الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

النووي

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

حقوُق هَذِه الطّبعَة مَحفُوظَة لدَار البشَائر الإسلاميَّة والمكتبة الإمدَاديَّة حقُوُق الطَّبع مَحفُوظَة الطبعَة الثانيَة 1414 هـ - 1994 م دار البشائر الإسلامية للطبَاعَة وَالنشرَ والتوَزيع بَيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14 المكتبة الإمدادية السعُودية - مكة المكرمة - تجاه بَاب العمرة - هَاتف: 5458084

مقدمات

التعريف بصاحب الإِيضاح رحمه الله تعالى هو الإِمام العلامة شيخ الإِسلام أستاذ المتأخرين وحجة الله على اللاحقين والداعي إلى سبيل السالفين محرر مذهب الشافعي ومهذبه ومنقحه ومرتبه، فقيه المحدثين، ومحدِّث الفقهاء الحافظ أبو زكريا يحيى بن شرف بن موسى بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة النووي الشافعي. مولده رحمه الله تعالى: ولد في العشر الأول من المحرم عام 631 أحد وثلاثين وستمائة ببلدة نوى (قرية من قرى دمشق بمرتفعات الجولان) وبها نشأ، وحفظ القرآن العظيم. رحلته إلى دمشق لطلب العلم: قال رحمه الله تعالى: فلما كان عمري تسع عشرة سنة قدم بي والدي في سنة تسع وأربعين وستمائة إلى دمشق فسكنت المدرسة الرواحية وبقيت نحو سنتين لا أضع جنبي بالأرض وأتقوَّت بجراية المدرسة لا غير، وحفظت التنبيه في نحو أربعة أشهر ونصف ثم حفظت ربع العبادات من المهذب في

باقي السنة، وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الكمال إسحاق المغربي ولازمته فأعجب بي لما رأى من ملازمتي للاشتغال، وعدم اختلاطي بالناس وأحبني محبة شديدة، وجعلني معيد الدرس بحلقته لأكثر الجماعة. قال ابن العطار رحمه الله تعالى: ذكر الشيخ لي أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً يعني في الدين وأصوله، والفقه وفصوله، والحديث ومصطلحه، واللغة والمنطق. قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل وإيضاح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي وأعانني عليه. مشايخه رحمه الله تعالى: أخذ عن إسحاق بن أحمد المغربي وعبد الرحمن بن نوح المقدسي، وعمر بن أسعد الإربلي، وخالد بن يوسف النابلسي، والضياء بن تمام الحنفي وأحمد بن سالم المصري، ومحمد بن عبد الله بن مالك الجَيّاني صاحب الألفية وعمر بن بندر التفليسي، وإبراهيم بن علي الواسطي، وأحمد بن عبد الدائم المقدسي، وإسماعيل بن أبي اليسر التنوخي، وعبد الرحمن بن سالم الأنباري، وعبد الرحمن بن محمد قُدامة المقدسي، وعبد العزيز بن محمد الأنصاري وغيرهم رحمهم الله تعالى. تفننه في العلوم: تفنن رحمه الله في أصناف من العلوم فقهاً، فكان المرجع والمعوَّل عليه في فقه الشافعي رحمه الله تعالى، ومتون أحاديث، وأسماء رجال، فجمع بين الرواية والدراية، فكان أول أهل زمانه معرفة، وحفظاً وإتقاناً وضبطاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلماً بعِلله وصحيحه وأسانيده، فالنووي فقيه المحدِّثين،

ومحدِّث الفقهاء. بل صار علماً يشار إليه بالبنان في زمانه، ومرجعاً يعتمد عليه، غير منازَع ولا مدافَع رحمه الله تعالى. توليته التدريس: بعد أن اكتملت للنووي رحمه الله أدوات الحديث والفقه قام بتدريسهما في المدرسة الإِقبالية التي أنشاها جمال الدين إقبال سنة 603 هـ ثم قام بالتدريس في المدرسة الركنية التي أسسها ركن الدين منكورس، والمدرسة الخَلَفية التي أقامها خلف الدين سليمان، ثم ولي دار الحديث سنة 665 هـ فلم يأخذ من معلومها شيئاً حتى توفي رحمه الله تعالى. تلاميذه رحمه الله تعالى: أخذ عنه علاء الدين بن العطار، وأحمد بن إبراهيم بن مُصعَب، وأحمد بن محمد الجعفري، وأحمد بن فرح الإِشبيلي، والرشيد إسماعيل بن المعلِّم الحنفي، ومحمد بن أبي الفتح الحنبلي، وأحمد الضرير الواسطي، وسليمان بن عمر الدِّرعي، وعبد الرحمن بن محمد المقدسي، والبدر بن جماعة، ومحمد بن النقيب، ومحمد بن عبد الخالق الأنصاري، وهبة الله بن عبد الرحيم البارزي، ويوسف بن عبد الرحمن المِزِّيّ، وغيرهم رحمهم الله تعالى. مناقبه رحمه الله تعالى: ذكر والده أنه كان نائماً إلى جنبه وهو ابن سبع سنين، ليلة سبع وعشرين من رمضان، فانتبه نحو نصف الليل، وقال: يا أبت ما هذا الضوء الذي ملأ الدار، قال: فاستيقظنا، ولم نرَ كلنا شيئاً، فعرفت أنها ليلة القدر. وقال العارف الأستاذ ياسين بن يوسف الزركشي: رأيت الشيخ وهو ابن عشر

سنين بنوى والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي حبه، ووضعه أبوه في مكان فكان لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته به خيراً، وقلت: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: منجم أنت؟! قلت: لا وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام. كراماته رحِمه الله تعالى: منها أنها أضاءت أصبعه له بإذن الله تعالى لما فقد وقت التصنيف ما يُسرِجه عليه. شمائله رحمه الله تعالى: كان على جانب عظيم من الورع والزهد، قال الذهبي رحمه الله تعالى: كان عديم الميرة والرفاهية والتنعم مع التقوى والقناعة والورع والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وترك رعونات النفس من ثياب حسنة ومأكل طيب، وتجمل في هيئة، بل طعامه جِلْف (¬1) الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام، وسختِيانية (¬2) لطيفة. وكان لا يأكل من فاكهة دمشق لما في ضياعها (¬3) من الحيلة والشبهة، وكان يتقوت مما يأتي من بلده من عند والديه، ولا يأكل إلا ¬

_ (¬1) الجلف: الجاف الشديد. (¬2) السختيانية: جبة تلبس فوق الثوب. (¬3) الضياع: جمع ضيعة بفتح الضاد وسكون الياء وهي الحديقة، أو القطعة المزروعة من الأرض.

أكلة واحدة في اليوم والليلة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولم يتزوج، وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف، ولذا قال ابن السبكي رحمهما الله تعالى: إنه كان سيداً حصوراً وزهداً، لم يبال بخراب الدنيا، إذا صير دينه ربعاً معموراً له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنّة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة. كانت عليه سكينة ووقار في البحث مع العلماء وفي غيره، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، يواجه بهما المملوك والأمراء، ويكتب إليهم الرسائل ناصحاً بالعدل فى الرعية، وإبطال المكوس (¬1)، وردّ الحقوق إلى أربابها. قال أبو العباس بن فرج رحمه الله تعالى: كان الشيخ قد صارت إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شُدت إليه الرحال. المرتبة الأولى: العلم، الثانية: الزهد، الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: إنه قام على الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أراد وضع الأملاك على بساتينها فردّ عليهم ذلك، ووقى الله شرها بعد أن غضب السلطان، وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظمه، حتى كان يقول: أنا أفزع منه. وفاته رحمه الله تعالى: سافر في آخر عمره إلى بلده نوى بعدما حج وزار القدس ووصل الخليل فمرض بها عند والديه وتوفي ليلة الأربعاء لست بقين من رجب سنة 676 هـ ست وسبعين وستمائة، ولما بلغ نعيه إلى دمشق أسف عليه ¬

_ (¬1) المكوس: بضم الميم جمع مَكس وهو ما يفرضه الحاكم من الإتاوة عن السلع التي تباع أو تجلب وغير ذلك.

المسلمون أسفاً شديداً، وتوجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه ورثاه جماعة كثيرون، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين. مصنفاته رحمه الله تعالى: شرح مسلم، ورياض الصالحين، والأذكار، والأربعون النووية وشرحها، وتهذيب الأسماء واللغات، وطبقات الفقهاء، والتبيان، والمناسك الصغرى، والكبرى، والمنهاج، ودقائقه، والفتاوى، وتصنيف في الاستسقاء، وتصنيف في استحباب القيام لأهل الفضل ونحوهم، وتصنيف في قسمة الغنائم، وتصحيح التنبيه، والنكت عليه، والإيجاز، والإرشاد، والتقريب، والمبهمات، ومناقب الشافعي، وخلاصة الإِحكام في مهمات الأحكام، وبستان العارفين، وجامع السنة، وروضة الطالبين التي عليها المعوّل في الترجيح وبقولها المقول في التصحيح. هذه مؤلفاته التي أتمها رحمه الله تعالى. ومن مؤلفاته التي لم يتمها المجموع شرح المهذب، وصل فيه إلى أثناء الربا وهو أجل مؤلفاته لو كان تمامه على يديه، التحقيق شرح مطول على التنبيه، التنقيح شرح الوسيط، الإِشارات وهو كتاب على الروضة كالدقائق على المنهاج، وشرح قطعة من صحيح البخاري وقطعة من سنن أبي داود وغير ذلك. مما ينسب إلى الإِمام النووي رحمه الله تعالى: بادر إلى حفظ الحديث وكَتبه ... واجهد على تصحيحه في كُتبه واسمعه من أشياخه نقلاً كما ... سمعوه من أشياخهم تسعد به

التعريف بصاحب الحاشية على الإيضاح

وتجنب التصحيف فيه فربما ... أدى إلى تغييره عن لفظه وتتبع العالي الصحيح فإنه ... نطق النبي لنا به عن ربه فكفى المحدث رتبة أن يرتضى ... ويعد من أهل الحديث وحزبه وفي الختام أسال الله الكريم أن يرحمني ويرحم المؤلف ووالدينا والمسلمين والمسلمات ويحشرنا في زمرة سيد المرسلين سيدنا محمد وآله صلى الله وسلم عليه وعليهم بقدر حبه فيه وفيهم إلى يوم الدين وعلينا وعلى المسلمين والمسلمات بمنّه وكرمه آمين. التعريف بصاحب الحاشية على الإيضاح رحمه الله آمين هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن على بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري المكي. والهيتمي: بالتاء المثناة لا بالثاء المثلثة كما هو شائع كما أفاده غير واحد من الفضلاء. ترجمة العيدروس في وفيات الأكابر فقال: وفي رجب سنة أربع وسبعين وتسعمائة توفي الشيخ الإمام شيخ الإسلام شهاب الدين. ثم قال: وكان بحراً في علم الفقه وتحقيق لا تكدره الدلاء، وإمام الحرمين كما أجمع على ذلك العارفون، وانعقدت عليه خناصر الملأ، ولد في رجب سنه تسع وتسعمائة، ومات أبوه وهو صغير فكفله الإمامان الكاملان علماً وعملاً، العارف شمس الدين بن أبي الخمائل، وشمس الدين الشناوي، وكان قد حفظ القرآن العظيم في صغره، ومن مشايخه الذين أخذ عنهم شيخ الإسلام القاضي زكريا [الأنصاري] الشافعي. والشيخ الإِمام المعمَّر الزينى السنباطي، والشهاب الرملي الشافعي وغيرهم، وأذن له بعضهم بالإفتاء والتدريس، وعمره دون العشرين، وبرع في علوم

كثيرة منها: التفسير، والحديث، وعلم الكلام، وأصول الفقه، وفروعه، والفرائض، والحساب، والنجوم، والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق، والتصوف. ومن محفوظاته في الفقه: المنهاج للنووي، ومقروءاته كثيرة لا يمكن تعدادها. وأما إجازات المشايخ له فكثيرة جداً وقد استوعبها رحمه الله في معجم مشايخه. وقَدِم مكة في آخر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة فحج وجاور بها في السنة التي تليها، ثم عاد إلى مصر ثم حج بعياله في آخر سنة سبع وثلاثين ثم حج سنة أربعين وجاور من ذلك الوقت بمكة المشرّفة وأقام بها يؤلف ويفتي ويدرس إلى أن توفي، فكانت مدة إقامته بها ثلاثاً وثلاثين سنة. ومن مؤلفاته: شرح المشكاة نحو الربع، وشرح المنهاج للنووي في مجلدين ضخمين، وشرحان على الإِرشاد للمقري: كبير وهو المسمى بالإِمداد، وصغير وهو المسمى فتح الجواد، وشرح همزية البوصيري، وشرح الأربعين النووية، والصواعق المحرقة على أهل البدع والضلال والزندقة، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع، والزواجر عن اقتراف الكبائر، ونصيحة الملوك، وشرح مختصر الفقيه عبد الله بافضل المسمى المنهج القويم في مسائل التعليم، والإعلام بقواطع الإسلام، وشرح العباب المسمى بالإِيعاب، وشرح قطعة من ألفية ابن مالك، وشرح مختصر أبي الحسن البكري في الفقه، وشرح مختصر الروض لكن لم يتم، وله حاشية على الإيضاح، وحاشية غير تامة على شرح المنهاج وحاشية على العباب، واختصر الإيضاح والإرشاد والروض والأخير لم يتم، ومناقب أبي حنيفة الجواهر الحسان في مناقب النعمان، والتعرف في الأصلين والتصوف، ومنظومة في أصول الدين وشرح عين الدين في التصوف ولم يتم.

والهيتمي نسبة إلى محلة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر. والسعدي نسبة إلى بني سعد بإقليم الشرقية من أقاليم مصر أيضاً ومسكنه الشرقية لكنه انتقل إلى محلة أبي الهيتم في الغربية، وأمّا شهرته بابن حجر فقيل: إن أحد أجداده كان ملازماً للصمت لا يتكلم إلا عند ضرورة أو حاجة فشبهوه بحجر ملقى لا ينطق، فقالوا: حجر، ثم اشتهر بذلك. وقد اشتهر بهذا اللقب أيضاً شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، فكان صاحب الترجمة يشبهه في فنه الذي اشتهر به وهو الحديث مع ما منحه الله به من الزيادة عليه من علم الفقه الذي لم يشتهر به الحافظ العسقلاني هذا الاشتهار كيف لا وهو سَميّه فأشبهه اسماً ووصفاً وزادته نسبته إلى جوار الحرم الشريف شرفاً. قلت: من مؤلفاته فتاوى في الفقه كبرى وصغرى، والفتاوى الحديثية، انتهى من مختصر كتاب نشر النور والزهر للشيخ عبد الله مرداد رحمه الله تعالى، أقول: ولصاحب الترجمة رحمه الله تعالى أيضاً من المؤلفات: تحفة المحتاج بشرح المنهاج "عشرة أجزاء" والإِفادة فيما جاء في المرضى والعيادة، وتحرير المقال فيما يحتاجه مؤدب الأطفال، وتلخيص الأحراء في تعليق الطلاق بالإِبراء، وتكفير الكبائر وشرح بانت سعاد ومبلغ القرب في فخر العرب، والإفصاح عن أحاديث النكاح، وأشرف المداخل إلى معرفة الشمائل، والأربعين العدلية وتنبيه الأخيار، وتطهير العيبة من دنس الغيبة، وثبت شيوخه ودر الغمامة في در الطيلسان والعامة، وقرة العين في أن التبرؤ لا يبطله الدين، والمناهل العذبة في إصلاح الكعبة، وإتحاف أهل الإِسلام بخصوصيات الصيام، انتهى من مقدمة الأستاذ محمود النواوي على إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام قمت باختصاره والتعليق عليه ولله الحمد والمنهة وسميتة (مختصر إتحاف أهل الإِسلام بخصوصيات الصيام) وذكرت في التعليق عليه أقوال الأئمة الأربعة رحم الله الجميع آمين، وهو مطبوع نفع الله به

التعريف بمؤلف الإفصاح

وبجميع كتبي كما نفع بأصولها آمين، وللمترجم له وقف عقار بمكة في محلتي سوق الليل والقشاشية يدخل فيه آل المرحومي وآل سنبل وبعض من قال المفتي الأحناف لأنهم أسباطه فإنه لم يعقب ذكوراً والله أعلم. أقول: ذكر الأستاذ محمود النواوي في مقدمته السالفة الذكر في ترجمة المحقق ابن حجر المكي أن وفاته كانت سنة 995 هـ ثم قال: ومن الناس من يقول إنها كانت سنة 975 هـ وهذا تفاوت بعيد وإنما العلم عند الله وحده. اهـ. أقول: جاء في حاشية المترجم له على إيضاح الإِمام النووي أنه فرغ من تحريرها غروب شمس ثامن ذي الحجة سنة 979 هـ، فهذا مما يدل على أن المترجم له عاش بعد ما قاله بعض الناس والمترجم له ومَنْ شاكله سلفاً وخلفاً من أهل العلم قد خلّدَ الله ذكرهم بالعلم بسبب إخلاصهم فهم أحياء على مدى الأزمان والدهور ورحم الله القائل: أخو العلم حيٌّ خالد بعد موته ... وأوصاله بين التراب رميم وذو الجهل مَيْت وهو يمشي على الثرى ... يُعَدُ من الأحياء وهو عديم التعريف بمؤلف الإِفصاح كان الله له آمين هو عبد الفتاح بن حسين بن إسماعيل بن محمد طيب راوه المكي. ولد بمكة المكرمة عام 1334 هـ تقريباً، ذكر له والده رحمه الله تعالى أن جدهم نزل أرض راوه كوت راجا بأندونيسيا، وأصله عمودي من حضرموت والعلم عند الله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] نسأله تعالى أن يتغمدنا بعفوه آمين. تلقى مبادئ القراءة والكتابة في بعض كتاتيب مكة المكرمة على بعض

المشايخ. منهم الشيخ الورع الصالح عبد الحميد المليباري وكان يدرس بالموضع المعروف بمولد السيد فاطمة الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزقاق الحجر شارع الصاغة، يقوم عليه الآن بناء مدرسة تحفيظ القرآن، ثم أدخل مدرسة المسعى في ذلك الحين بمدرسة الخياط رحمه الله تعالى ثم تلقى علومه بمدرستي الفلاح والصولتية وبالمسجد الحرام على عدة مشايخ. منهم مسند الحرمين ومحدثهما شيخه وشيخ مشايخه العلامة الشيخ عمر حمدان المحروسي المتوفي بالمدينة المنورة عام 1368 هـ وقد أجازه بجميع مروياته وكتب له بذلك بخط يده على ثبت الشيخ محفوظ الترمسي رحمه الله وهي موجودة بثبت المؤلف المسمى بالمصاعد الراويَّة إلى الأسانيد والكتب والمتون المرضية وهو مطبوع نفع الله به وبجميع كتبي آمين. ومنهم العلامة الورع شيخة وشيخ مشايخه الشيخ عيسى بن محمد رواس المتوفى بمكة عام 1365 هـ. ومنهم العلامة المتفنن الشيخ محمد علي بن حسين المالكي المتوفى بالطائف عام 1367 هـ. ومنهم العلامة الورع الزاهد الشيخ إبراهيم الخزامي المكي المقرئ والد الأستاذ صالح الخزامي المفتش سابقاً بوزارة المعارف السعودية المتوفى بمكة المكرمة. ومنهم العلامة الشريف العلوي الحبيب عيدروس بن سالم البار المتوفى بمكة عام 1367 هـ وقد أجازه بجميع مروياته وكتب له بذلك إجازة وهي مذكرة في ثبت المؤلف المسمى بالمصاعد الراويّة إلى الأسانيد والكتب والمتون المرضية وهو مطبوع نفع الله به آمين.

ومنهم السيد العلوي العلامة بكر بن سالم البار المتوفى بمكة. ومنهم الشيخ العلامة حسن بن محمد المشاط المتوفى بمكة صبح الأربعاء بتاريخ 7/ 10/ 1399 هـ. ومنهم العلامة الشيخ يحيى أمان المتوفى بمكة عام 1389 هـ. ومنهم الشيخ العلامة محمد العربي التباني الجزائري المتوفى بمكة عام 1390 هـ. ومنهم المحدث الشيخ عبد الله بخاري النمنقداني المدرس بالمدرسة الصولتية سابقاً المتوفى بمكة عام 1362 هـ وله بها عقب منهم الكاتب الشهير عبد الكريم عبد الله نيازي. ومنهم السيد العلامة بكر حبشي والسيد طاهر حبشي المتوفيان بمكة والسيد العلامة محمد أمين كتبي المتوفى بمكة يوم الاثنين 4/ 1/ 1404 هـ والسيد العلامة علوي بن عباس المالكي المتوفى بمكة بتاريخ 25/ 2/ 1391 هـ وأجازه بجميع مروياته وكتب له إجازة بخطه على ثبته المسمى إتحاف ذوي الهمم العلية وهي موجودة بالمصاعد الراوية، والعلامة الشيخ محمد نور سيف والعلامة الشيخ زكريا عبد الله بيلا، والشيخ أحمد آل منصور الفقيه. والشيخ زبير فلفلان والشيخ عبد الرحمن أسعد اليمني والسيد محمد سليمان نوري، والشيخ عبد السلام عمر الداغستاني والشيخ حامد كعكي والشيخ العلامة السيد حسن سعيد اليماني والشيغ العلامة سعيد الخليدي اليمني رحمه الله تعالى والشيخ العلامة أحمد ناضرين والسيد العلامة إسحق عزوز.

ومنهم العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس مجلس القضاء والرئيس العام للإشراف الديني على المسجد الحرام، حضر بعض مجالسه العلمية، المتوفى بمكة المكرمة ليلة الخميس 21/ 11/ 1402 هـ ودفن بالعدل بمكة. وأجازه بعض من شاركه في الأخذ عن بعض مشايخه (منهم) العلامة الفقية الشيخ عبد الله بن سعيد محمد عبادي اللحجي الحضرمي وكتب له بذلك إجازة عامة على ثبته المسمى بكتاب المرقاة إلى الرواية والرواة وهي موجودة بالمصاعد الراوية، ومنهم العلامة المسند المتفنن الشيخ محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكي المتوفى 28/ 12/ 1410 وكتب له بذلك إجازة خاصة بأسانيد الصحيحين والسنن الأربعة والموطأ وعامة بسائر مروياته. وأجازه أيضا بمجموعة المسلسلات والأوائل والأسانيد العالية وهي موجودة بالمصاعد الراوية. ومنهم العلامة المحدث الفقيه الأصولي عبد الله الصديق الحسني الطنجي المغربي وكتب له بذلك إجازة على ثبت العلامة عبد الله الشبراوي الذي يليه ارتشاف الرحيق من أسانيد عبد الله الصديق بجميع ما حواه هذا الثبت وبجميع مروياته ومؤلفاته وهي موجودة بالمصاعد الراوية وغير هؤلاء العلماء الفضلاء ممن لم تذكر أسماؤهم جزاه الله وجزاهم خير الجزاء ورحمه ورحمهم والمسلمين والمسلمات آمين. ثم أجيز بالتدريس بالمسجد الحرام عام 1357 هـ. وعيّن مدرساً بدار الأيتام بمكة إلى غاية 29/ 9/ 1359 هـ. وكان من الأساتذة الذين تخرج على أيديهم الفوج الأول من دار الأيتام؛ كالسيد العقيد محسن عنقاوي، والسيد عبد العزيز أولياء رحمه الله تعالى رئيس إدارة الجوازات والجنسية بجدة سابقا، والعقيد هاشم عبد المولى، والعقيد يوسف نجار رحمه الله تعالى،

والعقيد سعيد الكردي، والعقيد محمد الغرابي العسيري، وجميع زملائهم. ثم في آخر عام 1359 هـ. انتقل إلى مديرية المعارف في عهد مديرها السيد طاهر الدباغ رحمه الله تعالى، فعين مديراً لمدرسة خميس مشيط بجنوب المملكة العربية السعودية وكان أول مدير لها، فتخرج على يديه بمدرسة خميس مشيط جمع ممن يشغلون الآن وظائف حكومية؛ منهم الأستاذ فهد بن عليط كاتب إمارة بيشة، والأستاذ محمد سعد أبو كف، والأستاذ سعد بن محمسة، وأولاد ابن برقان، وأولاد سعيد عوض، وجماعة من آل عبد الوهاب أبي ملحة، وآل عطرس، وآل بن باحص، وآل ابن قرعة، وسليمان بن محمد المطوع، وآل ابن نابت ناصر وأخوه، وسعيد بن ظافر بن حمدان، وكثير غيرهم نفع الله بهم تلك الجهة بالتدريس وبث العلم ثم طلب النقل للقرب من مكة المكرمة فعين مدرساً من الدرجة الأولى بالمدرسة السعودية بجدة حيث لم توجد إدارة مدرسة شاغرة حينذاك ثم طلب النقل إلى مدارس مكة عام 1365 هـ فعين مدرساً بالمدرسة الفيصلية ثم مساعد مدير المدرسة الرحمانية الأستاذ عبد الله الساسي رحمه الله عام 1373 هـ ثم في عام 1379 هـ عين مدرساً ثانوياً بالمدرسة العزيزية الثانوية ثم في عام 1394 هـ أحيل إلى التقاعد حسب النظام، ثم في عام 1395 هـ طلب مدرساً بمعهد المسجد الحرام تبع الشؤون الدينية، فدرس به، وفي أيام العطلة الصيفية يدرس بمسجد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف، وبمسجد الهادي بالطائف أيضاً. مؤلفاته: التعليق الأسنى شرح منظومة أسماء الله الحسنى، نظمت في اثني عشر بيتاً سهلة للحفظ، وسيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - في السيرة النبوية، ومختصر إتحاف أهل

الإسلام بخصوصيات الصيام، اختصر فيه كتاب العلامة أحمد بن حجر الهيتمي المكي رحمه الله تعالى، وإتحاف الصديق بمناقب الصديق أبي بكر رضي الله عنه، والكوكب الأغر على قطف الثمر في موافقات عمر رضي الله عنه للقرآن والتوراة والأثر، والاتزان في مناقب عثمان رضي الله تعالى عنه، وملتقى الأصفياء في مناقب الإِمام علي والسبطين والزهراء رضوان الله تعالى عليهم جميعاً، والدرر اللؤلؤية على النفحة الحسنية شرح التحفة السنية في علم الفرائض، والمجموعة الراويّة شرح المنظومة الرحبية وهي شرح مبسط بالجدول والشبابيك أيضاً يكتفي طالب علم الفرائض في هذه العصور بهما عن غيرهما إن شاء الله تعالى، ومرشد الحاج والمعتمر والزائر إلى أعمال الحج والعمرة والزيارة، والسيدة الكبرى خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، وهي رسالة في مناقبها، وزيادة تعليق على رياض الصالحين، والإفصاح عن مسائل الإيضاح للإمام النووي على مذاهب الأئمة الأعلام في المناسك وهو هذا الكتاب، والدعاء المقبول الوارد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسؤال وجواب في الأحوال الأربعينية في علم الميراث، والمصاعد الرواية ثبت ذكر فيه المؤلف مشايخه ومجيزيه، وتاريخ أمراء مكة البلد الحرام عبر عصور سلام والجميع مطبوع نفع الله به آمين. أولاده: خمسة عشر ولداً، من الذكور ثمانية: عثمان، ومعتوق، ومحمد علي، وعبد العزيز، وخالد، ومصطفى، وأحمد، وإبراهيم. ومن الإناث سبع، كان الله له ولهم وللمسلمين والمسلمات ورحم الله الجميع أحياءً وأمواتاً آمين.

مقدمة صاحب الإفصاح

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة صاحب الإِفصاح الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة من رب العالمين للخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد القائل: "أفضل الجهاد حج مبرور" والقائل: "من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" والقائل: "خذوا عني مناسككم" وعلى آله وصحبه شموس الهداية والدين وعلى من اقتفى آثارهم واهتدى بهديهم ودعا بدعوتهم آمين. أما بعد: فقد وفقني الله بحوله وقوته فقمت بتلخيص كتيب في المناسك لخصته من كتاب الإِيضاح للإمام النووي وحاشيته للمحقق العلامة ابن حجر الهيتمي المكي رحمني الله ورحمهما وإخواني المسلمين والمسلمات رحمة الأبرار آمين. وسميته "مرشد الحاج والمعتمر والزائر إلى أعمال الحج والعمرة والزيارة" وهو مطبوع نفع الله به وبجميع كتبي آمين. وبقي في نفسي أنْ أقوم بتعليق على كتاب الإيضاح أُبيِّنُ فيه مسائله على أقوال الأئمة، الذين اصطفاهم الله واختارهم من العباد، وألهمهم رشدهم وسلك بهم منهج

الرشاد، وفتح عليهم في العلوم منطوقها والمفهوم، بعد أن توجهوا إلى ذلك بهمم عليّة وعزائم قوية ونفوس أبيّة، وبرزوا في حلبات الجد والاجتهاد حتى تأهلوا لتفهم معاني وأسرار كلام الرحمن، وسنة خير مبعوث من بني الإنسان، وَقَدرُوا على استنباط الأحكام والمسائل منها دينية ودنيوية بحق وجدارة، لا بثرثرة وفتح أشداق، كما يدّعي بعض الجهلة القدرة عليه وأنه مِنَ الّذين قال الله فيهم: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وذاته خاوية من العلم وصالح العمل ورحم الله القائل: وكلٌّ يَدَّعِي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا وهذا البعض الثرثار الجاهل المدعي الاجتهاد والقدرة على الاستنباط مع خلوه من الشروط المطلوبة له يصدق عليه قول القائل رحمه الله تعالى: تصدر للتدريس كل مهوس ... جهول يسمى بالفقيه المدرس وحُقّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هَزُلت حتى بدا من هُزالها ... كُلاها وحتى آسْتامَهَا كلُّ مفلس فلما عزمتُ على ذلك طلبت منه سبحانه وتعالى العونَ فأجابَ بدليلِ نشاطي على المطالعة في كتاب المجموع وفي شرح مسلم وفي كتاب تهذيب الأسماء واللغات، والجميع للمصنف، وفي كتاب المغني للعلامة ابن قدامة الحنبلي، وفي الجزء الخامس من أضواء البيان للعلامة محمد الأمين الجكني الشنقيطي المالكي، وفي كتاب رحمة الأمة للعلامة محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي، وفي كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد للعلامة ابن رشد المالكي، وفي حاشية الإيضاح للعلامة المحقق ابن حجر المكي الشافعي وفي بعض التقييدات، وفي عمدة الأبرار للعلامة علي بن عبد البر

عبد الفتاح الونائي الشافعي، وفي إرشاد العلامة البطاح المكي الشافعي، وفي إعانة الطالبين للعلامة أبي بكر شطا الشافعي، وفي كتاب مفيد الأنام للشيخ عبد الله عبد الرحمن آل جاسر الحنبلي، وفي غيرها من الكتب جزى الله مؤلفيها خيراء ورحمني ورحمهم رحمة المقربين، فأخرجت بحول الله وقوته هذا التعليق، وسميته "الإِفصاح عن مسائل الإِيضاح" على مذاهب الأئمة الأعلام مصابيح السنّة مستنبطي الأحكام. فما وجدتَ يا أخيَّ من صواب فمن الله وما توفيقي إلاّ بالله، وما وجدتَ من خَطَأ فمنّي، وهذا نعتُ البشر، فإذا أُعْجبْتَ بشيء من ذلك فادع الله لي بحسن الخاتمة، وإنْ سَاءَكَ شيءٌ فاستغفر الله لي فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ هو، وفي الختام أسأله تعالى أنْ يجعل عملي مقبولاً، وأن ينفع بكتبي جميعها كما نفع بأصولها وأن يحسن الخاتمة لي وللمسلمين والمسلمات آمين. 11/ 12/ 1400 هـ مؤلف الإفصاح عبد الفتاح حسين راوه المكي

مقدمة الإيضاح

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الإِيضاح الحمد لله ذي الجلال (¬1) والإِكرام، والفضل والطول والمنن العظام (¬2)، الذي هدانا للإسلام (¬3)، وأسبغ علينا جزيل نِعَمِهِ (¬4) وألْطَافِهِ (¬5) الجسام، وكرّم الآدميين (¬6) وفضّلهم على غيرهم من الأنام (¬7)، ودعاهم برأفته ورحمته إلى دار ¬

_ (¬1) أي صاحب العظمة وفيه براعة استهلال من حيث ظهور الجلال وما بعده في الحج وما اشتمل عليه. (¬2) المنن: جمع منَّة وهي النعمة الثقيلة ووصفها بالعظام من الوصف الكاشف ويجوز كونه مؤسساً. (¬3) الإسلام وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم المحمود إلى ما فيه نفعهم بالذات دنيا وأخرى. سمي بذلك لأنه يستسلم له وينقاد ويعبر عنه بالدين والشريعة والملة لأنه يدان ويجتمع عليه ويملي ويكتب فالأربعة متحدة ذاتاً مختلفة اعتباراً. (¬4) نعمه: جمع نعمة وهي ما قصد به الإحسان والنفع لا لعوض ولا لغرض. (¬5) ألطافه: جمع لطف وهو ما يقع به صلاح العبد آخرة نسأله تعالى أن يشملنا بها آمين. (¬6) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] الآية. (¬7) الأنام: أي الخلق وشمل الملائكة، والتحقيق أن خواص الآدميين (أنبياءهم) أفضل من خواص الملائكة كجبريل وخواصهم أفضل من عوامنا أي صُلَحائنا كأبي بكر رضي الله عنه.

السلام (¬1)، وأكرمهم بما شَرَعَه لهم من حَج بيته الحرام (¬2)، ويَسرَ ذلك على تكرر الدهور (¬3) والأعوام، وفرض حَجه على من استطاع إليه سبيلاً من الناس حتى الأغبياء والطغام (¬4). أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأعظمه وأتمّه وأشْمَلَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بوحدانيته وإذْعاناً لجلاله وعظمته وصمدانيته، وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى من خليقته والمختار من بريته - صلى الله عليه وسلم - وزاده شرفاً وفضلاً لديه. أما بعد: فإن الحج أحد أركان الدين وَمِنْ أعظم الطاعات لرب العالمين وهو شِعَارُ أنبياءِ الله (¬5) وسائر عباد الله الصالحين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فمِنْ أهَم الأمور بيان أحكامه (¬6)، وإيضاح مناسكه (¬7) وأقسامه (¬8)، ¬

_ (¬1) أي الجنة سميت به لسلامة داخلها من الآفات جعلنا الله من أهلها آمين. (¬2) وصف البيت بالحرام لحرمة صيده وحرمة قطع شجره. (¬3) الدهور: جمع دهر وهو الأمد المحدود، وفي الخبر المتفق عليه النهي عن سبه، ومعناه ما أصابك منه فالله هو الفاعل وكذا ما يقال في سب الريح، وسبب النهي ما كانت العرب تعتاده من ذمه لما يرونه من أنه الفاعل للنوائب فقال تعالى: "وأنا الدهر" أي الذي أفعل ذلك لا الدهر في زعمكم، فسب الدهر أو الريح يخشى منه أن يؤول إلى سبه تعالى فلذا نهى عنه والله أعلم. (¬4) الأغبياء: جمع غبي وهو قليل الفطنة، والطغام: الحمقى ضعفاء الرأي. (¬5) فيه إثبات حج الأنبياء وهو الظاهر من قول العلماء رحمهم الله تعالى أن جميع الأنبياء والرسل حجوا البيت. (¬6) أي ليكون الآتي بالحج على بصيرة منها. (¬7) كأنه سمي بإيضاح المناسك لذلك. (¬8) من فرض عيني وكفائي وهو إحياء البيت كل عام بإقامة الحج ومندوب ويتصور من الأرقاء والصبيان والحج بعد الحج الأول.

وذكر مصححاته (¬1) ومفسداته (¬2) وواجباته (¬3) وآدابه ومسنوناته (¬4) وسوابقه (¬5) ولواحقه (¬6) وظواهره (¬7) ودقائقه (¬8)، وبيان الحَرَم ومكة والمسجد والكعبة وما يتعلق بها من الأحكام وما تميزت به (¬9) عن سائر بلاد الإسلام. وقد جمعتُ هذا الكتاب مستوعباً لجميع مقاصدها (¬10) مستوفياً لكل ما يحتاج إليه من أصولها وفروعها ومعاقدها (¬11) وضمنته من النفائس (¬12) ما لا ينبغي لطالب الحج (¬13) أن تفوته معرفته (¬14) ولا تعزب عنه خبرته (¬15)، ولم أقتصر فيه على ما ¬

_ (¬1) أي مما يتوقف عليه صحة الحج. (¬2) أي جعل الحج فاسداً كالجماع بشرطه. (¬3) أي مما لا يتوقف عليه صحة الحج وإنما يجب دم بتركها. (¬4) الظاهر اقتران السنة والأدب وهو كذلك من حيث التأكد وإن اشتركا في أصل الطالب. وفي الروضة: السنة يتأكد شأنها والأدب دونها. (¬5) أي مما يتعلق قبل الشروع في الحج مِنَ الأحكام في السفر. (¬6) أي مما يتعلق بعد تمام الحج من الأحكام وفي رجوعه منه لبلده. (¬7) أي كمعرفة الأركان الواجبات. (¬8) أي كعدم صحة الإحرام لمن لم ينفر من منى قبل مغيب شمس أيام التشريق وإن أتم عمله الواجب والمفروض كما في الأم للشافعي رحمه الله تعالى. انتهى (شرح ابن علان رحمه الله تعالى). (¬9) أي من تضعيف ثواب العمل وغير ذلك. (¬10) أي مما يهتم بمعرفته ويقصد تحقيقه من المناسك اهتماماً. (¬11) أي ما فيه تعقيد وصعوبة من المناسك. (¬12) النفائس: جمع نفيس أو نفيسة ما يرغب فيه مطلقاً. (¬13) أي على الوجه الأكمل. (¬14) أي لكمال الحاجة إليه لكونه مصححاً أو واجباً فيفعل أو مفسداً أو محرماً فيترك والعلم طريق العمل. (¬15) أي درايته.

يحتاج إليه في الغالب بل ذكرت فيه أيضاً (¬1) كل ما قد تدعو إليه حاجة الطالب بحيث لا يخفى عليه شيء من أمر المناسك في معظم الأوقات ولا يحتاج إلى السؤال لأحد عن شيء من ذلك في أكثر الحادثات وقصدت فيه أنْ يستغني به صاحبه (¬2) عن استفتاء غيره عما يحتاج إليه (¬3). وأرجو أن لا يقع له شيء من المسائل إلا وَجَدَه فيه منصوصاً عليه وأحذف الأدلة في معظمه إيثاراً للاختصار (¬4) وخوفاً من الإِملال بالإِكثار وأحرص (¬5) على إيضاح العبارة (¬6) وإيجازها بحيث يفهمها العامي ولا يستتبعها الفقيه (¬7) لتعم فائدته وينتفع به القاصر (¬8) والنبيه. وقد صنف الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى في المناسك كتاباً نفيساً وقد ذكرت مقاصده (¬9) في هذا الكتاب وزدت فيه مثله أو أكثر من النفائس التي لا يستغني عن معرفتها من له رغبة من الطلاب وعلى الله اعتمادي وإليه تفويضي (¬10) ¬

_ (¬1) أيضاً كلمة تقال في شيئين بينهما اتفاق في المعنى دون اللفظ ويمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر منصوبة مفعولاً مطلقاً أو حالاً نطق بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي عربية. (¬2) أي الملازم لمطالعته والمتأمل في خباياه. (¬3) فيه اعتماد الكتاب المعتمد الذي علم من مؤلفه أنه لا يمشي إلا على المعتمد كالمصنف رحمه الله تعالى. (¬4) الاختصار: تقليل اللفظ وتكثير المعنى إذ هو محمود شرعاً قال - صلى الله عليه وسلم -: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً". (¬5) الحرص: شدة العناية بالأمر. (¬6) أي لأن الكتاب للفقيه وغيره. (¬7) الفقيه: العالم بمواقع ألفاظ العلماء وعباراتهم. (¬8) لوضوح عبارته، والقاصر: قليل الفهم. (¬9) أي ما يقصد منه بعبارة وجيزة وافية بالمراد. (¬10) التفويض: رد الأمور إليه تعالى رضاً بفعله.

واستنادي (¬1) وهذا كتاب يشتمل (¬2) على ثمانية أبواب: الباب الأول: في آداب السفر (¬3) وفي آخره فصل فيما يتعلق بوجوب الحج (¬4). الباب الثاني: في الإحرام (¬5) ومحرماته وواجباته ومسنوناته. الباب الثالث: في دخول مكة زادها الله شرفاً وما يتعلق به (¬6) وفيه ثمانية فصول (¬7). ¬

_ (¬1) لأنه تعالى لا يرد من سأله وفوض أمره إليه. (¬2) أي اشتمال الكل على الأجزاء. (¬3) إنما سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال. (¬4) أي مما جرت به العادة من ذكر مراتب الحج من الصحة المطلقة وصحة المباشرة والوقوع عن حجة الإسلام. (¬5) أي في الهيئة الناشئة عن نية الدخول في النسك. (¬6) أي من الطواف والسعي والوقوف بعرفة فما بعده. (¬7) ذكر المصنف رحمه الله تعالى في الفصل الثامن في المسألة الخامسة عشرة منه بعض حكم الحج وإليك أسرار الحج وذكرياته، ومنافعه دينية ودنيوية كما ظهر لي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن غير ذلك فأستغفر الله.

أسرار الحج وذكرياته

أسرار الحج وذكرياته في كل مظهر من مظاهر الحج وفي كل مجال من مجالاته، تتجلى فيه العبودية لله ويظهر أثرها بارزاً ملحوظاً، ففي أداء الشعائر والتلبس بالطاعات من تجرد عن الثياب وحسر عن الرؤوس وفي الطواف بالبيت واستلام أركانه وفي موقف عرفات ومزدلفة ومنى في ذل وخضوع وتضرع وخشوع، وفي رمي الجمار والذبح أو النحر وما إليه في جميع ذلك مظهر العبودية لرب العباد وبارئهم، وإفراد له بالعبادة وحده دون سواه، تلك العبودية هي سر علة الوجود وهدفه الأسمى. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لَبَّيْكَ بِحِجّةٍ تَعَبداً ورِقَّاً". ثم إن الرحلة إلى بيت الله الحرام وبقية المشاعر تعطي صورة رمزية لعالم آخر وحياة أخرى، والغرض من إعطاء هذه الصورة هو دوام التذكر أبداً والبعد عن الغفلة وعدم الركون إلى الدنيا، وأخذ العبرة للاستعداد والتشمير عن ساعد الجد للتزود من الأعمال الصالحة، وادخارها لحياة باقية سعيدة وعيش رغيد لا يفنى ولا يبيد طول الأمد. فالحاج إذ يسلك في طريقه إلى الحج المفاوز ويجتاز المخاوف والصعاب لا يكون له ما يسليه ويروِّح عنه ويربط جأشه في رحلته، حتى يبلغ

مأمنه إلا ما أعده من مال ومركوب، وإلا ما ادَّخره من زاد ومزاد فهو يشبه من يفارق دنياه وحيداً فريداً لا أهل ولا مال، ولا زاد أو مزاد يؤانس في وحشته، إلا ما ادَّخره من عمل صالح وإلا ما سعى إليه من كل مناحي البر وأوجه الخير، ومثل ذلك تجرده عن المخيط كتجرده عن ثيابه للغسل عند الموت، وفيه إشارة إلى الإِعراض عن الترفه والزينة (¬1)، وكون الحاج أشعث أغبر يشبه خروجه من القبر إلى المحشر حيران لهفان مندهشاً ينفض عنه غباره، وفي تلبيته إجابته لنداء ربه الذي استدعاه على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، وامتثال أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذي أجاب حينما سئل أي الحج أفضل؟ فقال:"العج والثج" (¬2) ووقوف الحجيج في عرفات كوقوفهم في عرصات القيامة آملين راغبين راجين وهم بين شقي وسعيد ومقبول ومخذول، وتعرضهم للهاجرة وحَمارّة القيظ في عرفات كتعرضهم للفح الشمس وغمرة العرق في المحشر، وإفاضتهم من عرفات كانفضاضهم من الموقف في القيامة بعد الفصل والقضاء، ولبثهم في مزدلفة ومنى كلبث المذنبين وانتظارهم لشفاعة الشافعين (¬3)، ورميهم الجمار تذكرهم لقصة أبيهم إبراهيم عليه السلام مع الشيطان الرجيم والتشبه به (¬4)، والاقتداء بنيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وذبحهم الأضاحي ¬

_ (¬1) أي فيتحقق في الحج التشعث والتغبر لله لما جاء في الحديث: "الحاج أشعث أغبر". (¬2) العج: رفع الصوت، المراد هنا رفع الصوت بالتلبية، والثج: سيلان الدم، والمراد هنا سيلان دم الأضاحي. (¬3) من مجلة المنهل بعض مقال للأستاذ عبد الله خياط مع تصرف بسيط. (¬4) روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "لما أتى خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم ذكر الجمرة الثالثة كذلك".

تجديد لذكرى فداء الله تعالى إسماعيل بكبش من الجنة، حينما أراد والده إبراهيم عليهما السلام ذبحه امتثالاً لأمر الله تعالى (¬1). وطوافهم بالبيت تعظيم له لكونه رفع على قواعد الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام. ¬

_ (¬1) أي لا لمجرد الرؤيا المنامية فقط لأنه لو كان فعل الذبح لمجرد أن إبراهيم عليه السلام رأى نفسه وابنه إسماعيل عليه السلام في المنام على هيئة الذابح الذي أضطجع ذبيحته ومر عليها بسكينه ما صحّ لإبراهيم عليه السلام أن يقدم على فعلة الذبح الخطيرة التي تعد من أكبر الكبائر، ومما يؤيد هذا القول جواب إسماعيل عليه السلام الذي أجاب به أباه حينما قصّ عليه أنه رأى في المنام أنه يذبحه {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] فإنه يشير إشارة قوية إلى أن تلك الرؤيا كانت مشتملة على أمر وتكليف بذلك الذبح، وقول آخر: إن فعل الذبح للرؤيا فقط لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق ليس فيها شيء من آثار تخليط الشيطان وتلبيسه، لأن الله تعالى عصمهم في جميع أحوالهم من كيد الشيطان وحصنهم من وساوسه. فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام؟ أجيب: بأن الخليل عليه السلام سأل ربه أن يهب له ولداً من الصالحين {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات: 100] فأجاب الله دعاءه ووهبه الولد على كبره وشيخوخته، ففرح به وأخذ الولد منزلته من قلبه فأراد الله أن يحفظ على إبراهيم مقام الخلة الخطيرة الشأن وأن يطهر قلبه من التعلق بغيره تعالى وأن يظهر للناس بقاءه على مقام الخلة فأمره بذبح هذا الولد الذي أخذ شعبة من قلبه ليخلص هذا القلب السليم الطاهر لربه، وليكون حقيقاً بهذه المنحة العظمى والنعمة الكبرى نعمة الخلة لله عز وجل كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125] فبادر الخليل عليه السلام وامتثل أمر ربه وشرع في وسائل الذبح ومقدماته {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103] ووقع ما أراد الله وهو تحقيق العزم الصادق من الخليل وناداه سبحانه بقوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 103 - 106] وفدى الله إسماعيل بكبش من الجنة يذبح مكانه {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107] وجعل هذه الشعيرة سنة باقية في عقب إبراهيم وأتباعه يذبحون أيام النحر ويجدون ذكرى هذا الذبح العظيم ويضحون في سبيل الله ما يشترونه بحرّ أموالهم.

ورَمَلهم (¬1) واضطباعهم في الطواف تذكير لقلوبهم بهدي الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بفعله ليكونوا على شيء من صبره وعزمه وجلده وتذكرة بنشأة الإِسلام في عهده الأول، وسعيهم بين الصفا والمروة تذكير بحال إسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام، حين تركهما الخليل عليه الصلاة والسلام في رعاية ربّ العالمين، ففاضت زمزم بماء البركة وعم الخير واتسع العمران. وحلقهم أو تقصيرهم لشعورهم طريق لخروجهم من الإِحرام والتحرر ¬

_ (¬1) الرمل: ويسمى الخبب وهو المشي بسرعة مع تقارب الخطا بهمة ونشاط، والاضطباع: وهو كشف المنكب الأيمن، بجعل جانب الرداء الأيمن تحت الإبط وطرحه على المنكب الأيسر، هذا الرمل وهذا الاضطباع هما من الهدي النبوي الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشار على الصحابة به في طوافهم بالكعبة في عمرة القضاء التي كانت في ذي القعدة من العام السابع، وقد أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يرد بهذا الهدي على المشركين ويكبتهم به ويجعله تكذيباً عملياً لهم، لما بلغه أنهم يستضعفون صحابته رضوان الله عليهم ويهزءون بقوتهم ويهونون من أمرهم ويقولون: إنهم مرضى ضعفاء نهكتهم حمى يثرب، فأخذ عليه الصلاة والسلام يشجع أصحابه ويقول لهم: "رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة" فأراهم عليه الصلاة والسلام من نفسه ومن أصحابه بالرمل والاضطباع جلداً قوياً وعزماً وإيماناً وعزة يجب أن تكون محل الأسوة ومضرب الأمثال. فان قيل: كان الرمل والاضطباع في الطواف من الرسول عليه الصلاة والسلام ومن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم لذلك المعنى الخاص الذي انتهى بانتهاء وقته وتمام الغرض منه. أجيب: بأنهما صفحة تاريخية إسلامية يجب المحافظة عليها وتكرارها عملياً في الطواف تذكيراً للقلوب بهدي رسولها - صلى الله عليه وسلم -، ومحافظة على متابعة سلفنا الصالح، وقد خطر لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يترك الرمل في الطواف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله لسبب عارض فزال ثم بدا له رضي الله تعالى عنه فمضى عليه ولم يتركه محافظة على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

من أحكامه وقيوده (¬1)، وبه يتحقق انقضاء التشعث والتغبر، وفي الحلق بعد ذلك كله إشارة منهم إلى إبعادهم الذنوب عنهم واستئصالهم كل رذيلة وابتعادهم عن الأهواء والأغراض الشخصية وطرحهم آمالهم. ¬

_ (¬1) أي فلا يخرج الحاج من إحرامه فلتة أو مفاجأة ويتمتع بالمباحات إلا بعمل ظاهر وقصد وإرادة، ألا وهو الحلق كما لا يخرج المصلي من صلاته إلا بالتسليم.

منافع الحج دينية ودنيوية

منافع الحج دينية ودنيوية ففي انتقال الحاج من بلده وسفره إلى مكة، توسيع لدائرة فكره ومعرفته وتدريبه على احتمال متاعب الحياة واكتساب فضيلة الصبر، وفي إحرامه من الميقات ضبط لعزيمته (¬1) وسبب لعلو همته، وفي تجرده من الثياب صحة لجسمه. فقد قال الأطباء: إن الإِنسان يلزمه أن يعرض جسمه وبدنه للهواء الطلق، ومؤثرات الجو مدة من الزمن ليستريح فيها الجسم ويسترجع قواه ويستعيد نشاطه بملاصقة أكسجين الهواء لجميع مسام الجسم (¬2). وفي كفه عن محظورات الإِحرام حمله على مكارم الأخلاق وبعده عن الترف واللهو والشهوات وتوجيهه إلى الأعمال الصالحة رجاء العفو والمغفرة، وفي تلبيته إعلانه لذكر الله تعالى، وإظهار العبودية له، وتنبيه نفسه وإيقاظها لمقاصد الحج، وشحنها بالإِيمان، وطرحها على عتبة الرحمن، وبالتلبية يسري التيار الإيماني في جسم الحاج كما يجري التيار الكهربائي في الأسلاك، فإذا قال ¬

_ (¬1) أي على الحج بفعل ظاهر وهو النية والتجرد عن لبس المخيط الذي ينبه في الحاج الشعور والانتباه ويكون حارساً عن الغفلة والذهول، فيصير هذا الإحرام للحاج كتكبيرة الإِحرام للصلاة. (¬2) فتبين بهذا فساد قول المتحاملين على الإسلام، بأن الإِحرام سبب كبير للأمراض التي تحصل للحاج في مواطن النسك من البرودة شتاء، ومن الاحتقانات صيفاً.

الحاج: "لبيك اللهم لبيك إلى آخرها" تمثل له الحج ومقاصده وروحه وتاقت فيه الأشواق والتهبت شعلة التوحيد في عروقه ودمه، واتصل بخليل الله وابنه إسماعيل وبمحمد حبيبه والداعين بدعوتهم فكان من حزبهم، اللهم اجعلنا منهم آمين. وفي وقوفه بعرفة هو وإخوانه على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وألوانهم في صعيد واحد وزي واحد ووقت واحد، لا فرق بين رئيس ومرؤوس وصغير وكبير وغني وفقير يهتفون كلهم في لغة واحدة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، ويتضرعون إلى الله بقلوب ملئت بالخشية وأيد امتدت ضارعة بالدعاء، وألسنة تلهج بالثناء على الله بما هو أهله إشعارٌ بالمساواة وفيه يظهر أيضاً معنى الأخوة الشاملة التي يحرص الإِسلام على غرسها في نفوس أتباعه. وفي هذا الوقوف وفي هذا الضجيج من الدعاء والذكر والاستغفار والتوبة والتلبية ما يعيد الحياة إلى القلوب الميتة، ويحرك الهمم الفاترة وينبه النفوس الخامدة، ويشعل شرارة الحب والطموح التي انطفأت أو كادت تنطفىء، ويجلب رحمة الله تعالى، ويكفر الخطايا، فإن الهمم إذا اجتمعت بهذه الكيفية لا يتخلف عنها نزول الرحمة والمغفرة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة" وما ذاك إلا بما يُرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام وهذا هو أصل تكفير الذنوب وتطهير القلوب، وهو السر في أن الحج المبرور يرجع صاحبه كيوم ولدته أمه، وفي وقوف عرفة يرى الفقير الضعيف ذل الغني القوي أمام ربه يتضرع إليه ويسأله قضاء حاجته، كما يسأله الفقير. فيحس في هذه الحالة معنى المساواة يتحقق، فهو والغني والقوي عبيد الله المحتاجون إليه، الفقراء إلى رحمته،

فترتفع معنويته وتعلو في نفسه منزلته، ويسترد فيها قيمته فلا يذل ولا يضعف إلا لله خالقه وخالق كل شيء. وفي إفاضته إلى المزدلفة والمشعر الحرام: امتثاله أمر الله وشكره على ما حباه مولاه من فضل ونعمة ورحمة وغفران، وفي رميه الجمار رميه لجميع عوامل الشر والفتنة وإغراءات الحياة وزخرفها التي يسببها الشيطان. وفي تكبيره عند كل حصاة تنبيه أن الله سبحانه وتعالى أكبر من أن يشغله عنه زُهُوُّ الحياة وفتنتها، وتسويلات الشيطان، وإغراءاته وأنه عبد مطيع لربه مخلص له في عبادته. وفي نحره الأضاحي: امتثاله لأمر الله وشكره الذي وفقه لأداء شعائر دينه، ثم التقرب إليه لإطعام الفقراء والتصدق عليهم، والتوسعة على نفسه، وتطهيرها من دنس الشح (¬1). وفي حلقه أو تقصيره لشعر رأسه بعد ذكر الله والإِنابة إليه، وبعد التزامه العهود والمواثيق على العمل بما فيه رضاه، وعدم التعرض لمخالفته ومناهيه بعد ذلك كله إشارة منه (¬2) إلى إبعاده الذنوبَ عنه واستئصاله كل رذيلة، وابتعاده عن الأهواء والأغراض الشخصية وطرحه آماله من الدنيا الزائلة بهمة وعزيمة صادقتين. وفي إقامته بمنى أيام التشريق في متعة وألفة: جمع للشمل بعد وعثاء السفر، وذكر الله تعالى وشكره على أفضاله ونعمه، وفي طوافه هو وإخوانه المسلمون حول الكعبة المطهرة واستلامهم الحجر الأسود، وتقبيلهم إياه مع اعتقادهم أنه حجر لا يضر ولا ينفع، أعظم دلائل الوحدة وقوة الرابطة، ¬

_ (¬1) الشح: البخل. (¬2) هذه الإِشارة كائنة بعد ذكر الحاج الله تعالى والإِنابة إليه، وبعد التزامه العهود والمواثيق على العمل بما فيه رضاء الله، وعدم التعرض لمخالفته ومناهيه بعد ذلك كله.

واجتماع الكلمة وتوثيق العهد على التعاون في البر، والتساند في الخير، وعلى الإِخاء في الله والاعتزاز بقوة الله وعلى العمل دائماً بما فيه عزة الإِسلام وقوة المسلمين، إن العهود والمبايعات التي، يجريها الناس فيما بينهم في شئونهم العامة والخاصة يوثقونها، ويؤكدون العزم على إنفاذها والعمل بها، بأن يصافح بعضهم بعضاً، ويقبض كل منهم بيمناه على يد صاحبه: دلالة على الوفاء والتناصر وعلى التعاون في أمان وإخلاص. وقد نبه الإِسلام جميع المسلمين الذين يحجون إلى بيت الله الكريم أن يجددوا في كل عام مبايعتهم لله، وأن يتعاهدوا في اجتماعاتهم في مكة على العمل لخيرهم وصلاحهم ولنصرة دين الله ولا شك أن من المتعذر أن يجري في توثيق تلك المبايعة العامة وذلك العهد النحامل على ما توثق به المبايعات والمعاهدات بين الأفراد والجماعات الصغيرة من مصافحة بعضهم بعضاً، وقبض كل منهم يده على يد صاحبه فجعلت مصافحة الحجر الأسود بدلاً من تلك المصافحات العامة وصار ذلك رمزاً لتوثيق ذلك العهد وتلك المبايعة. وفي رَمَله واضطباعه في الطواف: ما يحصل له من ترتب الثواب لتأسِّيه بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به، وما يستفيده جسمه من النشاط بهذه الحركة التعبدية. فمنافع الحج على ما يغلب عليها من المظاهر الروحية فإنها منافع اجتماعية ونفسية وتجارية وأخوية، ففيها يحصل التعارف والتعاون بين أفراد المسلمين المتباعدين في شتى الأقطار، فإن اجتماعهم واختلاط بعضهم ببعض فرصة كبيرة لإيجاد التعارف والتعاون وتبادل المنافع بين أكبر عدد ممكن من المسلمين. فليست هناك فرصة تتاح للمسلم يجتمع بإخوان له من المسلمين جاءوا من أقاصي الأرض كفرصة الحج. ففي هذه الفرصة يعرف المسلم العربي أخاه المسلم التركي والجاوي والصيني والهندي والبربري وهلمّ جراً.

وفي رحاب البيت قبلة الجميع تكون النفوس أكثر استعداداً لاستشعار معاني الأخوة والتعاون فيصبحون بهذا الاجتماع وبهذا التعارف إخوة متآلفي القلوب متحدي الكلمة، متضامنين حساً ومعنىً متمسكين بحبل الله. فما أجمل هذا الموسم الروحاني وما أعظم ذلك العيد الرباني يلتقي فيه زعماء المسلمين وساستهم، ويتبادلون فيه أسباب الإِصلاح، فيعرف كل منهم ما في بلاد أخيه من التجارة والصناعة والزراعة والفوائد المستحسنة فيقتبس بعضهم من بعض هذه المنافع ويتبادلون تلك المصالح ويرسمون فيه الخطط الرشيدة والوسائل الحكيمة لتكون كلمة الله هي العليا وطريقة المسلمين هي المثلى، وليكون المؤمنون جماعة واحدة في مشارق الأرض ومغاربها، تعمل تحت راية القرآن لتأييد السلام والعدالة في العالم، فالحج مؤتمر إسلامي جليل ومجتمع للقادة حافل في مهبط وحي السماء على أساس من النور الإِلهي والهدي المحمدي، وإلى هذا يشير شيخنا العلامة السيد علوي عباس مالكي، رحمهم الله ورحمنا معهم آمين. إني أرى الحج في الإِسلام مؤتمراً ... المسلمون على التحقيق أعضاه دستوره شرعة الإسلام يرسمها ... هَدْي النبي وعين الحق ترعاه العدل منهجه والحلم حجته ... تجردوا فيه لا مُلك ولا جاه فهم جنود الهدى فيه نشيدهمُو ... لبيك لبيك أنت الله ربَّاه منزل النور والتنزيل مَأرِزه ... فالدين يأرِز للأوطان مأواه فالحج درس عظيم شيق عظمت ... أسرار تشريعه تجلو مزاياه مهذب لنفوسٍ طالما ركنت ... إلى حضيض الهوى تقفو خطاياه وهذا قليل من كثير من منافع الحج وأسراره وحكمه، ونجهل منها الكثير وربما كان ما نجهله ونتمتع به أكثر مما نعرفه مما نوّه به علماء الإِسلام

وأشادوا به في مؤلفاتهم رحمهم الله تعالى فقد قال الله سبحانه وتعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] فأطلق المنافع ونكرها وأبهمها ودلّ هذا التعبير البليغ على كثرتها وتنوعها وتجددها في كل زمان، وأنها أكثر من أن يأتي عليها الإحصاء والاستقصاء، والله أعلم وأحكم. الباب الثالث في الحج وهو معظم الكتاب (¬1) وفي آخره بيان أركان الحج (¬2) وواجباته (¬3) وسننه وآدابه (¬4) مختصرة. الباب الرابع في العمرة (¬5). الباب الخامس في المقام بمكة وطواف الوداع وفيه جمل مستكثرات مما يتعلق بمكة والحرم والكعبة والمسجد وأحكامها. الباب السادس في زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يتعلق بالمدينة. الباب السابع فيما يجب على مَنْ ترك في حجه مأموراً به أو ارتكب محظوراً وفيه نفائس كثيرة. ¬

_ (¬1) أي لاشتماله على أعمال الحج. (¬2) أي التي لا يوجد الحج إلا بكل منها. (¬3) أي التي يأثم تاركها مع العلم والتعمد وعليه في غير ما اسثني دم. (¬4) العطف هنا كما تقدم. (¬5) العمرة لغة الزيارة وشرعاً قصد الكعبة مع النسك الآتي بيانه إن شاء الله تعالى وجمعها عُمَر وألغز بعضهم فيه فقال: يا أيها البدر الذي ... الفضل منه قد ظهر أبِنْ لنا ما مفردٌ ... إذا جمعته عُمَر

الباب الثامن في حَج الصبي والعبد (¬1) ومن في معناهما وبعده. فصل في آداب رجوعه من سفره (¬2). وفصل في الولاية على الحجيج وبيان ما يجوز لمتوليه فعله وما لا يجوز وما يجب عليه وما لا يجب وفيه نفائس كثيرة (¬3). وفصل في أذكار تستحب في كل وقت ختمت الكتالب بها (¬4) وبالله التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة (¬5) وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان" (¬6). وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حج (¬7) هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه (¬8) كيوم ولدته أمه". ¬

_ (¬1) أي الرقيق والمراد ما يشمل الأنثى من الصبي والرقيق. (¬2) أي زيادة على آداب سفره إليه. (¬3) أي يحتاج إلى معرفتها ويرغب فيها. (¬4) أي ليكون ختام الكتاب مسكاً. (¬5) أي جامعة لأركانها وشروطها. (¬6) أي على القادر على صومه شرعاً وحساً وفي رواية تقديم الصوم على الحج وسلك الفقهاء رحمهم الله على منوالها لعموم وجوب الصوم وفوريته وتكرره كل عام. (¬7) أي قصد البيت بحج شرعي وعليه فلا يحصل بالعمرة ما سيأتي من الجزاء ويحتمل أن يراد ما يشمل قصدهما أي قصد النسك من حج أو عمرة فيحصل مع الشرط الجزاء ويؤيده أنها تسمى حجاً أصغر. (¬8) أي الصغائر فقط وقيل والكبائر والتبعات وهما مظالم العباد وإليه ذهب العلامة =

قال العلماء: الرَّفَثُ اسْمٌ لكُل لَغْو (¬1) وَخنى وَفُجُورِ وَمُجُونٍ بَغْير حَق (¬2)، والْفِسْقُ الخُروجُ عَنْ طَاعَةِ الله تَعَالَى (¬3). وثَبَتَ في الصَحيحَيْنِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "العُمْرَةُ إِلى العُمْرَة كَفارَةٌ لمَا بَيْنَهُمَا والحَجُّ المبرورِ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلا الجَنَّةِ" (¬4). والأَصَحُّ أن المَبُرورَ هُوَ الذي لاَ يُخالطُهُ مَأثم (¬5). ¬

_ = القرطبي والقاضي عياض لكن قال الطبري: هو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقال الترمذي: أي المعاصي المتعلقة بحق الله لا العباد. اهـ فيض القدير. أقول: وأما حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته عشية عرفة بالعفو حتى عن المظالم والدماء فلم يستجب له ثم دعا لهم صبيحة مزدلفة بذلك فاستجيب له حتى عن المظالم والدماء فضعيف كما في الحاشية. (¬1) اللغو: لغة السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره ويطلق على الإثم. والخنا: الفحش، والفجور: الانبعاث في المعاصي والزنا والزور والكذب والباطل، والمجون: عدم المبالاة بما يصدر عن الإِنسان من قول وفعل. (¬2) خرج به المجون من المزاح بحق. ففي الحديث: "إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً". وقوله اسم لكل لغو ... إلخ. هذا معنى الرفث لغة. وأما المراد منه في الحديث فما قاله ابن عباس وابن عمر رضوان الله عليهم إنه الجماع. وقال الأزهري رحمه الله: ما يريده الرجل من امرأته أي من الجماع ومقدماته فيمتاز المبرور بخلوه من كل معصية على ما ذكره المؤلف رحمه الله بخلافه على قولهما رضي الله عنهما فعن معصية الجماع ومقدماته وعن الفسق فقط. (¬3) أي بارتكاب كبيرة أو الإِصرار على صغيرة إن غلبت معاصيه طاعاته فعطف الفسوق على الرفث من عطف الخاص على العام اهتماماً بشأنه. (¬4) أي لا يقتصر المبرور على تكفير الذنوب الماضية بل يمنع صاحبه من الذنوب المستقبلة ويبلغ صاحبه الجنة ومن بلغها لا يضره ذنب مطلقاً بخلاف خروجه كيوم الولادة فإنما يتناول الماضية فقط. (¬5) مأثم أي إثم ولو صغيرة وإن تاب منها حالاً.

وقيل: هُوَ الْمَقْبُولُ وَمِنْ عَلاَمَاتِ القَبُول (¬1) أنْ يرجِعَ خَيْراً مِمّا كان ولا يعاود المعاصي (¬2) والدَلائل على فَضْلِ الحَجّ (¬3) كثيرة مشهورة في الصَّحيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (¬4) وَفِيمَا أشَرْنَا إِليه كِفَايةٌ فنشْرَعُ الآنَ في أبواب الكتابِ وَمَقَاصِده مُسْتَعِيناً بالله تعالى مُسْتَمِداً منه التوفيق والهدَاية وَالصِيانة وَالرِّعَاية. ¬

_ (¬1) لما كان القبول لا اطلاع عليه قال: وما علامات إلخ. (¬2) أي لا يعود إلى ذنب يفسق به. (¬3) أي والعمرة. (¬4) منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة ما بينهما تزيد في العمر والرزق". وفي رواية: فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، وورد ثلاث: حجج تترى وعمر نسقاً يدفعن ميتة السوء وعيلة [فاقة] الفقر. وقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج يهدم ما قبله". وقوله: اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج. وقوله: استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة. وقوله: إن الله يقول: "إن عبداً صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد علي لمحروم. وقوله: عمرة في رمضان تعدل حجة معي، وصَح أيضاً: من الذين لا ترد دعوتهم الحاج حتى يصدر وإن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف. وقوله: الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم". وقوله: "من مات في هذا الوجه من حاج أو معتمر لم يعرض ولم يحاسب"، وقيل له أدخل الجنة ... وقوله: "من حج حجة أدى فرضه ومن حج ثانية داين ربه، ومن حج ثالثة حرم الله شعره وبشره على النار"، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة وفقنا الله آمين.

الباب الأول في آداب سفره وفيه مسائل

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول في آداب سفره وفيه مسائل الأولى: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاورَ مَنْ يثِقُ (¬1) بدينه وَخِبرتهِ وعِلمه في حَجّه في هَذا الْوَقْت (¬2) وَيجبُ عَلَى مَنْ يُشيرُهُ أنْ يَبْذُلَ لَهُ النَّصيحَةَ ويَتَخَلى عَن الْهَوَى وَحُظُوظ النّفْس وَمَا يَتَوَهَّمه نافِعاً في أمُور الدُنيا (¬3) فَإِنَّ المستشَارَ مُؤْتَمَن (¬4) والدِّين النصيحَة (¬5). ¬

_ (¬1) أما أخذ الفأل من المصحف فإنه مكروه، وقيل حرام. (¬2) بينَ به أن الاستشارة في وقت العبادة لا في أصلها، وهذا فيمن لا يتضيق عليه النسك، أما هو فلا تستحب في حقه إذ لا فائدة لها مع التضيق. (¬3) أي فقط بل الواجب إخباره بما تعود مصلحته إلى الدين وحده أو مع الدنيا. (¬4) حديث رواه الإِمام أحمد وغيره رحمهم الله تعالى. (¬5) جزء من الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وذكره الإِمام النووي في الأربعين رحمه الله تعالى.

الثانيَة (¬1): إذَا عَزَمَ عَلَى الْحَج (¬2) فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخِيرَ اللهَ تَعَالَى (¬3) وَهَذِهِ الاسْتِخَارَة لا تَعُودُ إِلَى نَفْس الْحَج فَإِنهُ خَيْر لاَ شَك فِيهِ وَإنمَا تَعُودُ إلى وَقْتِهِ (¬4) فَمَنْ أَرَادَ الاسْتِخَارَةَ يُصَلي رَكْعَتَيْن (¬5) مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَة ثُم يقُولُ (¬6): اللَّهُمَّ إِنّي أسْتَخيرُكَ (¬7) بعِلمكَ (¬8) وَأسْتَقْدِرُكَ (¬9) بقُدْرَتِكَ (¬10) وَأَسْألكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أعْلَمُ وَأنْتَ عَلامُ الْغُيُوب، اللهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَهَابي إلى الحَج (¬11) في هَذَا العَام خَيْرٌ لي في ديني ودنياي وَمَعَاشي وَعَاقِبة ¬

_ (¬1) ظاهر هذا الترتيب أن الأولى تقديم الاستشارة على الاستخارة لأن الطمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النفس لغلبة حظوظها، وفساد خواطرها. (¬2) يلحق بالحج العزم على كل واجب ومندوب موسع بل تندب الاستخارة حتى في المباح. (¬3) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سعادة ابن آدم استخارة الله تعالى ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله تعالى". (¬4) نظير ما مَرّ في الاستشارة، والاستخارة هي طلب خير الأمرين من الفعل الآن أو الترك، ولا يتصور هذا إلا في الموسع دون المضيق لأنه لا رخصة في تأخيره. (¬5) أي في غير وقت الكراهة إلا بحرم مكة فيصلي مطلقاً ومثلها كل نافلة فيجزىء عنها في إسقاط الطلب، وكذا في حصول الثواب إن نويت. (¬6) أي عقب الصلاة لا فيها ويسن افتتاح الدعاء وختمه بالحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أثناء الدعاء إن كرره. (¬7) أي أطلب منك خير الأمرين. (¬8) الباء للسببية أي أسألك شرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك المحيط بكل الأشياء إذ لا يعلم خيرها حقيقة إلا من كان علمه محيطاً بكل الأشياء. (¬9) وفي رواية: (وأستهديك) والمعنى متقارب. (¬10) أي بسبب أنك القادر الحقيقي، ولا يمكن لأحد أن يقدر على شيء إلا إن قَدرْتَه عليه، أي خلقت فيه الاستطاعة. (¬11) أشار إلى ما في حديث البخارى رحمه الله تعالى من أنه يسمي حاجته ليكون ذلك أبلغ وأوضح.

أمْري وعَاجله وَآجله (¬1) فَاقْدُره لي وَيَسرْهُ لي ثَُم بَارِكْ لي فيه، اللَّهُمَ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنهُ شَر لي (¬2) في ديني وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبةِ أَمْري وعَاجِله وَآجله فَاصْرِفْهُ عَني وَاصْرِفْني عَنْهُ وَاقْدرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ (¬3) ثُمَّ رَضنِي بِهِ (¬4). ويُسْتَحَب أَنْ يقْرأَ في هَذ الصَلاَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ في الرَّكْعَةِ الأوْلَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] (¬5) وَفِي الثانِيةِ: {قُل هُوَ اَللهُ أَحَد (1)} (¬6) بَعْدَ الاسْتِخَارَة لما يَنْشَرِحُ إِلَيْهِ صَدْرُة (¬7). ¬

_ (¬1) جمع المصنف رحمه الله بين الكلمتين احتياطاً لأن لفظ الحديث: (وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله) ومنه تؤخذ قاعدة حسنة وهي أن كل ذكر جاء في بعض ألفاظه شك من الراوي يسن الجمع بينها كلها ليتحقق الإِتيان بالوارد. (¬2) فيه الاكتفاء بتسمية الحاجة في الأول وقيل يسميها في الثاني أيضاً. (¬3) في رواية للنسائي رحمه الله تعالى: (حيث كنتُ). (¬4) في رواية البخاري رحمه الله تعالى: (ثم أرضني)، وفي أخرى بعد "قدره لي": (وأعني عليه)، وفي أخرى بعد "حيث كان": (لا حول ولا قوة إلا بالله) قاله ابن حجر المكي رحمه الله تعالى وقال: فيسن الجمع بين ذلك كله. (¬5) الأكمل قراءة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} إلى {تُرجَعُونَ (70)} قبل سورة "الكافرون"، وقبل سورة "الإخلاص" في الركعة الثانية {وَمَا كاَنَ لِمُؤمنِ وَلَا مُؤمَنَةً} إلى {مبينَاً (36)} لأنهما مناسبان كالسورتين إذْ القصد منهما إخلاص الاعتقاد والعمل فناسبا هنا وإنْ لم يردا، إذ القصد إظهار الرغبة وصدق التفويض، وإظهار العجز، وقياس ما قالوه في الجمعة أنه لو نسي ما يقرأ في الأولى قرأه مع ما في الثانية، ومن تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء المذكور، وظاهره عدم حصولها بمجرد الدعاء مع تيسر الصلاة، إلا أن يقال: المراد عدم حصول كمالها لظاهر خبر أبي يعلى رحمه الله تعالى: (إذا أراد أحدكم أمراً فليقل .. ) وذكر نحو الدعاء السابق، وورد في حديث ضعيف أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد الأمر قال: "اللهم خِرْ لي واختر لي" فينبغي ذكر ذلك بعد دعائه. اهـ حاشية. (¬6) الأمر المستفاد من اللام للندب. (¬7) فإنْ لم ينشرح صدره بشيء فيكرر الاستخارة بصلاتها ودعائها إلى انشراحه بشيء، وإنْ زاد على سبع، والتقييد بها في خبر أنس رضي الله تعالى عنه: (إذا هممتَ =

الثالِثَةُ: إِذا اسْتَقَرَّ عَزْمه (¬1) بَدَأَ بالتوْبَةِ (¬2) مِنْ جَمِيعِ المَعَاصِي وَالمَكْرُوهَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْ مَظَالم الخَلْقِ (¬3) وَيقْضِي ما أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِ (¬4) وَيَرُدُّ الْوَدَائع (¬5) ¬

_ = بأمرٍ فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه) جرى على الغالب. أما لو فرض عدم انشراحه مع تكرار الصلاة فإنْ أمكن تأخير أخر وإلاّ شَرَع فيما تيسر لأنه علامة الإذن والخير والله أَعلم. (¬1) يدل صريح كلام المصنف رحمه الله على تأخير التوبة عن الاستخارة واستقرار العزم بعدها، وجرى ابن جماعة رحمه الله تعالى على تقديمها وأيده بأنْ كان المستخير عاصياً كعبد متمادٍ على إباقه، ويرسل إلى سيده بأن يختار له من خيار ما في خزائنه فيعدّ بذلك أحمق بين الحمق. (¬2) وجوباً بالنظر للمعاصي، وندباً بالنظر إلى المكروهات. وأركان التوبة: الإقلاع عن الذنب حالاً والعزم على عدم العودة إليه رأساً، والندم على ما باشر منه خوفاً من الله تعالى ورد ظلامة إن كانت وبدلها إن تلفت وقدر عليه، فإن لم يقدر كميت بلا وارث، أو غائب انقطع خبره وأيس من حياته، سلمها أو أرسلها لقاضٍ أمين، وإلا فرقها بنفسه في المصالح إن عرف أو سلمها لعالم عارف بذلك بنية الغرم إن وجد صاحبها، والمعسر ينوي وفاء الدين كالعاجز عن تمكين القصاص من نفسه إذا قدر، وكتب في التوبة من نحو غيبة أو قذفٍ: إخبار المغتاب بعين ما قاله فإنْ تعذر عزم على فعله عند إمكانه فإن تعذر أصلاً استغفر الله لنفسه، ودعا له، والمرجو من الله حينئذ أن يرضي خصماءه عنه بكرمه، أسأله تعالى أن يعفو عني وعن المسلمين والمسلمات ويرضى عنا خصماءنا آمين. وإن كان عليه قضاء نحو صلاة صرف سائر وقته في قضائها ما عدا الوقت الذي يحتاج لصرفه في تحصيل ما عليه من مؤنة نفسه وعياله وكذا يقال في نسيان القرآن بعد البلوغ. أسأله تعالى التوفيق لي وللمسلمين والمسلمات آمين. (¬3) صرح بالخروج من مظالم الخلق مع دخولها في المعاصي اهتماماً بشأنها وتنبيهاً على المحافظة عليها لأنها مبنية على المشاحّة والمضايقة. (¬4) أي الحالة وجوباً والمؤجلة ندباً. (¬5) فيها تفصيل، وهو أنه إن علم رضا مالكها بأمر عمله وإلا فحيث قيل بتضمينه بترك شيء وجب عليه فعله لما فيه من ضياعها وإلا فلا.

وَيَسْتَحِلُّ (¬1) كلّ مَنْ بَيْنَهُ وَبينهُ مُعَامَلَةٌ في شَيْء أَوْ مُصَاحَبةٌ. وَيَكْتُبُ وَصيتهُ (¬2) وَيُشْهِدُ عَلَيْه بِهَا (¬3) وَيُوَكلُ مَنْ يقْضِي عَنْهُ (¬4) مَا لَمْ يَتَمَكنْ مِنْ قَضَائه مِنْ دُيُونهِ وَيَتْرُكُ لأهْله وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ (¬5) نَفَقَتَهُم (¬6) إلى حين رجوعِهِ (¬7) فلو كَانَ عَلَيْه دَيْنٌ حَالّ وهُوَ مُوسرٌ (¬8) فَلصَاحب (¬9) الدَّيْن مَنْعُه منَ الْخُرُوج (¬10) ¬

_ (¬1) أي وجوباً فيما يعلم أنه عليه، وندباً فيما لا يعلمه. (¬2) أي بحقوق الله وحقوق العباد. (¬3) أي من تثبت به وجوباً إن لم تكن ثابتة قبل وإلا فندباً، ولا يكتفي بعلم الورثة مطلقاً لأن النفس تشح بالأموال إذا استولت عليها. (¬4) أي وجوباً في الحالة وندباً في المؤجلة. (¬5) معطوف على الأهل ليشمل غيرهم من رقيقه ودوابه. (¬6) أي مؤنتهم من كسوة وأجرة مسكن وطبيب وثمن أدوية. (¬7) محل ذلك في الواجب حالاً أما المستقبل فعند العلامة ابن حجر المكي رحمه الله: عليه ذلك أيضاً كما في الحاشية في غير نحو الزوجة والمملوك، لأن في غيبته ضياع ممونه فيترك لهم كفايتهم عند من يثق به لينفق عليهم، أما الزوجة والمملوك فعليه ذلك أيضاً، أو يطلق الزوجة أو يخرج المملوك عن ملكه ويحكم به الحاكم الشرعي دفعاً للضرر وجمعاً بين المصلحتين ويفرّق بين هذا وما يأتي في المؤجل بأن الدائن مقصر بالتأجيل فلم يكن له مطالبته بترك ما يفي بحقه إذا حَلَّ بخلاف ممونه، فإنه لا تقصير منه بوجه، وأيضاً فممونه في حبسه فلو لم نلزمه بذلك لضاع بخلاف الدائن. أقول: وقيل عليه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى ديانةً لا حكماً، فلا يجبره عليه الحاكم لأنه لم يدخل وقت وجوب النفقة الذي هو طلوع كل يوم فأشبه الدين المؤجل. (¬8) أي ولم يستنب من يوفيه من مال حاضر. (¬9) أي ولو كان ذمياً. (¬10) أي ويحرم عليه السفر وإن قصر بغير إذنه، واطردت العادة بالمسامحة وإنْ ضمنه موسر كما هو ظاهر لأن له مطالبته وإن ضمنه الموسر وولي المديون مثله لأنه المطالب.

