصل سور قسطنطنية وهم يستسقون به وروى عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث

[سورة البقرة (2) : آية 196]

نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق- وقال بعضهم نزلت الاية في البخل وترك الانفاق فى سبيل الله وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة وعطاء وبه قال ابن عبّاس اخرج الطبراني بسند صحيح عن ابى جبيرة بن الضحاك قال كانوا «1» يتصدقون ويعطون ما شاء الله فاصابتهم سنة فامسكوا فانزل الله تعالى هذه الاية- وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني الإلقاء الى التهلكة القنوط من رحمة الله- كذا قال ابو قلابة اخرج الطبراني بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال كان الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر الله لى فانزل الله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وله شواهد عن البراء أخرجه الحاكم وَأَحْسِنُوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على المحاويج اعلم ان الإحسان يكون في العبادات ويكون في المعاملات اما الذي في العبادات فما في الصحيحين في حديث طويل عن عمر بن الخطاب قال قال يعنى جبرئيل أخبرني عن الإحسان قال عليه السلام ان تعبد الله كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك يعنى بالحضور والخشوع- واما الذي في المعاملات فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك- رواه احمد عن معاذ وقال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده رواه اصحاب السنن عن ابى هريرة ورواه احمد عن عمرو بن عنبسة في جواب اىّ الإسلام أفضل وقال ان من احبّكم الىّ أحسنكم أخلاقا- رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو وفي الصحيحين بلفظ من خياركم أحسنكم أخلاقا- وقال ان الله تعالى كتب الإحسان على كل شىء فاذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته- رواه مسلم عن شداد بن أوس إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) . وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ هذه الاية حجة على وجوب الحج والعمرة ووجوب إتمامهما وعدم جواز فسخ الحج بالعمرة- اما وجوب الحج فقد انعقد الإجماع على انه فرض محكم على الأعيان وهو أحد اركان الإسلام قال الله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا الله الا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة والحج وصوم رمضان- متفق عليه وفي الباب أحاديث كثيرة- واما وجوب العمرة فهو مذهب احمد وبه قال الشافعي في أصح قوليه وهو مروى عن

_ (1) فى الأصل كانت 12

ابى حنيفة رحمهم الله وقال مالك العمرة سنة وهو المشهور من مذهب ابى حنيفة وأحد قولى الشافعي وتأويل الاية عندهم انها تجب بالشروع كالحج بالإجماع- ويدل على ما قال به احمد قراءة علقمة وابراهيم النخعي واقيموا الحجّ والعمرة لله وهى قراءة على عليه السّلام أخرجه ابن جرير وابن ماجة وابن حبان ومن الأحاديث ما رواه ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان والحاكم في كتابه المخرج على صحيح مسلم عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب حديث تعليم جبرئيل وفيه قال يا محمد أخبرني عن الإسلام قال ان تشهد ان لا الله الا الله وان محمدا رسول الله وان تقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان- وهذه الزيادة يعنى قوله وتعتمر وان لم يذكر في الصحاح لكن رواه الثقات وحكم الدارقطني عليه بالصحة وذكره ابو بكر الجوسعى فى كتابه المخرج على الصحيحين فهى مقبولة ومنها حديث عائشة قالت يا رسول الله على النساء جهاد قال عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة- رواه ابن ماجة ومنها أحاديث اخر ضعاف لم نذكرها- واثار الصحابة قال الضبي بن معبد لعمر رايت الحج والعمرة مكتوبتين علىّ فاهللت بهما فقال عمر هديت سنة نبيك- أخرجه ابو داود وقال ابن عمر ليس في خلق الله أحد الا عليه حج وعمرة واجبتان من استطاع اليه سبيلا- رواه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم وسنده صحيح وعلقه البخاري- واثر ابن عباس رواه الشافعي وعلقه البخاري- واحتج القائلون بكونها سنة بأحاديث منها حديث جابر بن عبد الله اتى أعرابي فقال يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وان تعتم خير لك- رواه الترمذي واحمد والبيهقي من رواته الحجاج بن ارطاة وهو مدلس متروك تركه ابن مهدى والقطان ويحيى بن سعين واحمد بن حنبل وابن المبارك والنسائي لكن قال الذهبي صدوق وقال الترمذي الحديث حسن صحيح- ورواه البيهقي من طريق اخر وفيه يحيى بن أيوب قال احمد سيىء الحفظ وقال ابو حاتم لا يحتج به لكن قال ابن معين صالح وقال ابن عدى صدوق قلت وتعارض هذا الحديث ما روى عن جابر مرفوعا الحج والعمرة فريضتان أخرجه ابن عدى من طريق ابن لهيعة لكن ابن لهيعة ضعيف- ومنها حديث ابى امامة مرفوعا من مشى الى صلوة مكتوبة فاجره كحجة ومن مشى الى صلوة تطوع فاجره كعمرة- رواه الطبراني

من طريق يحيى بن الحارث- ومنها حديث عبد الله بن قانع عن ابى هريرة مرفوعا الحج جهاد والعمرة تطوع- ورواه الشافعي عن ابى صالح الحنفي مرسلا وحديث طلحة بن عبد الله وابن عباس مرفوعا نحوه رواه البيهقي قال الدارقطني عبد الله بن قانع كان يخطئ وقال الترقانى ضعيف لكن قال الشيخ تقى الدين هو من كبار الحفاظ- وابو صالح الحنفي اسمه ماهان ضعفه ابن حزم لكن قال ابن همام تضعيفه ليس بصحيح وثقه ابن معين وروى عنه جماعة وفي حديث طلحة عمرو بن قيس فيكلم فيه قال الحافظ اسناده ضعيف وحديث ابن عباس في سنده مجاهيل وفي الباب اثار الصحابة قال ابن مسعود الحج فريضة والعمرة تطوع رواه ابن ابى شيبة قال ابن همام كفى بعبد الله قدوة- واثر ابى هريرة مثل مرفوعه قال الدارقطني في مرفوعه الصحيح انه موقوف واثر جابر مثل مرفوعه فالتحقيق ان الأحاديث في الباب متعارضة وكذا الآثار قال ابن همام إذا تعارضا لا يثبت الوجوب بالشك وقال صاحب الهداية لا تثبت الفرضية مع التعارض- وقول صاحب الهداية اولى فان الفريضة تبتنى على القطع فالاولى ان يقال بالوجوب دون الفريضة عند التعارض احتياطا كيلا يلزم تكرار النسخ- واما عدم جواز فسخ الحج بالعمرة فمذهب الجمهور محتجين بهذه الاية خلافا لاحمد وله قصة حجة الوداع- ان النبي صلى الله عليه وسلم امر الصحابة وكانوا مهلين بالحج ان يفسخوا الحج ويجعلوها عمرة وقال اجعلوا اهلالكم بالحج عمرة الا من قلد الهدى- وشهد على هذا بضعة عشر حديثا صحيحا بحيث يزيل الشك ويوجب العلم منها حديث ابى موسى الأشعري قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم الى قومى باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بما أهللت- قال أهللت كاهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال هل معك من هدى قال لا فامرنى فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحللت ثم أهللت بالحج يوم التروية- فقدم عمر (يعنى في خلافته) فقال ان نأخذ بكتاب الله فان الله امر بالإتمام قال الله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ- وان نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فانه لم يحل حتى نحر الهدى- وعن جابر قال قد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلوا من إحرامكم بطواف البيت والصفا والمروة وقصروا ثم اقيموا حلالا الحديث- وحديث ابن عباس أمرهم ان يجعلوها عمرة- وحديث

عائشة وحديث حفصة وفيه فما يمنعك يا رسول الله ان تحل معنا قال انى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى انحر- وحديث ابن عمر وهذه الأحاديث الستة في الصحيحين- وحديث ابى سعيد الخدري عند مسلم- خرجنا نصرخ بالحج حتى إذا طفت بالبيت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها عمرة الا من كان معه هدى- وحديث انس مرفوعا عند البخاري لولا ان معنى الهدى لا حللت- وحديث البراء ورواه اصحاب السنن وحديث الربيع بن سبرة عن أبيه وغير ذلك سردناها في منار الاحكام- فان قيل أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ قطعى وتخصيص القطعي ونسخه بأحاديث الآحاد لا يجوز- قلت هذه الأحاديث بلغت حد الشهرة بحيث لا ينكر ثبوت هذه «1» الوقعة على ان قوله تعالى وأتموا الحج عام خص منه البعض بقوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ- ثم اخرج النّبى صلى الله عليه وسلم من ذلك الحكم من فات حجه وأجاز له الخروج بافعال العمرة وعليه انعقد الإجماع فظهر ان الاية ظنى الدلالة جاز تخصيصه بخبر الآحاد قالوا فى جواب احتجاج احمد- ان ما احتججتم به كان مخصوصا بالصحابة دون غيرهم لحديث بلال بن حارث قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لنا خاصة- رواه ابو داؤد والنسائي قال ابن الجوزي لا يروى ذلك غير عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال ابو حاتم لا يحتج به وقال احمد لا يصح حديث في ان الفسخ كان لهم خاصة- قلت ولولا ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قوله- متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا احرمهما- يعنى اظهر حرمتهما التي ثبت عندى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا احرمهما- يعنى اظهر حرمتهما التي ثبت عندى من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يندفع أحاديث فسخ الحج بحديث بلال المذكور فانه ضعيف في الظاهر لكن قول عمر يدل على صحة ذلك الحديث معنى وقد مر قول عمر في حديث ابى موسى الأشعري المتفق عليه انه قال في خلافته- ان نأخذ بكتاب الله الحديث وكذا اثر عثمان انه سئل عن متعة الحج قال كان لنا ليست لكم- رواه ابو داود بإسناد صحيح ولو لم يثبت عند عمر وعثمان اختصاص الفسخ بالصحابة لما خالفا امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما احتج عمر بالآية الظنى الدلالة في مقابلة ما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم امره بالفسخ المفيد للقطع في حقهما والله اعلم- والمراد بالمتعة في قول عمر وعثمان انما هو فسخ الحج بالعمرة دون التمتع بالعمرة الى الحج الذي نطق به كتاب الله تعالى بحيث لا مرد له وانعقد عليه

_ (1) فى الأصل هذا الوقعة

الإجماع كيف وقد قال عمر للضبىّ بن معبد حين قال أهللت بهما هديت سنة نبيك «1» أخرجه ابو داود ويؤيد حديث بلال اثر ابى ذر انه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك الا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابو داود وفي رواية عنه انما كانت المتعة لنا خاصة- قال ابن الجوزي اثر ابى ذر يرويه رجل من اهل الكوفة لم يلق أبا ذر قلت فهو مرسل والمرسل عندنا حجة والله اعلم- فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يعنى عن الحج او العمرة التي أمرتم بإتمامها كما يقتضيه السياق والاية نزلت في قصة الحديبية باتفاق اهل النقل- وقد صح انه صلى الله عليه وسلم كان عام الحديبية محرما بالعمرة فاحصر فتحلل فهو حجة على مالك حيث يقول في رواية ان الإحصار خاص بالحج لا يجوز التحلل بالاحصار في العمرة- ومعنى أحصرتم اى منعتم من الوصول الى البيت الحرام والمضي على الإحرام بعد ومسلم او كافرا ومرض يمنعه من المضي او هلاك نفقة- او موت محرم للمرءة ونحو ذلك كذا فسر ابو حنيفة رحمه الله لان الإحصار والحصر في اللغة المنع باىّ سبب كان بل غالب استعمال الإحصار في الإحصار بالمرض ونحوه نقل عن الفراء والكسائي والأخفش وابى عبيدة وابن السكيت وغيرهم من اهل اللغة ان الإحصار بالمرض والحصر بالعدوّ وقال ابو جعفر النحاس على ذلك جميع اهل اللغة قلت المراد بقولهم الإحصار بالمرض والحصر بالعدو ان غالب الاستعمال هكذا- لا ان الإحصار خاص بالمرض حتى يرد عليهم ان الاية نزلت في قصة الحديبية ثبت ذلك في المتفق عليه من رواية جماعة من الصحابة- وقال الشافعي لا خلاف فى ذلك- وقال البغوي الحصر والإحصار بمعنى واحد يقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور واحصره العدوّ إذا منعه من السير فهو محصر- فالاية بعموم لفظه حجة لابى حنيفة على مالك والشافعي واحمد حيث قالوا لا حصر إلا حصر العدوّ- روى الشافعي هذا اللفظ بإسناد صحيح عن ابن عباس- وقالوا ان الاية نزلت فيه- قلنا العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص سبب النزول فان قيل سياق الاية يقتضى التخصيص حيث يقول الله تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ فان الامن يكون من الخوف

_ (1) روى عن عمر انه قال- افصلوا بين حجكم وعمرتكم اجعلوا الحج في أشهر الحج واجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحجك وعمرتك- قلت لعل هذا ما هو الأفضل عند عمر رضى الله عنه 12 منه رحمه الله

قلنا هذا لا يدل على ان الإحصار لا يكون الا بالعدوّ بل يدل على ان الإحصار بالعدوّ ايضا إحصار كما في قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ- وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ- فانه لا يدل على ان المراد بالمطلقات الرجعيات فقط بل يدل على ان الرجعيات ايضا داخلة في المطلقات- احتجوا على تخصيص الإحصار بالعدوّ بحديث عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها لعلك أردت الحج قالت والله ما أجدني الا وجعة فقال لها حجى واشترطى وقولى ان محلى حيث حبستنى متفق عليه- ولمسلم من حديث ابن عباس قصة ضباعة- ولابى داود والنسائي انها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله انى أريد الحج فاشترط قال نعم قالت كيف أقول قال قولى لبيك اللهم لبيك محلى من الأرض حيث تحبسنى فان لك على ربك ما استثنيت- وصححه الترمذي وأعله بالإرسال قال العقيلي روى ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد- وأخرجه ابن خزيمة من حديث ضباعة نفسها والبيهقي عن انس وجابر ولهذا قال احمد والشافعي لو اشترط جاز له التحلل بغير العدو- وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلى وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة- قال ابن الجوزي لو كان المرض يبيحها التحلل ما كان لاشتراطها معنى- قلنا حديث ضباعة من الآحاد لا يزاحم عموم الاية- وقيل الاشتراط منسوخ روى ذلك عن ابن عباس لكن فيه الحسن بن عمارة متروك- ووجه الجمع عندى ان حديث ضباعة محمول على الندب فمن خاف المرض او غير ذلك يستحب له ان يشترط عند الإحرام حتى لا يلزمه خلف الوعد وان كان ذلك جائزا بعذر- ويؤيد قول ابى حنيفة حديث عكرمة عن حجاج بن عمرو الأنصاري انه صلى الله عليه وسلم قال من كسر او عرج فقد حل وعليه الحج من قابل رواه الترمذي وابو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي وزاد ابو داود في رواية اخرى عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن حجاج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عرج او كسر او مرض فذكر معناه قال الترمذي حديث حسن وذكر البغوي تضعيفه- قلت لا وجه للتضعيف الا انه قد اختلف فيه على يحيى بن كثير فاخرجه اصحاب السنن وابن خزيمة والدارقطني والحاكم من طرق- قال الحافظ الصواب عن يحيى عن عكرمة عن الحجاج وقال في آخره عن عكرمة فسالت أبا هريرة وابن عباس