وَحَبْسُهُ (¬1) وَإِنْ كَانَ مُعْسراً لَمْ يَمْلُكْ مُطَالَبَتَهُ (¬2) وَلَهُ السَّفَرُ بغَيْرِ رِضَاه (¬3) وَكَذَا إنْ كَانَ الديْنُ مُؤَجلاً فَلَهُ السفَرُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَب أَنْ لا يَخْرُجَ حَتى يُوكلَ مَنْ يقْضِي عَنْهُ عِنْدَ حُلُولهِ (¬4) وَاللَّهُ أعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: يَجْتَهِدُ في إرْضَاء وَالِدَيْهِ وَمَنْ يَتَوَجهُ عَلَيْهِ بِرُّه (¬5) وَطَاعَتُهُ وإنْ كَانَتْ زَوْجَةَ اسْتَرْضَتْ (¬6) زَوْجَهَا وَأَقارِبهَا وَيُسْتَحَب للزوْجِ أنْ يَحُج بها (¬7) فإنْ مَنَعَهُ أحدُ الْوَالِدَيْن (¬8) نَظَرَ فَإنْ مَنَعَهُ مِنْ حَج الإِسْلاَمِ (¬9) لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَنْعِهِ (¬10) بَلْ لَهُ الإِحْرَامُ به وإنْ كَرِه الْوَالِدُ لأنَّهُ صَارَ عَاصياً بِمَنْعِهِ وَإِذَا أحْرَمَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ تَحْلِيلُهُ وإن منعه من حج التطوع لم يجز له الإِحرام فإن أحرم فللوالد تحليله عَلَى الأَصَحِّ. ¬

_ (¬1) أي ما لم يكن الدائن مسافراً معه في ركبه. (¬2) لوجوب إنظاره وحرمة ملازمته. (¬3) أي ولو كان السفر مخوفاً. (¬4) وإن عجله فهو أولى. (¬5) أي من الأقارب والأشياخ. (¬6) أي ندباً على تفصيله الآتي في الزوج. (¬7) اتباعاً له - صلى الله عليه وسلم - حيث حج بأزواجه رضوان الله تعالى عليهن، وفيه أيضاً تحصيل عبادة للزوجة أو قيامها بما لا يطلع عليه غيرها من باطن أمر زوجها فعلى الأول كالحج في ذلك كل سفر لعبادة، وعلى الثاني لا فرق بل حيث جاز له السفر واحتاج لمن يقوم بما ذكر سن للزوج استصحاب الزوجة، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يستصحب معه بعض أزواجه رضوان الله عليهن في غزواته. (¬8) أي مَنْ له عليه ولادة، ولو جداً أو جدة وإن وجد من هو أدنى منهما. (¬9) أي من نسكه الواجب حج أو عمرة. (¬10) وإن لم تجب حجة الإسلام على الفرع لكونه فقيراً لأنه لا طاعة لمخلوق في ترك طاعة الخالق.

وَأَمَّا الزوْجَةُ (¬1) فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ حَج التطَوُع فَإِنْ أحْرمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ تَحْليلُهَا وَلَهُ أيْضاً مَنْعُهَا مِنْ حَج الإسْلاَمِ عَلَى الأَظهَرِ (¬2) لأَنَ حَقهُ عَلَى الفَوْر وَالحَج عَلَى التَّرَاخِي وَإِنْ أحْرَمَتْ فَلَهُ تَحْلِيلُهَا عَلَى الأَظْهَرِ. وإنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةَ حبَسَهَا للْعِدَّة (¬3) وَليسَ لَهُ التَّحْلِيلُ (¬4) إلا أنْ تكُونَ رَجْعيهَ فَيُرَاجِعُهَا ثمَ يُحَللُهَا (¬5) وَحَيْثُ قُلْنَا يُحَللُهَا فمعناه يأمُرُها بِذَبْح شاةٍ فَتَنْوِي هي بها التَّحَلُّلَ وتُقَصرُ مِنْ رأسها ثَلاَثَ شَعَرَات فصَاعِداً وإِنْ امَتَنْعَتْ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلِلزوجِ وَطْؤهَا وَالإثْمُ عليها (¬6) لِتَقْصيرِها. الخَامِسَة: ليحْرصْ عَلَى أنْ تكُونَ نَفَقَتُه حَلاَلاً خَالِصَةً مِنَ الشُّبْهَةِ فإنْ خَالَفَ وحَجَّ بما فيه شُبْهَة أوْ بِمَال مَغْصُوب صَحَ حَجه في ظَاهرِ الحُكْمِ لكنَّهُ لَيْس حَجاً مَبْرُوراً (¬7) وَيَبْعُدُ قَبُولُهُ. هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِي وَمَالك وأبي حَنيفَةَ ¬

_ (¬1) أي ولو أمة وأذن لها سيدها. (¬2) أي في غير صورة منها: إذا سافرت معه بإذنه وأحرمت بعد إحرامه وكان إحرامها يفرغ مع إحرامه لأنه لم يفت به الإستمتاع، ومنها إذا لزمها القضاء فوراً بإِنْ أفسد الزوج حجتها بالوطء، أو لزمتها حجة الإسلام بأن قال لها طبيبان عدلان إن لم تحجي في هذه السنة تُعضبي. (¬3) أي رجعية كانت أو بائنة. (¬4) أي لعدم ترتب ثمرته من التمتع بها. (¬5) حاصل هذا أن لزوم العدة متى سبق الإحرام لم تخرج قبل انقضاء العدة وإن فات الحج كما لو أحْرمت بعد الطلاق بغير إذن مقدم فإن انقضت العدة أتمت نسكها إن بقي وقته وإلا تحللت بعمل عمرة ولزمها القضاء ودم للفوات وإنْ أحرمت بإذن أو دونه ثم فورقت بموت أو غيره فإنْ خافت الفوات خرجت وجوباً للنسك لتقدم الإحرام، وإنْ أمنته جاز لها الخروج لما في تعين الصبر من مشقة مصابرة الإحرام. (¬6) أي مع الكفارة كما في الحاشية هذا في حكم الحرة، وأما التحلل في الأمة فهو التقصير مع النية. (¬7) ظاهره أن الحج بما فيه شبهة مجزوم بعدم كونه مبروراً وليس كذلك كما في =

رَحِمَهُمُ اللهُ وَجَمَاهير الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَف وَالخَلَفِ، وَقَال أحمد بن حَنْبَل لا يُجْزيه الحَجُ بِمَالٍ حَرَامٍ (¬1). السَّادِسَةُ: يُسْتَحَب أنْ يَسْتكثِرَ مِنْ الزادِ وَالنَّفَقَةِ (¬2) لِيُواسِيَ مِنْهُ الْمُحْتَاجِين وَلْيَكُنْ طَيباَ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا (¬3) الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَالمُرَادُ بالطيبِ هُنَا (¬4) الْجَيد (¬5) وِبالْخَبيثِ الرَديء ويَكُونُ طَيبَ النَّفْس بِمَا يُنفقُهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى القَبول. السَّابعةُ: يُسْتَحَب تَرْكُهُ المُمَاحَكَة (¬6) فيمَا يَشْتَرِيه لأسْبَابِ حَجه وكَذَا كل ¬

_ = الحاشية فلعل قوله رحمه الله تعالى المذكور عائد إلى الحرام، فقط، وأما ما فيه شبهة فإنه يخشى عليه أن تكون تلك الشبهة حراماً فلا يكون حجاً مبروراً وحيث وجدت الشبهة فليجتهد في حل قوته ذهاباً وإياباً، وإلا فذهاباً فقط، وإلا فمن الإِحرام إلى التحلل، وإلا فيوم عرفة، وإلا فليلزم قلبه الخوف، لما هو مضطر إليه من تناول ما ليس بطيب فعسى الله أن ينظر إليه بعين الرحمة ويتجاوز عنه بسبب حزنه وخوفه وكراهته. (¬1) لما أخرجه الطبراني من جملة حديث: (وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز (أي الركاب) فنادى لبيك لبيك ناداه منادٍ من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور) وقال الشاعر رحمه الله تعالى: إذا حججت بمال كله سُحُت ... فما حججت ولكن حَجت العِير (¬2) أي بلا تكلف، وفي الحديث: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف". (¬3) أي لا تقصدوا. (¬4) أي في هذا الموضع احترز به عن الطيب في غيره فإنه كثيراً ما يستعمل بمعنى الحلال فقط. (¬5) الجيد أي المستحسن عند أهل تلك الناحية فيما يظهر ومحله إن لم يعلم محبة المعطَي لشيء بخصوصه، وإلا فإعطاؤه ما يحبه أولى وإن لم يكن جيداً عند غيره. (¬6) المماحكة في الأصل الخصومة وهنا معناها المشاحة فيما يعامل فيه: أي إذا =

شَيْء يَتَقَرّبُ به إلَى الله تَعَالَى كَذَا قَالَهُ الإِمَامُ الجَليلُ أبُو الشَّعْثَاء جَابرُ بنُ زَيد التابِعِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاء. الثامِنَةُ: يُسْتَحَب أنْ لا يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ في الزَّادِ والرَّاحِلَة (¬1) وَالنفَقَةِ لأَنَّ تَرْكَ المُشَارَكَة أَسْلَمُ لَهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنعُ بِسَبَبِهَا مِنَ التصَرُفِ في وُجُوهِ الْخَيْرِ والبرّ والصَّدَقَةِ وَلَوْ أذِنَ لَهُ شَريكُهُ لم يُوثَقْ باسْتِمْرارِ رِضَاه فإنْ شارَكه جَازَ (¬2) وَيُسْتَحَبُّ أن يقْتصرَ على دُونِ حَقهِ (¬3). وأما اجْتِمَاعُ الرفقَةِ عَلَى طَعَامِ يَجْمَعُونَهُ يَوْماً يومَاً فَحَسَن (¬4) ولا بأسَ بأكْل بعْضهم أكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ إذا وَثق بأنّ أصْحَابه لاَ يَكْرَهُونَ ذلك (¬5) فإنْ لم يَثِقْ فَلاَ يَزِدْ (¬6) عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ وَلَيْسَ هَذا مِنْ بابِ الرِّبَا في شَيْءِ (¬7) فَقَدْ صَحَّتْ الأحَادِيثُ في خَلْطِ الصَّحَابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ زَادَهُم. ¬

_ = اشترى أو استأجر مثلاً لنفسه أما ما يفعله لغيره بولاية أو وكالة فيجب عليه الاجتهاد في الشراء أو الاستئجار بثمن المثل أو أجرته فأقل كما لا يخفى. (¬1) الواو في قوله (الزاد والراحلة) بمعنى "أو". (¬2) أي إن كان كل من الشريكين مكلفاً مختاراً رشيداً غير نائب عن غيره. (¬3) أي ولا يلحظه بقلبه، ولا يرى لنفسه قدراً لبعد ذلك عن مكارم الأخلاق وحُسْن الصحبة. (¬4) قال الجمال الطبري رحمه الله: واجتماع الرفقة كل يوم على طعام أحدهم على المناوبة أليق بالورع من المشاركة. اهـ. أقول كما قال في الحاشية: هذا فيمن يتوهم منه شح، وكلام المصنف فيمن لا يتوقع منه ذلك، والسلف الصالح كان كل منهم يخرج بنفقته ويدفعها لمن يتولى عليهم ويأكلون جميعاً، لبعدهم عن الشح لإيثارهم على أنفسمهم، ولو أدى إلى تلفها. (¬5) ولو بالظن أخذاً من قولهم يجوز الأكل من مال الغير إذا علم رضاه أو ظنه. (¬6) أي وجوباً. (¬7) لأن الربا إنما يكون في ضمن عقد.

التاسِعَةُ: يُسْتَحَبُّ أنْ يُحْصلَ مَرْكُوباً قَوِياً (¬1) وَطِيئاً (¬2) والرُّكُوبُ (¬3) في الحَج (¬4) أفْضَلُ مِنَ المَشْي عَلَى المَذْهب الصحِيْحِ وَقَدْ ثَبَتَ في الأَحَادِيثِ الصَّحيْحَةِ أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَج رَاكباً (¬5). وَكَانَتْ رَاحِلَتُهُ زَامِلتهُ (¬6) وَيُسْتَحَب الحَجُّ عَلَى الرَّحْلِ (¬7) وَالقَتبِ دُوْنَ ¬

_ (¬1) ظاهره حل ركوب الضعيف حيث لا يحصل به ضرر لا يحتمل عادة. (¬2) أي لأن ركوب غير الوطىء يضره ويشوش عليه خشوعه. (¬3) أي ولو على الضعيف وغير الوطىء. (¬4) أي والعمرة إلا ما استثني كالسعي ودخول مكة. (¬5) وورد في المشي في النسك فضل عظيم منه ما أخرجه الحاكم رحمه الله تعالى وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم وحسنات الحرم الحسنة بمائة ألف حسنة". وتضعيف البيهقي له بأن عيسى بن سوادة أحد رواته تفرد به وهو مجهول مردود بأنه لم ينفرد به لأن الحافظ ابن مسدد وغيره أخرجوه من حديث سفيان بن عيينة عن إسماعيل ابن أبي خالد الذي رواه عنه ابن سوادة. وقال ابن منده: هذا حديث حسن غريب ومن ثم رواه الحاكم من الوجه الذي رواه البيهقي وصحح إسناده كما مَر. وممن قال بقضية هذا الحديث الحسن البصري وغيره، وارتضاه المحب الطبري وغيره، ومع ذلك فهو لا يقتضي أفضلية المشي لأن ثواب الاتباع يربو على ذلك أخذاً من كلام السبكي رحمه الله تعالى: (صلاة الظهر بمنى يوم النحر أفضل منها بالمسجد الحرام، وإن قلنا إن المضاعفة تختص به لأن في الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - ما يربو على المضاعفة). اهـ. ومحل الخلاف فيما يظهر فيمن استوى خشوعه في حال مشيه وركوبه، ولم يطلب منه الركوب لظهوره لاستفتاء ونحوه. وإلا تعين الجزم بأن الركوب أفضل والعمرة كالحج فيما ذكر والله أعلم. اهـ مختصراً من الحاشية. (¬6) أي لم يكن معه - صلى الله عليه وسلم - راحلة أخرى لحمل متاعه وطعامه بل كانا معه على الراحلة، فالزاملة بعير يحمل عليه المتاع من الزمل وهو الحمل، فالحج على الزاملة أفضل منه على غيره لأنه الأليق بالتواضع. (¬7) الرحل: هي العدة الكبيرة التي توضع على جميع ظهر البعير، والقتب هو =

الْمَحَامِلِ وَالهَوَادج لِما ذَكَرْناهُ مِنْ الحَديثِ الصحيح (¬1)، ولأَنَّهُ أشْبَهُ بالتواضُع، ولاَ يَلِيقُ بالْحَاج غَيْرُ التواضُع في جَمِيعِ هَيْئَاتِهِ وَأحْوَالِهِ في جَمِيعِ سَفَرِهِ وَسَوَاء فيما ذَكَرْنَاهُ الْمَرْكُوبُ الذي يَشْتَرِيه (¬2) أوْ يَسْتأجرُهُ. وَيَنْبَغِي (¬3) إذا اكْتَرَى أنْ يُظْهِرَ للجَمَّالِ جَمِيعَ مَا يُرِيدُ حَمْلَهُ مِنْ قَليل أوْ كَثِير وَيَسْتَرْضِيهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ يَشُق عَلَيْهِ الرَحْلُ لِعُذْر كَضَعْفِ أوْ عِلَّةِ في بَدَنِهِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ فلا بأسَ بالمَحْملِ بَلْ هُوَ في هَذَا الْحَال مُسْتَحَب وإنْ كَانَ يَشُق عَلَيْهِ الرَحْلُ وَالْقَتَبُ لرياسَتِهِ وارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِ أوْ نَسَبِهِ أوْ عَمَلِهِ أوْ شَرَفِهِ أوْ جَاهِهِ أوْ ثَرْوَتِهِ أوْ مُرُوءَتِهِ أوْ نَحْوَ ذلك مِنْ مَقَاصِدِ أهْلِ الدُّنْيا لَمْ يَكُنْ ذلكَ عُذْراً في تَرْكِ السُنةِ في اخْتِيَارِ الرَّحْلِ وَالْقَتَبِ فَانَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرٌ من هذا الجَاهِلِ بِمِقْدَار نَفْسِهِ (¬4) واللهُ أَعْلَمُ. ¬

_ = الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، فركوب الإِبل أفضل من غيرها للاتباع. فإن قيل: روى الامام أحمد والطبري رحمهما الله تعالى: "إذا ركبتم الإبل فتعوذوا بالله واذكروا اسم الله فإن على سنام كل بعير شيطاناً" فكيف مع ذلك يكون ركوبها أفضل؟ أجيب كما في حاشية العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: ملحوظ الأفضلية الاتباع وهذا الحديث لا يقتضي كراهة ركوبها ولا أنه خلاف الأفضل، وإنما الذي يقتضيه تأكد ندب التعوذ والذكر عند ركوبها ليندفع بذلك ضرر ذلك الشيطان الذي على سنامها. (¬1) وهو قوله رحمه الله: (وكانت راحلته زاملته) لأنه معطوف على خبر معمول ثبت. (¬2) والشراء أفضل من الاستئجار إلا بعذر لأنه يتصرف في المركوب على حسب اختياره، فيسلم من كثرة الخصومات والتبعات الواقعة بسبب الاستئجار، والله أعلم. (¬3) أي يجب حيث لم يشترط على من يكتري منه حمل أوزان معلومة من جنس معلوم ولا عبرة بالعرف في ذلك لاضطرابه وكثير يعولون عليه، وهو خطأ صريح كما في الحاشية. (¬4) قد يستشكل هذا بقول الفقهاء رحمهم الله تعالى في باب صلاة الجماعة لو لم يَلِقْ به العري لنحو منصب سقطت عنه كالجمعة فلِمَ لَمْ يقولوا هنا بمثل ذلك، بل هو أولى لأنه مجرد سنة ليس فيها حق لآدمي. =

وَيُكْرَهُ رُكُوبُ الجَلالَة وَهِيَ النَّاقَةُ أو البَعِيرُ (¬1) الذِي يَأْكُلُ العَذِرَةَ (¬2) لِلْحَدِيْثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجَلاَلَةِ مِنَ الإِبلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا. العَاشِرَةُ: إِذَا أرَادَ الحَجَّ أنْ يَتَعَلَمَ كَيفيتهُ (¬3) وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ (¬4) إذْ لاَ تَصحُّ العبادةُ ممَنْ لا يَعرفُها (¬5) وَيُسْتَحَب أنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ كِتَاباً (¬6) وَاضِحاً في المَنَاسِكِ جَامِعاً لِمَقاصِدِهَا وأنْ يُدِيمَ مُطَالَعَته وَيُكَررُها في جَميعِ طَريقِهِ لتَصِيرَ ¬

_ = أجيب كما في الحاشية: بأنه لا يلزم من المسامحة في ذلك لكثرة ما يترتب عليه من الضرر المسامحة في هذا لما فيه من إِظهار السنة الذي لا ضرر فيه بوجه إذ الغالب في الأسفار عدم الالتفات إلى الرياسة والمناصب بخلاف الحضر. (¬1) تفسيره للجلالة باعتبار الغالب، وإلا فكل ما اعتيد عليه الركوب من المأكولات كفرس قد تغير ريحه بالنجاسة فهو جلالة يكره ركوبه سفراً وحضراً بغير حائل إن كان عرقه متغيراً بريح النجاسة ولم يعلف بطاهر أزال تغيره، وإلا لم يكره ركوبها. (¬2) العذرة: هي فضلة الإنسان الغليظة (الغائط) ومثلها كل نجس. (¬3) أي المشتملة على أركانه وشرائطه وواجباته ومفسداته. ومعنى كيفيته هو أن يعرف كيفية كل عمل عند الشروع فيه، لا معرفتها عند الإِحرام، قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله تعالى: (الواجب عند نية الحج تصور كيفيته بوجه، وكذا عند الشروع في كل من أركانه). اهـ. ولا يضر هنا إذا قصد بفرض معين النفلية إذ لو طاف مثلاً بقصد النفل انصرف للطواف الفرض عليه تبعاً لأصله إذ لو كان عليه نسك مفروض فنوى نسك تطوع انعقد المفروض دون ما نواه ولا يضر نيته فكذا أركانه ولا كذلك الصلاة. (¬4) أي بعد الإِحرام. (¬5) قال صاحب الزبد رحمه الله تعالى: وكل مَنْ بغير علم يعمل ... أعماله مردودة لا تقبل (¬6) أي من الكتب المعتمدة ككتاب "الإيضاح" هذا وقد مزجته ولله الحمد والمنة هو وحاشيته للعلامة ابن حجر المكي وزدت عليه ذكر آيات الحج ومنافعه وأسراره وأدعية الأماكن المقدسة التقطت معظمها من كتاب "عدة المسافر" للعلامة باسودان وجعلت الجميع في كتاب مختصر سميته "مرشد الحاج والمعتمر والزائر إلى أعمال الحج والعمرة =

مُحَققَةً عِنْدَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِهذا خِفْنَا عَلَيْهِ أنْ يَرْجِعَ بِغَيْر حَج لإخْلاَلهِ بشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أوْ رُكْنٍ مِنْ أركَانِهِ أوْ نَحْو ذَلِكَ وَرُبَّما قَلدَ كَثير مِنَ النَاس بَعْضَ عَوَام مكة وَتَوَهَمَ أَنهُمْ يَعْرِفُونَ الْمَنَاسِكَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ وذلكَ خَطَأ فاحشٌ. الحادية عشرة: يَنْبَغِي أنْ يَطْلُبَ لَه رَفِيْقاً (¬1) مُوَافِقاً رَاغِباً في الخَيْرِ كَارِهاً للشَّرِّ إنْ نَسِيَ ذَكَّرَه (¬2) وإنْ ذَكَرَ أعَانَهُ (¬3) وإنْ تَيَسَّرَ معَ هَذَا كَوْنُهُ مِنَ العُلمَاءِ فَلْيَتَمَسَّكْ به فإنه يُعِينُهُ عَلَى مَبَار الْحَج وَمَكَارمِ الأَخْلاَقِ وَيَمْنَعُهُ بِعِلْمِهِ وعَمَله مِنْ سُوءِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنْ مَسَاوىء الأخلاَقِ والضجَرِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أنْ يَكُونَ مِنَ الأَجَانِبِ لاَ مِنَ الأَصْدِقَاءِ وَالأَقَارِب وهذَا فيهِ نَظَر بَلْ الاخْتِيارُ أن الْقَرِيبَ أوْ الصدِيقَ المَوثُوق بهِ أَوْلَى (¬4) فَإِنَّهُ أَعْوَنُ له على مُهِمَّاتِهِ ¬

_ = والزيارة" وهو مطبوع وهو جدير بالقنية، نفع الله به وبجميع كتبي، ورحمني الله وجميع مؤلفي أصولها ووالدي ومشايخي وكافة المسلمين والمسلمات، آمين. (¬1) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم - لخفَاف بن ندبة رضي الله عنه: "يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإنْ عَرَضَ لك أمْر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك". رواه ابن عبد البر وغيره رحمهم الله تعالى. (¬2) أي فالذكرى تنفع المؤمنين. (¬3) وفي الحديث: "خير الأصحاب صاحبٌ إذا ذكرتَ الله أعانك وإذا نسيتَ ذَكَرَكَ" رواه ابن أبي الدنيا وفي مثل هذا كان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كثيراً ما ينشد: وإذا صاحبت فاصحب صاحباً ... ذا حَياءٍ وعفاف وكرمْ قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعمْ (¬4) فإنْ قيل ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - لأكثم بن جون رضي الله عنه: "اغز مع غير قومك يحسن خلقك" قَدْ يقال في رَده: إنما اختص الغزو بذلك لأن المطلوب فيه مزيد الشجاعة وظهور الآثار الحميدة وهي مع حضور الأجانب أقوى لأن خشية العار منهم أشد من خشيته من الأقارب.

وَأشْفَقُ عليهِ في أمُورِهِ (¬1) ثُمَّ يَنْبَغِي (¬2) له أنْ يَحْرِصَ على رِضَا رفيقِهِ في جَميعِ طَريقِهِ وَيَحْتَمِلُ كُل وَاحِدِ صَاحِبه وَيَرَى لصاحبه عَلَيْهِ فَضْلاً وَحُرْمَةً وَلاَ يَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا وَقَعَ منه فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ مِنْ جَفَاءِ وَنَحْوهِ فَإِنْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا خِصَامٌ دَائمٌ وَتنكَّدَتْ حَالتهُمَا وَعَجَزَ عَنْ إصْلاَحِ الحَالِ اسْتُحِبّ لَهُمَا تَعْجِيلُ الْمُفَارَقَةِ (¬3) ليَسْتَقِرَّ أمْرُهُمَا وَيَسْلَم حَجهُمَا مِنْ مُبْعِدَاتِهِ عَنْ الْقَبُولِ وَتَنْشَرِحَ نُفُوسُهُمَا لِمَنَاسِكِهِمَا وَيَذْهَبَ عَنْهُمَا الحِقْدُ (¬4) وَسُوءُ الظَنِّ والكَلاَمُ في الْعِرضِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النقَائِصِ الَّتي يَتَعَرّضان لَهَا. الثانِيةَ عشرة: يُسْتَحَبُّ أَنْ تكونَ يَدُهُ فَارغَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَة ذاهباً وَرَاجعاً فَإن ذَلِكَ يَشْغَلُ القَلْبَ، فَإنْ اتَّجَرَ لَمْ يُوَثِّرْ ذَلِكَ في صِحَةِ حَجِّهِ (¬5) وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ الإِخْلاصِ في حَجهِ وَأَنْ يُريدَ به وَجْهَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ¬

_ (¬1) أي محل اختيار تقديم القريب إذا وثق منه العون والشفقة وإلا استوى هو والأجنبي بل ربما يكون الأجنبي أولى إلا أن يكون للقريب مبرة تصل إليه فيقدمه لأن الصدقة عليه أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" أي العدو أو نحوه. (¬2) أي يندب وربما يجب في بعض الصور وينبغي له أيضاً أن يصحب مماثله أو دونه في الإِنفاق. قال الإِمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (لا تصحب من هو أكثر شيئاً منك فإنك إنْ ساويته في النفقة أضَر بك، وإنْ تفضل في الإِنفاق عليك استذلك). (¬3) وقد تجب المفارقة في بعض الصور، كما إذا غلب على ظنه وقوع محذور، إلا إنْ أدتْ المفارقة إلى خطر أعظم كضياع عديله العاجز عن المشي والركوب في غير محمل فتمتنع. (¬4) الحقد: هو الانطواء على العداوة والبغضاء. (¬5) أي والثواب بقدر باعث الدين، وإنْ غَلَبَ باعث الدنيا قيل لا شيء له من الأجر مطلقاً، وهذا إنْ كان قَصْد التجارة لأجل نمو المال هو الغرض، فلو قَصَدَ بالتجارة كفاية أهله والتوسعة عليهم أو على أهل الحرم، فله الثواب كاملاً لأنه ضم أخرَوِياً إلى أخْرَوِي. اهـ عمدة.

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَثَبَتَ في الْحَديث المُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنيات" ويَنْبَغِي لِمَنْ حَج حَجةَ الإِسْلاَمِ وَأَرَادَ الْحَج أن يحج مُتبَرعاً مُتَمَحضاً لِلْعِبَادةِ فَلَوْ حَج مُكْرياً جِمالَهُ أوْ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ جَازَ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ. وَلَوْ حَج عَنْ غَيْرِهِ كَانَ أعْظَمَ لأجْرِهِ (¬1) وَلَوْ حَج عَنْهُ بأُجْرَةِ فَقَدْ تَرَكَ الأَفْضَلَ لَكِنْ لاَ مَانع مِنْهُ وَهُوَ مِنْ أطْيَبِ الْمَكَاسِبِ فَإِنهُ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ هَذِهِ الْعِبَادَةُ العَظيمَةُ ويحصلُ لَهُ حُضُورُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَريفة فَيَسْألُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. الثالثة عشرة: يُسْتَحَب أنْ يَكُونَ سَفَرُهُ يَوْمَ الْخَمِيس فَقَدْ ثَبَتَ في الصَحيحَيْنِ عَنْ كَعْب بن مَالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: (قَلَّمَا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر إلا يَوْمَ الخَمِيس فَإنْ فَاتَهُ فَيَوم الاثنين (¬2) إذ فيه هَاجَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) من دلائله ما رواه الهروي رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من حَج عن ميت يكتب للميت حجة، وللحاج سبع حجات)، وللدارقطني رحمه الله تعالى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حج عن أبيه أو عن أمه فقد قضى عنه حجته، وكان له فضل عشر حجج). (¬2) فإنْ فاته يوم الاثنين، قال في الحاشية: فالذي يظهر أن الأولى يوم السبت لما روي من أنه - صلى الله عليه وسلم -: خرج في بعض أسفاره يوم السبت. ومن قول عمرو بن أم مكتوم يرفعه: لو سافر الرجل يوم السبت: (منْ شرق إلى غرب لرده الله تعالى إلى موضعه). قيل: ويكره السفر ليلة الجمعة لخبر: (إذا سافر الرجل ليلة الجمعة دعا عليه ملكاه). ذكره الغزالي في الخلاصة، وفي الكراهة نظر، وقد يقال: تحتمل الكراهة إنْ قصد الفرار من الجمعة، ويحرم السفر بعد فجرها على من لزمته ما لم يخش انقطاعاً عن رفقته أو تمكنه من طريقه. ثم نصهم على ندب السفر في هذه الأيام صريح في عدم ندبه في غيرها لكن لا من جهة تطير ونحوه، لحرمة رعاية ذلك، فقد قال ابن جماعة: (ولا يكره السفر في يوم من =

مِنْ مَكَّةَ) ويُسْتَحب أنْ يكُون باكراً لحديث صخْر الغَامدي رضي اللهُ عَنْهُ أن النبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اللهُمَّ بَارِكْ لأُمتي في بُكُورِهَا" وَكَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشاً أوْ سَرِية بَعَثَهُمْ مِنْ أول النهار وَكَانَ صَخْرٌ تَاجراً فَكَانَ يَبْعَثُ بتِجَارَته أول النهَارِ فَأَثْرَى وكَثُرَ مَالُهُ. رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ والترْمذِي (¬1) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. الرَّابِعَةِ عَشرة: يُسْتَحَبُّ إذَا أرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزلهِ أنْ يُصَليَ ركْعَتَيْن (¬2) يقْرأ في الأولَى بَعْدَ الْفَاتِحَة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وفي الثَّانِية {قُل هُوَ ¬

_ = الأيام بسبب كون القمر في العقرب أو غيره، ولَمَّا قِيْلَ لعلي كرم الله وجهه ورضي عنه: (أتلقى الخوارج والقمر في العقرب، قال: فَأَيْن قمرهم). وقال له مُنَجم: سِرْ ساعة كذا تظفر. فقال: (ما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - مُنَجم ولا لنا مِنْ بعده)، واحتج بآيات ثم قال: (فمنْ صَدقَكَ في هذا القول لم يأمنْ أنْ يكون كمن اتخذ من دون الله نِدَّاَ، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها)، ثم قال للناس: ألا إياكم وتَعَلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، المنجم كالكافر، ثم توعد المنجم بأنه إنْ لم يتب ليخلدنه في الحبس، وليحرمنه العطاء، ثم قاتل الخوارج في الساعة التي نهاه عنها فظفر بهم، وهي وقعة "النهروان الثانية". ونقل ابن رُشْد رحمه الله تعالى أن الإمام مالكاً رحمه الله لم يكن يكره شيئاً في يوم من الأيام بل كان يتحرى الأربعاء والسبت رداً على مَنْ يتشاءم بهما وأراد مَلِكٌ غزواً في وقتٍ، فحذره المنجمون منه. فأنشد: دع النجوم لطرقي يعيش بها ... وانهض بعزم صحيح أيها الملك إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرتَ ما ملكوا فخالفهم وظفر وغنم. وهذا الخليفة المعتصم العباسي رحمه الله أراد غزو عامورية في وقت فنهاه المنجمون عن غزوها في هذا الوقت فلم يلتفت لقولهم بل غزاها وانتصر وفي هذا يقول البحتري رحمه الله في قصيدته التي مطلعها: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحدُّ بين الجد واللعب (¬1) أي والنسائي وابن ماجه. (¬2) كيفية نيتهما أنْ ينوي بقلبه سنة الخروج من البيت للسفر.

اللَّهُ أَحَد}. فَفِي الحَدِيث عَن النَبِي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خَلَّف أحَد عِنْدَ أَهْلِهِ أفْضَلَ مِنْ رِكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حينَ يُرِيدُ السَّفَرَ". ويُسْتَحَب أنْ يقْرَأ بَعْدَ سَلاَمه آيةَ الكُرْسي ولإيلاَف قُرَيْش فَقَدْ جَاءَ فيهِمَا آثَارٌ للسلَف مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ في كُل شَيْء وكُل وَقْت. ومِنَ الآثَارَ: (أَنَّ مَنْ قَرَأَ آيةَ الْكُرْسي (¬1) عِنْدَ خُرُوجه مِنْ مَنْزلهِ لَمْ يُصبْهُ شَيْء يكْرَهُهُ حَتى يَرْجعَ مِنْ مَنْسَكه) عَنْ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ يَدْعُو بِحُضُور قَلْب وإخْلاَص بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ أُمُور الدُنْيَا والآخِرَة وَيَسْألُ اللَّهَ الإِعَانَةَ والتَّوْفِيقَ في سَفَره وغَيْرِهِ مِنْ أمُوره فَإذَا نَهَض (¬2) مِنْ جُلُوسه قَالَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حديث أنس رضي اللهُ عَنْهُ: "اللَهم إلَيْكَ تَوَجهْتُ وبكَ اعْتَصَمْتُ اللَّهُم اكْفني مَا أَهَمَني وَمَا لَمْ أَهْتَمَّ به اللَّهُمَّ زَودْني التقْوَى وَاغْفِرْ لي ذَنْبي (¬3) ¬

_ (¬1) وجه المناسبة في آية الكرسي افتتاحها بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنَةٌ ولا نوم، وذلك هو المتكفل بحفظ من يخلفه وعدم ضياعه إذْ لا يستحفظ في الحقيقة إلاّ مَنْ اتصَفَ بما ذكر، وهو الله سبحانه دون غيره، ومن الآثار في لإيلاف قريش: (مَنْ أراد سفراً ففزع من عدوٍ أو وحشٍ فليقرأ لإيلاف قريش فإنها أمان من كل سوء). وجه المناسبة في لإيلاف قريش ما فيها من نعمتي الإطعام من الجوع والأمن من الخوف المناسبين لذلك أيَّ مناسبة. (¬2) أي للخروج. ولم يشرع فيه لأن المصنف رحمه الله تعالى سيذكر في السادسة عشرة دعاء آخر وهو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من أنْ أضل ... ) إلى آخره. فيقوله عند شروعه في الخروج ويحتمل أن يجمع بين ما ذكره هنا وما سيأتي في السادسة عشرة عند إرادته الخروج فيقدم ما في الرابعة عشرة لأنه نص في المقصود لخصوصه بخلاف ما سيأتي في السادسة عشرة فإنه يعم كل خروج ولهذا جمعت بينهما مقدماً: (اللهم بك انتشرت) وملحقاً به: (اللهم إني أعوذ بك أنْ أضل ... ) إلخ في كتابي "مرشد الحاج والمعتمر والزائر" نفع الله به وبجميع كتبي آمين. (¬3) وأكمله كما ورد في بعض الروايات بزيادات: (اللهم بك انتشرت وبك اعتصمت، أنت ثقتي، ورجائي، اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني، وما لم أهتم به، وما أنت أعلم به مني، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، =

اللهم إني أعوذ بِك مِنْ أنْ أضلّ أو أُضَل، أو أزِل أو أزَلّ، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجْهَلَ عَلَيّ، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". الخَامسة عشرة: يُسْتَحَب أَنْ يُوَدع (¬1) أهْلَهُ وجيرَانَهُ وأصْدقَاءَهُ وأَنْ يُودِّعُوهُ وَيقُولُ كُل واحد مِنْهُمْ لصَاحبِهِ: أَسْتَوْدع اللَّهَ دِينكَ وَأَمَانتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ زَوَّدَكَ اللَّهُ التقْوَى وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُ كُنْتَ (¬2). ¬

_ = ووجهني إلى الخير حيثما توجهت). ويضم إليه: (اللهم بك أستعين، وعليك أتوكل، اللهم ذلل لي صعوبة أمري، وسَهل علي مشقة سفري، وارزقني من الخير أكثر مما أطلب، واصرف عني كل شر، رب اشرح لي صدري ونَوَر قلبي ويَسر أمري، اللهم إني أستحفظك وأستودعك نفسي وديني وأهلي وأقاربي وكل ما أنعمت به علي وعليهم من آخرةٍ ودنيا واحفظنا أجمعين من كل سوءِ، يا كريم، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلِم أو أظلَم أو أجهل أو يجهل عليّ توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله). (¬1) أي أنْ يذهب إلى مَنْ يودعهم لما وَرَدَ أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أتى أصحابه فَسَلَّم عليهم، وإذا قَدِمَ من سفر أتوا إليه فسلموا عليه، وإنما كان هو المودع لأنه المُفارق، والتوديع منه والقادم يُؤتى إليه ليُهَنأَ بالسلامة. (¬2) هذا الدعاء الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى مجموعٌ من حديثين صحيحين، زاد النسائي عليه آخره: واقرأ عليك السلام، وينبغي للمقيم أنْ يزيد عليه إذا ولَّى المسافر: (اللهم اطوِ له البُعْدَ، وهَوَن عليه السفر) لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمريد سفر، قال: يا رسول الله إني أريد أنْ أسافر، فأوصني. قال: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَف (أي مرتفع) ". فلما وَلَى، قال: اللهم اطو له البُعْد. رواه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه رحمهم الله تعالى. وأنْ يطلب من المسافر الدعاء، لما صَحَّ أنه - صلى الله عليه وسلم - طلبه من عمر رضي الله عنه لَمَّا أراد العمرة بقوله: (يا أخي لا تنسنا من دعائك)، وفي رواية: (يا أخي أشركنا في دعائك)، وأنْ يُشَيِّعَه بالمشي معه كما قاله جمع للاتباع، رواه أبو داود رحمه الله وكذا الحاكم وصححه، وأنْ يصافحه عند مفارقته فيما يظهر للاتباع =

السادسة عشرة: السُّنةُ إذَا أرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ بيتِهِ أنْ تقُولَ مَا صَحَّ أن رَسُولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقُولُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: "اللَهُمَّ إنَّي أعُوذُ بِكَ مِنْ أضِلَّ أوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَ أَوْ أُزلَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليّ"، وعن أنس أنَ النَبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا خَرَجَ الرَجلُ مِنْ بيته فَقَالَ: بِسْم الله تَوَكَلْتُ عَلَى الله لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله يقالُ لَهُ: هُدِيتَ وكفيتَ ووُقيت" ويُسْتَحَب هَذَا الدُّعَاءُ لكُلِّ خَارج مِنْ بَيْتِهِ ويُسْتَحَب له أنْ يَتَصدَّقَ بِشَيْء عِنْدَ خُرُوجه، وَكَذاَ بَيْنَ يَدَيْ كُل حَاجَة يُريدُهَا. السابعة عشرة: إذَا خَرَجَ وَأَرَادَ الرُّكُوبَ (¬1) اسْتُحِبَّ أَنْ يقُولَ: بِسْمِ الله، وَإذَا اسْتَوَى على دَابته قال: الحَمْدُ لله سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لنا هَذَا وما كُنَّا لَهُ مُقْرنينَ (¬2) وإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (¬3) ثُمَ يقُولُ: الحَمْدُ لله ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلاَثَ مَرَّات ثُمَّ يقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَ إنِّي ظَلَمْتُ نفْسِي فاغْفِرْ لي فَإِنّه لا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إِلاَ أنْتَ. لِلْحَدِيث الصَّحيح في ذَلِكَ. وَيُسْتَحَب أن يَضُمَّ إليه: اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ في سَفَرِنَا هذا البرَّ والتقْوَى ومِنَ الْعَمَلِ مَا تُحِب وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرِنَا واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصاحِبُ في ¬

_ = أيضاً، رواه أبو داود والنسائي، وأنْ يواسيه بشيء إنْ كان مُحتاجاً أخْذاً من اعتذار ابن عمر رضي الله عنهما لمن وَدَعه، بقوله: (ليس لي ما أعطيكه). ويُسَن للخارج طلب وصاية المقيم له بالخير للحديث السابق ودعاؤه له لما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خرجت إلى سفر فقل لمن خلفته: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه" ويقاس به الدعاء المتقدم فيقول لهم: "أستودع الله دينكم ... " إلى آخره كما صَرح به المصنف بقوله: ويقول كل واحد ... إلى آخره. (¬1) ويُسَنُّ أنْ يبدأ برجله اليمنى. (¬2) أي مُطيقين. (¬3) أي لمبعوثون.

السفَر والخَلِيفَةُ في الأَهْلِ وَالمَالِ، اللَّهُم إنَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَر وَكَآبةِ المُنْقَلَبِ (¬1) وَسُوء المَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالمَالِ والْوَلَدِ، لِلْحدِيثِ الصَّحيح في ذلك. الثامنة عشرة: يُسْتَحَب إِكْثَارُ السَّيْرِ في اللَّيْلِ لِحَدِيثِ أَنسٍ (¬2) أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "عَلَيْكُم بالدُّلْجَة (¬3) فَإِن الأَرْضَ تُطْوَى باللَيْلِ" (¬4). وَيُسْتَحَبُّ أنْ يرِيحَ دَابتَهُ بالنُّزُولِ عَنْهَا غُدْوَةً (¬5) وَعَشِيةً وَعِنْدَ كُلِّ عَقَبة ¬

_ (¬1) قال في الحاشية: ويزيد بعد قوله: (وكآبة المُنْقَلَب): (والحَوْر بعد الكور، ودعوة المظلوم) ثم قال: (ووعثاء السفر بالمد شدته، والكآبة بالمد أيضاً تغير النفس مِن حزن ونحوه، والحور بمهملتين: النقص والتأخر، والكور بالراء من تكوير العمامة أي لفها وجمعها. ورواه مسلم وغيره بالنون مصدر "كان" إذا وجد واستقر، وهو الأكثر: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص. كذا نقل تفسير هذه الثلاثة عن العلماء، وفيه وقفة إذْ يصير المعنى عليه: وأعوذ بك من النقص بعد الرجوع إلى النقص، فالوجه أنْ يقال: المراد بالكور هنا نفس الاستقامة أو الزيادة، لا الرجوع منها، ليلتئم المعنى. ثم رأيت ابن خليل ذكر نحو ذلك فقال: والكور التقدم والزيادة والكون من قولهم كان فلان على حالة جميلة فحار عنها أي رجع، وقولهم حار بعدما كان. اهـ. أقول: فيكون معنى (الحور بعد الكور) بالراء، النقص بعد الزيادة، ومعنى (الحور بعد الكون) بالنون الرجوع من الحالة الجميلة إلى الحالة القبيحة. والله أعلم. (¬2) رواه أبو داود والحاكم وصححه. (¬3) الدُلْجة: بضم الدال فسكون أو بفتحتين، قال في الصحاح: السيْر في أول الليل وآخره. (¬4) أي طَيَّاً حقيقياً يكرم الله به مَنْ أتى بهذا الأدب امتثالاً لذلك، إذ في رواية: "عليك بالدلجة، فإن لله ملائكة موكلين يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس". (¬5) دليله حديث البيهقي رحمه الله تعالى: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر مضى وناقته تُقاد.

وَيَتَجَنَّبَ النَّوْمَ (¬1) على ظَهْرِها وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيها فَوْقَ طَاقَتِها (¬2) وَأَنْ يُجيعَهَا (¬3) من غَيْرِ ضَرُورَةِ فَإنْ حَمَّلَهَا الجَمَّالُ فَوْقَ طَاقَتِهَا لَزِمَ المُسْتَأْجرَ الامتنَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ بَأسَ بالإِرْتِدافِ عَلَى الدابةِ إذَا أَطَاقَتْهُ (¬4) فقَدْ صَحَّتْ الأَحَاديثُ المَشْهُورَةُ في ذلك ولا يَمْكُثُ على ظَهْرِ الدابة إِذَا كَانَ واقفاً لشُغْل يَطُولُ زَمَنُهُ بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَنْزِلَ إلى الأَرْضِ فإِذا أَرادَ السَّيْرَ رَكِبَ إِلاّ أنْ يَكُون لَهُ عُذْرٌ مَقْصُودٌ في تَرْكِ النزُولِ (¬5) والحديثُ مَشْهُورٌ في النَّهْيِ عن اتخاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِ مَنَابِرَ. وَفِي الصحيحيْنِ أَنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ على راحِلته وَهَذَا للحَاجَة كما ذَكَرْنَاهُ. ¬

_ (¬1) أي كثرته عرفاً لغير عُذْر فقد صَحَّ أنه - صلى الله عليه وسلم - نام على راحلته، وإذا نام في غير وقته فللمؤجر منعه منه لأن النائم يثقل كذا قيل والله أعلم، والمراد بوقت النوم الوقت المعتاد لغالب الناس ولا يضر النعاس لبقاء نوع من الشعور معه. قال الجمال الطبري رحمه الله تعالى: ويسن أن لا ينزل حتى يحمى النهار وأنْ ينام فيه نومة يستعين بها على دفع الوسن، وقال غيره رحمه الله تعالى: يسن الإسراع في المشي عند الإعياء للحديث الصحيح: "أنهم شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - المشي، فدعاهم فقال: عليكم بالتّسلان" أي الإسراع في العَدْو، فتسلوا فوجدوه أخف عليهم، والرفق بالإبل، أي إنْ سافر في الخصب مثلاً لتنال منه حظها، والإسراع بها عند الجدب لتصل إلى المقصد وفيها فضل قوتها لحديث بذاك. (¬2) الذي يظهر في ضبطه أن يقال هو ما يقتضي أهل الخبرة أنْ مثل هذه الدابة سِناً ونوعاً تعجز عن حمل مثله أو يترتب ضرر يلحقها منه في المستقبل كقلة مشيها عن عادتها. (¬3) أي إجاعة يترتب عليها الضرر السابق في تحميل الدابة فوق طاقتها. (¬4) أي إنْ مَلَكَ الدابة أو ظَن رضا مالكها، ومالك منفعتها أحق بمقدمها إلا أنْ يقدمه، ويجوز التعاقب عليها ويُسَن أنْ يركب غلامه. (¬5) كأنْ كان ممن يطلب ركوبه ليستَفْتَى.

التَّاسِعَةَ عَشرة: أنْ يَتَجَنَّبَ الشَّبَعَ المُفْرِط (¬1) وَالزينَةَ والتَّرَفُّه (¬2) والتَّبَسُّطَ في ألْوَانِ الأَطْعِمَةِ (¬3) فَإِنَ الحَاجَ أشْعَثُ أغْبَرُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ الرِّفْقَ وَحُسْنَ الْخُلقِ مع الْغُلاَم والجَمّالِ والرَفِيقِ وَالسَّائِلِ وَغَيْرهم وَيَتَجَنَّب الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُخَاشَنَةَ وَمُزَاحَمَةَ النَاسِ فِي الطَّرِيقِ وَمَوارِدِ المَاءِ إِذا أمْكَنَهُ ذَلِكَ وَيَصُونُ لِسَانَهُ مِنَ الشَّتْمِ وَالْغَيْبَةِ وَلَعْنَة الدَوَاب (¬4) وَجَمِيعِ الأَلْفَاظِ الْقَبيحَةِ. وَلْيُلاَحِظْ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَج فَلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُه" وَيَرْفُقُ بالسَّائِلِ وَالضعِيفِ ولا يَنْهَرُ أحَداً مِنْهُمْ وَلاَ يُوَبخُهُ عَلَى خُرُوجهِ بلا زَادَ ولاَ رَاحِلَة بَلْ يُوَاسِيهِ بشَيء مِمَّا تَيَسَّرَ فَإنْ لم يَفْعَلْ رَدَّهُ رَدَّا جَمِيلاً وَدَعَا لَهُ بالمَعُونَةِ (¬5). العِشْرُون: كَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الوحْدَةَ في السَّفَرِ، وَقَالَ: "الرَّاكِبُ (¬6) ¬

_ (¬1) ضابط الشبع أن يصير بحيث لا يشتهي لا أنْ لا يجد له مساغاً وقوله: المفرط: قيد به لتأكد تجنبه حينئذ وإلا فأصْل الشبع مطلوب تجنبه للوارد: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" أو كما ورد. (¬2) الترفه والتنعم هنا الزينة والتبسط: ألفاظ مَعَانيها متقاربة أخذاً من القاموس وغيره. (¬3) محله إذا كان يفعل التبسط لنفسه أما لنحو ضيف فلا بأس به. (¬4) لما رواه مسلم رحمه الله تعالى: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتضايق بهم الجبل، فقالت: حل اللهم إلعنها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصحبنا ناقة عليها لعنة". (¬5) قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وأما قول بعضهم في قوله تعالى وهو: {وَأَما اَلسائلَ فَلا تنْهَرْ (10)} محله ما لم يزد على ثلاث وإلا نهره ينبغي حمله على ما إذا ألح ولم يمكن دفعه إلا بذلك فحينئذ لا منع من أن ينهره لكن بما لا شتم فيه ولا إثم بل بنحو لا تجوز لك كثرة الإلحاح وخف الله في إلحاحك وما شابه ذلك مما لا يخفى على الموفق. (¬6) ومثل الراكب الماشي وآثر الراكب جرياً على الأغلب وظاهر الحديث: أن =

الوَاحِدُ شَيْطَانٌ، وَالاثْنَان شَيْطَانَان، وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ" فَيَنْبَغِي أنْ يَسيرَ مَعَ النَّاسِ وَلاَ يَنْفَرِدُ بَطِريق ولا يَرْكَبُ بنياتَ (¬1) الطَّريقِ فإنَّهُ يخافُ عليه الآفاتُ بسبَبِ ذَلِكَ وإِذَا تَرَافَقَ ثَلاَثَةٌ أوْ أكْثَرُ فَيَنْبَغِي أنْ يُؤَمِّرُوا على أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ وَأَجْوَدهمْ (¬2) رَأياً ثُمَّ ليُطيعوهُ، لحَدِيثِ أبي هُرَيْرَة رضي الله عَنْهُ أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانُوا ثَلاَثَةً فَلْيُؤَمِّرُوا أحَدهمْ" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَن. الْحَادِيَةُ والعِشْرُون: يُكْرَهُ أنْ يَسْتَصْحِبَ كَلْباً أو جَرَساً لحديث أمِّ الْمُؤْمِنين أم حَبيبةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ العِيرَ التي فيها الجَرَسُ لا تَصْحَبُهَا الْمَلاَئِكَةُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بإسْنَادٍ حَسَنٍ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله تعالى عنه أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْب أو جَرَسٌ". حَدِيثٍ صَحيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي الحديث في سُنن أبي دَاوُدَ وَغَيْرُهُ أنْ النَبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الْجَرَسُ مِزمَارُ الشَّيْطَانِ" قَالَ الشَّيْخُ أبُو عَمْرو بن الصَّلاَح رَحِمَهُ الله تعالى: فَإنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِك مِنْ جِهَةِ غيْرِه ولم يَستْطعْ إزَالتهُ فَلْيقُلْ: اللَهُمَّ إِنَي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا فَعَلَهُ هَؤُلاَءِ فَلاَ تَحْرِمَني ثَمَرَةَ صُحْبةِ ملائِكَتِكَ (¬3) وَبَرَكَتَهُم. ¬

_ = الكراهة لا تزول إلا بثلاثة وهو كذلك ومحله فيمن أنس بالناس، وأما مَنْ استوحش منهم واستأنس بالله في كثير من أوقاته فلا كراهة، ومحله أيضاً كما هو ظاهر إذا تيسر استصحاب أحد له، وإلا كانْ احتاج للسفر ولم يخشَ بتفرده على نفسه ضرراً فلا كراهة أيضاً والله أعلم. (¬1) بنيات الطريق: يمناها ويسراها، بل يمشي وسطها لئلا يغتال فيبعد عليه الغوث، وينبغي ألا ينام بعيداً عن الطريق والركب سائر. (¬2) وإذا تعارض الأفضل والأجود رأياً قدم الأجود رأياً لأن حفظ مضار السفر هو المقصود بالذات لأن التأمير إنما طلب لذلك. (¬3) أي ملائكة الرحمة والبركة، قال في الحاشية: والظاهر أن من قال ما ذكره =

الثَّانِيَةُ والعِشْرُون: السُّنةُ إِذا عَلاَ شَرَفاً مِنَ الأَرْض كَبَّرَ وإذا هَبَطَ وادياً وَنَحْوه سَبَّحَ (¬1) وَتكْرَهُ المُبَالغَة بِرَفْعِ الصَّوْت في هذَا التكْبيرِ وَالتَّسْبيح (¬2) لِلْحَدِيثِ الصَحِيحِ فِي النَّهْي عَنْهُ (¬3). الثالِثَةُ والعِشْرُون: يُسْتَحَبُّ إذا أشْرَفَ عَلَى قَرْية أو مَنْزلٍ يقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أهْلهَا وَخَيْرَ ما فيها وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وَشَر أهْلِهَا وَشَر مَا فِيهَا (¬4). الرابِعَةُ والعِشْرُون: السُّنَّة إذَا نَزَلَ مَنْزلاً أنْ يقُولَ ما رَوَاهُ مُسْلم في صَحِيحهِ عَنْ خَولَةَ بِنْت حَكِيمٍ رَضِيَ الله عنها قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "مَنْ نزل مَنْزلاً ثُمَّ قال: أعُوذُ بكلمات الله التاماتِ مِنْ شَرَ ما خَلَقَ لم ¬

_ = العلامة ابن الصلاح وغيره رحمهم الله تعالى: لا تنقطع عنه ثمرة صحبة الملائكة بل ينبغي أنه لو أنكره بما قدر عليه مِنْ قلبه أو لسانه أو يده أنْ لا ينقطع عنه ذلك أيضاً وإن لم يقل ما ذكر لعذره، وصَح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أرسل رسولاً يقول: "لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو قال قلادة- إلا قطعت". قال الإمام مالك رحمه الله: أرى ذلك من العين فيكره أنْ تقلد الدابة وتراً أو نحوه لذلك. اهـ. (¬1) لما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: "إذا صَعدنَا كَبرْنَا وإذا نزلنا سَبحْنَا". (¬2) ومثلهما كل ذكر ندب فيه الجهر. (¬3) أي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْبِعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً، ولا غائباً إنه معكم إنه سميع قريب" ومعنى ارْبعوا: ارفقوا بأنفسكم. (¬4) ويزيد: "رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً".

يَضُرهُ شَيْءٌ حتى يَرْتحل مِنْ مَنْزلهِ ذلك"، وَيُسْتَحَبُّ أنْ يُسَبحَ في حال حَطِّه الرَّحْلَ (¬1) لَما رَوَيْنَاهُ عَنْ أنَس رَضِيَ الله عنهُ قالَ: كُنا إذَا نَزلْنَا سَبحْنَا حتى نَحُط الرحَالَ (¬2) وَيُكْرَهُ النُّزُولُ في قارِعَة الطَرِيقِ (¬3) لحديث أبي هُرَيْرَةَ: "لاَ تُعَرسُوا عَلَى الطَّريق فَإنَّهَا مَأوَى الْهَوَام باللَّيْل". الخَامسَةُ والعِشرون: السُّنة إذا جَنَّ (¬4) عليه اللَّيلُ أنْ يقُولَ ما رَوَيْنَاهُ في سُنَن أبي دَاوُدَ وَغَيْرِه عن ابن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال: كان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَافَرَ فَأقْبَلَ الليْلُ قَالَ: "يَا أرْضُ ربي وَرَبكِ اللهُ أعُوذُ بالله مِنْ شَرّكِ (¬5) وَشَرِّ ما فيكِ (¬6) وَشَرِّ ما خُلِقَ فيك (¬7) وَشَرِّ ما يَدِب عَلَيْكِ (¬8)، أعُوذُ بالله مِنْ أَسَدٍ ¬

_ (¬1) كلامه رحمه الله تعالى شامل للمحرم والذي يتجه حينئذ استثناؤه، فإن شعاره التلبية، ويحتمل غيره، قال في الحاشية: والأول أقرب. اهـ. (¬2) لا ينافي هذا الحديث رواية أبي داود وغيره رحمهما الله تعالى عن أنس رضي الله عنه: "كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال" لأن معنى لا نسبح: لا نصلي الضحى، وبه يعلم أن الأولى في غير مزدلفة لما يأتي فيها تقديم حل الرحل على الصلاة حيث اتسع وقتها لأنه من الإحسان للدابة. (¬3) قارعة الطريق: أعلاه وليس هي المراد بل المراد الطريق، ويؤيده لفظ حديث مسلم رحمه الله تعالى الذي ساقه المصنف إذ فيه الطريق فقط وظاهر كلامه أنه لا فرق في الكراهة بين النزول ليلاً أو نهاراً، لكن قضية الحديث الذي ذكره اختصاص ذلك بالليل إلا أنْ يقال إنما ذكر الليل لأن الكراهة فيه أشد لأن الضرورة فيه أقرب. (¬4) إذا جَنَّ الليل: أي أظلم، والتعبير بأقبل الليل كما في الحديث أعَم وأوضح لأنه صادق بجميع أجزاء الليل ولو عقب الغروب وبالليالي المقمرة. (¬5) أي شر نفس الأرض بأنْ لا يقع في وَهْدَة، أو يتعثر بشيء منها. (¬6) بأن لا يَتَعَثر بشجرة أو نحوها. (¬7) أي مِن شر ما خلق فيك ولم يغلب عليه عنصرك كالجن. (¬8) ما يدب عليها أي من جميع المخلوقات.

وَأَسْودَ، والْحَية والعَقْرب ومِنْ سَاكنِ الْبَلَدِ ومِنْ وَالدٍ وَمَا وَلَدَ". قُلْتُ: الْمُرَادُ بالأَسْوَدِ الشَخْصُ. قَال أَهْلُ اللُّغَة: كل شَخْص يقالُ له أَسْوَدُ قال الإِمَامُ أبو سُلَيْمان الخَطَابي: سَاكِن الْبَلَد هُم الْجنُ، وَالْبَلَدُ الأَرْضُ التي هي مأوَى الْحَيَوَان وإنْ لم يكن فيها بناء قالَ: ويُحْتَمَلُ أنَ الْمُرَادَ بالْوَالِدِ إِبْلِيسُ وَمَا وَلَد الشَّيَاطِين (¬1). السَّادسة والعشرون: إذَا خَافَ قَوْماً أَو شَخْصاً آدمِيَّاً أَوْ غَيْرَهُ قال مَا رَوَيْنَاه بالإِسناد الصَحيح في سنن أَبي داوُدَ والنَّسائي وَغَيْرِهما عن أَبي مُوسَى الأَشْعَرِي رضيَ اللهُ عنه أن النَبِي - صلى الله عليه وسلم - كَان إذا خافَ قَوْماً قَالَ: "اللَهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهم ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهم" (¬2) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعاء الْكَرْبِ هُنَا وفي كُلِّ مَوْطِن وَهُوَ مَا ثَبَتَ في صَحِيحَيْ البُخَارِي وَمُسْلِم عن ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقُولُ عند الْكَرْبِ: لاَ إِلهَ إِلاَ اللهُ العَظِيمُ الحليمُ، لا إِلَهَ إلا الله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم، لا إِلهَ إلاَ الله رَبُّ السَمَوَات وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ". وفي كتاب التِّرْمذيِّ عَنْ أَنس بن مَالكٍ رضي اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كَرَبَهُ أَمْر قَال: "يا حَي يَا قَيُّوم بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ" قال الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ صحيح. السابعة والعشرون: في أُمُور يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسَافِرُ جاءت فيها أحاديثٌ وآثَار قَدْ جَمَعْتُهَا في كِتَابِ الأَذْكَار بِشَوَاهِدَ واضحة أذْكُرُ منها هُنَا أطْرَافاً ¬

_ (¬1) أخذ هذا من قوله تعالى: {أَفَتَتخِذُونَه وَذُريتهُ} الآية فإنها تدل على أنّ إبليس يلد. (¬2) زاد غيره: "اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم كن لي جاراً مِنْ شر هؤلاء، وشر الجن، والإِنس، وأعوانهم، وأتباعهم، عَزّ جارك وجَل ثناؤك، ولا إله غيرك".

مُخْتَصَرَةً منها: إذَا اسْتَصْعَبَتْ دَابتُهُ قيلَ: يقْرَأ في أذُنَيْهَا {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ [يُرْجَعُونَ]} (¬1). وَإِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ نَادَى يا عبادَ اللهِ احْبِسُوا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً (¬2) وَيُسْتَحَبُّ الْحُدَاءُ (¬3) للسُّرْعَةِ في السَّيْر وَتَنْشِيط الدَّوابِّ والنُفُوس وَتَرْوِيحِها وَتَسْهِيلِ السَّيْرِ وفيه أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ فإِذا رَكِبَ سَفِينَةً قَال: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} [هود: 41] (¬4) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآيةَ (¬5). الثامنة والعشرون: يُسْتَحَب الإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاء في جَميع سَفَرِهِ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْه وَأَحبَّائه وَوُلاَة الْمُسْلِمين وَسَائر الْمُسلمين بِمُهمَّات أَمُور الآخرة ¬

_ (¬1) أخرجه الثعلبي رحمه الله تعالى في تفسيره من ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك وسنده ضعيف، وأخرج الطبراني رحمه الله بسند منقطع: "إذا أضَل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا يراهم أحد"، وهو مجرب كما قال الراوي رحمه الله، وقال بعضهم: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد اجمع بَيْني وبين كذا، فإنه مجرب، قال المصنف رحمه الله تعالى: (قد جربته فوجدته نافعاً سبباً لوجود الضالة عن قرب غالباً). أقول: لا يستغرب هذا فإنه من كتاب الله قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. (¬3) الحداء: بضم الحاء وكسرها ويقال له "الحدو" تحسين الصوت الشجي بنحو الرجز المباح. (¬4) ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أن قراءة ذلك أمان من الغرق، ووجه المناسبة في الآية ظاهر. (¬5) كأن وجه مناسبة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} [الزمر: 67] ما في رواية، أن قائل ذلك يتذكر به عتو قوم نوح عليه السلام على الله الموجب لغرقهم فكان في ذكر ذلك الحمل على الرجوع إلى الله المتكفل بالخلاص من الشدائد وإن كانت لو وقعت اقتضت الشهادة ألا ترى أنه يقنت لنازلة الطاعون على المعتمد، وإن كان مَنْ مات به يموت شهيداً كما يقنت لنازلة هجوم الكفار على بلادنا -نسأل الله السلامة- وإنْ كان من قتلوه يموت شهيداً-. اهـ حاشية.

وَالدُّنْيَا للْحَديث (¬1) الصَّحيح في سُنَن أبي دَاوُدَ وَالتِّرمذي وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَبى - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ثَلاَثُ دَعَوَات مُسْتَجَابَات لاَ شَك (¬2) فيهِن: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ (¬3) وَدَعْوَةُ الْمُسَافر وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ (¬4) على وَلَدِهِ" وَلَيْسَ في روَايه أبي دَاوُدَ عَلَى وَلَده. التاسعة والعشرون: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُداوَمَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ (¬5) والنَّوْمُ عَلَى ¬

_ (¬1) هو استدلال لطلب الدعاء للمسافر من حيث هو، وأما الدليل على طلب خصوص الدعاء للمؤمنين فهو ما رواه المستغفري رحمه الله تعالى مرفوعاً: (ما من دعاء أحب إلى الله عز وجل مِنْ قول العبد اللهم اغفر لأمة محمد رحمة عامة). اهـ حاشية. (¬2) لا شك: تأكيد للحكم المستفاد من قوله: "ثلاث دعوات مستجابات". (¬3) أي بالنوع الذي ظلم به فقط إذ لا يجوز له الدعاء على ظالمه بغير ذلك. واستشكل بما في مسلم رحمه الله تعالى عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن امرأة خاصمته فقال: (اللهم إنْ كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرْضها). فكان كذلك، ويُجاب عن ذلك بأنه مذهب صحابي واستجابته كرامة له مع اعتقاد جوازه، وأُجيب بغير ذلك، وبَحَثَ العلامة الزركشي رحمه الله تعالى جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه، وسوء الخاتمة -نسأله تعالى السلامة- كقول "سعد" في الدعاء على مَنْ ظلمه، وعرضه للفتن فاستجيب له، وورد نظير ذلك عن الأنبياء والرسل والصحابة وأعلام الأمة سلفاً وخلفاً. وقيل يمتنع، وحمل الجواز على المتمرد لعموم ظلمه، أو كثرته أو تكرره أو فحشه أو إماتته لحق أو سنة أو إعانته على باطل أو بدعة، والمنع على من لم يظلم، أو ظلم في عمره مرة، وفي الحديث: إن الدعاء على الظالم يذهب أجر المظلوم، وأخرج الترمذي: (مَنْ دعا على ظالمه فقد انتصر). قال بعضهم: والدعاء على مَنْ ظلم المسلمين لا يذهب أجر الداعي لأنه لم يدع لحظ نفسه. (¬4) محله إنْ كانت دعوة الوالد بحق كأن كان الولد عاقاً بأنْ فعل مع والده ما يتأذى به تأذياً ليس بالهين وحينئذ فالوالد مظلوم، فيكون داخلاً في دعوة المظلوم، لكن صَرح به للاعتناء بشأنه. (¬5) لأنه ربما يفجؤه الموت فيكون على كمال حاله.

الطهَارَةِ (¬1) وَمِمَا يَتَأكَّدُ الأمْرُ به الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَلاة في أَوْقَاتِها (¬2) الْمَشْرُوعَة وَلَهُ أنْ يقْصُرَ وَيَجْمَعَ (¬3) وَلَهُ تَرْكُ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ (¬4) وَلَهُ فِعلُ أحَدِهِمَا وَتَرْكُ الآخرِ (¬5) لَكن الأَفضَلُ أنْ تقْصُرَ وَأنْ لاَ يَجْمَعَ للخروج مِنْ خِلاَف الْعُلَمَاء في ذَلِكَ فانَ أبَا حَنيفَةَ وَغَيْرَه رَحِمَهُم الله تَعَالَى قَالُوا: الْقَصْرُ وَاجب (¬6) وَالْجَمْعُ حَرَامٌ إِلا في عَرَفَاتِ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وإذا أراد القصر فلا بد من نية القصر (¬7) عند الإِحرام بالصلاة. وإنما يجوز الْقَصْرُ في الطهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشاء كُل وَاحِدَة رَكْعَتَانِ وَلَوْ فَاتَتْهُ مَقْصُورَة فَقَضَاهَا في السَّفَر (¬8) فَالأَوْلَى أنْ يقْضِيَها تَامَّة فَإنْ قَصرَهَا جَازَ عَلَى الأَصَحِّ وَإذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (¬9) في وقْت ¬

_ (¬1) ليكون النوم على الطهارة سبباً لاستغفار الملائكة، وحفظ الروح من الشياطين، وينبغي أيضاً لمريد النوم آخر الليل نصب ذراعه وحمل رأسه على كتفه للاتباع، ولئلا يستثقل في النوم فيفوته الصبح، أو أول وقته. (¬2) من الأوقات وقت العذر في المجموعتين. (¬3) أي إذا كان السفر طويلاً مباحاً، وله مقصد معلوم. (¬4) بأن يؤدي كل صلاة في وقتها تامة. (¬5) بأن يقصر بلا جمع وبالعكس. (¬6) أي إذا كان السفر ثلاث مراحل فأكثر. (¬7) هذا واحد من شروط القصر، الثاني: كون السفر طويلاً، الثالث: كونه جائزاً، الرابع: كونه لغرض صحيح، الخامس: كونه لمقصد معلوم، السادس: مجاوزة السور إنْ وُجد، وإلا فمجاوزة العمران، وخراب لم يهجر، السابع: أن لا يقتدي بمتم في جزء من صلاته، الثامن: دوام السفر حتى تنقضي الصلاة، التاسع: العلم بجواز القصر. (¬8) أي ولو في سفر آخر. (¬9) قال في الحاشية: المعتمد كما قاله جمع متأخرون أنه يجوز جمع الجمعة، والعصر تقديماً، لا تأخيراً، سواء قلنا إنها ظُهْر مقصورة، أو صلاة على حيالها. وهو الأصح، والمعتمد أيضاً أنه لو سافر أثناء الظهر مثلاً، ثم نوى الجَمْع جمع كما قاله جَمْعٌ =

أحَدِهِمَا وَبينَ الْمَغْرب والْعِشَاء في وَقْتِ أحَدهما فَإن شَاءَ قَدَّمَ الثَّانِيةَ إِلَى الأوْلَى وَإِنْ شَاءَ أخرَ الأولَى إِلى وَقْتِ الثانِيَةِ لَكِن الأَفْضَلُ إِنْ كان نَازِلاً في وَقْتِ الأُولَى أنْ يقَدِّمَ الثَّانِيةَ وإنْ كان سَائراً في وَقْتِ الأوْلَى أَخرَهَا (¬1) فَإِنْ أرَادَ الْجَمْع في وَقْت الأُوْلَى فَلَهُ ثَلاَثَةُ شُرُوط: أَنْ يَبْدَأ بالأُوْلَى وأَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا (¬2) والأَفْضَلُ أنْ تكونَ النيةُ عِنْدَ الإِحرَامِ بها وأَنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَلاَتين بِصَلاَة سُنَة ولا غيْرها فَإِنْ فُقد أحَدُ هَذِهِ الشُّرُوط بَطَلَ الْجَمعُ وَوَجَبَ أن يُصَلِّي الثانِيةَ في وَقْتِهَا وَلَوْ فَرَقَ بينَ الصَلاَتَين بِنَحْو الكَلِمَتَيْن أو الثلاَث لم يَضُر وإنْ فَرقَ بالتَّيَمُّم (¬3) بأن تَيَمَّمَ للأولَى ثُم سَلمَ مِنْهَا ثُمَّ تَيَمَّمَ للثانِيةِ وَشَرعَ فيهَا مِنْ غَيْر تأخير جَازَ على المَذْهب الصَّحيح وإنْ أرَادَ الجَمْع في وَقْت الثانِية وَجَبَ عَلَيْه أنْ يَنْوِيَ تأخيرَ الأُوْلَى إِلَى الثَّانِيةِ للْجَمْع وَتكونُ هَذه النية بَعْدَ دُخُول وَقْت الأولَى وَلَهُ تأخيرُ هذِهِ النية ما دام مِنْ وَقْتِ الأُولَى ما يَسَعُهَا فإنْ لم يَنْو تأخيرَهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ أثم (¬4) وصَارَتْ قَضَاءً وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهَا في الْقَصْر وَيُسْتَحَب أنْ يَبْدَأ بالأولَى وأن لاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإنْ خَالَفَ وَبَدأ بالثانِية أوْ فَرقَ جَازَ على الأَصَحِّ بِخَلاف مَا سَبَقَ مِنَ الجَمْع في وَقْت الأُوْلَى. ¬

_ = متقدمون، ونقله في المجموع، وأقره واعتمده الأذرعي وغيره، وقول ابن الرفعة بخلافه بحث مخالف للمنقول وذلك لوجود السفر وقت النية. (¬1) بقي أن لو كان المسافر سائراً وقتهما أو نازلاً وقتهما استوى جمع التقديم والتأخير حيث لم يوجد مُرَجح حينئذ إلا أنْ يقال: إن المبادرة لبراءة الذمة الموجودة في جمع التقديم ترجحه. (¬2) أي ولو مع السلام أو بعد نية الترك. (¬3) أي والطلب الخفيف. (¬4) أي إنْ تَعمد التأخير، فإنْ أخرها لنوم أو شُغْل سها بسببه عنها، وقد عُذر به فلا إثم، وإنْ كانت قضاء.

فصل إذا جمع في وقت الأولى أذن لها

فصل إِذَا جَمَعَ في وَقْت الأُولَى أَذَّنَ لَهَا (¬1) ثُمَّ أقَامَ لكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا وَعلى قَوْلٍ لاَ يُؤَذنُ، وإنْ جَمَعَ في وَقْت الثانِية فَكَذَلِكَ على الأَصَح وَعَلَى قَوْلٍ لاَ يُؤَذّنُ وعلى قَوْلٍ إنْ رجا حُضُورَ جَمَاعَة أذَّنَ وَإِلاَ فَلاَ. فصل وَيُسْتَحَب صَلاَةُ الْجَمَاعَة في السَّفَر وَلَكِنْ لاَ تَتأكَّدُ كَتَأكُدِهَا في الْحَضَر (¬2). فصل وَتُسَنُّ السُنَنُ الرَاتِبةُ مَعَ الْفَرَائِضِ في السفَرِ كما تُسَنُ في الْحَضَرِ فَمَنْ جَمَعَ بينَ الظهْرِ وَالْعَصْرِ صلى أوَلاً سُنةَ الظهْرِ التي قَبْلَهَا ثُمَّ صَلَّى الظهْرَ ثم العصر ثُم سُنةَ الظهر التي بَعْدَهَا ثُمَّ سُنةَ الْعَصْر (¬3). ¬

_ (¬1) هو المعتمد. (¬2) أي لوجوبها كفاية عند الشافعي وأبي حنيفة، وعيناً عند أحمد، وليست الجماعة شرطاً في صحة الصلاة عنده، وسُنة عند مالك وندبها في السفر. (¬3) هذا هو الأوْلى وكذا يقال في المغرب والعشاء، وكذا يجوز غير ذلك ما لم يقدم سنة بعدية على فرضها، أو يخلل بسنة بين الفرضين في جمع التقديم أو يقدم قَبْلية للثانية على الأولى فيه أيضاً، فيما يظهر لأن وقت الثانية براتبتها القبلية إنما يدخل بعد فعل الأولى.

فصل للمسافر إلى مسافة تبلغ مرحلتين فصاعدا أن يمسح على خفيه

فصل لِلْمُسَافر إلى مَسَافَة تَبْلُغُ مَرْحَلَتَيْن فَصَاعِداً (¬1) أن يَمْسَحَ عَلى خُفَّيْه ثَلاَثَةَ أيام وَلَيَالِيهِنَّ (¬2) ابْتدَاؤهَا مِنْ حينِ يُحْدثُ (¬3) بَعْدَ لُبْسه ولا يَجُوزُ المَسْحُ إلاَّ على خُف سَاتر لمحَل الفرض مِنْ رِجْلَيْه ويُشْتَرَطُ سَتْرُهُمَا مِنْ أسْفَل (¬4) ومِنَ الْجَوَانِبِ الأَرْبَع وَلاَ يُشْتَرَطُ سَتْرُهُمَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَلاَ يَضُرُ إذا حَصَلَ السَتْرُ الْمَشْرُوطُ لَوْ كَانَ يُرَى كَعْبَاهُ من فَوْقه. ولا يَجُوزُ الْمَسْحُ إِلاَّ أنْ يَلْبَسَهُ على طَهَارَة كاملَة وَلَهُ أنْ يُصَلِّي بالمَسْحِ الوَاحد ما شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ والنَّوافل (¬5) مَا لم تَنْقَضِ الْمُدَّةُ ولا يَجُوزُ الْمَسْحُ في غُسْل الجَنَابةِ ولا غَيْره مِنَ الأَغْسَالِ الْوَاجِبَةِ والمَسْنُونَة فَإنْ أَجْنَبَ (¬6) أو ¬

_ (¬1) أي سفراً تقصر فيه الصلاة، وقد مَرت شروطه قريباً فراجعها. (¬2) أي المتصلة بهن سواء أسبق اليوم الأول ليلته أم لا. فلو أحدث في أثناء ليله اعتبر قدر ماضيها من الرابعة وعلى هذا القياس يقال في اليوم، وفي مدة المقيم ولو أقام بعد يوم وليلة، وقبل الثلاث انتهى مسحه فلا يستوفيها، ومتى مسح في الحضر ولو أحد خفيه فهو كالمقيم عند الأئمة الثلاثة، وكالمسافر عند الإِمام أبي حنيفة. (¬3) أي من انتهاء حدثه اتفاقاً، ورواية عن أحمد من وقت اللبس. (¬4) فارق ستر العورة، فإن الواجب فيه الستر من الأعلى والجوانب دون الأسفل. (¬5) محله في غير دائم الحدث كالمستحاضة، والسلس، أما دائم البول فإنْ أحْدَثَ غير حدثه الدائم جاز له المسح ثم إنْ أحدث قبل أنْ يصلي فرضاً بوضوء اللبس مَسَحَ، واستباح فرضاً ونوافل، وإنْ أحدث بعد ذلك مسح لنفل فقط لأن مسحه مرتب على طهره، وطهره لا يفيد أكثر من ذلك، فلو أراد فرضاً آخر وجب النزع والطهر الكامل لأنه محدث بالنسبة لما زاد عن فرض ونوافل، أما حدثه فلا يحتاج معه إلى استئناف طهر إلا إذا أخر الصلاة بعد الطهر لغير مصلحتها، وحدثه مستمر، فهو حينئذ كغير حدثه. (¬6) خرج به ما لو تنجست رجْلُهُ في الخف، وأمْكَنَ غَسْلَهَا فيه فإن له إتمام المدة لعدم الأمر بالنزع للنجاسة بخلاف نحو الجنابة.

حَاضَت الْمَرأةُ في أثْنَاء الْمُدة وَجَبَ نَزْعُهُ واسْتئنَافُ اللبْس على طَهَارَة فَلَوْ غَسَلَ رجْلَيْه. في الْخُف ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ وصَحَتْ صَلاَتُهُ لَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ حَتَّى يَسْتَأنف اللبْس عَلَى طَهَارَة. وَصِفَةُ الْمَسْح الْمُخْتَار أن يَمْسَحَ أعْلاَهُ وأسْفَلَه (¬1) خُطُوطاً فإن اقْتَصَرَ على جزْءٍ يَسير مِنْ أعْلاهُ أجْزأهُ (¬2) وإنْ اقْتَصَرَ على أسْفَله أوْ حَرْفه (¬3) لَمْ يُجْزه على الأصَح وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ بيَده أو بعُود أوْ بخرْقَة (¬4) أو غَيْر ذلكَ فَكُلهُ جائزٌ ولو قَطَّر الْمَاء عليه أو وضَعَ يَدَهُ عليه ولم يُمرَّها أوْ غَسَله أجْزَأه عَلَى الأَصَح لكن يُكْرَهُ الغُسْلُ وإذا انْقَضَتْ الْمُدَةُ أو ظَهَرَ شَيْءٌ مِن رجْلِهِ (¬5) في مَحَل الْفَرْضِ خَلَعَ الْخُفَّيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فإن كان مُحْدثاً اسْتَأنَفَ الْوُضوءَ وإنْ كان على طَهَارَةِ الْغُسْلِ فلا شيءَ عليه فَيَسْتأنِفَ اللبْسَ على تلكَ الطهَارَةِ إن شَاءَ وإن كانَ عَلَى طَهَارَة مَسْح فَيَنْبَغِي (¬6) أنْ يَسْتأنف الْوُضوء فَإن اقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِ ¬

_ (¬1) أي عند الأئمة الثلاثة، وعند الإمام أحمد أعلاه فقط. (¬2) أي بشرط أن لا يكون على ظاهر الجزء شعر، فإنْ كان ومسحه لم يجز جَزْماً. قال في الحاشية كذا قيل، وفيه نظر ولا يبعد تخريجه على مسح شعر الرأس في الوضوء. اهـ. (¬3) أي أو عقبه. (¬4) الظاهر اشتراط فعله وهو ظاهر إنْ كان غافلاً عن النية، وإلا لم يشترط، فتعريض الخف لنحو مطر يجزىء مطلقاً، وانغساله، وانمساحه لا يُجزىء إلا إنْ كان مستحضراً للنية أخْذاً مما قاله الفقهاء في نظير ذلك من الوضوء. (¬5) أي ولو بالقوة كأنْ انحلت شرجه، وإنْ لم يظهر من الرجل شيء. هذا وبقي للمسح على الخفين شروط منها: كونه طاهراً، ومنها: كونه قوياً، ومنها: أنْ يمنع نفوذ الماء لو صب عليه. (¬6) أي يندب خروجاً من خلاف مَنْ اعتبر في الوضوء الموالاة.

فصل يجوز التنفل في السفر طويلا كان أو قصيرا على الراحلة

الْقَدَمَيْن أجْزَأهُ عَلَى الأصَح والأَفْضَلُ أنْ يَسْتَأنِفَ الْوُضوءَ (¬1) وإنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الفصل في مَسْح الْخُف لأنهُ ممَا يَحْتَاجُ إليه الْمُسَافِر لتَوْفِير ماءِ الطهَارَةِ وَتَخْفيف أمْرها وَمَسَائلُ الباب كَثِيرَة لكن قد أشَرْتُ إلى مقاصِدها والله أعْلَمُ. فَصْل يجوزُ التنفلُ في السَفَر طَويلاً كان أوْ قَصيراً (¬2) على الرَّاحلة (¬3) ومَاشياً إلى أي جِهة تَوَجَّهَ. وَيَسْتَقْبِلُ الْمَاشي القِبْلَةَ عِنْدَ الإِْحْرام وَالرُكُوع والسُّجُود (¬4) وَلاَ يَشْتَرِطُ اسْتِقبالها في غَيْر هذه الْمَواضِعِ لكن يُشْتَرَطُ أن لاَ يَسْتَقْبل غيرَ جهةِ مَقْصِدِهِ إلا إلى الْقِبْلَة ويُشْتَرَطُ أنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ على الأَرْضِ وَالرَّاكِبُ الْمُتَمَكِّنُ (¬5) مِنْ تَوجيهِ الدابةِ إلى الْقِبْلَة يَلْزَمُهُ الاسْتِقْبال عندَ الإِحْرَام بالصَلاَة لا غير فإنْ لم يَتَمَكَّنْ (¬6) بأنْ كانت دابتُهُ مَقْطُورَةً أو صَعْبةً (¬7) لم يُشْتَرَطْ الاسْتِقْبال في شيءٍ إلاَّ أنْ يَكُونَ في هَوْدج يَتَمَكَنُ فيه من اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَيُشْتَرَطَ ¬

_ (¬1) هو تكرار لقوله، فينبغي أنْ يستأنف الوضوء تأكيداً. (¬2) المتجه ضبط القصر بميل ونحوه، أو يخرج لمحل لو كان به لم تلزمه الجمعة لعدم سماع النداء، وهو محمول على الأول، وشرط السفر أنْ يكون مباحاً، والمقصد معيناً، فلو خرج في معاطف الطريق، أو عدل ولو لغير زحمة، أو توجه لمقصده في غير الطريق يضر إذ الشرط سلوك صوب المقصد لا طريقه. (¬3) بخلاف مَنْ بهودج أو سفينة لا يحتاج إليه في مسيرها فعليه إتمام الأركان مُستَقْبِلاً، أما مسيرها فيصلي لجهة مقصده لصعوبة ذلك عليه. (¬4) أي والجلوس بين السجدتين بخلاف الاعتدال فإنه مُلْحَق بالقيام. (¬5) أي المتيسر له ذلك. (¬6) بأنْ تعسر عليه بحيث إنه تحصل له مشقة وإن قلت. (¬7) أو لا يسهل انحرافه عليها لعجزه.

اسْتِقْبَالُها (¬1) هَذَا حُكْمُ النَّوافِلِ. أمَّا الْفَرَائِض فَلاَ تَجُوزُ إلى غيرِ الْقِبْلَةِ بحال ولا يَجُوزُ أنْ يُصَلِّيهَا مَاشياً وإنْ كَان مُسْتَقْبلاً، ولا تَصِحُّ مِنَ الراكب المُخِل بِالْقِيَامِ أو الرُّكُوع أو السُّجُودِ أو غيرها فإنْ أتَى بهذه الأَرْكَان واسْتَقْبلَ القِبْلَةَ فإن كان في هَوْدَجٍ أو سَرير أو نحوهما على دَابة فصَلَّى وَهِيَ وَاقِفَة غَيْر سائَرة صَحَّتْ صَلاَتُهُ على الْمَذْهبِ الصَّحيح الذي ذَهَبَ إليه كَثير مِنْ أصْحابنَا. ومنهُمْ مَنْ قَال لاَ يَصِحُّ (¬2) وبه قَطَعَ إمامُ الْحَرَمَيْن، فإنْ كانتِ الدَّابة سائرَةً لم تَصح (¬3) الْفَرِيضَةُ على الْمَذْهَبِ الصحيح الذي نَصَّ عليهِ الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ وَالجَمَاهِيرُ رَحِمَهُمُ الله وَقِيلَ: تَصِح الْفَرِيضةُ في السَّفِينَةِ الْجَارِية (¬4) وفي الزوْرَقِ الْمَشْدُودِ على السَّاحل بِلاَ خلاف والأصَحُ أنها تصحُ أيضاً على السَّرِيرِ الذي يَحْملُهُ الرِّجَالُ وفي الأَرْجُوحَة الْمَشْدُودة والزورق الْجَاري للمقيم بمثل بَغْدَادَ ونَحْوها، هذا كُلُّهُ إذا لم يكنْ ضَرُورَة (¬5) قال أصحابُنا: فَإِنْ خَافَ الانْقطاعَ عن رُفقَته (¬6) لَوْ نَزَلَ لَهَا أو خَاف عَلَى نَفْسِهِ أو ماله فَلَهُ أن يُصلِّيَ الْفَرِيضَة على ¬

_ (¬1) وتمام الأركان مستقبلاً كما مَر. (¬2) أي لأنه في قوة الماشي. (¬3) قال في الحاشية: محله كما قاله العلامة المتولي رحمه الله تعالى ما إذا لم يكن لها مَنْ يلزم لجامها بحيث لا تختل الجهة، وإلا جاز، وهو ظاهر، ويؤيده فرقهم بين الصلاة على الدابة السائرة، والسرير الذي يحمله رجال بأنها لا تثبت على حالة فلا تراعى الجهة بخلافهم، فإنْ قلت: سير الدابة منسوب إليه بخلاف سير حَمَلةِ السير قلت: ممنوع بدليل صحة طوافه محمولاً بشرطه الآتي. (¬4) وإنْ حولته الريح عن القبلة بتحول السفينة، لكنْ يجب عليه أن ينحرف فوراً للقبلة، ويبني. (¬5) من الضرورة صلاة شدة الخوف، وعَجْز نحو مصلوب عمن يوجهه. (¬6) أي وإن لم يتضرر به قياساً على التيمم لما فيه من الوحشة، والمراد بالرفقة هنا المنسوبون إليه لا كل الركب لحصول الوحشة بفراقهم فقط.

الرَّاحِلَة (¬1) وَتَجِبُ الإِعادَة (¬2) وَحُكْمُ الْمَنْذُورة والجَنازَة (¬3) حُكْمُ المكتوبةِ. (فرع): إذا صلَّى النَافِلَة على دَابة عَلَيْهَا سرج أو نَحوهُ لم يلْزَمْهُ وضْعُ الجَبْهة على عُرْف الدَّابة ولا على السَّرْج والْقَتَبِ في الرُّكُوع وَالسجُود بل يكْفيه أن يَنْحَني للركوع وَالسُّجُود إلى طَريقه ويكون سُجُودُهُ أَخْفَضَ من ركُوعه ويجبُ التمْييزُ بَيْنَهُما إذا تَمَكَن وَلاَ يَجبُ أن يبلُغَ غَايةَ وُسْعه في الانْحناء، وَيُشْتَرَطُ أن يَكونَ مَا يُلاَقي بَدَنَ الْمُصَلي رَاكباً وثِيابه مِنَ السِّرج وغيره طَاهِراً ولَوْ بالت الدَّابةُ أو وَطَئَتْ نَجَاسَةً أو كان عَلَى السِّرج نَجَاسَةٌ فَسَتَرَهَا وَصَلَّى عليه لم يَضُر (¬4) وكَذَا لَوْ أوْطَأَها الرَّاكب نَجَاسَةَ لم يَضُر على الأصَح ولو وَطىءَ المُصَلي نَجَاسَةً (¬5) عَمْداً بَطَلَتْ صَلاَتُهُ ولا يُكَلَّفُ التَّحَفُّظَ وَالاحْتياط في المَشْي ويُشْتَرَطُ الاحْتراز عن الأَفْعَال التي لا يَحْتَاجُ إليها، فلو رَكَضَ الدَّابةَ للحاجة جازَ ولو أجْرَاها بلا عُذْر أوْ كان ماشياً فَعَدا (¬6) بلا عُذْر بَطَلَتْ على الأصَحِّ. ¬

_ (¬1) أي والماشي الخائف مثل الراكب، فيصليها حينئذ ماشياً كالنافلة. (¬2) هذا هو المذهب، لكن اختار في المجموع من جهة الدليل أن كل صلاة وجب فعلها في الوقت مع خلل لا يجب قضاؤها. (¬3) أي وإن أمكنه إتمام القيام على الدابة. (¬4) أي لأنه لم يلاق النجاسة بخلاف ما لو دمي فمها أو تنجس عضو منها أو ما عليها ولجامها بيده. (¬5) أي ولو يابسة عمداً ولو قلت ولم يجد معدلاً عنها أو كانت معفوّاً عنها، أخذاً مما يأتي في نجاسة المطاف ومثله لو وطئها سهواً، وهي رطبة غير معفو عنها أخذاً من أن ذرق الطير في المساجد لا يضر إذا عَمَّتْ به البلوى كطين الشارع الرطب. (¬6) المراد بالعَدْو: زيادته على عادته في مشيه وإن كان دون العدو.

وَيُشْتَرَطُ في التنفل راكباً وماشياً دَوَامُ السَّفَر والسيْر (¬1) فلو بلَغ المنزلَ (¬2) في خلال الصَّلاة اشْتُرط إتمامُها إلى القبلة مُتَمَكِّناً وينزلُ إن كان راكباً، ولو مرَّ بقَرية مُجْتازَاً (¬3) فَلهُ إتمامُ الصَّلاة راكباً وحيثُ قُلْنَا يجبُ النُّزولُ فأمكَنَهُ الاسْتِقْبَالُ وإتمَامُ الأركان عليها وهي وَاقِفَةٌ جازَ ولو انْحَرَفَ المُصَلِّي ماشياً عن جهة مَقْصده أوْ حَرَف دَابَّتَهُ عَنْهَا (¬4) فإن كَانَ إلَى جهَة القبلة لم يَضُرُّهُ وإنْ كَانَ غَيْرها عَمْداً (¬5) لَمْ تَصح صَلاَتُه وإنْ كَانَ نَاسياً (¬6) أوْ غَالطاً يَظُنُّ أنَّها طَرِيقُهُ، فَإنْ عَادَ إلَى الْجِهَةِ على قُرْب لَمْ تَبطل وإن عَادَ بَعْدَ طُولٍ بَطَلَتْ عَلَى الأصَحّ وَإن انحَرَفَ بجماح الدَّابَّة فَالأَصحُّ أَنه إنْ عَادَ عَلَى قُرْب لَمْ تَبْطُلْ وَإنْ طَالَ بَطَلَتْ. (فرع): إذَا لَمْ يقْدِر عَلَى يقين الْقبلةِ فإِنْ وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ علم (¬7) ¬

_ (¬1) فلو انقطع سيره كان نزل في أثناء صلاته وجب عليه إتمامها للقبلة قبل ركوبه. (¬2) أي الذي يريد النزول فيه وإن لم يكن مقصده. (¬3) أي ماراً وليست القرية وطنه. (¬4) أي أو انحرف عليها ولو بركوبه مقلوباً. (¬5) أي وإنْ كان مكرهاً لندوره. (¬6) في هذه الصورة لا يسجد للسهو وهي مستثناة من قاعدة ما أبطل عمده يسجد لسهوه، وإنْ كانت أكثرية. (¬7) مثله محاريب جادة أي طريق المسلمين وقراهم القديمة إن نشأ أو مَر بها قرون، أي جماعات من المسلمين، وسلمت من الطعن، وإن صغرت وخربت بخلاف خربة أمكن بناء كفار لها، وطريق استوى نشوء أو مرور الفريقين به، ويمتنع على قادر على اليقين كأعمى ومن في ظلمة إذا قدر على مس الكعبة، أو المحراب المعتمد الأخذ بقول مخبر عن علم ما لم يصل لحد التواتر أو يكون نشأ بمكة أو بذلك المسجد، وارتسم في ذهنه من الأمارات ما يحصل به اليقين من غير مس فحينئذ لا يجب عليه المس فيما يظهر بل له اعتماد تلك الأمارات فإنها تفيد ما يفيده المس، فالمحراب لا يصير معتمداً =

اعْتَمَدَه (¬1) وَلَمْ يَجْتَهِدْ بِشَرْطِ عَدَالةِ الْمُخْبِرِ سَوَاء فيه الرَجُلُ والمَرْأة وَالْعَبْدُ وَلاَ يَعْتَمد الْكَافر (¬2) ولا الفَاسِقَ وَلاَ الصبي وإنْ كان مُرَاهقاً، وَسَوَاءْ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الإِخبار مِمَّن هُوَ مِنْ أهْلِ الاجْتِهاد وَغَيْرِهِ (¬3) فَإنْ لم يَجِدْ مَنْ يُخْبرهُ فَإنْ كَانَ يقْدِرُ عَلَى الاجْتِهَادِ لَزمَه وَاسْتَقْبَلَ مَا ظَنهُ قِبْلَةً وَلاَ يَصِحُّ الاجْتِهَاد إلاَ بأدلة الْقبلَةِ (¬4) وَهِيَ كَثِيرَة أقْواها الْقُطْبُ (¬5) وَأضْعَفُهَا الريحُ وَلاَ يَجُوزُ لهَذا الْقَادر التقليد (¬6) فَإنْ فَعَلَ لَزمَهُ الْقَضَاءُ وَإنْ أصَابَ القبلة لأنهُ عَاصٍ ¬

_ = للأعمى حتى يمتنع عليه بالخبر والتقليد بحضرته إلا إن كان رأى المحراب قبل العمى أو أخبره عدد التواتر ولو فساقاً أو كفاراً. (¬1) ويلزمه سؤاله إذْ لا مشقة فيه، ثم لو فرض أن في السؤال مشقة لبعد المكان مثلاً لم يجب على الأوجه. (¬2) أي إلا في تعلم الأدلة منه حتى تحصل له مكانة علمية يستقل بها باستخراج القبلة من غير اعتماد على ما أخبره به الكافر فله حينئذ العمل بعلمه. (¬3) أي لأنه لم يقلد مجتهداً بل صدق مخبراً. (¬4) ويجب تعلمها حيث لم يكن هناك عارف سفراً وحضراً. (¬5) أي الشمالي، ويختلف باختلاف الأقاليم. ففي مصر يجعله المصلي خلف أذنه اليسرى، وفي العراق وما وراء النهر خلف اليمنى وباليمن قبالته مما يلي جانبه الأيسر، وبالشام وراءه ولبعضهم: قطب السماء اجعله خلف أذن يسرى ... بمصر والعراق خلف الأخرى بالشام خلفاً وأماماً باليمن ... مواجهاً به تكن مستقبلن والقطب نجم صغير في بنات نعش الصغرى كما قال أهل اللغة، وقول أهل الهيئة أنه نقطة صغيرة تدور عليها الكواكب، وهي وسطها مخالف لما ذكر في التسمية لا في الحقيقة، والمرجح في التسمية لأهل اللغة. (¬6) إذ المجتهد لا يقلد مجتهداً ولو تغير اجتهاده عمل بالراجح عنده من الأول والثاني، ولو في الصلاة، فإنْ استويا تخير، إلا إذا كان التغير في الصلاة فلا يتخير بل يعمل بالأول لأنه التزم جهة فلا يتحول إلا بالأرجح، وفي المجموع وجوب العمل بالثاني ولو مع التساوي ويجب إعادة الاجتهاد لكل فرض عيني إن نسي الدليل الأول.

مُفرِّطٌ فإنْ ضَاقَ الوقْتُ صلَّى كَيْفَ كَانَ وَتَلْزَمُهُ الإِعَادَةُ، وَلَوْ خَفِيَتْ الدَّلاَئِل على المُجْتَهد لغَيْم أو ظُلْمَةٍ أو لتعارضِ الأدلةِ فَالأصح أنهُ لا يقلد بَلْ يُصَلّي كيف كان ويعيدُ، وأمَا إنْ لَمْ يقْدِرْ على الاجتهادِ لعَجْزِهِ عن تعلم أدلةِ القبْلةِ كالأَعْمَى والْبصيرِ الذي لاَ يَعْرِفُ الأدلَّة فَيَجِبُ تَقْلِيدُ مُكلَّفٍ مُسْلم عَارفٍ بأدلَّة القبْلةِ سَوَاءٌ فيه الرَّجُلُ والمرأةُ والحرُّ وَالعبدُ وَالتَّقليدُ هو قَبُولُ قَوْل المستَند إلى الاجتهَاد ولو اختلفَ عَلِيه اجتهَاد رجُلَين قَلدَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا (¬1) والأولى تقليدُ الأوثقِ الأَعْلَم (¬2) وأمَّا القَادرُ على تَعَلُّم الأَدلَّة فَهُوَ كالعَالِمِ بِها فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التقليد، فإنْ قَلدَ قَضَى لتَقْصِيرِهِ (¬3) ولو صَلَى ثم تَيقّنَ الخَطَأ في القبلة لزمَهُ الإِعادةُ على الأَصَحّ ولو ظنَّ الخطأ لم تلزمه الإِعَادَة حتى لو صلى أرْبَع صلَوات (¬4) إلى أرْبَع جهَات فَلاَ إعادَةَ عليه. ¬

_ (¬1) أي قبل الصلاة، فإن دخل فيها مقلداً فقال له آخر: أخطأ بك الأول، فإنْ كان عنده أعرف من الأول أو قال له: أنت مخطىء قطعاً وإنْ لم يكن أعرف وجب عليه التحول إنْ بان له الصواب مقارناً للقول بأنْ أخبره به وبالخطأ معاً، فإن لم يبين مقارناً بطلت ويجب إعادة التقليد لكل فرض عيني إن نسي، كما تقدم في الاجتهاد. (¬2) قد يفهم منه أنه لو كان أحدهما أوثق والآخر أعلم استويا لأن كلاً منهما فيه معنى ليس في الآخر فهو كإمامة الأعمى والبصير. (¬3) محل حرمة التقليد ووجوب القضاء فيمن وجب عليه تعلم أدلتها عيناً بأن أراد سفراً ليس فيه عارف بها، أما إذا وجب تعلمها على الكفاية كالمقيم في محل فيه محراب معتمد أو عارف، وكالمسافر في نحو ركب الحجيج أو أقل منه وعلم أن فيه عارفين بالأدلة، ثلاثة فأكثر، وكالمسافرين قرى يمكنه معرفة القبلة بمحاريبها فله التقليد، ولا يقضي إذا لا تقصير منه. (¬4) أي أو صلاة واحدة كل ركعة لجهة بشرط أن يبين له الصواب في ظنه مقارناً لظهور الخطأ، وإلا بطلت لمضي بعضها إلى غير قبلة محسوبة.

فصل إذا عدم الماء طلبه فإن لم يجده تيمم

فَصْل إذَا عَدِمَ الماء طَلَبَهُ (¬1) فَإنْ لَمْ يَجِدْهُ تَيممَ وَلو وَجَدَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إليه لعَطَشه (¬2) أو عَطَشِ رَفيقِهِ أو دابته أو حَيَوَانٍ مُحْتَرمِ (¬3) تَيَمَّمَ ولم يَتَوَضأ سَوَاءٌ في ذلك الْعَطَشُ في يَوْمِهِ أو فِيمَا بَعْدَهُ وقبل وُصُوله إلى ماء آخَرَ. قال أصْحَابُنَا: ويَحْرُمُ عليه الْوضُوء في هذا الْحَال لأَن حُرْمَةَ النَّفْس آكَدُ ولا بَدَلَ ¬

_ (¬1) أي وجوباً بنفسه أو بمأذونه الثقة ويكفي واحد من جمع وإنما يعتد به في الوقت ومحل وجوب الطلب إنْ توهم وجود الماء، فإن تيقن فقده فلا طلب لأنه عبث، ثم إن كان بمستوٍ كفى النظر حواليه لجهاته الأربع مع تأمل محل خضرة وطير، وإنْ لم يكن بمستوٍ صعد أو هبط ثم نظر حواليه إلى حد الغوث وهو ما تسمع فيه رفقته استغاثته مع ما هم عليه من الاشتغال والتفاوض، هذا إنْ أمن على محترم من نفس ومال واختصاص ولم يخش انقطاعاً ولم يضق وقت وإلا لم يجب التردد هذا كله إنْ توهم الماء، فإنْ تيقنه بمحل فإنْ كان على نحو نصف فرسخ وأمن ما مر واتسع الوقت وجب طلبه وإلا فلا، لكن لو كان المال الذي يخاف عليه هنا قدراً يجب بذله في تحصيل الماء ثمناً أو أجرة لم يمنع الوجوب، ومثله الاختصاص وإن كثر على الأوجه، وفارق ما مَر بأن الماء ثم متوهم فلا يضيع لأجله محقق بخلافه هنا، أما إذا تيقنه فوق نصف فرسخ فلا يلزمه طلباً مطلقاً ولو تيقنه آخر الوقت، ولو في منزله الذي هو فيه أول الوقت فالصبر أفضل، وإلا فالتعجل، ويجب تجديد الطلب لكل صلاة إن توهم حدوث الماء وإلا فلا. ولو وجد الماء ببئر ولا دلو معه لزمه إدلاء ثوبه غير ساتر العورة ليبتل فيعصر ماءه ليتوضأ به إن لم ينقص ببله أزيد من ثمن مثل الماء، فإن لم يصل إلا بمشقة لزمه إن لم ينقص أكثر من الأزيد من أجرة الآلة وثمن الماء والله أعلم. (¬2) المراد بحاجة العطش الخوف منه أو من نحو مرض أو بطء بُرْء مما يأتي، ولا يجوز تيمم عطشان عاصٍ بسفر، وشربه للماء حتى يتوب وإلا وجب تقديم الطهارة بالماء. (¬3) المراد بالحيوان المحترم: ما حرم قتله، وغيره ما جاز قتله كتارك الصلاة بشروطه المعروفة والزاني المحصن والمرتد والكلب العقور.

للشرْب وللْوضُوء بَدَلٌ، وهذه المسَأَلة مما يَنبَغِي حفظُها وإشَاعَتُهَا فإنَّ كَثيرينَ مِنَ الحُجَّاج وَغَيْرِهم يُخطِئونَ فيها ويَتَوضَّأ أحَدهمْ مع علْمِهِ بِحَاجَةِ الناسِ إلى الشُّرْبِ وهذَا الوُضُوء حَرَامٌ لاَ شَكَ فِيه وَالْغُسْلُ عَنِ الْجَنَابةِ وعن الحَيْضِ وغيرِهما كالْوُضُوء فيما ذَكَرْنَاهُ. ومن خَيلَتْ لهُ نَفْسُهُ أَن الْوُضُوءَ في هذا الْحَالِ فَضِيلَةٌ فَهُوَ شَدِيدُ الخَطَأ وإنَّمَا فَضيلَةُ الْوُضُوء إذا لم يَكُنْ هُناكَ مُحْتَاجٌ للشُّرْبِ وَسَواءٌ كَانَ المُحْتَاجُ للْعَطَشِ رَفِيقَه الْمُخالطَ له أوْ الرَّكْبَ أوْ أحَداً مِنَ القَافِلَة أوْ الرَّكْب، فلَوْ امْتَنَعَ صَاحِبُ الماءِ مِنْ بَذْلِهِ وهُوَ غَيْرُ مُحْتاج إليه للعَطَشِ وهناك مُضْطَر إليهِ للْعَطَشِ كان للمُضْطَرِّ أَخْذُهُ قَهْراً ولهُ أنْ يقاتِلَ عليه فإنْ قَتَلَ أحدهُمَا صَاحِبَهُ كان صَاحِبُ المَاءِ مُهْدرَ الدَم لا قَصَاص فيه وَلاَ ديةَ ولا كَفارةَ وكان الْمُضْطَرُّ مَضْمُوناً بالقِصَاص أوْ الدِّية وَالكَفارة. ولو احتاج صاحِبُ الماء إليهِ لعَطَشِ نَفْسِهِ كان مُقَدَّماً على غَيْره ولو احْتَاجَ إليه الأجْنَبِي للْوضُوء وكانَ المالكُ مُسْتَغْنِياً عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذلُهُ له وَلاَ يَجُوزُ للأجْنَبِيِّ أَخْذُهُ قَهْراً لأنهُ يمكِنُهُ التَّيَممُ. وَاعْلَمْ أنهُ مهْمَا احْتَاجَ إليه لعَطَش نَفْسَه أوْ رَفِيقِه أوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ في ثاني الحال قَبْلَ وُصُولهمْ إلى مَاء آخَرَ فَلَهُ التيمم ويُصَلي وَلاَ يُعيدُ ولو لم يَجد الماءَ وَوجَدَهُ يُبَاعُ بثَمَن المثْل وهُوَ وَاجدٌ للثمَن فاضلاً عَما يَحْتَاجُ إلَيْه (¬1) في سَفَره ذَاهباً ورَاجعاً لَزِمَهُ شرَاؤهُ، وإن كان يُبَاعُ بأكْثَرَ من ثمنِ الْمثْل لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ سَوَاء قَلَّتْ الزيادَة (¬2) أمْ كَثُرَتْ لكنْ يُستحَب شِرَاؤهُ وَثَمَنُ الْمِثْل هُوَ قِيمَتُهُ في ذلكَ في تِلْكَ الْحَالة. ¬

_ (¬1) أي لنفسه أو لمحترم تلزمه مؤنته، ولا يجب استقراض ثمن الماء، وإن كان له مال غائب ولا اتهابه ولا قبول ذلك بخلاف الماء لقلة المنة فيه. (¬2) أي في شراء الماء وآلة الاستقاء لأن في التكليف بالشراء بكثر من المثل مشقة على النفوس لا تحتملها في العادة.

فصل وإذا لم يجد الماء وجب عليه طلبه ممن يعلمه عنده

فَصْلٌ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ المَاءَ وَجَبَ عَلَيْه طَلَبُهُ مِمَّنْ يَعْلَمُهُ (¬1) عِنْدَهُ بهبة أوْ ثَمَن (¬2) فإنْ وُهِبَ لهُ (¬3) لَزمَهُ قَبُوله وإنْ بَعَثَ مِنْ يَطْلُبُهُ له كَفَاه عَن الطلَب بنفْسه (¬4) وَلَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَاءٍ لاَ يكْفيه لزمَهُ استعمالُهُ على الأصَحّ ثُمَّ تَيَمَّمَ للْباقي. فَصْلٌ ولا يَجُوزُ التَيَمُّمُ إِلا بتُرَابٍ (¬5) طَاهر مُطْلَقٍ (¬6) له غُبار يَعْلَقُ بالْعُضْو فَإنْ تَيَمَّمَ بتُرَابٍ مَخْلُوطٍ برَمْل (¬7) جازَ وإنْ تَيَمَّمَ برَمْلٍ مَحْضٍ (¬8) أوْ بِتُرَاب مَخْلوطٍ أوْ نحوه لم يَصحَّ (¬9) ويُسْتَحَب للْمُسَافر أنْ يَسْتَصْحِبَ معه تُرَاباً في خِرقَةٍ ونحوها ليَتَيمَّم به إذَا لَمْ يجِد في أرْضه تُرَاباً. ¬

_ (¬1) أو يتوهمه أو يظنه. (¬2) كأن يقول: مَنْ عنده ماء يبيعه. (¬3) ولو باتهابه. (¬4) أي لحصول الطلب المتوقف عليه التيمم عند فقد الماء. (¬5) دخل في اسم التراب ما يؤكل تداوياً كالأرمني أو سفهاً كالأبيض لا نحو طين مشوي، وصح وأثم بتراب المسجد والأراضي الموقوفة والمملوكة التي علم من مالكها عدم الرضا، وقوله "طاهر": أي لا ما اختلط بنجاسة، أو تنجس بها. (¬6) مطلق أي طهور فلا يكفي مستعمل وهو ما بقي بعضوه أو تناثر منه بعد إمساسه البشرة لا ما بقي بعدما تيمم منه، من خرقه، ولا ما تغير طعمه، أو لونه أو ريحه بنحو خل أو ماء وردٍ جَفا وبقي غباره. (¬7) أي لا يلصق بالعضو. (¬8) أي لا غبار له مطلقاً أو له لكن لم يتحقق وصول التراب المعتبر تحققه إلى العضو فيما بعد. (¬9) كذا مذهب أحمد وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز التيمم بالأرض وأجزائها ولو بحجر لا تراب عليه، ورمل لا غبار فيه، وزاد مالك ويجوز بما اتصل بالأرض كالنبات.

فصل والتيمم مسح الوجه

فَصْل وَالتيمُّمُ مَسْحُ الْوَجْه (¬1) والْيَدَيْن إلى الْمِرْفَقَيْنِ (¬2) بضَرْبَتَيْن (¬3) أوْ أكْثَر، والسُّنَّةُ أنْ لاَ يزيد على ضَرْبَتَيْن، وسَوَاء تَيَمَّمَ عن الجنابة أوْ عن الحَدَث الأصْغَر وصفَتُهُ ما ذَكَرْنَاهُ. فَصْل لاَ يصحُّ التَّيَمُّمُ لفَريضَة (¬4) إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا (¬5) وَكَذَا النَّافِلة الرَّاتبة (¬6) ¬

_ (¬1) أي دون منابت شعره وإن خف ومما يغفل عنه ما يقبل من الأنف على الشفة فليتنبه له، وقوله واليدين أي وثم اليدين. (¬2) به قال أبو حنيفة وعند مالك وأحمد إلى الكوعين واجب وإلى المرفقين مستحب. (¬3) هو مذهب أبي حنيفة ضربة للوجه وضربة لليدين، وقال مالك في أشهر الروايتين وأحمد: تجزىء ضربة واحدة للوجه والكفين بأن يكون بطون الأصابع للوجه، وبطون الراحتين للكفين، والمراد بضربتين النقل ولو بالعضو الممسوح كأن يمعك وجهه في التراب، ومِنْ يد إلى يد، ولو وقف بمهب ريح بقصد حصول الغبار فلما حصل بوجهه ردده لم يكف لعدم النقل، فلو أخذه من جهة وردّه إليه أو من الريح ومسح به أجزأه. ويشترط مقارنة النية لأول الضرب والمسح أي نية استباحة الصلاة ونحوها مما يفتقر إلى طهارة كطواف وسجود تلاوة وحمل مصحف، ويصح أن ينوي النية العامة، كأن يقول: نويت استباحة مفتقر إلى طهر، ولا تكفي نية التيمم ولا نية فرض التيمم لأنه طهارة ضرورة، لا يصلح كونه مقصوداً ولهذا لا يسن تجديده ولا نية رفع الحدث لأنه لا يرفعه. (¬4) أي ولو منذورة معينة بوقت، ولا يصح أخذ التراب أيضاً قبل الوقت وكذا عند مالك وأحمد لا يجوز التيمم قبل دخول الوقت، وقال أبو حنيفة: يجوز. (¬5) أي ولو تبعاً فيتيمم للثانية في جمع التقديم عقب فعل الأولى، ويصليها به، قبل دخول وقتها. (¬6) أي لا النفل المطلق فيتيمم له كل وقت إلا أوقات الكراهة فلا يصح التيمم له فيها.

فصل إذا صلى بالتيمم لعدم الماء الذي يجب استعماله لم تلزمه إعادة الصلاة

على الأَصَح ولاَ يُصَلِّي بِتيَممِ وَاحِدِ أكْثَرَ مِنْ فَريضَة (¬1) واحِدَةٍ وَلَهُ أنْ يُصَلِّي معها مَا شاءَ مِنَ النَّوَافل قَبْلَ الْفَريضَة وَبَعدها في الْوَقْت وخارج الْوقْت (¬2). فَصْل إذا صَلَّى بالتيَمم لِعَدَم الْمَاءِ الَّذِي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادةُ الصَّلاَة سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ قَصيراً أوْ طَوِيلاً (¬3)، وَلَوْ وَجَدَ الْمَاءِ بَعْدَ الصَّلاَة في الْوَقْتِ (¬4) ¬

_ (¬1) كالصلاة في ذلك الطواف. (¬2) هذا بيان لما يستبيحه المتيمم بتيممه، والحاصل أن المراتب ثلاث: المرتبة الأولى: فرض الصلاة ولو منذورة، وفرض الطواف كذلك، وخطبة الجمعة لأنها مُنَزلة مَنْزلة ركعتين فهي كصلاتها عند العلامة الرملي رحمه الله ويحتاط فيها عند العلامة ابن حجر كشيخ الإسلام رحمهما الله فلا يصلي بالتيمم لها فرضاً، ولا يجمع معها فرضاً آخر، ولو مثلها، فلا يخطب ثانياً بعد أن خطب أولاً بتيمم واحد، ولو كان في المرة الأولى زائداً على الأربعين خلافاً لابن قاسم رحمه الله، وله جمع الخطبتين على المنبر الواحد بتيمم واحد لأنهما فرض واحد. المرتبة الثانية: نفل الصلاة، ونفل الطواف، وصلاة الجنازة لأنها وإن كانت فرض كفاية فالأصح أنها كالنفل. المرتبة الثالثة: ما عدا ذلك كسجدة التلاوة والشكر وقراءة القرآن من الجنب ونحوه، ولو منذورة ومس المصحف وتمكين الحليل، فإذا نوى واحداً من المرتبة الأولى استباح واحداً منها، ولو غير ما نواه واستباح معه جميع الثانية والثالثة، وإذا نوى واحداً من الثانية استباح جميعها وجميع الثالثة دون شيء من الأولى، وإذا نوى شيئاً من الثالثة استباحها كلها وامتنعت عليه الأولى والثانية. (¬3) الضابط أنه إذا صلى بمحل من شأنه عدم ندرة فقد الماء فيه سواء أغلب فيه الفقد أم استوى هو والوجود لم يقض، وإلا قضى، فقولهم: المقيم يقضي والمسافر لا يقضي، جرى على الغالب. (¬4) يستثنى منه الميت إذا وجد الماء قبل دفنه، ولو بعد الصلاة عليه فإنه يجب =

فصل إذا لم يجد ماء ولا ترابا صلى على حسب حاله

أَوْ في أثنَاءِ الصلاَة (¬1) صَحَتْ صَلاَتُهُ ولا إعَادةَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ إذا لَمْ يَجِدْ ماءَ ولا تُرَاباَ صَلَّى على حَسَبِ حَالِهِ الْفَرِيضَةِ وَحدها (¬2) ولَزمَه إعَادَةُ الصَّلاَة بالماءِ أو الترَاب (¬3) وإذا خاف من اسْتِعْمال الماءِ (¬4) تَلَفَ النَفْسِ بِمَرَضِ أو جِرَاحَة أو نَحْوهمَا أو تَلَفَ عُضْو أو فَوَاتَ مَنفْعَةِ عُضْو أو زِيَادَةَ المَرَضِ أو كَثْرَةَ الأَلَم أو حُصُول شَيْنٍ فَاحِشٍ عَلَى عُضْو ظَاهرٍ (¬5) تَيمَّمَ وَصَلى ولا إعادَةَ عَلَيْهِ. ¬

_ = غسله وإعادة الصلاة عليه احتياطاً لخاتمة أمره. واحترز بقوله {وَجَدَ} عما لو علم بعد الصلاة بوجود الماء عند الصلاة أو وجود ثمنه في رحله وقد نسيه فإنه تلزمه الإعادة. (¬1) أي التي تسقط بالتيمم وهي التي صليت بمحل يغلب فيه فقد الماء أو يستوي فيه الأمران الفقد والوجود. (¬2) احترز به عن النافلة فلا يفعلها فاقد الطهورين لأن صلاته للضرورة ولا ضرورة في النفل. (¬3) محله إذا وجد التراب بمحل يسقط الفرض فيه بالتيمم إذ لا فائدة في الإعادة به في محل لا يسقط فيه الفرض بالتيمم. نعم إن وجده في الوقت أعاده به ليفعل الصلاة بأحد الطهورين في الوقت، وإن وجبت الإِعادة ثانياً كان كل المحل يغلب فيه الوجود. (¬4) أي بقول طبيب عدل رواية أو بمعرفة نفسه، ولو بالتجربة خصوصاً مع فقد الطبيب فإنْ لم يجد الطبيب، ولا عرف وخاف نحو مرض فللعلماء قولان: الأول: لا يتيمم، والثاني: يتيمم، وهو اللائق بمحاسن الشريعة الغراء، أماتنا الله، وأحيانا عليها آمين. (¬5) العضو الظاهر: ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين. (تتمة): لا يصح التيمم وعلى بدن المتيمم نجاسة حيث كان بمحل يسقط فيه الاعادة ومعه ماء يكفيها أو بعضها وإلا تيمم وأعاد، ولو تيمم عن نحو جنابة ثم أحدث استباح القراءة واللبث في المسجد.

فصل مما تعم به البلوى ويحتاج إلى معرفته سالك طريق الحج حكم من يموت معهم

فَصْل مما تَعُمُّ به الْبَلْوَى وَيَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَتِهِ سَالِكُ طَرِيْقِ الْحَجِّ حُكْمُ مَنْ يَمُوتُ مَعَهُمْ. وهذا باب واسع جداً وقَدْ جَمَعْتُ فيه مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ بحَمْدِ اللهِ مَا يقارِبُ مُجَلَّداً فأشيرُ هُنَا إلى نُبْذة مِنْهُ لا بُدَّ للْحَاج مِنْ مَعْرِفَتها فَإِذَا مَاتَ وَاحِدٌ في الرَّكْبِ أوْ القَافِلَةِ وَجَبَ عَلَى الَّذِين عَلِمُوا مَوْته غُسْلُهُ وَتكْفينُهُ والصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، فَإنْ تَرَكُوا وَاحداَ مِنْ هذهِ الأُمورِ معَ الْقُدرَةِ أثمُوا كُلهُمْ (¬1) وإنْ فَعَلَهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عن الْبَاقينَ. ولا إِثْمَ عَلَى مَنْ لم يَعْلَمْ بِحَالِ، وإذا لم يَجِدُوا الماءَ يَمَّمُوهُ في وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ثم كفنوه ثُمَّ تَيَمَّمُوا وَصلوا عليه، ولاَ يَصحُّ تَيَمُّمُهُمْ حتَّى يُيَمِّموه لأنهُ لاَ يصحُّ التَّيَمم إلا بَعْدَ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَة ولا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلاَةِ على الْمَيِّتِ إلاَّ بَعْدَ غُسْله أو تَيَمُّمه وأقلّ الكفَنِ ثَوْبٌ ساترٌ لِجَمِيعِ البَدَنِ على المَذْهَب الصحِيح وَقِيلَ يَكْفِي سَاتِرُ الْعَوْرَة (¬2) وَأكْمَلُهُ ثَلاَثَةُ أثْوَاب للرّجُل وخَمْسَةٌ للْمَرْأة (¬3). ¬

_ (¬1) بخلاف ما لو خافوا نحو عدو أو ظالم لو اشتغلوا بتجهيزه فلا يأثمون بتركه للضرورة ويختار لهم حينئذ مواراته بالممكن. (¬2) المعتمد أنه من حيث حق الله تعالى يكفي ساتر العورة فلو كفنه الورثة فيه سقط الفرض وإن أثموا من حيث إن للميت حقاً في ستر جميع بدنه وعلى ذلك يحمل اختلاف التصحيح الذي وقع للشيخين الرافعي والنووي وغيرهما رحمهم الله في هذه المسألة، فمنْ عبر بساتر العورة اقتصر على حق الله تعالى وَمَنْ عَبر بساتر البدن ضم إليه حق الميت ومؤنة تجهيز الميت غير الزوجة في تركته إن خلف تركة وإلا فعلى من تلزمه نفقته في حياته، أما الزوجة الواجبة نفقتها فمؤنة تجهيزها على زوجها، وإن خلفت تركة ما لم يكن معسراً. (¬3) محله حيث لا دَيْن مستغرق للتركة على الميت ولم يوص بثوب واحد فإن كان =

فصل ومما يتأكد الوصية به أنه ينبغي أن يحرص على فعل المعروف

وَيجُوزُ التكْفينُ في جَميعِ أنْوَاع الثياب إلا الحرير (¬1) فلا يَجُوزُ تكفِين الرَّجُل فيه ويجُوزُ تكفِين الْمَرأَة فيه لكنْ يُكرَه (¬2). فإن كان الْمَيّتُ رَجُلاً مُحرِماً لمْ يُكَفّنْ في المخيطِ ولاَ يُغَطَى رَأْسُه ولا يقَرَّبُ الطِّيب وإنْ كَانَتْ امْرَأَة لم يغَطَّ وجْهُها بشَيء وَيَجُوزُ كَفْنها في المخيط وَيَجبُ سَتْرُ رأْسها وجميعِ بدنها سِوَى الْوَجْهِ، وَأَما الصَّلاَة عليه فيَسْقُطُ فَرْضُهَا بصلاَة واحد عَلَى المَذْهَبِ المختارِ وَهُوَ الأَظهرُ من نصُوص الشافعيِّ رَضِيَ الله عَنه وقيلَ يُشْتَرَطُ اثْنان وَقِيلَ ثَلاَثَةٌ وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ وَيجُوزُ جَمَاعة وَفُرَادَى ولا يَسْقُطُ فَرْضها بفعل النساء ولا الصِّبيان (¬3) معَ وُجُودِ الرجالِ على المَذْهب المُخْتار وأَمَّا الدَفْنُ فَأقَلهُ حُفْرَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ السِّبَاع ومن ظُهُور رَائحَتِهِ فإن تعذَّرَ بَعْضُ هذهِ الأمورِ فعَلُوا الْمُمْكن منها والله أعلم. فَصْل وممَّا يَتأكدُ الوَصيةُ به أنَّهُ يَنْبَغي أَن يحْرصَ على فعل الْمَعْرُوف في طَريقه فيَسْقِي الْمَاءَ عِنْدَ الْحَاجة إليه إذَا أَمْكَنَهُ ويَحْمِلُ المُنْقَطع إذَا تَيَسَّرَ له لأَن ¬

_ = دَيْن مستغرق، وامتنع الغرماء من الزيادة على ثوب أو أوصى بثوب لم يزد عليه فإنْ انتفى ذلك لم يكن للورثة المنع من الثلاثة بخلاف ما زاد عليها ولو خمسة في حق المرأة لأنها ليست متأكدة في حقها تأكيد الثلاثة في حق الرجل. (¬1) أي والمزعفر والمعصفر. (¬2) كذا عند أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يكره للمرأة الحرير والمعصفر والمزعفر، ومثل المرأة الصبي لجواز لبسه للحرير حياً. (¬3) المعتمد الذي صححه المصنف رحمه الله تعالى في غير هذا الكتاب سقوط الفرض بفعل المميز ولو بحضرة الرجال لأنه من جنسهم مع كون المقصود من الصلاة على الميت الدعاء وهو أقرب إلى الإجابة وبهذا فارق عدم سقوط الفرض بالمميز في رد =

فصل مختصر جدا فيما يتعلق بوجوب الحج

أَفضَلَ الصَّدَقَةَ ما وَافَق ضَرُورة أَو حَاجَة وَيَتَرَجَّحُ فعْلُ الصَّدَقَةِ وَالمَعْرُوف في طَرِيق مَكّة بأرْبَعَة أُمُور: أَحَدُها: أَنَّ الْحَاجَةَ أَمسُّ. الثَّاني: أنهُ لا بَدَلَ يَلْجأ إليه. والثَّالث: مُجَاهَدَةُ النَّفس لشُحها (¬1) بالشَّيء مخافةَ الحاجَةِ. الرَّابع: أنَّهُ إِعانَة لقَاصِدي بَيْت الله تعالى. فَصْل مُخْتَصَرٌ جدَّاً فيما يَتَعَلَّقُ بوجُوب الْحَجُّ لا يجب الْحَجُّ (¬2) ¬

_ = السلام، فإن المقصود منه الأمان لكل من المسلم والمجيب، وأن كلاً منهما سالم من الآخر، وأمان الصبي لا يصح، ولا يسقط الفرض بصلاة النساء مع وجود ذكر ولو صبياً لأنه أكمل منهن، فإن لم يصل أمرنه بها، فإن امتنع بعد ذلك توجه الفرض إليهن. (¬1) الشح: البخل. (¬2) أي: والعمرة، وقد يشملها اسم الحج وهما واجبان لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"، رواه الإمام أحمد وابن ماجه رحمهما الله بإسناد صحيح، وإذا ثبت ذلك في النساء، فالرجال أولى، وأما خبر الترمذي رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله تعالى عنه: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة أواجبة هي؟ قال: "لا .. وإن تعتمر خير" فقد اتفق الحفاظ على ضعفه، ولا تجب العمرة إلا مرة كالحج، ووجوب الحج والعمرة عند الإمام الشافعي رحمه الله على التراخي لأنه عليه الصلاة والسلام فرض عليه الحج في السنة السادسة على المختار كما سيأتي، ولم يحج إلا في السنة العاشرة الهجرية، وعند الإِمامين مالك وأحمد رحمهما الله تعالى: الحج على الفور وليس للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى نص في المسألة، وقد اختلف صاحباه رحمهما الله تعالى فقال محمد: (على التراخي). وقال أبو يوسف: (على الفور). ودليل من قال بوجوب الحج على الفور إطلاق الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس =

في العُمْر إلاَّ مرة واحدة (¬1) ¬

_ = قد فرض عليكم الحج فحجوا" الحديث ... رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وإطلاقه يقتضي الفورية عند الأصوليين، ويؤيده خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) رواه أحمد. فإن قيل: لو كان واجباً على الفور لم يؤخره - صلى الله عليه وسلم -. أجيب: باحتمال أنّ الله تعالى أطلع نبيه على أنه لا يموت حتى يحج، فيكون على يقين من الإدراك، قاله أبو زيد الحنفي، أو لاحتمال عدم الاستطاعة، أو حاجة خوف في حقه منعه من الخروج، ومنع أكثر أصحابه خوفاً عليه. وأجاب بعضهم بأن الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة وأن آية فرضه هي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وهي نزلت عام الوفود آخر سنة تسع، وهذا هو اللائق بهديه وحاله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف الأئمة رحمهم الله تعالى في وجوب العمرة، فقالت الحنفية والمالكية ورواية عن الحنابلة بعدم وجوبها وعلى هذه الرواية يجب إتمامها إذا شرع فيها، والمذهب وجوبها كالشافعية مطلقاً على المكي وغيره كما تقدم من الآية والحديث لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد". وفي رواية للإمام أحمد: على أن العمرة لا تجب على المكي بخلاف غيره. قال الإِمام أحمد: كان ابن عباس رضي الله عنهما يرى العمرة واجبة ويقول: (يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت) وهو من رواية إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. اهـ (مفيد الأنام ونور الظلام) للشيخ عبد الله بن جاسر رحمه الله تعالى. (¬1) أي لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد فرض الحج إلا مرة واحدة، وهي حجة الوداع ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حج حجة فقد أدى فرضه، ومن حج ثانية فقد داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره وبشره على النار". فلو ارتد شخص والعياذ بالله بعد الإِتيان بالحج والعمرة ثم أسلم لم يجبا عليه ثانياً، لأن الردة لا تحبط عمل مَنْ مات مسلماً وإن أحبطت ثواب عمله لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فهذه الآية مقيدة لآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وقد يستغني عن هذا القيد بعجز آية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} =

إِلا أن ينذِره (¬1) والناس أرْبَعَة (¬2) أقْسَامٍ: قِسْمٌ يَصحُ لَهُ الْحَج (¬3)، وقِسْمٌ يَصح منه بالمُبَاشَرَة (¬4)، وقِسْم يقَع له عَن حَجَّةِ الإِسْلاَمِ، وَقَسْم يجِبُ عليه. فَأَمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ وَهُوَ الصحة الْمُطَلَقَة (¬5) فَشَرطُهَا الإِسْلاَم (¬6) فَقَطْ فَلا يَصحُ حَجُّ كافر ولاَ يُشْتَرَط التكليفُ (¬7) بَلْ يَصِحُّ إِحْرَامُ الوَلي عَنْ الصبي الَّذي لا يُميز (¬8) وَعَنْ الْمَجْنُون (¬9) وأما صحة المُبَاشَرَة فَشَرْطُها الإسْلاَمُ ¬

_ = وهو قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} إذ لا يكون الخسران مع الموت على الإسلام. أسأله تعالى لي وللمسلمين الموت على الإسلام آمين. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله بوجوب الإعادة. (¬1) أي الحج أو ينذر العمرة أو ينذرهما أو يفسد تطوع أحدهما أو تطوعهما فإنه يجب عليه الاستمرار فيه وقضاؤه وسيأتي آخر الكتاب كلام في الفرض إن شاء الله تعالى. (¬2) بقي قسم خاص وهو من يصح منه النسك ويجب عليه ولا يجزيه عن حجة الإسلام وعمرته أو عنهما وشرطه الإسلام والبلوغ والعقل والوقت ومعرفة الكيفية بأن يأتي بأعمال النسك عالماً بأنه يفعلها عنه، وإن لم يكن حراً فيصح نذر الرقيق المكلف بالنسك ويقع عن نذره. (¬3) أي والعمرة كما تقدم لاتحاد شرطهما. (¬4) بالمباشرة لأعمال النسك. (¬5) أي عن مباشرة ووقوع عن نذر أو عن نسك الإِسلام ووجوبه. (¬6) أي والوقت. (¬7) وهو ضعيف. (¬8) أي والمميز أيضاً كما يأتي. (¬9) أي وعن المغمى عليه إنْ لم يرج زوال إغمائه قبل فوات الوقوف، فلا يصح الإحرام عنه وصفة إحرام الولي عمن ذكر أن ينوي جعله محرماً بأن يقول: جعلته محرماً أو يقول: أحرمت عنه ثم يلبي ندباً وحيث صار المولى محرماً أحضره وليه سائر المواقف وجوباً في الواجب وندباً في المندوب، ويفعل عنه ما لا يمكن منه كالرمي بعد رمي نفسه ويصلي عنه سنتي الطواف والإِحرام ويشترط في الصلاة طهرهما عن الحدث والخبث ولا يطوف ولا يسعى الولي به إلا بعد سعيه عن نفسه كما تقدم في الرمي هذا كله في غير المميز، أما المميز فيطوف ويصلي ركعتي الطواف ويسعى ويرمي الأحجار بنفسه، ثم إن =

والتمييز (¬1) فَلاَ تَصحُّ مُبَاشَرَة (¬2) الْمَجْنُون والصبِي الذي لا يُمَيز وتَصح (¬3) مِنَ المُمَيِّزِ (¬4) وَالْعَبْدِ (¬5) وأما وُقُوعُهُ (¬6) عن حَجةِ الإِسْلاَمِ فَشُرُوطُه أرْبَعَةٌ (¬7): الإِسْلاَمُ والْعَقْلُ والْحُرَيّه وَالْبُلُوغُ (¬8) فلو تكَلَّفَ الفَقيرُ الحَجَّ وَقَعَ عن حَجة الإِسلاَم (¬9) وأما وُجُوبُ حَجَّة الإسْلاَم فلها خَمْسَةُ شُرُوط: الإِسْلاَم (¬10) والبُلُوغُ والْعَقْلُ والْحُرِّيةُ والاسْتِطَاعَةُ (¬11). (فرع): الاسْتِطَاعَةُ نَوْعان: اسْتِطَاعَة مُباشَرَةٍ بنفْسه واسْتِطَاعَةُ تحصِيلِهِ ¬

_ = الولي يغرم واجباً بإحرام كدم تمتع وقران وفوات وكفدية شيء عن المحظورات إنْ ارتكبها المميز، أما غير المميز فلا فدية في ارتكابه محظوراً على أحد. (¬1) أي والوقت ومعرفة الكيفية بأن يأتي بالأعمال عالماً أنه يفعلها عن النسك كما تقدم فللمميز ولو صغيراً أو رقيقاً أن يحرم بإذن وليه ويباشر الأعمال بنفسه. (¬2) مباشرة أي إحرام. (¬3) أي المباشرة والمراد بها هنا الإِحرام كما تقدم. (¬4) أي بإذن الولي. (¬5) أي وإنْ لم يأذن له سيده. (¬6) أي النسك عن حجة الإِسلام أو عمرته أو عنهما. (¬7) أي ولو في نائب عن ميت ومعضوب وسيأتي كما لو كمل الناقص قبل الوقوف. (¬8) والوقت ومعرفة الكيفية وإن لم يكن مستطيعاً. (¬9) أي وإن حرم السفر على الفقير للنسك إذا حصل له ضرر منه لكمال حاله لا من صغير ورقيق وإن كَمُلا بعده لخبر: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى" فإن كملا قبل الوقوف أو في أثنائه أجزأهما وأعادا السعي إن كانا سعيا بعد طواف القدوم. (¬10) أما المرتد فيخاطب بالحج والعمرة في ردته حتى لو استطاع ثم أسلم لزماه، وإن افتقر فإن أخره حتى مات فُعلا عنه من تركته، هذا إذا أسلم، فإن لم يسلم ومات على ردته لا يقضيان عنه. (¬11) لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].

بغَيره، فَالأُوْلَى تتعَلَقُ بخَمْسَة أُمُور: الرَّاحِلَةُ إن كان بَيْنَهُ وبينَ مكَّة مرْحَلَتَان فَصاعداً والزادُ وأَمْن الطريق وصحةُ الْبَدن وإمْكَانُ السيْر (¬1). وَتُشْتَرَطُ الرَّاحِلَةُ (¬2) وإنْ كان قَادراً على المشي لكن الأَفْضَلُ لِلْقَادر أن يحُج ماشياً وتُشْتَرطُ راحلةٌ لاَ يَجِدُ مَعَها مَشَقَّة (¬3) شديدة فإنْ احتَاجَ إلى محْمِل (¬4) أوْ كنِيسة (¬5) عَلَى البَعير اشْتُرِطَ القُدْرَة عليه. وسَوَاء قَدَرَ على الراحِلَةِ بثَمَن أوْ أجْرةِ الْمِثْل (¬6) فاضلاً عما يَحْتاج إليه ويُشْتَرَطُ في الزاد ما يكفيه لِذهابه ورُجُوعه (¬7) فَاضلاً عما يحْتَاجُ إليه لنَفَقَة (¬8) ¬

_ (¬1) أي بقاء زمن يمكن فيه الحج. (¬2) المراد بالراحلة هنا ما اعتيد الركوب عليها لغالب أمثاله، وفي قول: كل ما يصلح للركوب عليه بالنسبة لطريقه الذي يسلكه، وإن لم يلِقْ به ركوبه. (¬3) المشقة الشديدة هنا وفي المعضوب وغيره ما يخشى منها محذور تيمم أو لا يطاق الصبر عليها عادة. (¬4) محمل: بفتح الميم الأولى وكسر الثانية وقيل بالعكس، وهو الخشب الذي يركب عليه مع عديل يركب معه في الجانب الآخر فوق ظهر الراحلة وهو المسمى بالشقدف. (¬5) الكنيسة: أعواد مرتفعة من جوانب المحمل يوضع عليها ستر يدمع الحر والبرد. (¬6) أي فلا أثر لوجود الراحلة بإعارة ونحوها. (¬7) أي وإن لم يكن له ببلده أهل وعشيرة لوحشة الغربة ولنزع النفوس إلى الأوطان وتشترط أيضاً قدرته على أوعية الزاد. (¬8) المراد بالنفقة المؤنة ليشمل أجرة الطبيب، وشراء الأدوية وإعفاف الأب إنْ احتاج إلى ذلك.

مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتهُمْ (¬1) وَكِسْوتُهُمْ مُدةَ ذِهَابه ورُجُوعه (¬2) وفَاضلاً عَنْ مَسْكَن (¬3) وَخَادَم (¬4) يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا (¬5). وعَنْ قَضاء دَين يكُونُ عليه حَالاً كان أوْ مُؤَجلاً (¬6) وأمَا الطريق فَيُشترطُ أمْنُهُ (¬7) في ثَلاَثة أشْياء: في النَّفس (¬8) والمال (¬9) والبُضْعِ (¬10). فَلاَ يَجِبُ (¬11) عَلَى المَرْأةِ حتَّى تَأْمَن على نَفْسها بِزَوْجٍ أوْ ¬

_ (¬1) كزوجته وفرعه وأصله. (¬2) أي ومدة إقامته بمكة. (¬3) أي لائق به ما لم يستغن عنه بسكنى الربُط ونحوها وإلا بيع مسكنه وصرف ثمنه في أداء النسك. (¬4) أي لائق به. (¬5) أي لزمانته أو منصبه. (¬6) أي ولو لله تعالى كالنذر والكفارة. (¬7) أي أمناً لائقاً بالسفر، وهو دون أمن الحضر، ولو كان أمنه ظناً أي فلا يشترط الأمن التام كما يكون في بيته، وخرج بالأمن الخوف من نحو سبع أو غيره فلا يجب النسك حينئذ لعدم الاستطاعة. (¬8) في النفس أي المحترمة له أو لغيره من أهله وأولاده الذين معه والعضو كالنفس ومنفعته كذلك. (¬9) أي المال الذي معه المحتاج إليه لنفقته ونحوها لا مال تجارة فلا يشترط الأمن عليه حيث كان يأمن عليه لو أبقاه في بلده وإلا فلا بد من الأمن عليه، ومثل ماله الوديعة. (¬10) أي بضعه أو بضع غيره كحريمه. (¬11) أي النسك على المرأة شابة أو عجوزاً ومثل المرأة الخنثى، ويلحق بهما الأمرد الجميل فيجب في حقه استصحاب محرم أو سيد ولا يكتفي فيه بمثله وإن تعدد لحرمة نظر كل للآخر والخلوة به.

مَحرم (¬1) أوْ ثِقاتٍ (¬2). وَأمَّا رُكُوبُ البَحْر فَإنْ كان الْغَالِبُ مِنْهُ السَلاَمَة وَجَبَ (¬3) وإلاَّ فَلاَ (¬4). ويشترطُ وجودُ الماء (¬5) والزادِ في المواضعِ التي جرت العادةُ (¬6) بِحَملِه منها ووجودُ العَلَفِ عَلى حَسَبِ العادةِ (¬7) وَأمَّا البَدَنُ فَيُشْتَرط فيه قوة يَسْتَمسكُ ¬

_ (¬1) أي بنسب أو رضاع أو مصاهرة. (¬2) أي بأن بلغن وجمعن صفات العدالة وفي قول: يكتفي بالمراهقات اللاتي جمعن صفات العدالة، واشترط في نسك المرأة ما ذكر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في خبر الصحيحين: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو محرم". وفي رواية: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم". وفي رواية: "مسافة بريد إلا ومعها محرم" فالمراد كل ما يسمى سفراً طويلاً أو قصيراً لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم". (¬3) أي إن تعين البحر طريقاً كأن حدث بطريق البر نحو خوف أو عطش فلا ينتظر زوال مانعه. (¬4) أي ويحرم ركوب البحر سواء أغلب الهلاك أم استوى الأمران والعبرة بوقت الركوب ولا فرق حينئذ بين سفر الحج وغيره، ولو وجب فوراً كالهجرة. (¬5) أي بثمن المثل وهو القدر اللائق في ذلك الزمان والمكان فلا يلزمه الزيادة على ذلك وإن قلت وحكم الزاد حكم الماء. (¬6) أي عادة أهل طريقه التي يتوجه منها لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي بحسب بعد المياه وقربها. (¬7) هو المعتمد أي فلا يشترط وجوده في كل مرحلة، ومثله الآن وجود البنزين على حسب العادة، فالحاصل أنه يشترط أنْ يكون في الحجيج من يحمل الثلاثة الزاد والماء والعلف أو ما هو الآن بدله من البنزين، وأدوات السيارات ونحوها في المفازات التي يعتاد حملها فيها، وأنْ توجد الثلاثة في المواضع التي يعتاد حملها منها.

بها على الرَّاحِلَةِ بغَيْرِ مَشَقة شَدِيدة (¬1) والمَحْجُورُ عليه كَغَيْرِهِ (¬2) وكَذَا الأَعْمَى الذي يَجدُ قائِداً (¬3)، وأمَّا إمْكَان السَّيرِ فأَنْ يجد هذه الأُمُور (¬4) وتَبقَّى زَمَن يمكنهُ الذِّهاب فيه إلَى الحَجَ على السَّيْرِ المُعتَاد. ¬

_ (¬1) المشقة الشديدة هي كما تقدم: ما يخشى منها محذور تيمم أو لا يطاق الصبر عليها. (¬2) أي في الوجوب لكن يشترط قدرة المحجور عليه بسفه على أجرة مثلٍ حافظٍ نفقته إن طلبها من الولي لأنه يحرم عليه إعطاؤها له من ماله بخلافها من مال الولي وإنما جاز للولي في الحضر دفع النفقة إلى المحجور عليه بسفه أسبوعاً فأسبوعاً إذا لم يتلفها لأنه فيه مراتب له بخلافها في السفر وإنْ قصر، وأفهم قول المصنف رحمه الله تعالى أن ولي المحجور عليه بسفه ليس له تحليله في نسك الإسلاك وكذا تطوع أحرم به قبل الحجر أو منذور قبله، وإن أحرم به بعده أو أحرم بهما بعده وكفته نفقته الحضر أو أتمها من كسبه في طريقه وإلا فله تحليله كما له منعه ابتداء، وإنما صح إحرامه بغير إذن وليه بخلاف المميز لأنه مكلف. (¬3) أي وقدر على أجرة مثله إن طلبها ومثله مقطوع اليدين والرجلين إذا وجد معيناً. (¬4) أي التي ذكرت في استطاعة المباشرة بالنفس، ويقال لها: استطاعة البدن والمال، والأمور هي أحد عشر أمراً يؤخذ غالبها من كلام المصنف رحمه الله: وجود مؤن السفر، وجود الراحلة مع وجود شق محمل لمن لا يقدر على الراحلة، وجود الماء والزاد في المواضع التي يعتاد حملهما منها بثمن مثله، خروج زوج أو محرم مع المرأة، ثبوته على الراحلة بلا مشقة، وجود ما مَر من الزاد وغيره وقت خروج الناس من بلده، وجود رفقة حيث لم يأمن وجود ما مر بمالٍ حاصل عنده أو بدين حال على مليء، وجود الأعمى قائداً يقوده ويهديه عند ركوبه ونزوله ولو بأجرة مثل قدر عليها، بقاء زمن يمكنه الوصول فيه إلى عَرَفة بالسير المعتاد بعد وجود ما ذكر، وهذا الشرط لأصل الوجوب كما يقتضيه صنيع المصنف رحمه الله فلو لم يمكنه سقط الوجوب.

وأمّا اسْتِطَاعَةُ التحْصيلِ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ الْحَج بِنَفْسِهِ بِمَوْت (¬1) أوْ كِبَير أوْ زَمانة (¬2) أوْ مَرَض لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ (¬3) أوْ هَرَم بِحَيْثُ لا يَسْتَطِيعُ الثبُوتَ على الرَّاحِلَة إِلا بِمَشَقة شديدَة (¬4) وهَذَا العَاجِزُ الْحَي يُسَمَّى مَعْضُوباً (¬5) بالْعَيْن المُهْمَلَةِ والضادِ المُعْجمَةِ ثم تَجِبُ الاسْتِنَابةُ (¬6) عن المَيّت (¬7) إذَا كَانَ قَدْ اسْتَطَاعَ في حَيَاتِهِ وَلَمْ يَحِج هَذا إذَا كَانَ لَهُ تَركةٌ وإلا فَلاَ يَجِبُ على الْوَارِثِ، وَيَجُوزُ (¬8) لِلْوَارِثِ والأَجْنَبِي (¬9) الحَجُّ عنهُ سَواءٌ أوْصَى به أم لا وأمَّا ¬

_ (¬1) خرج بالموت نحو الجنون والمرض المرجو زواله، فلا تجوز الإنابة بسببهما ومقطوع الأطراف لأنه يمكنه الثبوت على الراحلة فلا تجوز له الإنابة. (¬2) الزمانة: هي الابتلاء والعاهة وضعف الحركة من تتابع المرض وهي العضب. (¬3) أي بقول عَدْلَيْ طب أو معرفة نفسه إن كان عارفاً، وبه قالت الحنابلة وقالت الحنفية: من يرجى برؤه ينيب، فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك والله أعلم. (¬4) المشقة الشديدة هي كما تقدم ما يخشى منها محذور تيمم أو لا يطاق الصبر عليها. (¬5) أي من العضب وهو الضعف أو القطع لانقطاع حركته هذا هو الأشهر ويجوز بالصاد المهملة كأنه قطع عصبه أو ضرب. (¬6) أي فوراً وذلك لخبر الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دَيْن كنت قاضيته عنها". قالت: نعم، قال: "اقضوا حق الله فالله أحق بالوفاء". شبه الحج بالدين وأمر بقضائه فدل على وجوبه. (¬7) أي غير المرتد، أما هو فلا تصح الإِنابة عنه، وهو معلوم من تعبيره بقوله: له تركة، إذ المرتد والعياذ بالله لا تركة له، بل ماله فيء للمسلمين بخلاف ما لو ارتد المستطيع فأسلم ومات مسلماً قضي من تركته. (¬8) أي بل يسن فعل النسك عن الميت للوارث وغيره، وللأجنبي أيضاً لكن القريب آكد لا سيما الوارث. (¬9) أي ولو بغير إذن القريب ويفرق بينه وبين توقف الصوم عنه على إذن القريب =

المَعْضُوبُ (¬1) فَلاَ يَصح الحَج عنهُ بِغَيْر إذْنه (¬2) وَتَلْزَمُهُ الاسْتنَابة (¬3) إنْ وجدَ مالاً يسْتأجرُ به من يحُج عنْهُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَته (¬4) يَوْم الاستئجَار (¬5) خَاصَّة سَوَاءٌ ¬

_ = بأن هذا أشبه بالديْن فأعطي حكمه بخلاف الصوم فإنه بدني والأصل امتناعه عن الغير كالصلاة لكن صحت السنة به في القريب فتوقف فعل غيره على إذنه على أن له بدلاً وهو الإطعام. (¬1) أي الذي بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، فلو كان بينه وبين مكة دون مرحلتين لزمه النسك بنفسه لأنه لا يتعذر عليه الركوب فيما مرّ من محمل فمِحَفة فسرير، والآن سخر الله السيارات ونحوها فلله الحمد والمنة على نعمه جعلنا الله من الشاكرين آمين، ولا نظر للمشقة عليه لاحتمالها في حد القرب، وإن كانت تبيح التيمم فإنْ عجز عن ذلك حج عنه بعد موته من تركته. (¬2) أي لأن النسك يحتاج للنية والمعضوب أهل لها وللأذن لأنه لو تكلف النسك وفعله صح عنه. (¬3) أي فوراً عند السادة الحنفية والسادة الحنابلة وعند السادة الشافعية رحم الله تعالى الجميع إن عضب بعد الوجوب والتمكن وعلى التراخي إن عضب قبل الوجوب أو معه أو بعده ولم يمكنه الأداء وذلك لأنه مستطيع بالمال وهي كالاستطاعة بالنفس ولخبر الصحيحين: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله أن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفاحج عنه؟ قال: "نعم". وعند السادة المالكية رحمهم الله تعالى: العاجز لا حج عليه إلا أنْ يستطيع بنفسه لقوله تعالى: {مَنِ استطاع إليه سبيلا} وهذا غير مستطيع، ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة، فلا تدخلها مع العجز كالصلاة والصوم. قال المصنف في شرح مسلم رحمهما الله تعالى: مذهبنا ومذهب الجمهور جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب وهو الزمانة والهرم ونحوهما، وقال مالك والليث والحسن بن صالح رحمهم الله تعالى: لا يحج أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وحكي عن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن الميت ولا غيره وهي رواية عن مالك وإن أوصى به. اهـ. (¬4) منها حاجة عياله. (¬5) أي وليلته وقوله: (خاصة) احترز به عن نفقة نفسه، ونفقة عياله بعد يوم الاستئجار وليلته. =

وَجَدَ أجْرَة راكب أوْ ماش بشَرْط أَنْ يَرْضَى بأجرَة الْمثْل (¬1) فإنْ لم يجد المال ووجد من يتبرع بالْحَجِّ عنْه من أَوْلاَده وَأَوْلاد أَولاَده الذُّكور وَالإناث لزمَهُ اسْتنابَتُهُ بشَرْط أَنْ يكُونَ الْوَلد (¬2) حَج عنْ نفْسه وَيُوثَقُ به (¬3) وهو غَيْر مَعْضُوب (¬4) ولَوْ بَذَلَ الأخُ أوْ الأَجْنَبِي الطّاعَة فهُمَا كالْوَلَد (¬5) على الأَصَحِّ، ولَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ أوْ غَيْرُهُ المالَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ على الأَصَح (¬6) وتَجوزُ الاستْنابة في ¬

_ = (الخلاصة): يشترط في المال الذي يستأجر به المعضوب مَنْ يحج عنه أن يكون فاضلاً عن جميع ما يحتاجه من نفقة وكسوة وخادم لنفسه أو لعياله بالنسبة ليوم الاستئجار وليلته ويشترط أن يكون فاضلاً عن جميع ما يحتاجه أيضاً بالنسبة لما بعد يوم الاستئجار ما عدا النفقة سواء كانت لنفسه أو لعياله فلا يشترط أن يكون المال فاضلاً عنها بعد يوم الاستئجار وذلك لأن لو لم يفارق البلد أمكنه تحصيله ولو بالقرض. (¬1) أو دونها لا بأكثر وإن قل. (¬2) المراد بالولد هنا الفرع وإن سَفَلَ ومثله فيما ذكر الأصل وإن علا، وكذا الأجنبي كما يأتي. (¬3) أي بأن يكون عدلاً، وإلا لم تصح الاستنابة ولو مع المشاهدة لأن نيته لا يطلع عليها وبه يعلم أن هذا شرط في كل من يحج عن غيره بإجارة أو جعالة. (¬4) فلا يجب الإذن له وإنْ صح حجه عنه لو تكلفه ويشترط أيضاً ألا يكون الفرع أو الأصل ماشياً ولا مُعَولاً على السؤال أو الكسب إلا أن يكتسب في يوم كفاية أيام وكان السفر قصيراً. (¬5) إلا في عدم المشي في السفر الطويل فإنه شرط في القريب دون الأجنبي لأن المعضوب يشق عليه مشى قريبه. (¬6) أي لعظم المنة في المال. ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمال الغير ولا يستنكف عن الاستعانة ببدنه في الأشغال ولو تبرع أصله أو فرعه باستئجار من يحج عنه أو قال له أحدهما: استأجر وأنا أدفع عنك المال يلزمه الإذن أو الاستئجار لأن المنة منهما أخف من غيرهما.

حَجِّ التَّطَوُّعِ لِلْمَيِّت (¬1) وَالمَعْضُوب (¬2) على الأَصَحّ، ولو اسْتناب المعْضُوب من يَحجُّ عنه وحَج عنهُ ثُمَّ زَالَ الْعَضْبُ وشُفِي لم يُجْزِه (¬3) على الأَصحِّ بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ. ¬

_ (¬1) أي إن أوصى الميت بنسك التطوع وإلا امتنع فعله عنه مطلقاً، ولو من الوارث على المعتمد خلافاً للحنفية المجبرين لنسك التطوع عن الميت بغير وصية والمانعين له في الفرض إلا بوصية عكس ما عليه الشافعية. (¬2) إذا أدى شخص حجة الإسلام عن نفسه وهو قادر على الحج بنفسه فهل له أن يستنيب في حج التطوع. فيه روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله إحداهما: الجواز، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب. والثانية: لا يجوز كالشافعي رحمه الله لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض، والإمام مالك لا يقول بالاستنابة إلا عن الميت كما تقدم والله أعلم. (¬3) أي ولا ثواب له لوقوع الحج نفلاً للأجير والثواب له، فلا أجرة له، ولو حضر المعضوب مكة أو عرفة في سنة حج الأجير لم يقع حج الأجير عنه لتعين مباشرته بنفسه ويلزمه للأجير الأجرة، وفرق بين المسئلتين بأن المعضوب لا تقصير منه في حق الأجير بالشفاء بخلاف الحضور فإنه بعد أنْ ورطَ الأجير مقصر به فلزمته أجرته، وبعدم الإِجزاء. قال أصحاب أبي حنيفة: لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبينا أنه لم يكن ميئوساً منه، فلزمه الأصل، وعند الحنابلة أجزأه لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته، والمعتبر لجواز استنابة النائب اليأس ظاهراً، وسواء عوفي قبل فراغ نائبه من النسك أو بعده، ولا يجزىء إنْ عوفي قبل إحرام نائبه لقدرته على المبدل قبل الشروع في البدل. حكم ما إذا مات الحاج عن نفسه في أثناء حجه هل تجوز النيابة على حجه؟ قال المصنف رحمه الله في مجموعه: فيه قولان مشهوران (الأصح) الجديد: لا يجوز كالصلاة والصوم (والقديم) يجوز لدخول النيابة، فعلى الجديد يبطل المأتى به، إلا في الثواب ويجب الإِحجاج عنه من تركته، إنْ كان قد استقر الحج في ذمته، وإنْ كان تطوعاً أو لم يستطع إلا هذه السنة لم يجب، وعلى القديم قد يموت وقد بقي وقت الإحرام، وقد يموت بعد خروج وقته، فإنْ بقي أحرم النائب بالحج ويقف بعرفة إن لم =

(فرع): إذا وُجدَت شرائط وُجوب الْحَج وَجَب على التراخي (¬1) فَلَهُ تأخيرهُ ما لَمْ يَخْش الْعَضْبَ (¬2) فَإنْ خَشِيَه (¬3) حَرُمَ عَلَيه التأخيرُ على الأَصَحِّ (¬4) هَذَا مَذْهَبُنَا (¬5). ¬

_ = يكن الميت وقف، ولا يقف إن كان وقف، ويأتي بباقي الأعمال، فلا بأس بوقوع إحرام النائب داخل الميقات لأنه يبني على إحرام أنشىء منه، وإن لم يبق وقت الإحرام فبمَ يحرم به النائب؟ وجهان: (أحدهما) وبه قال أبو إسحق: يحرم بعمرة ثم يطوف ويسعى فيجزئانه عن طواف الحج وسعيه، ولا يبيت ولا يرمي، لأنهما لبسا من العمرة لكن يجبران بالدم، (وأصحهما) وبه قطع الأكثرون تفريعاً على القديم أنه يحرم بالحج ويأتي ببقية الأعمال، وإنما يمنع إنشاء الإحرام بعد أشهر الحج إذا ابتدأه، وهذا ليس مبتدأ، بل مبني على إحرام قد وقع في أشهر الحج وعلى هذا إذا مات بين التحللين أحرم إحراماً لا يحرم فيه اللبس والقلم، وإنما يحرم النساء كما لو بقي الميت، هذا كله إذا مات قبل التحللين، فإن مات بعدهما لم تجز النيابة بلا خلاف لأنه يمكن جبر الباقي بالدم. اهـ. وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله في مغنيه: فإن خرج للحج فمات في الطريق حُج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه، فلم يجب ثانياً، وكذلك إنْ مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك. ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره، نص عليه، لأنها عبادة تدخلها النيابة. فاذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة. انتهى. (¬1) أي عند الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى كما تقدم وعند جمهور الأئمة على الفور، وقد تقدم الكلام على هذا في التعليق على فصل مختصر جداً فيما يتعلق بوجوب الحج، فراجعه تجد فيه أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى بأدلتها. (¬2) أي أو الموت أو هلاك ماله. (¬3) أي بقرينة ولو ضعيفة لأنه لا يجوز تأخير الواجب الموسع إلا إنْ غلب على الظن تمكن الشخص منه وهذا مفقود في مسألتنا. (¬4) ووجه مقابل الأصح أن أصل الحج على التراخي فلا يتغير بأمر محتمل. (¬5) أي معشر الشافعية رحمهم الله وجميع المسلمين آمين.

وقال مالك (¬1) وأبو حنيفة (¬2) وأحمد والمزني رحمهم الله تعالى يجب على الفور. ثمَّ عنْدَنا إذَا أخَّرَ فَمَاتَ (¬3) تَبيَّنَ أنَّهُ ماتَ عَاصِياً على الأَصَح لتَفْريطه، ومن فَوَائد مَوْته عَاصياً أَنهُ لَوْ شَهِدَ بشهَادَة ولم يُحْكَمْ بها حتَّى ماتَ (¬4) لَمْ يُحْكَمْ بها كما لَوْ بَانَ فِسْقه وَيُحْكَمُ بعصيانه مِنَ السنة الأَخيرَة من سنِي الإمْكَان (¬5) عَلَى الأَصَح. (فرع): مَنْ وَجَبَ عليه حَجَّةُ الإِسْلاَم لاَ يصح مِنْهُ غَيْرُها قَبلهَا فَلَوْ ¬

_ (¬1) أي في رواية ذكرها القاضي عياض وجمع من المغاربة رحمهم الله تعالى. (¬2) فيه نظر لما قيل، وقد تقدم أنه لا نص للإمام أبي حنيفة في وجوب الحج على الفور، وإنما هو قول جمهور أصحابه رحمهم الله منهم أبو يوسف، ويجاب عن المصنف بأن المأخوذ من قواعد الإمام يصح نسبته إليه على خلاف فيه ذكروه في أن المخرج هل ينسب للشافعي رحمه الله تعالى أو لا؟ ويسن تعجيل الحج خروجاً من الخلاف، ولخبر: "حجوا قبل أن لا تحجوا" رواه الجماعة وورد من طريق ضعيفة بل صَح عن عمر رضي الله عنه كما في الحاشية: (من لم يمنعه من الحج حاجة أو مرض حابس أو سلطان جائر فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً) وهذا محمول عند العلماء على الزجر والتغليظ أو على المستحِلّ والله أعلم. (¬3) أي أو عضب فيتبين بعد عضبه فسقه في السنة الأخيرة من سني الإمكان وفيما بعدها إلى أن يحج عنه فتجب عليه الاستنابة فوراً كما مَر، وكذا يجب الفور على وارث الميت ونحوه كما مَر. (¬4) قال العلامة ابن حجر رحمه الله في حاشيته: (قضيته إنه لو حكم بها لا ينقض الحكم وليس على إطلاقه بل الذي دَل عليه كلام الروضة هنا وكلامهم في الشهادات أنْ الحكم بشهادته قبل آخر سني الإمكان لا ينقض وبعده ينقض لأنه تبين به فسقه). اهـ. (¬5) أي من وقت خروج قافلة بلده من تلك السنة الأخيرة من سني الإمكان لتبين أن هذا الوقت هو الذي كان يلزمه فيه المضي معهم.