فقالا صدق- ووقع في رواية يحيى القطان وغيره في سياقه سمعت الحجاج وأخرجه ابو داود والترمذي من طريق معمر عن يحيى عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج قال الترمذي وتابع معمرا على زيادة عبد الله بن رافع معاوية بن سلام وسمعت محمدا يعنى البخاري يقول رواية معمر ومعاوية أصح قلت وهذا لا ينافي صحة الحديث لانه ان كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك والا فالواسطة بينهما عبد الله بن رافع ثقة وان كان البخاري لم يخرج له كذا قال الحافظ- قلت ويمكن ان عكرمة سمعه من الحجاج بلا واسطة وايضا سمعه من عبد الله بن رافع عن حجاج والله اعلم ومذهبنا مروى عن ابن مسعود فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ اى فعليكم ما استيسر او الواجب ما استيسر أو اهدوا ما استيسر من الهدى من بدنة او بقرة او شاة والشاة أدناه- وهذه الاية حجة على مالك حيث قال لا يجب عليه الهدى ثم القائلون بوجوب الهدى اختلفوا فقال الشافعي في رواية إذا لم بجد الهدى يطعم بقيمة الشاة طعاما وان لم يجد ما ينفق يصوم عن كل مد من الطعام يوما قياسا على دم الجناية وقال ابو حنيفة وهو القول الثاني للشافعى انه لا يجوز الا الهدى لان نصب الابدال بالرأى لا يجوز ودم الإحصار ليس من باب دم الجناية- وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ- واختلفوا في تفسير محله فقال ابو حنيفة رحمه الله محله الحرم- قال الله تعالى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ- ولان الاراقة لم يعرف قربة الا في زمان او مكان فلا يقع قربة دونه فلا يقع به التحلل فالواجب عنده انّ المحصر يبعث الهدى الى الحرم لا يجوز له الا ذلك ويعين يوما يذبح فيه ويحل المحصر في ذلك اليوم ولا يختص عنده للذبح يوم النحر وقال ابو يوسف ومحمد في الحج يختص الذبح بيوم النحر فلا حاجة الى تعينه عندهما- وقال مالك والشافعي واحمد محله هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل او في الحرم لحديث المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا فو الله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس فقالت أم سلمة يا نبى الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك

فيحلقك- فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما راوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما- رواه البخاري وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال لما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا وبعث الله ريحا فحملت شعورهم فالقاها في الحرم- وذكر مالك فى المؤطا بلغه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدى وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شىء- قال مالك والشافعي والحديبية خارج الحرم- وأجاب عنه الحنفية بوجهين- أحدهما ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث هديه الى الحرم مع ناجية بن جندب الأسلمي رواه الطحاوي بسنده عن ناجية- وكذا اخرج النسائي ثانيهما ان الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم روى الطحاوي بسنده عن المسور ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم وإذا كان كذلك فالظاهر انهم نحروا في الحرم- قلت وحديث ناجية شاذ مخالف للمشهور ولو ثبت فلعل النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعض هداياه الى الحرم بعد ما نحر بعضها في الحل جمعا بين الروايتين- وايضا قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ دليل واضح على ان الهدى لم يبلغ محله وهو الحرم وعلى ان محله هو الحرم لا غيره فالاحسن ما ذكر- البخاري تعليقا عن ابن عباس انه ينحر المحصر حيث أحصر ان كان لا يستطيع ان يبعث به الى الحرم وان استطاع يجب عليه ان يبعث فحينئذ معنى قوله تعالى وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ- ان استطعتم ذلك فهو عام خص منه البعض بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت بالأحاديث المشهورة وبقوله تعالى وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً والله اعلم فان قيل روى ابو داود عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاصر الحميرى يحدث أبا ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عاما «1» حاصر اهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معى رجال من قومى بهدى فلما انتهينا الى اهل الشام منعونا ان ندخل الحرم فنحرت الهدى مكانى ثم أحللت ثم رجعت فلما كان من العام القابل خرجت لاقضى عمرتى فاتيت ابن عباس فسالته فقال أبدل الهدى فان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر أصحابه ان يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية- فان هذا الحديث يقتضى ان

_ (1) فى الأصل عام حاصر

النحر خارج الحرم لا يجوز ويقتضى الاعادة- قلت محمد بن إسحاق مختلف فيه وقد مرّ ذكره- والحديث ترك الامة كلهم العمل به ولم يقل به أحد- وهاهنا خلافيات منها ان الواجب على القارن عند ابى حنيفة رحمه الله دمان لاجل إحرامي الحج والعمرة وعند الجمهور دم واحد قالوا الإحرام واحد فيكفيه دم واحد وعموم قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يؤيد قول الجمهور ومنها ان التحلل يحصل بنفس الإحصار او بالذبح بعد الإحصار بنية التحلل او بالحلق بعد الذبح مع نية التحلل الثالث قول الشافعي والجمهور لهم ان بالاحصار سقط مناسك الحج دون احكام الإحرام والحلق عرف محللا فلا يسقط وكونه موقتا بالحرم من حيث انه محلل ممنوع والحجة على وجوب الحلق او القصر واولوية الحلق قوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية يرحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال يرحم الله المحلقين قالوا والمقصرين فقال في المرة الثالثة والمقصرين رواه الطحاوي من حديث ابن عباس وابى سعيد- وقال ابو حنيفة ومحمد ان أحصر في الحرم يجب عليه الحلق وان أحصر في الحل فلا حلق لان الحلق لم يعرف عبادة الا في زمان او مكان كذا في الكافي- وفي الهداية ان الحلق عندهما ليس بواجب والتحلل انما يحصل بالذبح وعند ابى يوسف يجب الحلق لان النبي صلى الله عليه وسلم امر بذلك عام الحديبية وان لم يفعل لا شىء عليه والتحلل يحصل بالذبح فقط وقال مالك التحلل يحصل بالاحصار والذبح ليس بواجب عليه والحجة عليه هذه الاية- احتج مالك بحديث جابر نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة كل بدنة عن سبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشترك النفر في الهدى- رواه الدارقطني فان هذا الحديث مع ما رواه الشيخان عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم احرم بالعمرة سنة ست ومعه الف واربعمائة يدل على ان الهدى لا يجب على كل محصر والتحلل يحصل بمجرد النية دون الذبح لان سبعين بدنة لا يكفى الا لما دون خمسائة فبقى باقى الناس من لا هدى لهم قلت لعل باقى الناس ذبحوا غنما على ان هذا استدلال بحديث الآحاد في مقابلة القطعي من الكتاب فلا يقبل- والخلافية الثالثة ان المحرم بالعمرة او بالحج النافلة إذا أحصر وحل بالذبح هل يجب عليه القضاء فقال مالك والشافعي واحمد لا يجب عليه القضاء وقال ابو حنيفة يجب عليه

ان حلّ من حج حج وعمرة- ومن عمرة عمرة ومن قران حج وعمرتان قضاء لما فات- قال البيضاوي- اقتصاره سبحانه تعالى في الاية على الهدى دليل على عدم القضاء- وقال ابن الجوزي ان النبي صلى الله عليه وسلم احرم بالعمرة سنة ست ومعه الف واربعمائة كذا في الصحيحين ثم عاد في السنة الاخرى ومعه جمع يسير فلو وجب عليهم القضاء لنبههم على ذلك- وقد سبق الى ذلك القول الشافعىّ حيث قال قد علمنا في متواطى أحاديثهم إذا اعتمر عمرة القضاء تخلف بعضهم من غير ضرورة ولو لزمهم القضاء لامرهم- فان قيل لو لم يكن القضاء واجبا فلم سميت عمرة القضاء أجيب بانه انما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضات التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش- روى الواقدي عن ابن عمر قال لم يكن هذه العمرة قضاء ولكن كان على شرط قريش ان يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدوا فيه- لنا ان الأداء واجب بعد الشروع بالإجماع لقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ولا حاجة في وجوب القضاء الى نص جديد وقوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لا يدل الا على رخصة التحلل بعذر الإحصار لا على سقوط القضاء فلا يسقط وما احتجوا به فجوابه من وجهين أحدهما انه لا نسلم انه عاد معه في السنة الاخرى جمع يسير- ولا نسلم انه لم يأمرهم بالقضاء- وقد روى الواقدي في المغازي عن جماعة من مشائخه قالوا لما دخل «1» ذو القعدة سنة سبع امر النبي صلى الله عليه وسلم ان يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدوا عنها ولا يتخلف ممن شهد الحديبية فلم يتخلف الا من قتل بخيبر أو مات وخرج معه ناس ممن لم يشهد الحديبية وكان عدد من معه من المسلمين الفين - وخبر الواقدي في المغازي مقبول إذا لم يخالف الاخبار الصحيحة- ثانيهما ان جزم الشافعي بان جماعة تخلفوا بغير عذر انما هو مبنى على زعم الراوي وشهادته على نفى العذر غير مقبول فمن تخلف عن الخروج لعله كان له عذر وانهم قضوا عمرتهم بعد ذلك ولنا ايضا حديث حجاج بن عمر الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرج او كسر فقد حل وعليه الحج من قابل والله اعلم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ ايها المحرمون مَرِيضاً بحيث يحوجه المرض الى الحلق أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كجراحة او قمل فحلق فَفِدْيَةٌ اى فالواجب عليه فدية وكذلك الحكم على من تطيب او لبس المخيط بعذر قياسا على الحلق مِنْ صِيامٍ ثلثة ايام لانه ادنى الجمع ولا يشترط فيها التتابع لاطلاق النص

_ (1) فى الأصل ذى القعدة

أَوْ صَدَقَةٍ وهذا مجمل لحقه البيان من السنة روى البخاري عن كعب بن عجرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم راه وقمله تسقط على وجهه فقال أيؤذيك هوامّك قال نعم فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم انهم يحلون بها وهم على طمع ان يدخلوا مكة فانزل الله الفدية فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يطعم فرقا بين ستة مساكين او يهدى شاة او يصوم ثلثة ايام قلت والفرق ثلثة أصوع أَوْ نُسُكٍ جمع نسيكة اى ذبيحة أعلاها بدنة أوسطها بقرة أدناها شاة- وقوله من صيام بيان للفدية وكل هدى يلزم المحرم يذبح بمكة بالإجماع الا ما مر الخلاف في دم الإحصار فَإِذا أَمِنْتُمْ من الإحصار بان زال خوفكم من العدو او كنتم مرضى فبرئتم منه وأنتم ما أحللتم من إحرامكم او كنتم في سعة وأمن من الأصل فَمَنْ تَمَتَّعَ اى انتفع بالتقرب الى الله تعالى بِالْعُمْرَةِ فى أشهر الحج منضما إِلَى الْحَجِّ من تلك السنة فحينئذ يشتمل نظم القران التمتع والقران وقيل معناه من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام الى ان يحرم بالحج وحينئذ لا يشتمل القران وعلى هذا التأويل لا معنى للباء في قوله تعالى بالعمرة فان الاستمتاع حصل بالارتفاق بمحظورات الإحرام لا بالعمرة فالتأويل الاول اولى لفظا من أجل الباء ومعنى حيث يجب الهدى على القارن ايضا بالإجماع فَمَا اسْتَيْسَرَ يعنى فالواجب عليه شكر النعمة التمتع ما استيسر مِنَ الْهَدْيِ أدناه شاة هذا مذهب ابى حنيفة واحمد رحمهما الله فيجوز له أكله لانه دم شكر وقال الشافعي هو دم جبر لا يجوز للناسك الاكل منه- ولنا على جواز الاكل أحاديث منها حديث جابر الطويل قال فيه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وعلىّ من لحمها وشربا من مرقها وجه الاحتجاج انه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ولما امر ان يجعل من كل بدنة ببضعة فاكل منها ثبت الاكل من هدى القران والتطوع بل ثبت استحباب الاكل والا لما امر ببضعة كل منها واستدل ابن الجوزي في الباب بما روى عبد الرحمن بن ابى حاتم في سننة من حديث على قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدى التمتع ان أتصدق بلحومها سوى ما نأكل وهذا اصرح في الدلالة احتج الشافعي على حرمة الاكل من مطلق الهدايا الواجبة بحديث ناجية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله كيف اصنع بها عطب من البدن قال انحره واغمس نعله في دمه واضرب صفحه وخل بين الناس وبينه فليأكلوه- رواه مالك واحمد والترمذي

وابن ماجة وقال الترمذي حديث صحيح وفي رواية الواقدي ولا نأكل أنت ولا أحد من رفقتك منه شيئا دخل بينه وبين الناس- وكذا حديث ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر بدنة مع رجل وامره «1» الحديث- وفيه ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك- رواه مسلم وكذا حديث ذويب مثله رواه مسلم قلت لا مساس لهذه الأحاديث بالقران والتمتع لانه ليس شىء منها في حجة الوداع بل هى اما قصة الحديبية او غير ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدا هجرة سوى حجة الوداع فكيف يكون ذلك هدى تمتع بل هى هدى تطوع البتة ونحن نقول انه لا يجوز الاكل من هدى التطوع إذا عطب وذبحت فى الطريق والله اعلم ولا يجوز تقديم ذبح هدى التمتع قبل يوم النحر عنه ابى حنيفة والشافعي واحمد بل يجب ان بذبح بعد الرمي- وقال بعض اهل العلم يجوز قبل يوم النحر- لنا حديث حفصة قالت ما يمنعك يا رسول الله ان تحل معنا قال انى أهديت ولبدت ولا أحل حتى أنحر هديى- وقوله صلى الله عليه وسلم لولا انى سقت الهدى لا حللت- وقد مر الحديثان «2» - ولو كان ذبح هدى القران جائزا قبل يوم النحر لما صح اعتذاره عن عدم التحلل لسوق الهدى- والله اعلم فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى فَصِيامُ يعنى فالواجب عليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ يعنى في إحرام الحج أخرها يوم عرفة ولو صام قبل ذلك في الإحرام جاز اجماعا ولا يجوز بعد ذلك لعدم الإحرام بعد ذلك على ان الصوم يوم النحر وايام التشريق حرام فلا يتادى به الواجب في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم واليوم الاخر تأكلون فيه من نسككم- متفق عليه وكذا في المتفق عليه من حديث ابى سعيد وحديث ابى هريرة وغيرهم- وعن عمرو بن العاص انه قال لابنه في ايام التشريق انها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن وامر بفطرهن رواه ابو داود وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم- وروى مسلم عن كعب بن مالك مرفوعا ايام منى ايام أكل وشرب- وكذا عند مسلم عن بنشة الهذلي وحديث بشر بن سحيم مثله رواه النسائي بسند صحيح وحديث عقبة بن عامر رواه اصحاب السنن والحاكم وابن حبان بسند صحيح- وعند البزار عن عبد الله بن عمر مرفوعا ايام التشريق ايام أكل وشرب وصلوة فلا يصومها أحد- وفي الباب أحاديث كثيرة غيرها وقال مالك والشافعي واحمد المتمتع ان لم يجد الهدى ولم يصم قبل يوم النحر جاز له ان يصوم في ايام التشريق واما في يوم النحر فلا

_ (1) فى الأصل امراة (2) فى الأصل الحديثين-

[سورة البقرة (2) : آية 197]