اجْتَمَعَ عليه حَجةُ الإِسْلاَم وقَضَاءٌ ونذْر (¬1) قُدمَتْ حَجةُ الإِسْلاَم ثُم الْقَضَاءُ ثُم النَّذْرُ. ولَوْ أحْرَمَ بغَيْرِهَا (¬2) وَقَعَ عَنْهَا لا عَما نَوَى، وَمن عليه قضَاءٌ أوْ نَذْرٌ لاَ يَحجُّ عَنْ غيره (¬3) فَلو أحْرَمَ عن غيرِه وَقَعَ عَنْ نَفْسه عمَّا عليه (¬4) ولو اسْتَأجَرَ المعْضُوبُ من يَحُجُّ عنه عن النَّذْرِ وعَلَيْهِ حَجةُ الإِسْلاَم وَقَعَ عَنْ حَجة الإِسْلاَم ولَوْ اسْتأجَرَ شَخْصَيْن فَحَجَّا عَنْهُ الْحَجتَين (¬5) في سنهَ وَاحِدَة أجْزَأه (¬6) على الأصح. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثيرَةٌ وَفيمَا أشَرْتُ إلَيْهِ تنبيهٌ عَلَى مَا بقِي وَاللهُ تَعَالَى أعْلَمُ. ¬

_ (¬1) صورة اجتماع الثلاثة أن يفسد صبي حجه، ثم يبلغ فينذر الحج. مذاهب العلماء فيمن عليه حجة الإِسلام وحجة نذر قال المصنف رحمه الله في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب تقديم حجة الإِسلام، وبه قال ابن عمر وعطاء وأحمد وإسحق وأبو عبيد. وقال ابن عباس وعكرمة والأوزاعي: يجزيه حجة واحدة عنهما، وقال مالك: إذا أراد بذلك وفاء نذره فهي عن النذر، وعليه حجة الإِسلام من قابل، والله أعلم. (¬2) أي بغير حجة الإِسلام ومثلها حجة القضاء فلو أحرم بالنذر وقع عن حجة الإِسلام، فإنْ لم تكن عليه حجة الإسلام وقع عن حجة القضاء لا عن النذر. (¬3) يستثنى منه ما لو استأجره الغير في الذمة، فإنه يجوز وطريقه أن يحج عن نفسه ثم عن غيره. (¬4) هذا فيمن نذر حجاً تلك السنة وقع حجه فيها عن حجة الإِسلام والنذر. (¬5) أي حجة الإِسلام وحجة النذر. (¬6) أي سواء ترتب إحرام الرجلين أو لا، لكن إنْ ترتب إحرامهما وقع الأول لحجة الإِسلام، وإلا وقع إحرام كلٍ عما استؤجر له. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مذاهب العلماء في حكم الاستئجار للحج قال المصنف رحمه الله في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا صحة الإِجارة للحج بشرطه السابق وبه قال مالك وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يصح عقد الإجارة عليه، بل يعطى رزقاً عليه، قال أبو حنيفة: يعطيه نفقة الطريق فإنْ فضل منها شيء رده، ويكون الحج للفاعل وللمستأجر ثواب نفقته لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز الاستئجار عليها كالصلاة والصوم لأن الحج يقع طاعة فلا يجوز أخْذ العوض عليه، ودليلنا أنه عمل تدخله النيابة فجاز أخذ العوض عليه كتفرقة الصدقة وغيرها. (فإنْ قيل): لا نسلم دخول النيابة بل يقع الحج عن الفاعل. (قلنا): هذا منابذ للأحاديث الصحيحة السابقة في إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج عن العاجز، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَدَيْن الله أحق بالقضاء" و"حج عن أبيك" وغير ذلك. ودليل آخر وهو أن الحج يجوز أخذ الرزق عليه بالإجماع، فجاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر، وأما الجواب عن قياسهم على الصلاة والصوم، فهو أنه لا تدخلهما النيابة بخلاف الحج وعن قولهم: الحج يقع طاعة، فينتقض بأخذ الرزق والله أعلم. اهـ ملخصاً. (مسألتان): قال العلامة ابن قدامة في مغنيه: أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا أو كذا فقيل له: حج بهذه فله أن يتوسع فيها، وإن فضل شيء فهو له، وإذا قال الميت: حجوا عني حجة بألف درهم، فدفعوها إلى رجل، فله أنْ يتوسع فيها وما فضل فهو له. اهـ. أقسام الاستئجار للنسك قسمان: استئجار عين واستئجار ذمة: (فالأول): كاستأجرتك لتحج عني أو عن مَيتي أو عن فلان هذه السنة بكذا، فإن عين غير السنة الأولى لم يصح العقد وَإنْ أطلق صح وحُمل على السنة الحاضرة، فإن كان لا يصل مكة إلا لسنتين فأكثر فالأولى من سني إمكان الوصول ويشترط لصحته قدرة الأجير على الشروع في العمل واتساع المدة له والمكي ونحو ممن يدرك الحج في سنته إذا خرج في أشهر يستأجره في أشهر الحج. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = و (الثاني): كألزمت ذمتك حجة لي أو لمورثي أو لفلان بكذا. ولاستئجار العين شروط ملخصها كما في إرشاد الأنام للعلامة السيد البطاح المكي رحمه الله تعالى نقلاً عن كتاب فتح القدير باختصار متعلقات نسك الأجير للعلامة محمد بن سليمان الكردي رحمه الله تعالى أربعة عشر شرطاً: (أحدها): أن يباشر الأجير عمل النسك الذي استؤجر له بنفسه فليس له فعله بغيره فإن فعله فلا شيء للأوّل مطلقاً ولا للثاني إن علم الفساد وإلا فله أجرة المثل على الإذن له. (ثانيها): أن يعين السنة الأولى من سني إمكان الحج من بلد الإِجارة أو يطلق وينزل الإطلاق عليها. (ثالثها): أن يقع العقد في زمن خروج الناس من ذلك البلد بحيث يشتغل عقب العقد بالخروج أو بأسبابه كشراء الزاد ونحوه ولا يضير انتظار خروج القافلة الخارجة بعد العقد حيث يخشى من خروجه وحده نحو وحشة ولو جدّ في السير فوصل الميقات قبل أشهر الحج بطلت الإجارة، والعمرة يستأجر لها سائر السنة إلا من عليه بقية نسك فلا يستأجر عنه. (رابعها): أن لا يشترط المستأجر على الأجير تأخير العمل. (خامسها): قدرة الأجير على الشروع في العمل عقب الإجارة بأن لا يقوم به نحو مرض أو خوف. (سادسها): اتساع المدة لإدراك الحج بعد العقد. (سابعها): أن يكون الأجير قد حج عن نفسه، وقال أبو حنيفة ومالك بجواز حج الضرورة عن غيره مع الكراهة. (ثامنها): أن لا يخالف الأجير في كيفية أداء ما استؤجر له، فإن أبدل الأجير بقران أو تمتع بإفراداً أو بإفراد تمتعاً انفسخت الإجارة. (تاسعها): أن لا يفسد الأجير نسكه وإلا انفسخت الإجارة وانقلب النسك له ويلزمه ما يلزم المفسد لنسكه. (عاشرها): أن لا يؤخر الأجير الإحرام عن أول سني الإمكان فإن أخره انفسخت الإجارة فإن حج عنه في الثانية وقع الحج للمستأجر واستحق الأجير أجرة المثل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (حادي عشرها): حياة الأجير إلى تمام أركان النسك، فلو مات قبل الإحرام فلا شيء له من الأجرة أو بعد الإحرام وقبل تمام الأركان أثيب المحجوج عنه على ذلك واستحق الأجير قسطه من المسمى أو من أجرة المثل كالعامل في المجاعلة، ويعتبر ذلك من ابتداء السير وتنفسخ الإِجارة فإن مات بعد تمام الأركان دون باقي الأعمال الواجبة والمسنونة لم يؤثر ذلك على صحة الإجارة لكن يلزم الأجير قسط ما بقي من الواجبات والسنن وتجبر الواجبات بدماء وهي على المستأجر لوقوع النسك له مع عدم إساءة الأجير. (ثاني عشرها): أن لا يقع على الأجير حصر يتحلل بسببه وإلا كان كموت الأجير في التفصيل السابق آنفاً. (ثالث عشرها): أن لا يفوت الحج على الأجير وإلا انقلب له ولزمه ما يلزم في الفوات إذا كان النسك له وانفسخت الإجارة. (رابع عشرها): أن لا ينذر الأجير النسك الذي استؤجر له قبل الوقوف بعرفات في الحج وقبل الطواف في العمرة وإلا انصرف له كما لو أحرم بتطوع ثم نذره فإنه ينصرف لفرضه وانفسخت الإجارة. وأما شروط الإجارة الذمية فهي تخالف الإجارة العينية في الشروط السابقة فيها، فلا يشترط هنا أن يباشر الأجير عمل النسك الذي استؤجر له بنفسه ولا قدرته على الشروع في العمل ولا أن يكون قد حج عن نفسه ولا يقدح في ذلك خوف الأجير أو مرضه إذ له الإنابة فيها ولا بلا عذر ولو بشيء قليل دون ما استؤجر به، ويجوز له حينئذ كل الزائد، نعم يلزمه أن لا يستأجر إلا عدلاً، وأما وكلاء الأوصياء في الاستئجار فيجب عليهم أن يستأجروا بالمال المدفوع إليهم جميعه ولا يحل لهم أخذ شيء من ذلك المال وإلاّ فسقوا وعزروا، وكذلك الوصي حيث علم بأحوالهم ووكلهم، وكذلك الفقيه العاقد بينهما إذا علم. ويصح تعيين غير السنة الأولى من سني الإمكان فإن قدم الأجير النسك على السنة المعينة فقد زاد خيراً وعند الإطلاق ينصرف إلى الأولى كإجارة العين ولا تنفسخ الإجارة بإفساد الأجير لنسك ولا بتحلله بالإحصار ولا بفوات الحج ولا نذر الأجير النسك قبل الوقوف أو الطواف في العمرة لكن حيث لزم من ذلك تأخير النسك يخير المستأجر بين الفسخ وعدمه ويكون خياره على التراخي، قال: والذي تلخص للفقير من ذلك شرطان: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (أحدهما): حلول الإجارة فيمتنع فيها تأجيلها سواء تأخر العمل عن العقد أم اتصل به بخلاف إجارة العين. (ثانيهما): تسليمها في مجلس العقد كرأس مال المسلم فيمتنع الاستبدال عنها والحوالة بها وعليها والإبراء منها ويثبت فيها خيار المجلس بخلاف العينية فإن الأصح عدم ثبوته فيها، وتحصل إجارة الذمة بنحو ألزمت ذمتك حجة لي أو لمورثي أو لفلان بكذا. وقال: ويشترط في كل من إجارة العين والذمة شروط فإن انتفى شرط منها فسدت سواء كانت عينية أو ذمية: (أحدها): علم المتعاقدين أعمال النسك عند العقد أركانه وواجباته وسننه وتردد ابن حجر في حاشية الإيضاح في المراد بالسنن هل هي المجمع عليها أو الشهيرة من مذهب الأجير وهي ما لا يخفى على من له إلمام بالمناسك. قال: وفي كل من هذين الاحتمالين مشقة لا تخفى ولهذا رأينا المتورعين يعدلون إلى الجعالة لأنه يغتفر فيها الجهل بالعمل. وتردد أيضاً في الحاشية في المراد بالأركان والواجبات والسنن هل هي على مذهب الأجير أو المستأجر له وعلى كل فلو استأجر من يظنه موافقاً في مذهبه فبان مخالفاً فهل يتخير في الفسخ ويجب في صورة الميت أو لا يتخير؟ قال: ولعل الثاني أقرب أي بناء على أنه يلزمه تقليد إمام المستأجر له فيأتي بالأعمال على مذهبه. (ثانيها): أن ينوي النسك عمن استؤجر له ولا بد من نوع تعيين له عند العقد كمن أوصاني أو أتبرع عنه وعند الإحرام كمن استؤجرت له ولا يشترط معرفته. (ثالثها): كون الأجرة معلومة، فإن كانت في الذمة اشترط العلم بها جنساً وقدراً وصفة، وإن كانت معينة اشترط معاينتها. (رابعها): استجماع ما اشترطوه في البائع والمشتري من الرشد وعدم الإكراه والجنون وغير ذلك. (خامسها): يشترط في الأجير لحج الفرض خاصة، ولو قضاء أو نذراً، الحرية والبلوغ، وأما الذكورة والأنوثة فلا تشترط فتصح إنابة الرجل عن المرأة وعكسه. (سادسها): كون المحجوج عنه ميتاً أو معضوباً أذن في الحج عنه. (سابعها): بيان أنه إفراد أو تمتع أو قران إن كان الاستئجار للحج والعمرة أو للنسك، فإن أبهم بطل لكنه يقع للمستأجر بأجرة المثل. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (ثامنها): أن لا يشترط المستأجر على الأجير مجاوزة الميقات بلا إحرام وإلا فسدت الإجارة ومن ذلك أن يشترط المستأجر عن الآفاقي على الأجير المكي ونحوه أن يحرم من مكة أو من دون مسافة ميقات المحجوج عنه وإن لم يشترط ذلك المستأجر على الأجير وفعله الأجير بنفسه لزمه دم مجاوزة الميقات وحط القسط من الأجرة ولا يشترط تعيين الميقات بل يحمل على ميقات المحجوج عنه وله العدول عنه إلى مثل مسافته وكذا إلى ميقات آفاقي أقرب من ميقات المحجوج عنه على نزاع فيه. (تاسعها): أن يكون الأجير عدلاً في غير معين الموصي العالم بفسقه وإلا لم تصح إنابته ولو مع المشاهدة، والمراد العدالة الظاهرة دون الباطنة. (عاشرها): أن يكون النسك المستأجر له مما يطلب فعله من المجوج عنه وإلا بطلت الإجارة. (حادي عشرها): أن يكون بين المعضوب وبين مكة مسافة القصر فأكثر وإلا لم يجز له الإنابة حتى يموت فيحج عنه بعد موته. (ثاني عشرها): أن يوصي الميت بأداء النسك عنه إن كان النسك تطوعاً وإلا فلا يصح. (ثالث عشرها): أن لا يتكلف المعضوب الحج ويحضر مع أجيره بعرفة وإلا انفسخت الإجارة ووقع الحج للأجير مع استحقاقه الأجرة. (رابع عشرها): أن لا يشفى المعضوب من عضبه وإلا وقع الحج للأجير ولا أجرة له هذا آخر شروط الإجارتين فتكون شروط العينية ثمانية وعشرين شرطاً، وشروط الذمية ستة عشر شرطاً. ثم قال: الباب الرابع في الجعالة وهي تجامع الإجارة في كثر الأحكام وتفارقها في أمور: في جوازها على عمل مجهول وصحتها من غير معين وكونها جائزة من الطرفين، وتنقسم كالإجارة إلى قسمين: عينية كجاعلتك لتحج، سواء قال بنفسك أم لم يقل، وذمية كألزمت ذمتك تحصيل كذا، ففي الأولى لا بد أن يعين أوّل سني الإمكان أو يطلق وإلا فلا يصح وهكذا إلى آخر ما ذكرناه في الإجارة العينية يجري نظيره هنا وما سبق في الذمية يجري نظيره في الجعالة الذمية ثم قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = اعلم أنه لا تصح الإجارة على زيارته - صلى الله عليه وسلم - وبحث في التحفة الصحة فيما لو انضبطت كأن كتبت له بورقة وتصح على تبليغ السلام عليه - صلى الله عليه وسلم -. وأما الجعالة فلا تصح على الوقوف عند القبر وتصح على الدعاء ثمة ولا يضر الجهل بنفس الدعاء ولو استُجعل شخص من جماعة على الدعاء صح، فإن دعا لكل منهم استحق جُعل الجميع وإن اتحد السير ويجري هنا ما سبق في الإجارة، ففي الجعالة العينية لا بد أن يعين أول سني الإمكان أو يطلق إلى آخر ما ذكر من الشروط، وفي الجعالة الذمية يصح تعيين غير السنة الأولى إلخ. ويجب على من استأجر أو جاعل بمال ميت أن يعمل في الفسخ وعدمه بما فيه المصلحة للميت. اهـ الملخص من فتح القدير. ثم قال: خاتمة: الحج عنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح وجعل ثواب الحج له أو لغيره بعد الحج على جهة الدعاء صحيح ولا يصح بيع ثواب حج التطوع ولا غيره من العبادات. اهـ.

الباب الثاني في الإحرام

الباب الثاني في الإحرام (¬1) فَصْلٌ في ميقات الحج لَهُ ميقَاتَان زَمَاني وَمَكَانيّ. أمَّا الزمَانيّ فَهُوَ شَوالُ (¬2) وَذُو الْقِعْدَةِ (¬3) وعشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجةِ (¬4) آخِرُها طُلُوعُ الْفَجْرِ يَوْمَ العيدِ (¬5) فَلاَ يَنْعَقِدُ ¬

_ (¬1) يطلق على الفعل المصدري فيراد به نية الدخول في النسك إذ معنى أحرم أدخل نفسه في حالة حَرُم عليه بها ما كان حلالاً، أي نوى الدخول في ذلك وهو حينئذ ركن سمي بذلك لاقتضائه تحريم الأنواع الآتية، ويطلق على الأثر الحاصل بالمصدر فيراد به نفس الدخول في النسك أي الحالة الحاصلة المترتبة على النية، وهذا مرادهم بقولهم ينعقد الإحرام بالنية، وقولهم: نويت الإحرام وقولهم: يبطل الإحرام بالردة ويفسد بالجماع، والمراد هنا الأول فلو نوى بقلبه الإحرام أي الدخول في النسك ولم يعين حجاً أو عمرة صح وانعقد عمرة إن كان في غير أشهر الحج فلا يشترط له التعيين، ولا قصد الفعل ولا نية الفرضية نعم يجب التعيين فيما لو أحرم مطلقاً في أشهر الحج. (¬2) شوال: من شالت الإبل أذنابها إذا حملت فيه. (¬3) القعدة: بفتح القاف على الأفْصَح سمي به لقعود العرب فيه عن القتال. (¬4) الحجة: بكسر الحاء على الأفصح سمي به لوقوع الحج فيه. (¬5) فوقوف المحرم بعد فجر يوم عيد الأضحى لا يجزِئه عن الحج للحديث الصحيح الذي رواه الخمسة وصححه الترمذي رحم الله الجميع آمين. عن عروة بن =

الإِحْرَامُ بالْحَج في غَيْر هَذِهِ الْمُدَّة فَإنْ أحْرَمَ به في غَيْرِها لم يَنْعَقِدُ حَجَّاً (¬1) وَانْعَقَدَ عمرة (¬2) مجزئة عن عمرة الإِسلام على الأصح وقيل: يَنْعَقِدُ عمرة ولا تجزئه عن عمرة الإِسلاَم وَقِيلَ: لاَ تكون عُمْرَة بلْ يَتَحَلَّلُ بعَمَل عُمْرَةٍ وقيلَ: لا يَنْعَقِدُ الْحَج في لَيْلَة الْعيدِ بَلْ حُكْمُهَا حُكمُ غيرِ أشْهُرِ الْحَج وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْل أشْهُرِ الْحَج إِحْرَاماً مُطْلَقاً انْعَقَدَ عُمْرَة. وأما الْمَكَانِيّ فالنَّاس فيه قِسْمَانِ: أحَدهمَا: مَنْ هو بِمَكَّةَ مكّياً أوْ غَريباً فَميقَاتُهُ بالْحَج نَفْسُ مَكّةَ (¬3) وَقِيلَ: مَكّةُ وسائرُ الْحَرَمِ والصَّحيحُ هُوَ الأَولُ ولهُ أنْ يُحْرِمَ مِنْ جَمِيعِ بقاع مَكةَ. ¬

_ = مُضَرس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيىء كللت راحلتي (أتعبتها) وأتعبت نفسي ووالله ما تركت من حبل (بالحاء المهملة الكثيب المستطيل من الرمل وقيل الضخم منه) إلا وقعت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ شهد معنا صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجه وقضى تفثه (أدى مناسكه) ". (¬1) أي لوقوع الإحرام بالحج في غير أشهره وهي كما تقدم شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] فخص فرضه بالأشهر المعلومات بهذه الآية الخاصة من الآية العامة وهي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فهذه الآية محتملة لأن يراد بها أن من الأهلة ما هو مواقيت لغير الحج ومنها ما هو مواقيت للحج، وهذا مبهم عينته الآية الأولى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فتعين الأخذ بها كيف وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه إنه قال: (من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج)، وهذه الصيغة لها حكم المرفوع، وصَح أيضاً عن جابر رضي الله عنه: (أهل بالحج في غير أشهره؟ فقال: لا). (¬2) أي إنْ كان حلالاً، وإلا فهو لغو لأن العمرة لا تدخل على أخرى، والحج لا يتقدم على وقته. (¬3) أي لا يجوز الإِحرام من خارج مكة ولا من محازاتها ولا من أبعد منها. هذا في حق من يحرم على نفسه ولو بقران وهو بمكة، أما الأجير والمتبرع بالحج ولو مكياً =

وَفِي الأَفْضَل قَوْلان للشافعي رَحِمَهُ الله تعالى الصَّحيحُ مِنْهُمَا أنَّهُ يُحْرمُ من باب دَاره (¬1) والثاني مِنَ الْمَسْجِد قَريباً مِنَ البَيْت وَيُسْتَحَب أنْ يكُون إحْرام المُقيم بمَكَّةَ يَوم التروية (¬2) وهُوَ الثامن مِنْ ذي الْحِجة وسَوَاء أرادَ الْمُقِيمُ بمكَّةَ الإِحْرَام بالْحَج مفرِداً أم أرَاد القِران بَيْن الحَج وَالْعُمْرَة فميقَاته ما ذَكَرْنَاهُ وقيلَ: إنْ أرادَ القرانَ لزِمَهُ إنْشاء الإِحْرَام مَنْ أدْنَى الحِلِّ كما لو أرادَ الْعُمْرَةَ وَحْدها والصَّحِيحُ ما قَدَّمْنَاهُ. القسم الثاني الأفُقيُّ (¬3) وهُوَ غيرُ المقيمِ بمكةَ وَمَواقيتُهُمْ خَمْسَةٌ: أحَدهما: ذُو الحُلَيْفَةِ (¬4) ميقَاتُ مِنْ تَوَجهَ مِنَ الْمدينَة الْمُنَوَّرَة وَهُوَ مِنَ ¬

_ = فيعتبر إحرامهم من ميقات المحجوج عنه، فإن خالفوا بالإحرام من غيره فالدم عليهم لا على المحجوج عنه، وعند الحنفية العبرة بميقات الحاج وبه قال الطبري وجماعة من الشافعية. (¬1) المعتمد أنه يسن له أولاً: ركعتا الإحرام بالمسجد، ثم يأتي إلى باب داره فيحرم عند أخذه في السير بنفسه أو دابته إذْ الإحرام لا يسن عقب الركعتين بل عند الخروج إلى عرفة، ثم يدخل المسجد محرماً لطواف الوداع المسنون له -كما يأتي إن شاء الله- لا للصلاة. (¬2) يستثنى منه العادم لهدي التمتع فليلة الخامس يصوم الخامس والسادس والسابع ليكون يوم الثامن مفطراً لأنه يوم سفر، وسُمي بالتروية لأنّ الحجاج كانوا في الزمن السابق يتروون أي يحملون معهم الماء من مكة إلى عرفة، واليوم والحمد لله موجود في جميع مشاعر الحج. (¬3) يجوز في (أفقي) ضم الهمزة والفاء وفتحهما. (¬4) الحُلَيْفَة: بضم الحاء وفتح اللام تصغير (الحلفة) بفتح أوليه، واحد الحلفاء وهو النبات المعروف، وتسمى الآن أبيار علي نسبة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبها بئر يقول العوام إنه قاتل الجن بها، وهذا القول كذب لا أصل له.

المدينة على نحو ستة أَمْيَال (¬1) وَبينَهُ وبينَ مكةَ عَشْرُ مَرَاحلَ (¬2). الثاني: الْجُحْفَة (¬3) مِيقَاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنَ الشام على طَريق تبوكَ وَالْمُتَوَجهِينَ مِنَ مصْرَ والْمَغْربِ وهيَ قَرْيةٌ على نحو ثَلاَث مَرَاحلَ منْ مكةَ أَوْ أكْثَرَ. الثالث: قَرن بإسْكان الراء ويُسَمَّى قَرْنَ المنازل (¬4) وقرن الثعالب وهو ميقاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنْ نَجْد الْحجازِ ومِنْ نَجْد الْيَمَن. ¬

_ (¬1) قال العلامة السمهودي -أحد مؤرخي المدينة المنورة- كما في حاشية العلامة ابن حجر المكي -رحم الله الجميع- اعتبرتها من عتبة باب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة فرأيتها تسعة عشر ألف ذراع بتقدم التاء وسبعمائة بتقديم السين واثنين وثلاثين ذراعاً ونصف ذراع بذراع اليد. انتهى. وذو الحليفة أبعد المواقيت عن مكة المكرمة. (¬2) أي بسير الإبل المحملة والمشي على الأقدام، وأما الآن بالسيارة فست ساعات أو نحوها. (¬3) الجحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة: قرية كبيرة بين مكة والمدينة وهي أوسط المواقيت، سميت بذلك لأن السيل أجحفها أي أزالها، فهي الآن خراب، ولذلك بدلوها الآن "برابغ" وهي قبل "الجحفة" بيسير، فالإحرام من رابغ مفضول لتقدمه على الميقات، إلا إنْ جهلت الجحفة أو تعسر بها فعل السنن للإحرام من غسل ونحوه، أو خشي من قصدها على ماله فلا يكون الإحرام من رابغ مفضولاً، فعليه أصبح الآن الإحرام من "رابغ" ليس بمفضول لجهل أكثر الناس بعين "الجحفة" ولارتفاقهم في المنزل برابغ من حيث المأكل والمشرب، وغير ذلك. (¬4) قرن: بفتح القاف، وسكون الراء: وادي السيل الكبير ووادي المحرم، وهما متصلان، وكلاهما يسمى قرناً، فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات لكن يجب الإحرام من نفس وادي السيل من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي.

الرابعُ: يَلَمْلَم ويقالُ: أَلمْلَم (¬1) وهُوَ ميقاتُ الْمُتَوَجِّهينَ مِنْ تِهَامَةَ وَتهامَةُ بَعْض من اليمن. فَإِن اليمن يَشْمَلُ نَجْداً وتهَامَةَ، قالَ أصْحَابُنَا: وحَيْثُ جاء في الْحَدِيث وغَيْره أن يَلَملَم ميقَات أهْل الْيَمن فالْمُرَاد ميقَاتُ تهامَةَ (¬2) لا كُل الْيَمَن فإن نَجْدَ الْيَمَنِ ميقَاتهُمْ ميقَات نَجْدِ الْحِجَاز (¬3). الخامسُ: ذَاتُ عرْقٍ (¬4) ميقَاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنَ الْمَشْرق كَخُراسان وَالعراق وهَذه الثلاَثة بينَ كلٍّ منها وبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلتَان. ¬

_ (¬1) ويقال أيضاً "يرمرم" براءين مهملتين بدل اللامين، وهو جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة المكرمة. (¬2) أي تهامة اليمن، وسمي "يمناً" لأنه عن يمين الكعبة، "وتهامة" بكسر التاء وقيل بفتحها اسم لكل ما نزل من نجد، وكان غوراً من التهم وهو شدة الحر وسكون الرياح، وقيل لتغير هوائها، ومكة منها، ونجد بفتح النون قيل وضمها اسم لكل ما ارتفع، ثم اشتهر في موضع مخصوص بالحجاز واليمن مشتملان على نجد وتهامة، فإذا أطلق نجد فالمراد به نجد الحجاز. (¬3) وهو قرن وادي المحرم لمن يمر بطريق جبل كرا أو وادي السيل لمن يمر بطريق الحويّة، وهما متصلان بجبل كرا وكلاهما يسمى قرناً، فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات، والطريقان والحمد لله معبدان، لكن يجب على مريد الإحرام من وادي السيل الإحرام من نفس الوادي من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي -كما تقدم- فليتنبه لذلك المحرم وفقنا الله آمين. (¬4) عرق: بكسر العين وسكون الراء المهملتين جبل صغير أو أرض سبخة تنبت الطرفاء، و "ذات عرق": قرية خربة قديمة وهي بين العقيق، وقرية المضيق ووادي العقيق قبلها، فمن أحرم منه فقد أحرم واحتاط وهذا العقيق غير عقيق الطائف، وغير عقيق المدينة المنورة الذي ورد فيه الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي فقال: صَل في هذا الوادي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المبارك وقل عمرة في حجة" فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال تقريباً، وهناك عقيق رابع في طريق بلاد غامد قد جئته عام 1374 هـ أو 1375 هـ أنا والأستاذ عبد الرحمن بن صالح المسفر في سيارة فُرْط موديل (74) أول خروجها، وصاحب السيارة اسمه أحمد بن خلف الغامدي مسكنه بالصقاع ببلجرشي، والعقيق كل ما شقه السيل فأنهره. وقد نظم بعض العلماء رحمهم الله تعالى ورحمنا جميعاً المواقيت مع بيان مسافتها فقال: قرن يلملم ذات عرق كلها ... في البعد مرحلتان من أم القرى ولذي الحليفة بالمراحل عشرة ... وبها لجحفة ستة فاخبُرْ ترى وهذه المواقيت كلها خارج الحرم المكي وعلى حدوده أعلام. قال الإمام النووي رحمه الله في مجموعه: (واعلم أنّ الحرم عليه علامات منصوبة في جميع جوانبه)، ذكر الأزرقي رحمه الله تعالى وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام علمها ونصب العلامات فيها وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها، ثم أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بتجديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد. قال الأزرقي في آخر كتاب مكة: أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم، وما كان في ظهرها فهو حل. اهـ. وقد نظم بعضهم مسافتها بالأميال فقال: وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جِعْرانة ومن يمن سبع تقديم سينه ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه أقول: وقد جدد هذه الأعلام بعد معاوية عبد الملك بن مروان ثم المهدي ثم المقتدر بالله العباسي، ثم أمر الراضي بالله العباسي بتجديد العلمين من جهة التنعيم ثم أمر المظفر صاحب إربل بعمارة العلمين من جهة عرفة ثم الملك المظفر صاحب اليمن، وجددها السلطان أحمد الأول العثماني سنة ألف وثلاث وعشرين هجرية وفي زمن حكومتنا السنية زمن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود جددت الأعلام من جهة عرفة، ومن بعض الجهات نسأله تعالى التوفيق لحكومتنا لما يحبه ويرضاه آمين.

والأفْضَلُ في حقِّ أهل العرَاق والمشرق أنْ يُحْرمُوا مِنَ العَقيق (¬1) وهو وَادٍ بِقُرْبِ ذات عرق أَبعَد منها وأَعْيانُ هذه الْمَواقيت لا تُشتَرطُ بَلْ ما يُحَاذيها في مَعْنَاهَا (¬2) والأفْضَلُ في كلّ ميقَات منها أنْ يُحْرمَ من طَرَفه الأَبْعَدِ من مَكَّة (¬3) فلو أَحْرَمَ منَ الطَّرَف الآخر جازَ لأَنهُ أَحْرَم منه (¬4) وهذه الْمَوَاقيتُ ¬

_ (¬1) نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى لأنه الأحوط كما تقدم ولأنه ورد أنه - صلى الله عليه وسلم -: "وقت لأهل المشرق العقيق" لكنه ضعيف وإن حسنه الترمذي رحمه الله تعالى وهذه المواقيت كلها ثبتت بالنص لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرناً ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة، ومن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها) متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود والنسائي، وعن جابر مرفوعاً رواه مسلم رحم الله الجميع ورحمنا معهم آمين. وعن الإِمام أحمد رحمه الله قال: لما فتح هذان المصران -الكوفة والبصرة- أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَد لأهل نجد قرناً وأنه جَوْر عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم قال: فحد لهم ذات عرق. رواه البخاري رحمه الله تعالى وهذا التحديد من سيدنا عمر رضي الله عنه هو حيث لم يبلغه النص. (تنبيه): الاعتبار في هذه المواقيت نفس الموضع لا بما به من بناء ونحوه. (¬2) لما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل الكوفة والبصرة حين شكوا إليه بُعد قرن عن طريقهم ولم يبلغه النص (فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق). (¬3) أي احتياطاً إلا ذا الحليفة فمن مسجدها الذي أحرم منه - صلى الله عليه وسلم - ويسمى مسجد الشجرة، لوجود شجرة كانت موضعه، وقيل من البيداء. (¬4) منه أي من الميقات وقد تقدم التنبيه، وهو أنه مَنْ أراد الإحرام من وادي السيل الكبير فليحرم من نفس الوادي من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي التي بعد المسيل لأنها ليست موضع الميقات الذي وقته - صلى الله عليه وسلم - فليتنبه لذلك فقد وقع في ذلك جم غفير من الحجاج والمعتمرين، فإنهم كانوا يقفون بسياراتهم عند هذه القهاوي ويحرمون =

لأَهْلهَا ولكُل منْ مَرَّ بها مِنْ غير أَهْلهَا ممَّنْ يُريدُ حَجاً أَو عُمْرَة (¬1) كَالشَّامي يَمُرُّ بميقَات أَهْل الْمَدينة ويَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ وُصُوله الميقَاتَ منْ دُويْرَة أَهْله ومِنْ غيرها وفي الأَفْضَل قَوْلاَن الصَّحيحُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الميقَات (¬2) اقتدَاء برَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَالثاني من دُوَيْرَة أهله أما مَنْ مسكَنُهُ بينَ الميقَات وَمكَّةَ فَميقاتُهُ القرية التي يَسكُنها (¬3) والحِلة التي يَنزلُهَا البَدَوِيُّ ويُسْتَحَب أن يُحْرمَ مِنْ طَرَفها الأبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ وَيَجُوزُ مِنَ الأَقْرَبِ ومن سَلَكَ الْبَحْر أو طَريقاً ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ المَوَاقيتِ الْخَمْسَةِ أحْرَمَ إذَا حَاذَى (¬4) أقْرَبَ المَوَاقيتِ إليهِ (¬5). ¬

_ = منها، فيجب على من أحرم من هذه القهاوي الرجوع إلى المسيل والإِحرام منه وإلا فعليه ما على مجاوز الميقات. هدانا الله لما يحبه ويرضاه آمين. (¬1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة". (¬2) يستثنى منه الأجير إذا سلك طريقاً ميقاتُها أقرب من ميقات المحجوج عنه فإنه يسن له الإحرام قبله من محاذاة ميقات المحجوج عنه وقد يجب الإحرام قبل الميقات كان نذره من دويرة أهله. (¬3) كأهل منى وخليص فمسكنه ميقاته، والحرمي ومن بمكة يخرجان للعمرة إلى أدنى الحل لوجوب الجمع بين الحل والحرم، ومن سكن بين ميقاتين كأهل بدر، والصفراء، والخيف، فإنهم بعد ذي الحليفة وقبل الجُحْفَة فميقاتهم الثاني وهو "الجحفة"، ومن كان في طريقه ميقاتان ومَر بعين أحدهما وحاذى الآخر فالعبرة بما مَر بعينه إذ هو أقوى من المحاذاة كما إذا لم يمر على ذي الحليفة وسلك طريق الجحفة، فميقاته الجحفة والله أعلم. (¬4) أي سامته يميناً أو شمالاً لا أماماً ولا خلفاً. (¬5) هذا إذا حاذى ميقاتاً واحداً، فإن حاذى ميقاتين كأن لم يمر بالجحفة، وإنما سلك طريقاً تكون أقرب إليه عند محاذاتها من ذي الحليفة، فأقربهما إليه، وإن كان الآخر أبعد عن مكة، فإن استويا قرباً إليه فالأبعد من مكة، فإن استويا فمحاذاتهما، ويعمل بقول المخبر عن علم ثم يجتهد إن علم أدلة المحاذاة، وإلا قلد مجتهداً وسن له أنْ يحرم قبله، ويجب ذلك إن تحير وخاف فوت حج تضيق عليه والله أعلم.

فإنْ لم يُحَاذ شَيْئاً (¬1) أحْرَمَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكةَ (¬2) فإنْ اشْتبَهَ عَلَيْهِ الأَمْر تَحَرَّى (¬3) وطَريقُ الاحْتِيَاط لا تَخْفَى (¬4). (فرع): إذا انْتَهَى إنْسَان إلَى الميقَات وَهُوَ يُرِيدُ حَجاً أو عُمْرَةً لَزمَهُ أنْ يُحْرمَ منهُ فإنْ جَاوَزَه (¬5) غَيْرَ مُحْرم عصَى (¬6) ولزِمَهُ أنْ يعُودَ ¬

_ (¬1) كالجائي من سواكن إلى جدة بحراً من غير أنْ يمر برابغ ولا بيلملم لأنهما حينئذ أمامه فيصل إلى جدة قبل محاذاتهما، وهي على مرحلتين من مكة فتكون جدة ميقاته. (¬2) أي لأنه لا ميقات بينه وبين مكة أقل من هذه المسافة. (¬3) أي إنْ لم يجد مخبراً عن علم وإلا لزمه اتباعه. (¬4) يفهم منه أن الاحتياط سنة، وهو كذلك، ويجب الاحتياط عند تحيره في اجتهاده وخاف فوت حج تضيق عليه، كما تقدم والله أعلم. (¬5) أي وإن كان حال المجاوزة في غير أشهر الحج، فإنْ جاوزه أي الميقات وهو كل محل يلزمه الإحرام منه إلى جهة الحرم غير محرم. (¬6) عصى: أي إن كان مكلفاً ولم ينوِ العود إليه أو إلى مثل مسافته قبل التلبس بنسك، أما لو كان مريداً للنسك غير سائر إلى جهة الحرم بل يمنة أو يسرة جازت مجاوزة الميقات وتأخير الإِحرام إلى محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كالجائي من اليمن بحراً فله تأخير إحرامه إلى رأس العلم المعروف قبل مرسى جدة، ولا يجوز تأخير الإحرام إلى جدة لأنها أقرب من يلملم بنحو الربع، وقول العلامة ابن حجر المكي ومن وافقه رحمهم الله تعالى من جواز التأخير إلى جدة مبني على اتحاد المسافة الظاهرة من كلامهم فإذا تحقق التفاوت وقد حققه الكثير ممن سلك الطريقين، وهم عدد كادوا أن يتواترون، فالعلامة ابن حجر ومن وافقه قائلون بعدم جواز تأخير الإِحرام إلى جدة أخذاً من نص تقييدهم المسافة والله أعلم، ومن مَرّ بميقات طريقه أو محل مسافة القصر من مكة مريداً مكة أو الحرم لا للنسك بل لنحو تجارة كحطاب سن له الإحرام منه وكره تركه، ويُسَنْ بتركه دم وإن تكرر دخوله خروجاً من خلاف مَنْ أوجبه كابن عباس وأبي حنيفة رضي الله عنهما فإن جاوزه بغير إحرام ثم أراد أن يحرم فمحل الإِرادة ميقاته ويسمى (الميقات العنوي) بفتح العين المهملة والنون -أي الذي عَنّ له الإحرام منه -، أو =

إليه (¬1) وَيَحْرِم منه (¬2) إنْ لَم يَكُنْ لهُ عُذْر فإنْ كَانَ لَهُ عُذْر كَخوفِ الطَّرِيقِ (¬3) أو الانْقِطَاع عن الرُّفْقَة أو ضِيقِ الوَقْتِ (¬4) أحْرَمَ ومَضَى في نُسكِهِ (¬5) ولَزمَهُ دَمٌ إذا لم ¬

_ = (الإِرادي) وهو مثل الميقات الشرعي في الحكم كالميقات (الشرطي) وهو ما عين للأجير و (النذري) وهو ما عينه في نذره هذا إن كان كلٌ فوق الشرعي فإن كان دونه لغى الشرط وفسدت الإِجارة ولم ينعقد النذر، وتعين الميقات الشرعي. (¬1) لزمه أن يعود إليه أي إلى الميقات أو لمثله بقصد تدارك الواجب محرماً قبل التلبس بنسك ولو سنة كطواف القدوم، أو ليحرم به ولو ماشياً إنْ قدر ولو بمشقة تحتمل عادة وإن كان من حاضري الحرم ولا يكفيه دونه وإن كان ميقاتاً [فإن قيل: يسقط الدم عن المتمتع إذا عاد إلى أي ميقات ولو أقرب] أجيب: إنما سقط عن المتمتع الدم بعوده لميقات أقرب لأن المدار على كونه ربح ميقاتاً، وبذلك يتحقق انتفاؤه، والمدار هنا على الإِساءة أصالة وانتفاؤها بذلك غير محقق والله أعلم. (فائدة): جاء في تقييدات على الإيضاح: لا يجب الإحرام من الميقات إلا إذا كان مستجمعاً لخمس شرائط: الأول: أن يكون قاصداً بهذا السفر دخول مكة أو الحرم ليخرج مَنْ جاوزه مريداً نحو الطائف. الثاني: أن يكون قاصداً النسك ولو بغير هذا السفر ليخرج أهل مكة إذا توجهوا إليها ولم يكونوا مصممين على النسك، ولو كان من عادتهم الحج كل عام. الثالث: أن تكون المجاوزة إلى جهة الحرم. الرابع: أن يكون غير ناو العَوْد إليه أو إلى مثل مسافته قبل تلبسه بنسك. الخامس: أن يكون حراً. اهـ من خط الشيخ ابن سليمان الكردي رحمه الله تعالى والمعلق والمسلمين والمسلمات آمين. (¬2) هذا مجرد مثال وإلا فلو عاد إلى الميقات أو إلى مثل مسافته قبل التلبس بنسك محرماً كفى، كما يفهم مما مَرّ ومما يأتي في كلام المصنف رحمه الله تعالى. (¬3) أي على نفس محترمة أو بُضع أو مال وإن قَل. (¬4) أو سهو عن لزوم العود أو جهل به، وإن خالط العلماء. (¬5) أي جوازاً في غير ضيق الوقت ولزوماً فيه حيث غلب على ظنه أنه يفوته الحج إذا عاد.

يَعُدْ (¬1) فإنْ عَادَ إلَى الميقَات (¬2) قَبْلَ الإِحْرَام فَأحْرَمَ منْه أو بَعْدَ الإِحْرام وَدُخولِ مَكّةَ قَبل أنْ يطُوفَ (¬3) أو يفعَلَ شيئاً من أنْواع النُّسك سقط عنه الدمُ وإنْ عَادَ بَعْدَ فِعْل نُسُك لم يَسْقُطْ عنه الدَّم وسَوَاء في لزُوم الدَّمِ مَنْ جاوَزَ عامِداً أو جَاهلاً أو ناسياً (¬4) معذوراً بغيرِ ذلكَ وإنما يَفْتَرِقُونَ في الإِثْم فلا إثم على الناسي والجَاهلِ ويَأثَمُ العامِدُ. ¬

_ (¬1) أي وأحرم بعد المجاوزة وسواء أنوى بعدها عدم الإِحرام أم لا. وأن يكون إحرامه في تلك السنة. (¬2) أي الذي جاوزه أو لمثل مسافته فلا أثر للعود إلى أقرب منه لأنه ألزم نفسه الإحرام منه بنية النسك عند مجاوزته. (تنبيه): من خرج من مكة لزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً فزار ثم وصل ذا الحليفة، فإن كان عند الميقات قاصداً نسكاً حالاً أو مستقبلاً لزمه الإحرام من الميقات بذلك النسك أو بنظيره، وإلا لزمه الدم بشرطه، وإن كان عند الميقات قاصداً وطنه، أو غيره ولم يخطر له قصد مكة لنسك لم يلزمه الإحرام من الميقات بشيء وإن كان يعلم إنه إذا جاء الحج وهو بمكة حج أو أنه ربما حصرت له العمرة وهو بمكة فيفعلها لأنه حينئذ ليس قاصداً الحرم بما قصد له من النسك، وإنما هو قاصده لمعنى آخر واحتمال وقوع ذلك منه بعدُ لا نظر إليه، بخلاف ما إذا قصده عند المجاوزة لنسك حاضر أو مستقبل، فإنه قاصده لما وضع له، فلزمه تعظيمه به أو بنظيره لوجود المعنى الذي وضع الإحرام لأجله من الميقات فيه قاله ابن حجر في الفتاوى الكبرى. اهـ عمدة الأبرار بزيادة. (¬3) أي قبل أن يشرع في الطواف، ولو طواف القدوم كما سبق سواء أَقبل الحَجَر بنية الطواف أم لا، لأن تقبيله حينئذ مقدمة للطواف لا منه. (¬4) فإنْ قيل صورة السهو يشكل تصورها لأن الساهي عن الإِحرام يستحيل أن يكون في تلك الحالة مريداً للنسك. أجيب: تتصور فيمن أنشأ سفره من بلده قاصداً للإحرام وقصده مستمر فسها عنه حين المجاوزة والله أعلم. =

فصل في آداب الإحرام

فَصْل في آداب الإِحرام (¬1) وفيه مَسَائِلُ: أحَدهما: السُّنَّةُ أنْ يَغْتَسلَ قَبْلَ الإِحْرَام غُسلاً يَنْوي به غُسْلَ الإِحْرَام (¬2) ¬

_ = مذاهب العلماء في مسألة إذا جاوز شخص الميقات مريداً للنسك فأحرم دونه قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: (قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا جاوز الميقات مريداً للنسك فأحرم دونه أثم. فإن عاد قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم سواء عاد ملبياً أو غير ملب، هذا مذهبنا، وبه قال الثوري وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور. وقال مالك وابن المبارك وزفر وأحمد: لا يسقط عنه الدم بالعود. وقال أبو حنيفة: إن عاد ملبياً سقط الدم، وإلا فلا، وحكى ابن المنذر عن الحسن والنخعي: إنه لا دم على المجاوز مطلقاً، قال وهو أحد قولي عطاء، وقال ابن الزبير: يقضي حجته ثم يعود إلى الميقات فيحرم بعمرة، وحكى ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه لا حج والله أعلم). اهـ. (¬1) الإِحرام لغة الدخول في التحريم يقال: (أشتى) إذا دخل في الشتاء. و (أرْبَعَ) إذا دخل في (الربيع) و (أنْجَد) إذا دخل نجداً، و (أتْهَمَ) إذا دخل في تهامة، و (أصبح) و (أمسى) إذا دخل في الصباح والمساء، وشرعاً نية الدخول في النسك وسمي الدخول في النسك إحراماً لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه أشياء كانت مباحة كالنكاح والطيب والصيد واللباس، وجميع محرمات الإِحرام. (¬2) وكذا سائر الأغسال المسنونة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" ولتمييز العبادة عن العادة، قال بعضهم رحمه الله تعالى: إذا أراد الغسل للمسنونات نوى أسبابها إلا الغسل من الجنون والإِغماء فإنه ينوي به الجنابة.

وَهو مُسْتَحَب لكل مَنْ يَصح منهُ الإِحْرَام (¬1) حتى الحائض والنُّفساء (¬2) والصبي فإنْ أمكَنَ الحائض المقامُ بالميقاتِ حتَّى تَطْهر وَتَغْتَسلَ ثم تُحْرِم فَهُوَ أَفْضَلُ ويصحُّ مِنَ الحائضِ والنُّفَسَاء جميع أعْمَال الحج إلاَّ الطَّوافَ ورَكْعَتَيْهِ فإنْ عَجَزَ المُحْرِمُ عن الماء تَيَمَّمَ (¬3) وإنْ وَجَدَ ماءً لا يكفيه للْغُسْل تَوَضَّأ به ثُمَّ تَيَممَ، فَإنْ تَرَكَ الغُسْل مع إمْكَانه كُرهَ ذلك (¬4) وصح إحرَامُهُ ويُسْتَحَبُّ للحَاج الغسلُ (¬5) في عَشَرَةِ مَواضعَ: للإحْرام (¬6) ولدُخُول مكّة (¬7) ¬

_ (¬1) أي وغيره كالمجنون والصغير وليه، وينوي عنه. (¬2) أي بنية الغسل. (¬3) هو المعتمد لأن الغسل يراد به العبادة والنظافة، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، ولأن التيمم ينوب عن الواجب فالمندوب أولى وبه قالت الحنابلة رحمهم الله. وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا يستحب التيمم واختاره الموفق رحمه الله تعالى وقال: والصحيح أن التيمم غير مسنون لأنه غسل غير واجب فلم يستحب التيمم له عند عدم الماء كغسل الجمعة، والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب شرع لإباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يحصل شعثاً وتغبيراً. اهـ. وقالت الحنفية رحمهم الله: التيمم لغسل الإحرام عند العجز عن الماء ليس بمشروع لأنه ملوث إلا إذا أراد صلاة سنة الإحرام، فإنه يتيمم لها حينئذ، وعند المالكية رحمهم الله أن من لم يجد ماء يغتسل به للإحرام أو وجده ولكن خاف باستعماله ضرراً أو زيادته أو تأخير برء فإنه لا يتيمم للإحرام. اهـ. مفيد الأنام ونور الظلام للشيخ ابن جاسر رحمه الله تعالى. (¬4) مثله ما لو أحرم جنباً. (¬5) الغسل للعبادة والنظافة كما تقدم. (¬6) أي بحج أو عمرة أو بهما. (¬7) ولو حلالاً من بئر ذي طوى بفتح الطاء أفصح من ضمها وكسرها، وهذه البئر بمحلة جرول أمام مستشفى الولادة واسمها مكتوب على بابها للاتباع، ومثل دخول مكة دخول الحرم المكي والمدني، والمدينة المنورة والكعبة وهذا الغسل وجميع الأغسال تسن ما لم يتقدم غسل قريب مطلوب هذا حيث لم يحدث تغير كأن خرج من مكة فأحرم بعمرة =

وللوقوفِ بِعَرَفَةَ (¬1) وللْوُقُوف بمُزْدَلِفَةَ (¬2) بعدَ الصبْح يَوْمَ النَّحْرِ ولِطَوَاف الإِفَاضَةِ وللْحلق وثَلاَثَةُ أغْسَالٍ لرَمْي جمار أيامِ التَشْرِيق (¬3) وِلَطَوَاف الودَاع ويَسْتَوي في اسْتحْبَابَها الرجُلُ والمَرْأةُ والحائضُ (¬4) ومَنْ لم يجدْ ماءً فحكْمُهُ ما سَبَقَ (¬5). المَسْألَة الثَّانيةُ: يُسْتَحَب أنْ يَسْتكملَ التنْظيف بحَلْق العَانة (¬6) وَنَتْفِ الإِبط وَقَصِّ الشَّارب وَتَقْليم الأَظفَار ونحوها ولَو حَلَقَ الإِبطَ بَدَلَ النَّتفِ ونتف العَانةَ فَلاَ بأس. ¬

_ = من التنعيم واغتسل للإحرام، فلا يسن الغسل للدخول وإلا فيسن مطلقاً، ولا يضر الفصل بين الغسل والإِحرام بزمن قليل لا يغلب فيه التغيير بخلاف التيمم لأن المدار فيه على العبادة لا النظافة ويؤيد ذلك قول القاضي عياض رحمه الله إنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بالمدينة عند خروجه لذي الحليفة ثم أحرم منها، ولو فات هذا الغسل ندب قضاؤه بعد الدخول وكذا بقية الأغسال والله أعلم. (¬1) الأفضل كون الغسل "بنمرة" بعد الزوال ويدخل وقته بالفجر كالجمعة. (¬2) أي بمشعرها ويدخل وقته بنصف الليل كغسل العيد فقوله بعد الصبح ظرف للوقوف، لا للغسل. (¬3) الظاهر دخول وقته بالفجر كغسل الجمعة بجامع أن كلا يفعل لما بعد الزوال. (¬4) لا يأتي في الحائض ما ذكر من الطواف ومثلها في هذا الباب النفساء كما أشار إليه المصنف رحمه الله فيما مر. (¬5) أي من التيمم، فإن وجد من الماء بعض ما يكفيه فالذي يتجه أنه إن كان ببدنه تغير أزاله به وإلا فإن كفى الوضوء توضأ به، وإلا غسل بعض أعضاء الوضوء، وحينئذ إنْ نوى الوضوء تيمم عن باقيه غير تيمم الغسل وإلا كفى تيمم الغسل، فإن فضل شيء عن أعضاء الوضوء غسل به أعالي بدنه. (¬6) حلق العانة وما عطف عليه محله لغير مريد التضحية في عشر ذي الحجة ووقته قبل الغسل، ويسن الجماع قبل الإِحرام ويتأكد لمن يشق عليه تركه.

الثَّالِثَةُ: يَغْسلُ رَأسَهُ بسِدر أو خطْمِيّ أو نَحوه وُيسْتَحَبُّ أن يُلَبِّدَه (¬1) بصَمْغ أو خطْمي أو غاسُول ونَحْوه. الرابعة: يَتَجَرَّدُ (¬2) عَنْ الملْبُوس الذي يَحْرمُ عَلَى المحرم لِبْسُهُ ويَلْبَسُ إزاراً ورداءً والأفْضَلُ أنْ يكونا أبْيَضَيْن (¬3) جَدِيدَيْن أو نَظِيفَيْن (¬4) وَيُكْرَهُ المصبُوغُ (¬5) ¬

_ (¬1) أي بأن يعقص شعر رأسه ويضرب عليه بصمغ أو خطمي أو غاسول أي أشنان لدفع نحو القمل وإن طال زمنه واعتاد الجنابة أو الحيض. (¬2) أي الرجل لا الخنثى لأنه - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله فلو أحرم في ثيابه المحيطة صح إحرامه وعليه الفدية كما سيأتي إن شاء الله في الباب السابع وصريح كلام المصنف رحمه الله أن التجرد سنة لكنه مشى في المجموع كالرافعي في العزيز أنه واجب وعند الحنفية التجرد مستحب وليس بواجب قبل الإِحرام حتى لو أحرم وهو لابس ينعقد ويكره، وعند المالكية التجرد عن المحيط واجب، وعند الحنابلة واجب وليس بشرط. (¬3) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير ثيابكم البياض" الحديث رواه الطبراني رحمه الله تعالى. (فائدة): لا يضطبع المحرم حال الإِحرام وإنما يُسَن الاضطباع له حال الطواف وهو أن يجعل الذكر وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ويترك منكبه الأيمن مكشوفاً كما سيأتي، ولا بأس أن يُبَدل المحرم الإِزار والرداء بغيرهما، قال الإِمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وقال إبراهيم النخعي: لا بأس أن يبدل المحرم ثيابه. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الفتح أي يغير المحرم ثيابه ما شاء والله أعلم. (¬4) في بعض الكتب: (جديدين وإلا فنظيفين ويجوز إحرامه في ثوب واحد بعضه على عاتقه). (¬5) أي ولو قبل النسج على المعتمد، ومحله إن وجد البياض، وإلا فما صُبغ قبل النسج أولى مما صبغ بعده لأن هذا لم يلبسه - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الأول، فقد روى البيهقي رحمه الله أنه - صلى الله عليه وسلم - كان له برد أخضر يلبسه في العيدين والجمعة، ومحله أيضاً في غير المعصفر والمزعفر لحرمة لبسهما على كلام في المعصفر وإنما كرهوا هنا المصبوغ =

وَيَلْبَسُ نعلين (¬1) ثمّ يَتَطَيَّبُ (¬2). والأَولَى أَنْ يقْتَصر على تَطْييب بَدَنه دُون ثِيابِهِ (¬3) وأنْ يكونَ بالمِسْكِ (¬4) ¬

_ = بغيرهما مطلقاً بخلافه في نحو الجمعة لأن المحرم أشعث أغبر فلم يناسبه المصبوغ مطلقاً، وهل يكره المصبوغ بعضه، وإن قل؟ قال العلامة المحقق ابن حجر المكي رحمه الله: فيه نظر، ولا يخفى أنه خلاف الأولى. (¬1) أي لما رواه أبو عوانة رحمه الله في صحيحه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" وصححه ابن المنذر رحمه الله تعالى. ويشترط في النعلين أن لا يحرمان بالإِحرام نحو التاسومة والمداس المعروف من كل ما يظهر منه رءوس الأصابع والعقب فإن فقده حسَّاً أو شرعاً واحتاج لوقاية الرجل كأن كان الحفاء غير لائق به فليلبس ما يستر الأصابع أو العقب كخف قطع أسفل كعبيه. (¬2) أي في بدن لغير الصائم والبائن فيكره لهما، إلا إذا كانت لهما رائحة يُتأذى بها وتوقفت إزالتها على تطييبهما ولغير المحِدة فيحرم عليها. (¬3) أي اتفاقاً وهو المعتمد ويُباح الطيب في إزاره وردائه وغيرهما على الأصح قياساً على البدن، قال في التحفة: لكن المعتمد ما في المجموع أنه لا يندب تطيبه جزماً للخلاف القوي في حرمته، ومنه يؤخذ أنه مكروه كما هو قياس كلامهم رحمهم الله في مسائل صَرّحوا فيها بالكراهة. اهـ. ومذهب الحنابلة رحمهم الله كالشافعية رحمهم الله، وعند الحنفية رحمهم الله يتطيب، والأفضل بما لا يبقى أثره، والأولى عندهم أن يطيب ثيابه، وعند المالكية رحمهم الله يكره لمريد الإِحرام أن يتطيب، واحتجوا بحديث يعْلى بن أمية رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -يعني ساعة- ثم قال: "اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك" متفق عليه، ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع عندهم من استدامته، وحجة الثلاثة قول عائشة رضي الله عنها: (كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ولما سيأتي عنها أيضاً قال العلامة الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قضية صاحب الجبة كانت عام حنين والجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر أي فهو ناسخ. اهـ. (¬4) أي لأنه الذي تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - التطييب به بخلاف غيره بل يكره التطيب بالزباد =

والأَفْضَلُ أنْ يَخْلطَهُ بماء الورْد أو نَحْوِه لِيذْهَبَ جِرْمه ويَجُوزُ بما يَبْقى جرْمَهُ (¬1) ولهُ اسْتِدَامَةُ لبس ما بقي جِرْمُهُ بعدَ الإِحْرام على المذهبِ الصَحيح ولو انْتَقَلَ الطِّيبُ بعدَ الإحْرام مِنْ مَوضع إلى مَوْضع بالْعَرَق ونحوهِ لم يَضُرّ (¬2) ولا فِدْيةَ عليه على الأَصَحِّ وقيلَ عليه الفِدْيةُ إنْ تركَهُ بعد انتقاله ولَوْ نَقَلَهُ باخْتيارِه أو نَزَعَ الثَّوْبَ المُطَيب ثم لبسَهُ لزمه الفديةُ (¬3) علَى الأَصحِّ وسَوَاء فيما ذَكَرْناهُ من الطِّيبِ الرَّجُلُ والمَرْأةُ (¬4) وَيُسْتَحَب للمرْأة (¬5) أنْ تَخْضِبَ يَدَيْها بالحنَّاء إلى الكُوعَيْن قبْلَ الإحْرَام وَتَمْسَحَ وجْهَها بشيء من الحناء لتَسْتُرَ الْبَشَرَةَ لأَنَّها مأمُورَة بكَشْفها وسَوَاء في اسْتحباب الخضاب المُزَوَّجةُ وغَيْرُها والشابَّةُ والعَجُوزُ وإذا خَضَبَتْ عَممت اليَدَين ويُكْرَهُ النَّقْش والتَّسْويدُ وَالتطْريفُ وهو ¬

_ = لأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول بنجاسته، قيل: ولأنه طيب النساء. اهـ حاشية. (¬1) أي لقول عائشة رضي الله عنها الذي رواه البخاي ومسلم: (كأني أنظر إلى وبيص) أي لمعان الطيب وبريقه (في مفرق) بكسر الراء وسط رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وهو محرم). (¬2) لحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو داود رحمه الله: (كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإِحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاها) وفي رواية: (ولا ينهانا). (¬3) إن بقيت رائحة الطيب ولو بظهورها عند رش الماء عليه وتتكرر الفدية بتكرر النقل والنزع كما يعلم مما يأتي، أما لو تعطر ثوبه بما على بدنه فتبقى ريحه فيه لم يضر نزعه ثم لبسه. (¬4) أي للحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها السابق: كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإِحرام ... الحديث. (¬5) أي غير المحدة فخرجت هي والخنثى والرجل فيحرم عليهم الخضاب إلا للضرورة والبائن فلا يسن لها الخضاب.

خضْبُ بَعْض الأصابع (¬1) ويُكْرَهُ لَهَا الخِضَابُ بَعْدَ الإِحْرام (¬2). والخامسة: ثُم بَعْدَ فِعلهِ ما ذَكَرْنَاهُ يُصَلي ركْعَتَين يَنْوي بهما سُنةَ الإِحْرام يقْرَأ فيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (¬3) فإنْ كان هُنَاكَ مَسجد صَلاهُمَا فيه فإنْ أحرَمَ في وَقت فَريضَة فصلاهَا أغْنَتْهُ عن رَكْعَتَي الإِحرام (¬4) ولو صَلاهُمَا مُنْفردتَيْن عن الفَريضَة كانَ أفْضَل فإنْ كَانَ الإِحْرَامُ في وَقْت كَرَاهَة الصَّلاَة لم يُصَلهِمَا (¬5) على الأصَحِّ ويُسْتَحَب أنْ يُؤَخرَ الإِحْرَام إلى خُرُوج وَقْت الكَرَاهَةِ ليُصَليهما. السادسة: إذا صَلى أحْرَمَ وفي الأَفْضَلِ من وَقت الإِحْرَام قَوْلان للشَّافعِي رحمهُ اللهُ تَعالى: أحَدُهمَا: الأفضَلُ أنْ يحرمَ عَقيبَ الصَّلاَة وَهُوَ جَالِس (¬6). ¬

_ (¬1) أما الخضاب بالسواد والنقش وتطريف بعض الأصابع به وتحمير الوجنة فجائز لحليلة أذن لها حليلها، فإن كانت خليّة أو لم يأذن لها ولا علمت رضاه حرم. اهـ حاشية. (¬2) قال في الحاشية: في الكراهة نظر إنْ كان بالحناء لوجهها أو يديها وقصدت به سترهما تداركاً لما فوتته من ندب فعل ذلك قبل الإحرام بل لو قيل بالندب في هذه الصورة لم يبعد. اهـ. (¬3) وجه مناسبتهما اشتمالهما على إخلاص التوحيد بالقصد إلى الله تعالى المتأكد على المحرم مراعاته. (¬4) مثلها كل نافلة فتجزىء عنها في إسقاط الطلب وكذا في حصول الثواب إنْ نويت نظير ما مر من صلاة الاستخارة. اهـ حاشية. (¬5) هو المعتمد لتأخر سببهما. (¬6) وبه قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد وداود رحمهم الله، قال في الحاشية ويدل له حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم -: (أهل في دبر الصلاة) رواه الأربعة وحسنه الترمذي وصححه =

والثاني: أنْ يُحْرِمَ إذا ابْتَدأ السير راكباً كان أو ماشياً (¬1) وهذا هو الصَّحيحُ (¬2) فَقَدْ ثَبَتَ فيه أحادِيثُ مُتَّفَقٌ على صحتهَا والحديثُ الواردُ بالأَوَّلِ فيه ضعْفٌ ويُسْتَحَبُّ أنْ يَسْتَقْبِلَ القبلَةَ عنْدَ الإِحْرَام. وَأما المكّيُّ فإنْ قُلْنَا الأَفْضَلُ أنْ يُحْرمَ من بَاب دَاره صَلَّى رَكْعَتَين في بيته ثُمَّ يُحْرمُ عَلَى بابه ثُمَّ يَدْخُلُ المسجد ويَطُوفُ ثُمَّ يَخْرُجُ، وإنْ قُلْنَا يُحْرمُ مِنَ المسْجد دَخَلَ المسجد وطَافَ ثم صَلَّى رَكْعَتَين ثُمَّ يُحْرمُ قَريباً مِنَ الْبَيْت كما سَبقَ (¬3). ¬

_ = الحاكم على شرط مسلم لكن ضعفه البيهقي وجزم به المصنف هنا. وقال السبكي رحمه الله: لولا كثرة الأحاديث واشتهارها بإحرامه - صلى الله عليه وسلم - عند إنبعاث راحلته لكان في هذا زيادة علم عليها. اهـ. (¬1) هذا معنى انبعاث الراحلة الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المروي في الصحيحين: (لم أرَ رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته). (¬2) وبه قال الإمام مالك والجمهور وقال الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وداود رحم الله الجميع إذا فرغ من الصلاة وهو القول الأوَل للشافعي رحمه الله وقد تقدم مع دليله. (¬3) المعتمد ما تقدم في التعليق على الباب الثاني في الإحرام مع أنه يُسَن له أي المكي أولاً ركعتا الإِحرام بالمسجد ثم يأتي إلى باب داره فيحرم عند أخذه في السير بنفسه أو دابته إذ الإِحرام لا يُسَن عقب الركعتين بل عند الخروج إلى عرفة ثم يدخل المسجد محرماً لطواف الوداع المسنون له ولكل من أراد الخروج من مكة لغير مسافة القصر إلى غير وطنه.

فصل في صفة الإحرام وما يكون بعده

فَصْلٌ في صفة الإِحرام (¬1) وما يكون بعده صفَةُ الإِْحْرَام أنْ يَنْويَ بقْلبهِ الدُّخُولَ في الحَج والتلَبس به (¬2) وإنْ كانَ مُعْتمراً نَوَى الدُّخُولَ في العُمْرَة وَإنْ كانَ قَارناً نَوَى الدُّخُولَ في الْحَج وَالْعُمْرَةِ وَالْوَاجِبُ أنْ يَنْوِيَ هَذَا بقلْبه (¬3) ولا يجبُ التلَفظُ به ولا التلبيةُ ولكن الأفْضلُ أنْ يتلَفّظ به بلسَانه وأَن يُلبّي (¬4) لأَنَّ بَعْضَ العُلَماء قال: لاَ يصح الإِحْرَامُ حَتى يُلبي (¬5) وبه قَالَ بَعْضُ (¬6) أصْحَاب الشَّافعي رَحمَهُمُ الله تَعَالَى فالاحْتِيَاطُ أنْ ¬

_ (¬1) أي الصفة المحصلة للإحرام وهو إما يطلق ويراد به النية ومنه قولهم الإحرام ركن، أو الصفة المحصلة للداخل في النسك بشرط النية وهي التي يفسدها الجماع قبل التحلل وتبطلها الردة وليست التجرد. ومنه قولهم لا يصح الإِحرام إلا بالنية وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في التعليق على الباب الثاني. (¬2) هذا بالنسبة لمريد التعيين، أما مريد الإطلاق فصفة إحرامه أن ينوي بقلبه الدخول في النسك من غير تعيين حج ولا عمرة كما سيذكر إن شاء الله تعالى. (¬3) لعموم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬4) مستقبلاً القبلة لفعله - صلى الله عليه وسلم - ولنقل الخلف عن السلف وهو مذهب الحنابلة وأبي يوسف كالشافعية. (¬5) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا ينعقد الإحرام إلا بالنية مع التلبية أو مع سوق الهدي واحتج بأنه - صلى الله عليه وسلم - (لَبّى) وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" وحمل الأولون أحاديث التلبية على الاستحباب وعند المالكية حقيقة الإحرام نية النسك وينعقد بمجرد النية على الراجح عندهم ولو لم يحصل قول ولا فعل يتعلقان به من تلبية وتجرد من المحيط ومقابل هذا قول العلامة خليل رحمه الله تعالى مع قول أو فعلٍ تعلقا به، وحكى الخطابي رحمه الله وجوب التلبية عن مالك رحمه الله تعالى. (¬6) قال أبو عبد الله الزبير من الشافعية المتقدمين لا ينعقد الإِحرام إلا بالنية والتلبية كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبير.

ينْوِيَ بقَلبه ويقُولَ بلسانه وَهُوَ مُسْتَحضرٌ نية القلْب: نَوَيْتُ الحجّ وأَحرمت به لله تَعَالى لَبيْكَ اللَّهُمَّ لَبيْكَ إلَى آخر التلبية، وإنْ كَانَ حَجهُ عَنْ غَيْره فَلْيقُل: نَوَيْتُ الحَج عَنْ فُلاَن وَأحْرَمْتُ به لله تَعَالَى عَنْهُ لبيكَ عَنْ فُلاَن إلَى آخر التَّلْبِية. قَال الشَّيْخُ أبُو مُحَمَّد الجُويني: وَيُسْتَحَب أنْ يُسَميَ في هَذه التلبية ما أحْرَمَ به من حَج أوْ عُمْرة فَيقُول: لَبيكَ اللَّهُمَّ بحجة لبيكَ إلَى آخرها (¬1) أو لبيكَ اللَّهُمَّ بعُمرة أو بحَجَّة وعُمْرة قالَ: ولا يَجْهَرُ بهذه التلْبية (¬2) بل يُسْمعُهَا نفسه بخلاف ما بَعْدها فإنّه يَجْهَرُ به وأما ما بعدَ هذهِ التلبيةِ فهل الأَفْضَلُ أنْ يذْكُرَ ما أَحْرَمَ به في تَلْبيته (¬3) أم لا؟ فيه خِلاَفٌ (¬4) والأَصَحُّ أنَّهُ لا يَذكُرُه وقد وَرَدَ الأَمْرَان في الحديثِ وأَحَدُهمَا (¬5) مَحْمولٌ على الأَفْضَلِ والآخَر (¬6) لبيَان الجَوَاز. (فرع): لو نوى الحج ولبى بعمرة أو نوى العمرة ولبّى بالحج أو نَواهُمَا وَلَبّى بأحَدِهما أو عكْسُهُ فالاعْتِبَار ما نَوَاهُ دُونَ ما لَبى به. ¬

_ (¬1) صوبه المصنف رحمه الله في الأذكار وأقره في المجموع وقال: لأنه الموافق للأحاديث. (¬2) أي التلبية الأولى. (¬3) أي التي بعد الأولى. (¬4) قال الإِمام أبو محمد الجويني رحمه الله تعالى كما في المجموع: هذا الخلاف فيما سوى التلبية الأولى، فأما الأولى التي عند ابتداء الإِحرام فيستحب أن يسمى فيها ما أحرم به من حج أو عمرة وجهاً واحداً، قال: ولا يجهر بهذه التلبية بل يسمعها نفسه بخلاف ما بعدها، فإنه يجهر. (¬5) هو ما رواه البيهقي عن نافع بإسناد صحيح قال: سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أيسمي أحدنا حَجاً أو عمرة؟ فقال: أتنبئون الله بما في قلوبكم؟ إنما هي نية أحدكم. (¬6) هو ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لبيك بحجة وعمرة".

(فرع): لو نَوَى حَجتَيْن أو عُمْرَتين انْعَقَدَت إحْدَاهُما ولم تَلْزَمْهُ الأخرى. (فرع): لهُ فيما يُحْرِمُ به أربعة أوجهٍ (¬1): الإِفْرَاد والتَّمتعُ وَالقِرَانُ والإِطْلاَقُ. فأَمَّا الإِفْرَادُ فهُوَ أنْ يُحْرمَ بالْحَج في أشْهُرِهِ مِنْ ميقَات طَريقهِ ثُمَّ إِذا فَرَغَ منْهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّة زَادَها الله شَرَفاً فأحْرَمَ بالْعُمْرَة مِنْ أَدْنَى الْحِل وَيَفْرُغُ فهذ صُورَته المُتفَق عليها ولَهُ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فيها سَيَأتي بيانها إنْ شَاءَ الله تعالى. وأَمّا المُتَمَتعُ فهو الذي يُحْرِمُ بالعُمْرَةِ مِنْ ميقَاتِ بَلَدِهِ (¬2) ويَفْرُغ منها ثم يُنْشىءُ الْحَج مِنْ مَكَةَ (¬3) يُسمَّى متمَتِّعاً لاسْتمتاعه بمَحْظُورات الإِحْرام بينَ الحج والعُمرَةِ فإنَّهُ يَحِل له جميعُ المحظُورات إذا فَرَغ مَنْ العُمْرَة سَوَاءٌ كان ساقَ هَدْياً أم لم يَسُقْه (¬4). وأَمَّا القِرَانُ فهو أن يُحْرِمَ بالحجِّ والْعُمْرَة جَميعاً فَتَنْدَرجُ أفعالُ العُمْرَة في أفعال الحج ويَتَّحَدُ الميقَاتُ والفعلُ فَيُجْزِي عنهما طَوافٌ واحدٌ وسَعيٌ واحدٌ وَحَلْقٌ واحد ولا يزيدُ على ما يفْعَلُهُ مُفْرِدُ الحَج ¬

_ (¬1) قال في الحاشية: زاد ابن جماعة رحمه الله خامساً وهو الإِحرام بما أحرم به الغير ولا زيادة لأن ما أحرم به الغير لا يخلو عن هذه الأربعة. اهـ. (¬2) مثله ما إذا جاوز ميقات بلده مريداً للنسك ثم أحرم وقد بقي بينه وبين مكة أو الحرم مرحلتان. (¬3) شرط في وجوب الدم لا في تسميته متمتعاً إذ لو عاد وأحرم بالحج من الميقات كان متمتعاً ولا دم عليه. (¬4) فُهم من هذا الكلام إن هذا وجه تسميته متمتعاً لا لإلزامه بالدم لأن سبب لزوم الدم له كونه ربح ميقاتاً كما يأتي وقوله لاستمتاعه أي لتمكنه من ذلك وإن لم يفعله.

أصْلاً (¬1) ولو أحْرَمَ بالْعُمْرَة وَحْدَها في أشْهُر الحَج (¬2) ثُم أحْرَمَ بالحَجِّ قَبْلَ الشُرُوع في طَوَافها (¬3) صَحَ إحْرَامُهُ به أيضاً وصارَ قارِناً (¬4) ولا يَحْتَاجُ إلى نيةٍ للقِران ولو أحْرَمَ بالْحَجّ أوّلاً ثم أحْرَمَ بالعُمْرَةِ قبل شُرُوعِهِ في أفعال الحج لم يصحّ إحْرامُه بها على القوْل الصَّحيح (¬5) ولو أحرَمَ بالعُمرةِ قبلَ أشْهُر الْحجِّ ثمَّ أحْرَمَ بالحَجِّ في أشْهُره قبل شُرُوعه في طَوَاف العُمْرة صَحّ إحْرَامُهُ به وصَارَ قارناً على الأصَحِّ. وأمّا الإِطْلاَقُ فَهُوَ أنْ يَنْوِيَ نَفْسَ الإِحْرَام ولا يقصدُ الحَجَّ ولا الْعُمْرَة ولا القِرَانَ فَهُوَ جائزٌ بِلاَ خِلاف (¬6) ثُم يُنْظرُ فإنْ كان إحْرَامُهُ في أشْهُر الحَج فَلَهُ صَرْفُهُ إلى مَا شَاء مِنْ حَج أو عُمْرَة أو قِرَانٍ (¬7) وَيكُونُ الصَّرْفُ والتَّعْيينُ بالنيَّة ¬

_ (¬1) وكذا عند الحنابلة والمالكية لقول عائشة رضي الله عنها: (وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) متفق عليه، وعند الحنفية طوافان وسعيان، وإذا فعل القارن محظوراً فعليه فديتان والله أعلم. (¬2) مثله الإِحرام بالعمرة قبل أشهر الحج ثم إدخاله عليها في أشهره كما سيصرح به. (¬3) أي ولو بخطوة بخلاف مقدمته كاستلام الحجر وكذا النية لا تضر. (¬4) هو المعتمد وشمل كلام المصنف رحمه الله ما لو أفسد العمرة ثم أدخل عليها الحج فينعقد إحرامه به فاسداً ويلزمه المضي وقضاء النسكين وعليه بدنة ودم للقِران، وبحث العلامة عبد الرؤوف حرمة إدخاله عليها حينئذ لأنه تلبس بعبادة فاسدة. (¬5) لأنه لا يستفيد بالإدخال شيئاً بخلاف الأول فإنه يستفيد به الوقوف والرمي إلى آخره. (¬6) لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه المتفق عليه قال: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف أهللت؟ " قال قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحسنت". (¬7) أي إنْ صلح الوقت للحج والعمرة فإن لم يصلح الوقت لهما بأن فات وقت =

بالْقَلْب لا باللفظ ولاَ يُجْزيه الْعَمَلُ قبلَ النية (¬1) وإنْ كَانَ إحْرَامُهُ قَبْلَ أَشْهُر الحج انعقَدَ إحْرَامُهُ عُمْرَة. واعلم أَنْ هَذ الأَوْجُهَ الأَرْبَعَةَ جَائِزَة باتفاق الْعُلمَاء رحمهم الله (¬2) وأَمَا الأَفْضَلُ مِنْ هذه الأَوْجُه فَهُوَ الإِفْرَاد (¬3) ثَُم التَّمَتُّعُ ثُمَّ القِرْانُ والتعيْينُ عند ¬

_ = الحج صرفه للعمرة وجوباً عند العلامة الرملي رحمه الله، وعند العلامة ابن حجر يجوز صرفه للحج فيتحلل بعمل عمرة ولا تجزئه عن عمرة الإسلام أو ضاق الوقت بأن كانوا لا يصلون لعرفة قبل طلوع فجر يوم النحر كان كمن أحرم بالحج حينئذ فمقضي ما مَرّ انصرافه للعمرة عند الرملي وصرفه لما شاء عند ابن حجر .. ولو أفسد الإِحرام قبل الصرف فأيما صرف إحرامه إليه كان فاسداً حيئذ. (¬1) أي الصارفة حتى لو طاف ثم صرف الإِحرام للحج لم يقع الطواف عن القدوم إلا من جهة أنه تحية البيت لعدم توقفها على إحرام فلا يجزئه السعي بعد هذا الطواف وليس له إعادته ليسعى بعده لسقوط طلبه بفعله الأول فتعين تأخير السعي إلى بعد طواف الإفاضة والله أعلم. (¬2) لحديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل" الحديث، ولحديث أبي موسى رضي الله عنه المتفق عليه قال: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف أهللت؟ " قال قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "أحسنت". (¬3) أي عند الشافعية والمالكية وعند الحنفية القران أفضل وعند الحنابلة التمتع أفضل وسبب اختلافهم: اختلافهم فيما فعل به عليه الصلاة والسلام. فالشافعية والمالكية اعتمدوا حديث عائشة: (وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج) وحديث جابر رضي الله عنه المتفق عليه قال: (أهللنا -أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- بالحج خالصاً وحده) الحديث، واعتمد الحنفية من الأحاديث حديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعاً وغيره من الأحاديث، واعتمد الحنابلة حديث الصحيحين: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم).

الإِحْرَام أفضَلُ مِنَ الإِطْلاَق (¬1). واعلم أن القِرَانَ أفْضَلُ مِنْ إفْرَاد الحجِّ مِنْ غَيْر أنْ يَعْتمرَ بَعْدَهُ في سنَته (¬2) فإن تأخيرَ الْعُمْرَة عن سنةِ الْحَجِّ مَكْرُوه. ويَجِبُ عَلَى الْقَارن والمتمتِّع دَمُ شاة (¬3) فَصَاعداً (¬4) صفَتُهَا صفةُ الأُضحية ويُجْزيه سُبْعُ بَدنَة أو سُبْع بقَرَة فإنْ لم يَجِد الْهَدْيَ في مَوضعه أو وَجَدَهُ بأكْثَر من ثمن المثل (¬5) لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلاَثَةِ أيَّام في الحَجِّ وسَبْعَة إذا رَجَعَ إلى أهله ¬

_ (¬1) أي لأنه إذا عين عرف ما دخل فيه، وقيل: الإطلاق لأنه أحوط فإنه ربما عرض مرض أو إحصار فيصرفه إلى ما هو أسهل عليه. (¬2) أي ما بقي من شهر ذي الحجة الذي هو شهر حجه. (¬3) أما وجوب الدم على المتمتع لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وأما وجوبه على القارن فلأن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أوجباه ولأنه إذا وجب على المتمتع لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى. (تنبيه): الدم الواجب حيث أطلق فهو شاة فإنْ كان من الضأن فجذع ذو سنة، فإن أجذع قبلها بعد ستة أشهر كفى، وإن كان من المعز فذو سنتين، أو سُبع بدنة أو بقرة ملكه حياً وسن الأولى خمس سنين والثانية كالمعز، والسبع يقوم مقام الشاة في سائر الدماء إلا في جزاء المثل من صيد وشجر بل لا تجزىء البدنة عن شاته لاعتبار المثل فلو نحر بدنة أو بقرة عن سبع شياه لزمته بأسباب مختلفة جاز والله أعلم. (فائدة): قد يجب الدم على غير محرم كالدم اللازم للمستأجر بسبب تمتع الأجير وقرانه عنه بإذنه، وكالدم اللازم للولي بسبب تمتع الصبي وقِرانه وإحصاره، وارتكاب المميز لسائر المحظورات. (¬4) أي فبقرة فواحدة من الإبل وليس مراده فشاتين فأكثر لأن الزائد على الواحدة لا يقع واجباً. (¬5) مثله ما لو احتاج إليه أو إلى ثمن مثله كما سيأتي في باب الدماء آخر الكتاب.