يجوز اجماعا لحديث ابن عمر وعائشة قالا لم يرخص في ايام التشريق ان يصمن الا لمن لم يجد الهدى رواه البخاري- وروى البخاري عن ابن عمر رض قال الصيام لمن تمتع بالعمرة الى الحج الى يوم عرفة فان لم يجد هديا ولم يصم صام ايام منى- قالوا هذا في حكم المرفوع- قلنا لا نسلم انه في حكم المرفوع ولعل ابن عمر وعائشة افتيا يجوز الصوم في ايام التشريق استنباطا من قوله تعالى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ زعما منهما ان تلك الأيام ايضا من ايام الحج حيث يوجد بعض المناسك اعنى الرمي فيها- فان قيل ورد حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدى ان يصوم ايام التشريق- وروى الطحاوي عن عائشة- وابن عمر نحوه قلنا في حديث ابن عمر يحيى بن سلام ليس بالقوى ضعفه الدارقطني والطحاوي- وايضا فيه ابن ابى ليلى طعن الطحاوي فيه بفساد الحفظ وحديث عائشة ايضا ضعيف فكيف يصادم أحاديث النهى قال الطحاوي قد توارت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصيام وهو مقيم بمنى والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون- قلت بل كانوا كلهم متمتعين او قارنين فانه امر صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج الى العمرة في تلك السنة ثم بالإحرام يوم التروية فائدة وتأويل الاية على قول مالك والشافعي واحمد صيام ثلثة ايام في اركان الحج او ايام الحج قلت وهذا التأويل لا يصح فان اركان الحج لا يتصور ظرفا للصيام وايام الحج قد انتهت بعرفة كما سيجيئ ان المراد به بقوله تعالى. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ شهران وتسعة ايام او عشرة ليال الى طلوع الصبح يوم النحر وايضا قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ يستلزم ان لا يكون ايام التشريق فى الحج فانها ايام كل وشرب ورفث يعنى جماع ويجوز فيه الصيد وغير ذلك والله اعلم ومن قدر على الهدى في خلال الصوم او بعده قبل الحلق يجب عليه الذبح خلافا لمالك والشافعي واحمد لنا انه قدر على الأصل قبل تادى الحكم بالخلف فصار كمن وجد الماء وهو يصلى بالتيمم وان وجد المهدى بعد الحلق وقد صام ثلثة ايام لا يجب الهدى عليه اتفاقا كمن وجد الماء بعد الصلاة بالتيمم- وان فاتت صوم الثلاثة في الحج تعين الدم- وقال مالك والشافعي يقضى تلك الثلاثة بعد الحج بناء على انه قضاء بمثل معقول- وقلنا ان الصوم بدل من الهدى والابدال لا ينصب الا شرعا

ولا يتصور الصوم ان يكون بدلا عن الهدى الا بخصوصيات منصوصة والله اعلم وَصيام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ اى فرغتم من اعمال الحج عند ابى حنيفة رحمه الله واحمد رحمه الله- وقال مالك وهو قول للشافعى اى خرجتم من مكة قاصدين أوطانكم والمشهور من مذهب الشافعي وهو رواية عن احمد إذا رجعتم الى أهلكم اى وصلتم الى أوطانكم- قال الشافعي الرجوع هو الرجوع الى اهله فلا يجوز قبل ذلك وقال مالك إذا خرج من مكة الى اهله صدق انه رجع فجاز له الصيام قبل الوصول الى الأهل وقال ابو حنيفة الرجوع هو الفراغ من الحج الم تر انه من توطن بمكة بعد الحج او لم يكن له وطن جاز له الصيام بمكة اجماعا فكذا من كان له وطن غير مكة لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والله اعلم تِلْكَ عَشَرَةٌ ذكره على سبيل التأكيد لئلا يتوهم ان الواو بمعنى او وان يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فان اكثر العرب لم يكونوا يحسنون الحساب كامِلَةٌ صفة مؤكدة- مفيد المبالغة في محافظة العدد ذلِكَ اى التمتع جائر لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فلا يجوز التمتع للمكى كذا قال ابو حنيفة رحمة الله وعند مالك والشافعي واحمد يجوز للمكى التمتع ايضا لكن لا يجب عليه الهدى قالوا المشار اليه بذلك الحكم بوجوب الهدى لنا ان اللام في قوله تعالى لِمَنْ لَمْ يَكُنْ وليل على تأويلنا لان اللام يستعمل فيما يجوز لنا ان نفعله ولذا قلنا في تقديره جاز ولو كان المشار اليه وجوب الهدى كان تقديره يجب فكان المناسب حينئذ كلمة على وما ذكرنا من التأويل مروى عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس رضى الله عنهم روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر انه سئل عن متعة الحج فقال ان الله أنزله في كتابه وسنة نبيه واباحه للناس غير اهل مكة قال الله تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ- وقال ابن همام صح عن عمر انه قال ليس لاهل مكة تمتع ولا قران- والمراد ب حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عند ابى حنيفة رحمه الله ان يكون دون الميقات وبه قال عكرمة وقال الشافعي كل من كان وطنه من مكة على اقل من مسافة السفر- وقال طاؤس وطائفة هم اهل الحرم لان المسجد غير مراد اجماعا فالمراد به الحرم كما في قوله تعالى هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ وقوله تعالى الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ- وقال مالك

المراد به اهل مكة بعينها- وبه قال نافع والأعرج واختاره الطحاوي من الحنفية والله اعلم فان تمتع المكي يجب عليه عند ابى حنيفة دم جبر لارتكابه المحظور وهذا لدم لا يقوم الصوم مقامه ولا يجوز المناسك الاكل منه وقال الشافعي وغيره لا يجب عليه شىء وَاتَّقُوا اللَّهَ فى أوامره ونواهيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) اعلم ان الله سبحانه ذكر في هذه الاية من المناسك الحجّ والعمرة وذكر أداء كل منهما مفردا وأوجب إتمامهما ثم ذكر أداءهما مجتمعا وهو التمتع- ثم ثبت بالسنة ان الجمع على وجهين- أحدهما ان يحرم بهما جميعا ويحل منهما جميعا وهو القران- ثانيهما ان يحرم بالعمر ولا ثم يحل بعد أداء العمرة ويسكن بمكة حلالا وذلك إذا لم يسق الهدى ثم يحرم يوم التروية للحج من مكة مفردا ويحل يوم النحر- ويسمى هذا عند الفقهاء تمتعا وكل ذلك جائز اجماعا لا خلاف فيه- انما الخلاف في انه ايها أفضل- وفي ان النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فارنا في حجة الوداع او متمتعا او مفردا- وفي ان القارن هل يكفيه طواف واحد وسعى واحد للحج والعمرة جميعا كما قال به الجمهور او لا بد له من طوافين «1» وسعيين كما قال به ابو حنيفة وهذه أبحاث طويلة ذكرناها في منار الاحكام والتحقيق انه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وان القران أفضل من التمتع ان ساق الهدى- والتمتع أفضل ان لم يسق الهدى وكل منهما أفضل من الافراد- وانه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة ثم لم يقرب الكعبة بطوافه بها حتى رجع من عرفة رواه البخاري قلت وذلك الطواف والسعى كان لعمرته وكفاه عن طواف القدوم لحجه- وكان ذلك الطواف والسعى ماشيا- كما هو مصرح في حديث حبيبة بنت ابى تجراه وابن عمر وجابر عند مسلم وغيره ثم انه صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة ثانيا بعد طواف الزيارة كما يدل عليه حديث جابر قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسئلوه رواه مسلم- وفي رواية طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه الحديث- هذا ما حصل لى بعد جمع الروايات المختلفة والله اعلم الْحَجُّ اى وقت الحج بل وقت إحرام الحج فان وقت اركان الحج انما هو يوم عرفة ويوم النحر لا غير أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ اخرج الطبراني عن ابى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شوال وذو القعدة وذو الحجة- قلت المراد شوال وذو القعدة

_ (1) فى الأصل طوافين

وتسع من ذى الحجة الى طلوع الفجر من يوم النحر- ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة قال البغوي كل واحد من اللفظين صحيح والمال واحد غير مختلف فيه فمن قال عشر عبر عن الليالى ومن قال تسع عبر عن الأيام- وانما قال اشهد بلفظ الجمع لانها وقت والعرب تسمى الوقت تاما بقليله وكثيره- قال الله تعالى- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وانما اسرى في بعض الليل- وهذا هو محمل لما روى عن عمر انه قال شوال وذو القعدة وذو الحجة- وقال عروة بن الزبير وغيره أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة كملا لانه يبقى على الحاج امور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الذبح والرمي والحلق وطواف الزيارة والمبيت بمنى ورمى الجمار في ايام التشريق فكانت في حكم الحج- قلت هذه الافعال كلها ينتهى الى ثالث عشر من ذى الحجة فكيف يعد ذو الحجة بهذا التوجيه كاملا- وقال البيضاوي وذو الحجة كله من أشهر الحج بناء على ان المراد بالوقت عنده ما لا يحسن فيه غيره من المناسك وقال فان مالكا يكره العمرة في بقية ذى الحجة- قلت وهذا غير مستقيم فان العمرة في أشهر الحج للافاقى غير مكروه اجماعا- وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اربع عمر كلها في ذى القعدة وكذا للمكى عند مالك والشافعي فان التمتع للمكى عندهما جائز كما ذكرنا- وهذه الاية حجة للشافعى حيث قال لا يجوز إحرام الحج قبل الأشهر وان احرم انعقد الإحرام للعمرة- وقال داود- من احرم للحج قبل الأشهر لغى ولا ينعقد أصلا- وقال ابو حنيفة ومالك واحمد ان احرم قبل الأشهر للحج انعقد لكنه يكره- وجه قول ابى حنيفة ومن معه ان الإحرام شرط للحج ليس بركن ومن ثم جاز الإحرام مبهما ثم صرفه الى ما شاء من حج او عمرة او قران يدل عليه حديث انس بن مالك قال قدم علىّ على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال بما أهللت فقال بما اهل به النبي صلى الله عليه وسلم- وحديث ابى موسى قال أهللت كاهلال النبي صلى الله عليه وسلم- والحديثان في الصحيحين- وإذا ثبت انه شرط جاز تقديمه على الوقت كالوضوء للصلوة لكن فيه شبه بالأركان فاذا أعتق العبد بعد ما احرم قبل يوم عرفة لا ينادى فرضه- ولذا قلنا بالكراهة وإذا سمعت ان وقت إحرام الحج أشهر معلومات لا وقت الأركان فان وقت أركانه يومان فحسب فحينئذ الظاهر قول الشافعي فان الإحرام وان كان شرطا

للحج لا ركنا له والشرط وان جاز تقديمه على وقت المشروط لكن لا يجوز تقديمه على وقت نفسه- كما ان العشاء شرط لاداء الوتر فمن ادى العشاء قبل غروب الشفق لا يجوز وتره لا لانه ادى العشاء قبل وقت الوتر بل لانه ادلها قبل وقت نفسها والله اعلم فَمَنْ فَرَضَ اى أوجب على نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ يعنى احرم بالحج اختلفوا في ان الإحرام ما هو- فقال مالك والشافعي واحمد انما هو النية بانقلب كما في الصوم ولا يشترط فيه التلبية- الا ان مالكا قال التلبية عند الإحرام واجب يلزم بتركه دم وهى رواية عن احمد والشافعي والمشهور عنهما ان التلبية سنة- وقال ابو حنيفة الإحرام هو التلبية مع النية كالتكبير في الصلاة وهى رواية عن الشافعي- لنا ان القياس بالصلوة أشبه منه بالصوم- وروى عن ابن عباس في تأويل هذه الاية انه قال فرض الحج الإهلال- وقال ابن عمر التلبية- وروى ابن ابى شيبة قول ابن مسعود كقول ابن عمر- ولنا قوله صلى الله عليه وسلم يهل اهل المدينة من ذى الحليفة الحديث- متفق عليه من حديث ابن عمر وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة امر بالإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية والأمر للوجوب فهو حجة على من لم يقل بوجوبه- ثم انه صلى الله عليه وسلم عبّر الإحرام بالإهلال فظهران الإحرام هو التلبية- لكن يقول ابو حنيفة- من قلد بدنة وتوجه معها يريد الحج فقد احرم وان لم يلب- جعل الفعل مكان القول فان الذكر كما يحصل بالقول يحصل بالفعل الا ترى انه من سمع الاذان للصلوة فمشى الى الصلاة على الفور كان هذا المشيء مكان جواب الاذان فان اجابة الداعي بالفعل أقوى منه بالقول- وليس معنى التلبية الا الألباب والقيام الى الطاعة والله اعلم- واستدل صاحب الهداية على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم من قلد بدنة فقد احرم- وهذا الزبير قال ابن همام وقفه ابن ابى شيبة في مصنفه على ابن عباس وابن عمر قلت لا مساس لهذين الأثرين بالمدعى لانه كان مذهب ابن عباس وابن عمر انه من بعث الى مكة هديا وهو لا يريد الحج فهو إذا قلد هديا يحرم عليه ما يحرم على المحرم حتى ينحر هديه بمكة وهو المراد بقول ابن عباس وابن عمر من قلد هديا فقد احرم وكذا روى عن غيرهما من الصحابة ثم انعقد الإجماع على خلاف ذلك- روى البخاري في صحيحه ان زياد بن ابى سفيان كتب الى عائشة ان عبد الله بن عباس قال من اهدى هديا حرم عليه

ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه- فقالت عائشة ليس كما قال ابن عباس انا قتلت قلائد هدى النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ثم فلذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعث بها مع ابى فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء أحل الله له- قال الحافظ كان ذلك سنة تسع فلا يظن ظان انه كان أول الإسلام ثم نسخ فَلا رَفَثَ تقى بمعنى النهى يعنى فلا ترفثوا والرفث هو الجماع- وقال الزجاج هى كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء- وقيل الرفث الفحش والقول القبيح قلت وذلك حرام ابدا لا وجه لتعليقه بالإحرام وَلا فُسُوقَ قال ابن عمر هو ما نهى عنه المحرم يعنى لا تركبوا محرمات الإحرام وهى ستة أشياء اجماعا- منها الرفث يعنى الوطي ودواعيه أفرده الله تعالى بالذكر لشدة امره فان الجماع يفسد الحج والعمرة اجماعا بخلاف غيره من المحظورات حيث يلزم بها الدم لكن إذا كان الجماع بعد الوقوف بعرفة ففى إفساده الحج خلاف ولا خلاف في حرمته- ومنها قتل صيد البر والاشارة اليه والدلالة عليه قال الله تعالى لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... - وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً- وسيجيئ البحث عنه في سورة المائدة ان شاء الله تعالى ومنها ازالة الشعر والظفر قال الله وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ- وقتل القمل المتولد من الوسخ ملحق بالشعر- ومنها استعمال الطيب في الثوب او البدن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا شيئا مسّه زعفران او ورس- متفق عليه عن ابن عمر- وهذه الأشياء عامة حرمتها للرجال «1» والنساء- ومنها ما اختص بالرجال وهو أمران لبس المخيط والخفين الا انه من لم يجد النعلين فيلبس الخفين ومن لم يجد الإزار فيلبس السراويل كذا في المتفق عليه من حديث ابن عباس وعن جابر نحوه وتغطية الرأس واما تغطية الوجه فيعم الرجال والنساء عند ابى حنيفة ومالك رحمهما الله وقال الشافعي واحمد بل يختص بالنساء لقول ابن عمر إحرام الرجل في راسه وإحرام المرأة في وجهها- رواه الدارقطني والبيهقي وقد روى مرفوعا ولا يصح ولحديث عثمان ابن عفان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخمر وجهه وهو محرم رواه الدارقطني وقال الدارقطني الصواب انه موقوف- فى المؤطا عن الفراقصة انه راى عثمان بالعرج يغطى وجهه وهو محرم- ولنا حديث ابن عباس في قصة رجل- وقصته راحلته وهو محرم قال عليه الصلاة والسلام لا تخمروا رأسه ولا وجهه فانه يبعث يوم القيمة ملبيا- رواه مسلم والنسائي وابن ماجة والسابع ما اختلفوا في حرمتها في الإحرام وهو عقد النكاح فقال مالك والشافعي و

_ (1) فى الأصل الرجال

احمد لا يجوز للمحرم ان يعقد النكاح لنفسه او لغيره او يؤكل النكاح غيره- وان ارتكب لا ينعقد- لحديث عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المحرم لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب- رواه مسلم وابو داود وغيرهما- وقال ابو حنيفة يجوز وينعقد لحديث ابن عباس قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف- متفق عليه وأجاب الجمهور بانه اختلف الرواية في نكاح ميمونة روى مسلم في صحيحه عن يزيد بن الأصم قال حدثتنى ميمونة بنت الحارث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتى وخالة ابن عباس- قالوا وحديث ميمونة نفسها أرجح فانها كانت اعرف بحالها عن ابن عباس ولو تعارضت الرواية في نكاح ميمونة بقي حديث عثمان سالما عن المعارضة- على ان حديث عثمان قولى وقصة ميمونة فعل منه عليه السلام يحتمل التخصيص به صلى الله عليه وسلم وكان للنبى صلى الله عليه وسلم في باب النكاح خصوصيات لم يكن لغيره- وقال ابن عباس الفسوق «1» هو المعاصي كلها والظاهر هو الاول فان ذلك لا يختص بالحج قرا ابن كثير وابو عمر وبالرفع والتنوين بابطال عمل لا بالتكرار في فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والباقون بالنصب من غير تنوين ونظيره في جواز الامرين لا حول ولا قوة الا بالله وَلا جِدالَ قرا ابو جعفر بالرفع والتنوين والباقون بالنصب- كان اهل الجاهلية يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم ان موقفه موقف ابراهيم ويتجادلون فيه فبعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة- وكان بعضهم يحج في ذى القعدة وبعضهم في ذى الحجة- وكل يقول ما فعلته هو الصواب فقال الله تعالى وَلا جِدالَ اى استقر امر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه يعنى لا تختلفوا فيه- وقال مجاهد معناه ولا شك في الحج انه في ذى الحجة فابطل النسيء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ان الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض الحديث متفق عليه من حديث ابى بكرة فِي الْحَجِّ خبر لما قبله وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به حث على الخير بعد النهى عن الشر وَتَزَوَّدُوا روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان اهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فاذا قدموا مكة سالوا الناس- وقال البغوي انما يفضى حالهم الى النهب والغضب فانزل الله تعالى وتزوّدوا يعنى تزودوا ما تبلغون به وتكففون وجوهكم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى

_ (1) اخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفث التعرض النساء بالجماع والفسوق بالمعاصي والجدال جدال الرجل صاحبه عنه رحمه الله [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 198]

اى ما يتقيكم عن السؤال والنهب ونحو ذلك وَاتَّقُونِ قرا ابو عمر وبإثبات الياء وصلا فقط والباقون بالحذف وصلا ووقفا يا أُولِي الْأَلْبابِ (317) فان اقتضاء اللب خشية الله القريب الغالب-. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا فَضْلًا عطاء ورزقا مِنْ رَبِّكُمْ بالتجارة ونحو ذلك في سفر الحج روى البخاري عن ابن عباس قال ثلاث كانت اسواقا في الجاهلية عكّاظ- ومجنة- وذو المجاذ فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فانزل الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فى مواسم الحج قال البغوي كذا قرا ابن عباس واخرج احمد وابن ابى حاتم وابن جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن ابى امامة التيمي قال قلت لابن عمر انا قوم نكرى في هذا الوجه يعنى الى مكة فيزعمون ان لا حج لنا فقال ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون قلت بلى قال أنت حاجّ جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فساله عن الذي سالتنى عنه فلم يجب بشىء حتى نزل جبرئيل بهذه الاية فَإِذا أَفَضْتُمْ دفعتم والافاضة دفع بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة جمعت بما حولها وسميت بها وهى بقعة واحدة- وانما سمى الموقف عرفات واليوم عرفة لانه نعت لابراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه أخرجه ابن جرير عن السدى- او لانه كان جبرئيل يدور به في المشاعر فلما أراه قال عرفت أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وعلى- وذكر البغوي قال عطاء وذكر البغوي ايضا انه قال الضحاك ان آدم عليه السلام لما اهبط الى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا- وقال السدى لمّا اذّن ابراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه امره الله ان يخرج الى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصياة يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر قطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر فلما راى الشيطان انه لا يطيقه ذهب فانطلق ابراهيم حتى اتى ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا امسى ازدلف الى جمع فسمى المزدلفة- وروى عن ابى صالح عن ابن عباس ان ابراهيم راى ليلة التروية في منامه انه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روّى يومه اجمع اى فكر أمن الله هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمى اليوم يوم التروية ثم راى ذلك ليلة عرفة ثانيا

[سورة البقرة (2) : الآيات 199 إلى 200]

فلما أصبح عرف ان ذلك من الله فسمى عرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وهو ما بين جبلى المزدلفة من مازمى عرفة الى محسر وليس المازمان ولا المحسر من المشعر- سمى مشعرا من الشعار وهو العلامة لانه من معالم الحج- واصل الحرام من المنع وهو في الحرم فهو ممنوع من ان يفعل فيه ما لم يؤذن فيه- وسمى المزدلفة جمعا لانه يجمع فيه بين صلوتى العشاء. وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة- ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم- عرفة كلها موقف وارتفعوا من بطن عرفة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا من بطن محسر- رواه الطبراني والطحاوي والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا وقال صحيح على شرط مسلم- ورواه البيهقي موقوفا ومرفوعا وفي الباب عن جابر وجبير بن مطعم وابى هريرة وابى رافع وفي إسنادها مقال ورواه مالك في المؤطا بلاغا وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ كما علمكم او كما هديكم هداية حسنة الى المناسك وغيره يعنى اذكروه بالتوحيد لا كما كان الكفار يذكرونه بالشرك وما مصدرية او كافة وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ اى قبل الهدى لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) اى من المشركين او الجاهلين بالايمان والطاعة وان مخففة واللام هى الفارقة- وقيل ان نافية واللام بمعنى الا مثل إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ-. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ- اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كانت العرب تقف بعرفة- وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة فانزل الله- ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ- واخرج ابن المنذر عن اسماء بنت ابى بكر قالت كانت قريش تقف بالمزدلفة وتقف النّاس بعرفة الا شيبة بن ربيعة فانزل الله هذه الاية- قال البغوي كانت قريش وهم الحمس وحلفاوهم يتعظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات ويقولون نحن اهل الله ووطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه- وسائر الناس يقفون بعرفات فاذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فامرهم الله تعالى ان يقفوا بعرفات ويفيضوا منها الى جمع مع سائر الناس وأخبرهم انه سنة ابراهيم وإسماعيل- فالمراد بالناس على هذه الروايات العرب كلهم غير الحمس- وقال الضحاك الناس هاهنا ابراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وأراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده وكذا في قوله تعالى قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والمراد بالناس الاول نعيم بن مسعود الأشجعي- وقال الزهري الناس هاهنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير ثمّ

أفيضوا من حيث أفاض النّاسى بالياء وهو آدم عليه السلام نسى عهد الله- وقيل معنى الاية ثمّ يعنى بعد افاضتكم من عرفات أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يعنى من المزدلفة الى منى والاول قول اكثر المفسرين لكن يشكل على الاول لفظ ثم لانه مقدم على الوقوف بالمشعر الحرام فقيل ثم هاهنا بمعنى الواو- والاوجه ان كلمة ثم هاهنا لتفاوت ما بين الافاضتين رتبة فان الافاضة من عرفات فريضة ركن للحج اجماعا يفوت الحج بفواته بخلاف الوقوف بالمزدلفة فانه ليس بركن للحج اجماعا الا ما روى عن ليث وعلقمة فانهما قالا بركنيته- ونظيرها في القران فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا- فان مقتضى هذه الاية ان الايمان أعظم درجة من سائر الحسنات والله اعلم. ثم بعد ما اجمعوا على ان الوقوف بمزدلفة ليس بركن اختلفوا في انه واجب يجب بفواته الدم او سنة فقال الشافعي رحمه الله سنة وقال الجمهور واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في القدر الواجب منه فقال ابو حنيفة الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر واجب- وقال مالك المبيت بمزدلفة ليلة النحر ولو ساعة واجب- وقال احمد المبيت ما بعد نصف الليل واجب وهذه الاية حجة للقائلين بالوجوب على الشافعي فان قوله تعالى فَإِذا «1» أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ- يدل بعبارته على وجوب الوقوف بمزدلفة وبإشارته على وجوب الوقوف بعرفات فان سوق الكلام للامر بالذكر عند المشعر الحرام والافاضة من عرفات شرط له فهذا اولى بالوجوب فان قيل الذكر غير واجب اجماعا فالامر بالذكر انما هو للاستحباب فكيف يحتج به في الخلافية وهو وجوب الوقوف بمزدلفة قلنا الذكر عبارة عن طرد الغفلة وذلك كما يحصل بالقول باللسان يحصل بالعمل بالجوارح ايضا قال صاحب الحصين كل مطيع لله ذاكر فالوقوف بمزدلفة بنية العبادة ذكر لا محالة وهو المامور به فهو واجب- ثم التلبية والدعاء وصلوة العشاءين والفجر لازم للوقوف وكل ذلك ذكر فيمكن ان يطلق اللازم ويراد به الملزوم كما في قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ يعنى صلوا ما تيسر- ويؤيد مذهبنا من السنة حديث عروة بن مضرس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- من شهد صلاتنا هذه يعنى الفجر يوم النحر بمزدلفة ووقف معنا حتى ندفع ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا او نهارا فقدتم حجه- رواه اصحاب السنن الاربعة وابن حبان والحاكم وقال

_ (1) فى الأصل إذا

صحيح على شوط كافة اهل الحديث- علق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الحج به فهو دليل الوجوب- وروى النسائي الحديث المذكور بلفظ من أدرك جمعا مع الامام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج ومن لم يدرك مع الامام والناس فلم يدرك الحج- ولابى يعلى ومن لم يدرك جمعا فلا حج له- وهذا الحديث حجة لابى حنيفة في قوله الواجب الوقوف بعد الصبح- وايضا في هذه الاية احتجاج لابى حنيفة على وجوب الوقوف بعد الصبح لان الوقوف بمزدلفة مرتب على الوقوف بعرفات بمقتضى هذه الاية والإجماع انعقد على ان وقت الوقوف بعرفات الى اخر الليل فمن وقف بعرفة الى آخر ليلة النحر ولو ساعة فقد أدرك الحج فحينئذ لا بد ان يكون وقت الوقوف يجمع بعد الصبح- وحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات فاقبل أناس من اهل نجد فسالوه عن الحج قال الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل صلوة الصبح فقد أدرك الحج ايام منى ثلاثة ايام التشريق فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ- رواه الطحاوي وفي هذه الحديث حجة لمالك في وجوب المبيت بمزدلفة قبل الصبح لكن هذا الحديث رواه اصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي بلفظ- الحج عرفة من جاء قبل صلوة الصبح من ليلة جمع فقد ثم حجه وهذا الفظ لا يدل على الوقوف بمزدلفة والحجة لاحمد على وجوب المبيت بمزدلفة انه صلى الله عليه وسلم بات بمزدلفة ووقف بعد صلوة الصبح وقال- خذوا عنى مناسككم- فكان مقتضى هذا الاستدلال ان يكون المبيت والوقوف بعد الصبح كلاهما واجبين لكن لما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفة اهله في الرواح من مزدلفة الى منى من اخر الليل ظهران الوقوف بعد الصبح غير واجب روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس انا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة اهله- وفي الصحيحين عن اسماء بنت ابى بكر ان النبي صلى الله عليه وسلم اذن للظعن يعنى في الرواح الى منى من الليل بعد غروب القمر- وفي الباب في الصحيحين عن ابن عمر وكذا في الصحيح عن أم حبيبة- قلنا الرخصة للضعفاء لا ينفى الوجوب عن الأقوياء- فان قيل مقتضى هذه الاية وجوب الوقوف بعرفة وكذا وجوب الوقوف بمزدلفة- وليس الوقوف بمزدلفة ركن فهم تقولون ان الوقوف بعرفة ركن قلنا بالإجماع على فوات الحج بفوات عرفة دون المزدلفة- وسند الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم والحج عرفة- وحديث الآحاد يصلح سند الإجماع ولعل اهل الإجماع أخذوا ركنية عرفات من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله اعلم واختلفوا في وقت

الوقوف بعرفة فقال احمد وقته من طلوع الفجر الثاني يوم عرفة- وقال ابو حنيفة والشافعي بعد الزوال يوم عرفة- وقال مالك أول وقته من غروب الشمس ليلة النحر الى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر اجماعا- احتج مالك بما مر من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قوله صلى الله عليه وسلم من جاء قبل صلوة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه- ولاحمد حديث عروة بن مضرس وفيه واتى عرفات قبل ذلك ليلا او نهارا فقد تم حجه- ولابى حنيفة والشافعي حديث جابر عند مسلم وغيره انه صلى الله عليه وسلم ركب الى منى يوم التروية فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت «1» الشمس فامر بقبة من شعر فضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل حتى إذا لاغت الشمس امر بالقصوى فرحلت له واتى بطن الوادي الحديث- ولو كان وقت الوقوف قبل الزوال لبادر اليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فى قبته وأجيب بان ذلك يدل على الافضلية ولا يدل على انه من وقف قبل الزوال لا يجزيه- وكذا حديث سالم بن عبد الله ان عبد الله بن عمر جاء الى الحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس وانا معه فقال الرواح ان كنت تريد السنة فقال هذه الساعة قال نعم- والله اعلم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ على ما فعلتم في جاهليتكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ اى فرغتم من اركان الحج ومناسكها وذلك يوم النحر بعد رمى جمرة العقبة والذبح والحلق والطواف والسعى اعلم ان اركان الحج الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيادة بالإجماع وقال الشافعي السعى والحلق ايضا وقد مر بحث السعى وسنذكر بحث الحلق في سورة الحج ان شاء الله تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتكبير والتحميد والثناء عليه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ وذلك ان العرب كانوا إذا فرغوا من الحج وقفوا عند البيت فذكروا مفاخر ابائهم فامرهم الله تعالى بذكره فان الله تعالى مولى النعم إليهم والى ابائهم وهو خالقهم دون ابائهم فهو اولى بالذكر قال الله تعالى أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ- قال ابن عباس وعطاء معناه فَاذْكُرُوا اللَّهَ كذكر الصبيان الصغار الآباء- قلت وعلى هذا كان ذكر الأمهات اولى من الآباء أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً يعنى بل أشد ذكرا- وأشد اما مجرور معطوف على الذكر يعنى واذكروا الله ذكرا كذكركم او كذكر أشد منه ذاكرية- او على ما أضيف اليه يعنى كذكر قوم أشد منكم ذاكرية- واما منصوب بالعطف على ابائكم فحينئذ

_ (1) فى الأصل طلع الشمس

[سورة البقرة (2) : آية 201]