وإِنَّمَا يَجِبُ الدَّمُ على المُتَمَتع بأرْبَعة شُرُوط: أن لا يَعُودَ إلى ميقَات بَلَده لإحْرَام الحَج (¬1) وأنْ يكُونَ إِحْرَامهُ بالعُمْرَة في أشْهُر الْحَج (¬2) وأنْ يَحُجَّ من عامِهِ وأنْ لا يكون مِنْ حاضري المسْجِد الْحَرَام (¬3) وهم أهْلُ الْحَرَم ومَنْ كانَ منه عَلَى أقَل مِنْ مَرْحَلَتَيْن (¬4). ¬

_ (¬1) أي إن كان إحرامه بالعمرة، وإلا بأن جاوز ميقات بلده غير مريد للنسك ثم أحرم من حيث عَن له لم يحتج للعود إلا لمحل إحرامه أو مثل مسافته لأنه ميقاته فلا يكلف أبعد منه، وكعوده لميقات بلده -عوده لمثل مسافته أو لميقات آخر- ولو أقرب منه أو إلى مرحلتين من الحرم قبل تلبسه بنسك ولو بعض طواف القدوم بأن أحرم بالحج خارج مكة مثلاً ثم دخل إليها ثم طاف بعض طواف القدوم ثم خرج إلى الميقات بعد طواف القدوم سواء أعاد إليه، وأحرم منه أم عاد إليه محرماً إذ القصد قطع تلك المسافة محرماً. فإن قيل: كما تقدم يسقط الدم عن المتمتع إذا عاد أي إلى ميقات ولو أقرب، ولا يكفي المجاوز العود إلى الأقرب. أجيب كما تقدم: إنما سقط الدم عن المتمتع بعوده لميقات أقرب لأن المدار على كونه ربح ميقاتاً ورجوعه إلى الأقرب محقق انتفاؤه والمدار في المجاوز للميقات على الإِساءة أصالة وانتفاؤها بالرجوع إلى الأقرب لا يتحقق فوجب الرجوع إلى ميقاته أو إلى مثله والله أعلم. (فرع): أحرم آفاقي بالعمرة في أشهر الحجٍ وأتمها ثم قرن من عامه لزمه دمان كما قاله البغوي رحمه الله دم للتمتع ودم للقران خلافاً للسبكي والإِسنوي وغيرهما رحمهما الله المصوبين لزوم دم واحد للتمتع فقط لأن من وصل مكلة فقرن فهو حاضر، وعلى تقدير عدم لحوقه بالحاضر فدم التمتع والقران متجانس فيتداخلان. (¬2) يفهم منه أنه لو أحرم آخر جزء من رمضان لم يلزمه دم، وهو كذلك بل له ثواب عمرة في رمضان لكن دون ثواب من أتى بجميع أفعالها فيه. (¬3) أي حين إحرامه بالعمرة بأن لا يكون حال تلبسه متوطناً بالحرم أو قريباً منه. (¬4) هو المعتمد عند الشافعية رحمهم الله تعالى. وقال مالك رحمه الله تعالى: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حاضروا المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى وما كان مثل ذلك من مكة. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: هم أهل المواقيت فمنْ دونهم إلى مكة، وعنده لا يقع منهم التمتع وكره مالك ذلك والحنابلة كالشافعية رحم الله الجميع ورحمنا معهم آمين. قال في الحاشية: والعبرة بالوطن فلو توطن غريب محلاً بينه وبين الحرم دون مرحلتين فلا دم أو مكي محلاً بينه وبين الحرم مرحلتان فالدم ولا أثر لمجرد نية الاستيطان ومَنْ له مسكنان أحدهما قريب من الحرم اعتبر ما إقامته به أكثر ثم ما به أهله وماله دائماً أو غالباً، فإن كان كل بمحل اعتبر الأهل كما ذكره المحب الطبري رحمه الله وحصر المراد بهم الزوجة والأولاد والمحاجير ثم ما عزم على الرجوع إليه للإقامة فيه ثم ما خرج منه، فإن استويا في كل شيء اعتبر محل إحرامه، ويؤخذ من اعتبارهم رحمهم الله فيمن له مسكنان ما إقامته به أكثر أن من لمسكنه طريقان إلى الحرم، إحداهما على دون مرحلتين، والأخرى على مرحلتين اعتبر ما يكون سلوكه له أكثر ويحتمل أنه حاضر مطلقاً لأن منزله يصدق عليه أنه على دون مرحلتين، ولا نظر لكونه يصدق عليه أنه على أكثر من ذلك لأن الأصل براءة الذمة من الدم. اهـ. مذاهب العلماء في مسائل مأخوذة من مجموع المصنف رحمه الله تعالى (منها): إذا أحرم شخص بالعمرة في غير أشهر الحج، وفعل أفعالها في أشهره فالأصح عند الشافعية أنه ليس عليه دم التمتع، وهو قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه وقتادة وأحمد وإسحق وداود والجمهور رحمهم الله. وقال الحسن والحاكم وابن شُبرمة: يلزمه. (ومنها): إذا عاد المتمتع لإحرام الحج إلى الميقات سقط عنه دم التمتع عند الشافعية وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يسقط. (ومنها): قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع العلماء على أن من دخل مكة بعمرة في أشهر الحج مريداً للمقام بها ثم حج من مكة أنه متمتع يعني وعليه الدم. (ومنها): إذا خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة ثم عاد وأحرم بالعمرة منه أو من ميقاته وحج من عامه فلا دم عليه عندنا، وقال طاووس: يجب. اهـ. قال ابن قدامة =

فَإنْ فُقدَ أحَدُ هذه الشُّرُوطِ فَلا دَمَ عَلَيه وهُوَ مُتَمَتعٌ على الأَصَح وقيل. يَكُونُ مفْرداً وإنمَا يَجِبُ الدَّمُ على الْقَارنِ بَشْرَطَين أنْ لا يَعُودَ إلى الميقَات (¬1) بعد دُخُول مَكَّةَ (¬2) وقيل: يَوْم عَرَفَةَ (¬3) وأنْ لا يكُونَ مِنْ حاضرِي الْمَسْجِد الْحَرَام. ¬

_ = رحمه الله في مغنيه: وإن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة فاعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحج من عامه فهو متمتع عليه دم، نص عليه أحمد. (¬1) أي الذي أحرم منه أو إلى مثل مسافته أو ميقات آخر من المواقيت الخمسة أو مرحلتين من الحرم نظير ما مر في المتمتع الملحق به القارن. (¬2) يفهم أنه لو عاد قبل دخول مكة لم يسقط الدم وهو على الأوجه لوجوب قطع كل المسافة بين مكة والميقات لكل من النسكين، وأنه لو أحرم بالعمرة من الميقات ودخل مكة ثم رجع إليه قبل الطواف فأحرم بالحج لم يلزمه دم وإن كان قارناً. (¬3) أي وقبل الوقوف بعرفة فلو كاد بعده استقر الدم. قال في الحاشية رحمه الله: ومقتضى كلامه أنه لو عاد قبل يوم عرفة فلا دم، وإنْ طاف للقدوم. قال بعضهم: وهو المذهب، ونوزع بما لا يجدي، وقياسه أن العود ينفعه وإن سعى بعد طواف القدوم، فإنْ قلت: مر في المتمتع أن عوده إنما يفيد إذا كان قبل التلبس بنسك وقد ألحقوا القارن به في أكثر أحكامه فما المعنى الذي أوجب عدم لحوقه به هنا. قلت: القياس واضح على مقابله الذي مَرّ، فيجاب: بأنه قد مَرّ لك أن من جاوز الميقات ثم عاد بعد الشروع في الطواف لم ينفعه العود، أي لأنه أخذ في أسباب التحلل حقيقة إنْ كان متمتعاً، وإلا ففيما يشبهها فلم يشرع له لئلا يتأدى النسك بإحرام ناقص، إذا علمته فطواف المتمتع بقسميه السابقين وقع بعد تحلله من أحد نسكيه، وقد مر أن كلاً منهما له دخل في إيجاب الدم فكأنه وقع بعد فعل بعض التحلل فلم ينفعه العود. وذلك بخلاف القارن فإن طوافه وقع قبل دخول شيء من أسباب تحلل نسكيه فينفعه العود لزوال النقص به حينئذ مع عدم تقصيره، ومن ثم لم ينظروا في حقيقته لوجود ما يشبهها منه بخلاف مجاوز الميقات، وأما السعي بعده فقد وقع بطريق التبع مع أنه لا دخل له حينئذ في التحلل بخلاف وقوفه بعرفة لأنه شروع في أسباب التحلل فلم ينفع العود بعده ونفع قبله انتهى.

(فرع): لَوْ أحْرَمَ عَمْرو بما أحْرَمَ به زَيْدٌ جاز (¬1) للأَحاديثِ الصَّحيحَة في ذلك (¬2) ثُم إنْ كانَ زَيْدٌ مُحْرِماً انْعَقَدَ لَعَمْرو مثْلُ إحْرَامه (¬3) إنْ كانَ حَجاً فَحَج وإنْ كَانَ عُمْرَةً فَعُمْرَةٌ وإنْ كَانَ قِراناً فَقِرانٌ وإنْ كَانَ مُطلَقاً انْعَقَدَ إحْرَام عَمْرو أيضاً مُطْلَقاً ويَتَخَيرُ في صَرْفِهِ إلى ما شَاءَ كما يَتَخَيرُ زَيْدٌ وَلاَ يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ إلى ما يَصْرِفُ إليهِ زَيْدٌ إلا إذا أرَادَ كإِحْرَامِ زَيْدٍ بَعْدَ تَعْيينه. ولو كانَ زَيْدٌ أحرَمَ مُطلَقاً ثُم بينَهُ قَبْلَ إِحْرَامِ عَمروٍ فَالأَصَحُّ أنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُ عَمرو مُطلَقاً (¬4). والثاني يَنْعَقِدُ معيناً، ولَو كَانَ إحرَامُ زَيدٍ فَاسداً انعَقَدَ لعَمروٍ إحرامٌ مُطلَقٌ عَلَى الأَصَحِّ (¬5) وَلَو كانَ زَيْدٌ غَيْرَ مُحْرِم انْعَقَدَ لعَمْرو إحْرَام مُطْلَقٌ ويَصْرِفُهُ إلى ما شَاءَ سَوَاءٌ كانَ يَظُنُّ أَن زيداً مُحْرم أمْ يَعْلَمُ أنَّهُ غيرُ مُحْرِم بأنْ يَعْلَمَ أنهُ مَيتٌ والله أعْلَمُ. ¬

_ (¬1) قال المصنف رحمه الله في المجموع: جاز بلا خلاف. (¬2) (منها): حديث أبي موسى الأشعري السابق المتفق عليه قال: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف أهللت؟ " قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنت. (ومنها): حديث مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه: أن علياً قدم من اليمن فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بم أهللت؟ " فقال: بِمَ أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاهدِ وامكث حراماً". (¬3) محله كما يعلم من آخر كلام المصنف إن صح إحرامه بخلاف ما إذا أحرم بفاسد أو كان غير محرم أو كافراً أو أتى بصورة الإحرام ولو مفصلاً، فإنه ينعقد لعمرو مطلقاً في كل ذلك لأنه قصده بصفة فإذا بطلت بقي أصله. انتهى حاشية. (¬4) أي ما لم يقصد أنه مثله حالاً. (¬5) ومقابل الأصح لا ينعقد لأن الفاسد لاغ.

فصل في التلبية

فَصْلٌ في التلبية (¬1) الْمُسْتَحَب فيها أَنْ يقْتَصرَ على تَلْبِيَةِ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبيْكَ لَبيك لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنعْمَةَ لَكَ والْمُلكَ لا شَرِيكَ لَكَ" بِكَسْرِ الهمزةِ (¬2) مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ الحمدَ. ولو فُتِحَتْ جاز (¬3) فإنْ زَادَ عليها (¬4) فَقَدْ تَرَكَ الْمُسْتَحَب ولكن لا يُكْرَهُ ¬

_ (¬1) أي في صيغتها وقوله: (لبيك) أصله (لبين لك) حذفت النون للإضافة واللام للتخفيف، وهو مفعول مطلق لفعل محذوف. والتقدير (ألبي لبين لك) فحذف الفعل وهو (ألبي) وجوباً، وأقيم المصدر مقامه، وهو مأخوذ من (لب بالمكان) يقال: (لب بالمكان) و (ألب به إلباباً) إذا أقام به والمقصود به التكثير، وإن كان اللفظ مثنى على حد قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] فإن المقصود به التكثير لا خصوص المرتين بدليل {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}، من الكثرة لا من مرتين فقط، وقوله: اللهم أصله يا الله حذفت ياء النداء وعوض عنها الميم وشذ الجمع بينهما كما قال العلامة ابن مالك رحمه الله: (والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض) وقوله: لبيك تأكيد للأول. (¬2) أي على الاستئناف. (¬3) هو المعتمد لكن الكسر أصح وأشهر عند الجمهور لأن الفتح يوهم التعليل والتخصيص بحال شهود الإنعام، والله سبحانه وتعالى يستحقها مطلقاً لذاته لا بواسطة شهود شيء آخر وقوله: والنعمة: المشهور فيها النصب عطفاً على الحمد، ويجوز فيه الرفع على الابتداء ويكون الخبر محذوفاً والتقدير (والنعمة كذلك) وقوله: (لك) خبر إن وقوله: (والملك) المشهور فيه النصب عطفاً على ما قبله ويجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره (كذلك). وتسن وقفة يسيرة على (الملك) ليظهر أن ما بعده ذكر للتأكيد وحكمة نفي الشريك بجميع أنواعه الرد على الجاهلية في قولهم بعده: (إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) وليحذر الملبي في حال تلبيته من أمور يفعلها بعض الغافلين من الضحك واللعب وليكن مقبلاً على ما هو بصدده بسكينة ووقار وليشعر نفسه أنه يجب الباري سبحانه وتعالى فإنْ أقبل على الله بقلبه أقبل الله عليه وإنْ أعرض أعرض الله عنه. (¬4) أي أو نقص.

على الأَصَحِّ (¬1). ويُسْتَحَب أَنْ يُصَلِّي (¬2) على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ التَّلْبِية ويسْأَل (¬3) الله رِضْوَانَهُ والجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ به مِنَ النَّارِ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أحَب لِنَفْسِهِ ولمَنْ أحَب. وَيُسْتَحَب الإِكْثَار مِنَ التلبِيَة وَيُسْتَحَب قَائِماً أو قاعِداً أو رَاكباً وماشياً ومُضْطَجعاً وجُنُباً وحائضاً وَيَتَأكَدُ استحبابُهَا عِنْدَ تَغَايُرِ الأَحْوَال والأَماكن والأَزْمان. وَيُسْتَحَبُّ في كُلِّ صُعُود وهُبُوط وحُدُوث أمر مِنْ ركُوب أو نزول أو اجْتِماعٍ رِفاق أو قِيَام أو قعود وعندَ السَّحَر وإقْبَال الليْل والنَّهار وَالْفَرَاغ من الصَّلاَةِ (¬4). ويُسْتَحَب في المَسْجد الْحَرَام ومَسْجد الخَيْف بمنى وَمَسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَات لأَنَّهَا مواضع نُسُك ويُسْتَحَب أيضاً في سَائر الْمَساجِدِ على الأَصح (¬5). ويَرْفَع بِهَا صَوْتَهُ في الْمَسَاجد على الأَصَحِّ (¬6) كما يَرْفَعُ في غير الْمَسَاجد ¬

_ (¬1) لأن عمر وابنه رضي الله عنهما يزيدان: (لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل). وحكم التلبية عند الشافعية والحنابلة: سنة، وعند الحنفية: أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة، وعند المالكية: واجبة، ويجب بتركها دم والله أعلم. (¬2) أي لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فيشرع فيه ذكر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كالصلاة والأذان قال تعالى: {وَرَفعنَا لَكَ ذكرَكَ (4)} أي لا أذكر إلا وتذكر معي لطلبي. والأكمل صلاة التشهد وليضم إليها السلام لكراهة إفراد أحدهما عن الآخر، ويأتي بالصلاة والسلام بصوت أخفض من صوت التلبية ولا يرفعه لعدم وروده وليتميز عنه. (¬3) أي ثم يسأل. (¬4) لما روي جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا رأى ركباً أو صعد أكمة أو هبط وادياً وفي أدبار المكتوبات وآخر الليل. (¬5) أي في الجديد، والقديم لا يلبي لئلا يشوش على المصلين والمتعبدين. (¬6) محله إن لم يشوش الرجل على نحو قارىء أو ذاكر أو مصل أو طائف أو نائم فإن شوش على واحد من هؤلاء برفع صوته أو بفوق ما يسمع نفسه حرم عليه إن =

وقيل: لاَ يَرْفَعُ في المَسَاجد وقيلَ: يَرْفَعُ في المساجد الثلاَثَةِ دُونَ غَيْرها. ولا يُلَبي في حَال طَوَاف القُدُوم (¬1) والسَّعْي على الأصَح لأَنَّ لهما أذْكاراً مَخْصُوصَةً وأمَّا طَوافُ الإفاضَة فلا يُلَبي فيه بلا خِلاَف لخُروج وقْت التَّلبية ويُسْتَحَب للرَّجُل رَفَعُ صَوْته بالتلْبية (¬2) بحيثُ لا يُضِرُّ (¬3) بِنَفْسه ويكُونُ صَوْتُهُ دُونَ ذلك في صَلاَتِهِ على رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَقِبها وَأما المَرْأةُ فلا تَرْفَعُ صَوتها بها بَلْ تَقْتَصِرُ على إسْمَاعهَا نَفْسَهَا فإنْ رَفَعَتْهُ كره (¬4) ولم يَحْرم (¬5). ويُستَحَب تكْرَارُ التلْبية في كُل مَرة ثَلاَثَ مَرَّات (¬6) وَيَأتي بها مُتَوَاليةً لاَ يقْطَعها بِكَلاَمٍ وَلاَ غَيْرِهِ (¬7). ¬

_ = كثر التشويش وإلا كره، والدليل على رفع الصوت بالتلبية ما رواه الترمذي رحمه الله عن جلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬1) وكذا لا يلبي في طواف الوداع يوم خروجه لعرفة وتكره التلبية في مواضع النجاسات كغيرها من الأذكار. (¬2) أي إلا المقترنة بالإحرام كما مر في قول المصنف: (ولا يجهر بها) وينبغي أن يكون صوته بالدعاء عقب التلبية والصلاة والسلام دون صوته بهما. (¬3) بضم أوله وكسر ثانيه؛ من أضر بخلاف يضره من ضر فإنه بفتح أوله وضم ثانيه. (¬4) أي إن كانت وحدها أو بحضرة نحو محرم ومثلها الخنثى. (¬5) وإنما حرم رفع صوت المرأة بالأذان لأنه يندب الإصغاء إليه. وهنا في التلبية لم يحرم كما نص عليه المصنف رحمه الله تعالى لأن كل أحد مشتغل بتلبية نفسه. (¬6) أي ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو ثم يلبي ثلاث مرات ثم يصلي ثم يدعو وهذا هو الأكمل، فلو أتى بالتلبية مرات عديدة، أو دون ثلاث ثم صلى ثم دعا كان آتياً بأصل السنة. (¬7) يستثنى منه كما تقدم سكتة لطيفة عند قوله: (والملك) وحكمة هذه السكتة =

فإنْ سَلمَ عليه رَدَّ عليه السَلاَمَ باللفْظِ (¬1) نَصَّ عليه الشَّافعي وأصْحَابُهُ رَحَمهُمُ اللهُ تَعالى وَيُكْرَهُ أنْ يُسَلمَ عليه في هذه الحالة وإذا رَأى (¬2) شيئاً فَأعْجَبَهُ (¬3) فَالسُنةُ أَنْ تقُولَ: لبيكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَة ومَنْ لا يُحْسنُ التَّلْبيةَ بالْعَرَبِيّة يُلَبِّي بلسَانه، وَيَدْخُلُ وَقْتُ التلْبية مِنْ حِيْن يُحْرِمُ ويَبْقى إلى أنْ يَشْرَعَ (¬4) في التَّحلل وَسَيَأتي بيانُ هذا وَاضحاً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالى. ¬

_ = كما قال في الحاشية: والله أعلم: الإشعار بأن لا شريك لك بعدها، إنما أتى به للتتميم والتأكيد للاستغناء عنه بما سبقه. اهـ. (¬1) أي يسن له ذلك وإن كره السلام عليه كما سيأتي، وتأخير الرد إلى فراغ التلبية أحب كما في المؤذن، ويفرق بين عدم وجوب الرد عليهما، وبين وجوبه على القارىء لتفويته لشعارهما. والله أعلم. (¬2) أي أدرك، ليشمل الإدراك بحواسه الخمس. (¬3) قال في الحاشية: أو أَساءه للاتباع فيهما، لكن الوارد فيه عند الإعجاب بأمته - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة: (لبيك إن العيش عيش الآخرة)، وعند الإساءة في حفر الخندق لما رآهم وقد نهكت أبدانهم واصفرت ألوانهم: (اللهم إن العيش عيش الآخرة) وحينئذ فيؤخذ أن مَنْ كان في نسك يأتي بالتلبية في الحالتين، ومَنْ ليس في نسك يأتي بـ (اللهم إن العيش عيش الآخرة) فيهما وهو ظاهر، وإنْ لم أرَ مَنْ صرح بذلك. وحكمته أنها تحمل في الإعجاب على الشكر، وفي الإساءة على الصبر إذْ معناه: إن الحياة المطلوبة الهنية الدائمة هي حياة دار الآخرة، وقيل معناه العمل بالطاعة. (¬4) أي إلى رمي أول حصاة من جمرة العقبة. (فرع): قال في المجموع: مذهبنا استحباب التلبية في كل مكان وفي الأمصار والبراري. قال العبدري: إظهار التلبية في الأمصار ومساجدها لا يكره وليس لها موضع تختص به. قال: وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وقال أحمد: هو مسنون في الصحارى، قال: ولا يعجبني أنْ يلبي في المصر، والله أعلم.

فصل في محرمات الإحرام

فَصْل في محرمات الإِحرام فَيَحْرُمُ عليه بالإِحْرَام بالْحَج أوْ الْعُمْرَة (¬1) سبعةُ أنْواع (¬2): الأَوَّل: اللُّبْسُ: وَالْمُحْرم ضَرْبان رَجُل وَامْرَأة، فَأَمّا الرَّجُل فَيَحْرُمُ عليه سَتْرُ جَميع رَأسه أو بَعْضه (¬3) بكُل ما يُعَدُ سَاتراً (¬4) سَوَاء كانَ مَخِيطاً أو غَيْرَهُ مُعْتَاداً أو غَيْرَهُ فَلاَ يَجُوزُ أنْ يَضَعَ عَلَى رَأسه عمَامَة ولاَ خِرْقةً ولاَ قَلَنْسُوَةً مُقَورَةً ولا يَعْصبُهُ بِعصَابة (¬5) ونَحْوها حَتى يَحْرُمَ أنْ يَسْتُرَ منْهُ قَدْراً يقْصِدُ سَتْرَهُ لشَجةٍ. وَنَحْوهَا إذَا لم يكُنْ به شَجة (¬6). ¬

_ (¬1) أي أو بالقران أو بالإحرام المطلق قبل صرفه إليهما أو إلى أحدهما. (¬2) قال في الحاشية: عدها بعضهم عشرين وبعضهم عشرة ولا تخالف لأن ما عدا السبعة المذكورة مما زيد داخل فيها. قيل: حكمة تحريمها الخروج عن العادة ليتذكر به ما هو فيه من العبادة. اهـ. وأقول: حكمته أيضاً - ما أشير إليه في الحديث من مصيره أشعث أغبر ليتذكر بذلك الذهاب إلى الموقف الأعظم فيجازى بأعماله فيحمله ذلك على غاية من إتقان تلك العبادة المهمة والإخلاص فيها. (¬3) دخل فيه البياض الذي وراء الأذن مما حاذى أعاليها وهو المعتمد كما في الحاشية. (¬4) أي عُرْفاً ولو شفافاً. (¬5) أي عريضة بحيث لا تقارب الخيط. (¬6) قال في الحاشية: مفهومه بالنسبة لعدم لزوم الفدية لا بالنسبة لعدم الحرمة غير مراد، لقول المجموع قال أصحابنا: لو كان على المحرم جراحة فشد عليها خرقة، فإنْ كانت في غير الرأس فلا فدية، وإنْ كانت في الرأس لزمته الفدية لأنه يمنع في الرأس المحيط وغيره. اهـ. قال بعضهم: والمراد بالشد هنا هو مجرد اللف لا العقد، وإن كان =

أمَّا مَا لاَ يُعَدُّ سَاتراً فَلاَ بأسَ به مثْلُ أنْ يَتَوَسَّدَ عمَامَةً أوْ وِسَادةً أوْ يَنْغمسَ في ماءِ (¬1) أوْ يَسْتَظَل بِمِحْمَلٍ (¬2) أو نَحْوه فَلاَ بَأْس به سَوَاء مس المِحْمَلُ رَأسَهُ أم لاَ وَقِيل: إنْ مَسَّ المِحْمَلُ رَأسَهِ لزمَهُ الفِدْيةُ ولَيْسَ بشيءٍ (¬3) ¬

_ = هو المراد من الشد الواقع في نحو شد الهميان والخيط على الإزار. اهـ. وهو متجه إن لم يحتج للعقد للاستمساك على الجراحة، وإلا فالوجه جواز العقد أيضاً لكن مع الفدية. ثم المراد بالعقد عقد الخرقة نفسها أما لو شد عليها في غير الرأس خيطاً وربطه، فإن ذلك لا يسمى عقداً ولا يحرم ولا فدية به. اهـ. (¬1) أي ولو كدراً. (¬2) بمحمل بكسر الميم الأولى وفتح الثانية أو بالعكس، وأما فتحهما معاً فمن لحن العوام. (¬3) في المجموع إنه ضعيف أو باطل. مذاهب العلماء في الاستظلال بغير ملاصق للرأس كالمحمل والسيارة غير المكشوفة ونحوهما قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز للمحرم أن يستظل في المحمل بما شاء، راكباً ونازلاً، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك وأحمد: لا يجوز، فإن فعل فعليه الفدية، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا فدية. وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز، ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيراً في المحمل فلا فدية، وكذا لو استظل بيده، ووافقونا أنه لا فدية. وقد يحتج بحديث عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال: (صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيته ضرب فسطاطاً حتى رجع) رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن، وعن ابن عمر: (أنه أبصر رجلاً على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال: اضحَ لمن أحرمت له) رواه البيهقي بإسناد صحيح وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه" رواه البيهقي وضعفه، ودليلنا حديث أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. رواه مسلم في صحيحه، ولأنه لا يسمى لابساً. =

ولو وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأسهِ وأطَالَ أو شَدَّ عَلَيْه خَيْطاً لصُداع أو غَيْره فَلاَ بأس (¬1). ولَوْ وَضَعَ عَلَى رَأسه حِمْلاً أو زِنْبِيلاً (¬2) ونَحْوَه كُرِه (¬3) وَلاَ يَحْرُمُ على الأَصَحِّ ولَوْ طَلَى على رَأسه بحناء أوْ طين أوْ مَرْهَم فَإنْ كَانَ رَفيقاَ فَلاَ شيء عليه وإنْ كانَ ثخيناً يَسْتُرُ وَجَبَت الْفِدْيةُ على الصَحيح (¬4) وأمَّا غَير الرَّأسِ مِنَ الْوَجه وباقي الْبَدَن فَلاَ يَحْرُمُ سَتْرُهُ بالإِزَار والرِّداء ونَحْوهما (¬5) وإنَمَا يَحْرُمُ فيه الْمَلْبُوسُ والمَعْمُولُ على قَدْر الْبَدَنِ أو قَمْر عُضْو منْهُ (¬6) بحَيْثُ يحيطُ به إما ¬

_ = و (أما) حديث جابر المذكور فقد ذكرنا أنه ضعيف مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر، وقول ابن عمر ليس فيه نهي ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه والله أعلم. (¬1) وإن قصد بهما الستر. (¬2) الزنبيل: بكسر الزاي ويجوز فتحها مع حذف النون كوزن رغيف وهو القُفة. (¬3) محله إذا لم يقصد به الستر وإلا حرم هذا إذا لم يسترخ فإنْ استرخى على رأسه حتى صار كالقلنسوة ولم يكن فيه شيء يحمل أو كفاه على رأسه حرم، ولزمت الفدية، وإن لم يقصد به الستر حينئذ لأنه في هذه الحالة يسمى ساتراً عرفاً. (¬4) الدليل على تحريم تغطية رأس المحرم قوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي خر عن بعيره ميتاً: "لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" رواه الشيخان رحمهما الله. (¬5) أي لإجماع الصحابة ولا يعارضه خبر مسلم الذي أخذ به الإمامان أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه)، فقد قال البيهقي رحمه الله تعالى: ذكر الوجه وهمٌ من بعض الرواة. وحمله في كتاب الشامل على ما لا بد منه من كشفه من الوجه ليتحقق به كشف جميع الرأس على أنه نقل عنهما أنهما لا يقولان بمنع ستر رأس الميت ووجهه. اهـ حاشية. (¬6) منه أي من البدن قال في الحاشية: يشمل ما يعمل على قدر الوجه بحيث يستمسك عليه كما يتخذ من الحديد للمقاتل وكيس اللحية إذ ليس المراد بالعضو حقيقته المباينة للشعر، وهي كما في القاموس كل لحم وافر بعظمه، ومن ثم عبر بعضهم بنحو =

بخَياطة وإمَّا بغَيْرِ خيَاطَة (¬1) وذلك كالقَمِيص والسَّرَاويل والتبهان (¬2) والجُبة والقَبَاء والْخُفِّ وكَجُبَّة اللِّبْد والْقَميص الْمَنسُوج غير المُحِيط ودرْع الزرَد والجَوْشن (¬3) والجَوْرَبِ والمُلْزَق بَعْضُهُ ببَعْض سَوَاء كانَ مِنَ الْجُلُود والقُطْن أو غيرِهما وسَوَاء أخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ كُم الْقَبَاء أمْ لا (¬4) والأصَح تَحْريمُ المَدَاس (¬5) وشبْهِهِ بخِلاَفِ النعْل فإنْ لَبِسَ شيئاً مِنْ هذه لَزِمَهُ الْفِدْيةُ طَالَ الزمان أم قَصُرَ. ¬

_ = العضو، فاستشكال وجوب الفدية في ذلك بأنها (أي اللحية) من الوجه وهو لا يحرم ستره غفلة عن الحيثية التي قالها المصنف. (¬1) أي كنسج ولزق وضفر وتلبيد وعقد وغيرهما. (¬2) التبان: سراويل من الجلد قصيرة فوق الركبة غالباً. (¬3) الجوشن: هو الدرع فهو من باب عطف الرديف أو أن بينهما نوع مغايرة، وقوله: (والجورب) هو المسمى الآن بالشراب. (¬4) هو كالعباءة والمشلح قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في مجموعه: فإنْ لبسه لزمه الفدية، وبه قال مالك وحكاه ابن المنذر بمعناه عن الأوزاعي. وقال إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأبو ثور والخِرقي من أصحاب أحمد: يجوز لبسه إذا لم يدخل يده في كميه، ودليلنا على تحريمه حديث ابن عمر أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟، قال: "لا يلبس القميص ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا القباء، ولا ثوباً يمسه وَرْس أو زعفران". رواه البيهقي بإسناد صحيح على شرط الصحيح، قال البيهقي: وهذه الزيادة وهي ذكر القباء صحيحة محفوظة، وعن ابن عمر أيضاً قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القمُص والأقبية والسراويلات والخفين إلا أن لا يجد نعلين) رواه البيهقي بإسناد صحيح، ولأنه محيط فكان محرماً موجباً للفدية كالجبة. (أما) تشبيههم إياه بمن التحف بقميص فلا يصح، لأن ذلك لا يسمى لبساً في القميص ويسمى لبسا في القباء، ولأنه غير معتاد في القميص، ومعتاد في القباء والله أعلم. اهـ. (¬5) أي المحيط بجوانب الرجل كالكنترة ونحوها المغطية للأصابع كالتليك ونحوه، والحاصل: ما ظهر منه العقب ورؤوس الأصابع يحل مطلقاً وما ستر الأصابع فقط أو العقب فقط لا يحل إلا مع فقد النعلين.

وأمَّا ما لَمْ يُوجَدْ فيه الإِحاطَةُ المَذْكُورَةُ فَلاَ بأسَ به وإنْ وُجدَتْ فيه خِيَاطَةٌ فَيَجُوزُ أنْ يَرْتَدي القَمِيص والجُبةِ وَيَلْتَحِفَ به في حال النَّوم وأنْ يَتَّزِرَ بِسَرَاويِلَ أو بإِزَارِ مُلَفق مِنْ رِقَاع مَخيطَة ولَهُ أَن يَشْتَمِلَ بِالعَبَاءةِ وبِالإِزَارِ والرِّداء طاقين وثلاثةً وأَكْثَرَ وَلَهُ أنْ يَتَقَلدَ السَّيْفَ (¬1) وَيَشُدَّ عَلَى وَسَطِهِ الهِمْيَانِ (¬2) وَالمِنْطَقَة (¬3) وَيلْبَس الْخَاتَم (¬4) وَلَوْ ألْقَى عَلَى نَفْسِهِ قَباء (¬5) أو فَرَجيةَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فَإنْ كَانَ بِحَيثُ لَوْ قَامَ يُعَدُّ لاَبسَه (¬6) لزَمهُ الفِدْيةُ وَإنْ كَانَ بحَيْثُ لَوْ ¬

_ (¬1) قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز أن يتقلد السيف، وبه قال الأكثرون. ونقل القاضي أبو الطيب عن الحسن البصري: كراهته. وعن مالك: أنه لا يجوز. اهـ. أقول: وعند الإِمام أحمد: إن احتاج إليه فله ذلك كما في المغني للإمام ابن قدامة رحم الله الجميع، ورحمنا ورحم المسلمين آمين. (¬2) الهميان: هو المسمى الآن بالكمَر، والمنطقة: حزام من جلد على هيئة الكمر إلا أنها ليس فيها موضع للنقود. (¬3) أي ولو بلا حاجة، والمراد بشدهما ما يشمل العقد وغيره سواء كان فوق ثوب الإِحرام أو تحته ولا يضر الاحتباء بحبوة وغيرها وله أن يلف على وسطه عمامة ولا يعقدها. (¬4) صرح به المصنف في المجموع أيضاً ومثل الخاتم الآن الساعة اليدوية فإنهما ليسا محيطين بالعضو؛ فالأول محيط بجزء من الإِصبع والثانية محيطة بالمعصم الذي هو جزء من الساعد، وقد قال المصنف رحمه الله تعالى: وإنما يحرم فيه -أي البدن- الملبوس والمعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه إلخ. وقد ألف شيخنا زكريا بيلا رسالة في جواز لبس المحرم للساعة اليدوية أسماها آخر ساعة في حكم لبس المحرم للساعة. (¬5) القباء بالمد، والقصر: هو ما يكون مفتوحاً من قدام كالشاية والجبة والبالطو والكوت، والمشلح والفرجية والعباءة كما تقدم. (¬6) أي بأن استمسك القباء ونحوه على عاتقه بنفسه من جهة طوقه سواء أدخل يده في كمي القباء ونحوه أم لا.

قَامَ أوْ قَعَدَ لَمْ يَسْتَمْسك (¬1) عَلَيْهِ إلا بإصْلاَحِ فَلاَ فِدْية وَلَهُ أنْ يَعْقِد الإِزَارَ (¬2) وَيَشُدَّ خَيْطاً وَيَجْعَلَ لَهُ مثْلَ الْحُجْزةِ (¬3) وَيُدخل فيها التكَّةَ (¬4). ولَهُ أنْ يَغْرزَ طَرَفَيْ ردَائه في إزَارِهِ ولا يَجُوزُ عَقْد الرِّدَاء (¬5) وَلاَ أنْ يَزُرَّهُ ولا يَخُلّهُ بخِلال أوْ مِسلّة (¬6) ولا يَرْبطُ خَيْطاً في طَرفه ثُمَّ يَرْبطهُ في طَرَفه الآخَر فَافْهَمْ هَذَا فإنَّهُ ممَّا يَتَسَاهَلُ فيه عَوَامّ الحُجَّاج ولاَ تَغتَر بقَوْلِ إمام الحَرَمَيْنَ يَجُوزُ عَقْدُ الرِّدَاءِ كالإِزار فَإنَّهُ شاذ مَرْدُود وَمُخَالفٌ لنَصَ الشَّافعيّ وأصْحَابِهِ. وَقَدْ رَوَى الشافِعِيُّ تَحْريمَ عَقْد الرِّدَاءِ عن ابن عُمَر رَضِيَ الله عَنْهُما ولَوْ شَقَّ الإِزارَ نصْفَيْن ولفّ على كلِّ ساقٍ نصْفاً فهو حَرَام (¬7) على الأصَحِّ وتجبُ به الفْدَية. وأمَّا المرأةُ فَالْوَجْهُ في حَقِّهَا كَرَأسِ الرَّجُل فَتَسْتُرُ رَأسَها وسائرَ بَدَنها سِوَى الْوَجْه بالمحيط وجميعِ ما كانَ لها السَّتْرُ به قبلَ الإِحرام كالْقَميصِ والسَّراويلِ والخُفِّ وتَسْتُرُ من وجهها الْقَدْرَ اليسيرَ الذي يلي الرَّأسَ إذْ لا ¬

_ (¬1) أي بأن وضع القباء ونحوه منكساً بأنْ جعل طوقه مما يلي رجليه وأسفله فوق. (¬2) أي لا بأزارير في عرفاته فإنه ممتنع ففيه الفدية. لكن قيد الغزالي ومجلي رحمهما الله تعالى بما إذا تقاربت الأزارير بحيث تشبه الخياطة. (¬3) الحُجْزة: بضم الحاء على وزن حجرة. (¬4) التكة: بكسر التاء. (¬5) فيه وما بعده الفدية. (¬6) ولا يلصقه بنحو صمغ لأنه يكون في معنى المخيط من حيث أنه يستمسك بنفسه. (¬7) أي إن عقده بخلاف ما لو شده بخيط مثلاً فإنه لا يحرم، وفرق بين الشد والعقد بأن العقد يصير المعقود مستمسكاً بنفسه، فوجدت فيه الإحاطة الممتنعة، ولا كذلك الشد عليه بخيط لأنه غير مستمسك بنفسه فلا يسمى مخيطاً والله أعلم.

يُمكن سَتْرُ جميع الرأس إلا به (¬1) والرَّأْسُ عَوْرَةٌ تجب الْمُحافَظَةُ على سَتْرِهِ ولها (¬2) أنْ تَسْدِلَ على وجههَا ثَوْباً مُتَجافياً (¬3) عنْهُ بخَشَبة ونَحْوها سَوَاء فَعَلَتْهُ لحَاجَة مِنْ حَرّ أوْ بَرْد أو خَوْف فتْنة ونَحْوها أو لغَيْر حاجَة فإنْ وَقَعَتْ الْخَشَبَةُ فأصابَ الثوْبُ وَجْههَا بغير اخْتيارها ورَفَعَتْهُ في الحال فلا فِدْيةَ وإنْ كانَ عَمْداً أو وَقَعَتْ بغَيْرِ اخْتيارِها فاسْتَدامَتْ لزمَتْهَا الْفِدْيةُ وإنْ سَتَرَ الْخُنْثَى الْمشْكلُ وجْهَهُ فقط (¬4) أو رَأسَهُ فَقَطْ (¬5) ¬

_ (¬1) ولم يعكس لأن الستر أحوط. (¬2) أي بل يجب ذلك عليها عند خشية الفتنة، فلو تحققتها مع وجود السدل المذكور فينبغي وجوب الستر عليها بالملاصق مع الفدية. وعند الحنابلة جواز سدل المرأة الثوب من فوق رأسها لا رفعه من أسفل ولو مس وجهها، ولا فدية للحاجة كمرور الرجال قريباً منها لقول عائشة رضي الله عنها: (كان الركبان يمرون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما رحمهم الله تعالى، ذكر هذا في المجموع. ولم يأخذ الشافعي بهذا الحديث لأن إسناده ضعيف كما أفاده المصنف في مجموعه، قال شيخنا زكريا بيلا -متع الله بحياته آمين- في كتابه آخر ساعة: والآن لا يسع المرأة الشافعية إلا أن تقلد هذا المذهب المعتبر لتستتر عن الرجال ولتتخلص من الإثم والفدية. فقد عَم وطم اليوم ركوب المرأة مع الرجال الأجانب في الباخرة والطائرة والسيارة، واجتماعها بهم في السكن والخيمة زمن موسم الحج، ويمرون بها في المطاف والمسعى وعند رمي جمرة العقبة إلى آخر كلامه. (¬3) اشترط القاضي أبو يعلى من الحنابلة هذا الشرط كالشافعية في المسدل على وجه المرأة ورده الموفق في مغنيه بقوله: ولم أرَ هذا الشرط عن أحمد، ولا هو في الخبر إلى آخر كلامه. (¬4) أي بغير مخيط أما به فتلزمه الفدية مطلقاً بناء على حرمة ستر وجه الذكر بمخيط لأن المرأة يحرم عليها ستره مطلقاً، والرجل يحرم عليه ستره بمخيط. (¬5) هذا بالنسبة للحرمة أما الوجوب فسيأتي.

فلا فِدْيَةَ عليه وإنْ سَتَرَهمَا معاً (¬1) لَزِمَتْه الْفِدْيةُ (¬2). (فرع): يَحْرُمُ على الرَّجُل لبْسُ القُفازَيْن (¬3) في يَده (¬4) وَيَحْرُمُ على الْمَرْأة أَيضاً على الأَصَحِّ (¬5). ويَلْزَمُهُما بلبْسِهِ الْفِدْيةُ ولَوْ اخْتَضَبَتْ ولفت على يَدِهَا خِرْقَةَ أو لفّتها بلا خِضَابِ فَالصَحيحُ أنَّهُ لا فِدْيةَ (¬6). ¬

_ (¬1) أي في إحرام واحد، وإن ستر أحدهما في إحرام والآخر في إحرام ثان فلا يضر. (¬2) ولا تلزم الخنثى الفدية فيما لو ستر رأسه ثم اتضح بالذكورة أو وجهه ثم اتضح بالأنوثة والله أعلم. (¬3) أي وتجب به الفدية لأنه ملبوس على قدر العضو فأشبه الخف، ولا يحرم على الرجل ستر وجهه لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي خرّ من بعيره: "ولا تخمروا رأسه" فخص الرأس بالنهي، والقفازان تثنية قفاز، وهو شراب اليد يعمل لها، ليقيها من نحو البرد، ولبس القفاز الواحد كلبس القفازين. (¬4) أي ولو كانت زائدة. (¬5) قال في المجموع رحمه الله: وبه قال عمر، وعلي، وعائشة رضي الله عنهم. اهـ. أقول: وهو مذهب أحمد ومالك كما في المغني لابن قدامة لما رواه أبو داود بإسناد حسن. كما في المجموع عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب من مُعَصفر أو خز أو حرير أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف. وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز، وحكى ذلك عن سعد بن أبي وقاص. اهـ. أقول: واحتجوا كما في مغني ابن قدامة بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إحرام المرأة في وجهها". (¬6) هو المعتمد ومثل اللف الشد، وإنما حرم على المرأة لبس القفاز لأنه ملبوس عضو ليس بعورة فأشبه خف الرجل، وهو الأصح كما في الحاشية فإن قيل: يلزم عليه =

(فرع): هذا الَّذي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْريم اللبس والستْر هو فيما إذا لم يَكُنْ عُذْر فإذا لَبِسَ أو سَتَر شَيْئاً ممَّا قُلْنَا إنَّهُ حَرَامٌ أَثِم (¬1) ولَزِمَتْهُ الْفِدْيةُ الّتي يَأتي بَيَانُها في آخر الكِتابِ إنْ شَاء اللهُ تَعَالى. وأَمَّا الْمَعْذُورُ ففيه صُوَر: أَحدهمُا: لو احْتَاج (¬2) الرَّجُل إلى سَتْرِ رَأسه أو لبْس الْمَخيطِ لِحَر أو بَرْد أو مُدَاوَاة أو نَحْوها أو احْتَاجَتْ الْمَرأةُ إلَى سَتْر وَجْهها (¬3) جازَ وَوَجَبَتْ الْفِدْية. الثَّانِيَة: لو لَمْ يَجِدْ ردَاء ووَجَدَ قَميصاً لم يَجُزْ لُبْسُهُ بل يَرْتَدِي به ولو لم يجد إزَاراً وَوَجَدَ سَرَاويلَ جازَ له لُبسهُ (¬4) ¬

_ = حرمة لبسها للخف لأنه أيضاً ملبوس عضو ليس بعورة. أجيب: بأن الخف ملبوس عضو هو عورة على الإِطلاق بخلاف الكفين فإنهما ليسا عورة بالنسبة للصلاة والله أعلم. (¬1) أي إن كان مكلفاً، أما غيره فالإِثم على وليه إنْ علم وأقره. (¬2) المراد بالحاجة هنا وفي سائر محظورات الإِحرام حصول مشقة لا يحتمل مثلها غالباً، وإن لم تبح التيمم، ويجب إذا زال العذر النزع فوراً، وإن ظن عود العذر، ولو على قرب وله نزع القميص من رأسه فإن استدام ففدية واحدة. (¬3) أي كما لو خافت من نظرٍ إليها يجرّ لفتنة. (¬4) قال في الحاشية: فارق هذان ما يأتي من وجوب قطع الخف أسفل من الكعبين بالأمر بقطعه، وكأن وجهه أنه يلزمه من الفتق هنا ظهور عورته وهو ما يستحى منه، ولو في الخلوة بخلاف قطع الخف، والفرق بخلاف هذا فيه نظر لا يخفى على الفطن. ثم رأيت المصنف في المجموع صوّب أنه لو قدر على أن يستبدل بالسراويل إزاراً واستوت قيمتهما وجب إن لم يمض زمن تبدو فيه عورته وإلا فلا، وهو يؤيد ما فرقت به، ولو لم يجد إزاراً ووجد سراويل يتأتى الاتزار به على هيئته اتزر به ولم يجز له لبسه، فكلامه هنا في سراويل لا يتأتى الاتزار به على هيئته، ومثله قميص كذلك، واعلم إنه لا يجب في السراويل قطع ما زاد على العورة، قال في المجموع: لإضاعة المال. اهـ. =

ولا فِدْية (¬1) سواء كَانَ بِحَيْثُ لو فَتَقَهُ جاءَ مِنْهُ إزار أو لم يكن، وَقِيلَ: إنْ أمْكَنَ فَتْقُهُ واتخاذُ إزار منهُ لزِمَ فَتْقُهُ ولم يَجُزْ لُبْسُهُ سَرَاويلَ والصَّحيحُ أنهُ لا فَرْقَ وإذا لَبِسَهُ ثُمَّ وَجَدَ إزاراً وَجب نَزْعُهُ فَإِنْ أَخرَ عَصَى وَوَجَبَتِ الفِدْيةُ. الثالثةُ: لو لم يَجدْ نعْلَينِ جاز لُبْسُ المُكَعَّب وإنْ شَاءَ قَطَعَ الخُفَّينِ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْن ولَبِسَهُمَا وَلاَ فِدْيةَ (¬2) وإنْ لَبسَ المكَعّبَ أَو المقطُوعَ لفقْدِ النعْلين ¬

_ = وحينئذ فالفرق بينه وبين وجوب قطع الخف الآتي غامض، إلا أن يفرق أن ما يلي العورة قد يستحى من ظهوره أيضاً بخلاف ما يظهر من القدم. اهـ. (¬1) قال في المجموع: وبه قال أحمد وداود وجمهور العلماء. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لبسه، وإن عدم الإزار فإن لبسه لزمته الفدية، وقال الرازي من الحنفية: يجوز لبسه وعليه الفدية، ودليلنا حديث ابن عمر وابن عباس، أقول: يعني قول ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار والخفات لمن لم يجد النعلين يعني المحرم" رواه البخاري ومسلم. (¬2) ظاهره له جواز قطع الخفين مع وجود المكعب، وبعضهم بحث حرمة القطع لإضاعة المال بلا حاجة. (تتمة): كل محظور جاز لحاجة فيه الفدية إلا نحو السراويل، والخفين المقطوعين وما يأتي في دم الحلق والصيد ويعلم مما مر وما يأتي أنه لا تجب الفدية في اللبس إلا على عامد عالم بالحرمة مختار لم يتحلل. مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى فيمن لم يجد نعلين قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز له لبس خفين بشرط قطعهما أسفل من الكعبين، ولا يجوز من غير قطعهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود والجمهور، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعروة والنخعي، وقال أحمد: يجوز لبسهما من غير قطع، وروى ذلك عن عطاء وسعيد بن سالم القداح. واحتج أحمد بحديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات يقول: =

النوع الثاني: من محرمات الإحرام الطيب

ثُم وَجَدَهُما وجبَ النَّزْعُ فإنْ أخرَ عَصَى وَوَجَبَتِ الْفِدْيةُ. والمرادُ بفقدِ الإِزار والنَّعْلَينِ أنْ لا تقْدِرَ على تَحْصيله إما لفقدِه وإمّا لَعَدَمِ بذل مالكهِ وإما لِعَجْز عن ثَمَنِهِ أو أجْرَتهِ، ولو بيعَ بِغبْن أو نسيئة أو وُهبَ لَهُ لم يلزمهُ قَبُولهُ وإنْ أعيرَ وَجَبَ قَبُولهُ. النوع الثاني: من محرمات الإحرام الطيب: فَإذَا أَحْرَمَ حَرُم عليه (¬1) أنْ يَتَطَيَّبَ في بدنه أَوْ ثَوْبه أو فِرَاشه بِمَا يُعَدُّ طِيباً (¬2) وهُوَ ما يَظْهَرُ فيه قَصدُ التطَيبِ وإنْ كانَ فيه مَقْصُودٌ آخَرَ. ¬

_ = "السراويل لمن لم يجد الإِزار والخفاف لمن لم يجد نعلين يعني المحرم" رواه البخاري ومسلم وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل" رواه مسلم. واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم من الثياب؟ فذكر الحديث السابق في أول الفصل إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا أحداً لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" رواه البخاري ومسلم. وأجاب الشافعي والأصحاب عن حديثي ابن عباس وجابر بأن حديث ابن عمر فيه زيادة، فالأخذ به أولى ولأنه مفسر وخبر ابن عباس مجمل فوجب ترجيح حديث ابن عمر. قال الشافعي: وابن عمر وابن عباس حافظان عدلان لا مخالفة بينهما. لكن زاد أحدهما زيادة فوجب قبولها. والله أعلم. اهـ. أقول: وللإمام أحمد رواية بقطع الخفين ونحوهما حتى يكونا أسفل من الكعبين قال الموفق رحمه الله: والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح حديث ابن عمر وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط. (¬1) أي على المحرم ولو أخشم. (¬2) قال في الحاشية: أي على العموم والقول بأنه يعتبر عرف كل ناحية فيما يتطيبون به غلط كما في الروضة وأصلها. اهـ.

وذلك كالمسكِ والكافُور (¬1) والعود والعَنْبَرِ والصَّنْدَل والزعَّفرَان والوَرْس والْوَرْدِ وَالْيَاسمين واللَّينوْفَر (¬2) والْبَنَفْسَج والنَّرْجسِ (¬3) والخِيْريِّ والرَّيحانِ (¬4) والنَّسْرين والمَرْزَنْجُوش (¬5) والرَّيحان الْفَارسي وهُوَ الضيْمُرَان (¬6) وما أشْبَهَها ولا يَحْرُمُ ما لاَ يَظْهَر فيه قصد الرَّائحة وإنْ كانَ لهُ رائحةٌ طَيبةٌ كالفَوَاكه الطَّيبةِ الرَّائحة كالسَّفَرْجلِ والتفّاح وَالأُتْرُج (¬7) والنارنْجِ وكذا الأدْويةُ كالدَّارصيني وَالْقَرَنْفُل والْسنْبُل وسَائر الأَبازير الطيبة وكذا الشِّيح والْقَيْصُوم والشَّقَائق وسائر أزْهَارِ الْبَراري الطيبة التي لا تُسْتَنْبَتُ قَصْداً وكَذَا نَوْرُ (¬8) التفاح والْكُمَّثْرَى وغَيْرهمَا وَكَذَا العُصْفُرُ والحِنّاء فَلاَ يَحْرُمُ شيء من هذه ولا فِدْيةَ فيه. وأما الأدهان فضربان: دُهْنٌ هُوَ طيبٌ ودُهْنٌ لَيْسَ بطيب. فأمَّا ما لَيْسَ بطيب كالزّيت والشيْرَجِ والسمْن والزبد وشبْهها فلا يَحْرُمُ الإدّهان به في غَيْر الرأس وَاللحْية وسَيَأتي إن شَاء الله تَعَالى بيانُ حُكْم الرأس واللِّحْيَةِ. وأما ما ¬

_ (¬1) يشمل الكافور الحي والميت. (¬2) هو بنون مفتوحة ويسمى أيضاً (النينوفر) بنونين بينهما ياء. (¬3) هو بنون مفتوحة فراء فجيم مكسورة فمهملة، وقوله: (والخيري) هو بخاء مكسورة فياء ساكنة فراء مهملة فياء مشددة: شجر، وفي قول: ريحان طيب الريح يوضع في الدهن، وهو ضربان: أصفر وأحمر والأصفر أطيب ريحاً. (¬4) أي العربي. (¬5) طيب تجعله المرأة في مشطها يضرب إلى الحمرة وقوله: والريحان هو بفتح الراء والعامة تكسرها. (¬6) قال في الحاشية والأفصح (الضومران) وهو نبت بري. وفي المجموع عن النص أن الكاذي بالمعجمة ولو يابساً طيب. وينبغي تقييده في اليابس، بما إذا كان بحيث لو رش عليه الماء ظهر ريحه، ومثله في ذلك فيما يظهر الفاغية وهي ثمر الحناء. (¬7) أي بهمزة مضمومة وتاء ساكنة أو مضمومة. (¬8) أي زهر.

هُوَ طيب كَدُهن الورْد والبنفْسَجِ فَيَحْرُمُ اسْتِعمالُهُ في جميعِ البدَن والثيَاب. وأمّا دهْنُ البان المَنْشُوش (¬1) وَهُوَ المَخْلُوطُ بالطيب فَهُوَ طيب وغَيْرُ المخْلوط لَيْسَ بطيبٍ. ويَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْكُحْلِ الَّذِي فيهِ طيب وَدَوَاء العَرَق الَّذِي فيه طيبٌ ويَحْرُمُ أكْلُ طَعَام فيهِ طيبٌ ظَاهِرُ الطَّعْم أوْ الرَّائحةِ (¬2) فإنْ كَانَ مُسْتهلكاً فَلاَ بأسَ به وَإنْ بقِيَ اللَّونُ دُونَ الرَّائحَةِ والطَّعْم لم يَحْرُمْ عَلَى الأَصَحِّ ولَوْ خَفيَتْ رَائحَةُ الطِّيبِ أو الثوب المُطَيَّب بمُرُور الزَّمان وَالغُبار ونَحوه فإنْ كَانَ بِحَيثُ لو أصَابَهُ المَاءُ فَاحَتْ رَائحتُهُ حرُمَ استعمالُهُ فإنْ بقِي اللَّونُ فَقَطْ (¬3) لم يَحْرُمْ عَلَى الأَصَحِّ ولَوْ انْغَمَرَ طيبٌ في غيره كَماء ورْدٍ قَليلٍ انْمَحَقَ في مَاء لَمْ يَحرُم استْعمالُهُ عَلَى الأصَحِّ وإنْ بقي طَعْمُهُ أوْ ريحُهُ حَرُمَ وإنْ بقِيَ اللَّوْن لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الأصَحِّ. واعلم أَنَّ الاسْتِعْمالَ الْمُحَرَّمَ في الطِّيبِ هُوَ أنْ يلْصَقَ الطِّيبُ ببَدَنهِ أو ثَوْبهِ عَلَى الْوَجْهِ المُعْتَاد في ذَلِكَ الطيب (¬4) فَلَوْ طَيَّب جُزءاً منْ بدَنَهِ بِغَالتة أو ¬

_ (¬1) المنشوش: كما في الحاشية هو بفتح الميم وإسكان النون وبمعجمتين بينهما واو منْ (النشيش) وهو صوت نحو الماء عند غليانه، وألْحَق في الأم بالبان المنشوش في الحرمة الزنْبقِ وهو بفتح الزاي وإسكان النون وفتح الموحدة بعدها قاف دهن الياسمين الأبيض، وألحق بعضهم بدهن الأترج دهن زهر النارنج لاعتبار الطيب به وإن كان النارنج أو زهره ليس بطيب، وكدهن الأترج دهن زهره كما هو ظاهر. اهـ. (¬2) إنما يحرم في المسائل الثلاث التي ذكرها إذا ظهر طعم الطيب أو ريحه فلا يشترط اجتماعهما. اهـ حاشية. (¬3) أي ولم تظهر الرائحة عند رش الماء عليه. (¬4) فلو وضع الورد والرياحين ببدنه أو ثوبه مِنْ غير شمٍّ لم يحرم لأن الوجه المعتاد في التطيب بها الشم بوضع الأنف عليها أو أخذها باليد وشمها.

مسْك مَسْحُوق وَنَحْوهما لَزمَهُ الفِدْيةَ سواءٌ ألصقَهُ بظَاهر البَدَنِ أو بَاطنه بأَنْ أَكَله (¬1) أوْ احْتَقَنَ به أوْ اسَتَعطَ ولَوْ رَبَطَ مسْكاً أو كَافُوراً أو عَنْبَراً في طَرَفِ إزَاره (¬2) لَزمتْهُ الفدْيةُ ولَوْ رَبَطَ العُودَ فَلاَ بَأسَ لأَنَّهُ لا يُعَدُّ تطْييباً ولاَ يَحرُمُ أنْ يجْلسَ في حَانُوتِ عَطَّارٍ أو في مَوْضع يُبَخَّرُ أو عِنْدَ الكَعْبة وهيَ تُبَخرُ أو في بَيْت يتبَخَّرُ ساكنوه وإذَا عبقت (¬3) به الرَّائحَةُ في هَذَا دُونَ العَيْن (¬4) لَمْ يحْرُمْ وَلاَ فِدْيةَ ثُم إنْ لَمْ يقصدْ الموضع لاشتمَامِ الرَّائحَة لم يكْرَه وإنْ قَصَدَهُ لاشتمامها كره (¬5) عَلَى الأصحِّ وفي قَوْلٍ لاَ يُكْرَهُ ولو احْتَوَى عَلَى مَجْمَرَة فتبخرَ بالْعُودِ بَدَنُهُ أو ثوبُهُ عَصَى ولَزِمَتْهُ الفْدِيةُ ولو اسْتَرْوَحَ إلى رَائِحَة طيب مَوْضُوع بين يَدَيْهِ (¬6) كُرِهَ ولم يَحْرُمْ لأَنَّهُ لاَ يُعَدُّ تَطَيبَاً ولو مَسَّ طيباً فَلَمْ يَعْلقْ به شيء مِنْ عَيْنهِ لكن عَبِقَتْ به الرَائحَةُ فلا فِدْيةَ على الأصَحِّ وفي قَوْلٍ (¬7) يَحْرُمُ وتجب به الفدْية. ولو شَمَّ الوَرْدَ فقد تَطَيَّب ولو شَمَّ ماء الوَرْد (¬8) فليسَ مُتَطَيباً وإنما استِعْمَالُهُ أَنْ يَصبهُ على بَدنهِ أو ثَوبِهِ فلو حَمَلَ مِسْكاً أو طيباً (¬9) صرد في كيس ¬

_ (¬1) محله في غير العود فلو أكله فلا فدية عليه لأنه لا يعد تطيباً إلا بالتبخير به. (¬2) أي في نفس الإِزار أما لو ربطه في خِرقة ثم ربطها في الإزار فلا بأس كما سيأتي قريباً. (¬3) عبقت: بكسر الباء. (¬4) أي عين البخور وذلك دخانه إذ هو عين جزئه. (¬5) أي للخلاف في وجوب الفدية. (¬6) يعتاد التطيب لإلصاقه بالبدن. (¬7) قال في الحاشية: هو ضعيف وإنْ صححه جماعة، ونص عليه في الأم والإملاء. (¬8) أي من غير إلصاق بالبدن أو الثوب وكلامه يشمل ما فيه مسك أو غيره. (¬9) عطف عام على خاص.

أو خرْقَةٍ مَشْدُودَة أو قارُورَة مُصَمَّمَة الرَّأس (¬1) أو حَمَلَ الورْدَ في ظَرْف (¬2) فلا إثْمَ عليه ولا فِدْيةَ وإن كان يَجِد رَائحَتَهُ، ولو حملَ مسْكاً في فَأرَة (¬3) غيْرِ مَشْقُوقَةِ الرَّأس فلا فِدْيةَ على الأصَح وإنْ كانت مَشْقُوقَةَ الرَّأس (¬4) لزمَتْهُ الفِدْيةُ (¬5) ولوْ جَلَسَ على فِراشٍ مُطَيَّبٍ أو أرضٍ مُطَيَّبة أو نامَ عليهما مُفْضياً ببدنهِ أو مَلْبوسه إليهما أثِمَ ولزمتْهُ الفِدْيةُ، فلو فَرَشَ فَوْقَهُ ثَوْباً ثُم جَلَسَ عليهِ أو نامَ فلا فدْيةَ لكن إن كان الثوْبُ رَقيقاً (¬6) كُرِهَ ولو دَاسَ بنَعْلهِ طِيباً لَزِمَتْهُ الفدْيه (¬7). (فرع): إنمَا يَحْرُمُ الطِّيبُ وتَجبُ فيه الْفِدْيةُ إذا كان اسْتِعْمالُهُ عن قَصْدٍ (¬8) فإنْ كانَ تَطَيَّبَ نَاسياً (¬9) لإحْرَامه أو جَاهلاً بتَحْريم الطيب أو مُكْرَها (¬10) فَلاَ إثْمَ ولا فِدْيةَ ولو عَلِمَ تَحْريمَ الطيب وجَهِلَ كَوْنَ الْمُسْتَعْمل طِيباً فلا إثْمَ ¬

_ (¬1) أي مسدودته. (¬2) الورد من الرياحين وقد تقدم أن التطيب بها إنما يكون بأخذها بيده وشمها أو وضع أنفه عليها. (¬3) الفأرة الجلدة التي فيها المسك. (¬4) ولو يسيراً. (¬5) أي إنْ علق به شيء من عين الطيب وإلا فلا إثم ولا فدية، كما يفهم من كلام المصنف رحمه الله الآتي في قوله: ولو مس طيباً بنعله إلخ. (¬6) أي ومنع الثوب الرقيق الطيب من أن يعلق به شيء منه وإلا فهو كالعدم. وقوله: كره أي لأنه لا يقطع عنه رائحة الطيب بالكلية. (¬7) أي إن علق به شيء. (¬8) أي واختيار ومثله في هذا النوع الأول من اللبس ونحوه كما مر. (¬9) أي وإن كثر الطيب. (¬10) فلو طيب المحرم غيرهُ فالفدية على الفاعل حيث لا اختيار للمفعول به نظير ما يأتي في المحلوق.

ولا فدْية على الصَّحيح ولو مَسَّ طيباً يَظُنُّهُ يابساً لا يَعْلَقُ منهُ شيء فكان رَطباً ففي وُجُوب الفدْية قَوْلان للشَّافعيِّ رحمَهُ الله تعالى رَجَّحَتْ كل طَائِفَةٍ مِنْ أصْحَابِه قَوْلاً والأَظْهَرُ تَرْجيحُ عَدَم الْوُجُوب (¬1) ومتى ألْصَقَ طيباً بِبَدَنِهِ أو ثَوْبه على وجْهٍ يقْتَضِي التَّحْريمَ عَصَى ولَزمَهُ الفِدْيةُ ووَجَبَتْ عليه المبادرةُ إلى إزَالته (¬2) فَإنْ أخرَ عَصَى بالتأخير عصْيَاناً آخَر ولا تكَرَّرُ به الفِدْيةُ، ومتى لَصِقَ به على وجْهٍ لا يَحْرُمُ ولاَ يُوجبُ الفِدْيةَ بأنْ كَانَ نَاسياً أو جَاهلاً أو مُكرهاً أو ألْقَتْهُ الريحُ عَلَيْهِ لزمَتهُ المُبَادرَةُ إلى إزَالَته فَإنْ أخَّر معَ الإِمْكَانَ عَصَى ولَزمَتْهُ الفِدْيةُ وإزَالتهُ تكُونُ بنَفْضِه إنْ كان يابساً فَإنْ كانَ رَطْباً فَيَغْسلُهُ أو يُعَالجُهُ بما يقْطَعُ ريحَهُ والأَوْلَى أنْ يَأمُرَ غيرَهُ بإزَالَته (¬3). فإنْ بَاشَر إزَالَته بِنَفْسهِ لَمْ يضر (¬4). ¬

_ (¬1) هو المعتمد. (¬2) أي لو بغير ماء ولا فرق فيما ذكر بين تطيب عصى به وغيره. (¬3) أي حيث لا تراخي فيه وإلا حرم. (¬4) أي وإن طال زمن الإزالة لأنها ترك ولو توقفت إزالته على أجرة مثل فاضلة عما ذكر الفقهاء في الفطرة لزمته، فإن قيل: ينبغي أن لا يتولى المحرم إزالة الطيب الرطب الذي علق به بنفسه إذا قدر على إزالته بغيره فوراً على وجه لا ضرر عليه فيه لأنه مباشر للطيب مع إمكان الاحتراز عنه. أجيب: بأن المؤثر مباشرة فيها نوع ترفه ولو بوجه، وهذا لا ترفه فيه ألبتة لأن إزالتة ترك له. ولو أراد إزالته بنفسه وأمكنته بمس وبغيره كانت بغيره أولى أيضاً لا واجبة. اهـ حاشية بتصرف. مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في الطيب مأخوذة من المجموع قال في المجموع: قد ذكرنا أن الطيب حرام على المحرم، وهذا مجمع عليه، ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر أو يجعله في بدنه أو ثوبه، وسواء كان الثوب مما يخفض الطيب أم لم يكن. قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة: يجوز للمحرم =

فَإِنْ كَانَ أقْطَعَ أوْ زَمِناً لاَ يقْدرُ عَلَى الإِزَالَةِ فَلاَ إثْم وَلاَ فِدْيةَ كَمَنْ أكْره عَلَى التَّطَيب فَإِنَّهُ مَعْذُور. ¬

_ = أن يتبخر بالعود والنَّد ولا يجوز أن يجعل شيئاً من الطيب في بدنه، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه وكان الثوب لا ينفض فلا شيء عليه، وإن كان ينفض لزمه الفدية - دليلنا حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران" رواه البخاري ومسلم وهو عام يتناول ما ينفض وغيره. (فرع): الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق ولا فدية، وبه قال مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة: طيب يوجب الفدية - دليلنا حديث رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها سئلت عن الحناء والخضاب فقالت: (كان خليلي - صلى الله عليه وسلم - لا يحب ريحه) قال البيهقي: فيه الدلالة على أن الحناء ليس بطيب. (فرع): إذا لبس ثوباً معصفراً فلا فدية، والعُصْفر ليس بطيب، هذا مذهبنا وبه قال أحمد وداود وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وجابر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء قال: وكرهه عمر بن الخطاب وممن تبعه الثوري ومالك ومحمد بن الحسن وأبو ثور وقال أبو حنيفة: إن نفض على البدن وجبت الفدية، وإلا وجبت صدقة. دليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليلبسن ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حرير". من بعض حديث رواه أبو داود بإسناد حسن. (فرع): إذا حصل الطيب في مطبوخ أو مشروب: فإنْ لم يبق له طعم ولا لون ولا رائحة فلا فدية في أكله، وإن بقيت رائحته وجبت الفدية بأكله عندنا كما سبق. وقال أبو حنيفة: لا فدية، ودليلنا أن مقصود الطيب وهو الترفه باقٍ. (فرع): ذكرنا أن مذهبنا أن في تحريم الريحان قولين (الأصح) تحريمه ووجوب الفدية. وبه قال ابن عمر وجابر والثوري ومالك أبو ثور وأبو حنيفة. إلا أن مالكاً وأبا حنيفة يقولان يحرم ولا فدية. قال ابن المنذر: واختلف في الفدية عن عطاء وأحمد، وممن جوّزه وقال هو حلال لا فدية فيه: عثمان وابن عباس والحسن البصري ومجاهد وإسحق. قال العبدري: وهو قول أكثر الفقهاء. (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا جواز جلوس المحرم عند العطار ولا فدية فيه. وبه قال ابن المنذر، قال: وأوجب عطاء فيه الفدية، وكره ذلك مالك.

النوع الثالث: دهن شعر الرأس واللحية:

النوع الثالث (¬1): دهن شعر الرأس واللِّحْية (¬2): فَيَحْرُمُ عَلَيْه دهنُهما بِكُل دُهْن سَوَاء كَانَ مُطيِّباً أوْ غَيْرَ مُطَيِّبِ كَالزيْتِ وَالسَّمْنِ ودُهْن الجَوْز وَاللَّوْز ولَوْ دَهَن الأَقْرَعُ رَأسَهُ وهُوَ الَّذِي لاَ يَنْبُتُ بِرَأْسِهِ شَعْر بهذَا الدُهْنِ فَلاَ بَأْسَ وَكَذَا لو دَهَنَ الأَمْرَدُ ذَقْنَهُ فَلاَ بَأْسَ ولَوْ دَهَنَ مَحْلُوقُ الشَّعْر رَأْسَهُ عَصَى عَلَى الأَصَحِّ ولَزمهُ الْفِدْيةُ، ويَجُوزُ اسْتعمالُ هذا الدهن في جَميعِ الْبَدن سِوَى الرَّأْس وَاللّحْية ولَوْ كانَ في رَأْسه شَجة فَجَعَلَ الدُّهنَ في باطنها فَلاَ فِدْيةَ. ¬

_ (¬1) دليل هذا النوع ما فيه من التزيين المنافي لحديث: (المحرم أشعث أغبر) أي شأنه المأمور به ذلك. (¬2) أي ولو من امرأة، والواو هنا بمعنى (أو)، وقوله: (دَهْن) بفتح الدال بمعنى التدهين، ومثل شعر اللحية سائر شعور الوجه ما عدا شعر الخد والجبهة والأنف فيحرم على المحرم ولو قصر الزمن دهن شعر رأسه ووجهه ما عدا شعر الخد والوجه والأنف، وإن كان الشعر محلوقاً لا رأس الأقرع والأصلع في محله وذقن الأمرد قبل زمن إنباته، وليحترز المحرم عند كل الدسم كسمن ولحم وشحم من تلويث العنفقة أو الشارب فإنه مع العلم والتعمد حرام تجب فيه الفدية، ولو لشعرة واحدة أو بعضها. مسائل في مذاهب العلماء في ادهان المحرم بدهن غير مطيب مأخوذة من المجموع (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أن الزيت والشيرج والسمن والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه، ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته. وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته، وقال مالك: لا يجوز أنْ يدهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه واليدين والرجلين ويجوز دهن الباطنه، وهي ما يوارى باللباس، وقال أبو حنيفة كقولنا في السمن والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعماله في الرأس والبدن .. وقال أحمد: إذا دهن بزيت أو شيرج =

النوع الرابع: الحلق وقلم الظفر:

النوع الرابع: الحلق وقلم الظفر: فَيَحْرُمُ إِزَالَة الشَعْر بِحَلْقٍ أوْ تَقْصيرٍ أوْ نتف أو إحرَاقٍ أو غير ذلك (¬1) سَوَاء فيه شَعْرُ الرَّأس والإِبط والْعَانَة والشَارب وغَيْرهَا مِنْ شُعُور الْبَدَن حتى يحرُم بَعْضُ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أي مَوْضع كان من بَدنه وإزَالَةُ الظِّفْر كإزَالَة الشَّعْر فَيَحْرُمُ قَلْمُهُ وكَسْرهُ وقَطْعُ جُزُءٍ منهُ فإِن فَعَلَ شَيْئاً من ذَلِكَ عَصَى وَلَزِمَتْهُ الفِدْية (¬2) ¬

_ = فلا فدية في أصح الروايتين سواء يداه ورأسه، وقال داود: يجوز دهن رأسه ولحيته وبدنه بدهن غير مطيب. واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ادهن بزيت غير مقنت وهو محرم) رواه البيهقي وهو ضعيف، وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال الترمذي: (وهو ضعيف غريب لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد). وقوله: (غير مقنت أي غير مطيب). وإذا لم يثبت الحديث تعين المصير إلى حديث آخر وهو أن الذي جاء الشرع به استعمال الطيب، وهذا ليس منه، فلا يثبت تحريمه. هذا دليل على من حرمه في جميع البدن .. أما من أباحه في الرأس واللحية فالدليل عليه ما ذكره المصنف. أقول: يعني أبا إسحق الشيرازي صاحب المهذب رحمه الله وما ذكره هو قوله: (لأنه يرجل الشعر ويزينه). (فرع): قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يكل الزيت والشحم والشيرج والسمن. قال: وأجمع عوام أهل العلم على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن .. قال: وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعماله الطيب في جميع بدنه والله أعلم. (¬1) أي من سائر وجوه الإِزالة فيشمل الزائل بواسطة حَك رجل الراكب في نحو قتب فتجب فيه الفدية وإن احتاج لذلك غالباً لإمكان الاحتراز عنه كما في الحاشية وفي التحفة حتى بشُرْب دواء مزيل مع العلم والتعمد فيما يظهر. (¬2) وذلك لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196]، أي شيئاً من شعرها وألحق به سائر =

ويَحْرُمُ عليه مَشْطُ لحيته وَرَأسه إنْ أدَّى إلى نَتْف شيء مِنَ الشَّعْر (¬1) فإنَّ لَمْ يُؤَد إليه لم يَحْرمْ لكن يُكْرَهُ فإنْ مَشَطَ فَنَتَفَ لزِمَهُ الفِدْيةُ فإنْ سَقَطَ شَعَر فَشَكَّ هَلْ انْتَتَفَ بالمَشْط أم كَان مُنْتَسلاً فلا فِدْيةَ عليه على الأَصَحِّ ولو كَشَطَ جلدَ رأسهِ أو قَطَع يَدَهُ أو بعضَ أصابعه وعليه شعْرٌ أو ظفْرٌ فلا فدية عليه لأَنَّهُما تابعان (¬2) غيْر مقصودَيْن (¬3) ويجوز للمحرم أن يحلق شعر الحلال (¬4) ويحرُمُ على الحلاَل حَلْقُ شَعْر المُحْرم فإِن حلقَ حلالٌ أو مُحْرمٌ شَعْر مُحْرم آخر أثم (¬5). فإِنْ كان حَلَقَ بإِذْنه فالفدْيةُ على المَحلُوقِ (¬6) وإنْ حَلَقَ بِغَيْرِ إِذْنه بأن كَانَ نائماً أو مُكْرَهاً أو مُغْمى عليه (¬7) أو سَكَت (¬8) فَالأَصحُّ أَنَّ الفديةَ على الْحَالق وقيل على المَحْلُوق. ¬

_ = شعور البدن وإزالة الظفر بجامع أن في كل ترفهاً ينافي كون المحرم أشعث أغبر أي شأنه المأمور به ذلك أي ليكن كذلك. (¬1) أي باعتبار عادته الغالبة فيما يظهر فإن لم يعرف له عادة كذلك، فإن ظن الانتتاف حرم، وإلا فلا فيما يظهر. اهـ حاشية. (¬2) أي للجلد واليد والإصبع. (¬3) أي سواء كان فعل ذلك لعذر أم لا. (¬4) أي بإذنه وإلا أثم وعزر وعلم الرضا كالإذن بالنسبة لعدم الإِثم مطلقاً ولعدم التعزير إن صدقه عليه وإلا فالقول قوله بيمينه. اهـ تعليق عن ابن الجمال رحمه الله. (¬5) أي لارتكابه محرماً. (¬6) أي لإضافة الفعل إليه مع انفراده بالترفه وإنْ اشتركا في الإِثم، فإنْ قيل: المباشرة مقدمة على الأمر فلم قدم عليها؟ أجيب: بأن محل ذلك ما إذا لم يعد نفعه على الآمر بخلاف ما إذا عاد كما لو غصب شاة فأمر قصاباً بذبحها لم يضمنها إلا الغاصب. (¬7) أي أو مجنوناً أو صبياً لا يميز. (¬8) أي بأن كان غير قادر على منعه.

فَعَلى الأَصَح لو امْتَنَعَ الحَالقُ مِنْ إخْراجِها فَللْمَحْلْوق مُطالبتهُ (¬1) بإخْراجَها على الأَصَح ولو أخْرَجَهَا المحْلُوق (¬2) عن الْحَالق بإذْنه جازَ وبِغَيْرِ إذْنهِ لا يجُوزُ على الأَصح ولو أمَرَ حَلاَلٌ حَلاَلاً بحَلْق شَعْر مُحْرِم نَائِم فالفِدْيةُ على الآمرِ إنْ لم يعرف الحالِقُ الحَال فمانْ عَرَفَ فَعَلَيْهِ على الأَصَح (¬3). (فرع): هَذَا الَّذي ذَكَرْنَاه في الحَلْق والْقَلْم بغيرِ عُذْرِ فأمّا إذا كان بِعُذْر فَلاَ إثْمَ. وأمّا الفِدْيةُ ففيها صورٌ: منها النَّاسي والجاهلُ فعَلَيْهِمَا الفدية على الأصَح (¬4) لأَنَّ هذا إتْلاَفٌ فلا يَسْقُطُ ضَمانُه لعذر كإتلاَفِ المالِ ومنها ما لو كَثَرَ الْقَملُ في رَأسِهِ أو كانَ به جِرَاحَة أَحْوَجَهُ أذاها إلَى الْحَلْق أو تأذى بالْحَرِّ لكثْرةِ شَعْرهِ فَله الحَلق وعليه الفِدْيةُ ومنها لو نَبَتَت شَعْرَةٌ أو شَعَرَاتٌ داخل ¬

_ (¬1) هو المعتمد كما في الحاشية لأنها وجبت بسببه ونسكه. (¬2) ومثله غيره. (¬3) هو المعتمد. مذاهب العلماء فيما لو حلق محرم رأس حلال قال المصنف رحمه الله تعالى في المجموع: جاز ولا فدية، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يجوز فإنْ فعل فعلى الحالق صدقة كما لو حلق رأس محرم. دليلنا أنه حلق شعراً لا حرمة له بخلاف شعر المحرم ولو حلق حلال شعر محرم نائم أو مكره فقد ذكرنا أن الأصح عندنا وجوب الفدية على الحالق. وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: تجب على المحلوق ولا يرجع بها على الحالق، وقال عطاء: من أخذ من شارب المحرم فعليهما الفدية. اهـ. (¬4) الأصح في المجموع كما في الحاشية إن المغمى عليه والمجنون والصبي إذا لم يكن لهم تمييز لا فدية عليهم ولا على وليهم وإن خالف قاعدة الإِتلاف لنسبة نحو الناسي لتقصيره لشعوره بفعله، بخلاف نحو المجنون، وأيضاً فكل من الحلق والقلم ليس =

النوع الخامس: عقد النكاح:

جَفْنهِ وتأذَّى بهَا قَلَعها ولا فديْةَ (¬1) وكَذَا لو طَال شَعْر حاجبه أو رَأسه وَغَطَّى عينهُ قَطَعَ المُغَطي ولا فِدْيةَ وكذا لو انكسَرَ بعضُ ظُفْرِهِ وَتأذَّى به قَطَعَ المُنكسِرَ ولاَ يقْطَعُ معه من الصَّحيح شيئاً. النوع الخامس: عَقْدُ النكاحِ: فَيَحْرُمُ على الْمحْرِم (¬2) أنْ يُزَوجَ أو يَتَزَوجَ وكل نِكَاحٍ كَانَ الوَلي فيه مُحْرِماً أَو الزوْجُ أَو الزوْجةُ بَاطلٌ وَتَجُوزُ الخطبة في الإِحْرامِ على الأصَح لكن تكْرَه ويجُوزُ أن يكونَ المُحْرِم شاهداً في نكاح الحَلاَلَيْن على الأصَحِّ وتكْرَهُ خِطْبةُ المَرْأَةِ في الإِحْرامِ ولا تَحْرمُ. ¬

_ = إتلافاً مَحْضاً بل يتردد بينه وبين الاستمتاع فغلب في نحو الناسي شبه الإتلاف، وفي نحو المجنون شبه الاستمتاع لما ذكر، والفرق بأن نسك نحو المجنون ناقص فلا يحتاج للجبر فلا تأثير له، وكالمغمى عليه النائم بخلاف من أثم بتعاطي ما يزيل عقله بمسكر أو غيره لأنه كالصاحي. وعلم مما تقرر هنا وفيما يأتي في آخر الكتاب على الكلام على الفدية القاعدة المشهورة وهي أن ما كان إِتلافاً محضاً كقتل الصيد لا يؤثر فيه الجهل والنسيان، وما كان استمتاعاً وترفهاً يؤثر فيها. وما أخذ شبهاً من الجانبين تارة يغَلب فيه الأول، وتارة يغَلب فيه الثاني والله أعلم. (¬1) يفرق بين عدم وجوب الفدية هنا وبين وجوبها فيما لو كثر القمل برأسه بأن الضرر هنا أشد والله أعلم. (¬2) كالمحرم وكيله، وإن كان الإِحرام فاسداً ويستثنى نواب الإِمام والقاضي فلكل منهم إذا كان حلالاً أن يعقد مع إحرام مستنيبه لعموم ولايتهم وبه فارقوا الوكلاء. وكنكاحه إذنه لعبده أو مولته في النكاح فلا يصح على الأوجه كما في الحاشية. (فروع): كما في الحاشية قال رحمه الله: لا تنتقل الولاية بسبب الإحرام إلى الأبعد بل يزوج السلطان أو القاضي ولو وكل حلال حلالاً في التزويج ثم أَحرم أحدهما أو المرأة زوج بعد التحلّلين بالولاية السابقة، ولو وكل حلال محرماً ليوكل حلالاً عن نفسه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أو محرم حلالاً ليزوجه إذا حل جاز، ولو اختلف الزوجان في وقوع العقد حال الإحرام، ولا بيّنة، فإنْ ادّعت وقوعه فيه صدق بيمينه، وفي عكسه تصدق بيمينها بالنسبة لوجوب المسمى وسائر مؤن النكاح ويحكم بانفساخه، ولو ادعى أنه فيه وقالت: لا أدري حكم ببطلانه، ولا مهر لها لأنها لم تدعه والإحرام الفاسد كالصحيح في جميع ما ذكر كما علم مما مَرّ، ويجوز أن تزف المحرمة إلى الحلال وعكسه نعم لا يبعد كراهة ذلك كالخطبة الآتية بل أولى. اهـ. مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى [في] نكاح المحرم قال المصنف في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح تزوج المحرم ولا تزويجه، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهو مذهب عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وسليمان بن بشار والزهري ومالك وأحمد وإسحق وداود وغيره رضوان الله عليهم. وقال الحكم والثوري وأبو حنيفة: يجوز أن يتزوج ويزوج، واحتجوا بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تزوج ميمونة وهو محرم) رواه البخاري ومسلم. واحتج أصحابنا بحديث عثمان رضي الله عنه أن رسول الله قال: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح" رواه مسلم. (فإن قيل): المراد بالنكاح الوطء. فالجواب: أن اللفظ إذا اجتمع فيه عُرْف اللغة وعُرْفُ الشرع قُدم عرف الشرع لأنه طارئ، وعُرف الشرع أن النكاح: "العقد" لقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ} [البقرة: 232]، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. وفي الحديث الصحيح: (ولا تُنكح المرأة على عمتها). وفي الصحيح: (انكحي أسامة). والمراد بالنكاح في هذه المواضع وشبهها العقد دون الوطء. وأما قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] فإنما حملناه على الوطء بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى تذوقي عسيلته". الجواب الثاني: إن في الحديث: (لا يَنكح ولا يُنكح ولا يخطب) والخطبة تراد للعقد وكذلك النكاح. قالوا: يحمل (ولا يخطب) على أنه لا يخطب الوطء بالطلب والاستدعاء. (والجواب): أن الخطبة المقرونة بالعقد لا يفهم منها إلا الخطبة المشهورة وهي طلب التزويج. =

النوع السادس: الجماع ومقدماته:

النوع السادس: الجمَاعُ ومُقَدّماته: فَيَحْرمُ على المحرم الوطْء (¬1) في القُبل والدُّبر مِنْ كل حَيَوان وَتَحْرُمُ المُبَاشَرَة (¬2) فيمَا دُونَ الفَرْجِ بِشَهْوَة (¬3) ¬

_ = وأما الجواب عن حديث ابن عباس في نكاح ميمونة: فإن الروايات اختلفت في نكاحها. فروى يزيد بن الأصم عنها وهو ابن أختها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تزوجها وهو حلال) رواه مسلم. وعن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تزوج ميمونة حلالاً وبنى بها حلالاً، وكنت الرسول بينهما) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. قال أصحابنا: وإذا تعارضت الروايات تعين الترجيح فرجحنا رواية الأكثرين أنه تزوجها حلالاً والترجيح الآخر وهو أن رواية تزوجها حلالاً من جهة ميمونة رضي الله تعالى عنها وهي صاحبة القصة، وأبي رافع، وكان السفير بينهما فهما أعرف، فاعتماد روايتهما أولى. (فرع): إذا تزوج المحرم فنكاحه باطل عندنا وعند الجمهور، ويفرق بينهما تفرقة الأبدان بغير طلاق. وقال مالك وأحمد: يجب تطليقها لتحل لغيره بيقين لشبهة الخلاف في صحة النكاح. ودليلنا أن العقد الفاسد غير منعقد، فلا يحتاج في إزالته إلى فسخ كالبيع الفاسد وغيره، وفي هذا جواب عن دليلهم. (فرع): قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا صحة رجعة المحرم، وبه قال مالك والعلماء إلا أحمد في أشهر الروايتين عنه. دليلنا أنها ليست بنكاح وإنما نهى الشرع عن النكاح والله أعلم. اهـ مختصراً. أقول: قال العلامة منصور البهوتي الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه كشاف القناع: وتباح الرجعة للمحرم وتصح لأنها إمساك. اهـ. فلعل المذهب اختيار الرواية الأخرى. (¬1) والدليل على تحريم الجماع ومقدماته على المحرم. قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] والرفث الجماع. ومعنى (فلا رفث): لا ترفثوا. لفظه خبر ومعناه النهي. (¬2) أي ولو لغلام. والمباشرة هي إلصاق البشرة -وهي ظاهر الجلد- بالبشرة. (¬3) الشهوة: اشتياق النفس إلى شيء، وينبغي أن يتنبه لذلك من يحج بحليلته، لا سيما عند إركابها وتنزيلها فمتى وصلت بشرته لبشرتها بشهوة أثم ولزمته الفدية، وإن لم ينزل. اهـ كردي. اهـ إعانة الطالبين.