ذكرا مصدر بمعنى المفعول يعنى- او كذكركم أشد مذكورية من ابائكم- او التقدير كونوا أشد ذكرا لله منكم لابائكم فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يعنى من كان طمعه الدنيا فقط وهم المشركون المنكرون للبعث يقولون رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حذف المفعول الثاني ايماء على التعميم يعنى اتنا في الدنيا كل شىء او كل ما تعطيناه آتناه في الدنيا- كان المشركون لا يسئلون في الحج الا الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) من نصيب. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً التنكير للتعظيم يعنى حسنة عظيمة هو اخلاص العمل لله والعافية ويحتمل ان يراد به جنس الحسنة عموما والنكرة في الإثبات قد تعم بمصاعدة المقام والقرينة كما في قوله صلى الله عليه وسلم تمرة خير من جرادة يعنى كل تمرة خير من كل جرادة- فاعطاء التمرة في جزاء قتل الجرادة يكفى للمحرم فهذه الاية نظير ما ورد في السنة اللهم انى أسئلك من الخير كله عاجله واجله ما علمت منه وما لم اعلم وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وهى رضوان الله تعالى او كل شىء من نعماء الاخرة وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) بالعفو والمغفرة روى البغوي بسنده عن انس رضى الله عنه قال راى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشىء او تسئله إياه قال يا رسول الله كنت أقول اللهم ما كنت معاقبى به في الاخرة فعجله لى في الدنيا فقال سبحان الله لا تستطيعه او لا تطيقه هلا قلت رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ وعنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ان يقول رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ- متفق عليه وعن عبد الله بن السائب انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بنى جمح والركن الأسود رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ- رواه ابو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وابن ابى شيبة- وروى ابو الحسن بن الضحاك عن انس رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دعا بمائة مرة يفتح بها ويختم بها رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ولو دعا بدعوتين لجعلها أحدهما- وروى تقى بن مخلد عنه قال- كان في أول دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي وسطه وفي آخره اللهم اتنا في الدّنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النّار. أُولئِكَ اشارة الى القريق الثاني وقيل إليهما لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا سمى الدعاء كسبا لانه من الأعمال

[سورة البقرة (2) : آية 203]

وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) قال الحسن اسرع من لمح البصر وقيل معناه إتيان القيامة قريب فاطلبوا الاخرة-. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهى ايام التشريق سميت معدودات لقلتهن كذا روى عن ابن عباس وغيره ويدل على ذلك قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ من ايام التشريق يعنى استعجل في النفر ونفر في ثانى ايام التشريق- اتفقوا على انه من لم ينفر ودخل عليه الثالث من ايام التشريق وجب عليه رمى ذلك اليوم واختلفوا في انه هل يعتبر دخول الليلة الثالثة من ليالى ايام التشريق او الثالث من أيامها فقال الجمهور المعتبر دخول الليل فمن اقام بمنى حتى دخلت الليلة الثالثة لا يحل له النفر حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث- وقال ابو حنيفة لا يجب ذلك حتى يصبح بمنى وله ان ينفر من الليل وإذا طلع الفجر لزمه الرمي- قال ابو حنيفة وقت الرمي انما هو النهار فمن نفر من الليل كان كمن سافر قبل وقت الجمعة- وقال غيره الليل وان لم يكن وقت المرمى فهو وقت للمبيت والمبيت بمنى واجب فبعد دخول الليل وجب المبيت فلا يحل النفر- والله اعلم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فانه أخذ بالرخصة وَمَنْ تَأَخَّرَ فى النفر حتى يرمى اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهو اولى وأفضل وفيه رد على اهل الجاهلية كان منهم من اثم المتعجل ومنهم من اثم المتأخر لِمَنِ اتَّقى اى هذه الاحكام لمن اتقى فانه هو المنتفع به- وقيل لمن اتقى ان يصيب في حجه شيئا مما نهاه الله عنه رجع مغفورا لا ذنب عليه سواء تعجل في النفر او تأخر قال البغوي هذا قول على وابن مسعود رضى الله عنهما- ويؤيده من المرفوع قوله صلى الله عليه وسلم من حج لله ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه- متفق عليه من حديث ابى هريرة وعنه في الصحيحين مرفوعا الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة- وعن ابن مسعود قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكبير خبث الحديد رواه الشافعي والترمذي وعن عمر ونحوه رواه احمد اعلم ان المقام بمنى ايام التشريق والمبيت بها في لياليها وكذا الرمي ليس بركن اجماعا لقوله تعالى فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ فان الترتيب والتعقيب يدل على المغائرة- واختلفوا فى وجوبها فقال احمد المبيت والرمي كلاهما واجبان- وقال مالك المقام والمبيت واجب والرمي سنة مؤكدة- وقال ابو حنيفة بالعكس وهو رواية عن احمد- وللشافعى قولان أحدهما كاحمد والثاني كابى حنيفة- وقال بعضهم انما شرع الرمي حفظا للتكبير فان ترك وكبر أجزأه حكاه ابن جرير

عن عائشة وغيرها وهذا المذهب يوافق ظاهر الاية لكنه خلاف ما استقر عليه الإجماع احتج احمد بهذه الاية وقال هذه الاية يحتمل إيجاب الامرين وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم التحق بيانا لاجمالها وقد قال عليه السلام خذوا عنى مناسككم- وقال ابو حنيفة- المقصود بالمقام والمبيت هو الرمي بدليل ما رواه البخاري عن ابن مسعود انه رمى من بطن الوادي فقيل له ان نا ساير مونها من فوقها فقال والذي لا الله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة فان هذا القول اشارة الى ان هذه الاية في الرمي لا غير- وما رواه عاصم بن عدى قال- أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة بمنى يرمون يوم النحر ثم- يرمون الغدو من بعد الغد ثم يرمون يوم النفر- رواه مالك وغيره وفي النسائي رخص للرعاء فى البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين الذين بعده يجمعونهما في أحدهما- قال مالك تفسير الحديث انهم يرمون يوم النحر فاذا مضى اليوم الذي يلى يوم النحر رموا من الغد وذلك اليوم النفر الاول يرمون اليوم الذي مضى قضاء ثم يرمون ليومهم وجه الاحتجاج ان إيجاب قضاء الرمي دون المبيت دليل على وجوب الرمي مقصودا وعدم وجوب المبيت الا تبعا للرمى- قال احمد الترخيص في المبيت للرعاء للضرورة لا يدل على عدم الوجوب مطلقا بل يدل على الوجوب فان الرخصة لا يكون الا فيما هو واجب- والحجة لمالك انه قد روى عن عمر وابنه انهما كانا يكبران تلك الأيام خلف الصلوات وفي المجالس وعلى الفراش والفسطاط وفي الطريق ويكبر الناس بتكبيرهما ويتاولان هذه الاية- وجه الاحتجاج ان الذكر في ايام التشريق مطلقا سواء كان بمنى او غيره ليس بواجب اجماعا بل هو مقيد بمنى يدل عليه قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ يعنى في النفر الاية ولا شك ان المقام هناك بنية التقرب ذكر وانضمام الذكر اللساني اولى وأفضل فمحمل الاية هو المقام بمنى دون الرمي قلنا هذا لا ينافى ان يكون محمل الاية كلا الامرين المقام والرمي كما لا يخفى والله اعلم واعلم انه ثبت بالسنة وهو بيان لا جمال الاية ان الرمي يوم النحر في جمرة العقبة بسبع حصيات ووقته من طلوع الفجر يوم النحر عند ابى حنيفة ومالك- ومما بعد نصف الليل من ليلة النحر عند احمد والشافعي- ومن طلوع الشمس يوم النحر عند مجاهد والحجة لمجاهد حديث ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم ضعفة اهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس- رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح- قلنا هذا محمول على الاستحباب ويدل على الجواز بعد الصبح قبل طلوع الشمس ما رواه الطحاوي بأسانيده عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع النقل وقال لا ترموا

الجمرة حتى تصبحوا «1» - وهو حجة لنا على الشافعي واحمد في عدم جواز الرمي قبل الصبح- وما احتج به الشافعي واحمد من حديث عائشة قالت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فافاضت- رواه الدارقطني حديث ضعيف في سنده لا ضحاك بن عثمان لينه القطان ثم هو محمول على انها «2» رمت قبل صلوة الفجر لا قبل طلوع الفجر فهو حجة لنا على مجاهد- واخر وقته عند ابى يوسف الى الزوال لانه صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة- يوم النحر ضحوة- وعند الجمهور الى الغروب لحديث ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يسئل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج- فساله رجل فقال حلقت قبل ان اذبح قال اذبح ولا حرج- قال رميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج- رواه البخاري وغيره ومعنى قوله بعد ما أمسيت اى بعد الزوال إذ المساء يطلق على بعد الزوال وليس المراد بعد الغروب لان يوم النحر يطلق قبل الغروب لا بعده وفي بعض طرق الحديث صريح ان السؤال كان وقت الظهر- واخر وقته المكروه الى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر لان النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء ان يرموا ليلا رواه ابن ابى شيبة عن ابن عباس وهذا يدل على الجواز للمعذور وعلى الكراهة لغير المعذور والرمي فى ايام التشريق في ثلثة جمار الجمرة الدنيا والجمرة الوسطى والجمرة العقبة يرمى عند كل جمرة بسبع حصيات وأول وقتها في أول ايام التشريق يعنى يوم القرار «3» وثانيها يعنى يوم النفر الاول بعد الزوال اجماعا لما في حديث جابر وغيره- ثم لم يرم النبي صلى الله عليه وسلم حتى زالت الشمس واخر وقته في كل يوم بلا كراهة الى الغروب وللمعذورين الى طلوع الفجر من اليوم الثاني وذلك مع كراهة لغير المعذور لما مر انه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء ان يرموا ليلا وكذا في اليوم الثالث من ايام التشريق يوم النفر الاخر عند الجمهور وبه قال ابو يوسف ومحمد غير انه لا يجوز الرمي بعد الغروب من ذلك اليوم اجماعا لان تلك الليلة ليست من ايام التشريق- وقال ابو حنيفة يجوز الرمي في ذلك اليوم قبل الزوال- ولم اطلع على دليل لهذا القول غير ما ذكر ابن همام عن ابن عباس انه قال إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر- رواه البيهقي قال والانتفاخ الارتفاع- وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي وابن معين والدارقطني وقال احمد متروك الحديث- وهل يشترط الترتيب بين الجمار في ايام التشريق فعند الجمهور الترتيب واجب وعند ابى حنيفة سنة- وجه قول الجمهور- ان كل شىء لا يدرك بالرأى فرعاية جميع الخصوصيات الواردة فيه واجب ولم ينقل فوات الترتيب- وقال ابو حنيفة لو كان الرمي

_ (1) فى الأصل حتى يسبحوا (2) فى الأصل انه (3) فى الأصل يوم القر

[سورة البقرة (2) : آية 204]

فى الجمرات الثلاث نسكا واحدا كان مراعات خصوصياته واجبا لكن الرمي في كل جمرة نسك برأسه فلابد في كل واحد منها رعاية خصوصياته واما الترتيب بين المناسك العديدة فليس بشرط كما ان الترتيب بين الرمي والذبح والحلق ليس بشرط- قلت فكان القياس على قول ابى حنيفة ان ذلك الترتيب ان لم يكن شرطا لكن ليكن واجبا ينجبر بالدم كالترتيب بين الرمي والذبح والحلق ولم يظهر لى وجه الفرق بين المسألتين والله اعلم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) فيجازيكم على حسب أعمالكم وإخلاصكم والله اعلم قال البغوي قال الكلبي ومقاتل وعطاء كان الأخنس بن شريف الثقفي حليف بنى زهرة وسمى الأخنس لانه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بنى زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ويقول انى لاحبك ويحلف بالله على ذلك- وكان منافقا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنى مجلسه فنزل. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ اى يعظم في قلبك وتستحسنه قَوْلُهُ يعنى الأخنس كذا اخرج ابن جرير عن السدى- واخرج ابن ابى حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس قال لما أصيب السرية التي يعينها عاصم ومرثد بالرجيع قال رجلان من المنافقين- يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم فانزل الله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بيعجبك يعنى يعجبك قوله في الحيوة الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الاخرة لما يعتريه الفضيحة او متعلق بالقول اى قوله في معنى الدنيا من ادعاء المحبة واظهار الإسلام وَيُشْهِدُ اللَّهَ ذلك المنافق اى يحلف بالله ويستشهده عَلى ما فِي قَلْبِهِ يعنى على ان ما فى قلبه مطابق للسانه فيقول والله انى بك مومن ولك محب وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) اى أشد الخصومة والجدال للمسلمين والخصام مصدر خاصمه خصاما- وقال الزجاج هو جمع خصم مثل بحر وبحار- والجملة حال من فاعل يشهد- عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ان ابغض الرجال الى الله عز وجل الألد الخصم- قال قتادة هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وَإِذا تَوَلَّى اى أدبر سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ روى ان الأخنس كانت بينه وبين ثقيف خصومة فبيّنهم ليلا فاخرق زروعهم وأهلك مواشيهم- وقال مقاتل خرج الى الطائف مقتضيا مالا له على

[سورة البقرة (2) : آية 206]

غريم فاحرق له كدسا وعقر له أتانا- والنسل نسل كل دابة والإنسان منهم وقال الضحاك معنى إذا تولى اى صار واليا ملكا سعى في الأرض بالفساد- وقال مجاهد في قوله تعالى إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ انه إذا ولى عمل بالعدوان والظلم فامسك الله المطر وأهلك الحرث والنسل وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه. وَإِذا قِيلَ لَهُ للاخنس اتَّقِ خف الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ حملته الانفة وحميّة الجاهلية والتكبر بِالْإِثْمِ اى على الإثم يقال أخذته بكذا اى حملته عليه وألزمته إياه- او الباء للسببية والمعنى أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر فَحَسْبُهُ كفته جزاء- وعذابا جَهَنَّمُ علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف لنار وقيل معرّب وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) اى الفراش جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف يعنى جهنم- قال البغوي قال ابن مسعود ان من اكبر الذنب عند الله ان يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك- وروى انه قيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله عز وجل. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي اى يبيع ويبذل في الجهاد او الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر نَفْسَهُ حتى يقتل نظيره قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الاية عن ابى امامة ان رجلا قال يا رسول الله اىّ الجهاد أفضل- قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر- رواه احمد وابن ماجة والطبراني والبيهقي- وابن ماجة عن ابى سعيد ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- طلبا لرضائه كانّ مرضات الله ثمن يطلبها ببذل نفسه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) حيث ارشدهم لمثل هذه التجارة الرابحة- اخرج الحارث بن ابى اسامة في مسنده وابن ابى حاتم عن سعيد بن السيب قال اقبل صهيب مهاجرا الى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا وايم الله لا تصلون الىّ حتى ارمى كل سهم معى في كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقي منه شىء ثم افعلوا ما شئتم وان شئتم وللتم على ما لى بمكة وخليتم سبيلى قالوا نعم- فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال ريح البيع أبا يحيى ريح البيع أبا يحيى ونزلت هذه الاية واخرج الحاكم في المستدرك نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب نفسه موصولا واخرج ايضا من طريق حماد بن سلمة عن انس وفيه التصريح بنزول الاية فيه وقال صحيح على شرط مسلم- واخرج ابن جرير عن عكرمة