كالمفَاخَذَة (¬1) والْقُبْلَة واللّمس بالْيد بَشَهْوَةٍ وَلاَ يَحْرُمُ اللمس والْقُبْلَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَهَذَا التحْرِيم في التحِريم في الجِمَاع يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَتَحَلَّل التَّحَلُلَيْن وكَذَا المُبَاشَرَةُ بغَيْر الجمَاع يَسْتَمر تَحْريمُهَا عَلَى الْقَوْل الأصَح وَعَلى قَوْلٍ يحل بالتَّحَلل الأَوَّل وحَيْثُ حَرَّمْنَا المُبَاشَرَةَ فيما دُونَ الفَرْج فَبَاشَرَ عَامداً عَالماً لَزِمه الْفِدْيةُ (¬2) ولاَ يَفْسُدُ نُسُكهُ وإنْ بَاشَرَ نَاسياً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَف سَوَاءٌ أَنزَلَ أمْ لاَ. والاسْتِمنَاء (¬3) بالْيَد يُوجبُ الْفِدْيةَ وَلَوْ كَرَّرَ النَظَرَ إلَى امْرأَةٍ فَأَنْزَلَ مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ وَلاَ اسْتِمْنَاء فَلاَ فِدْيةَ عَلَيه عندَنَا ولاَ عِنْدَ أبي حَنيفَةَ ومَالك رَحمهما اللهُ وَقَالَ أحْمَدُ في روايةٍ تَجِبُ بدَنةٌ وفي رواية شاةٌ وَأمَّا الوطء في قُبُل المرأة أوْ دُبُرها أوْ دُبُر الرَّجُل وَالْبهيمةِ فَيَفْسُدُ به الحج إنْ كَانَ قَبْلَ التَّحَلل الأول (¬4) سوَاء قَبْل الْوُقُوف بعَرَفَةَ أَو بعده وإنْ كَانَ بين التَحْللَيْن لَمْ يفْسد الْحَج (¬5) وإن ¬

_ (¬1) أي والمعانقة. (تنبيه): يحرم على الحلال مباشرة المحرمة حيث لا يجوز له تحليلها، ويحرم على المحرمة تمكين الحلال من مباشرتها والله أعلم. (¬2) محله ما لم يجامع بعدها، وإلاّ دخل واجبها وهو الشاة في واجب الجماع من بدنة إذا كان قبل التحللين أو شاة إذا كان بين التحللين. (¬3) الاستمناء هو طلب خروج المني بيده أو بيد غيره. وقوله: يوجب الفدية أي إن أنزل، ومثله التقبيل والمباشرة ولو لذكر بشهوة بدون حائل أنزل أم لا فيهما الفدية. (¬4) يشمل من فاته الحج وهو المعتمد، كما في الحاشية فحيث جامع قبل التحلل منه بنحو الطواف المتبوع بالسعي والحلق فسد بشرط العلم والعمد والاختيار والتمييز وكذا تلزمه الفدية لو فعل شيئاً من محرمات الإحرام قبل ذلك، ولا فرق في الإِفساد والإِثم بالوطء بين الفاعل والمفعول المكلف وكذا تلزم كلاً منهما الفدية لو فعل شيئاً من محرمات الإحرام قبل ذلك. (¬5) أي ولكن تجب به شاة أو سُبْع بَدَنة أو سُبْع بقَرة أو صوم ثلاثة أيام أو التصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع. وتتكرر الفدية بتكرار الوطء.

جامَعَ في الْعُمْرَةَ قَبْل فَرَاغها فَسَدَت (¬1) وإذا فَسَدَ الْحَجُّ أو الْعُمْرَةُ (¬2) وجَبَ ¬

_ (¬1) أي إن كانت مفردة أما القارن فعمرته تابعة لحجه صحةً وفساداً كما يحل له معظم المحظورات بعد التحلل وإن لم يأت بأفعالها. فإن جامع قبل التحلل الأول، فسد نسكاه، وإنْ كان قد أتى بصورة أعمال العمرة بتمامها كأن طاف وسعى وحلق قبل الوقوف تعدياً أو لعذر أو حلق بعده ولم يحصل التحلل الأول وإن جامع بعده لم يفسد وإن لم يأت بجميع أفعال العمرة كان رمى وحلق فقط. (¬2) أي بالوطء بشرط العلم والعمد والاختيار والتمييز. وكون الوطء قبل التحللين في الحج وفي العمرة قبل تمامها. هذا إذا كانت مفردة وإلا فهي تابعة للحج كما تقدم، ولا فرق في إفساد ما ذكر وفي الإثم بالوطء بين الفاعل والمفعول المكلف، وأما الفدية فلا تلزم إلا الرجل المواقع لأنه لم يؤمر بالكفارة في الحديث في إفساد الصوم إلا هو ولأن الكفارة غرم مالي يتعلق بالجماع فيختص بالرجل الواطىء كالمهر فلا يجب على الموطوءة. وعند العلامة المحقق ابن حجر المكي رحمه الله تعالى في فدية الجماع تفصيل وهو لزوم الكفارة للرجل إنْ كان زوجاً محرماً مكلفاً وإلا فعليها حيث لم يكرهها وكذا لو زنت أو مكنت غير مكلف. وفي الكردي ما نصه: والذي يتلخص مما اعتمده الشارح -يعني ابن حجر المكي في كتبه- أن الجماع في الإحرام ينقسم على ستة أقسام: (أحدها): ما لا يلزم به شيء لا على الواطىء ولا على الموطوءة ولا على غيرها، وذلك إنْ كانا جاهلين معذورين بجهلهما أو مكرهين أو ناسيين للإحرام أو غير مميزين. (ثانيها): ما تجب به البدنة على الرجل الواطىء فقط، وذلك فيما إذا استجمع الشروط من كونه عاقلاً بالغاً عالماً متعمداً مختاراً وكان الوطء قبل التحلل الأول والموطوءة حليلته سواء كانت محرمة مستجمعة للشروط أم لا. (ثالثها): ما تجب به البدنة على المرأة فقط وذلك فيما إذا كانت هي المحرمة فقط وكانت مستجمعة للشروط السابقة أو كان الزوج غير مستجمع للشروط وإن كان محرماً. (رابعها): ما تجب به البدنة على غير الواطىء والموطوءة وذلك في الصبي المميز إذا كان مستجمعاً للشروط فالبدنة على وليه. (خامسها): ما تجب به البدنة على كل من الواطىء والموطوءة وذلك فيما إذا زنى =

عليه المُضِيُّ في فاسده (¬1) وَيَجبُ قَضَاؤُه (¬2) وتَلْزَمه (¬3) بَدَنَةٌ فإنْ لم يَجِدْ فَبقرَةٌ. وسَيَأتي إِيضَاحُ الْبَدنَة (¬4) في باب الدماء في آخر الكتَاب إن شاء الله ¬

_ = المحرم بمحرمة أو وطئها بشبهة مع استجماعهما شروط الكفارة. (سادسها): ما تجب فيه فدية مخيرة بين شاة أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين أو صوم ثلاثة أيام وذلك فيما إذا جامع مستجمعاً لشروط الكفارة السابقة بعد الجماع المفسد أو جامع بين التحللين. هذا ملخص ما جرى عليه الشارح تبعاً لشيخ الإسلام زكريا واعتمد الشمس الرملي والخطيب الشربيني تبعاً لشيخهما الشهاب الرملي أنه لا فدية على المرأة مطلقاً. اهـ إعانة الطالبين. (¬1) أي فيعمل ما كان يعمله قبل الإفساد، ويجتنب ما كان يجتنبه قبله وإلا لزمته الفدية، فعلم أنه يحرم الجماع ثانياً قبل التحلل منه ويجب به شاة كما تقدم. (¬2) أي إن كان ما أفسده غير قضاء، وإلا فالواجب قضاء واحد بخلاف البدنة فتتكرر بحسب تكرر الإفساد. (¬3) أي المحرم سواء كان ذكراً أو أنثى إذ هو المحدث عنه في جميع هذا النوع بدليل قول المصنف في آخر المحرمات والمرأة كالرجل في جميعها. والله أعلم. (¬4) حاصله كما في الحاشية مع زيادة واختصار. أنه يجب به (أي بالجماع المفسد للنسك) بدنة فبقرة فسبع شياه، ومثلها سُبع من سَبع بدنات كما هو ظاهر فطعام مجزىء في الفطرة بقيمة البدنة بالنقد الغالب بسعر مكة في غالب الأحوال كما في الكفاية عن النص وغيره لكن خالفه جمع متأخرون فقالوا: يعتبر سعرها حال الوجوب. قال في التحفة: وأوجه منهما اعتبار حالة الأداء لما يأتي في الكفارات ومصرف ذلك مساكين الحرم، والمستوطن أولى فإن عجز صام عن كل مد يوماً ويكمل المنكسر وواجب الطعام غير مقدر فلا يتعين لكل مسكين مد لكن الأفضل أن لا يزاد كل على مدين ولا ينقص عن مد فإنْ عجز صام عن كل مد يوماً ويكمل المنكسر، واحتج لوجوب البدنة بأن عمر وابنه عبد الله أفتيا بذلك وكذا ابن عباس وأبو هريرة رضي الله تعالى عن الجميع. وأما الرجوع إلى البقرة والسبع من الغنم فلأنهما في الأضحية كالبدنة وأما الرجوع إلى الإطعام فلأن الشرع عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الإطعام فرجع إليه هنا عند العذر، فلو تصدق بالدراهم لم يجزه، ويجزىء في الإِبل والغنم الذكر والأنثى.

تَعَالَى وَيَجبُ القَضَاء على الْفَوْر (¬1) هذا إذا جَامَعَ عامداً عالماً بالتَّحْريم فَإن كانَ نَاسياً (¬2) أو جَاهلاً بالتحْريمِ أَو جُومِعَت المَرْأَةُ مُكْرَهَةً (¬3) لم يَفْسد الحجُّ على الأَصَح (¬4) ولا فدْيةَ أيضاً على الأَصَح. ¬

_ (¬1) أي ولو في سنة الإفساد إن أمكن كما لو أفسد المحرم نسكه ثم أحصر وتحلل والوقت باقٍ لزمه قضاؤه من سنته فوراً أو شرط التحلل بمرض فتحلل ثم شفي والوقت باقٍ فله قضاؤها من سنته وتسمية ما ذكر قضاء إنما هو بالمعنى اللغوي المجوز لإطلاق الأداء على القضاء وعكسه ومثل الحج في وجوب قضائه فوراً كل عبادة تعدى بإخراجها عن وقتها وكل كفارة تعدى بسببها فيجب أداؤهما فوراً. (تتمة): قال في الحاشية (فرع) للمفرد المفسد لأحد النسكين أن يقضيه مع الآخر قراناً أو تمتعاً، وللمتمتع والقارن القضاء إفراداً، ولا يسقط بذلك الدم وعلى القارن المفسد بدنة، ودم للقران وعليه دم آخر في القضاء وإن كان مفرداً كما في الروضة. وبحث البلقيني أنه في المتمتع يلزمه دمان آخران، دم للقران الذي التزمه بالإفساد ودم للتمتع الذي فعله، وهو متجه، لكن صرح الشيخان بأنه لا قرق بين المتمتع والقارن، ولو فات القارن الحج فأتت العمرة وعليه دمان للفوات والقران وقضاء كقضاء المفسد فيما مَرّ. اهـ. (¬2) في معنى الناسي كما في الحاشية من أحرم عاقلاً ثم جن أو أغمى عليه. وفي معنى الجاهل من رمى جمرة العقبة قبل نصف الليل ظاناً أنه بعده وحلق ثم جامع فلا فدية عليه كما في المجموع. (فإن قيل): يجب القضاء على من ظن دخول الليل أو بقاءه فافطر وتسحر ثم ظهر أنه أكل نهاراً ولم يجب القضاء هنا. أجيب: كما في الحاشية بأن علامة الليل أو النهار من شأنها أن تكون ظاهرة لكل أحد فخطؤه مع ذلك يشعر بمزيد تقصير بخلاف دخول نصف الليل الثاني فإنه لا يعرفه إلا الفذ النادر فلا تقصير هنا، وأيضاً فقضاء الحج صعب فسقط بأدنى عذر والله أعلم. (¬3) مثلها الرجل إذا جامع مكرهاً لأن الأصح تصور إكراهه عليه كما في المجموع. (¬4) مقابله الفساد ووجوب الفدية فيسن في الصور الثلاث إخراج البدنة والقضاء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خروجاً من الخلاف، ويقال بنظيره في كل مسألة فيها خلاف لم يخالف سنة صحيحة أو يضعف مدركه جداً كأن يخالف قياساً جلياً. (تتمة): جاء ما يأتي في الحاشية: إذا جامع زوجته أو أمته فسد حجها بأن كانت طائعة عالمة بالتحريم ذاكرة للإحرام ولزمه الأذن لها في القضاء وعليه لها ما زاد من النفقة بسبب السفر، وإن لم يسافر معها، وإذا عضبت أو ماتت لزمه أن يستأجر من ماله من يحج عنها فوراً، وإذا خرجا معاً سُن، وقيل: وجب أن يفترقا من حين الإحرام إلى التحلل الثاني، ومكان الجماع آكد. والمراد بالافتراق أن لا يخلو بها بحيث يتمكن من وقاعها أو مقدماته بل وأن لا ينظر إليها إن خشي أنه يؤدي إلى ذلك. ولو أحرم مجامعاً لم ينعقد أو حال النزع انعقد صحيحاً لأن النزع ليس بجماع، ولو ارتد في نسكه بطل من أصله ولا مضي ولا قضاء وإن أسلم فوراً. اهـ. مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في مسائل من مباشرة المحرم المرأة ونحوها قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: (أحداها): إذا وطئها في القبل عامداً عالماً بتحريمه قبل الوقوف بعرفات، فسد حجه بإجماع العلماء، وفيما يجب عليه خلاف لهم، فمذهبنا أن واجبه بدنة كما سبق، وبه قال مالك وأحمد وهو مذهب جماعات من الصحابة رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: عليه شاة لا بدنة، وقال داود: هو مخير بين بدنة وبقرة وشاة. (الثانية): إذا وطئها بعد الوقوف بعرفات قبل التحللين فسد حجه وعليه المضي في فاسده وبدنة والقضاء هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يفسد، ولكن عليه بدنة، وعن مالك رواية: أنه لا يفسد، دليلنا أنه وطىء في إحرام كامل فأشبه الوطء قبل الوقوف. احتجوا بالحديث: "الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد تم حجه". قال أصحابنا: هذا متروك الظاهر بالإِجماع فيجب تأويله وهو محمول على أن معناه فقد أمن الفوات. (الثالثة): إذا وطىء بعد التحلل الأول وقبل الثاني لم يفسد حجه عندنا، ولكن عليه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الفدية، ووافقنا أبو حنيفة في أنه لا يفسد. وقال مالك: إذا وطئ بعد جمرة العقبة وقبل الطواف لزمه أعمال عمرة ولا يجزئه حجه لأن الباقي عليه أعمال عمرة، وهي الطواف والسعي والحلق، وقالا: فيلزمه الخروج إلى الحل ويحرم بعمرة ويلزمه الفدية، وعن أحمد روايتان: الفدية هل هي شاة أو بدنة؟ (الرابعة): إذا وطئ في الحج وطئاً مفسداً لم يزل بذلك عقد الإِحرام بل عليه المضي في فاسده والقضاء، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور، وقال الماوردي والعبدري: هو قول عامة الفقهاء. وقال داود: يزول الإحرام بالفساد ويخرج منه بمجرد الإفساد وحكاه الماوردي عن ربيعة أيضاً قال وعن عطاء نحوه قال: واستدلوا بحديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد" رواه مسلم. قالوا: والفاسد ليس مما عليه أمره. وقياساً على الصلاة والصوم، واستدل أصحابنا بإجماع الصحابة ولأنه سبب يجب به قضاء الحج فوجب أن لا يخرج به من الحج كالفوات، والجواب عن الحديث أن الذي عليه ليس أمر صاحب الشرع إنما هو الوطء، وهو مردود، وأما الحج فعليه أمر صاحب الشرع "وأما" قياسهم على الصوم والصلاة فجوابه أنه يخرج منهما بالقول فكذا بالإفساد بخلاف الحج، ولأن محظورات الصلاة والصوم تنافيهما بخلاف الحج. (الرابعة): إذا وطئ امرأته وهما محرمان فسد حجهما وقضيا وفرق بينهما في الموضع الذي جامعها فيه فلا يجتمعان بعد التحلل. وهل التفريق واجب أو مستحب؟ فيه قولان أوجهان عندنا (أصحهما) مستحب. قال مالك وأحمد واجب، وزاد مالك فقال: يفترقان من حيث يحرمان ولا ينتظر موضع الجماع، وقال عطاء وأبو حنيفة: لا يفرق بينهما ولا يفترقان، ومما قال بالتفريق عمر وعثمان وابن عباس وسعيد بن المسيب والثوري وإسحق وابن المنذر، واحتج أبو حنيفة بالقياس على الوطء في نهار رمضان، فإنهما إذا قضيا لا يفترقان واحتج أصحابنا بأن ما قلناه قول الصحابة، ولأنه لا يؤمن إذا اجتمعا أن يتذكرا ما جرى فيتوقا إليه فيفعلاه، والجواب عن قياسه على الصوم أنه زمنه قصير، فإذا تاق أمكنه الجماع بالليل بخلاف الحج. (الخامسة): إذا أحرم بالحج أو بالعمرة من موضع قبل الميقات ثم أفسده لزمه في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القضاء الإحرام من ذلك الموضع، وبه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وأحمد وإسحق وابن المنذر رضي الله عنهم. وحكى ابن المنذر عن النخعي أنه يحرم من المكان الذي جامع فيه. وقال مالك وأبو حنيفة: إن كان حاجاً كفاه الإحرام من الميقات، وإن كان معتمراً فمن أدنى الحل، واحتجا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "ارفضي عمرتك ثم أمرها أن تحرم من التنعيم بالعمرة" رواه البخاري ومسلم. واحتج أصحابنا بأنها مسافة وجب قطعها في أداء الحج فوجب في القضاء كالميقات، وأما حديث عائشة فإنها صارت قارنة فأدخلت الحج على العمرة. ومعنى (ارفضي عمرتك) أي دعي إتمام العمل فيها واقتصري على أعمال الحج فإنها تكفيك عن حجك وعن عمرتك، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لها في صحيح مسلم وغيره: "طوافك وسعيك يجزئك لحجك وعمرتك" فهذا تصريح بأنها لم تبطلها من أصلها، بل أعرضت عن أعمالها منفردة لدخولها في أعمال الحج، وقد بسطت هذا التأويل بأدلته الصحيحة الصريحة في شرح صحيح مسلم رحمه الله تعالى والله أعلم. (السادسة): قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزم من فسد حجه بدنة. وبه قال ابن عباس وعطاء وطاووس ومجاهد ومالك وأبو ثور والثوري وإسحق إلا أن الثوري وإسحاق قالا: إن لم يجد بدنة كفاه شاة، وعندنا وعند آخرين إن لم يجد بدنة فبقرة فإن فقدها فسبع من الغنم فإن فقدها أخرج بقيمة البدنة طعاماً، فإن فقد صام عن كل مدٍ يوماً، وعن أحمد رواية أنه مخير بين هذه الخامسة، وسبق بيان مذهب أبي حنيفة في المسألة الأولى والثانية. ودليلنا آثار الصحابة. (السابعة): إذا وطىء القارن فسد حجه وعمرته ولزمه المضي في فاسدهما وتلزمه بدنة للوطء، وشاة بسبب القرآن. فإذا قضى لزمه أيضاً شاة أخرى سواء قضى قارناً أم مفرداً؛ لأنه توجب عليه القضاء قارناً، فإذا قضى مفرداً لا يسقط عنه دم القران. قال العبدري: وبهذا كله قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن وطىء قبل طواف العمرة فسد حجه وعمرته وعليه المضي في فاسدهما، والقضاء وعليه شاتان شاة لإفساد الحج وشاة لإفساد العمرة ويسقط عنه دم القران، فإن وطىء بعد طواف العمرة فسد حجه، وعليه القضاء وذبح شاة ولا تفسد عمرته فيلزمه بدنة بسببها، ويسقط عنه دم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القران. قال ابن المنذر: وممن قال يلزمه هدي واحد عطاء وابن جريج ومالك، والشافعي وإسحق وأبو ثور وقال الحاكم: يلزمه هديان. (الثامنة): إذا أفسد المحرم والمحرمة حجهما بالوطء فقد ذكرنا الخلاف في مذهبنا أنه هل يلزمهما بدنة أو بدنتان، قال ابن المنذر: وأوجب ابن عباس وابن المسيب والضحاك والحاكم وحماد والثوري وأبو ثور على كل واحد منهما هدياً، وقال النخعي ومالك: على كل واحد منهما بدنة، وقال أصحاب الرأي إن كان قبل عرفة فعلى كل واحد منهما شاة، وعن أحمد روايتان: (إحداهما) يجزئهما هدي و (الثانية) على كل واحد منهما هدي. وقال عطاء وإسحق لزمهما هدي واحد. (التاسعة): إذا جامع مراراً فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يجب في المرة الأولى بدنة وفي كل مرة بعدها شاة، قال ابن المنذر: وقال عطاء ومالك وإسحق: عليه كفارة واحدة، وقال أبو ثور: لكل وطء بدنة، وقال أبو حنيفة: إن كان في مجلس واحد فدم وإلا فدمان، وقال محمد: إن لم يكن كفر عن الأول كفاه لهما كفارة وإلا فعليه للثاني كفارة أخرى. دليلنا أن الثاني مباشرة محرمة مستقلة لم تفسد نسكاً فوجبت فيها شاة كالمباشرة بغير الوطء. (العاشرة): لو وطىء امرأة في دبرها أو لاط بِرَجُل أو أتى بهيمة، فقد ذكرنا أن الصحيح عندنا أنه يفسد حجه وعمرته بكل واحد من هذا، وقال أبو حنيفة: البهيمة لا تفسد، ولا فدية، وفي الدبر روايتان، وقّال داود: لا تفسد البهيمة واللواط. (الحادية عشرة): لو وطئها فيما دون الفرج لم يفسد حجه عندنا، وعليه شاة في أصح القولين وبدنة في الآخر، سواء أنزل أم لا. وكذا قال جمهور العلماء: لا يفسد، وممن قاله الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور، قال سعيد بن جبير والثوري وأحمد وأبو ثور وعليه بدنة، وقال أبو حنيفة: دم. وقال ابن المنذر: عندي عليه شاة. وقال عطاء والقاسم بن محمد والحسن ومالك وإسحق رحمهم الله: إن أنزل فسد حجه ولزمه قضاؤه. وعن أحمد في فساده روايتان، وأما إذا قبلها بشهوة فهو عندنا كالوطء فيما دون الفرج فلا يفسد الحج وتجب شاة في الأصح وبه قال ابن المسيب وعطاء وابن سيرين والزهري وقتادة ومالك والثوري وأحمد وإسحق وأبو حنيفة وأبو ثور، وقال ابن المنذر رحمه الله: روينا ذلك عن ابن عباس، وروينا عنه أنه يفسد حجه، وعن عطاء رواية أنه يستغفر الله تعالى ولا شيء عليه، وعن سعيد بن جبير أربع روايات: (إحداها) كقول ابن =

النوع السابع: إتلاف: الصيد:

النوع السابع: إتلاف (¬1): الصيد: فيحرم بالإِحرام إتلاف كل حيوان بري وحشي أو في أصله وحشي (¬2) مأكول (¬3) وسواء المستأنس (¬4) وغيره والمملوك وغيره فإن أتلفه (¬5) لزمه الجزاء ¬

_ = المسيب رحمه الله و (الثانية) عليه بقرة و (الثالثة) يفسد حجه و (الرابعة) لا شيء عليه بل يستغفر الله تعالى. (الثانية عشرة): لو ردَّد النظر إلى زوجته حتى أمنى لم يفسد حجه ولا فدية عليه وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور. وقال الحسن البصري ومالك: يفسد حجه وعليه الهدي. وقال عطاء: عليه الحج من قابل، وعن ابن عباس روايتان: (إحداهما) عليه بدنة و (الثانية) دم، وقال سعيد بن جبير وأحمد وإسحق: عليه دم. (الثالثة عشرة): إذا وطىء المعتمر بعد الطواف وقبل السعي فسدت عمرته وعليه المضيّ في فاسدها والقضاء والبدنة وبه قال أحمد وأبو ثور لكنهما قالا: عليه القضاء والهدي، وقال عطاء: عليه شاة ولم يذكر القضاء وقال الثوري وإسحاق: يريق دماً وقد تمت عمرته، وقال ابن عباس رضي الله عنه: العمرة والطواف، واحتج إسحاق بهذا، وقال أبو حنيفة: إن جامع بعد أن طاف بالبيت أربعة أشواط لم تفسد عمرته وعليه دم، وإن كان طاف ثلاثة أشواط فسدت وعليه إتمامها والقضاء ودم. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لو وطىء قبل الطواف فسدت عمرته، أما إذا جامع بعد الطواف والسعي وقبل الحلق فقد ذكرنا مذهبنا فساد العمرة إن قلنا إن الحلق نسك وهو الأصح، قال ابن المنذر: ولا أحفظ هذا عنْ غير الشافعي، وقال ابن عباس والثوري وأبو حنيفة: عليه دم وقال مالك عليه الهدي، وعن عطاء أنه يستغفر الله تعالى ولا شيء عليه. قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلى. (¬1) المراد بالإتلاف هنا التعرض ليشمل التطيير. (¬2) أي وإنْ بَعُد. (¬3) أي لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. (¬4) منه الدجاج الحبشي وإن ألف البيوت. قال ابن جماعة رحمه الله تعالى: لأن أصله وحشي. (¬5) أي أو أزمنه وإن كان مكرهاً لكن له الرجوع على المكره بكسر الراء، فالمكره بفتح الراء طريق في الضمان.

فإن كان مملوكاً لزمه الجزاء لحق الله تعالى والقيمة للمالك (¬1) وَلَوْ تَوَحّشَ إنسيّ لم يَحْرُمْ نَظَرَاً لأَصْله ولَوْ تَوَلّدَ مِنْ مَأكُولٍ وَغَيْره أو من إنْسي وغَيْره كالْمُتولد بَيْنَ الظَّبي والشَّاة حَرُمَ إتْلاَفُهُ ويَجبُ به الجَزاء احْتَياطاً ويَحْرُم الجَرَادُ ولا يَحْرُمُ السَّمَك وصَيْدُ البَحْر (¬2) وهوَ ما لا يَعيشُ إلاّ في البَحْر فأَمَّا ما يَعيشُ في البر والبحر فَحَرَام (¬3) وأمَّا الطُّيُور المائية التي تَغُوصُ في الماء وتَخْرجُ فَحَرام ولا يَحْرُم ما ليس مَأكُولاً ولا ما هو مُتَوَلِّدٌ من مأكُولٍ وغيره. (فرع): بيضُ الصَّيْد المأكُول ولَبنُهُ حَرَام ويَضمنهُ بقيمته (¬4) فإن كانت ¬

_ (¬1) قد ألغز ابن الوردي رحمه الله تعالى في هذا فقال: عندي سؤال حسنٌ مستطرف ... فرع على أصلين قد تفرعا قابض شيء برضا مالكه ... ويضمن القيمة والمثل معا ومراده بالأصلين أن المثل يضمن بمثله والمتقوم بقيمته. وقد أجاب بعضهم بقوله: جواب هذا أن شخصاً محرماً ... أعاره الحلال صيداً فاقنعا أقبضه إياه ثم بعد ذا ... قد أتلف المحرم هذا فاسمعا فيضمن القيمة حقاً للذي ... أعاره والمثل لله معاً (¬2) أي ولو كان البحر أو نحو البئر في الحرم وبه قال الجمهور، وعن أحمد: روايتان الجواز والمنع. وبالمنع قال صاحب مفيد الأنام: لأنه حرمي أشبه صيد الحرم ولأن حرمة الصيد للمكان فلا فرق. اهـ. (¬3) أي كالبري الوحشي المأكول تغليباً لجهة التحريم والمراد بالبحري ما لا يعيش إلا في الماء ولو نحو بئر كما تقدم أو نهر وإنما لم يحرم لأن اصطياده يدل غالباً على الاضطرار والمسكنة بخلاف صيد البر فيحرم لأن اصطياده يدل غالباً على الترفه وهو مناف للإحرام. (¬4) قال في الحاشية: ما ذكره في اللبن هو المعتمد حيث حلب له فإن حلبه هو حرم قطعاً، ولو نقص المحلوب بالحلب ضمن نقصه أيضاً فيقوم قبل النقص وبعده ويؤخذ التفاوت بينهما مع قيمة اللبن وتقييد البيض بكونه بيض مأكول يقتضي أن بيض ما =

البيضَةُ مَذِرَةَ (¬1) فأَتْلَفَهَا فلا شَيْء عليه إِلا أن تكُون بيضةَ نَعَامة فَيضمَنُهَا بقيمتها لأن قِشْرهَا يُنْتَفعُ به ولو نَفرَ صَيْداً عن بيضتهِ (¬2) التي حَضَنَهَا فَفَسَدَتْ لزِمهُ قيمتها ولو كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فيها فَرْخ له روح فَطَارَ وسَلِم فَلاَ ضَمَانَ وإن ماتَ فعليه مثلُه مِنَ النَّعَمَ إنْ كان له مثْل وإِلا فَعَلَيْه قيمَتُهُ. (فرع): كما يَحْرُمُ عليه إتْلاَفُ الصَيْدِ فَيَحرمُ عليه إتلافُ أَجزَائه (¬3) ويَحْرُمُ عليه الاصْطيادُ وَالاستيلاَءُ والأصَحُّ أَنهُ لا يملكُه بالشِّراء والهبةِ والْوَصيةِ ونَحوها (¬4). ¬

_ = لا يؤكل ولو بأن كان أحد أصوله غير مأكول لا ضمان ولا حرمة فيه، والأوجه خلاف فيحرم ويضمن كأصله لا سيما إن قلنا بجواز أكله وهو المعتمد. اهـ مختصراً. (¬1) أي بأن صارت دماً. وقال أهل الخبرة: إنها فسدت فلا يتأتى فرخ لنجاستها حينئذ أما إذا لم تكن كذلك فهي طاهرة على المعتمد ففيها الضمان. (¬2) أي أو نقلها من موضع إلى موضع آخر. نعم لو باض في فراشه ولم يمكنه دفعه إلا بالتعرض للبيض فتعرض له ففسد لم يضمنه - كما في الحاشية. (¬3) أي ويضمنها أي ولو نحر شعرة (فإن قيل): لِمَ لَمْ يضمن ورق الشجرة الحَرَمية كَما يأتي. أجيب بأن قطْع الورقة لا يضر الشجرة بخلاف نحو الشعر لأن إزالته تضر الصيد، ولأن يقيه من نحو الحر والبرد. (¬4) أي من كل سبب اختياري بخلاف الإرث، ورده عليه بعيب فإنه يملكه ولا يزول ملكه إلا بإرساله فوراً فإن أخره عصى بالتأخير لوجوب الفورية (فإن قيل): مَنْ أحرم وبملكه صيد يزول ملكه عنه بمجرد إحرامه فَلِمَ هنا لا يزول إلا بإرساله. (أجيب) -كما في الحاشية- بأن اختيار المحرم للإرسال مع منافاته لبقاء الصيد في ملكه رضاء بزواله أي من شأنه ذلك وإنْ جهل زوال الملك بالإِحرام وعذر بجهله فيما يظهر من كلام الفقهاء رحمهم الله تعالى بخلاف الوارث ونحوه فإنه لا اختيار له، ويصح بيعه قبل إرساله، ولا يسقط عنه الجزاء إلا بإرسال المشتري وإلا فلا وإن مات بيد المشتري والله أعلم.

فإن قَبَضهُ بَعْقِد الشِّراء (¬1) دَخَلَ في ضَمَانه فإنْ هَلَكَ في يده لَزِمَهُ الجَزَاءُ لِحَق الله تعالى والقيمَة لمالكه فإنْ رَدّهُ عليه سقطت القِيمة ولم يَسْقُطْ الْجَزَاءُ إلا بالإِرْسال وإنْ قَبَضَهُ بعقْد الهبة أو الْوَصِيةِ فهو كَقَبْضه بعَقْد الشرَاءِ إلاَّ أنه إذا هَلَكَ في يَدِه لم تَلْزَمْهُ قيمتُه للآدمي على الأَصَح لأنَّ ما لا يُضْمَنُ في الْعَقْد الصحيح لا يُضْمَنُ في الفاسِدِ كالإِجَارة ولو كان يَمْلُكُ صَيْداً فَأَحْرمَ زَالَ ملْكَهُ عَنْهُ (¬2) على الأصَح وَلَزِمَهُ إرْسَالُهُ (¬3) ولا يَجب تَقْدِيمُ الإِرسال على الإِحْرَام بِلاَ خِلاَفٍ. (فرع): ويَحْرُمُ على المُحْرم (¬4) الإِعانة (¬5) على قتْل الصَّيْد بدلاَلةٍ أو ¬

_ (¬1) أي أو العارية أو الوديعة. نعم لو تلف بيد الوديع بلا تفريط ضمنه بالجزاء فقط كما يأتي. (¬2) قال في الحاشية: قد يشكل عليه دخول الحلال به للحرم فإنه لا يزول به (أي عند الشافعية بخلاف غيرهم فإنه يزول كما سيأتي) مع منافاة الحرم للاصطياد كالإحرام. ويجاب بأن الإحرام مانع قائم بذات المحرم فنافى بقاءه في ملكه، لأن فيه ترفُّهاً لا يليق بالمحرم بخلاف الدخول به للحرم، إنه لم يقم بسببه بذات الداخل مانع ينافي بقاءه في ملكه إذ المنافي لحرمة الحرم إيجاد الاصطياد فيه لإبقاء الملك عند الدخول. اهـ. بزيادة ما بين القوسين. (¬3) أي وإن تحلل، وحيث لزمه الإرسال ملكه آخذه، ولو قبل إرساله لأنه صار مباحاً، ويضمنه إن مات قبل الإرسال، وإنْ عجز عنه كما في الحاشية لأنه ينسب لنوع تقصير حيث لم يقدمه على إحرامه مع إمكان تقديمه والله أعلم. (¬4) وكذا الحلال في الحرم إنْ لم يكن الصيد مملوكاً بأنْ صاده حلال في الحل ودخل به الحرم فلا يحرم التعرض له إلا من حيث كونه ملكاً للغير. (¬5) أي والتنفير لغير ضرورة، فإن باض على فراشه فلا يضمن ما تولد من نفاره كما تقدم فيما لو باض بفراشه وأخذاً مما يأتي في صياله.

إعارَة آلة أو بصيَاح ونحو ذلك (¬1) فلو نَفر (¬2) صيداً (¬3) فَعَثَر وَهَلَكَ به أو أَخَذَهُ سَبع أو انْصَدَمَ بِجَبَل أو شجرة ونحْوها لزمَهُ الضمان سَواء قَصَدَ تَنْفيرَهُ أم لا ويكونُ في عهدة التنْفيرِ حتى يَعُودَ الصَّيْدُ إلَى عَادَتِهِ في السُّكُون (¬4) فَإنْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ ضَمَانَ وَلَوْ هَلَكَ فِي حَالِ نفَارِهِ بآفة سمَاوية فلا ضَمَانَ عَلَى الأَصح. (فرع): النَّاسي والْجَاهل (¬5) كَالْعَامد (¬6) في وُجُوب الْجَزَاء وَلاَ إثْمَ عَلَيْهِمَا بخلاَف الْعَامد وَلَوْ صالَ عَلَى المُحْرم صَيْد في الْحل أو في الْحَرَم ¬

_ (¬1) أي ولو لحلال اتفاقاً وإنما الخلاف في الجزاء وقوله ونحو ذلك كالإشارة وهي أخف الدلالات. (¬2) أي إنسان حلال بالحرم أو محرم مطلقاً أي سواء كان بالحرم أو بالحل. (¬3) أي صيداً حرمياً أو كان المنفر محرماً، وإن كان ساهياً أو دخل الحل فقتله حلال لا محرم تقديماً للمباشرة وقياس ما مَرّ أن المنفر يكون طريقاً. (تنبيه): يحرم على الحلال أنْ يدل المحرم على الصيد، وإن اختص المحرم بالجزاء، وكذا يختص المحرم بالجزاء أيضاً فيما لو أمسك الصيد فقتله الحلال، أو أمسكه الحلال فقتله المحرم والله أعلم. (¬4) أي بأنْ يرجع سالماً إلى موضعه أو يسكن غيره ويألفه. (¬5) أي المميز فلا ضمان على غير المميز وهذا خارج عن قاعدة الإتلاف لأن هذا حق الله تعالى فسومح فيه غير المميز كالمجنون والصبي والمغمى عليه والنائم بخلاف الناسي والجاهل فإنهما يعقلان فينسبان إلى التقصير، ويستثنى من الجاهل كما في الحاشية لو باض الصيد أو فرخ في فراشه جاهلاً به فانقلب عليه حال نومه، فأتلفه. نعم إن علم به قبل النوم ثم انقلب عليه بعده ضمنه إنْ سهلت عليه تنحيته. (¬6) أي خلافاً للإمام مجاهد رحمه الله فإنه أخذ بمفهوم الآية وهي قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الآية. وحجة الجمهور قضاء عمر رضي الله عنه بالجزاء على المخطىء ولم ينكر أحد عليه وحملوا التعمّد على أنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.

فَقَتَلَهُ للدَّفْع عَنْ نَفْسه (¬1) فَلاَ ضَمَانَ وَلَوْ رَكِبَ إنسانٌ صيداً وصال على محرم ولم يمكن دفعه إلاّ بقتل الصيد فقتله وجب الجزاء على الأصح لأن الأذى ليس من الصيد، ولو وطئ المحرم الجراد عامداً أو جاهلاً فأتلفه فعليه الضمان ويأثم العامد دون الجاهل ولو عم الجراد المسالك ولم يجد بُدّاً من وطئه فلا ضمان عليه على الأصح ولَو اضطُر إلَى ذَبح صَيْد لشدَّة الجُوع جَاز أَكلُه وعَليه الجَزاء لأنَّه أتلَفَهُ لمنفعة نفْسِهِ مِنْ غير إيذاءٍ مِنَ الصَّيد. ولو خَلصهُ الْمُحرم مِنْ فَم سَبُع أوْ هرَّة ونَحْوِهما أو أخذه لِيُدَاويه ويَتعَهَّدَهُ فَهَلَكَ في يَده فَلا ضَمَانَ على الأَصَح. (فرع): يَحْرُمُ على الْمُحْرِم أَنْ يَستَوْدعَ الصَّيْدَ وأنْ يَسْتَعِيره فإن خالَفَ وقَبَضَهُ كان مَضْمُوناً عليه بالْجَزَاء والقِيمة للمالك فإن رَدَّهُ للمالك سَقَطَتْ القيمةُ ولم يَسْقُط ضَمَانُ الْجَزَاء حَتَّى يُرسِله المالك. (فرع): ولو كان المحرم راكبَ دابةِ فتلف صَيْد بِرَفْسها أو عَضّها أو بالت في الطريق فزلق صَيْدٌ فَهَلَكَ لزمه ضَمَانه، ولو انْفَلتتْ الدابةُ فأتلفت صيْدَاً فلا شيءَ عليه (¬2). (فرع): يَحْرُمُ على المُحْرِم أكْلُ صَيْد ذبَحهُ هو (¬3) أو صادَهُ غَيرهُ له بإذنِهِ أو بغير إذْنِهِ أو أَعان عليهِ أو كان لَهُ تَسبب فيه (¬4) فَإنْ أكل منهُ عَصَى ولا جَزَاء ¬

_ (¬1) أي أو عضوه أو ماله. (¬2) أي وإن فرط. والفرق بينه وبين انحلال الكلب بتقصيره أن ربطه يقصد به غالباً دفع الأذى، فإذا انحل بتقصيره فوت الغرض بخلاف ما هنا والله أعلم. (¬3) أي لغير الاضطرار. (¬4) أي في اصطياده ولو بدلالة خفية فتنبه الصائد له.

عليه بسَبَب الأَكْل (¬1) ولو صادَهُ حَلالٌ لا للمحرم (¬2) ولا تَسَببَ فيه جازَ له الأَكْلُ منه ولا جَزَاء عليه ولو ذَبَحَ المُحْرِم (¬3) صَيْداً صَارَ مَيْتَة على الأَصَحِّ فَيَحْرُم على كُل أحد أكْلُه (¬4) وإذا تَحَللَ هو من إحْرامِهِ لم يَحل لهُ ذلك الصَّيْدُ. (فرع): هذا الَّذي ذَكَرْتُهُ نُبَذٌ لا يَسْتَغْني الْحاجُّ (¬5) عن مَعْرِفَتها وَسَيأتي تَمَامُ ما يَتَعَلَّقُ بصيَدْ الْحَرَمِ وأَشْجارِهِ ونَبَاتِه وَبَيانُ الجَزَاءِ والْفِدْيةِ في آخر الكتَاب إن شاءَ الله تعالى. ¬

_ (¬1) مما ذبحه أو صِيدَ له ولو بإذنه أو بسبب دلالته أو إعانته. (¬2) محترز قوله: (له). (¬3) أو الحلال في الحرم. (¬4) بخلاف كسر المحرم أو الحلال في الحرم بيض الصيد وحلب لبنه، وقتله للجراد فإنه لا يحرم على الغير فإنْ حِلَّها لا يتوقف على تذكية بخلاف الحيوان فإنه لا يباح إلا بها وهو ليس من أهلها لقيام معنى به، وهو الإحرام أو حلول الحلال في الحرم والله أعلم. (¬5) أي والمعتمر والقارن: وإنما عبر بالحاج لأنه الغالب أو أنه أراد به ما يشمل الكل إذْ القارن يسمى حاجاً أيضاً وإن زاد بالعمرة والمعتمر يسمى حَاجاً إذ العمرة تسمى حجاً أصغر. مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى في مسائل تتعلق بالصيد في حق المحرم مأخوذة من المجموع (إحداها): إذا قتل المحرم الصيد عمداً أو خطأ أو نسياناً لإحرامه لزمه الجزاء عندنا - وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والجمهور. (الثانية): إذا قتل المحرم صيداً لزمه جزاؤه ثم قتل صيداً آخر لزمه للثاني جزاء آخر، هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وعن أحمد روايتان. (المسألة الثالثة): ما صاده المحرم أو صاده له حلال بأمره أو بغير أمره أو كان من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المحرم فيه إشارة أو دلالة أو إعانة بإعارة آلة أو غيرها. فلحمه حرام على هذا المحرم، فإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم ثم أهدى منه للمحرم أو باعه أو وهبه فهو حلال للمحرم أيضاً هذا مذهبنا. وبه قال مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه. (المسألة الرابعة): إذا ذبح المحرم صيداً في الحل لم يحل له أكله بالإجماع. وفي تحريمه على غيره عندنا قولان الأَصح التحريم، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد ويكون ميتة. (المسألة الخامسة): إذا ذبح المحرم صيداً وكل منه لزمه الجزاء بالذبح ولا يلزمه بالأكل منه شيء. هذا مذهبنا. وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: عليه الجزاء بالذبح، وعليه قيمة ما أكل، ووافقنا في صيد الحرم أنه إذا قتله المحرم وكله لا يلزمه إلا جزاء واحد، دليلنا القياس على صيد الحرم ولأنه أكل ميتة فأشبه سائر الميتات. (المسألة السادسة): إذا دل المحرم حلالاً على صيد فقتله أثم الدال ولا جزاء على واحد منهما ولو دل محرم محرماً على صيد فقتله فالجزاء على القاتل دون الدال هذا مذهبنا وبه قال مالك وقال أبو حنيفة على كل منهما جزاء دليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] فأوجب الجزاء على القاتل فلا يجب على غيره ولا يلحق به غيره لأنه ليس في معناه. (المسألة السابعة): إذا قتل صيداً مملوكاً فعليه الجزاء لله تعالى وقيمته للمالك هذا مذهبنا كما تقدم وبه قال أبو حنيفة وأحمد ومالك رحمه الله. (المسألة الثامنة): إذا قتل القارن صيداً لزمه جزاء واحد كما لو تطيب أو لبس تلزمه فدية واحدة هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، وقال أبو حنيفة: عليه جزاءان لأنه أدخل النقص على الحج والعمرة بقتل الصيد فوجب جزاءان كما لو قتل المفرد في حجه وفي عمرته. دليلنا أن المقتول واحد فوجب جزاء كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم، فإنه وافقنا أنه يجب عليها جزاء واحد مع أنه اجتمع فيه حرمتان و (أما) ما قاس عليه فالمقتول هناك اثنان. (المسألة التاسعة): يجب الجزاء -أي القيمة- على المحرم بإتلاف الجراد عندنا وعند أحمد. قال العبدري: وهو قول أهل العلم كافة إلا الإِصطخري فقال: لا جزاء فيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لأنه من صيد البحر واحتج له بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أصبنا سرباً من جراد فكان رجل يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له: إن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما هو من صيد البحر) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، واتفقوا على تضعيفه لضعف أبي المهزم واحتج لمن أوجب فيه الجزاء بقصة كعب الأحبار في قتله الجرادتين وهو محرم نسياناً فلما قدم المدينة قص القصة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال عمر: ما جعلت على نفسك يا كعب؟ قال: درهمين، قال: بخ، درهمان خير من مائة جرادة اجعل ما جعلت في نفسك. رواه الشافعي بإسناده الصحيح والحسن والبيهقي عن عبد الله بن أبي عمارة وبإسنادهما الصحيح عن القاسم بن محمد قال: كنت جالساً عند ابن عباس رضي الله عنهما فسأله رجل عن جرادة قتلها وهو محرم فقال ابن عباس: فيها قبضة من طعام، ولتأخذن بقبضة من جرادات، ولكن ولو. قال الشافعي -رحمه الله والأئمة والمسلمين والمسلمات- قوله: (ولتأخذن بقبضة من جرادات) أي إنما فيها القيمة. وقوله: (ولو) يقول: تحتاط فتخرج أكثر مما عليك بعد أنْ أعلمتك أنه أكثر مما عليك. (الجواب) عن حديث أبي هريرة في الجراد أنه من صيد البحر أنه حديث ضعيف كما سبق، ودعوى أنه بحري لا تقبل بغير دليل، وقد دلت الأحاديث الصحيحة والإِجماع أنه مأكول فوجب جزاؤه كغيره والله أعلم. (المسألة العاشرة): كل طائر وصيد حرم على المحرم يحرم عليه بيضه، فإن أتلفه ضمنه بقيمته. هذا مذهبنا وبه قال أحمد. وقال المزني: لا جزاء في البيض، وقال مالك: يضمنه بعشر ثمن أصله. قال ابن المنذر: اختلفوا في بيض الحمام، فقال الشافعي: فيه قيمته وقال مالك: يجب فيه عشر ما يجب في أمه. قال: واختلفوا في بيض النعام فقال الشافعي وأحمد: فيه القيمة. وقال مالك: فيه عُشْر ثمن البدنة. دليلنا أنه جزء من الصيد لا مثل له من النعم فوجبت فيه القيمة كسائر المتلفات التي لا مثل لها وذكر البيهقي رحمه الله تعالى فيه باباً فيه أحاديث وآثار، وليس فيها ثبات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (المسألة الحادية عشرة): إذا أحرم الشخص وفي ملكه صيد فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يلزمه إرساله ويزول ملكه عنه، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد لا يزول ملكه ولكن يجب إزالة يده الظاهرة عنه، فلا يكون ممسكاً له في يده، ويجوز أن يتركه في بيته وقفصه، وقال مالك وأحمد وأصحاب الرأي: ليس عليه إرسال ما كان في منزله، وقال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مالك وأحمد وأصحاب الرأي: إن كان في يده صيد لزمه إرساله، وقال أبو ثور: ليس له إرسال ما في يده. قال ابن المنذر: وهذا صحيح. (الثانية عشرة): قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وكله وبيعه وشراؤه قال: واختلفوا في قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] فقال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: هو ما لفظه البحر، وقال ابن المسيب: صيده ما اصطدت وطعامه ما تزودت مملوحاً. (قلت): وأما طير الماء فقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعوام أهل العلم: هو من صيد البر، فإذا قتله المحرم لزمه الجزاء والله أعلم. اهـ. (الثالثة عشرة): قال العبدري رحمه الله تعالى: الحيوان ضربان: أهلي ووحشي. فالأهلي يجوز للمحرم قتله إجماعاً، والوحشي يحرم عليه إتلافه إن كان مأكولاً أو متولداً من مأكول وغيره وإن كان مما لا يؤكل وليس متولداً من مأكول وغيره. هذا مذهبنا وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: عليه الجزاء إلا في الذئب. قال ابن المنذر: ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس لا جناح على مَنْ قتلهن في الإِحرام: الغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور والحدأة" قال: فأخذ بظاهر هذا الحديث الثوري والشافعي وأحمد وإسحق غير أن الإمام أحمد لم يذكر الفأرة. قال: وكان مالك يقول: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم كالأسد والنمر والفهد والذئب. قال: فأما ما لا يعدو من السباع ففيه الفدية. قال: وأجمعوا على أن السبع إن ابتدر المحرم فقتله فلا شيء عليه، واختلفوا فيمن بدأ السبع فقال مجاهد والنخعي والشعبي والثوري وأحمد وإسحق: لا يقتله، وقال عطاء وعمرو بن دينار والشافعي وأبو ثور: لا بأس بقتله في الإحرام عدا عليه أو لم يعد، قال ابن المنذر: وبه أقول. وقال أصحاب الرأي: عليه قيمته إلا أن تكون قيمته كثر من الدم فعليه دم إلا الكلب والذئب فلا شيء عليه، وإن ابتدأهما. قال: وأجمعوا على أنه لا شيء عليه في قتل الحية. قال: وأباح أكثرهم قتل الغراب في الإحرام، منهم مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال بعض أصحاب الحديث: إنما يباح الغراب الأبقع دون سائر الغربان. (وأما) الفأرة فأباح الجمهور قتلها ولا جزاء فيها، ولا خلاف فيها بين العلماء إلا ما حكاه ابن =

فصل هذه محرمات الإحرام السبعة وما يتعلق بها والمرأة كالرجل في جميعها

فَصْلٌ هذه مُحَرَّماتُ الإِحرام السَّبْعَة وما يَتَعَلَّقُ بها والمرأة كالرَّجل في جَميعها إلا ما استثنيناه (¬1) من أنَّهُ يَجُوزُ لها لبس المخيط وسَتْرُ رَأسها ويَحْرمُ عليها ستر وجههَا ويجبُ على المحرِم التحَفظ مِنْ هذه المحرَّمَات إلا في مَواضع العُذْر الذي نبَّهْنَا عليه ورُبمَا ارْتكَبَ بعضُ العَامةِ شيئاً من هذه المُحرَّمات وقال: أنَا أفْتدِي مُتوهِّماَ أنهُ بالْتزِام الْفِدْية يَتَخَلَّصُ مِنْ وَبَال المعصية وذلك خَطَأ صَريحٌ وجَهْلٌ قَبيح فإنَّهُ يحْرُمُ عليه الفعلُ وإذَا خَالَفَ أَثمَ وَوَجَبَت الفِدْيةُ وليست الْفِدْيةُ مُبيحَةَ للإقْدَام على فعل المُحرَّم (¬2) وجَهَالَةُ هذا الفاعل كَجَهالَة ¬

_ = المنذر عن النخعي أنه منع المحرم من قتلها. قال: وهذا لا معنى فيه لأنه خلاف السنة وقول العلماء. قال ابن المنذر: قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا شيء على المحرم في قتل البعوض والبراغيث والبق وكذا قال عطاء في البعوض والذباب. وقال مالك في الذباب والقمل والذر إذا قتلهن أرى أن يتصدق بشيء من الطعام، وكان الشافعي يكره قتل النملة ولا يرى في قتلها شيئاً، قال: فأما الزنبور فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه، وقال مالك: يطعم شيئاً. قال ابن المنذر: وأما القملة إذا قتلها المحرم فقال ابن عمر: يتصدق بحفنة من طعام وبه قال مالك. وفي رواية عنه أنه قال: أهون مقتول أي لا شيء فيها، وقال أحمد: يطعم شيئاً، وقال أصحاب الرأي: ما تصدق به فهو خير منها، وقال الشافعي: إن قتلها من رأسه افتدى بلقمة وإن كانت ظاهرة في جسده فقتلها فلا فدية. (المسألة الرابعة عشرة): عند الشافعية: يستجب قتل القراد في الإِحرام وغيرها. قال العبدري رحمه الله: يجوز عندنا للمحرم أن يقرد بعيره وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي وكرهه مالك. (¬1) يضم إليه اختصاص الرجل بفدية الجماع ومقدماته على ما مر. وكراهة الاكتحال للزينة في حق المرأة أشد كما في المجموع لأن زينتها به أكثر. (¬2) أي ولا رافعة لإثمه من أصله كسائر الكفارات.

فصل وما سوى هذه المحرمات السبعة لا تحرم على المحرم

مَنْ يقُولُ: أنَا أشربُ الخمر وأزني والْحدُّ يُطَهرني ومَنْ فَعَلَ شيئاً مما يُحْكَمُ بتَحْريمه فقد أخْرَجَ حَجهُ عن أنْ يكونَ مَبْروراً. فَصْل وما سِوَى هذه المحرمات السَّبْعة لا تحرُمُ على المُحْرم (¬1) فمنْ ذلك غَسْلُ الرَّأس بما يُنَظِّفُهُ من الوَسَخِ كَالسدْر والخطْمي (¬2) وغيرهما من غَير نَتْفِ شيءٍ من شَعْرهِ لكن الأَوْلَى أن لا يَفْعَل (¬3) لأنَّ ذلك ضَرْبٌ من الترفُّه والْحَاجُّ أشعَثُ أغْبرُ. وقالَ الشَّافعي رحمهُ الله تعالَى: فإذَا غَسَلَهُ بالسدْر وَالخِطمي أحْبَبْتُ أنْ يَفْتدِيَ ولا تَجبُ الفدية وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا غَسَلَهُ من جَنَابةِ أحْبَبْتُ أنْ يَغسلَهُ ببطُون أناملِه ويُزَايل شَعْرَهُ مُزَايَلَةً رقَيقَةً ويُشْرب الماء أصُول شَعْره ولا يَحُكّه بأظْفَاره. ومِنْ ذلكَ غَسْلُ الْبَدَن وهُوَ جَائزٌ للْمُحرم (¬4) في الحمّام وغيره ولا يكْرَهُ ¬

_ (¬1) ولا يحرم أيضاً خضاب الرأس واللحية، ولا فدية إلا إن ثخُن نحو الحناء وستر شيئاً من الرأس. (¬2) بكسر الخاء، قال في الصحاح: قلت: ذكر في الديوان أن في الخطمي لغتين فتح الخاء وكسرها. اهـ. وقوله: وغيرهما أي من كل منظف كالصابون غير المطيب. (¬3) وقال الإِمامان أبو حنيفة ومالك: إن غسل رأسه بخطمي لزمته الفدية. وقال مالك رحمه الله: تجب صدقة بإزالة الوسخ ولم يذكر الجمهور كراهته بل اقتصروا على أنه خلاف الأولى. اهـ مجموع. (¬4) دليل الجواز حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المحرم الذي خَرّ عن بعيره وحديث أبي أيوب رضي الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو محرم) رواهما البخاري وهو مذهب الجمهور. وقال الإِمامان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: تلزمه =

وقيلَ: يُكْرَهُ الحمامُ ولَهُ الاكْتحال (¬1) بما لا طيبَ فيه ويكرَهُ بالإِثْمدِ دونَ التُّوتْيَاء إلا للْحَاجَة فلا يكْرَهُ ولا بَأْسَ بالْفَصْد وَالْحجَامَة إذا لم يقْطَعْ شَعْراً (¬2) ولهُ حَكُّ رأسِه بأَظفَاره على وجه لا يَنْتفُ شعراً والمُسْتَحَبُّ أن لا يَفْعَل (¬3) فلو حَكَّ رأسَهُ أو لحيتَه فَسَقَطَ بحَكَه شَعَرَاتٌ أو شَعْرَةٌ لزَمَتْه الفدَيةُ ولو سقط شَعْر وشَك هل كانَ زائِلاً أم انتتفَ بحَكهِ فلا فديةَ على الأَصَح (3) ولَهُ أنْ يُنَحيَ القَمْلَ من بَدَنِهِ وَثيابه. ¬

_ = الفدية كما تقدم. وقال الصاحبان رحمهما الله: عليه صدقة وهي رواية عن الإِمام مالك أيضاً، وما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل حماماً وهو بالجحفة وهو محرم وقال: (ما يعبأ الله بأوساخنا شيئاً) فهو ضعيف لأنه من رواية ابن أبي يحيى وهو ضعيف عند المحدثين. اهـ مجموع. (¬1) (قول العلماء في الاكتحال بما ليس فيه طيب) قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه. (فرع): اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز تضميد العين وغيرها للمحرم بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك وأجمعوا على أنه إذا احتاج إلى ما فيه طيب جاز فعله، وعليه الفدية وأجمعوا على أن له أن يكتحل بما لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية، وأما الاكتحال للزينة فمكروه عندنا على الصحيح كما سبق، وبه قال جماعة من العلماء. قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر رضي الله عنه قال: (يكتحل المحرم بكل كحل لا طيب فيه). قال: ورخص في الكحل له الثوري وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي غير أن إسحق وأحمد قالا: لا يعجبنا ذلك للزينة، وكرهه مجاهد وكره الإِثمد للمحرم الثوري وأحمد وإسحق، قال ابن المنذر: لا يكره. اهـ. (¬2) أي ولا فدية عليه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم. رواه البخاري ومسلم، وبه قال الجمهور ومنهم الإِمام أحمد، وقال الإِمام مالك: ليس له الحجامة إلا من ضرورة. (¬3) الحك: أي في محل فيه شعر لأنه يخشى منه انتتافه. قال العلامة ابن قدامة رحمه الله في المغني: فإنْ حَك فرأى في يده شعراً أحببنا أن يفديه احتياطاً، ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه. اهـ. =

ولا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ وَلَهُ قَتْلُهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ للْمُحْرِمِ قَتْلُهُ كَمَا يُسْتَحَب لِغَيْره ويكْرَهُ للْمُحْرِمِ أنْ يُفَلِّيَ رأسَهُ وَلِحيَتَهُ فَإنْ فَعَلَ فَأخْرَجَ مِنْهُمَا قملَة وَقَتَلها تَصدقَ وَلَوْ بِلُقْمَةٍ (¬1) نَصَّ عليه الشَّافِعي رَحمه الله تَعَالَى. قَالَ جُمْهُور أَصحْابِنَا: هذا التَّصدُّقُ مُسْتَحب وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاجبٌ لِمَا فيهِ مِنْ إِزَالَةِ الأذَى عَنِ الرَّأسِ ولِلْمُحْرِمِ أَنْ يُنْشد الشعْرَ الَّذِي لاَ يَأَثَمُ فيه (¬2) وَلاَ يُكْرَهُ لِلْمُحْرمِ وَالْمُحْرِمَةِ النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ (¬3) وَفِي قَوْلٍ يُكْرَهُ لَهُمَا. (فرع): لاَ يَفْسُدُ الحج وَلاَ العُمْرَةُ بِشَيْء مِنْ مُحَرَّماتِ الإِحْرَامِ إِلاَّ بِالْجِمَاعِ وَحْدَه (¬1) وَسَوَاءٌ فِي إفْسَادِهما بِالْجِماع الرَّجُلُ وَالْمَرْأَة حَتى لَوْ اسْتَدْخَلَتْ المَرْأة ذَكَرَ نَائِمٍ فَسَدَ حَجُّها وَعُمْرَتُهَا وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. ¬

_ = (تتمة): قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله في حاشيته على الإيضاح: جَوز الأئمة لذي الحكة والجرب أن يحك بدنه في صلاته وإن جاوزت ثلاث مرات، وجعلوا هذا مستثنى من بطلان الصلاة بالفعل الكثير ولو سهواً وعللوه بأنه لا يصبر وقياسه جوازه له هنا، وإنْ علم أنه يحصل به انتتاف الشعر، ويؤيده ما مَرّ من جواز الحلق لشدة القمل لأن هذا إن لم يكن مثل ذلك فهو أشد منه. اهـ. (¬1) الكراهة والتصَدُّق خاصان بقمل الرأس واللحية بخلاف قمل البدن فلا فدية فيه قطعاً، وكالقمل فيما ذكر: الصئبان، وهو بَيْض القمل، وكذا الحكم في البراغيث. (¬2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ من الشِّعْرِ لحكمة" رواه البخاري. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشِعْر كلام حَسَنُهُ كَحَسَن الكلام، وقبيحه كقبيحه" رواه الشافعي والبيهقي هكذا مرسلاً عن عروة، وروى الشافعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (غنّى وهو مُحْرم) والله أعلم. اهـ مجموع. (¬3) هو القول الأصح كما في المجموع وبه قال الإِمام أحمد وقال الإِمام مالك: لا يفعل إلا عن ضرورة. (¬1) أي الذي قبل التحلل الأول في الحج وفي العمرة قبل الفراغ منها كما تقدم والله أعلم.

الباب الثالث في دخول مكة زادها الله تعالى شرفا وتعظيما وما يتعلق به

الباب الثالث في دخول مكة (¬1) زادها الله تعالى شرفاً وتعظيماً وما يتعلق به وفيه ثمانية فصول: الفصل الأول في آداب دخولها وفيه مسائل إحدى عشرة: الأولَى: يَنْبَغي لهُ بَعْدَ إحْرامهِ بالحَجِّ أو العمرة من الميقات أو غيره أنْ يَتَوَجَّهَ إلى مكَّةَ ومنها يكونُ خُروجُهُ إلى عَرَفاتٍ فهذه هي السُّنّة أمَّا ما يَفْعَلُهُ حَجيجُ العِرَاقِ في هذه الأَزمان من عدولهم إلى عرفات قبل دُخُولِ مكة لضيق ¬

_ (¬1) مكة: بالميم والباء: اسْمَان للبلد، وقيل بالميم للحرم وبالباء للمسجد، وقيل بالباء للبيت مع المطاف، وقيل بدونه، وبالميم للبلد، وهي كبقية الحرم أفضل بقاع الأرض عندنا كجمهور العلماء رحمهم الله تعالى للأحاديث الصحيحة الناصة على ذلك. قال في التحفة: وما عارضها بعضه ضعيف، وبعضه موضوع، وما أحسن قول القائل في مدح مكة: أرضٌ بها البيتُ المحرمُ قبلةٌ ... للعالمين لها المساجد تعدل حَرَمٌ حرام أرضها وصيُودها ... والصيد في كل البلاد محلل وبها المشاعرُ والمناسك كلها ... وإلى فضيلتها البريّة ترحل =

وقتهم ففيه تَفْويت لسُنَن كثيرة منها هذه، وَطَوَافُ القُدُومِ وَتَعْجِيلُ السَّعي (¬1) وزيارةُ البَيْت وكثرةُ الصَّلاة بالمسجد الحرام وحُضُورُ خُطبة الإِمام في اليومِ السَابع بمكَّةَ والمبيتُ بمنى لَيْلَةَ عَرَفَات والصَّلواتُ بها وحُضُورُ تلك المشاهد وغيرُ ذلك ممَّا سنذكره إنْ شاء الله تعالى. المسألة الثانية: إذا بَلَغَ الحَرَمَ فقد اسْتَحَبَّ بعض أَصحْابِنَا (¬2) أَنْ تقُول: اللَهُمَّ هذا حَرَمُكَ وأمْنُكَ فحَرمني على النَّار وآمني من عذَابِكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عبادَكَ واجْعَلني من أوليائكَ وأهْل طاعتكَ ويَسْتَحْضر (¬3) ¬

_ = وبها المقام وحوض زمزم مشرع ... والحجر والركن الذي لا يرحل والمسجد العالي المحرم والصفا ... والمشعران لمن يطوف ويرمل وبمكة الحسنات ضوعف أجرها ... وبها المسيء عنه الخطايا تغسل قوله: (والصيد في كل البلاد محلل) أي ما عدا صيد حرم المدينة المنورة ووادي وَج بالطائف فيهما في التحريم كحرمة مكة دون الضمان لأنهما ليسا محلاً للنسكَ، ويصير مذبوحهما ميتة والدليل على تحريم حرم المدينة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حَرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها" واللاّبتان الحرتان، وعضاها: أي شجرها. والدليل على تحريم وادي وَج بالطائف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن صيد وادي وَج وعضاه حرام محرم" رواه البيهقي وسمي المكان باسم (وج بن عبد الحي) من العمالقة. وعند الحنابلة صيد وج وشجره مباح لأنهم ضعفوا الخبر. (¬1) أي بعد طواف القدوم فالتعجيل أفضل كقول المصنف لأنه - صلى الله عليه وسلم - سعى بعد طواف القدوم. (¬2) قال في الحاشية: هو كما قال فقد اعتمده المتأخرون وغيرهم، وروى ابن جماعة نحوه عن أحمد قال: وزاد بعض السلف (ووفقني للعمل لطاعتك وامنن علي بقضاء مناسكك، وتُب علي إنك أنت التواب الرحيم). (¬3) أي للحديث الذي ذكر في الحاشية: (مَنْ دخل مكة فتواضع لله عز وجل وآثر رضا الله تعالى على جميع أموره لم يخرج من الدنيا حتى يغفر له).

من الْخُشُوع (¬1) والخضوع في قلبهِ وجسده ما أمكَنَهُ. الثالثة: إذا بَلَغَ مكَّةَ اغْتَسَل بذي طَوى (¬2) بفَتْح الطَّاءِ ويَجُوزُ ضمها وَكَسْرُها وهِيَ في أسْفلِ مَكَّةَ في صَوْب طَريق العُمْرَة المُعْتَادة ومسْجد عَائشَةَ رضي الله عنها فَيَغْتَسِلُ فيه بنية غُسْلِ دُخُولِ مكَّةَ هذا إنْ كان طريقه على ذي طوَى وإلاّ اغْتَسَلَ في غيرها وهذا الغسْل مُسْتَحَب لكِلِّ أحد حتَّى الحائض (¬3) والنَّفساء والصَّبى وقد سبق بَيانُهُ في باب الإِحْرَامَ. الرابعة: السنةُ أنْ يدخُلَ مكَّةَ من ثنِيّة كداء (¬4) بفتحِ الكَاف والمدِّ وهي ¬

_ (¬1) الخشوع: تسكين الجوارح. والخضوع: فراغ القلب من غير ما هو بصدده مع استحضار عظمة الله، وجلاله، وربوبيته، وغير ذلك مما يناسبه. (¬2) موضع معروف بمحلة جرول بمكة المكرمة به الآن مستشفى الولادة وأمامه بئر تسمى بذي طوى، لكونها مطوية بالحجارة لم يكن ثمة غيرها فنسب المكان إليها، وجرول اسم رجل سمي المكان باسمه والله أعلم. (¬3) أي والحلال لأنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل لدخوله عام الفتح وهو حلال. (¬4) هي طريق "الحَجُون" بفتح الحاء وضم الجيم، كانت ثنية كداء الحجون صعبة المرتقى كما في كتاب (مفيد الأنام) ناقلاً عن الفتح للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمهم الله فسهّلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سُهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع ثم سُهلَت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل عقبة وطريق عال يسمى "ثنية". اهـ. قلت: سُهلَتْ في زمن الشريف الحسين بن علي رحمه الله تعالى في حدود الثلاثين وثلثمائة وألف ثم سُهّلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود رحمهم الله تعالى ثم سهلت تسهيلاً كاملاً بعده. اهـ أقول: أي في زمن أبنائه الميامين سعود وفيصل وخالد وفهد بارك الله في هذه الأسرة جميعهم، وأيدهم بنصره ووفقهم لما يحبه ويرضاه آمين. قال في الحاشية: وحكمة الدخول منها -أي من ثنية كداء الحجون- الإشعار بقصده =

بأعلَى مكَّة ينحدرُ منهَا إلى المقابر وإذا خَرَجَ رَاجعاً إلى بلده خرجَ من ثنيةَ كُدى (¬1) بضم الكَافِ والقصْرِ والتنوين وهي بأَسفَل مكَّة (¬2) بقرب جَبَلِ قيقَعان ¬

_ = محلاً عالي المقدار، والتفاؤل بأنه استولى على مطلوباته التي قصدها من خيري الدنيا والآخرة. (¬1) على وزن هُدى طريق محلة الباب موضع ريع الرسام بالميم وبالنون من لحن العوام سمي بذلك لوجود موظف به في السابق يأخذ الرسم أي ما يفرضه الحاكم على قوافل الحجاج، ومن لحن العوام أيضاً قولهم للموضع الذي بأسفل محلة المسفلة فوز النكاسة بالنون والصحيح (المكاسة) بالميم سمي بذلك لوجود موظفين به في السابق يأخذون (المكس) أي ما يفرضه الحاكم على البضائع وقطعان المواشي الواردتين من جهة اليمن. وضبط بعض العلماء رحمهم الله تعالى الدخول والخروج بقوله: افتح وادخل وضُم واخرج يعني أن كَدَاء بفتح الكاف والمد للدخول وكُدى بضم الكاف مع القصر والتنوين للخروج. اهـ. (¬2) أي من جهة محلة الباب، وجرول، لا من جهة مَحَلة المسْفَلة، ولذا قال رحمه الله تعالى بقرب جبل قيقعان، وإلى صوب (أي جهة) ذي طوى، وجبل قيقعان: هو الجبل الذي يقابل جبل أبي قبيس، وهما أخشبا مكة وتقع تحت جبل قيقعان جهة المسجد الحرام محلة السليمانية والنقا والشامية ثم ينعطف جبل قيقعان إلى الشمال الغربي فتقع تحته محلة الشبيكة والباب وأول محلة جرول، وفي هذا الموضع يقع ذو طوى، وهو اسم للبقعة الواقعة بها بئر ذي طوى وهي البئر الواقعة أمام مستشفى الولادة، والبئر معروفة مشهورة ترحب بمن يريد الاغتسال منها، جعلت عليها حكومتنا السنية آلات رفع الماء للمغتسلين من حجاج وعُمار. وفق الله حكومتنا السعودية لما يحبه ويرضاه آمين. ثم تقع بعد ذي طوى محلة المغاربة، ومحلة العتيبية. ثم ينعطف جبل فيقعان إلى الشمال الشرقي فيقع طريق كداء الحجون. فظهر من هذا أن جبل قيقعان واقع بين كداء الحجون وكُدَى ريع الرسام بمحلة الباب، وسميت بالباب لحصول باب في هذا الموضع سابقاً أزيل في القرن السابع الهجري، والآن سطح جبل قيقعان مقسم ثلاثاً: (القسم الأول): من الحجون إلى محلة الشامية ويسمى جبل دفان لوقوع مقابر المعلاة تحت سفحه من هذه الجهة، ويسمى أيضاً جبل المدافع لحصول مدافع شهر رمضان والعيدين بأعلاه. =

وإلى صَوْب ذي طَوَى وَذَكَرَ بعض أصحَابنا: أنَّ الْخُروجَ إلى عَرَفَاتٍ يُسْتَحَبُّ أيضاً أن يكُونَ مِنْ هذه السُّفْلى (¬1) والثَّنيةُ هي الطريقُ الضَّيقَة بَيْنَ جَبَلَيْنِ. واعلم أنَّ المَذْهَب الصَّحيحَ المُخْتَار الَّذِي علَيْهِ المُحقّقُون أنَّ الدُّخُول من الثَّنِيَّة الْعُلْيَا مُسْتَحَبٌ لكُل داخل سَوَاء كانت في صَوْب طَريقهِ أو لم تكنْ في طَريقهِ فقد صَحّ أَنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ منها ولم تكن صَوْبَ طَريقهِ وقد ذَهَبَ أبُو بَكْر الصَّيْدَلاَنيّ وجَمَاعَة من أصْحَابنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ إلى أنَّهُ إنما يُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ منها لمن كانت في طَريقهِ وأما مَنْ لم تكن في طَريقه فَقَالُوا: لا يُسْتَحَبُّ له الْعُدُولُ إليها، قالوا: وإنَّما دَخَلَهَا النَبي - صلى الله عليه وسلم - اتْفَاقَاً وهذا ضَعيفٌ مَرْدُود والصَّوَابُ أَنهُ نُسُكٌ مُسْتَحَبٌ لكُلِّ أَحَد. الخامسة: اخْتَلَفَ أصحَابُنَا في أنَّ الأَفْضَلَ أَنْ يَدْخُلَ ماشياً أو رَاكباً والأَصَحُّ أَنَّ المشيَ أَفضَلُ وعلى هذا قيل الأولَى أَن يكونَ حافياً (¬2) إذا لم يَخْش نَجَاسَة ولا يَلْحَقهُ مَشَقَّةٌ. ¬

_ = (الثاني): من محلة الشامية إلى محلة الشبيكة يسمى جبل الترك. (الثالث): من محلة الشبيكة إلى آخره يسمى جبل هندي والله أعلم. (¬1) قال في المجموع كما في الحاشية: إنه غريب بعيد قال فيها: قيل لأنه لم يفارق مكة مفارقة انصراف بالكلية، بل انتقل إلى ما يتوقف عليه صحة نسكه وفي هذا الانتقال تعظيم البيت، فلم ينتقل من علو إلى سفل الذي هو حكمة الخروج من التثنية السفلى. اهـ مختصراً. أقول: هناك طريق ثالثة أخرى تسمى (كُدَي) بالتصغير على وزن (سُمَي) طريق بأسفل مكة من جهة محلة المسفلة، وهي طريق الذاهب منها إلى الليث والقنفذة وجيزان واليمن والله أعلم. (¬2) هو ما جزم به في المجموع، بل قال الحليمي رحمه الله تعالى: يسن المشي والحفاء من أول الحرم ويؤيده ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم: (إن =

السادسة: لهُ دُخُولُ مَكَّةَ لَيلاً وَنَهَاراً فقد دَخَلَهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَاراً في الحَجِّ ولَيْلاً في عمرة له (¬1) وأَيُّهُمَا أَفْضلُ؟ فيه وَجْهَان أصَحُّهُما نهاراً (¬2) والثَّاني هُما سَواء في الفضيلَة. السابعة: ينبغي أَنْ يَتَحَفظَ في دُخُوله من إيذاء النَّاس في الزَّحْمَة وَيَتَلَطَّفُ بمَنْ يُزَاحمُهُ ويَلْحَظُ بقَلْبِهِ جَلاَلَة البقعَة التي هو فيها والتي هُو مُتَوجه إليها ويُمَهّدُ عُذْرَ منْ زاحَمَهُ وَمَا نُزِعت الرَحْمَةُ إلا من قَلْب شقي. الثامنة: ينبغي لمن يأتي من غير الحرم أن لا يدخل مكة (¬3) إلا محرَّماً بحج أو عمرة وهل يلزمه ذلك أم هو مستحب، فيه خلاف منتشر (¬4) يجمعه ثلاثة أقوال: أصحها أنه مستحب (¬5)، والثاني: أنه واجب، والثالث: إن كان ممن يتكرر دخوله كالحطابين والسقائين (5) والصيادين ونحوهم لم يجب وإن ¬

_ = الأنبياء كانوا يدخلون الحرم حفاة مشاة) بناء على شمول لفظة الأنبياء لنبينا عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. اهـ حاشية. (¬1) هي عمرة الجعرانة وكانت عام حنين منصرفة منها سنة ثمان من الهجرة وهي إحدى عمره - صلى الله عليه وسلم - (الثانية) عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة (الثالثة) عمرة القضية وكانت سنة سبع من الهجرة. (¬2) والأفضل أن يكون أوله لما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صبح رابعة مضت من ذي الحجة يوم الأحد ولا كراهة في دخولها ليلاً لما مر أنه - صلى الله عليه وسلم - دخلها في عمرة الجعرانة ليلاً ويستحب الخروج من مكة ليلاً لما روي عن النخعي كانوا يستحبون دخولها نهاراً والخروج منها ليلاً. (¬3) يعني الحرم. (¬4) الخلاف في الداخل الذي قضى حجته وعمرته أو المكي العائد من سفره المريد الدخول. (¬5) أي ويكره تركه ويسن له دم فيما يظهر خروجاً من خلاف من أوجبه وهو =

كان ممن لا يتكرر دخوله كالتاجر والزائر والرسول والمكي إذا رجع من سفره وجَبَ وإذا قُلْنَا يجبُ فلهُ شُروط ثلاثة: أحدها: أنْ يكون حُرَّاً فإنْ كان عَبْداً (¬1) لم يجب بلا خِلاَف ولو أذِن لَهُ سيدُه في الدُّخُول مُحْرِماً لم يَلْزَمْهُ. والثاني: أَنْ يَجيء مِنْ خارجِ الْحَرم أمَّا أهلْ الحَرمِ فَلا إحْرَام عليهم بلا خلافٍ (¬2). الثالثُ: أنْ يكونَ آمناً في دُخُوله وأَنْ لا يدْخُلَ لقتَال فأَمَّا دَاخلُها خَائفاً مِنْ ظَالِم أو غَريم يَحْبِسُهُ وهو مُعْسر أو نَحْوُهما أو لا يُمْكنه الظُّهورُ لأداء النُّسُكِ أو دَخَلَهَا لقتال باغ أْو قَاطع طَرِيقٍ فَلاَ يلْزمُهُ الإِحْرَامُ بلا خلاَف (¬3) وإذا قُلْنَا يجبُ الدُّخُولُ مُحْرماً فَدَخَلَ غيرَ محرم عَصَى وَلاَ قَضَاء عليه (¬4) لَفَواته كما لا تُقْضَى تَحيَّةُ المسجد إذا جَلَسَ قَبْلَ أَنْ يُصَليهَا ولا فِدْيةَ عليه. ¬

_ = مذهب الشافعية سواء قربت داره أم بعدت. وقال الإِمامان مالك وأحمد: يلزمه. وقال الإمام أبو حنيفة: إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة جاز دخوله بلا إحرام وإلا فلا. واحتجوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يدخل أحدكم مكة إلا محرماً) ورخص للحطابين. واستدل الشافعية بحديث الحج كل عام؟ قال: (لا بل حجة). اهـ مجموع. (¬1) أي رقيقاً كله أو بعضه. (¬2) أي إذ لم ينتهكوا حرمة الحرم. (¬3) لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام). (¬4) قال في الحاشية: قالوا: وهذا من الشواذ لأن كل من ترك نسكاً واجباً فعليه القضاء والكفارة إلا هذا. فإنْ قيل: يشكل عليه ما مَرّ فيما إذا جاوز الميقات مريداً للنسك بلا إحرام فإنه يجب عليه العود ما لم يتلبس بنسك، فلِمَ لا يقال بنظيره هنا. =

والأصح (¬1) أَن حكم دُخول الحرَم كحُكْم دُخُول مكَّة فيما ذَكَرْناه لاشتراكهما في الحرمةِ. التاسعة: يُسْتَحَبُّ إذا وقَع بصرهُ على البَيْت (¬2) أَنْ يَرْفَعَ ¬

_ = أجيب أخذاً من كلام المصنف: بأن الإحرام هنا تحية لدخول الحرم أو مكة فإذا دخل بلا إحرام فات المعنى الذي شرع. فلم يجب تداركه بخلافه ثمة فإنه ليس تحية لشيء، وإنما هو متعلق بإرادة النسك وعدمها. اهـ. الدعاء عند دخول مكة اللهم إن البلد بلدك والبيت بيتك، جئتك أطلب رحمتك وأؤم طاعتك متبعاً لأمرك راضياً بقدرتك. أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني بعفوك، وأن تتجاوز عني برحمتك وأن تدخلني جنتك. الحمد لله الذي أقدمنيها سالماً ومعافاً، والحمد لله رب العالمين كثيراً على تيسيره وحسن بلاغه. اللهم أنت ربي وأنا عبدك، والبلد بلدك والحرم حرمك، والأمن أمنك جئت إليك راغباً وعن الذنوب مقلعاً، ولفضلك راجياً، ولرحمتك طالباً ولفرائضك مؤدياً، ولرضاك مبتغياً، ولعفوك سائلاً، فلا تردني خائباً، وأدخلني في رحمتك الواسعة وأعذني من الشيطان الرجيم وجنده وشر أوليائه وحزبه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وأتباعه آمين. (¬1) كلام مستأنف وليس هو من تفريعات الضعيف، ومقابل الأصح: له أن يفرق بأن مكة امتازت بأحكام، فلم يلزم إلحاق الحرم بها ها هنا أيضاً. (¬2) أي سواء كان فوق رأس ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الموضع المرتفع الواقع بين الجودرية والمدعا المعروف الآن بمقرأة الفاتحة سمي بردم عمر أنه وقع (سيل) عظيم في خلافته عام (17) هجرية (638) ميلادية سمي (سيل أم نهشل بنت عبيدة بن العاص بن أمية بن عبد شمس) أخذ بها إلى أسفل مكة وهلكت فيه، وأخذ السيل أيضاً بحجر مقام إبراهيم عليه السلام وذهب به إلى أسفل مكة، فجاء عمر من المدينة وردّ الحجر (مقام إبراهيم) في موضعه الآن، وأمر بفعل هذا الردم فجيء بالأحجار والصخار الكبار العظام، ووضعت في هذا الموضع ليميل سيل جبل لَعْلَع، وهو الجبل الذي بسفحه المروة وعلى سطحه محلة القراءة وشارع الفلق وأول محلة النقاء وكانت بقمة جبل لعلع هذا قلعة تسمى (قلعة فلفل)، وهي الآن دائرة اللاسلكي ويوجد بمؤخر =

يَدَيْه (¬1) فقد جاء أَنهُ يُسْتَجَابُ دُعَاء المُسْلم عند رُؤْية الكَعْبَة (¬2). ¬

_ = جبل لعلع جهة محلة النقا موضع يسمى (الرقمتين) كان كثيراً ما يقع في كلام الشعراء (ما بين النقا والرقمتين) وهو كناية عن هضبتين بأعلى الجبل ذكر لي الأستاذ محمد عيسى رواس ابن شيخي وشيخ مشايخي الشيخ عيسى رواس رحمه الله تعالى أن موضع الرقمتين يَحُد دارهم من أعلى جبل لعلع كما يحدها من الواجهة شارع الفلق. وجبل لعلع هو جزء من سفح جبل قيقعان كأنف له، كجبل الصفا لجبل أبي قبيس، وليميل أيضاً سيل الجودرية إلى جهة الغزة فيتصل سيل لعلع وسيل الجودرية بمجرى وادي إبراهيم ولا يدخلان المسجد الحرام فيجزي الله سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه عن الإِسلام وعن بيته خير الجزاء آمين. (¬1) قال البيهقي رحمه الله تعالى: هو الأشهر عند أهل العلم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان عند رؤيته (يعني رؤية البيت) يرفع يديه ويكبر. قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه -يعني رفع اليدين عند رؤية الكعبة- وبه قال جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وسفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحق قال: وبه أقول. وقال مالك: لا يرفع. وقد يحتج له بحديث المهاجر المكي قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل الذي يرى البيت يرفع يديه؟ فقال: (ما كنت أرى أحداً يفعل هذا إلا اليهود. قد حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يفعله) رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن، ورواه الترمذي عن المهاجر المكي أيضاً قال: (سئل جابر بن عبد الله: أيرفع الرجل يدية إذا رأى البيت؟ فقال: حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنا نفعله) هذا لفظ رواية الترمذي وإسناده حسن. قال أصحابنا: رواية المثبت للرفع أولى لأن معه زيادة علم. اهـ. وقال الإمام ابن قدامة في مغنيه: ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، وعلى الصفا والمروة، وعلى الموقفين والجمرتين" وهذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاك من قول جابر وخبره عن ظنه وفعله، وقد خالفه ابن عمر وابن عباس، ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت، وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء. اهـ. (¬2) الحديث رواه ابن ماجه رحمه الله تعالى وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة".