قال نزلت في صهيب بن سنان الرومي اخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوه فقال لهم صهيب انى شيخ كبير لا يضركم امنكم كنت أم من غيركم فهل لكم ان تأخذوا مالى وتذرونى ودينى ففعلوا- وسياق هذا الحديث- يخالف سياق ما سبق والاول هو الصحيح- وقيل نزلت الاية في سرية الرجيع ذكر ابن إسحاق ومحمد بن سعد وغيرهم ان بنى لحيان من هذيل بعد قتل سفيان بن نبيح الهذلي مشوا الى عضل والقارة وهما حيان وجعلوا لهم فرائض على ان يقدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكلموه فيخرج إليهم نفر من أصحابه يدعونهم الى الإسلام ويعلمونهم الشرائع قالوا فنقتل من أردنا ونسير بهم الى قريش بمكة فنصيب بهم ثمنا فقدم سبعة نفر من عضل والقارة مقرين بالإسلام فقالوا يا رسول الله ان فينا الإسلام فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدى الأنصاري ومرثد بن ابى مرشد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق وزيد بن الدثنة وامّر عليهم عاصم بن ثانت الأنصاري- وفي الصحيح البخاري عن ابى هريرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وامّر عليهم عاصم بن ثابت فغدروا بهم فاستصرخوا عليهم قريبا من مائة رام وفي رواية فنفروا لهم من مائتى رجل- قلت لعل الرامي منهم مائة- فلما احسن بهم عاصم وأصحابه لجاءوا الى فدقد وجاء القوم فاحاطوا بهم فقالوا لكم العهد والميثاق ان نزلتم ان لا نقتل منكم وانّا والله لا نريد قتلكم انما نريد نصيب شيئا من اهل مكة فقال عاصم اما انا فلا انزل في ذمة كافر اللهم انى احمى لك اليوم دينك فاحم لحمى اللهم اخبر عنا رسولك فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم يوم أصيبوا فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة وبقي خبيب وزيد وعبد الله بن طارق فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه فمنعه الدبر فسمى حمى الدبر فبعث الله سبحانه فسال الوادي فاحتمله فذهب به وكان عاصم قد اعطى الله العهد ان لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك فبرّا الله قسمه واما زيد بن الدثنة وابن طارق وخبيب فاسروهم ثم خرجوا الى مكة ليبيعوهم حتى انا كانوا بالظهر ان انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه فرموه بالحجارة حتى قتلوه وقبره بالظهران وباعوا زيدا وخبيبا بمكة- قال ابن إسحاق وابن سعد اشترى زيدا صفوان بن امية (واسلم بعد ذلك) ليقتله بابيه امية بن خلف فبعثه مع نسطاس مولى له (واسلم بعد ذلك) الى

التنعيم ليقتله واجتمع من جمع قريش فيهم ابو سفيان حتى قدم ليقتل فقال ابو سفيان أنشدك الله يا زيد أتحب ان محمدا عندنا بمكانك يضرب عنقه وانك في أهلك فقال والله ما أحب ان محمدا صلى الله عليه وسلم الان في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وانا جالس في أهلي فقال ابو سفيان ما رايت من الناس أحدا يحب أحدا كحب اصحاب محمد ثم قتله نسطاس- واما خبيب فابتاعه بنو الحارث حيث قتل خبيب الحارث يوم بدر فلبث خبيث عندهم أسيرا حتى اجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى لتستحد بها فاعارث فدرج بنى لها وهى غافلة فما راع المرأة إلا بخبيب قد اجلس الصبى على فخذه والموسى بيده فصاحت المرأة- فقال خبيب أتخشين ان اقتله ما كنت لأفعل ذلك ان الندر ليس من شأتنا- فقالت بعد- والله ما رايت أسيرا خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وهو الموثق بالحديد وما كان بمكة من ثمرة الا كان رزقا رزقه الله ثم انهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا ان يصلبوا فقال لهم دعونى أصلي ركعتين فتركوه فكانّ خبيبا هو سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصلاة فركع ركعتين ثم قال لهم لولا ان تحسبوا ان مابى من جزع لزدتّ فقال اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا «1» ولا تبق منهم أحدا وإنشاء يقول (شعر) ولست أبالي حين اقتل مسلما على اى شق كان في الله مصرع وذلك في ذات الإله وان يشاء يبارك في او ضال شلو؟؟ ممزع- فصلبوه حيا رواه البخاري فقال خبيب اللهم بلغ سلامى رسولك. ويقال كان رجل من المشركين يقال له سلامان ابو ميسرة معه رمح فوضعه بين ثدى خبيب فقال له خبيب اتق الله فما زاده ذلك الا عتوا وطعنه فابعده- فذلك قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ الاية- روى محمد بن عمرو بن مسلمة عن اسامة بن زيد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليه السلام ورحمة الله وبركاته هذا جبرئيل يقرؤنى من خبيب السلام- فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر قال لاصحابه أيكم يختزل «2» خبيبا من خشبته وله الجنة- فقال الزبير انا وصاحبى المقداد بن الأسود- فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلا وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين فانزلا فاذا هو رطب يتثنى لم يتغير منه شىء بعد أربعين يوما ويده على جراحته ينض «3» دما اللون لون الدم والريح ريح المسك

_ (1) بددي بكسر الباء جمع بدة وهى الحصة والنصيب اى اقتلهم حصصا مقسّمة لكل واحد حصته ونصيب ويروى بالفتح اى متفرقين في القتل واحدا بعد واحد من التبديد- نهاية جزرى منه رحمة الله- (2) يختزل اى يقتطع ويذهب به ويتفرد به- نهاية منه- رح (3) ينض وما اى ينبع يقال نضّ الماء من العين اى نبع (منه رحمه الله) .

[سورة البقرة (2) : آية 208]

فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا فاخبروا قريشا فركب منهم سبعون فلما الحقوهما قذف الزبير خبيبا فابتلعه الأرض فسمى بليع الأرض وقد ما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرئيل عنده فقال يا محمد ان الملائكة لتباهى بهذين من أصحابك- فنزل في الزبير والمقداد وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ حين شريا أنفسهما لانزال خبيب من خشبته والله اعلم اخرج ابن جرير عن عكرمة قال قال عبد الله بن سلام وثعلبة وابن يامين واسد وأسيدا بنى كعب- وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم مؤمنى اليهود يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه وان التوراة كتاب الله فدعنا فلتقم بها بالليل وكذا قال البغوي وقال وكانوا يكرهون لحوم الإبل وألبانها بعد ما اسلموا فنزلت. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السلم بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة لذلك يطلق على المصلح والإسلام والمراد هاهنا الإسلام قرا نافع وابن كثير والكسائي السّلم هاهنا بفتح السين والباقون بكسرها- وفي سورة الأنفال بالكسر ابو بكر والباقون بالفتح وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة وابو بكر والباقون بفتحها- وكآفّة اسم للجملة لانها تكف الاجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لانها تؤنث كالحرب- والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا- قلت وذا لا يتصور الا عند الصوفية- او المعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره- او في شعب الإسلام وأحكامه كلها ولا تخلّوا بشىء منها- قال حذيفة بن اليمان في هذه الاية ان الإسلام ثمانية أسهم فعدّ الصلاة والصوم والزكوة والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قال وقد خاب من لا سهم له- قلت انما ذكر ما ذكر على سبيل التمثيل والا فالمراد بالآية الامتثال بكل ما امر الله به والانتهاء عن كل ما نهى عنه او يقال ان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يشتمل الجميع- فان الأمر بالمعروف يقتضى الإتيان به والنهى عن المنكر يقتضى الانتهاء عنه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الايمان بضع وسبعون شعبة فافضلها قول لا الله الا الله وأدناها اماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الايمان- رواه مسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ قد مر اختلاف القراءة فيه الشَّيْطانِ يعنى إنارة من تحريم السبت وتحريم الإبل وغير ذلك بعد ما نسخ إِنَّهُ لَكُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 209]

عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) ظاهر العداوة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال انا نسمع أحاديث من يهود يعجبنا افترى ان نكتب بعضها- فقال «1» أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه الا اتباعى- رواه احمد والبيهقي في شعب الايمان. فَإِنْ زَلَلْتُمْ يعنى زلت أقدامكم فلم تستقيموا على الإسلام مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الآيات والحجج الشاهدة على انه الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه الانتقام حَكِيمٌ (209) لا ينتقم الا بحق ولا يمهل الا لحكمة فيه دفع توهم الناشي من الامهال. هَلْ يَنْظُرُونَ النظر بمعنى الانتظار يعنى ما ينتظرون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ جمع ظلة وهى كلما اظلك مِنَ الْغَمامِ قال البغوي هو السحاب الأبيض الرقيق سمى غماما لانه يغم اى يستر- وقال مجاهد هو غير السحاب ولم يكن الا لبنى إسرائيل في تيههم وقال مقاتل كهيئة الضباب ابيض- وقال الحسن في سترة من الغمام فلا ينظر اليه اهل الأرض وَالْمَلائِكَةُ قرا ابو جعفر بالجر عطفا على الغمام او يكون الجر للجوار والباقون بالرفع اى ويأتيهم الملائكة وَقُضِيَ الْأَمْرُ وجب العذاب للكفار والثواب للمؤمنين- وفزع من الحساب وذلك يوم القيامة والله اعلم- اجمع علماء اهل السنة من السلف والخلف ان الله سبحانه منزه عن صفات الأجسام وسمات الحدوث فلهم في هذه الاية سبيلان أحدهما الايمان به وتفويض علمه الى الله تعالى والتحاشى عن البحث فيه وهو مسلك السلف قال الكلبي هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكان مكحول والزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث واحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى يقولون فيه وفي أمثاله امرّوها كما جاءت بلا كيف قال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه ليس لاحدان يفسره الا الله ورسوله وبه قال ابو حنيفة رحمه الله حيث قال في المتشابهات ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ بالوقف عليه ثانيهما تأويله بما يليق به بناء على ما قيل ما يَعْلَمُ «2» تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بالعطف قال البيضاوي وغيره الا ان يأتيهم الله اى امره او بأسه بحذف المضاف فهو كقوله تعالى وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ - جاءَهُمْ بَأْسُنا- او المعنى- ان يأتيهم الله

_ (1) التهوك الوقوع في الأمر بغير رويّة قبيل التحبير منه رحمه الله (2) وفي القران وما يعلم إلخ

يبأسه فحذف المأتى به للدلالة عليه بقوله أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال وانما يأتى العذاب في الغمام لان الغمام مظنة الرحمة فاذا جاء منه العذاب جاء من حيث لا يحتسبه فكان أفظع- قلت وما ذكر البيضاوي من التأويل يأبى عنه ما جاء في تفسير هذه الاية وأمثاله من الأحاديث اخرج الحاكم وابن ابى حاتم وابن ابى الدنيا عن ابن عباس انه قرا يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ قال يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والانس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فيشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم اكثر ممن فى الأرض من الجن والانس وجميع الخلق فيحيطون بالجن والانس وجميع الخلق فيقول اهل الأرض أفيكم ربنا فيقولون لاثم ينزل اهل السماء الثانية وهم اكثر من اهل السماء الدنيا ومن اهل الأرض فيقولون أفيكم ربنا فيقولون لا فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والانس وجميع الخلائق ثم ينزل اهل السماء الثالثة هكذا ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة وهم اكثر من اهل السموات واهل الأرض فيقولون أفيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل ربنا فى ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم اكثر من اهل السموات السبع والأرضين- وحملة العرش لهم قرون ككعوب القناما بين أقدام أحدهم كذا وكذا- ومن اخمص قدمه الى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه الى ركبته خمسمائة عام ومن ركبته الى أرينه خمسمائة عام ومن ارينه الى ترقوته خمسمائة عام ومن ترقوته الى موضع القرط خمسمائة عام قلت وايضا لو كان معنى الاية كما قال البيضاوي بحذف المضاف ونحوه فهو نظير قوله تعالى «1» وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنى واسئلوا اهل القرية- ولم يقل انه من المتشابهات أحد فحينئذ لم يكن اية في القران من المتشابهات وقد قال الله تعالى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ- ولاصحاب القلوب في تلك الآيات سبيل اخر وهو ان لله سبحانه تجليات في بعض مخلوقاته وظهورات لا كيف لها كما ذكرنا في القلب المؤمن والكعبة الحسناء والعرش العظيم وعامتها تكون على الإنسان فانه خليفة الله وتلك التجليات قد تكون برقيا كالبرق الخاطف وقد تكون دائميا وتلك لا تستدعى حدوث امر في ذاته تعالى وكونه محلا للحوادث ومتنزلا عن مرتبة التنزيه بل هى مبنية على حدوث امر في الممكن كما ان المرأة المحاذية للشمس كلما صوقلت الجلت الشمس فيها ويظهر في المراءة اثارها من الاضاءة والإحراق- وهذه التجليات هى المصداق لقوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وقوله تعالى

_ (1) وفي القران واسئل القرية الّتى إلخ

[سورة البقرة (2) : آية 211]

يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ يعنى يتجلّى لهم يوم القيامة في الغمام- فاما من اكتسب قلبه في الدنيا بصيرة ينفذ بصره من وراء الغمام الى الله سبحانه كما ينفذ البصر من الاجرام الزجاجية الى الاجرام الفلكية ولا استحالة في الرؤية من وراء الغمام بعد ما اثبتوا لرؤية في الجنة من غير حجاب كما ترون القمر ليلة البدر- واما من لم يكتسب قلبه بصيرة وهو فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا فيكون له الغمام ساترا وحجابا- قال السيوطي في البدور السافرة رايت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي ما نصه قال سلمة ابن القاسم في كتاب غرائب الأصول حديث تنزل الله يوم القيامة ومجيئه في ظلل محمول على ان الله تعالى يغير أبصار خلقه حتى يرونه كذلك وهو على عرشه غير متغير ولا منتقل- قلت يعنى يرونه كذلك من وراء الحجاب السجنجلى قال السيوطي وكذلك جاء معناه عن عبد العزيز الماجشون انه تعالى يغير أبصار خلقه فيرونه نازلا متجليا مناجى خلقه ومخاطبهم وهو غير متغير عن عظمته ولا منتقل وقد وجدنا ان جبرئيل كان يأتى النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورته وتارة في صورة دحية وجبرئيل أجل من صورة دحية انتهى قلت وما ذكرنا من التأويل لا مساس له بأقوال الخلف لكنه هو المراد مما ذكرنا من اقوال السلف امّروها كما جاءت بلا كيف يعنى هذه الأمور كلها من الاستواء والنزول وغير ذلك ثابتة كما جاءت في النصوص لكن بلا كيف بحيث لا يزاحم مرتبة التنزيه- وهذا امر من لم يذقه لم يدر ومن ورى لا يمكنه التعبير عنه كما هو بل يختبط إفهام السامعين فيفهون غير مراده فعليكم بالسكوت عنه والايمان به وليس لاحدان يفسره الا الله ورسوله وعطف الرسول على الله يقتضى انه صلى الله عليه وسلم كان عالما بتفسير المتشابهات قلت وكذا كمل اتباعه والله اعلم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قرا ابن عامر حمزة والكسائي ويعقوب ترجع الأمور حيث وقع بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع اللازم والباقون بضم التاء وفتح الجيم من الإرجاع المتعدى. سَلْ يا محمد بَنِي إِسْرائِيلَ يهود المرينة والمراد بهذا السؤال تقريعهم كَمْ آتَيْناهُمْ يعنى آباءهم وأسلافهم وكم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني- او خبرية وهى ثانى مفعولى اتينا ومميزها مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ظاهرة ويحتمل ان يكون كم مبتدأ والعائد من الخبر محذوف يعنى كم من اية بينة آتيناهم ايالها فبدلوها بعد معرفتها وجملة كم آتيناهم على تقدير كونها استفهامية حال اى سل بنى إسرائيل قائلا كم

[سورة البقرة (2) : آية 212]

آتيناهم وعلى تقدير كونها خبرية جواب عن سوال هل كانت لهم آيات متكثرة والمراد بالآيات اما المعجزات الواضحات الدالة على نبوة موسى عليه السلام والآيات المحكمات في التورية الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والثاني اظهر وَمَنْ يُبَدِّلْ يغير نِعْمَةَ اللَّهِ اى ما أنعم الله عليه من الآيات لانها سبب الهداية او كتاب الله فترك العمل به مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ اى وصلت اليه وتمكن من معرفتها فيه تعريض بانهم بدلوها بعد ما عقلوها فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) فيعاقبه أشد عقوبة حيث ارتكب أشد جريمة. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا والمزين هو الله تعالى حيث خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة وخلق فيهم القوى الشهوانية- واشرب محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وقال الزجاج زين لهم الشيطان يعنى وسوس إليهم الخواطر الشهوانية- قلت والله سبحانه خالق افعال العباد ومنهم الشياطين فهو المزين نعم تجوّز الاسناد الى الشياطين من حيث كونها كاسبة للوسوسة والله اعلم قيل نزلت الاية في مشركى العرب ابى جهل وأصحابه وهم يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اى يستهزءون فقراء المؤمنين- قال ابن عباس أراد بالذين أمنوا عبد الله بن مسعود وعمارا وصهيبا وبلالا وخبيبا وأمثالهم- وقال مقاتل- نزلت في المنافقين عبد الله بن ابى وأصحابه كانوا يتنعمون «1» فى الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ويقولون انظروا الى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم انه يغلب بهم وقال عطاء نزلت في رؤساء اليهود كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين فوعد الله المؤمنين ان يعطيهم اموال بنى قريظة والنضير بغير قتال وَالَّذِينَ اتَّقَوْا يعنى هؤلاء الفقراء الذين كنوا بالّذين أمنوا وضع المظهر موضع المضمر ليدل على انهم متقون وان استعلاء هم للتقوى وان العمل خارج من الايمان فَوْقَهُمْ فى المكان او الرتبة او الغلبة لان المتقين فى أعلى عليين وفي كرامة الله ويتطاولون على الكفار فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا والكفار في أسفل السافلين وفي مذلة يَوْمَ الْقِيامَةِ كما ان المؤمنين خير واشرف عند الله من الكفار في الدارين عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا- فقال رجل من اشراف الناس هذا والله حرّى ان خطب ان ينكح وان شفع ان يشفع- قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيك في هذا فقال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا

_ (1) فى الأصل ينعمون-

[سورة البقرة (2) : آية 213]

حرّى ان خطب ان لا ينكح وان شفع ان لا يشفع وان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملا الأرض مثل هذا رواه البخاري وعن اسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفت على باب الجنة فرايت اكثر أهلها المساكين ووقفت على باب النار فرايت اكثر أهلها النساء وإذا اهل الجد محبوسون الا من كان منهم من اهل النار فقد امر به الى النار- رواه البغوي وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فى الدارين بِغَيْرِ حِسابٍ (202) قال ابن عباس يعنى كثيرا لان كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل- وقيل معناه بغير حساب عليه تعالى فيما يعطى ولا اعتراض فقد يعطى الكثير من لا يحتاج اليه وقد لا يعطى القليل من يحتاج وقيل معناه لا يخاف نفاد خزائنة فيحتاج الى حساب.. كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً اخرج البزار في مسنده وابن جرير وابن ابى حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم والحاكم فى المستدرك وصححه عن ابن عباس قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة انهم كانوا عشرة قرون كلهم علماء يهتدون من الحق ثم اختلفوا فبعث الله نوحا وكان نوح أول رسول أرسله الله الى الأرض- وقال الحسن وعطاء كان الناس من وقت وفات آدم الى مبعث نوح عليه السلام امة واحدة على الكفر أمثال البهائم فبعث الله نوحا وغيره من النبيين- والجمع بين القولين انهم كانوا اولا كلهم مسلمين ثم اختلفوا حتى صاروا كلهم كفارا في زمن نوح غير أبوي نوح فانهما كانا مؤمنين بدليل قول نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ الاية- وقيل المراد بالناس العرب قال الحافظ عماد الدين بن كثير كان العرب على دين ابراهيم الى ان ولى عمرو بن عامر الخزاعي مكة اخرج احمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أول من سيّب السوائب وعبد الأصنام ابو حزاعة عمرو بن عامر وانى رايت قصبه في النار- وفي الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رايت عمرو بن عامر بن لحى ابن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار انه أول من سيّب السوائب- واخرج ابن جرير في تفسيره عنه نحوه وفيه انه أول من غير دين ابراهيم- لكن يأبى تأويل الناس بالعرب صيغة النبيين بالجمع إذ لم يبعث في العرب غير محمد صلى الله عليه وسلم- لينذر قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ وروى عن ابى العالية عن ابى بن كعب قال كان الناس حين عرضوا على آدم و

اخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية امة واحدة مسلمين كلهم ولم يكونوا امة واحدة قط غير ذلك اليوم- قلت ويمكن ان يقال كان الناس امة واحدة مستعدين لقبول الحق مولودين على القطرة فاخبطهم شياطين الانس والجن فاختلفوا عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء متفق عليه فَبَعَثَ اللَّهُ معطوف على كان النّاس امّة واحدة ان كان المراد اجتماعهم على الكفر ومعطوف على مقدر يعنى فاختلفوا فبعث الله ان كان المراد اجتماعهم على الحق- فان البعث ليس الا لدفع الكفر والفساد ويدل على هذا التقدير قوله تعالى فيما بعد فيما اختلفوا فيه النَّبِيِّينَ قال ابو ذر قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء قال- مائة الف واربعة وعشرون الفا المرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا- رواه احمد- وفي رواية عنه ثلاثمائة وبضعة عشر- قال البغوي والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القران باسمه العلم ثمانية وعشرون نبيا- قلت بل المذكور في القران انما هم ستة وعشرون منهم ثمانية عشر في قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وثمانية غيرهم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وعزير ومحمد سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقيل يوسف الذي ذكر في سورة المؤمن غير يوسف بن يعقوب عليه السلام بل هو يوسف بن ابراهيم بن يوسف بن يعقوب فصاروا سبعة وعشرين- وقيل بنبوة مريم أم عيسى فكمل ثمانية وعشرون لكن قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ... مِنْ أَهْلِ الْقُرى «1» يأبى نبوة مريم- ويحتمل ان يكون الثامن والعشرون لقمان والله اعلم مُبَشِّرِينَ بالثواب لمن أطاع وَمُنْذِرِينَ بالعقاب لمن عصى وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس بِالْحَقِّ حال من الكتاب اى متلبسا بالحق شاهدا به لِيَحْكُمَ الله او الكتاب او النبي المبعوث معه وقرا ابو جعفر ليحكم بضم الياء وفتح الكاف هاهنا و

_ (1) وفي القران الّا رجالا نوحى إليهم

[سورة البقرة (2) : آية 214]

فى ال عمران وفي النور في الموضعين فحينئذ نائب الفاعل الظرف والمعنى ليحكم به يعنى بالكتاب بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اى في الحق الذي اختلفوا فيه او فيما التبس عليهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ اى في الكتاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الموصول للعهد والمراد به اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ اى الآيات المحكمات في التورية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والمبشرة بمجىء محمد صلى الله عليه وسلم الناعتة بصفاته الكريمة- قال السيوطي في التفسير قوله من بعد متعلق باختلف وهى وما بعده مقدم على الاستثناء في المعنى يعنى في الكلام تقديم وتأخير- قلت والاولى ان يقال انه متعلق بمحذوف اى اختلفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ لان ما قبل الا لا تعمل فيما بعدها الا في المستثنى ولا يستثنى متعدد بحرف واحد فهو جواب سوال مقدر كانّه قيل متى اختلفوا فاجيب- ومعنى اختلافهم قولهم نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وتحريفهم الكلم عن مواضعه وانكارهم صفات محمد صلى الله عليه وسلم والقران بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعنى امة محمد صلى الله عليه وسلم لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ للحق الذي اختلفوا فيه مِنَ الْحَقِّ بيان لما بِإِذْنِهِ بامره او بإرادته او بلطفه- قال ابن زيد اختلفوا فى القبلة فمنهم من يصلى الى المشرق ومنهم من يصلى الى المغرب ومنهم من يصلى الى البيت المقدس فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان- واختلفوا في الأيام فاخذت النصارى الأحد واليهود السبت فهدانا الله للجمعة واختلفوا في ابراهيم قالت اليهود كان يهوديا والنصارى نصرانيا فهدانا الله للحق من ذلك واختلفوا في عيسى فجعله اليهود الفرية وجعله النصارى الها فهدانا الله للحق فيه وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) لا يضل سالكه. أَمْ حَسِبْتُمْ- أم منقطعة لان المتصلة يلزمه الهمزة وهى بمعنى بل والهمزة فبل للاضراب عن اختلاف اليهود والنصارى- والهمزة لانكار حسبان المؤمنين واستبعاده والغرض منه تشجيعهم على الصبر والثبات على البأساء والضراع وقال الفراء معناه احسبتم والميم زائدة وقال الزجاج بل حسبتم- نزلت الاية يوم الأحزاب حين أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاء وحضروا شدة الخوف والبرد وانواع الأذى قال الله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً- وقيل

[سورة البقرة (2) : آية 215]

نزلت في حرب أحد وقال عطاء لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتد عليهم لانهم كانوا خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم ما يدى المشركين وأظهرت اليهود العداوة فانزل الله أم حسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ لمّا كلم في المعنى والعمل وفيه توقع لا في لم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا حالهم الذي هو مثل في الشدة مِنْ قَبْلِكُمْ من النبيين والمؤمنين مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ شدة الفقر والمرض وَزُلْزِلُوا حركوا بانواع البلا والشدائد حَتَّى يَقُولَ إذا كان بعد حتى مستقبلا بمعنى الماضي يجوز فيه النصب والرفع فقرا نافع بالرفع والباقون بالنصب الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ استبطؤا النصر فقيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات- رواه مسلم عن انس وابى هريرة واحمد عن ابى هريرة وابن مسعود والله اعلم- اخرج ابن المنذر عن ابى حيان ان عمر بن الجموح سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما ننفق من أموالنا واين نضعها- واخرج ابن جرير عن ابن جريح قال سال المؤمنون فنزلت. يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيّن المصرف بالعبارة وجواب السائل بالاشارة بتعميم ما أنفقتم من خير بناء على ان ملاحظة المصرف أهم فان اعتداد النفقة باعتباره وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ اىّ خير كان صدقة او غير ذلك فيه معنى الشرط وحوابه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) يعلم به كنهه ونياتكم فيوفى ثوابه على حسب نياتكم قال اهل التفسير كان هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة- والحق انه لا ينافى فرضية الزكوة حتى ينسخ به فالاية محكمة. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قال عطاء الجهاد تطوع والمأمورون بالآيات اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم واليه ذهب الثوري محتجا بقوله تعالى فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى قالا لو كان القاعد تاركا للفريضة لم يكن وعدا له بالحسنى- وقال سعيد بن المسيب انه فرض عين على كافة المسلمين الى قيام الساعة والحجة له هذه الاية وحديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات ولم يعز ولم يحدث نفسه بالغزو ومات

على شعبة من النفاق- رواه مسلم والجمهور على ان الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقيين مثل صلوة الجنازة وعليه انعقد الإجماع- واتفقت الائمة على انه يجب على كل اهل بلد ان يقاتلوا من يليهم من الكفار فان عجزوا او جبنوا وجب على من يليهم الأقرب فالاقرب وعلى انه يجب الجهاد على الأعيان عند النفير العام وعند هجوم الكفار على بلاد الإسلام وعلى انه من لم يتعين عليه الجهاد لا يخرج الا بإذن أبويه ان كانا مسلمين ومن عليه الدين لا يخرج الا بإذن غريمه- والحجة للجمهور ما ذكرنا من ادلة الفريقين وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ وسيجيئ في سورة التوبة ان شاء الله تعالى وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ان رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال أحى والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد اذهب فبرّهما متفق عليه ولابى داود والنسائي وابن ماجة نحوه- وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ اى شاق عليكم قال اهل المعاني هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال والنفس لا انهم كرهوا امر الله وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ومنه الجهاد فان فيه الظفر والغنيمة والاستيلاء في الدنيا والشهادة والثواب وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ كالقعود «1» عن الجهاد فان فيه المعصية والذلة والحرمان من الاجر والغنيمة- وانما ذكر كلمة عسى وهو للشك لان النفس إذا ارتاضت يكون هواه تبعا لما شرع فلا يكره الا ما كره الله ولا يحب الا ما أحب الله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ خيركم وشركم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) ذلك فبادروا بما أمركم الله تعالى حتى تفوزوا بما هو خير لكم في الدارين (فصل) فى فضائل الجهاد عن ابن مسعود قلت يا رسول الله اىّ الأعمال أفضل قال الصلاة على ميقاتها قلت ثم اىّ قال بر الوالدين قلت ثم اىّ قال الجهاد في سبيل الله ولو استزدته لزادنى- رواه البخاري وعن ابى هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ العمل أفضل قال ايمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور متفق عليه وهذه وان كان في الصورة معارضة فان الحديث الاول يدل على افضلية الصلاة على الجهاد والثاني بالعكس لكن الجمع بينهما بحمل كل على ما يليق بحال السائل- او يقال ان الصلاة والزكوة المفروضتين مرادة بلفظ الايمان في حديث ابى هريرة- فلا تعارض او يقال

_ (1) فى الأصل كالعقود [.....]