ويقُول اللَّهُمَّ زد هذا البَيْتَ تَشريفاً وتَعظيماً وتكْريماً ومَهَابةَ وزد مِنْ شرّفه وعَظمه مِمَّن حَجَّهُ واعْتَمَره تَشْرِيفاً وَتكريماً وتَعْظيماً وبرَّاً ويُضيفُ إليه: اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ (¬1) ومنكَ السَّلاَم (¬2) فَحينَا رَبنَا بالسَّلاَم (¬3) ويَدْعُو بِمَا أحب مِنْ مُهمات الآخرة والدُّنْيا وأهَمُّهَا سُؤَال المغْفرةِ. واعلم أَنَّ بِنَاء البَيْتِ زاده اللهُ شَرَفاً رفيع يُرى قَبْلَ دُخُولِ المَسْجد في موضع يقَالُ له رَأسُ الرَّدْم (¬4) إذا دَخَلَ مِنْ أعلى مَكَّةَ وهُنَاكَ يقفُ وَيَدْعو ويَنْبَغي أنْ يَتَجَنَّبَ في وُقوفِهِ مَوْضعاً يَتَأذَّى به المَارونَ أو غيرهم. واعلم أنهُ يَنْبَغي أَنْ يستَحضر عند رُؤية الكَعْبَة ما أمكنه من الْخُشُوع والتذَلُل والخضُوع فهذه عادة الصالحينَ وعبادَةُ الله العارفين لأنَّ رؤية البيت تذَكّر وتشوق إلى رَب البيت. وقد حكي أن امْرَأة دخلت مكة فجعلت تَقُول: أينَ بَيتُ رَبي؟ فقيلَ: الآن ترينه فلمَّا لاَحَ لها البيت قالُوا: هذا بيتُ ربك فاشتدتْ نحوه فأَلصقَتْ جبينها بحائط البيت فما رفعت إلاَّ ميتة. ¬

_ (¬1) أي ذو السلامة مما لا يليق بك. (¬2) أي السلامة من الآفات. (¬3) أي الأمن مما اجتنبناه والعفو عما اقترفناه، ويزيد (وأدخلنا برحمتك دار السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا كنا نحل عقدة ونشد أخرى ونهبط وادياً، ونعلو آخر، حتى أتيناك غير محجوب أنت عنا، إليك خرجنا، وبيتك حججنا، فارحم ملقى رحالنا بفناء بيتك، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وأمته). (¬4) أي ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تقدم الكلام عليه وهو الموضع المرتفع الواقع بين الجودرية والمدعى، ويسمى الآن مقرأة الفاتحة لأن حاملي الجنازة حينما يمرون بها في هذا الموضع يقرؤون الفاتحة وقد ترك هذا.

وعن أبي بكْر الشِّبليِّ رَحمه اللهُ تعَالَى أَنهُ غُشي عَلَيه عنْد رُؤْية الكَعْبة ثُمّ أفَاقَ فَأَنْشَدَ. هَذه دارُهمْ وأنْتَ مُحبّ ... ما بقاءُ الدُّمُوعِ في الآمَاقِ العاشرة: يُسْتَحَب أنْ لاَ يُعَرِّجَ أوَّلَ دُخُولهِ على استئجَار منْزل أوْ حطِّ قماش وتغْيير ثِيَاب ولاَ شَيْء آخر غَيْرَ الطَّوَاف (¬1) ويقِفُ بَعْضُ الرُّفقة عنْد مَتَاعهمْ وروَاحِلِهِم حَتَّى يُطُوفُوا ثُمَّ يرجعوا إلَى رَوَاحلهم وَمَتاعهمْ واستئجار الْمنزل. بَلْ إذَا فَرَغَ مِنَ الدعَاء عنْدَ رَأس الرَّدْم قَصَدَ المَسْجِدَ ودَخَلَهُ منْ بَابِ بَني شيبة (¬2) والدُّخُولُ مِنْ بَاب بني شَيْبةَ مستحبٌّ لكُلِّ قَادم مِنْ أيِّ جهة كَانَ بلاَ خِلاَف وَلَوْ قَدمتْ امْرَأةٌ جَميلةٌ أو شَريفَةٌ لا تَبْرزُ للرجَال استحبّ لَهَا أنْ تؤخِّرَ الطَّوَافَ وَدُخُولَ الْمَسْجِد إلَى اللَّيْلِ. ويقدِّمُ رِجْلَهُ اليُمْنَى (¬3) في الدُّخُولِ ويقول: أعُوذُ باللهِ الْعَظيم وبِوَجْهِهِ ¬

_ (¬1) عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت .. الحديث. اهـ. القرى لقاصد أم القرى. (¬2) هو المسمى الآن بباب السلام. ووجه اختصاصه بذلك كما في الحاشية مع الاتباع أنه في جهة باب الكعبة ووجهها والحجر الأسود والمنبر والمقام. وهذه الجهة هي أفضل جهات البيت كما قاله العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى أقول: لعله لاشتمالها على ما ذكر والله أعلم. (¬3) أو بدلها، وكذا يقال في اليسرى، وكذا يقدم اليمنى عند دخول الكعبة والحجر واليسرى خروجاً لأنهما أشرف من بقية المسجد.

الكَريمِ وسُلْطانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَان الرَّجيم بسْم الله والحمْدُ لله (¬1) اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمّد وسلم اللَّهُم اغْفِرْ لي ذُنُوبي وافْتَحْ لي أبْواب رَحْمَتِك وإذا خَرَجَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وقَالَ هذا إلا أنه يقُولُ وافْتَحْ لي أبْوَابَ فَضْلِكَ وهذا الذكر والدُّعَاءُ مُسْتَحَب في كل مَسْجد وقد وَرَدَتْ فيه أحَادِيثٌ في الصحيح وغيرِه يَتفقُ منها ما ذَكَرْتُهُ وقد أَوْضَحْتُها في كِتَاب الأَذْكار الذي لاَ يَسْتَغْني طَالب الآخرة عن مثلِه (¬2). الحادية عشرة: إذا دَخَلَ المَسْجدَ يَنْبَغي أن لاَ يَشْتَغل بِصَلاَة تَحِية المسجِد ولا غيرِها بلْ يقْصِدُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ ويبْدأ بِطَواف القُدُوم وهو تَحِيةُ المَسْجد الحَرَامِ (¬3). والطَوَافُ مُسْتَحَب لكل داخلٍ مُحْرماً كان أو غير مُحْرِم إلاَّ إذا دَخَلَ وقد ¬

_ (¬1) زاد غير المصنف بعد الحمد لله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وبعد رحمتك: (وسهل لي أبواب رزقك). (¬2) ولذا قيل فيه: (ربع الدار واشتر الأذكار) وقال بعضهم رحمه الله تعالى: ورحم الله النواوي الإِمام ... لجمعه أذكار سيد الأنام فطالعوه يا ذوي الدراية ... فإن فيه الخير والكفاية أقول كما في الحاشية: وليس في كلام المصنف رحمه الله من الثناء على النفس، أي حيث مدح كتابه الأذكار بقوله: لا يستغني طالب الآخرة عن مثله، بل هو من باب التحدث بالنعمة المأمور به في قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]. ومن باب الدلالة على الفائدة في محلها، ويجري ذلك في نظائره الواقعة في كلام المصنفين رحمهم الله تعالى. (¬3) أي الكعبة، نعم تحصل تحية المسجد بركعتي الطواف إنْ لم يجلس عمداً بعد الطواف وقبل ركعتيه، وإلاّ فاتت لأنها تفوت بالجلوس عمداً، وإن قَصُر، بخلاف طواف القدوم فلا يفوت بالجلوس ولا بالتأخير وإنْ طالا، إلا إنْ أخره حتى وقف بعرفة فيفوت به ما لم يدخل قبل نصف الليل، فإنْ دخل بعده طاف طواف الإِفاضة لدخول وقته.

خافَ فَوْتَ الصَّلاَةِ المكْتُوبة أو فَواتَ الْوِتْر أو سنةَ الْفَجْر أو غيرِها من السُّنَنِ الرَّاتِبة أو فَوْتَ الجماعةِ في المكْتُوبةِ (¬1) إن كانَ وقْتُهَا واسعاً أو كان عليه فَائتَةٌ مكْتُوبةٌ فإنَّهُ يُقَدِّمُ كل ذلك على الطَّوَاف (¬2) ثم يَطُوف ولو دَخَلَ وقد مُنعَ النَّاسُ مِنَ الطَّوَافِ صلَّى تَحِيَّة المسْجِدِ. واعلم أَنَّ في الحجْ ثَلاَثَةَ أطْوِفَة: القُدُوم وطَوَافَ الإِفَاضَة، وطَوَافَ الْوَدَاعِ ويُشْرَعُ له طَوَافٌ رَابعٌ وهو المتطَوعُ به غير هذه الثلاَثَةِ كما سيأتي إنْ شاء اللهُ تعالى أنه يُسْتَحَب الإِكْثَارُ من الطَّواف. فأمَّا طَوَافُ القُدُوم فلهُ خمسةُ أسماء: القُدُومِ والقادِم والوُرُودِ والوارد وطَوَافِ التحية. وأمّا طَوَافُ الإِفاضَةِ فَلَهُ أيضاً خمسة أَسمَاء: طَوَافُ الإِفَاضَةِ وطَوافُ الزِّيَارَةِ وطَوَافُ الْفَرْضِ وطوافُ الرُّكْنِ وطوافُ الصَّدَرِ بِفَتْح الصَّاد والدال. وأمَّا طَوَافُ الْوَداع فيقال لهُ أيضاً: طوافُ الصَّدَرِ ومَحلّ طوَاف الإِفاضة بعد الوقُوفِ ونصفِ ليلة النحر وطوافُ الْوداعِ عندَ إرادة السَّفَرِ مِنْ مكَّةَ بعدَ قضاء جميع المنَاسك. ثم اعلم أنَّ طَوافَ القُدُوم سُنَّة ليسَ بواجب فَلَو تَرَكَهُ لم يَلْزَمْهُ شيء (¬3) ¬

_ (¬1) ومثل المكتوبة ما سنت الجماعة فيه من النفل كعيد ونحوه، وكخوف فوتها قرب إقامتها بحيث لا يفرغ من الطواف قبل فراغها بل بعده ومعه وحينئذ يصلي تحية المسجد إن كان يفرغ منها قبل الإقامة، وإلاّ بأن قربت جداً انتظرها واقفاً. (¬2) أي ولو كان وقت الصلاة المكتوبة والفائتة موسعاً، والفائتة المنذورة كالمكتوبة. (¬3) وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر رحمهما الله، وقال أبو ثور: عليه دم. وعن مالك رواية كمذهبنا، ورواية أنه إنْ كان مضايقاً للوقوف فلا دم في تركه وإلا فعليه دم. اهـ مجموع. أقول: ومذهب الحنابلة كالشافعية أي إن طواف القدوم سنة. قال العلامة ابن قدامة رحمه الله في مغنيه: وطواف القدوم وهو سنة لا شيء على تاركه. اهـ.

وطَوَاف الإِفاضَةِ ركْن لا يَصحُّ الحج إلاَّ به (¬1) ولاَ يُجْبَرُ بدَمٍ ولا غيرِهِ وطَوافُ الوداعِ واجب على الأَصَح (¬2) وليسَ بركْنٍ وعلى قَوْلٍ هو سُنَّة كالْقُدُومِ وسيأتي إيضَاحُ هذا كُله في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم أن طوافَ الْقُدُوم إنَّمَا يُتَصَوَّر (¬3) في حَق مُفْرْدِ الْحج وفي حق القارنِ إذا كانَا قَدْ أحْرمَا من غير مكَّةَ ودَخَلاَها قبلَ الوقُوفِ فَأَمَّا المكيُّ فلا يُتَصَوَّرُ في حَقه طوافُ قُدُومِ إذ لا قُدُوم لَهُ. وأما مَنْ أحْرَمَ بالعُمْرَةِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ في حقه طَوَافُ قُدُومٍ بل إذا طَافَ عن الْعُمْرَةِ أَجزَأَهُ عنها وعَنْ طَوَافِ الْقُدُوم كما تُجْزىءُ الفَريضةُ عن تَحية المسْجِدِ حتى لو طافَ المُعْتَمرُ بنيَّة القُدُومِ وقَعَ عَنْ طَوَافِ العُمْرَة كما لو كانَ عليه حَجَّةُ الإِسْلاَمِ وأحرمَ بتَطَوُّعٍ يقعُ عن حَجَّةِ الإِسْلاَمِ. وأما مَنْ لم يَدْخُلْ مكَّة قبْلَ الْوُقُوفِ فليسَ في حَقِّه طَوَاف القُدُوم بل الطَّوَافُ الذي يَفْعَلُهُ بعد الوقُوفِ هُوَ طوافُ الإِفاضةِ فلو نَوَى به القُدُومَ وَقَعَ ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة: طواف الزيارة وهو ركن لا يتم الحج إلا به بغير خلاف. اهـ. (¬2) قال المصنف في شرح مسلم رحمهما الله تعالى كما في أضواء البيان: الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع وأنه إن تركه لزمه دم ثم قال: وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم، وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور رحمهم الله تعالى. وقال مالك وداود وابن المنذر رحمهم الله: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين. اهـ منه. وقد نقل ابن حجر كلامه هذا ثم تعقب عزوه سنيته لابن المنذر فقال: والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. اهـ. (¬3) الحصر هنا بالنسبة للمحرم لأن طواف القدوم يتصور من حلال دخل مكة.

الفصل الثاني في كيفية الطواف

عن طَوَافِ الإِفَاضَةِ إنْ كانَ دَخَل وقْتُهُ (¬1) كما قُلْنَا في المعتمرِ. الفصل الثاني في كيفية الطواف فَإذَا دَخَلَ الْمسجِد (¬2) فَلْيقْصد الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهُوَ في الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي بابَ الْبَيْتِ مِنْ جَانبِ المَشْرِق وَيُسَمَّى الرُّكْنَ الأَسْودَ وَيقالُ لهُ وللرُّكْنِ الْيَمَاني: الرُّكنَانِ اليَمَانيَّان وارتفَاعُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثةُ أفْرُعٍ إلا سَبع أصَابعَ وَيُسْتحبُّ أنْ يَسْتَقْبِلَ الحجَرَ الأَسْود بوَجْهِهِ وَيَدْنُو منهُ بشرْط أنْ لاَ يُؤذِيَ أحَداً بالمُزاحَمَةِ (¬3) فَيَسْتَلمه (¬4) ثُمَّ يقبله منْ غَيْر صَوْتٍ يَظْهَرُ في القُبْلَةِ ويَسجُد عَلَيه ¬

_ (¬1) يدخل وقت طواف الإِفاضة بعد نصف ليلة النَّحْر. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. والحنابلة كالشافعية وعند الإِمامين مالك وأبي حنيفة بعد طلوع الفجر. (¬2) الدعاء عند قرب الكعبة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله: اللهم إني عبدك والبلد بلدك والحرم حرمك والبيت بيتك، أسالك في مقامي هذا أن تتقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي وتضع عني وزري فإنك أرحم الراحمين. (¬3) لما رواه الشافعي وأحمد وغيرهما رحمهم الله تعالى عن عبد الرحمن بن الحارث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه: (يا أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف ولكن إذا وجدت خلوة فاستلمه وإلا فكبر وامض). وأَما فِعْلُ ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يدع الركن الأسود واليماني في كل طواف طافه بهما حتى يستلمهما، ولقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحامِ حتى رعف فما تركه حتى استلمه فهو مذهبه، ولا يتابع عليه لا سيما وقد خالفه النص وخالفه أيضاً والده رضي الله عنه وخالفه كثير من الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ولعله لم يبلغه النص المتقدم والله أعلم. (¬4) أي يمسحه بيمينه فإنْ عجز فبيساره، وليحذر المحرم من تقبيل الحجر الأسود وهو مطيب، ويقوم مقام الحجر الأسود في كل ما ثبت له محله إذا نزع منه والعياذ بالله وإن جعل في ركن آخر من البيت فيما يظهر من كلامهم لا تنتقل الأحكام إليه كما في الحاشية.

ويكرّرُ التَّقْبيلَ والسُّجُودَ عَلَيْه ثلاثاً (¬1) ثُم يبْتدىءُ الطَّوَافَ وَيقْطَعُ التَّلْبيةَ في الطوَافِ كمَا سَبقَ وَيُسْتَحَبُّ أنْ يضطَبعَ مَعَ دُخُولهِ في الطَّوَافِ فإنْ اضْطَبع قَبْلَهُ بقَليل فلاَ بأْس (¬2) وَالاضطبَاعُ أنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ وَسَطَ ردَائه تحتَ منكبِهِ الأَيمنَ عندَ إبطه ويطرَحَ طَرَفيْه عَلَى منكبِهِ الأَيْسَرِ ويكُونُ منكبُهُ الأيمنُ مكشوفاً والاضطبَاعُ مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّبع بإسكَانَ الْبَاءِ وهُوَ العضدُ وقيل وسط العضُدِ وقيلَ مَا بيْن الإِبطِ ونصْفِ العَضُدِ. وكيفيةُ الطَّوَافِ أَنْ يحَاذيَ بِجَميعِهِ (¬3) جميع الْحجَرِ الأَسْوَدِ فَلاَ يصحُّ ¬

_ (¬1) روى البيهقي كما في (مفيد الأنام) أن ابن عباس رضي الله عنهما قبل الركن اليماني ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات، قلت: والمراد بالركن اليماني هنا الحجر الأسود، كما يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى: قال ابن القيم: وذكر البيهقي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد على الحجر ولم يستلم - صلى الله عليه وسلم - ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط). فالركن الأسود يستلم ويقبل ويسجد عليه واليماني يُستلم ولا يقبل ولا يسجد عليه والآخران لا يُستلمان ولا يقبلان والاستلام هو المسح باليد فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قبل الحجر الأسود وسجد عليه، وثبت عنه أنه استلمه بيده ثم قبلها، وثبت عنه أنه استلمه بمحجن (أي عصا معكوفة الرأس) وقبله. اهـ. (¬2) قال المصنف رحمه الله في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الاضطباع. وقال مالك: لا يشرع الاضطباع لزوال سببه، قال أصحابنا: هذا منتقض بالرمل وبما قدمناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. اهـ. أقول: قول المصنف: ما قدمناه مراده به قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد وطَد الله الإسلام ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا نترك شيئاً كنا نصنعه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه البيهقي باسناد صحيح. (¬3) أي بجميع الشق الأيسر أي بمجموعه وهو أعلاه المحاذي لصدره وهو المنكب لأن المحاذاة لا تكون إلا به.

طوافه حتى يمر بجميع بدنِهِ على جميعِ الْحَجَرِ وذَلكَ بأَنْ يَسْتَقْبلَ (¬1) الْبيتَ ويقف علَى جَانب الحجرِ الذي إلى جهةِ الرُّكْن الْيماني بحيثُ يصيرُ جميع الحجر عنْ يَمينِهِ ويصيرُ منكبُه الأَيْمَنُ عند طَرفِ الحَجَرِ ثُم يَنْوي الطَّوَافَ لله تعالى ثُم يَمْشي مُسْتَقبلَ الحَجَرَ مَارَّاً إلى جهةِ يَمينِهِ حتى يجاوز الْحَجَر فإذا جاوزه انفتل (¬2) وجَعَلَ يَسَارَهُ إلى البيت ويَمينَهُ إلى خارج، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز (¬3)، ثم يمشي هكذَا تِلْقَاءَ وجهِهِ طائفاً حَوْلَ البيت أجْمَع فَيَمُرُّ على المُلْتزَم (¬4) وهو ما بينَ الْحَجَر الأَسْودِ والْبَابِ سُمِّيَ بذلك لأَنَّ النَّاس يَلْتَزمُونَهُ عنْدَ الدُّعَاءِ ثم يَمُرُّ إلى الرُّكْنِ الثاني بَعْدَ الأَسْوَدِ ¬

_ (¬1) هذا الاستقبال غير الاستقبال الأول عند تلقاء الحجر الأسود فإنه مستحب وسنة مستقلّة كما سيصرح به المصنف رحمه الله تعالى. الدعاء عند مجاوزة الحجر الأسود بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا إله الا الله وحده لا شريك له، آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وما يدعى من دون الله إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. (¬2) أي ولا بد من استحضار النية عند هذا الانفتال لأنه أول الطواف وما قبله مقدمة له. (¬3) أي وفاتته فضيلة الاستقبال كما سيصرح به المصنف إن شاء الله. (¬4) الدعاء عند الملتزم: (اللهم إني أسالك ثواب الشاكرين ونزل المقربين، ومرافقة النبيين ويقين الصادقين، وذلة المتقين، وإخبات الموقنين حتى تتوفاني على ذلك يا أرحم الراحمين). الدعاء قبالة باب الكعبة أي بدون وقوف عنده: (اللهم البيت بيتك والحرم حرمك والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار اللهم بيتك عظيم ووجهك كريم وأنت أرحم الراحمين، فأعذني من النار وشر الشيطان الرجيم، وحرم لحمي ودمي على النار، وآمني من أهوال يوم القيامة، واكفني مؤنة الدنيا والآخرة).

وَيُسَمى الركْنَ العِراقي (¬1) ثم يَمُر وراء الحِجْرِ بكَسر الحاء وسكون الجيم وهو في صوبِ الشَّامِ والمَغربِ فَيمشي حولهُ حتى ينتهيَ إلى الرُّكنِ الثَّالثِ ويقالُ لهذا الرُّكْنِ والَّذي قبلهُ الرُّكنان الشَّاميان ورُبَّما قيل الغَربيان ثُمَّ يدُورُ حولَ الكَعبةِ حتى ينتهي إلى الرُّكْنِ الرَّابعِ المُسمى بالركْن اليمانِي ثمَّ يمر منهُ إلى الحجرِ الأسودِ فيصلُ إلى الموضِعِ الذي بدأ منهُ فيَكْمُلُ لهُ حينَئذ (¬2) طَوفةٌ واحدةٌ ثم يَطوفُ كذلك حتَّى يُكْمِلَ سبعَ طوْفات وكلُّ مرة طوفَةٌ والسَّبع طوافٌ كاملٌ. ¬

_ (¬1) الدعاء عند الركن العراقي: (اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك، والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في المال والأهل والولد). (¬2) أي حين انتهائه لمبدئه. الدعاء عند الانتهاء إلى تحت الميزاب (اللهم) أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - شراباً هنيئاً لا أظمأ بعده أبداً يا ذا الجلال والإِكرام (اللهم) إني أسالك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب. الدعاء بين الركن الشامي والعراقي (اللهم) اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعملاً مقبولاً وتجارة لن تبور، رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم. الدعاء عند الركن اليماني بسم الله والله كبر، (اللهم) إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل، ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة. الدعاء بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (اللهم) قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة منك بخير. =

وكَره (¬1) الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى أن يُسَمّى الطواف شَوْطاً ودَوْراً وقد رَوَى كَرَاهَتَه عن مُجاهِد رَحِمهُ الله تعالى (¬2) وقد ثَبَتَ في صَحيحَي البُخَاريّ ومُسْلم رَحِمَهُمَا الله تعالى عن ابن عَبَّاس رضي الله عنهما تَسْميةُ الطَوافِ شَوْطاً (¬3) والظَّاهِرُ أنهُ لا كَرَاهيةَ فيه (¬4) والله أَعْلَمُ، وهذه صفَةُ الطوَافِ الذي إذا اقْتُصِر عليهَا صَحّ طَوَافهُ، وَبقِيَتْ من صِفَتِهِ المكَملَةِ أفْعَالٌ وأذْكَارٌ نَذْكُرُها إن شاء الله تعالى في سُنَنِ الطواف. ¬

_ =الدعاء عند بلوغ الحجر الأسود (اللهم) اغفر لي برحمتك أعوذ برب هذا الحجر من الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب القبر. الدعاء في كل الطواف وبين الركنين آكد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، (اللهم) ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، (اللهم) قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة بخير وصل على نبينا محمد وآله وصحبه وأمته. (¬1) أي تنزيهاً وتبعه بعض الأصحاب رحمهم الله جميعاً ووجه الكراهة أن الشوط: الهلاك، فهو ككراهية العقيقة من العقوق. (¬2) حيث قال: وكره ما كرهه مجاهد لأن الله سماه طوافاً فقال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29]. (¬3) أي حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط). (¬4) أي لعدم ورود النهي عنه. والظاهر أن الشافعي رحمه الله تعالى لم يرد بالكراهية إلا أنه ينبغي التنزه عن التلفظ به لإشعار اللفظ بما لا ينبغي. ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل الحسن ويكره ضده. والله أعلم.

واعلم أنَّ الطَّوافَ (¬1) يَشْتَمِلُ على شُرُوطٍ وواجِبَاتٍ لاَ يَصحُّ الطَّوافُ بدُونَها وعلى سُنَنٍ يَصح بدُونِها أَمَّا الشُروطُ والْواجبَاتُ فثمانية (¬2) مُخْتَلَف في بَعْضِهَا. الواجب الأوَّلُ: سَتْرُ الْعَورَةِ (¬3) والطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ (¬4) وعن النَّجَاسَةِ ¬

_ (¬1) أي بسائر أنواعه من قدوم ووداع ونذر وتطوع وتحلل. (¬2) قد نظمها بعضهم رحمه الله تعالى فقال: واجبات الطواف ستر وطهر ... جعله البيت يا فتى عن يسار في مروره تلقاء وجه وبالأسود ... يبدأ محاذياً وهو ساري مع سبع بمسجد ثم قصد ... لطواف في النسك ليس بجاري فقد صرف لغيره ذي ثمان ... قد حكى نظمها نظام الدراري (¬3) ستر العورة مع القدرة عند الشافعية والمالكية والحنابلة شرط في الطواف لحديث: (لا يطوف بالبيت عريان) وهو في الصحيحين، فعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة، وعورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين كما سيذكره المصنف رحمه الله. أما العاجز عن الستر فيطوف عارياً، ولا تلزمه إعادة، وقال أبو حنيفة: لا يشترط ستر العورة. (¬4) أي بنوعيه الأصغر والأكبر، فإذا عجز عن الماء وتيمم تيمماً لا إعادة معه كأنْ كان في محل لا يغلب فيه وجود الماء ولم يكن به نجاسة ولا جبيرة بعضو تيمم مثلاً يطوف ولا إعادة عليه، أما فاقد الطهورين إن لم تكن به نجاسة فلا يطوف أصلاً ففي التحفة، ولا يجوز طواف الركن، ولا غيره لفاقد الطهورين بل الأوجه أنه يسقط عنه طواف الوداع. اهـ. وفي فتاوى الجمال الرملي أنه ليس له الطواف فإن خرج ووصل إلى محل يتعذر عليه الرجوع منه إلى مكة يتحلل بذبح وحلق ونية، وصار حلالاً بالنسبة لمحظورات الإِحرام مُحْرماً بالنسبة لبقاء الطواف في ذمته فإذا عاد فعل الطواف ولا يلزم أن يحرم بما أحرم به أولاً بل ظاهر كلامهم أنه محرم بالنسبة له، وأنه لا يحتاج في فعله إلى إحرام. اهـ. فإن كان به نجاسة منجسة لا يقدر على طهرها فكذلك عند الرملي رحمه الله. =

في الْبَدَنِ والثوْب والمكان الَّذي يطؤُهُ في مَشْيِهِ فلو طافَ مكْشُوفَ جُزْء من عَوْرَتِه أو مُحْدثاً أو عليهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُو عنها أو وطىءَ نَجَاسَة في مَشْيه عَامداً أو نَاسياً لم يَصحَّ طَوافُهُ ومن طَافَتْ من النِّسَاءِ الحَرائِر مكْشُوفَةَ الرِّجْلِ أو شيء منها أو طَافَتْ كَاشِفَةَ جُزْء من رَأسِهَا لم يَصحَّ طَوافُهَا حتى لو ظَهَرَتْ شعرة من شَعْرِ رَأسِهَا أو ظُفْرِ رجْلِهَا لم يصحَّ طَوافُهَا لأَنَ ذاك عَوْرَةٌ منها يُشْتَرطُ سَتْرُهُ في الطَّوَافِ كما يُشْتَرَطُ في الصَّلاَةِ وإذا طَافَتْ هَكَذَا ورَجَعَتْ فقد رَجَعَتْ بغيرِ حَج صحيح لها ولا عمرة. ¬

_ = وقال في الفتح: ولمحدث أي بلا نجاسة أو متنجس أي محدث عدم الماء طواف وداع بالتيمم وكذا النفل للمحدث لا المتنجس فيما يظهر أخذاً من امتناع نفل الصلاة عليه كما مَرّ ولهما على الأوجه طواف الركن بالتيمم لفقد ماء أو نحو جرح، وإن لزم كلاً منهما الإِعادة أي كان كان الغالب بالمحل وجود الماء أو كانت الجبيرة في أعضاء التيمم أو نحوه حيث لم يرج البُرء أو الماء قبل رحيله لشدة المشقة في بقائه محرماً وتجب إعادته إذا عاد لمكة لبقائه في ذمته وإنما أبيح له نحو الوطء للضرورة. اهـ. وقال في التحفة: ولا يلزمه عند فعله تجرد ولا غيره فإن مات وجب الإِحجاج عنه بشرطه. اهـ. وكذا في الحاشية، وقوله ولا غيره شمل النية وهو الأوجه من احتمالين للعلامة ابن قاسم ونقله عن الجمال الرملي لأنه محرم بالنسبة للطواف أفاده ابن الجمال، ونقل ابن الجمال عن ابن قاسم ونقله عن الجمال الرملي أنه لا يجب المجيء فوراً ونحوه في الحاشية ثم قال ابن الجمال: ولعله محله ما لم يخف نحو عضب وإلا وجب فوراً، وإذا أخر فمات فينبغي عصيانه من آخر سني الإمكان، وإن لم أرَ في ذلك نقلاً، وخرج بقول التحفة: (فإن مات .. ) إلى آخره: ما إذا عُضب وعليه الطواف فتجوز الاستنابة فيه لعذره مع بقاء أهليته وبه فارق الميت كما أفتى به الشهاب الرملي، ولو سعى بعدُ للركن بعد هذا الطواف المفعول بالتيمم ثم رجع إلى مكة وجب إعادته بعد الطواف لأنه إنما صح للضرورة تبعاً لصحة الطواف للضرورة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن الجمال على الإيضاح قضيته إن الكلام في الآفاقي وإن المكي تجب عليه المصابرة لاحتمال وجود الماء احتمالاً قريباً إذْ لا مشقة عليه، ونظر فيه تلميذه عبد الرؤوف بأن بقاء الإِحرام مشقة أي مشقة، قال: ولم لا يجوز التيمَّم والطواف ثم إعادته بعد وجود الماء. اهـ. وهو ظاهر مقيس. اهـ. ثم قال في الفتح: ولمن حاضت وعليها طواف الركن ولم يمكنها التخلف له أي لنحو فقد نفقة أو خوف على نفسها كما في التحفة، وحمل في الحاشية قول الأصحاب أن عدم النفقة لا يجوز التحلل له من غير شرط على التحلل قبل الوقوف، أما بعده فيجوز التحلل بسببه وإن لم يشرطه. اهـ. أن ترحل ثم إذا وصلت محلاً يتعذر عليها الرجوع منه لمكة تحللت كالمحصر، ويبقى الطواف في ذمتها. اهـ. قال في التحفة: والأحوط لها أن تقلد من يرى براءة ذمتها بطواف قبل رحيلها. قال في النهاية: تقلد أبا حنيفة وأحمد على إحدى الروايتين عنه في أنها تهجم وتطوف وتلزمه بدنة وتأثم بدخولها المسجد. اهـ. وقال في النهاية: والأقرب أنه -أي تحللها- على التراخي وأنها تحتاج عند فعله إلى إحرام لخروجها من نسكها بالتحلل بخلاف من طاف بتيمم تجب معه الإِعادة لعدم تحلله حقيقة. اهـ وسيأتي. وقال أيضاً: والقياس من المحل الذي أحرمت منه أولاً ولا تعيد غيره. اهـ. قال الشبراملسي: قوله إلى إحرام أي للإتيان بالطواف فقط دون ما فعلته كالوقوف. اهـ. فتحرم بالطواف فقط وتكشف وجهها فيه، ولا تحرم بما أحرمت به أولاً قياساً على ما مر في فاقد الطهورين، فقال ابن قاسم: الأوجه أنه لا بد من الإِحرام أي بما أحرمت به أولاً لإتيان بتمام النسك لأن التحلل يقطع النسك ويخرج منه. اهـ. أي فتحرم بفرضها ويكون ما في ذمتها زائداً فلا تحتاج لطواف به. وعبارة القليوبي: وإذا أعادت الطواف نوت الإحرام بالنسك أو الإحرام بالطواف فقط على الخلاف بين ابن قاسم وع ش. وقال ابن حجر: لا تحتاج إلى إنشاء إحرام ثم قال الرملي: فإن كان متيمماً تيمماً لا يسقط الإعادة، وخلا عن النجاسة فعل غير الركن وكذا الركن إن لم يرج البرء أو الماء قبل رحيله لشدة المشقة في بقائه محرماً مع عودته إلى وطنه وتجب إعادته بلا إحرام إذا تمكن بأن عاد إلى مكة أي ولو بعد مدة طويلة لأنه وإن كان حلالاً بالنسبة لإباحة المحظورات له قبل العودة للضرورة إلا أنه محرم بالنسبة إلى بقاء الطواف في ذمته، أي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فَيحُج عنه بعد موته إذا تمكن من العود ولم يعد، ووجد في تركته أجرة ذلك قاله ع ش، وإذا طاف ولي الصبي أو المجنون به وجب طهرهما من الحدث والخبث بأن يتطهر ويطهرهما بأن ينوي الولي عنهما ويغسلهما ولا يضر الشك بعد فراغ الطواف في طهره. اهـ عمدة الأبرار. (قوله: قال في النهاية: تقلد -يعني الحائض- أبا حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه) يقول مقيده عبد الفتاح حسين راوه عفا الله عنه آمين: أي لأنهما لا يشترطان الطهارة من الحدثين في الطواف كالوقوف بعرفة يصح بدون طهارة من الحدثين، قال الشيخ عبد الله بن جاسر رحمه الله في مفيد الأنام: وقال شيخ الإِسلام: وكذا المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضاً بحيث لا يمكنها التأخر بمكة، ففي إحدى قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقاً أجزأه الطواف وعليه دم، إما شاة وإما بدنة مع الحيض والجنابة وشاة مع الحدث الأصغر - إلى أن قال: فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها باتفاق العلماء، ولو قدمت المرأة حائضاً لم تطف بالبيت لكن تقف بعرفة وتفعل سائر المناسك مع الحيض إلا الطواف فإنها تنتظر حتى تطهر إنْ أمكنها ذلك ثم تطوف. وإنْ اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك على الصحيح من قولي العلماء. وقال رحمه الله أيضاً: وأما الذي أعلم فيه نزاعاً أنه ليس لها أن تطوف مع الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر فلا أعلم منازعاً أن ذلك يحرم عليها وتأثم به. وتنازعوا في إجزائه. فمذهب أبي حنيفة يجزئها ذلك وهو قول في مذهب أحمد إلى أن قال: وأما القول بأن هذه العاجزة عن الطواف مع الطهر ترجع محرمة أو تكون كالمحصر أو يسقط عها الحج أو يسقط عنها طواف الفرض، فهذه أقوال كلها مخالفة لأصول الشرع، مع أني لم أعلم إماماً من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة، وإنما كلام مَنْ قال: عليها دم أو ترجع محرمة أو غير ذلك من السلف والأئمة كلام مطلق يتناول من كان يفعل ذلك في عهدهم، وكان في زمنهم يمكنها أن تحتبس حتى تطهر وتطوف، وكانوا يأمرون الأمراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحيض ويطفن، ولهذا ألزم مالك وغيره المكاري لها أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف انتهى ملخصاً من نحو عشر ورقات. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أبو عبد الله محمد ابن القيم رحمه الله: المثال السادس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الحائض من الطواف بالبيت حتي تطهر. وقال لها: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام إذ نهى الحائض عن الجميع سواء ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة، ونازعهم في ذلك فريقان أحدهما صححوا الطواف مع الحيض ولم يجعلوا الحيض مانعاً من صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقول أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط بل جعلوها واجباً من واجباته وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها بالدم. والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها بل وبمنزلة سائر شروط الصلاة أو واجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز قالوا: وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى، قالوا: وقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين يحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن صفية وقد حاضت: "أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت، قال: (فلتنفر إذا) وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها، أما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام: (أحدها): أن يقال لها: أقيمي بمكة وإنْ رَحَلَ الركب حتى تطهري وتطوفي، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه. (الثاني): أنْ يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه. (الثالث): أنْ يقال: إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه في وقته. (الرابع): أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (الخامس): أن يقال: بل تحج وإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت وتطوف وهي طاهرة، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه. (السادس): أن يقال: بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها ثم إذا أصابها ذلك أيضاً تحللت وهكذا أبداً حتى يمكنها الطواف طاهرة. (السابع): أن يقال: يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب وقد أجزأ عنها الحج وإن انقطع حيضها بعد ذلك. (الثامن): أن يقال: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لفقد الماء أو مرض بها وكما يسقط عنها فرض اشتراط طهارة مكان الطواف إذا عرض فيه نجاسة يتعذر إزالتها شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقاً فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن ثم تكلم رحمه الله تعالى عن الأقسام السبعة المتقدمة، وأبطل قول مَنْ قال بها أو إحداها ورده رداً شافياً لا مزيد على حسنه. ثم قال: فإِذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن وهو أنْ يقال: تطوف بالبيت والحال هذه وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها كما تقدم إذْ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع ضرورة، فإنْ قيل: الطواف كالصلاة ولهذا تشترط له الطهارة من الحدث وقد أشار إلى ذلك بقوله في الحديث: (الطواف بالبيت صلاة) والصلاة لا تشرع ولا تصح مع الحيض فكذا شقيقها ومشبهها ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلا تصح مع الحيض كالصلاة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (فالجواب) أن القول: باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدُل عليه نص ولا إجماع بل فيه النزاع قديماً وحديثاً، فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنباً ناسياً صح طوافه ولا دم عليه، وعنه رواية أخرى عليه دم وثالثة أنه لا يجزئه الطواف إلى أن قال: وقد دَلت أحكام الشريعة على أن الحائض أولى بالعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسياً أو ذاكراً فإِذا كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه فإِن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان، فإِن الناسي لما أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره بخلاف العاجز عن الركن أو الشرط فإِنه لا يؤمر بإِعادة العبادة معه إذا قدر عليه، فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذه لا تستطيع إلا هذا وقد اتقت الله ما استطاعت فليس عليها غير ذلك النص، وقواعد الشريعة والمطلق يقيد بدون هذا بكثير إلى أن قال: فَإِن قيل، لو كان طوافها مع الحيض ممكناً أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن. (قيل): لا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط طواف القدوم عن الحائض وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أنْ تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج، فَعُلِمَ أنّ الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو الطواف أو لهما والمحظورات لا تباح إلا في حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد ولا إلى طواف الوداع فإِنه ليس من تمام الحج، ولهذا لا يودع المقيم بمكة، وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت، فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب كما هي أقوال وليس واحد منهما ركناً تقف صحة الحج عليه بخلاف طواف الفرض فإِنها مضطرة إليه وهذا كما يباح لها دخول المسجد واللبث فيه للضرورة ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه، وإنْ كان منذوراً، إلى أن قال: وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين: (أحدهما): في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها وقد تبين ذلك بما فيه كفاية. و (الثاني): في أن كلام الأئمّة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال الضرورة والعجز، فالإِفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم وبالله تعالى التوفيق انتهى ملخصاً. وقد سقت كلام الشيخين في هذه المسألة لأني لم أرَ مِنْ الأصحاب مَنْ استوفى الكلام فيها سواهما، ومن كلامهما يتضح أنهما يريان صحة طواف الحائض طواف الإِفاضة الذي هو ركن في الحج إذا اضطرت إلى طوافه بأن لم تتمكن من المقام بمكة حتى تطهر لسفر رفقتها عنها وقولهما هذا وجيه وإنْ كان خلاف المذهب عند متأخري الأصحاب. قلت: وحكم النفساء حكم الحائض في صحة طوافها الإِفاضة الذي هو ركن في الحج إذا اضطرت إلى طوافه بأن لم تتمكن من المقام بمكة حتى تطهر من نفاسها لسفر رفقتها عنها والله أعلم. اهـ. فائدة: تكميلاً وتتميماً لما سبق نثبت هنا رسالة في طواف الحائض للإمام العلامة قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحمن بن شمس الدين إبراهيبم البارزي الجهني الشافعي رحمه الله وغفر له ولوالديه آمين. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين، قال رحمه الله: مسألة تقع في الحج كل عام ويبتلى بها كثير من العلماء والعوام وهي أن المرأة المحرمة تحيض قبل طواف الركن وهو طواف الإفاضة ويرحل الركب قبل طوافها ولا يمكنها المقام وفي سنة (سبع وسبعمائة) جرى ذلك لكثير من نساء الأعيان وغيرهم ومنهن من انقطع دمها يوماً أو أكثر باستعمال دواء لذلك وظنت أن الدم لا يعود فاغتسلت وطافت ثم عاد الدم في أيام العادة، ومنهن من انقطع دمها يوماً وكثر بلا دواء فاغتسلت وطافت ثم عاد الدم في أيام العادة أيضاً، ومنهن من طافت قبل انقطاع الدم والاغتسال، ومنهن من طافت مع الركب فهؤلاء أربعة أصناف فلما اشتد الأمر بهن وخفن أن يرجعن بلا حج وقد أتين من البلاد البعيدة وقاسين الأهوال الشديدة وخرجن عن الأوطان وفارقن الأحباب والأولاد والخلان وأنفقن الأموال، كثر منهن السؤال، وقد قاربت عقولهن الزوال، هل من مخرج من هذا الحرج وهل لهذه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الشدة من فرج؟ (فسألت الله) التوفيق والإِرشاد إلى ما فيه التيسير على العباد من مذاهب الأئمة الذين جعل الله اختلافهم رحمة للأمة فظهر لي الجواب والله أعلم بالصواب (أنه) يجوز تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم، ويجوز لكل واحد أن يقلد واحداً منهم في مسألة ويقلد إماماً آخر في مسألة أخرى ولا يتعين تقليد واحد بعينه في كل المسائل (إذا عرفت هذا) فيصح كل حج واحد من الأصناف المذكور على قول لبعض الأئمة. (أما الصنف الأول والثاني) فيصح طوافهن على مذهب الإِمام الشافعي رضي الله عنه على أحد القولين فيما إذا انقطع دم الحيض يوماً أو يومين فإن يوم النقاء طهر على هذا القول ويعرف بقول التلفيق وصححه من أصحاب الشافعي الشيخ الإِمام أبو حامد والمحاملي في كتبه وسليم والشيخ منصور المقدسي والروياني واختاره الشيخ الإِمام أبو إسحاق المروزي وقطع به الدارمي. (وأما على مذهب الإِمام أبي حنيفة) رضي الله عنه فيصح طوافهن لأنه لا يشترط عنده في الطواف طهارة الحدث والنجس ويصح عنده طواف الحائض والجنب مع الحرمة. (وأما على مذهب الإِمام مالك) رضي الله عنه فيصح طوافهن لأن مذهبه النقاء في أيام التقطع طهر. (وأما على المذهب الإِمام أحمد) رضي الله عنه فيصح طوافهن لأن مذهبه في النقاء كمذهب مالك وفي اشتراط طهارة الحدث والخبث كمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في إحدى الروايتين. (وأما الصنف الثالث) فيصح طوافهن على مذهب الإِمام أبي حنيفة، وفي إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد لكن يلزمها ذبح بدنة وتأثم بدخولها المسجد وهي حائض فيقال لها: لك الدخول وأنت حائض ولكن إن دخلت وطفت أثمت ويصح طوافك وأجزأك عن الفرض. (وأما الصنف الرابع) وهي التي سافرت من مكة قبل الطواف فقد نقل المصريون عن الإِمام مالك رضي الله عنه أن من طاف طواف القدوم وسعي ورجع إلى بلده قبل طواف الإفاضة جاهلاً أو ناسياً أجزأه عن طواف الإِفاضة ونقل البغداديون خلافه، حكى الروايتين =

واعلم أن عورةَ الرجلِ والأمة (¬1) ما بين السرةِ والركبةِ (¬2) وعورةَ الحرة جميعُ بدنِها إلاّ الوَجْهَ والكفين (¬3) هذا هُوَ الأصحُّ ومما تعم به البلوَى في الطوافِ ملامسةُ النسَاءِ للزحمةِ فينبغي (¬4) للرجل أن لا يزاحمَهنّ ولها أن لا تزاحِمَ الرّجال خوفاً من انتقاضِ الطهارةِ فإنْ لمسَ أحدُهما بَشرةَ الآخرِ بِبَشرته انتقض طهُورُ الملامِسِ. ¬

_ = عن الإِمام مالك القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المالكي في كتاب المنهاج في مناسك الحج وهو كتاب جليل مشهور عن المالكية ويتخرج على رواية المصريين سقوط طواف الإِفاضة عن الحائض التي تعذر عليها الطواف والإفاضة فان عذرها أظهر من عذر الجاهل والناسي فإن لم تعمل بهذه الرواية ولم يصح التخريج المذكور وأرادت الخروج من محظورات الإِحرام فعلى قياس أصول الإِمام الشافعي وغيره تصبر حتى تجاوز مكة بيوم أو يومين بحيث لا يمكنها الرجوع إلى مكة خوفاً على نفسها ومالها فتصير حنيئذ كالمحصر لأنها تيقنت الإِحصار، وتيقن الإِحصار لوجود الضرر في حصول الإكراه حتى لو أمره سلطان علم من عادته أنه يعاقب إذا خولف بالطلاق فطلق لم يقع الطلاق عليه، إذا تقرر هذا وأرادت الخروج من الإِحرام فتتحلل كما يتحلل المحصر بأن تنوي الخروج من الحج حيث عجزت عن الرجوع وتذبح هناك شاة تجزىء في الأضحية وتتصدق بها وتقص شعر رأسها فتصير حلالاً ويحل لها جميع ما حرم بالإِحرام، ولكن إذا كان إحرامها بالحج الفرض بقي في ذمتها فتأتي به في عام آخر، وإذا صح حجها على قول بعض الأئمة المذكورين دون بعض وأرادت الاحتياط بالخروج من محظورات الإِحرام فتتحلل كما ذكرنا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. (انتهت الرسالة). (¬1) أي بالنسبة للطواف والصلاة أما في النظر فكل بدنها. (¬2) أي ويجب ستر جزء منها إذ لا يتم الواجب إلا به. (¬3) أي في الصلاة والطواف أما في النظر فكل بدنها. (¬4) أي يندب بالنسبة لما ذكره من الخوف أما بالنسبة لخوف فتنة تحدث من المزاحمة فهي حينئذ حرام على كل حال من الفريقين.

وفي الملموس قولان للشافعي رحمه الله تعالى أصَحهما عند أكثر أصحابه أَنه ينتقض وُضوءُهُ وهو نصُه في أكثر كتبه والثاني لا يَنتقض واختارَهُ جماعة قليلةٌ من أصحابِهِ والمختار الأولُ فأما إذا لمسَ شعرهَا أو ظفْرَهَا أو سنَّها (¬1) أو لَمَسَ بشرتَها بشَعْره أو ظُفْره أو سنه فلا ينتقض. ولو تصادما فالتقت البشرتان دفعة واحدة فليسَ فيهمَا مَلْموسٌ بَلْ يَنْتَقضُ وُضُوؤهُمَا جميعاً بلا خِلاَف (¬2) ولو كانت الملمُوسَةُ ممن يَحرُم عليه نكاحُها على التأبيد بقرابة أو رضاع أو مُصَاهَرة (¬3) لم يَنْتَقِضْ وُضُوءُ واحد منهما بِلَمْس الْبَشْرَة على الأصح (¬4) وَسَوَاءٌ في الانتقاضِ بِمُلاَمَسَةِ الأَجنَبيةِ الجميلة والْقَبيحَة والشَّابة والعَجُوز ولاَ يَضرُّ لمسُهَا فَوْقَ حائِل من ثَوْب رَقيق أو غيْره ولو كانَ بِشَهوَة ولا يَنْتَقض بلمس الصغيرِ والصَّغيرة اللذَيْن لم يَبْلَغا حَدّاً يُشْتَهيان فيه (¬5). ¬

_ (¬1) مثل السن كل عظم ظهر من بدنها على الأوجه وفي داخل عينها تردد ولا يبعد إلحاقه بالسن. اهـ حاشية. (¬2) أي عند الشافعية قال صاحب كتاب (رحمة الأمة): واختلفوا في لَمْس الرجل للمرأة فمذهب الشافعي الانتقاض بكل حال إذا لم يكن حائل، والصحيح من مذهبه استثناء المحارم، ومذهب مالك وأحمد أنه إن كان بشهوة انتقض وإلاً فلا. ومذهب أبي حنيفة أنه لا ينتقض إلا أن ينتشر ذكره فينتقض باللمس والانتشار جميعاً. اهـ. (¬3) خرج به الملاعنة وأصول الموطوءة بشبهة وفروعها وأزواجه - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء كلهن وإنْ كن يَحْرُمن على التأبيد ينتقض الوضوء بلمسهن. (¬4) لكن يسن الوضوء خروجاً من الخلاف وكذا يقال في كل صورة جرى فيها خلاف كلمس الأمرد ونحو الشعر. (¬5) أي لأصحاب الطباع السليمة سواء أبلغا سبع سنين أو أكثر أم لا، وإنما لم يشترط ذلك في العجوز لأنه سبق لها حال كانت تشتهى فيه فاستصحب.

(فرع): ومما عَمَّتْ به البَلْوى غَلَبةُ النَّجاسَةِ فِي موضع الطَّوَافِ مِنْ جهةِ الطيْرِ وغيرِهِ وقد اخْتَارَ جَمَاعَةٌ من أصْحَابِنَا المُتَأخرينَ المُحَققينَ المُطَّلعين أنهُ يُعْفَى عَنْهَا وَيَنْبَغِي أنْ يقالَ: يُعْفَى عَمّا يشَق الاحْترازُ عنه (¬1) من ذلك كما عُفي عن دمِ القَمل والْبَرَاغيثِ والبق وَوَنيمِ الذُّبَابِ وهو رَوْثُهُ وكما عُفِي عن الأثَر الْبَاقي بعد الاستِنجاء بالحجر وكما عُفِي عن القَليل من طين الشَّوارعِ الذي تَيقنَّا نجاسَتَهُ وكما عفي عن النجاسةِ التي لم يدركها الطَّرْفُ في الماءِ والثوب على المذْهَبِ المُخْتَارِ (¬2) ونَظَائرُ ما أشَرْتُ إليه أكثَرُ من أن تُحْصَرَ وَمَوْضعُهَا في كُتبِ الفقهِ وقد سُئلَ السَّيِّدُ الجَليلُ المتفقُ على جَلاَلتهِ وأمَانته وورَعِهِ (¬3) وزَهَادَتِه واطّلاَعِهِ على الفقهِ وهو الشّيْخُ أبو زَيْد المَرْوَزيُّ إمام أصْحَابِنَا الْخَرَاسانِيّين عن مَسْئَلة من هذا النَحْوِ فقالَ بالْعَفْوِ وقال الأمْرُ إذا ضَاقَ اتَّسَعَ كأنَّهُ مُسْتَمد من قَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولأنَّ مَحَل الطَّوَافِ في زَمَن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحَابِهِ رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم منْ ¬

_ (¬1) أي بحيث لم يتعمد المشي عليه، ولم يجد عنه معدلاً ولم يكن ثم رطوبة، فإنْ تعمد وطأه وله غنى عن وطئه أبطل طوافه وإن قل وجَف، وإلا فلا لكن الرطب يضر مطلقاً حتى مع النسيان وعدم المندوحة. قال الشمس الرملي رحمه الله تعالى: ومما شاهدته مما يجب إنكاره ما يفعله الفراشون بالمطاف من تطهير ذرق الطير بمسحه بخرقة مبتلة بل يصير غير معفو عنه. قال العلامة ابن علان رحمه الله تعالى: قد ذكرت ذلك للفراشين ولشيخ الحرم وما حصل منهم اعتناء فيعفى عنه لغلبة الجهل وعموم البلوى. اهـ عمدة الأبرار. (¬2) أي ولو كانت النجاسة من مغلظ. وجرى عليه المحقق محمد الرملي رحمه الله وقال المحقق ابن حجر المكي رحمه الله: إذا كانت النجاسة من غير مغلظ وليس لفعله مدخل. (¬3) الورع: هو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس. وقيل: هو ترك ما فوق الحاجة من الأغراض.

سلَف الأمَّةِ وخَلَفِها لم يزل على هذا الحالِ ولَمْ يَمتنع أحدٌ من الطَّواف لذلِك ولا ألزَمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا منْ يقتَدى به مِنْ بعده أحَداً بتَطهير المَطَافِ عن ذلك ولاَ أَمرُوهُ بإعادة الطَّوافِ لذلكَ والله أعلم. الواجبُ الثاني: أنْ يكُون الطَّوافُ في المسجدِ ولا بأسَ بالحائِلِ بين الطَائِفِ والبَيْتِ كالسقَايةِ والسَّوَارِي (¬1) ويجُوزُ الطَّوَافُ في أُخْرياتِ المسجدِ وفي أرْوقَتِهِ وعنْدَ بابِهِ من داخِلِهِ وعلى أسْطحته ولا خلافَ في شيءٍ من هذا لكن (¬2) قَالَ بَعْضُ أصْحَابِنَا يُشْترط في صحَّةِ الطَّوَافِ أن يكونَ الْبيتُ أرْفَعَ بنَاء من السَّطْح كما هو الْيَومَ حتى لو رُفع سَقْفُ الْمَسْجِد فصار سطحُهُ أَعْلَى مِنَ الْبَيت لم يَصحّ الطَّوافُ على هذا السَّطْحِ وأنكرهُ عليه الإِمام أبو القاسم الرافعيّ (¬3). وقال: لا فَرْقَ بين عُلُوّه وانخفاضِهِ قال أصْحابُنَا: ولو وُسعَ الْمَسْجِدُ واتّسع المطافُ فَيصحُّ الطَّوَافُ في جَميعهِ وَهُوَ الْيوْمَ أوْسَعُ مما كانَ في عصرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بزيَاداتٍ كَثيرةٍ كَمَا سيَأْتي بيانُهُ إن شاء الله تعالى في الباب الخامِس واتَّفَقُوا عَلَى أنَّهُ لو طَافَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يَصحَّ طَوافُهُ بحالٍ واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الواجبُ الثالثُ: اسْتكْمَالُ سَبع طَوْفَاتٍ فَلَو شَكّ (¬4) لزِمهُ الأَخْذُ بالأقل ¬

_ (¬1) أي وجدار بني في المسجد محيط بالكعبة وإنْ لم يرها مِنْ خلفه ولم ينفذ إليها لأنه لم يخرج عن مسجد الكعبة. اهـ ابن الجمال. اهـ تعليق. (¬2) هو استدراك من عموم وقوله بعض أصحابنا كصاحب العدة والماوردي والروياني. (¬3) صوب في المجموع ما قاله الرافعي رحمه الله. (¬4) أما إذا أخبره غيره بخلاف ما يعتقده فلا يخلو إما بالنقص أو بالزيادة فإن =

ووجَبتِ الزِّيَادَةُ حَتى يَتَيقنَ السَّبع إلا إن شَك بعد الفَرَاغِ منه (¬1) فَلاَ يلْزَمُهُ شَيْء. الواجبُ الرابعُ: التَّرتيبُ وهُوَ في أَمْرَين: أحَدهُما: أَنْ يَبْتَدِىءَ مِنَ الْحَجَر الأسْودِ (¬2) فَيَمُرُ بِجَميع بَدَنِهِ على جَميعه (¬3) على الصّفَةِ التي ذَكَرنَاهَا ولو ابْتَدَأَ بغير الحَجَرِ الأَسْوَدِ أو لم يَمُرَّ عليه بجميعِ بَدَنِهِ (¬4) لَمْ تُحْسَبْ لهُ تلكَ الطَّوْفَةُ حتى يَنْتَهِيَ إلى مُحَاذَاةِ الْحَجر الأَسْوَدِ (¬5) فَيجعلُ ذلك أَوَّلَ طَوَافِهِ (¬6) ويَلْغُو مَا قَبْلَهُ فَافْهَمْ هَذَا فَإنَّهُ مما يُغْفَل عَنْهُ ويَفْسُدُ بَسَبَبِ إهْمَالِهِ حَجُّ كَثير من النَّاسِ. والأمر الثاني: أَنْ يَجْعَلَ في طَوَافِهِ البَيْتَ عن يَساره (¬7) كما سَبَقَ بيَانُهُ فلو ¬

_ = أخبره بالنقص ندب الأخذ بقوله احتياطاً بخلاف الصلاة، فإنها تبطل بالزيادة، أو بالكمال لم يجز الرجوع له وإن كثر ما لم يبلغ حد التواتر على الأوجه كما في الصلاة. (¬1) قال في الحاشية: مقتضاه أنه لا يضر الشك في طهره بعده أيضاً وهو ظاهر مقيس، فما اقتضاه قول بعضهم: لو شك بعد العمرة هل طاف متطهراً لم يؤثر من أنَّ الشك قبل فراغها يضر، ولو بعد الطواف مردود. اهـ. (¬2) مثل الحجر الأسود محله فيما لو نزع منه والعياذ بالله كما مَرّ سابقاً فتجب محاذاة محل الحجر من الركن. هذا في غير الراكب ومن على السطح أما هما فيحاذيان ما سامتهما من الركن ولو مع وجود الحجر في محله أي بقدر الحجر لو جعل في ذلك المحل المسامت. (¬3) أي على جميع الحجر بحيث لا يتقدم جزء منه على جزء من الحجر من جهة الباب، أما إذا جاوزه ببعض بدنه إلى جهة الباب فلا تحسب طوفته. (¬4) أي بجميع شقه الأيسر. (¬5) أي بمنكبه الأيسر. (¬6) أي إنْ كان لا يفتقر لنية أو استمر ذاكراً لها لما يأتي فيها. (¬7) فيشمل المحمول ولو صبياً. =

جَعَلَ البَيْتَ عن يَمينِهِ ومَرَّ من الحَجَر الأَسْوَدِ إلى الرُّكن الْيَماني لم يَصحّ طَوَافُهُ ولو لَمْ يَجْعل البَيْتَ عَلَى يَمينِهِ وَلاَ عَلَى يسَارِهِ بل استَقْبله بوَجْهِهِ وطَافَ مُعْترضاً أوْ جَعَلَ البيتَ عَلَى يَمينِه وَمَشَى قهْقَرى إلَى جهةِ المُلْتَزمِ والْبَابِ لَمْ يَصحَّ طَوَافُهُ علَى الأصح وكَذَا لوْ مر مُعتَرضاً مُسْتَدْبِراً لَمْ يَصحَّ عَلَى الصَّحيح وَلَيْسَ شَيءٌ مِنَ الطَّوَافِ يَجُوزُ مَعَ اسْتِقْبَالِ البَيْتِ إلاَ مَا ذَكَرْنَاهُ (¬1) أَوَّلاً مِنْ أَنهُ يمُرُّ في ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ مُسْتَقْبِلاً لهُ فَيقَعُ الاستِقْبَالُ قُبَالَةَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ لا غير وذلكَ مُسْتَحَب في الطَّوْفَةِ الأولى خَاصَّةً دونَ ما بعدها ولو تَرَكَهُ في الأولى فَمَرَّ بالْحَجَرِ وهو على يَسارِهِ وسَوَّى بين الأُولى وما بعدها جازَ ولكنْ فَوَّت هذا الاسْتِقْبَالَ المُسْتَحَبَّ ولم يَذْكُرْ جماعةٌ من أصْحَابِنا هذا الاسْتقبالَ وهوَ غيرُ الاستقْبالِ المُسْتَحَب عند تلقَاءِ الحجَرِ قَبْلَ الطَّوَافِ فَإنّ ذلك مُسْتَحَبٌ لا خلافَ فيه وسُنَّة مُسْتَقِلّة. الواجب الخامس: أنْ يكونَ في طَوَافِهِ خَارجاً بجميع بدَنِهِ عن جميعِ البيت فلو طاف على شَاذَروَانِ الْبَيْتِ (¬2) أو في الحَجْرِ لم يَصحّ طَوَافُهُ لأنه ¬

_ = (تنبيه): قال المحشي رحمه الله تعالى: يسري إلى ذهن كثيرين من اشتراط جعل البيت عن يساره أن الطواف يسار وليس كذلك. بل هو يمين كما يصرح به خبر مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى البيت فاستقبل الحجر ثم مشى عن يمينه أي الحجر وحينئذ فيكون الطائف عن يمين البيت لأن كل مَنْ كان عن يساره شيء فذلك الشيء عن يمينه ولأن من استقبل شيئاً ثم أراد المشي عن جهة يمينه فإنه يجعل ذلك الشيء عن يساره قطعاً. اهـ. (¬1) هذا الاستثناء صوري لأن أول الطواف الواجب هو الانفتال وما قبله مقدمته لا منه ومِنْ ثم لَمْ تَجُزْ النية إلا إنْ قارنته كما تقدم، وهذا معتمد العلامة ابن حجر المكي رحمه الله، ومعتمد الجمال الرملي والخطيب وابن قاسم وغيرهم رحمهم الله تعالى أن أول طوافه ما فعله أولاً وأن الاستثناء حقيقي. (¬2) الشاذروان: جدار قصير مسنم بأسفل الكعبة مرتفع عن الأرض به حلق يربط =

طَافَ في الْبَيْتِ لا بالبيت وقد أمر اللهُ تعالى بالطَّوَافِ بالبَيْتِ، والشَّاذَروَانُ والْحِجْرُ مِنَ البيتِ. أَمَّا الشَّاذَروَانُ فهو القَدْرُ الذي تُركَ مِنْ عَرْضِ الأساسِ خَارجاً عن عَرْضِ الجدارِ مُرْتَفعاً عنْ وجْهِ الأرضِ قَدْر ثُلُثَيْ ذراع قَالَ أبو الوَليدِ الأزْرَقيُّ في كِتَابِهِ في تَاريخ مَكةَ طُولُ الشَاذَرْوَانِ في السَّمَاءِ ستَّةَ عشرَ أُصْبعَاً وعرضُهُ ذِرَاعٌ قال: والذّرَاعُ أرْبَعٌ وعشْرُونَ أصْبعاً قَالَ أصْحابُنَا وغَيرُهمْ مِنْ العُلَمَاءِ هَذَا الشَّاذرْوَانُ جُزءٌ من الْبَيْتِ نَقصَتْه (¬1) قُرَيشٌ مِنْ أَصْلِ الْجِدَارِ حينَ بَنَوا الْبَيْتَ (¬2) وهوَ ظَاهرٌ في جَوَانِبِ الْبَيْتِ لكن لا يَظْهَرُ عنْدَ الْحَجَرِ الأسودِ (¬3) وقَدْ أُحدِثَ في هَذه الأَزْمَانِ عندَهُ شاذروانُ. ولَوْ طافَ خَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وكَانَ يَضَعُ إحْدَى رجْلَيْهِ أَحياناً علَى الشَّاذروَانِ ويقفزُ بالأخْرَى لَمْ يَصحَّ طَوَافُه (¬4) ولوْ طَافَ خَارجَ الشَّاذروَانِ وَلمسَ بيده الجدَارَ في مُوَازَاةِ الشَّاذروَانِ أو غيرِهِ من أجزاء الْبيتِ لم يصحَّ ¬

_ = بها ثوب الكعبة، قد ترك من طرف أساس الكعبة لمصلحة البناء وهو من الجهة الغربية واليمانية فقط كما في النهاية، والمعتمد كما في التحفة ثبوته من جهة باب الكعبة أيضاً. قال في إعانة الطالبين رحمه الله تعالى: مختلف في ثبوته من جميع الجوانب فالإِمام والرافعي لا يقولان به إلا في جهة الباب، وشيخ الإِسلام ومَنْ وافقه لا يقولان به من جهة الباب، وأبو حنيفة لا يقول به في جميع الجوانب، وفيه رخصة عظيمة بل لنا وجه أن مَس جدار الكعبة لا يضر لخروج معظم بدنه عن البيت. اهـ. (¬1) أي تركته من عرض أساس البيت لمصلحة البناء. (¬2) أي في عهده - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وعمره عليه الصلاة والسلام حينذاك خمس وثلاثون سنة. (¬3) أي ترك بناؤه ثَم ليتيسر تَقْبيل الحجر الأسود، ثم خشي توهم عدمه ثم فيطوف الطائف فتبطل طوفته فأعيد كما قال المصنف رحمه الله وقد أحدِثَ .. إلخ. (¬4) أي ما أتى به من فعل المبطل فليعد.

طَوَافُهُ أَيضاً على المذْهَب الصَّحيحِ الذي قَطَعَ به الْجَماهيرُ لأنَّ بعضَ بدنِهِ في البيتِ ويَنبغي أَن يُتَنبَّه هُنَا لدقيقة وهي أنَّ مَنْ قَبَّلَ الْحجَرَ الأسْوَدَ فَرَأْسُهُ في حدِّ التقْبيلِ في جزء مِنَ البيتِ فَيَلْزَمُهُ أَن يقرَّ قدَمَيْهِ في موضعهِمَا حتى يَفْرُغَ من التَّقْبيلِ ويعتدلَ قائماً لأَنَّهُ لو زالَتْ قَدَماهُ من مَوْضِعِهِمَا إلى جهةِ البابِ قليلاً ولو قدْرَ بعضِ شِبر في حالِ تقبيلِهِ ثُمَّ لما فَرَغَ من التَّقْبيلِ اعْتَدَلَ عَلَيْهِما في الْمَوْضِعِ الذي زَالَتَا إليهِ ومضَى من هُنَاكَ في طَوَافِهِ (¬1) لكانَ قد قَطَعَ جُزءاً من مَطَافِهِ وبدَنُهُ في هَوَاءِ الشَّاذرَوانِ فَتبطُلُ طَوْفَتُهُ تلك. وأما الْحِجْر (¬2) فهو مَحُوطٌ مُدَوَّر على صُورَةِ نصفِ دَائرةٍ وهو خارجٌ عن جدارِ الْبَيْتِ في صَوْبِ الشَّامِ وهُو كُلهُ أو بعْضهُ من البيتِ تركَتْهُ قُرَيشٌ حينَ بَنَتْ البيت وأخْرَجَتْهُ عن بناءِ إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وصارَ لهُ جدار قَصِير (¬4). واخْتَلَفَ أَصحَابُنَا في الْحِجْرِ فذهَبَ كَثيرُونَ إلى أنَّ ستَّةَ أذْرُعٍ منْهُ مِنَ البَيْتِ وَمَا زَادَ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ حَتَى لَوْ اقْتَحَمَ جدَارَ الْحِجْرِ وَدَخَلَ منْهُ وخَلَّفَ بَيْنَهُ وبَيْنَ البَيْتِ ستة أذْرُعٍ صَحَّ طَوَافُهُ وبَعْضُهُم يقُولُ سبعَ أَذْرُع (¬5) وَبِهذاَ الْمَذْهَبِ قَالَ الشَيْخُ أبُو مُحَمَّد الْجُوَيْني مِنْ أئِمّةِ أصْحَابِنَا وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْن وَالْبَغَوِيُّ، وَزَعَمَ الإِمَامُ أبُو القَاسِمِ الرَّافعيُّ أَنهُ الصَّحيحُ ودَليلُ هَذا المذهب مَا ثَبَتَ في صَحيحِ مُسْلم عَنْ عَائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنْهَا عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ستَّةُ أذْرُعٍ من الحِجْرِ مِنَ الْبيتِ" وفي رواية لهُ: أنَّ من الْحِجْرِ قريباً من سبعة ¬

_ (¬1) أي ولم يرجع إلى المحل الذي زالتا منه. (¬2) الحِجْر: بكسر الحاء. (¬3) لأن الأجرة الطيبة الحلال التي تنفق على بناء الكعبة نقصت على قريش. (¬4) ليدل على أن الحجْر من الكعبة. (¬5) لفظ ذراع يذكر ويؤنث كما في مختار الصحاح والمراد به ذراع اليد.

أذرع من البيت وَالمذهب الثاني أَنهُ يَجِبُ الطَّوافُ بجَميعِ الْحِجْرِ فَلَوْ طافَ في جُزءٍ مِنْهُ حَتى عَلَى جدَارِهِ لَمْ يَصحَّ طوافُهُ وهَذَا المذهبُ هُوَ الصَّحيحُ وعَلَيْه نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحمهُ اللهُ تعالى وبه قطعَ جماهيرُ أصْحابِنَا وهذَا هُوَ الصَّوابُ لأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - طَافَ خارجَ الحِجْرِ، وهكذا الخُلُفاءُ الرَّاشِدُونَ وغيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابةِ فمَنْ بَعْدهُمْ. وأَمَّا حديثُ عائشَةَ رضي الله عنها فقد قال الشّيخُ الإِمامُ أَبُو عَمْرِو بن الصَّلاحِ رحمهُ اللهُ تعالى قد اضطربَتْ فيه الرِّواياتُ. ففي رواية في الصَّحيحينِ الحِجْرُ من البيتِ ورُوِيَ ستَّةُ أَذْرُع نحوها، ورُوِيَ خَمسةُ أذْرُع ورُوِيَ قريباً مِنْ سَبعْ أذْرُع قَالَ: وإذا اضطرَبَتْ الرِّواياتُ تَعَيَّنَ الأخذُ بأكثرِها ليَسْقُطَ الْفَرْضُ بيقينٍ قُلْتُ: ولو سُلِّمَ أنَّ بعضَ الحِجْرِ ليسَ مِنَ البيتِ لا يَلْزَمُ منه أَنهُ لاَ يجبُ الطَّوافُ خارج جَميعِهِ لأن المُعْتَمَدَ في بابِ الحَج الاقْتِدَاءُ بفعْلِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيجبُ الطَّوافُ بجميعِهِ سَوَاءٌ كان من البيتِ أمْ لاَ والله تَعَالَى أعلم. (فَرع): في صِفَةِ الْحِجْرِ ذكر أبو الْوَليدِ الأزْرَقيُّ في كتاب تاريخِ مَكَّةَ الْحِجْرَ ووَصَفَهُ وصْفاً واضحاً فقالَ: هُوَ ما بَيْنَ الرُّكْنِ الشَّامِيّ والْغَرْبيِّ وأرْضُهُ مَفْرُوشَة برُخَام وهُوَ مُسْتَوٍ بالشَّاذَرْوَانِ الذي تحتَ إزَارِ الكَعْبةِ وعَرْضُهُ من جِدَارِ الْكَعْبَةِ الذي تَحْتَ الميزَابِ إلى جِدَارِ الْحِجْرِ سَبْعَ عَشرَةَ ذِرَاعاً وثَمَانِ أصَابعَ. وَذَرْعُ ما بينَ بَابَيْ الْحِجْرِ عشرون ذرَاعاً وعَرْضُهُ اثْنَان وَعشْرُونَ ذراعاً، وذَرْعُ جدارِهِ مِنْ داخلِهِ في السَّماءِ (¬1) ذرَاعٌ وأرْبَعَ عَشْرَةَ أُصْبعاً (¬2)، وذَرعُهُ مما يَلي البابَ الذي يلي المَقامَ ذرَاعٌ وعشْرُ أَصَابعَ، وذَرْعُ جدارِهِ ¬

_ (¬1) أي في جهتها. (¬2) الأصبع يذكر ويؤنث كما في الصحاح.

الْغَرْبي في السماءِ ذرَاعٌ وعشرونَ أصْبُعاً، وذَرْعُ جِدَارِ الْحِجْرِ مِنْ خَارِج ممَّا يَلِي الرُّكنَ الشَّامي ذرَاعٌ وَستةَ عَشَرَ أصبُعاً وَطُولُه مِنْ وَسَطِهِ في السَّمَاء ذرَاعان وَثَلاَثُ أَصَابعَ وعَرْضُ الجدارِ للْحِجْر ذراعَان إلاَّ أصْبُعَيْنِ وذَرْعُ تَدْويرِ الْحِجْرِ من دَاخِلِهِ ثمان وثلاثون ذرَاعاً، وَذَرْعُ تَدْويرِهِ مِنْ خَارِج أرْبَعُونَ ذراعاً وستُّ أصَابع وفَرْعُ طَوْفَة واحدة حَوْلَ الْكَعْبَةِ والحجر مائةُ ذراع وثلاث وعشرونَ ذِرَاعاً واثْنَتَا عشرةَ أُصْبُعاً. هذا آخرُ كلاَمِ الأَزْرَقي رَحمَهُ اللهُ تعالى وهذا الفْرَعُ مما يُحتَاجُ إلى مَعْرفَتِهِ. الواجبُ السادسُ: نِيةُ الطَّوَافِ (¬1)، فإنْ كانَ الطَّوافُ في غَير حَج وعُمْرَة فَلاَ يَصحُ إلاّ بالنيةِ (¬2) بِلاَ خِلاَف (¬3). وإنْ كانَ في حَج أو عُمْرَة فالأوْلَى أنْ يَنْوِيَ فإنْ لم يَنْوِ صَحَّ طَوافُهُ على الأصَح لأنَّ نِيّةَ الْحَجّ تَشْمِلُهُ كما تشمَلُ الْوُقُوفَ (¬4) وغيرَهُ (¬5) وإذَا قُلْنا بالأَصَح أَنَّ النية لا تَجِبُ فالأَصَحُّ أنهُ يُشْتَرَطُ أَلاّ ¬

_ (¬1) قال رحمه الله في التعليق: المراد بالنية .. المذكورة سواء وجبت أو سُنت: قصد الفعل عنه أما مطلق قصد أصل الفعل فلا بد منه حتى في طواف النسك ولذلك قال ابن علان رحمه الله تعالى: أما قصد الفعل فواجب فيه مطلقاً، وأما التعيين ففيما عدا طواف النسك لاستحباب نية على نية وأما قصد الفرضية ففي الطواف المنذور. (¬2) محل نيته أوله كغيره فتشترط مقارنتها لما يعتبر محاذاته من الحجر الأسود. (¬3) الخلاف في نية طواف النسك كما سيذكره المصنف في قوله: (وإن كان في حج أو عمرة إلخ). (¬4) به قال الثوري وأبو حنيفة وقال أحمد وإسحق وأبو ثور وابن القاسم المالكي وابن المنذر رحم الله الجميع: لا يصح إلا بالنية لأنه عبادة فاحتاج إلى نية كركعتي المقام والله أعلم. اهـ مجموع. (¬5) يدخل فيه طواف القدوم فلا يحتاج لنية ويخرج منه طواف الوداع، فيحتاج إليه لأنه ليس من المناسك على المعتمد عند الشيخين رحمهما الله تعالى.

يَصْرِفَهُ إلى غَرَضٍ آخرَ منْ طَلَبِ غَريمٍ ونَحْوِهِ فلو صَرَفَهُ لا يَصِحُّ طَوَافُهُ (¬1) وقيلَ يَصِحُّ. (فرع): لو حَمَلَ رَجُل مُحْرِماً من صَبِي أو مَريضٍ أو غَيْرِهِمَا وطَافَ فإنْ كانَ الطَّائفُ حَلاَلاً (¬2) أو مُحْرِماً قد طَافَ عن نَفْسِهِ (¬3) حُسِبَ الطَّوَافُ للْمَحمولِ (¬4) بِشَرْطِهِ (¬5) وإن كان مُحْرِماً لَمْ يَطُفْ عن نَفْسِهِ (¬6) نُظِرَ، إنْ قَصَدَ الطَّوَافَ عن نَفْسِهِ فَقَط أو عنهما أو لم يقْصِدْ شَيْئاً وَقَعَ عن الحامِلِ وإنْ قَصَدَهُ عن المحمولِ وَقَعَ عن الْمَحْمُولِ على الأصَحِّ وقيلَ عن الْحَامِلِ وقيلَ عنهما ¬

_ (¬1) فارق الوقوف حيث لا يضر صرفه بأنه قربة في نفسه بخلاف الطواف. اهـ حاشية. (¬2) أي ولو لم ينوِ الطواف لنفسه. (¬3) أي أو لم يدخل وقت طوافه. (¬4) قال الإمام الإسنوي رحمه الله تعالى كما في الحاشية: المراد بالحسبان له إنما هو عن طواف تضمنه إحرامه لا مطلق الطواف حتى لو كان المحمول قد طاف عن نفسه كان كما لو حمل حلالٌ حلالاً بلا شك. اهـ. وهو ظاهر معلوم من قول المصنف الآتي بشرطه. (¬5) أي من نحو ستر وطهر ودخول وقت وعدم صارف وغير ذلك مما مَرّ وبشرط أن لا ينوي الحامل الحلال أو المحرم الذي طاف عن نفسه أو لم يدخل وقت طواف نفسه سواء نوى المحمول أم لا، فإن نوى نفسه ولو مع المحمول المحرم أو الحلال وقع لنفسه، ولو نوى كُل نفسه وقع للحامل على الأصح وبه قال مالك أو للمحمول أو لهما، وبه قال أبو حنيفة. وعن الإِمام أحمد روايتان للحامل ورواية لهما وحامل محدث أو نحوه كالبهيمة فلا أثر لنيته عند الأئمة الثلاثة خلافاً للإمام أبي حنيفة لعدم اشتراطه الطهارة للطائف. (¬6) أي وقد دخل وقت طوافه والمراد به طواف الركن وكذا طواف القدوم لإلحاقه به في عدم النية كما تقدم.