جعل الجهاد بعد الايمان في حديث ابى هريرة صادق وان كان الجهاد بعد الصلاة والزكوة- وعن عمران بن حصين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة ستين سنة- رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري- وعن ابى هريرة مرفوعا مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما- رواه الترمذي وعن ابى هريرة قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله قال لا تستطيعونه فاعادوا عليه مرتين او ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه ثم قال مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم القانت بايات الله لا يفتر عن صلاته ولا صيامه حتى يرجع المجاهد في سهيل الله- متفق عليه وعن ابى امامة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية قمر رجل بغار فيه شىء من ماء ويقل فحدث نفسه بان يقيم فيه ويتخلى من الدنيا فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لم ابعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكنى بعثت بالحنفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة او روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة- رواه احمد قلت وهذه الأحاديث يدل على افضلية الجهاد على الصلاة والصيام والنوافل وذلك لان الجهاد فرض على الكفاية وكلما وقع عن أحد يقع فريضته ويستوعب الأوقات ويفضى الى الشهادة التي هى قرينة للنبوة بخلاف الصلاة والصوم فانهما ما عدا الفرائض لا يقع الا نافلة والنافلة لا تعدل الفريضة- فان قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما عمل آدمي أنجى من عذاب الله من ذكر الله- قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله الا ان يضرب لسيفه حتى ينقطع قاله ثلث مرات رواه احمد والطبراني وابن ابى شيبة من حديث معاذ وهذا يعارض مامر من أحاديث وعمران وابى هريرة وابى امامة فما وجه التوفيق- قلنا المراد بالذكر في هذا الحديث الحضور الدائمى الذي لا فتور فيه لا الصلاة والصوم الذين هما حظ الزهاد- وهو المراد من الجهاد الأكبر فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رجع من الغزو رجعتا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر فان قيل الم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الجهاد الأصغر مشتغلا بالجهاد الأكبر- قلنا نعم كان مشتغلا بذلك لكن الحال تتفاوت بمزيد الاهتمام والله اعلم عن ابى هريرة مرفوعا في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء

[سورة البقرة (2) : آية 217]

والأرض فاذا سالتم الله فسئلوه الفردوس فانه اوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تنفجرا نهار الجنة- رواه البخاري- وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة ان اعطى رضى وان لم يعط سخط طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله اشعث رأسه مغيرة قدماه وان كان في الحراسة في الحراسة وان كان فى الساقة كان في الساقة ان استأذن لم يؤذن له وان شفع لم يشفع «1» - رواه البخاري وسيأتى فضائل الرباط اخر سورة ال عمران ان شاء الله تعالى- وانما فضل الجهاد على سائر الحسنات وكونه ذروة سنام الإسلام لانه سبب الا شاعة الإسلام وهداية الخلق فمن اهتدى ببدل جهده كان حسناته داخلا في حسناته وأفضل من ذلك تعليم العلوم الظاهرة والباطنة فان فيه اشاعة حقيقة الإسلام والله اعلم. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال يعنى يسئلونك عن قتال في الشهر- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم والطبراني في الكبير وابن سعد والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الاخر سنة قبل قتال بدر بشهرين وبعث معه ثمانية نفر من المهاجرين سعد بن ابى وقاص الزهري- وعكاشة بن محصن الأسدي- وعتبة بن غزوان السلمى- وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة- وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة- وواقد بن عبد الله- وخالد بن بكير- وذكر بعضهم سهل بن بيضاء ولم يذكر سهيلا ولا خالدا ولا عكاشة وذكر بعضهم المقداد بن عمر- قال ابن سعد كانوا اثنى عشر كل اثنين يعتقبان بعيرا وكتب لاميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فاذا نزلت فافتح الكتاب واقراه على أصحابك ثم امض ما امرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك فسار وكان قبل مسيره قال يا رسول الله اىّ ناحية قال النجدية فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فاذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بما عير قريش لعلك ان تأتينا منه بخير فلما نظر في الكتاب قال سمعا وطاعة-

_ (1) وعن ابى بكر الصديق ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله عليه النار- وكذا روى احمد والبخاري والترمذي والسنائي عن ابى عيص- وعن عثمان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خرس ليلة في سبيل الله أفضل من الف ليلة قيام ليلها وصيام نهاره وعن ابى بكر الصديق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك قوم الجهاد الا عمهم الله تعالى بالعذاب منه رحمه الله

ثم قال لاصحابه ذلك وقال انه نهانى ان استكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق القرع بموضع من الحجاز يقال له بخران أضل سعد بن ابى وقاص وعتبة بن غزوان بغيرهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف- فبينماهم كذلك مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمر والحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن مغيرة وعثمان بن عبد الله بن مغيرة واخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان- فلما راوا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش ان القوم قد وعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة ثم اشرف عليهم فقالوا قوم عمار لا بأس عليكم فامنوهم وكان ذلك في يوم يرونه اخر يوم من جمادى الاخر وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ويدخل عليكم الشهر الحرام فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو الحضرمي بسهم فقتله وشد المسلمون عليهم فاسروا عثمان بن عبد الله بن مغيرة والحكم بن كيسان وهرب نوفل فاعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقيل عزل عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس تلك الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه وكان أول خمس خمس في الإسلام وأول غنيمة وأول قتيل من المشركين عمر والحضرمي وأول أسير عثمان والحكم وكان ذلك قبل ان يفرض الخمس من المغانم ثم فرض الخمس على ما صنع عبد الله بن جحش في تلك الغير فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاوقف العير والأسيرين وابى ان يأخذ من ذلك شيئا- وقالت قريش لمن كان بمكة من المسلمين يا معشر الصبأة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه- فعظم ذلك على اصحاب السرية وظنوا انهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا يا رسول الله انا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا الى هلال رجب فلا ندرى أفي رجب أصبناه أم في الجمادى- فاكثر الناس في ذلك فانزل الله تعالى هذه الاية- فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس الذي عزله عبد الله بن جحش- او أخذ العير فعزل منها الخمس وقسّم الباقي بين اصحاب السرية- وقيل أوقف غنائم اهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم

اهل بدر- وبعث اهل مكة في فداء اسيريهم فقال- بل نوقفهما «1» حتى يقدم سعد وعتبة فانا نخشاكم عليهما- وان لم يقدما قتلناهما بهما فقدم سعد وعتبة فافدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين بأربعين اوقية كل أسير- فاما الحكم فاسلم واقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بير معونة شهيدا واما عثمان بن عبد الله بن مغيرة فرجع الى مكة فمات بها كافرا واما نوفل فضرب بصن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوه فانه خبيث الجيفة خبيث الدية قُلْ يا محمد قِتالٍ فِيهِ اى في الأشهر الحرم كَبِيرٌ ذنب كبير قال اكثر العلماء انه منسوخ بقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن الهمام وهو بناء على التجوز بلفظ حيث في الزمان ولا شك انه كثير الاستعمال قلت لفظ حيث للمكان حقيقة ومجيئه للزمن تجوز لا دليل عليه- ولو فرضا انه مشترك في الزمان والمكان ففى شموله للازمنة شك ولا يجوز النسخ مع الشك- وقال البيضاوي هو نسخ الخاص بالعام- وفيه خلاف يعنى نسخ الخاص بالعام جائز عند ابى حنيفة حيث يقول العام ايضا قطعى الدلالة فيما يشتمله كالخاص- وغير جائز عند الشافعي وغيره حيث قالوا ان العام ظنى الدلالة بخلاف الخاص إذ ما من عام الا وقد خص منه البعض- والبحث عنه في اصول الفقه قال البيضاوي والاولى منع دلالة الاية على حرمة القتال في الأشهر الحرام مطلقا فان قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا تعم- قلت النكرة في الإثبات تعم عند قيام القرينة كما في قوله عليه السلام- تمرة خير من جرادة ولولا هاهنا النكرة للعموم لما استقام جواب السؤال واستدل ابن همام على نسخ الحرمة بالعمومات نحو قوله تعالى وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «2» - وقوله عليه السلام أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا الله الا الله- قلت وهذا ليس بسديد فان عموم تلك الآيات في المكلفين وأحوالهم دون الازمنة حتى يدخل فيها الأشهر الحرم فيلحقها الفسخ بل عموم الازمنة لو ثبت لثبت باقتضاء النص ولا عموم للمقتضى فلا يجرى فيه التخصيص والنسخ وكيف يدعى نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم مع ان قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يعنى بالقتال فيهن وَقاتِلُوا

_ (1) فى الأصل نقفهما (2) فى الأصل اقتلوا المشركين

الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ- إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ يعنى القتال في الشهر الحرام زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وهذه الاية اخر آيات القتال نزولا وهى اية السيف نزلت في اخر السنة التاسعة وفيه ذكر حرمة الأشهر فهو مخصص لوجوب القتال فيما عدا الأشهر والله اعلم وايضا يدل على حرمة القتال في الأشهر الحرم خطبته صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بشهرين حيث قال فيه الا ان الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر «1» شهرا منها اربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر وقال في اخر الحديث ان دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا- متفق عليه من حديث ابى بكرة- قال ابن همام حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف لعشر يقين من ذى الحجة الى اخر المحرم او الى شهر يعنى بهذا منسوخية الاية وهذا القول غريب وانما كان حصار الطائف في شوال سنه- عن ابى سعيد الخدري خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من المدينة لليلتين خلتا من شهر رمضان رواه احمد بسند صحيح- وروى البيهقي عن الزهري بسند صحيح قال فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم لثلاث عشرة خلت من رمضان- قلت بهذا ظهر انه اقام في الطريق اثنى عشر يوما واقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما- وفي لفظ سبعة عشر رواه البخاري وفي رواية ثمانى عشرة ثم بعد فتح مكة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حنين يوم السبت لست خلون من شوال- وقال ابن إسحاق لخمس وبه قال عروة واختاره ابن جرير وروى ابن مسعود فوصل الى حنين لعشر خلون من شوال فلما انهزم الهوازن وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين قدم فل ثقيف بالطائف وأغلقوا عليهم الأبواب وتهيئوا للقتال فلم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة ولا عرج على شىء الا على غزو الطائف قبل ان يقسم غنائم حنين وترك السبي بالجعرانة وحاصر الطائف روى مسلم عن انس انه كان مدة حصاره أربعين ليلة- واستغربه في البداية- وذكر ابن إسحاق حاضر ثلاثين ليلة- وقال ابن إسحاق

_ (1) فى الأصل اثنى عشر

فى رواية حاصرهم بضعا وعشرين ليلة- وقيل عشرين يوما- وقيل بضع عشرة ليلة- رواه ابو داود- قال ابن حزم هو الصحيح بلا شك ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة وانتهى مسيره الى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذى القعدة- فاقام بالجعرانة ثلث عشرة ليلة واعتمر ثم انصرف الى المدينة ليلة الأربعاء لثنتى عشر ليلة بقيت من ذى القعدة ودخل المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذى القعدة- قال ابو عمر كان مدة غيبته صلى الله عليه وسلم من حين خرج من المدينة الى مكة فافتتحها وواقع هوازن وحارب اهل الطائف الى ان رجع الى المدينة شهرين وستة عشر يوما- بل شهرين وستة وعشرين يوما- فكيف يتصور ما قال ابن همام حاصر الطائف لعشر بقين من ذى الحجة الى اخر المحرم- فلم يثبت منسوخية حرمة الأشهر والله اعلم لكن هذه الاية منسوخة بما مر من قوله تعالى لشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ لانها تدل على اباحة القتال في الأشهر الحرم ان كانت البداية في القتال من الكفار لان هذه الاية نزلت قبل غزوة بدر وتلك نزلت في عمرة القضاء سنة سبع كما ذكرنا فبقى البداية بالقتال في الأشهر محرما والله اعلم وَصَدٌّ اى صرف ومنع عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى عن الإسلام والطاعات وَكُفْرٌ بِهِ اى بالله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ بحذف المضاف يعنى وصد المسجد الحرام ولا يجوز عطفه على الضمير المجرور لوجوب إعادة الجار حينئذ- ولا على سبيل الله لان عطف قوله وكفر به مانع منه إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ اى اهل المسجد وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مما فعله السرية فان كلما ذكر مما صدى عن كفار مكة صدر عمدا وتعنتا وما صدر من السرية انما صدر خطا وبناء على الظن وَالْفِتْنَةُ يعنى الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ اى قتل الحضرمي فكيف يعيرونهم كفار مكة على ما ارتكبوه خطا مع ارتكابهم ما هو أشد من ذلك عمدا وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى كفار قريش حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ اخبار عن دوام عداوتهم إِنِ اسْتَطاعُوا هو استبعاد لاستطاعتهم وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ استدل الشافعي بهذه الاية على ان المرتد لا يحبط عمله ما لم يمت على الكفر فان صلى

[سورة البقرة (2) : آية 218]

رجل الظهر مثلا ثم ارتد نعوذ بالله منها ثم أمن والوقت باق لا يجب عليه إعادة الصلاة وكذا من حج ثم ارتد ثم اسلم لا يجب عليه الحج وهذا احتجاج بمفهوم الصفة وهو غير معتبر عند ابى حنيفة رحمه الله- وقال ابو حنيفة يجب عليه إعادة الصلاة ان اسلم والوقت باق وكذا يجب عليه الحج- لنا قوله تعالى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهذا مطلق والمطلق لا يحمل على المقيد عندنا والله اعلم فِي الدُّنْيا فلا يترتب على إسلامه في الدنيا عصمة الدم والمال فيحل قتله ولا يجب استمهاله الى ثلثة ايام لكنه يستحب فهو حجة على الشافعي في قوله بوجوب الامهال وَالْآخِرَةِ بسقوط الثواب وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) كسائر الكفار- فقال اصحاب السرية- يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا وهل يكون سفرنا هذا غزوا فانزل الله تعالى. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كروا الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كانهما مستقلان فى تحقق الرجاء أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ اى ثوابه اثبت لهم الرجاء اشعارا «1» بان العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة لا سيما انما العبرة بالخواتيم وَاللَّهُ غَفُورٌ لما فعلوا خطأ رَحِيمٌ (210) بإعطاء الثواب. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ اخرج احمد عن ابى هريرة قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما فانزل الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فقال الناس ما حرم علينا انما قال اثم كبير وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين امّ أصحابه في المغرب خلط فى قرأته فانزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الاية ثم نزلت اغلظ من ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الاية في المائدة الى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا انتهينا ربنا الحديث- قال البغوي جملة القول ان الله تعالى انزل في الخمر اربع آيات نزلت بمكة وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها وهى لهم حلال يومئذ ثم لما نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فانهما مذهبتان «2» للعقل مسلبتان «3» للمال فانزل الله هذه الاية فتركها قوم لقوله تعالى إِثْمٌ كَبِيرٌ وشربها قوم لقوله منافع للنّاس الى ان صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) فى الأصل اشعار (2) فى الأصل مذهبة (3) فى الأصل مسلبة

وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا فحضرت صلوة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلى بهم فقرا (قل يا ايّها الكافرون اعبد ما تعبدون) هكذا الى اخر السورة بحذف لا فانزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سكارى الاية فحرم السكر في اوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا لا خير في شىء يحول بيننا وبين الصلاة وشربها قوم في غير اوقات الصلاة كان الرجل يشرب بعد صلوة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر او بعد صلوة الصبح فيصحوا الى وقت الظهر واتخذ عتبان بن مالك صيفا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن ابى وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فاكلوا منه وشربوا الخمر حتى سكروا منها ثم انهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الاشعار وانشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه فاخذ رجل من الأنصار لحيى بعير فضرب به رأس سعد فشجّه موضحة فانطلق سعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا اليه الأنصاري فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا- فنزلت ما في المائدة والله اعلم. اختلف العلماء في ان الخمر ما هو فقال ابو حنيفة رحمه الله هو التي من ماء العنب إذا صار مسكر او قذف بالزبد ولم يشترط صاحباه القذف بالزبد- وقال مالك والشافعي واحمد كل شراب أسكر كثيره فهو خمر- قالت الحنفية الخمر اسم خاص لما ذكرنا وهو المعروف عند اهل اللغة ولهذا اشتهر استعماله فيه واشتهر في غيرها مما ذكرنا من المسكرات اسم اخر كالمثلث- والطلا- والمنصف- والباذق- ونحو ذلك واللغة لا يجرى فيها القياس- وقال الجمهور اسم الخمر لغة لكل ما خامر العقل- والتحقيق عندى ان الخمر لفظ مشترك بين الخاص والعام اما حقيقة واما بعموم المجاز والمراد في الاية هو المعنى الأعم- قال صاحب القاموس الخمر ما أسكر من عصير العنب