وسَوَاء في الصَّبي المَحْمُولِ حَمَلَهُ وَليُّهُ الذي أحْرَمَ عَنْهُ أو حَمَلَهُ غيرُهُ (¬1) ولو حَمَلَ مُحْرَمَيْن (¬2) وطَافَ بِهِمَا وهو حَلاَلٌ أو مُحْرِمٌ طافَ عن نَفْسِهِ وقَعَ عن الْمَحْمُولَيْن جميعاً كما لو طافَ على دابة. الواجبُ السَّابعُ والوَاجِبُ الثَّامِنُ: الْمُوَالاَة بين الطَّوْفَاتِ والصَّلاَةُ بعدَ الطَّوافِ والأَصَحُّ أنَّهُما سُنَّتانِ وفي قَوْلٍ واجِبَتَانِ وَسَيَأتي إيضَاحُهُمَا في السُّنَنِ إن شاءَ الله تَعَالى. أما سُنَنُ الطوافِ وآدابِهِ فثمان: أحَدهما: أنْ يَطُوفَ مَاشياً فَإنْ طَافَ راكباً لعُذْر يَشُقُّ معهُ الطَّوافُ مَاشياً أو طافَ رَاكباً ليَظْهَرَ ويُسْتَفْتَى ويُقتَدَى بِفعلِهِ جازَ ولا كَرَاهَةَ فيه لأَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طافَ راكباً في بعض أطْوفَتِهِ وهو طَوَافُ الزِّيَارَةِ (¬3) ولو طَافَ رَاكباً بلا عُذْرٍ جازَ أيضاً. قالَ أصْحَابُنَا ولا يُكْرَهُ (¬4) قَالَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وفي الْقَلْبِ من إدخالِ ¬

_ (¬1) أي بشرط إذن الولي له. (¬2) أي أو أكثر. (¬3) قال في الحاشية: ما أشار إليه من أن ركوبه - صلى الله عليه وسلم - فيه إنما كان ليظهر فيستفتى هو ما رواه مسلم. قال السبكي: وهذا أصح من رواية مَنْ روى أنه طاف راكباً لمرضى، أشار بذلك لما رواه أبو داود على أن في إسناده مَنْ لا يحتج به. وقال البيهقي: في حديثه لفظة لم يوافق عليها وهي قوله: (وهو يشتكي) ومن ثمة قال الشافعي رضي الله عنه: لا أعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحجة اشتكى، وأما طواف القدوم، ففي الأم وغيرها، وحكى الاتفاق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله ماشياً وخبر مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة لا ينافي ذلك، وإن كان سعيه في تلك الحجة إنما كان مرة واحدة وعقب طواف القدوم لأن الواو لا تقتضي ترتيباً. اهـ. (¬4) أي ما لم يكن هناك زحام بل قد يحرم الركوب إنْ تحقق الإِيذاء أو ظنه.

البَهيمَةِ التي لا يُؤمَنُ تَلْويثُهَا المسْجدَ شَيء، فَإنْ أمْكَنَ الاسْتيثَاقُ فَذَاكَ وإلاَّ فَإدْخَالُهَا مَكْرُوه. الثانية: الاضْطبَاعُ الَذي سَبَقَ بيانُه (¬1) مُسْتَحَبٌّ إلى آخِر الطَّوافِ وقيلَ يَسْتَديمُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ في حَالِ صَلاَة الطَّوَافِ وما بَعدهَا إلى فَرَاغِهِ مِنَ السَّعْي، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ إذا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أزَال الاضطبَاع وصَلَّى، فإذا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ أَعَادَ الاضطْبَاعَ (¬2) وَسَعَى مُضْطَبِعاً (¬3) وإِنَّمَا يَضْطَّبعُ في الطَّوَافِ الذي يَرْمُلُ فِيه (¬4) وَمَا لاَ رَمَلَ فِيهِ لا اضْطِبَاعَ فيه وَسَيَأْتي بيانُ الطَّوافِ الذي فيهِ الرَّمَلُ إنْ ¬

_ (¬1) أي في الفصل الثاني في كيفية الطواف، الاضطباع كما تقدم هو أن يجعل الرجل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن عند إبطه ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفاً. اهـ. قال في الحاشية: ويكره تركه يعني الاضطباع وترك الرمل بلا عذر كما نَص عليه الشافعي رحمه الله ولو تركه في بعض الطواف أو الرمل في الأولى أو الثانية أو بعض إحداهما أتى به في الباقي وكذا الاضطباع في السعي. (¬2) أي قبل شروعه في الدعاء. (¬3) أي في جميع سعيه وقيل بين الميلين فقط. (¬4) أي الطواف الذي يشرع فيه الرمل وهو كل طواف يعقبه سعي. قال في الحاشية: ويسن الاضطباع، وإن لم يرمل كما أنّ الرمل يسن وإن لم يضطبع لأن كل واحد منهما هيئة في نفسه فلا يتركه بترك غيره، وقال فيها أيضاً، وظاهر كلام المصنف السابق في تعريف الاضطباع أنه لا يسن لمن كان لابساً للمخيط لعذر أو غيره والذي يظهر أنه يسن ويكون فوق ثيابه إن لم يتيسر كشفها ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر لأن الحكمة في أصل مشروعيته كالرمل إظهار الجلادة والقوة للمشركين وبالنسبة إلينا إظهار التأسي والاتباع والجد في العبادة، وكل ذلك حاصل مع اللبس. وقولهم يكون كتفه الأيمن بارزاً جَرْيٌ على الغالب، وأيضاً فإلحاقهم السعي بالطواف فيه يدل أن علته مَعْقولة يتأتى الإِلحاق فيها فيقاس غير المتجرد عليه لما علمت من أن إظهار دأب أهل الشطارة يحصل بذلك مع اللبس أيضاً ثم رأيت الزركشي بحث أنه لا يسن للابس، وغيره بحث أنه يسن له إنْ لبس لعذر، والأوجه ما قدمنا من الإِطلاق. اهـ.

شَاءَ اللهُ تعالى إلا أَنهُ يُسَنُّ الاضْطِبَاعُ في جميعِ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ والرمل يختص بالثلاث الأول، والصبي كالبالغ في استحباب الاضطباع على المذْهَب المشهُورِ ولاَ تَضْطَبعُ المرأةُ (¬1) لأن مَوْضعَ الاضْطِبَاعِ مِنها عَوْرَة. الثالثةُ: الرَّمَلُ بفتح الراءِ والميمِ وهُوَ الإِسْرَاعُ في المشْي مع تَقَارُبِ الْخُطَا دُونَ الوُثُوبٍ والْعَدْوِ ويقالُ له الْخَبَب (¬2) قال أصحَابنا: ومَنْ قَالَ إِنَّهُ دونَ الخببِ فقد غَلِطَ، والرَّمَلُ مُسْتَحَبٌّ (¬3) في الطَّوفاتِ الثَّلاَثِ الأوَلِ ويُسَنُّ المشيُ على الْهِينَةِ في الأَرْبَعِ الأخيرةِ والصَّحِيحُ مِنَ القَوْلَيْنِ أنهُ يَسْتَوْعِبُ البيتَ بالرَّمَلِ وفي قَوْلٍ ضَعِيفٍ لا يَرْمُلُ بينَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمانِيّين (¬4) وإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الثلاثِ الأوَلِ لم يقْضِهِ في الأَرْبَعِ الأخيرَةِ لأنّ السنَّةَ في الأخِيرةِ المشيُ على ¬

_ (¬1) أي ولو صغيرة ومثلها هنا الخنثى وفي الرمل فلا يُسَن لهما. (¬2) صَح عن ابن عمر رضي الله عنهما كان - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً. وفسر أكثرهم (الخبب) بأنه الإِسراع في المشي مع هز المنكبين بدون وثب. (¬3) لا ينافيه خبر مسلم: (ارملوا ثلاثاً وليس بسنة) لأن معناه ليس بسنة عامة في كل طواف لكل أحد كسائر السنن، وإنما شرع بسبب خاص وهو إظهار الجلد للكفار حينما قالوا سنة سبْع من الهجرة وقت اعتماره هو وأصحابه عمرة القضاء: هؤلاء قد وهنتهم حمى يثرب فلم تبق لهم طاقة بقتالنا. فأطْلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالوا فأمر أصحابه بالرمل ليرى المشركين جلدهم وقوتهم ففعلوا، فلما رأوهم قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أنهم أنهكتهم حمى يثرب؟ إنهم لأجْلد من كذا وكذا. ثم بقي الرمل مع زوال سببه لأن فاعله يستحضر به سبب ذلك وهو ظهور أمرهم، فيتذكر نعمة الله بإعزاز الإِسلام وأهله، ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد منع الرمل لزوال سببه فتذكر هذا، أي أن فاعله يستحضر به سبب ذلك. (¬4) ودليله رواية مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - تركه بينهما. وأجيب: كما في الحاشية بأنه كان في عمرة القضاء سنة سبع، ورواية أنه - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر إلى الحجر كانت في حجة الوداع فهي ناسخة لتلك والله أعلم.

الْهينة، فإنْ كانَ رَاكباً حَرك دَابتَهُ في مَوْضِع الرَّملِ وإِنْ حَمَلَهُ إنسانٌ رَمَلَ بِهِ الحَامِلُ ولا تَرْمُلُ المرْأةُ بِحَال. واعْلَمْ أنَّ الْقُرْبَ مِنَ البيْتِ مُسْتَحَب فِي الطَّوَافِ (¬1) ولا نَظَرَ إلى كَثْرة الْخطا لو تَباعدَ، فَلَوْ تَعَذرَ الرَّمَلُ مَعَ الْقُرْبِ للزحْمَةِ فَإِنْ كَانَ يَرْجو فُرْجَةً وَقَفَ (¬2) لَهَا لِيَرْمل فِيهَا إِنْ لم يُوذِ بِوُقُوفِهِ أَحَداً، وإِنْ لم يَرْجُهَا فَالمُحَافَظَةُ علَى الرَّمَلِ مَعَ الْبُعْدِ عن الْبَيْتِ أَفْضَل من الْقُرْبِ بِلاَ رَمَلٍ (¬3) لأَن الرملَ شِعَار مُسْتَقِل وَلأنَّ الرَّمَلَ فَضيلَةٌ تتعَلَّقُ بِنَفْسٍ العِبَادَةِ والْقُرْبُ فَضيلَةٌ تتعَلَّقُ بِمَوْضع الْعِبَادَة والتّعَلُّقُ بنَفْس الْعِبَادةِ أوْلَى بالمُحافَظَةِ، أَلاَ تَرَى أن الصَلاَةَ بالجَمَاعَةِ في الْبَيْتِ أفضلُ مِنَ الانْفِرَادِ في المسجد (¬4). ولو كان إذا بَعُدَ وقعَ في صَفّ النِّسَاءِ فالْقُرْبُ بلا رَمَلٍ أولى من البُعْدِ إليهنَّ من الرَّمْلِ خَوفاً مِنْ انتقاضِ الوُضُوءِ ومن الفتْنَةِ بِهن وكذا لو كان بالْقُرْبِ أيضاً نِسَاءٌ وتَعَذرَ الرَّمَلُ في جميع الْمَطَافِ (¬5) لِخَوْفِ الْمُلامَسَةِ فَتَرْكُ الرَّمَلِ ¬

_ (¬1) أي لكونه أشرف البقاع ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل ولأن القرب منه أفضل في الصلاة. (¬2) أي ندباً. (¬3) قال ابن الجمال رحمه الله تعالى كما في التعليق: محله إنْ أمن لمس نساء ناقضاً أو لم يختلط بهن اختلاطاً يخشى منه فتنة، وإنْ أمن اللمس ولم يبعد بحيث يكون طوافه وراء زمزم والمقام وإلا قرب بلا رمل. اهـ. (¬4) ولو المساجد الثلاثة على المعتمد خلافاً للمتولي رحمه الله تعالى وعلله بِأن المضاعفة فيها تزيد على المضاعفة في غيرها ويؤيد الأول قاعدة أنّ فضل الاتباع يربو على فضل المضاعفة. اهـ تقريرات عن ابن علان رحم الله تعالى الجميع. (¬5) خرج به ما لو تيسر في بعضه فإنه يفعله فيما تيسر فيه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور والله أعلم.

أَوْلَى، وَمَتَى تَعذَّرَ الرمَلُ في الْجَميع اسْتُحِب أنْ يَتْرُكَهُ في مَشْيِهِ ويُشيرُ إلى حرَكةِ الرَّمَلِ ويُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنهُ لَوْ أَمْكَنَهُ الرَّمَلُ لَرَمَلَ. قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله تعالى: ولا خِلاَفَ أَنهُ لا يُشْرَعُ الرَّمَلُ إلاَّ في طَوَاف واحدِ من أطْوِفَةِ الْحَجّ وفي ذَلِكَ الطَّوَافِ قَوْلاَنِ أصَحُّهُمَا عنْدَ الجمهُور أنهُ إِنَّمَا يُسَنُّ في طَوَاف يَسْتَعْقِبُ السَّعْي (¬1) والثاني: يُسَنُّ في طَوَاف الْقُدُوم كَيْفَ كانَ (¬2) فَتَحَصَّلَ من الْقَولين أنهُ لاَ يَرْمُلُ في طَوَافِ الْوَدَاعِ بلاَ خِلاَفِ وكذَا لا يَرْمُلُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ مكَّةَ إلا بَعْدَ الوُقُوفِ بِلاَ خلافِ في طَوَافِ الإِفَاضَةِ لأَن طَوَافَ الْقُدُومِ في حَقه انْدرجَ في طَوَافِ الإِفاضَةِ، وكذا يَرْمُلُ مِنْ قدمَ مكَّةَ معتمراً لوُقُوعِ طَوَافِهِ مُجْزِئاً عن القُدُومِ واسْتعقَابِهِ السَّعْيَ، وَلَوْ طَافَ للقُدُومِ وَلَمْ يُرد السَّعيَ بَعدهُ رَمَلَ (¬3) على الْقَوْلِ الثاني وَلاَ يرمُلُ على الْقَوْلِ الأَوَّلِ الأصح بل يَرْمُلُ عَقيبَ طَوَافِ الإفَاضَةِ لاسْتعقَابِهِ السَّعْيَ وإذَا طَافَ لِلقُدومِ ورمَلَ وسَعَى بعدَهُ لا يَرْمُل في طَوَافِ الإِفاضة وَلَوْ طَافَ للقُدوم ورملَ وَسَعَى عقِيبَهُ فَهَلْ يرمل في الإِفَاضَةِ أم لا؟ فيه وَجْهانِ، وقيلَ قوْلاَنِ أصَحُّهُمَا لا يَرْمُلُ لأَنَّهُ ليسَ مُسْتَعْقِباً سَعْياً ولو طافَ وَرَمَلَ ولم يَسْعَ فالصَّحِيحُ الَّذي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أنهُ يَرْمُلُ في الإِفاضَةِ لاسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ. ¬

_ (¬1) أي وأراده عقبه بالنسبة لطواف القدوم حتى لو أراد بعد طواف القدوم أو الركن ولو بيومين فأكثر سن له الرمل فيه وعلم من كلامه رحمه الله أنه لا يسن في طواف القدوم إذا فعله حلال دخل مكة. (¬2) قال رحمه الله تعالى في الحاشية: هو ما اختاره السبكي وغيره من جهة الدليل لأن الأحاديث إنما وردت فيه وَرُدَّ بأن الذي سعى فيه - صلى الله عليه وسلم - كان في المعنيان لأنه سعى عقبه. اهـ. (¬3) أو حرك دابته إنْ كان راكباً أو رمل به حامله لتوجه الطلب إليه.

أْمَّا المكي المُنْشىءُ حَجة مِنْ مَكَّة فَهُو علَى القَوْلينِ الأصحّ أَنهُ يَرْمُلُ لاسْتِعْقَابِهِ السَّعْي والثاني لا لِعَدَمِ القُدُومِ وَأمَّا الطَّوَاف الذي هُوَ غيْرُ طَوَافَيْ القُدُومِ وَالإفَاضَةِ (¬1) فَلاَ يُسَنّ فِيهِ الرَّمَلُ وَالاضْطِبَاعُ بِلاَ خِلاَفٍ سَوَاء كَانَ الطَّائفُ حَاجَّاً أوْ مُعْتَمِراً أوْ غَيْرَهُمَا. واعلم أنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ منَ اسْتحبَابِ القُرْبِ مِنَ البَيتِ في الطَّوَافِ هُوَ فِي حَق الرَّجُلِ، وَأمَّا الْمَرأة (¬2) فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أنْ لاَ تَدْنُوَ منْهُ بَلْ تكُونُ في حاشية المَطَافِ ويُسَنُّ لَهَا أن تَطُوفَ لَيْلاً لأْنَّهُ أسْتَرُ لَهَا وَأصْوَن لَهَا وَلغيرِهَا مِنَ المُلاَمَسَةِ والْفتنةِ فإنْ كَانَ المطَافُ خالياً عن النَّاس اسْتُحِبَّ لَهَا الْقُرْبُ كالرجُل. الرابعة: اسْتلاَمُ الْحَجر الأسْوَدِ وتَقْبيلُهُ وَوَضْعُ الْجَبهةِ عَلَيْهِ (¬3) وقد سبقَ بيانُ ذلك (¬4) ويُسْتَحَبُّ أيضاً أنْ يَسْتلمَ الرُّكْنَ الْيَمانِيَّ ولا يقبلهُ لكنْ يقَبّلَ يَدَهُ ¬

_ (¬1) أي وغير طواف العمرة. (¬2) ومثلها الخنثى ولكن لا يختلط بالنساء ولا بالرجال لأنه مع النساء كرجل ومع الرجال كامرأة. (¬3) أي في أول الطواف وفي ابتداء كل طوفة وليحذر المحرم من تقبيل الحجر الأسود واستلامه والسجود عليه وهو مطيب كما تقدم فإن عجز عن استلامه بيمينه فبيساره ويقبلهما وإلا فبما في يمينه وإلا فبما في يساره ويقبلهما. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أنْ يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه رواه أحمد وأبو داود رحمهما الله تعالى، وقد تقدم أيضاً في أول هذا الفصل حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَبل الركن اليماني أي الحجر ثم سجد عليه ثم قَبله إلخ فراجع أول الفصل تجده. (¬4) أي في أول هذا الفصل أي الفصل الثاني في كيفية الطواف فارجع إليه وإلى التعليق عليه تجد أدلة ما تقدم.

التي اسْتَلَمَهُ بِهَا (¬1) ويكونُ تَقْبيلُها بعد الاستلامِ بِهَا هذا هو الصَّحيحُ الذي قالهُ جُمْهُورُ أصْحَابِنَا وقال إمامُ الحَرَمَيْن: إِنْ شَاءَ قبَّلها ثُمَّ اسْتَلَمَ بِهَا وَإِن شاءَ اسْتَلَمَ ثُم قَبلَهَا والمُخْتارُ مذْهَبُ الجمهورِ. وذكرَ القاضي أبُو الطيبِ أَنهُ يُسْتَحَبُّ الجمعُ بينَ الحَجر الأَسوَد والرُّكْنِ الذي هُوَ فيه في الاسْتِلاَمِ والتقبيل (¬2) واتَّفَقُوا على أنَّهُ لا يقبِّلُ ولا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَين الآخرَيْن وَهُما الشَّاميَّانِ لأَنهما ليسا على قَوَاعِد إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - (¬3) بخلافِ الأسودِ واليَمَانِي (¬4) ويُسْتَحَب استلامُ الْحَجرِ الأسْوَدِ وتَقْبيلُه واستلاَمُ اليمَانِي ¬

_ (¬1) لعله قياساً على الحجر الأسود. (¬2) قال في الحاشية: (غريب ضعيف). (¬3) أي لأن الركنين الشاميين ليسا موضوعين على قاعدتي الركنين الشاميين اللتين وضعهما إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بل موضوعين على أساس البيت الذي أسسه، لأن تركينهما وقع على أُسَّيْ الجدارين الناقصين في عرضه فلذلك لا يستلمان لأن الاستلام للأركان المخصوصة لا لنفس البيت ولا لما وضع من الأركان على أساسه ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لمعاوية رضي الله عنه حين طاف وجعل يستلم الأركان كلها: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً فقال ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فقال معاوية: صدقت. وسبب عدم وضعهما على قاعدتيهما السابقيتن أن قريشاً لما بنت البيت على هيئته التي هو عليها الآن نقصوا بعضه من الجهة الشامية لما ارتفع البناء وحاذى وجه الأرض لأنهم لم يجدوا من الأموال الطيبة الحلال ما يفي بالنفقة وجعلوا على ذلك البعض وما زاد عليه جداراً قصيراً علامة على أنه من البيت وهو المسمى بالحجر وأخرُوا الركنين الشاميين عن قاعدتيهما السابقتين وجعلوهما فوق طَرَفَيْ الجدارين الناقصين في عرض البيت. (¬4) أي فيقبل الحجر الأسود ويسجد عليه ويستلم والركن اليماني يستلم فقط كما تقدم في أول هذا الفصل لأنهما موضوعان على قَاعِدتي الركنين اليمانيين اللتين وضعهما إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.

وتقبيلُ اليدِ بَعْدَهُ عِنْدَ مُحَاذَاتِهِمَا فِي كُل طَوْفَة وَهُوَ في الأَوْتَارِ آكد (¬1) لأَنَّهُما أفْضَلُ فَإنْ مَنَعته زَحْمَةٌ مِنَ التَّقْبيلِ اقْتَصَرَ على الاسْتِلاَمِ (¬2) فإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ (¬3) أشَارَ إلَيْهِ بِيَدهِ (¬4) أو بِشَيْء فِي يَدهِ ثُم قَبلَ ما أشارَ بِهِ (¬5) ولا يُشيرُ بالْفَمِ إلى ¬

_ (¬1) وآكدها الأولى والأخيرة وهل الأولى آكد لشرفها ببداءة أو الأخيرة لوقوع الختم بها أو بهما سواء؟ الأقرب الثالث للتعارض. اهـ تقريرات. (¬2) أي باليد بلا حائل إلا لعذر وقيل: ما استلم به الحجر الأسود من يد أو عصا عند العجز عن الاستلام باليد، لأنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قبل الحجر الأسود وثبت عنه أنه استلمه بيده ثم قبلها، وثبت عنه أنه استلمه بمحجن (عصا معكوفة الرأس) ثم قتله كما تقدم ولا يزاحم للتقبيل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إنْ وجدت خلوة وإلاّ فَهَلِّل وكبر" رواه الإمامان والشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى. وأما نَصُّ الإمام الشافعي في الأُم على طلب الاستلام أول الطواف وآخره ولو بالزحام فمحمول على زحام ليس معه ضرر، وأما فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في تاريخ الأزرقي رحمه الله تعالى أنه كان لا يدع الركن الأسود واليماني في كل طواف طافه بهما حتى يستلمهما، حتى لقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحام حتى رعف فخرج فغسل عنه ثم رجع فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتى رعف الثانية فخرج فغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلمه وبسنده أن عبد الله بن عمر كان لا يترك استلام الركنين في زحام ولا غيره حتى زاحم عنه يوم النحر وأصابه دم فقال: قد أخطأنا هذه المرة، فليس بحجة لقوله: لقد أخطأنا ولمخالفة والده وغيره من الصحب له رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (¬3) فإن لم يمكنه أي الاستلام باليد لمشقة شديدة. (¬4) أي باليد اليمنى إن قدر وإلا فاليسرى، وقوله أشار إليه أي الحجر وليحذر المحرم من تقبيل الحجر الأسود ومسه وهو مطيب كما تقدم ويحرم لَحْسُهُ باللسان كما يفعله بعض العامة إن وصلته رطوبة منه. (¬5) قال في الحاشية: هو ما في المجموع ثم قال فيها أيضاً: إن تقبيل ما أشار به للحجر خالف فيه كثير مِن الشافعية بخلاف نفس الإشارة وجزم في مختصر الإيضاح كما جزم في شرح بافضل رحمهما الله تعالى بأنه لا يقبل ما أشار به للركن اليماني فارقاً بينه =

التقْبيل ولا يُسْتَحَب للنساءِ (¬1) اسْتلامٌ ولا تَقْبِيلٌ إلا فِي اللَّيْلِ عَنْدَ خُلُوِّ المطَافِ (¬2). الخامسةُ: الأذكار المُسْتَحَبةُ فِي الطَّوافِ. يُسْتَحَب أنْ يقُولَ عندَ استلاَمِ الْحَجر الأسْودِ أولاً وعندَ ابْتداءِ الطَّوَافِ أيضاً (¬3) بِسْمِ اللهِ واللهُ أْكْبَرُ اللهُمَّ إيمَاناً بِكَ وَتَصْدِيقاً بِكَتابِكَ ووفاءً بعهدِك (¬4) واتباعاً لسنةِ نَبِيك مُحَمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويأْتِي بِهَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي كُل طَوْفَةٍ قَالَ الشَّافعي رحمهُ اللهُ تعالى: وَتقُولُ اللهُ أكبرُ ولاَ إلهَ إِلا الله قَالَ: وإنْ ذَكَرَ اللهَ تعالى وَصَلَّى على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فَحَسَنٌ، قال: وَأُحِب أنْ ¬

_ = وبين الحجر الأسود بأن الحجر أشرف فاختص بذلك، أقول كما قال سادتي العلماء رحمهم الله تعالى: كون ركن الحجر أفضل لأن فيه فضيلتين فضيلة كونه على قاعدة ركن إبراهيم، وفضيلة وجود الحجر به، واليماني فيه فضيلة واحدة وهي كونه على قاعدة ركن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. (¬1) أي والخناثي فلا يسن لهم أيضاً ذلك إلا عند خلو المطاف عن الرجال والنساء جميعاً لأنهم مع النساء كرجال ومع الرجال كنساء كما تقدم قريباً والله أعلم. (¬2) المراد بخلو المطاف خلوه من ناحية الاستلام فقط بأن يأمن النساء والخناثي مجيء ونظر رجل غير محرم من تلك الناحية ليلاً أو نهاراً وتعبيره رحمه الله تعالى بالليل للغالب من خلو المطاف فيه ولمحل الحجر الأسود لو أزيل والعياذ بالله تعالى حكمه من استلام وغيره ولو جعل الحجر الأسود في محل آخر من البيت فلا تنتقل الأحكام إليه كما تقدم. (¬3) وهو ما نقله في المجموع عن الشافعي والأصحاب رحمهم الله ورحمنا معهم آمين. وأما رفع اليدين حذو المنكبين في الابتداء كالصلاة فجعله بعضهم بدعة وجعله بعضهم سنة قياساً على الصلاة. (¬4) المراد بالعهد (هو المأخوذ يوم: ألست بربكم) لما قيل من أنه كتب وأدرج في الحجر كما تقدم والله أعلم.

يقُولَ (¬1) فِي رَمَلِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجاً مَبْرُوراً وذَنْباً مَغْفُوراً وَسَعْياً مَشكُوراً، قَالَ وَيقُولُ فِي الأَرْبَعَةِ الأَخِيرَةِ: اللَهُمَ اغْفِرْ وارْحَمْ واعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وأنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ، اللَّهُمَّ رَبنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةَ (¬2) وفي الآخِرَةِ حسنةَ وقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عن أنَسٍ رضي الله عنهُ قَالَ: كَانَ أكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَهُمَ آتِنَا في الدنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حسنةَ وقِنَا عَذَابَ النَّارِ". قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هَذا أحَبُّ ما يقالُ في الطَّوَافِ قَالَ: وأحبُّ أنْ يقالَ فِي كُلهِ، قَالَ أصْحَابُنَا وَهُوَ فيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي والأَسْوَدِ آكَدُ ويَدْعُو فِيمَا بين طَوْفَاتِهِ بِمَا أحَبَّ (¬3) من دينٍ ودنيا لنفسه ولمن أحبَّ وَلِلْمُسْلِمِينَ (¬4) عَامَّةَ، وَلَوْ دَعَا وَاحِدٌ وأمَّنَ جَمَاعَةٌ فَحَسَنٌ (¬5) وَيَنْبَغِي الاجتهَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الشريف وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِي رحمَهُ الله تعالى أَنهُ قال في رسالَتِهِ المشْهُورَةِ إلى أَهْلِ مكَّةَ: إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ هُنَاكَ في خمسةَ عَشَرَ مَوْضعاً: في الطَّوافِ وعِنْدَ المُلْتَزَمِ وتَحْتَ الميزَابِ وَفِي الْبَيْتِ وعِنْدَ زَمْزَمَ وَعَلَى الصَّفَا والمَرْوةَ وفِي السَّعْي وخَلْفَ المقَامِ وفي عَرَفَات وَفِي المُزْدَلِفَةِ وَفِي مِنى وعندَ الْجَمَرَاتِ الثَّلاث. ¬

_ (¬1) أي الحاج والمعتمر لأن العمرة تُسَمى حَجاً لغة، بل قال الصيدلاني رحمه الله كما في الحاشية: بأنها تسمى حجاً شرعاً لقوله -صلى الله عليه وسلم -: "العمرة هي الحج الأصغر". (¬2) الحسنة في الدنيا: كل خير دنيوي أو ديني أو ما يجر إليهما، وفي الآخرة: كل مستلذ أخروي متعلق بالروح والبدن جعلنا الله والمسلمين والمسلمات من أهلها في الدنيا والآخرة آمين. (¬3) أي ندباً إنْ كان بديني وجوازاً إنْ كان بدنيوي مباح ويصلي ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذَلِك مستحب في جميع الأحوال ففي حالة تلبسه بهذه العبادة أولى. (¬4) أي والمسلمات فهو من باب التغليب. (¬5) هذا أولى مما يفعل الآن من الترديد.

ومَذْهَبُ الشَّافِعِي رحمه اللهُ تعالى أنهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءةُ القُرْآنِ فِي طَوَافِهِ (¬1) لأَنهُ مَوْضعُ ذِكْرِ والْقُرْآنِ أعْظَمُ الذكرِ (¬2) قال أصْحَابُنا وقراءة القرآن في الطَّوَافِ أفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ غَيْر المأثُور (¬3) وأمَّا المأثورُ فهو أفضلُ منها (¬4) عَلَى الصَّحيحِ وَقَال أبو عبدِ الله الحلِيمي مِنْ أصحَابِنَا لا تُسْتَحب القرَاءةُ في الطَّوَافِ والصَّحِيحُ ما قَدمنَاهُ، قَالَ الشَّيْخُ أبُو مُحمَّدٍ الجُوينيُّ: ويَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَخْتِمَ فِي أيامِ الْمَوْسِمِ في طَوافِهِ ختْمَةً (¬5). ¬

_ (¬1) وبه قال الإِمام أبو حنيفة وكره الإِمام مالك القراءة في الطواف، وعن الإِمام أحمد روايتان كالمذهبين. (¬2) أقول: كما في المجموع ومما يستدل به لتفضيل قراءة القرآن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الرب سبحانه وتعالى: مَنْ شَغَلَهُ ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين، وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". رواه الترمذي وقال: حديث حسن والأحاديث في ترجيح القراءة كثيرة. (¬3) المأثور ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم لكن المراد بالمأثور هنا ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - فقط. (¬4) أي أن الاشتغال بالمأثور في مواضعه وأوقاته أفضل من الاشتغال بقراءة القرآن ولهذا أمَرَ بالذكر في الركوع والسجود ونهى عن القراءة فيهما. قال في الحاشية: واعلم أن التفضيل بين القرآن وغيره إنما هو من حيث إن الاشتغال بغيره قد يكون أفضل من الاشتغال به لعارض وإلا فذات القرآن أفضل قطعاً مطلقاً. اهـ. فإنْ قيل خبر مسلم رحمه الله: (أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت) يدل على أن هذا أفضل الكلام. أجيب: كما في الحاشية بأن الحديث محمول على أن المراد أحبه من كلام الآدميين. اهـ. (¬5) قال إبراهيم النخعي رحمه الله كما في الحاشية: كان يعجبهم إذا قدموا مكة أنْ لا يخرجوا حتى يختم القرآن. وفقنا الله لتلاوته آناء الليل والنهار مع الإخلاص له تعالى آمين.

السَّادِسَةُ: المُوَالاةُ بَيْنَ الطَّوْفاتِ (¬1) سنةٌ مُؤَكدَةٌ ليْسَتْ بوَاجِبَة عَلَى الأصَح وَفِي قَوْلٍ هِيَ واجبة (¬2) فَيَنْبَغِي أنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَهَا بشيءٍ سِوَى تَفْريقِ يسير فَإنْ فرَّقَ كثيراً وَهُوَ مَا يَظُنُّ النَّاظرُ إلَيْهِ أَنهُ قَطَعَ طَوَافَهُ أو فَرَغَ منه فالأحْوَطُ أنْ يَسْتأنِف (¬3) ليَخْرُجَ مِنَ الخِلاَفِ وإنْ بَنَى عَلَى الأولِ ولَم يَسْتأنفِ جَازَ عَلى الأصحِّ وإذَا أحْدثَ في الطَّوافِ عَمْداً أو غَيْرَ عَمْدٍ وتَوَضَّأ وَبَنَى عَلَى مَا فَعَلَ جَازَ على الأَصَح والأَحْوَطُ الاستئنافُ وَإِذا أُقيمَتِ الْجَمَاعَةُ المكْتُوبةُ (¬4) وهُوَ فِي الطَّوافِ أوْ عَرَضَتْ حَاجَةٌ ماسَّةٌ (¬5) قَطَعَ الطَّوَافَ (¬6) لذلكَ فإذا فَرَغَ بَنَى والاسْتِئْنَافُ أفْضَلُ ويُكْرَهُ قَطْعُهُ بلا سَبَبٍ وَهُوَ مِثْلُ هذا حَتَّى يُكْرَهُ قَطْعُ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ لِصَلاَةِ جنازة (¬7) أوْ لِصَلاَةِ نافلةٍ راتبةٍ. السابعة: أنْ يكُونَ في طَوَافِهِ خاضعاً مُتَخَشِّعاً حَاضِرَ القَلْبِ مُلاَزمَ الأَدَبِ ¬

_ (¬1) أي بين خطا الطوفة، وبين الطواف وسننه وبينها وبين استلام الحجر وبينه وبين السعي. (¬2) هو مذهب الحنابلة فعندهم لو قطع الطواف بفصل طويل عرفاً ولو سهواً أو لعذر لم يجزئه لأنه - صلى الله عليه وسلم - والى بين طوافه وقال: "خذوا عني مناسككم". (¬3) أي إذا كان التفريق كثيراً ولو بعذر. (¬4) أي المؤداة إن لم يخش فوتها ففارق الطواف صلاة النافلة فإنه لا يسن قطعها إلا إنْ خشي فوت الجماعة وسبب التفريق أن قطعها يبطلها بخلافه. (¬5) أي كشرب من ذهب خشوعه بعطشه. (¬6) أي الطواف الفرض أو النفل، وحيث قطعه فالأولى قطعه عن وتر وكونه من عند الحجر الأسود (فإن قيل): يشكل عليه ما سيذكره من كراهة قطع الفرض لصلاة الجنازة غير المعينة عليه مع كونها فرض كفاية، والجماعة كذلك فلم كره القطع للأولى دون الثانية؟ أجيب: كما في الحاشية بأن أمر الجماعة آكد ألا ترى أنهم جوّزوا قطع الصلاة المفروضة لها دون الجنازة. اهـ. (¬7) أي لم تتعين عليه.

بظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَفِي حَرَكَتِهِ ونَظَرِهِ (¬1) وهَيْئَتِهِ، فَإنَّ الطَّوَافَ صَلاَةٌ فَيَنْبَغِي أنْ يتأدَّبَ بآدَابِهَا وَيَسْتشعرَ بِقَلْبِهِ عَظَمَةَ مِنْ يطوفُ بَيْتَهُ، ويُكْرَهُ له الأكْلُ والشُّرْبُ (¬2) في الطَّوَافِ وكَرَاهَةُ الشُّرْبِ أخَف وَلَوْ فَعَلَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ طَوَافُهُ، ويُكْرَهُ أنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ كما يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصلاَةِ إلاَّ أنْ يَحْتاجَ إِلَيْهِ أو يتثاءب فَإن السُنَّةَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التثَاؤُبِ. وُيْسْتَحَب أَنْ لاَ يَتكَلَّمَ فِيهِ بِغَيْرِ الذكْرِ إِلاَّ كَلاَماً هُوَ مَحْبُوبٌ (¬3) كَأمْرٍ بمَعْرُوفٍ أوْ نَهْي عَنْ مُنكرٍ أوْ لِفَائِدَة علم لاَ يَطُولُ الكَلاَمُ فِيهِ وَيُكْرَهُ أنْ يُشبِّكَ أَصَابِعَهُ أو يُفَرْقعَ (¬4) بِهَا كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ ويُكْرَهُ أنْ يَطُوفَ وَهُوَ يُدَافع البوْلَ أوْ الغَائطَ أو الرِّيحَ أوْ وهُوَ شَديدُ التَّوقْانِ (¬5) إِلَى الأَكْلِ وَمَا في مَعْنى ذَلِكَ (¬6) كما تُكْرَهُ الصَّلاَةُ في هَذه الأَحْوالِ. ¬

_ (¬1) أي بأنْ يكون غاض الطَّرْفِ ناظراً إلى أرض المطاف دون السماء والكعبة. (¬2) أي إلا لعذر لأنه صَح أنه - صلى الله عليه وسلم - شرب ماءً لشدة عطشه أو لبيان الجواز كما يدل عليه خبر الدارقطني رحمه الله تعالى كما في الحاشية. (¬3) أي مشروع ليشمل الواجب كأمر بواجب أو نهى عن محرم وإنْ طال الكلام فيه، والمندوب كأمر بمندوب أو نهى عن مكروه والمحبوب كالسلام على صاحبه والسؤال عن حاله وأهله إذا لم يطل الكلام فيه. (¬4) لأنهما يدلان على الكسل. (¬5) أي الشوق. (¬6) منه شدة توقانه إلى الشرب ومنه أن لا يبصق في الطواف أو يتنخم لغير حاجة مع عدم إصابة المسجد بشيء من البصاق وإلا حرم، فإن تفل أو تنخم لحاجة فلا كراهة فيتفل في نحو ذيل ثوبه أو منديله متجهاً بوجهه للأرض لا للكعبة لحرمتها ولا ليمينه لكراهته ومنه سائر مكروهات الصلاة التي تتأتى هنا كوضع اليد على الخاصرة والمشي على رجل.

وَيَجبُ أَنْ يَصُونَ نَظَره عَمّا لا يحلُّ لَهُ النَّظَرُ إِليهِ مِنْ امْرَأة وأَمْرَد حَسَنِ الصُّورَةِ (¬1) فإنَّهُ يَحْرُمُ النظَرُ إِلى الأَمْرَدِ الْحَسنِ بكُلّ حَال (¬2) إِلاَّ لِحَاجَة، شَرْعية كَحَالِ الْمُعَامَلَةِ ونحوِهَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ إِلى المَرْأةِ للحَاجَةِ، فَلْيَحْذَرْ ذَلِكَ لاَ سِيّمَا فِي هَذه المَوَاطِنِ الشَّريفَةِ ويَصون نَظَرَهُ وقَلْبَهُ عَن احْتِقَارِ مَنْ يَرَاهُ من ضُعَفَاء المسْلِمينَ أوْ غَيْرِهِم كَمَنْ في بَدَنِهِ نَقْصٌ أو جَهِلَ شَيْئاً منَ الْمَنَاسِكِ أو غَلَطَ فِيهِ فَيَنْبَغِي أنْ يُعَلِّمَهُ ذَلِكَ بِرِفْق. وَقَدْ جَاءَتْ أشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ (¬3) فِي تَعْجِيلِ عُقُوبةِ كَثِيرينَ أسَاؤوا الأدب فِي الطَّوافِ ونَحْوِهِ وهَذَا الأَمْرُ مِمَّا يَتَأكَّدُ الاعْتِنَاءُ بِهِ فَإنَّهُ مِنْ أشَد القَبَائح فِي أشْرَفِ الأمَاكِنِ وبالله التَّوْفِيقُ وَالعَوْنُ والعِصْمَةُ. الثَّامِنَةُ: إذا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلى رَكْعَتَي الطَّوَافِ وَهُمَا سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ على الأصَحِّ وفي قَوْل هُمَا وَاجِبَتَان (¬4). ¬

_ (¬1) لخص المعلق رحمه الله تعالى ما في الحاشية بقوله: تقييد الحسن بالعرف فيما بظهر ويحتمل الرجوع إلى طبع الناظر وما يستحسنه ولهذا اختلفوا في الملاحة هل هي وصف قائم بالذات أو مختلفة باختلاف الطباع والأصح الثاني، وعلى الأصح فالراجح الاحتمال لا الاستظهار والله أعلم. (¬2) أي ديني أو دنيوي إذا كان النظر بشهوة أو خوف فتنة من غير محرم أو مملوك فإنْ انتفيا جاز كالنظر لنحو تعليم ونحوه. (¬3) منها كما في الحاشية: أنّ رجلاً كان في الطواف فبرق له ساعد امرأة فوضع ساعده عليه متلذذاً به فالتصق ساعداهما فأتى بعض الشيوخ فقال له: ارجع إلى المحل الذي فعلت به هذا وعاهد رب البيت أن لا تعود ففعل فَخُلي عنه، وقضية إساف لما فَجَرَ بنائلة أو قَبلها كما في رواية أخرى في البيت فمسخا حجرين والمرأة التي جاءت إلى البيت تعوذ بربه مِنْ ظالم فمد يده إليها فصار أشل، والرجل الذي سالت عينه على خده من نظره إلى شخص استحسنه وغير ذلك. اهـ. (¬4) محله في طواف الفرض، وإلا لم يجبا قطعاً.

والسُّنَّةُ أنْ يُصَليَهُمَا خَلْفَ المَقَام (¬1) فَإنْ لم يُصَلهِمَا خَلْفَ الْمَقَامِ لِزَحْمَةٍ أوْ غَيْرِها صَلاهُمَا فِي الحِجْرِ (¬2) فَإنْ لمْ يَفْعَلْ فَفِي الْمَسْجِدِ وَإِلاَّ فَفِي الْحَرَمِ (¬3) وَإِلاَّ فَخَارِجَ الْحَرَمِ وَلاَ يتعَيّن لَهُمَا مَكَان وَلاَ زَمَان بَلْ يَجُوزُ أنْ يُصَلّيَهُمَا بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلى وَطَنِهِ وَفِي غَيْرِهِ ولا يفُوتَانِ مَا دَامَ حَيَّاً وَسواء قُلْنَا هُمَا واجِبَتَان أو سُنَّتان فَلَيْسا رُكْناً في الطَّوَافِ ولا شَرْطاً لصحَّتِهِ بَلْ يَصحُّ بِدُونِهِمَا ولا يُجْبَرُ تأخِيرُهُما (¬4) ولاَ تَرْكُهُمَا بِدَم وَلاَ غَيْرِهِ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِي رحمهُ اللهُ تَعَالَى يُسْتَحَب إذا أَخَّرَهُما (¬5) أن يُريقَ دَماً. وتَمْتَازُ هَذِهِ الصَّلاَةُ عَنْ غَيْرهَا بِشَيْء (¬6) وهُوَ أنها تَدْخُلَهَا النيَابةُ، فَإنَّ ¬

_ (¬1) أي مقام أبينا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وللاتباع، والمراد بالمقام هنا الحجَر الذي كان يقوم عليه عند بنائه للكعبة، وقدماه مؤثرتان فيه، وهذه آية من الله تعالى فيجعل المصلي المقام بينه وبين البيت. (¬2) بكسر الحاء وسكون الجيم كما تقدم. قال في الحاشية: أي تحت الميزاب، كما في المجموع وغيره فهو أفضل أجزاء الحِجْر لقول ابن عباس رضي الله عنهما أنه مُصَلَّى الأخيار، ثم قال: والذي يظهر أن فعلهما داخل الكعبة أفضل من فعلهما تحته، لأنه قطعي وما تحت الميزاب ظني. اهـ. (¬3) أي ففي بقية مكة ثم في بقية الحرم. (¬4) لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاهما بذي طوى، وأخرَتْ أم سلمة رضي الله عنها الركعتين حين طافت راكبة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) قال في الحاشية: ويظهر ضبط التأخير بما تنقطع به نسبتهما عنه عرفاً. (¬6) ضَمَّ إليه توقيتها ابتداء بالفراغ من الطواف لا انتهاءً فإنه لا انتهاء لوقتهما وأفضلية فعلها خلف المقام عليه في الكعبة للاتباع، وتداخلها إذا فعلها بعد أسابيع إذا ليس لنا صلاة يتكرر سببها وتتداخل إلا هذه. فلو طاف طوافين أو أكثر بلا صلاة خلف كل أسبوع ثم صلى للكل ركعتين جاز بلا كراهة لكنه ترك الأفضل هذا الحكم على القول بسنيتهما كذا في الحاشية.

الأجِيرَ (¬1) يصليهما عَنِ الْمستَأجِرِ (¬2) هذَا هُوَ الأَصَحُّ، وَمِنْ أصحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّ صَلاَةَ الأجِيرِ تَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَرَادَ أنْ يَطُوفَ طَوافَيْنِ أوْ أكْثَرَ اسْتُحِبَّ لَهُ أنْ يُصَلِّيَ عَقِبَ كُل طَوَافٍ رَكْعَتَين فَلَوْ طَافَ طَوافَيْنِ أوْ أكثَر بِلاَ صَلاة ثُمَّ صَلَّى لكلِّ طَوَاف رَكْعَتَيْن جازَ (¬3) لَكِنْ تَرَكَ الأَفْضَلَ (¬4) وَيُسْتَحَب أنْ يقْرَأ فِي الرَّكْعَةِ الأُولى منْهُمَا بعد الْفَاتِحَة: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} وَفِي الثَّانِية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ويَجْهَر (¬5) بِالْقِرَاءَةِ إِنْ صَلاهُمَا لَيْلاً (¬6) ويُسرُّ إنْ كَانَ نَهَاراً. وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُمَا سُنَّة (¬7) فَصَلَّى فَريضَة بعدَ الطَّوافِ أجْزأهُ (¬8) عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ المسجد نَصَّ عليه الشافعي رضي الله عنه في القديم (¬9) وقالَه الصَّيْدَلاَنِي مِنْ ¬

_ (¬1) مثل الأجير ولي غير المميز والمجنون. (¬2) ولو معضوباً لأن هذه الصلاة تفعل عن المحجوج عنه تبعاً للطواف حياً كان أو ميتاً. (¬3) هو مذهب الحنابلة لفعل عائشة والمِسْوَر بن مخرمة، وكرهه ابن عمر والحسن والزهري ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى الجميع. (¬4) قال في الحاشية: يكفي أيضاً ركعتان عن جميع الأسابيع من غير كراهة كما في المجموع بناءً على أنها سنة، وإلا لم يكف وقد علمت أن هذا مما انفردت به سنة الطواف. اهـ. أقول: قد تقدم هذا قريباً في جملة ما تمتاز به هذه الصلاة. (¬5) أي يسمع غيره ولا يزيد عليه إنْ شوش على أحدٍ، وأما التوسط بين الجهر والإسرار وهو أول مراتب الجهر فمحله في النافلة المطلقة. (¬6) أي وما يتبعه من الفجر إلى طلوع الشمس. (¬7) هو المنقول المعتمد. (¬8) أي فعل الفريضة ومثلها كل نافلة فتجزىء عنها في إسقاط الطلب ما لم ينفهما وكذا في حصول الثواب إن نويتا نظير ما مَرّ في صلاة الاستخارة وسنة الإحرام. (¬9) هو مذهب الحنابلة وعن الإِمام أحمد يصليهما بعد المكتوبة وأوجبها الإِمامان مالك وأبو حنيفة كركعتي الفجر رحم الله الجميع.

أصْحابِنا (¬1) واسْتَبْعَدَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ (¬2): وَالاحْتياط أنْ يُصَلِّيَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ (¬3) وَالله تَعَالَى أعْلَمُ، وَيُستحبُّ أنْ يَدْعُوَ عَقِيبَ صَلاَتِهِ هذه خَلْفَ الْمَقَامِ بِمَا أحَب (¬4) مِن أُمُورِ الآخرة والدُنْيا. ¬

_ (¬1) قال في الحاشية: وقوله وقاله الصيدلاني من أصحابنا: أفاد في المجموع أنّ الصيدلاني لم ينفرد بذلك بل ذكره جماهير الأصحاب وعَدَّدَ منهم جماعة. اهـ. أقول: لعل صحة العبارة ما في الحاشية والله أعلم. (¬2) رَدَّه في المجموع كما في الحاشية بأنه شَاذٌ وبأن دعواه انفراد الصيدلاني به عجيب. (¬3) أي بعد فِعْل الفريضة خروجاً من خلاف مَنْ أوجبهما. (¬4) قال في الحاشية أي بعد دعائه بما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو: اللهم هذا بلدك الحرام والمسجد الحرام وبيتك الحرام وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، أتيتك بذنوب كثيرة وخطايا جمة وأعمال سيئة وهذا مقام العائذ بك من النار فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنك دعوت عبادك إلى بيتك الحرام وقد جئت طالباً رحمتك مبتغياً مرضاتك وأنت الغفور، وأنت مننت علي بذلك فاغفر لي وارحمني إنك على كل شيء قدير، وأخرج ابن الجوزي كالأزرقي خبر أن آدم لما أهبط طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وإنك تعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسالك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، وأرضني بما قضيته عليّ، فأوحى الله تعالى إليه: قد دعوتني دعاء أستجيب لك به ولن يدعوني أحد من ذريتك من بعدك إلاّ استجبت له وغفرت له ذنوبه وفرجت همومه واتجرت له من وراء كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها، وفي رواية: أنه دعا بذلك في الملتزم. وفي كتاب ابن أبي الدنيا إنه دعا بنحوه بين اليمانيين ولا منافاة لاحتمال أنه كرر الدعاء به في تلك الأماكن. اهـ. (فائدة): نقل الأزرقي عن جمع من السلف أن موضع المقام الآن هو موضعه في الجاهلية وفي عهده - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم ذهب به السيل في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر من المدينة فرده بمحضر من الناس، وقول مالك: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إنه كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ملصقاً بالبيت اعترضه المحب الطبري بأن سياق حديث جابر رضي الله عنه الصحيح الطويل، وما روى عنه يشهد للأول. قال: وقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الطواف في أماكن حول البيت كحاشية المطاف تجاه الحجر الأسود وحاشيته مما يلي باب العمرة وقريب من الركن الذي يلي الحجر من جهة باب الكعبة انتهى. واعترض بأن دليل الثاني والثالث ليس فيه التقييد بركعتي الطواف وعلى تسليمه فينبغي أن يكون فعل ركعتي الطواف بأحد هذه الثلاثة أولى من بقية المسجد بل ينبغي أن كل محل ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى فيه ولو نفلاً مطلقاً أن يكون أفضل من غيره ذلك كما ذكره المحب عند باب الكعبة لحديث: أمني جبريل عند بابها، وفي وجهها لحديث: فلما خرج أي النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ركع قِبل البيت، واعترضه التقي الفاسي بأن كلامه يوهم اختلافهما والذي يدل عليه كلام الأزرقي اتحادهما ثم حكى فيه خلافاً هل هو عندها في نصف الحفرة المرخمة في وجهها مما يلي الحجر بسكون الجيم أو خارج الحفرة مقدار ذراعين وثلثي ذراع بالحديد مما يلي الحفرة من جهة الحجر بسكون الجيم أيضاً ثم حكى عن ابن خليل المكي ما يؤيد الثاني وعن ابن عبد السلام، وارتضاه ابن عجيل اليمني وقال: إنه حققه بطريق الكشف أن صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس حين فرضت كانت بتلك الحفرة وهو يؤيد الأول لكن قال ابن جماعة: لم أر ذلك لغير ابن عبد السلام وفيه بعد انتهى. والذى يميل إليه كلام التقي الفاسي موافقة ابن عبد السلام وترجيح الأول ومن ذلك بين اليمانيين، فالصلاة في هذه الأماكن فرضها ونفلها إذا لم يعارضها موقف في صف أول ونحوه أفضل منها في غيرها سواء سنة الطواف وغيرها وبذلك مع ما قدمته يعلم ما في قول المصنف وغيره فإن لم تفعل ففي المسجد. اهـ حاشية. (فائدة أخرى): قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: الطواف أفضل أركان الحج حتى الوقوف لأنه مشبه بالصلاة ومشتمل عليها والصلاة أفضل من الحج والمشتمل على الأفضل أفضل ولا حجة في خبر: الحج عرفة على أفضلية الوقوف لأنا نقدر أمراً مجمعاً عليه وهو إدراك الحج وقوف عرفة انتهى. ولك أن تقول ورد في الوقوف من حقائق القرب ولطائف الإِحسان ما لم يرد في غيره وكونه مشبهاً بالصلاة لا يقتضي أفضليته على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الوقوف وكون المشتمل على الأفضل أفضل ممنوع، وتقدير ما ذكر في الخبر لا دليل عليه ثم رأيته في الجواهر مع كونه نقل ما ذكره الشيخ هنا عنه قال بعد ذلك بأوراق: الوقوف أعظم أركان الحج وهو ظاهر فيما ذكرته وإن أمكن تأويله بما يوافق الشيخ، رأيت الزركشي قال بعد كلام الشيخ: وفيه نظر، بل أفضلها الوقوف، لخبر: الحج عرفة، ولهذا لا يفوت الحج إلا بفواته، ولم يرد غفران الذنوب في شيء ما ورد فيه، فالصواب القطع بأنه أفضل الأركان انتهى. وقول شيخنا زكريا: الأوجه ما قاله ابن عبد السلام لتصريح الأصحاب بأن الطواف قربه في نفسه بخلاف الوقوف فيه نظر فإنه وإن كان كذلك لكنه اختص بخصوصيات لم يشركه فيها غيره قيل: ويمكن الجمع بين الكلامين انتهى. وكان وجهه أن الوقوف أعظم من حيث توقف حصول الحج عليه وفواته بفواته بخلاف الطواف والطواف أفضل من حيث أنه يشترط فيه من شروط الصلاة ما لا يشترط في الوقوف وهذا وإن كان له وجه لكن المقام يأباه. اهـ حاشية. مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالطواف مأخوذة من المجموع للإمام النووي ومن كتاب رحمة الأمة 1 - أجمعوا على أن الطواف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها جائز، وأما صلاة الطواف فمذهب الشافعية جوازها في جميع الأوقات بلا كراهة، وهو مذهب الحنابلة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاءَ من ليل أو نهار" رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم. وحجة مخالفيهم عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أوقات النهي. 2 - يستحب عند المسلمين استلام الحجر الأسود، ويستحب عند الشافعية مع ذلك تقبيله والسجود عليه بوضع الجبهة كما سبق بيانه فإنْ عجز عن تقبيله استلمه بيده ثم قبلها وبه قال الإِمام أحمد، وقال الإِمام مالك: يضع يده على فيه من غير تقبيل. قال في كتاب الرحمة: وقال الإمام أبو حنيفة: لا يستلمه. اهـ. قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: وبالأول أقول: لأن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فعلوه وتبعهم جملة الناس. ورويناه أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وأما السجود على الحجر الأسود" فقال به الشافعي وأحمد. قال ابن المنذر: وبه أقول قال: وقد روينا فيه عنه - صلى الله عليه وسلم - وقال مالك: هو بدعة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 3 - أما الركن اليماني فعند الشافعية يستحب استلامه ولا يقبل بل تقبل اليد بعد استلامه، وقال أبو حنيفة: لا يستلمه. وقال مالك وأحمد: يستلمه ولا يقبل اليد بعده بل يضعها على فيه، وعن مالك رواية أنه يقبل يده بعده. قال العبدري: وروى عن أحمد أنه يقبله. 4 - أما الركنان الشاميان وهما اللذان يليان الحِجْر فلا يقبلان ولا يستلمان عند الشافعية وبه قال جمهور العلماء وهو مذهب الأئمة الثلاثة رحم الله الجميع. 5 - الاضطباع والرمل مستحب عند الثلاثة وأنكره الإمام مالك كما تقدم. 6 - اشتراط الطهارة عن الحدثين والنجس وستر العورة عند الثلاثة شرط خلافاً لأبي حنيفة كما تقدم. 7 - استحباب قراءة القرآن في الطواف هو قول جمهور العلماء، منهم الشافعية وأحمد في الرواية الثانية عنه. 8 - الترتيب بأنْ يجعل البيت عن يساره ويطوف على يمينه تلقاء وجهه، فإنْ عكسه لم يصح، وبه قالت الشافعية ومالك وأحمد وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: يعيده إنْ كان بمكة، فإنْ رجع إلى وطنه ولم يعده لزمه دم وأجزأه طوافه. 9 - الطواف في الحجر لا يصح وبه قال جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة: إنْ كان بمكة أعاد، وإنْ رجع إلى وطنه بلا إعادة أراق دماً، وأجزأه طوافه. 10 - إذا حضرت جنازة والطائف في أثناء الطواف فعند الشافعية إتمام الطواف أولى، وبه قال مالك وابن المنذر وعطاء وعمرو بن دينار، وقال أبو حنيفة: يخرج لها. 11 - لو حمل محرم محرماً وطاف به ونوى كل واحد منهما الطواف عن نفسه فعند الشافعية ثلاثة أقوال: (أصحها) يقع الطواف للحامل (الثاني) للمحمول (الثالث) لهما وممن قال لهما أبو حنيفة وابن المنذر، وقال مالك للحامل وعن أحمد روايتان رواية للحامل ورواية لهما. 12 - مذهب الثلاثة يكفي للقارن لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد كما تقدم. وقال أبو حنيفة: يلزمه طوافان وسعيان وحكى هذا عن علي وابن مسعود، قال ابن المنذر: لا يصح هذا عن علي رضي الله عنه. 13 - إذا كان على الشخص طواف فرض فنوى بطوافه غيره انصرف إلى الفرض نَص =

الفصل الثالث في السعي وما يتعلق به

الفصل الثالث في السعي (¬1) وما يتعلق به إذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَي الطَّوافِ فَالسُنةُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمه (¬2) ثُم يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصفَا إِلَى الْمَسْعَى ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الْحَاوِي أنَّهُ إذا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ¬

_ = عليه الشافعي وقاسه الأصحاب على الإِحرام بالحج وعلى الوقوف وغيره، وقال أحمد: لا يقع عن فرضه إلا بتعيين النية قياساً على الصلاة. 14 - أجمع العلماء على أن ركعتي الطواف تصحان حيث صلاهما إلا مالكاً فإنه كره فعلهما في الحِجْر، وقال مالك: إذا صلاهما في الحجر أعاد الطواف والسعي إن كان بمكة فإنْ لم يصلهما حتى رجع إلى بلاده أراق دماً ولا إعادة عليه، قال ابن المنذر: لا حجة لمالك على هذا لأنه إن كانت صلاته في الحجر صحيحة فلا إعادة سواء كان بمكة أو غيرها وإن كانت باطلة فينبغي أن تجب إعادتها وإن رجع إلى بلاده، فأما وجوب الدم فلا أعلمه يجب في شيء من أبواب الصلاة. 15 - إذا صلى الطائف عقب طوافه فريضة أجزأته عن صلاة الطواف عند الشافعية على الأصح، وقال أحمد: أرجو أن يجزئه، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجزئه. 16 - عند الشافعية يصلي ولي غير المميز عنه صلاة الطواف، وعند مالك لا يصلي عنه. 17 - فيمن طاف أطوفةً ولم يصل لها، ثم صلى لكل طواف ركعتين مذهب الشافعية الجواز بلا كراهة، وبه قالت الحنابلة، وكره ذلك مالك وأبو حنيفة. (¬1) قال بركنية السعي الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" أخرجه الشافعي في مسنده وأحمد مختصراً ورواه غيرهما فلا يتم النسك إلا به، وبه قال الإِمام أحمد رحمه الله في رواية، وقال الإِمام أبو حنيفة رحمه الله: هو واجب وهي الرواية الصحيحة عن الإمام أحمد فيجبر بدم. (¬2) قال في الحاشية أي ويقبله ويسجد عليه ثلاثاً فيهن أخذاً من قولهم يختم بما بدأ به ومن إلحاق الشافعي رضي الله عنه لذلك بحالة الابتداء وبالتقبيل صرح القاضي أبو الطيب وصاحب الذخائر واعتمده الزركشي كالأذرعي لما أخرجه الحاكم وصححه أنه - صلى الله عليه وسلم - =

استُحِب أنْ يأتِيَ المُلْتَزِمَ ويَدْعُو فِيهِ ويَدْخُلَ الحِجْرَ فَيَدْعُو فيه تَحْتَ الميزَابِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الصحيح (¬1) وهو قول جماهير أصْحَابِنَا وَغَيْرهم أنْ لاَ يَشْتَغِلَ عَقِبَ الصلاَةِ إِلا بِالاسْتِلاَمِ ثُمَّ الخُروجِ إِلَى السَّعْيِ. وَذَكَرَ ابنُ جَرِير الطبَرَيُ أَنهُ يَطُوفُ ثَم يُصَلي ركْعَتَيْهِ ثُمَّ يَأتِي الملْتَزَمَ ثُمَّ يَعُودُ إلى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمهُ ثُم يخْرُجُ إلى السَّعْي. وذكَرَ الغَزَالي رحمه الله تعالى: أنْ يَأتي المُلْتَزَمَ إذا فَرَغَ مِنَ الطَّوافِ قَبْلَ ركْعَتَيْهِ ثمَّ يُصَلِّيهمَا والمُخْتَارُ ما سَبقَ (¬2) ثُمَّ إِذَا أرَادَ الْخُرُوجَ إلى المَسْعَى فَالسُّنَّةُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَيأتِيَ سَفْحَ جَبل الصَّفَا (¬3) ¬

_ = لما فرغ من طوافه قبله ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه وكأن صاحب البيان أخذ قوله هنا فيستلمه بيده ويمسح بها وجهه من هذا الحديث. قال الزركشي: وفي مسند أحمد بإسناد صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر إلى أن قال: ثم عاد إلى الحجر ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب منها على رأسه ثم رجع فاستلم الركن ثم رجع إلى الصفا قال: فينبغي فعل ذلك كله وهو وجيه من حيث الدليل لكن مقتضى كلام المصنف الآتي في رد كلام الغزالي وابن جرير خلاف ذلك ومع ذلك فينبغي أن يحمل قول الراوي ثم عاد إلى الحجر على أن ذلك كان آخر الطواف. وقوله: ثم عاد لزمزم على أنه كان بعد فراغه من ركعتي الطواف. واعلم أن ابن جماعة طعن في صحة هذا الحديث والذي قبله وعلى تسليم ما ذكره، فالدلالة فيهما باقية لأن غاية الأمر أنهما ضعيفان والضعيف يعمل به في مثل ذلك إجماعاً. اهـ. (¬1) أي حديث جابر الذي رواه مسلم وفيه: "ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا". (¬2) هو المعتمد لحديث جابر رضي الله عنه المتقدم. (¬3) الصفا: طرف سفح جبل أبي قبيس عليه أقيمت قبة عظيمة في عمارة الحكومة السعودية المسجد الحرام بعد توسعته عام 1372 هـ وشملت هذه العمارة والتوسعة المسجد الحرام والمسعى والصفا والمروة فاتصل المسجد الحرام بالمسعى وجعل على المسعى طابق كما جعل المسجد الحرام من ثلاثة طوابق فأصبح الناس يطوفون ويصلون =

فَيَصْعَدُ قَدْرَ قَامَة حَتَّى يَرَى الْبَيْتُ (¬1) وَهُوَ يَتَرَاءَى لَهُ مِنْ باب الْمَسجِدِ بَاب الصَّفَا لا مَنْ فَوْق جدَارِ الْمَسْجِدِ بِخِلاَفِ المَرْوَة فَإِذا صَعَدَ اسْتَقْبَلَ الْكَعبةَ وَهَلَّلَ وَكَبرَ فَيقُولُ (¬2): اللهُ أكبرُ الله أكْبَرُ الله أكْبرُ وَلِلهِ الْحَمْد، الله أكبَرُ عَلى مَا هَدَانَا والْحَمْدُ لِله عَلَى مَا أوْلاَنَا لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ (¬3) بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَاب (¬4) وَحْدَهُ، لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَلاَ نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدَينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. ¬

_ = ويسعون في راحة تامة نسأل الله تعالى أن يوفق الحكومة السعودية والحكومات الإِسلامية لمرضاته آمين. (¬1) أي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا فرغ مِنْ طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت). الحديث. (¬2) هو ما نَص عليه الشافعي رحمه الله أخذاً من أحاديث وآثار متفرقة، منها حديث مسلم: فوحَّد الله وكبر، وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، وَنَصَرَ عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هؤلاء ثلاث مرات) زاد أبو عوانة وابن المنذر والنسائي {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وإسنادهما صحيح، وكون التكبير ثلاثاً رواه ابن المنذر بإسناد صحيح أيضاً. (¬3) زاد الرافعي بعد {يُحْيِي وَيُمِيتُ}: "وهو حيٌّ لا يموت" واعترض هو "وبيده الخير" بأنهما لم يردا. اهـ حاشية. (¬4) الأحزاب: هم كفار قريش وغطفان واليهود ومَنْ تبعهم الذين تَحَزبوا واجتمعوا لقتاله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام فسميت الغزوة باسمهم فهزمهم الله تعالى بحوله وقوته وردهم خائبين.

ثُم يَدْعُو (¬1) بِمَا أحَبَّ مِنْ أمر الدينِ والدُّنْيَا وحَسُنَ (¬2) أنْ تقُولَ (¬3): اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وقوْلُكَ الحقُّ ادْعُوني أستَجِبْ لَكُمْ وإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ وَإِنِّي أسْألُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي للإْسْلاَمِ أنْ لاَ تَنْزِعَهُ مِنَي وأنْ تتوَفَّانِي مُسْلِماً (¬4) ثُمَّ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَا شَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ (¬5) وَلاَ يُلَبِّي (¬6) على الأَصَح ثمَّ يُعَيد جميعَ ما سَبقَ مِنَ الذّكْرِ والدُّعَاءِ ثَانِياً ثُمَّ يُعِيدُ الذِّكْرَ ثَالِثاً. وهل يعيد الدعاء؟ فيه خلاف، الأصح أنه يستحب إعادته. فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في صَحيحِ مُسْلِم مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا مُتَوجّهَا إِلَى الْمَرْوَةِ (¬7) فَيَمْشِي حَتَّى يبقى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الأَخْضَرِ ¬

_ (¬1) أي له، ولمن شاء والظاهر كما قال العلامة عبد الرؤوف تأخير الدعاء عن الذكر أيضاً ولا ينافيه ذكره له قبله. اهـ تقريرات. (¬2) أي عند الأصحاب رحمهم الله تعالى. (¬3) أي بعد الذكر في المرات الثلاث. (¬4) رواه مالك في الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنهما. وزاد ابن المنذر وغيره عنه أدعية أخرى. (¬5) مما استحبه الأصحاب: (اللهم اعصمنا -أي احفظنا- بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك وجنبنا حدودك -أي محارمك- اللهم اجعلنا نحبك ونحب ملائكتك، وأنبياءك ورسلك ونحب عبادك الصالحين، اللهم حببنا إليك وإلى ملائكتك وإلى أنبيائك ورسلك وإلى عبادك الصالحين، اللهم يَسر لنا اليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا في الآخرة والأولى واجعلنا من أئمة المتقين). (¬6) هو المعتمد ومقابله قول مرجوح عن الشافعي رحمه الله أنه يلبي. (¬7) المروة: واقعة على سفح جبل لَعْلَع الذي عليه محلة القرارة، وجبل لعلع هو أنف جبل قيقعان، وقد تقدم الكلام على هذا في التعليق على دخول مكة من الثنية العليا وهي كداء -بفتح الكاف والدال- المعروفة بالحجون، ويقال المروة: الصفا وما بينهما هو المسعى، ويقع في وادي إبراهيم على نبينا محمد وعليه أفضل الصلاة والسلام، وعرضه ما بين الميلين الأخضرين، وكان سابقاً يجري بينهما والآن جعل لمجرى السيل خندق =

الْمُعَلَّقِ (¬1) بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى يَسَارِهِ قَدْرَ سِتةِ أذْرُع ثُم يَسْعَى سَعْياً شَدِيداً (¬2) حَتَى يَتَوَسَّطَ بَيْنَ المِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ اللذين أحَدُهُمَا فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ والآخَرُ مُتصِلٌ بِدارِ (¬3) العباسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثُمَّ يَتْرُكُ شِدَّةَ السَّعْي وَيَمْشِي عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى يَصِلَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدَ (¬4) حَتى يَظْهَرَ لَهُ الْبَيْتُ إنْ ظَهَرَ (¬5) فَيَأْتي بالذِّكْرِ والدُّعَاءِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا فَهَذِهِ مَرَّةٌ مِنْ سَبْعَةٍ ثُمَ يَعُودُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا فَيَمْشِي فِي مَوْضِعِ مَشْيهِ في مَجِيئِهِ وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سعيه فَإِذَا وَصَلَ الصَّفَا صَعده وفَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوَّلاً وَهَذِهِ مَرَّةٌ ثَانِيةٌ مِنْ سَعْيهِ ثُم يَعُودُ إلى المروَة فيفعلُ كَمَا فَعَل أَولا ثمَّ يَعُودُ إِلَى الصَّفَا وَهَكَذَا حَتَّى يَكْمُلَ سَبع مَرَّاتٍ يبْدأ بالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَروةِ. ¬

_ = تحت المسعى يمر منه إلى أسفل مكة كل هذا فَعَلَتْه حكومتنا السعودية طلباً لراحة الحجاج والعقار والمواطنين وفقها الله لمرضاته آمين. (¬1) هذا على ما كان سابقاً قبل التوسعة وعمارة المسجد الحرام العمارة السعودية. (¬2) أي لفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك روى أحمد رحمه الله في مسنده عن حبيبة بنت أبي يجراه بكسر الياء المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء وهي إحدى نساء بني عبد الدار. قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة، وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه، الحديث. وهو كما في الفتح له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة إذا انضمت إلى الأولى قويت ولا ينافي ذلك ما صَح عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه - صلى الله عليه وسلم - سعى راكباً لما في مسلم من أنه - صلى الله عليه وسلم - سعى أولاً ماشياً فكثرت عليه الزحمة فركب. (¬3) قد أزيلت هذه الدار وأدخلت في توسعة الشارع واستبدلت بدار أخرى في محلة أجياد يسكنها الفقراء. (¬4) قال الشيخ عبد الله بن جاسر رحمه الله في كتاب مفيد الأنام: أما بعد العمارة الجديدة فالظاهر أنه لا يكون مستوعباً للسعي إلا إذا رقى على المحل المتسع وهو آخر درجة والله أعلم. (¬5) هذا شرط ليظهر لا ليصعد لأن الصعود لا بد منه سواء ظهر البيت له أم لم يظهر كذا في الحاشية.

فرع في واجبات السعي وشروطه وسننه وآدابه:

فَرْعٌ في وَاجِبَاتِ السَّعْي وَشُرُوطِهِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ: وأمَّا وَاجبَاتُهُ فَأَرْبَعَةٌ: أحَدُهَا: أنْ يقْطَعَ جَمِيعَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ (¬1). فَلَوْ بقِيَ مِنْهَا بَعْضُ خُطْوَةٍ لَمْ يَصِح سَعْيُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ رَاكِباً اشْتُرِطَ أنْ يُسَيرَ دَابتَهُ حَتَّى تَضَعَ حَافِرَهَا عَلَى الْجَبَلِ أوْ إلَيْهِ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنَ الْمَسَافَةِ شَيْءٌ وَيَجِبُ عَلَى الْمَاشِي أنْ يُلْصِقَ فِي الابْتِدَاءِ وَالانْتِهَاءِ رِجْلَهُ فِي الْجَبَلِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ فَيَلْزَمُهُ أنْ يُلْصِقَ الْعَقِبِ بِأصْلِ مَا يَذْهَبُ مِنْهُ وَيُلْصِقَ رَءُوسَ أصَابعِ رِجْلَيْهِ بِمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ فَيُلْصِقُ بِالابْتِدَاءِ بِالصَّفَا عَقِبهُ وَبِالْمَرْوَةِ أصَابعَ رِجْلَيْهِ وإذَا عَادَ عَكَسَ ذَلِكَ هَذَا إِذَا لَمْ يَصْعَدْ فَإنْ صَعَدَ فَهُوَ الأكْمَلُ وَقَدْ زَادَ خَيْراً، وَلَيْسَ الصعُودُ شَرْطاً بَلْ هُوَ سُنَّةٌ مؤكَّدةَ وَلَكِنْ بَعْضُ الدرَجِ مُسْتْحَدَثٌ (¬2) فَلَيْحذَر أنْ يُخَلّفَهَا وَرَاءَه فَلاَ يَتِمُّ سَعيهُ وَلْيَصْعَدْ إِلَى أنْ يَسْتَيْقِنَ. وقَالَ بَعْضُ أصحَابِنَا (¬3): يَجبُ الرُّقي عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِقَدْرِ قَامَةٍ وَهذا ضَعِيفٌ والصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنهُ لاَ يَجِبُ لَكِن الاحْتِيَاطُ أنْ يَصْعَدَ لِلْخُرُوجِ ¬

_ (¬1) أي لفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع قوله: "خذوا عني مناسككم". (¬2) هذا باعتبار ما كان أما الآن بعد توسعة المسجد الحرام وعمارته وعمارة المسعى العمارة التي بدأت في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله تعالى فلا وجود للدرج وأصبح الصعود ميسراً للماشي ولراكب عربات السعي فلله الحمد والمنة، فعليه ينبغي تيقن قطع المسافة بالابتداء من أول الصفا وبالانتهاء إلى آخر المروة كما تقدم. (¬3) هو أبو حفص عمر بن الوكيل رحمه الله تعالى.

مِنَ الْخِلاَفِ وليَتيقنَ فاحْفَظْ مَا ذكرناهُ في تَحْقِيقِ وَاجِبِ الْمَسَافَةِ فَإنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يَرْجِعُ بِغَيْرِ حَجّ وَلاَ عُمْرَةٍ لإخْلاَلِهِ بِوَاجِبِهِ وبالله التَّوفيقُ. الواجبُ الثاني: الترتيبُ: فَيَجِبُ أنْ يَبْدَأ بالصَّفَا (¬1) فَإنْ بَدَأَ بالْمَرْوَةِ لم يُحْسَبْ مُرورُهُ مِنْهَا إِلَى الصَّفَا فَإِذَا عَادَ مِنَ الصَّفَا كَانَ هَذَا أوَّل سَعْيِهِ وُيشْتَرَطُ أيْضاً فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيةِ أنْ يَكُونَ ابتداؤها مِنَ الْمَرْوَةِ كما سَبقَ فَلَوْ أَنهُ لمَا عَادَ مِنَ الْمَرْوَةِ عَدَلَ عَنْ مَوْضَع السَّعْي وجَعَلَ طَرِيقَهُ فِي الْمَسْجِدِ أوْ غَيْرِهِ وَابْتَدَأ الْمَرةَ الثَّانيةَ مِنَ الصَّفَا أيضاً لم يَصِح ولم تُحْسَبْ تِلْكَ الْمَرَّةُ عَلَى الْمَذْهبِ الصَّحِيحِ. الواجبُ الثالثُ: إكْمَالُ عَدَدِ سَبع مَراتِ: يُحْسَبُ الذِّهَابُ مِنَ الصَّفَا مَرة والْعَوْدُ مِنَ الْمَرْوَة مرَّة ثَانيةً، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذي قَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أصْحَابِنَا وَغَيْرِهِم وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ في الأَزْمَانِ المُتَقَدمَةِ والْمُتَأخرَةِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أصْحَابِنَا إِلَى أَنهُ يُحْسَبُ الذهابُ والْعَوْدُ مرَّة وَاحِدَة قَالَهُ مِنْ أصْحَابِنَا أبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ ابنُ بِنْتِ الشَّافِعِي وَأبُو حَفص بنِ الْوَكِيلِ وأبو بكْير الصيرَفي وهذا قَوْلٌ فَاسِدٌ (¬2) لا اعْتِدَادَ بِهِ وَلاَ نَظَرَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتهُ للتَّنْبِيهِ ¬

_ (¬1) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قال له أصحابه رضوان الله عليهم أنبدأ بالصفا أم بالمروة؟: "ابدءوا بما بدأ الله به". (¬2) أي لأنه على خلاف فِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - وفِعْل أصحابه ومَنْ بعدهم رضوان الله تعالى عليهم.

عَلَى ضعْفِهِ لئلاَّ يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ وقَفَ عَلَيْهِ (¬1) وَاللهُ تَعَالى أعْلَمُ. قَالَ أصْحَابُنَا: وَلَوْ سَعَى أوْ طَافَ وَشَك (¬2) فِي العَدَدِ أخَذَ بِالأَقَل وَلَوْ اعْتَقَدَ أنَهُ أَتمَّهَا (¬3) فَأخْبَرَهُ ثقَة بِتقَاءِ شَيْء لَمْ يَلْزَمُهُ الإِتْيَانُ بِهِ لَكِنْ يُسْتَحَب (¬4). الواجبُ الرابع: أنْ يكُونَ السعْيُ بَعْدَ طَوَاف (¬5) صحِيح (¬6): سَوَاءٌ كانَ بَعْدَ طَوَافِ القُدُومِ أوْ طَوَافِ الزيَارَةِ وَلاَ يُتَصَوّرُ وُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافِ الوَدَاع (¬7) لأَنَّ طَوَافَ الوَدَاعِ هُوَ الْمَأَتِيُّ بِهِ بَعْدَ فَرَاغ المَنَاسِكِ وَإِذَا بقِيَ السَّعْي لَمْ يَكُنْ الْمَأتَي بِهِ طَوَافَ وَدَاع وَإِذَا سَعَى بَعْدَ طوَافِ الْقُدُومِ أجزَأهُ وَوَقَعَ رُكناً. ¬

_ (¬1) يؤخذ منه كما في الحاشية أنه لا يسن الخروج من خلافه وهو كذلك لأن الخلاف لا يُرَاعى إلا إنْ قوي دليله أو مدركه. (¬2) أي في أثناء فعلهما لا بعد التمام فلا تأثير للشك كالصلاة والوضوء، وكذا الشك في شرط من شروطهما، فإن كان في أثنائهما ضَرَّ أو بعد فراغهما لم يَضُر. (¬3) أي الطوفات السبع. (¬4) أي إنْ أورثه الخبر تردداً كما في التحفة. (فإنْ قيل): استحب هنا العمل بخبر الثقة الواحد إنْ أوردت تردداً ومنع في الصلاة. أجيب: منع في الصلاة لئلا يقع في الزيادة بالنسبة لظنه وهي مبطلة لها، بخلاف الطواف والسعي والله أعلم. (¬5) عند الشافعية والمالكية والحنابلة لا بد من وقوع السعي بعد طواف ركن صحيح أو قدوم وعند الحنفية يجزىء السعي بعد كل طواف صحيح ولو نفلاً وهو قول الأذرعي ومن تبعه، وعند الطبري لو أحرم المكي بالحج ثم تنفل بالطواف جاز له السعي بعده. اهـ. والأفضل وقوع السعي بعد طواف القدوم لأنه الذي صَح من فِعْله - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) يفهم منه كما في الحاشية أنه لو سعى ثم تيقن ترك بعض الطواف لم يصح سعيه فيأتي ببقيته، ويعيد السعي وهو كذلك كما في المجموع. (¬7) أي الواجب شرعاً بعد فراغ النسك.

وَتكْرَهُ إِعَادَتُهُ (¬1) بَعْدَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ لأنَّ السَّعْيَ لَيْسَ مِنَ العِبَادَاتِ المُسْتَقِلةِ التي يُشْرَعُ تكْرِيرُهَا والإكْثَارُ مِنْهَا فَهُوَ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الرُّكْنِ بِخَلاَفِ الطَّوَافِ فإنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي غَيْرِ الحَج والْعُمْرَةِ وَثَبَتَ في الصَّحيحِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَطُفْ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أَصْحَابُهُ رضيَ الله عَنْهُمُ بين الصَّفا والْمَرْوَةِ إِلا طَوافاً وَاحِداً طَوَافَهُ الأَولَ يَعْنِي السَّعْيَ. وَيُسْتَحَبُّ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ مَرَّاتِ السَّعْيِ وَبَيْنَ الطَّوَاف والسَّعْي فَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ لم يضر بشرط ألا يتخلل بينهما ركن (¬2). فلو طاف للقدوم ثم وقف بعرفة لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ بَعْدَ الوُقُوفِ مُضَافاً إلى طَوَافِ الْقُدُومِ بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ وَإِذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ رُكْنٌ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ تَأخِيرِ السَّعْي عَنِ الطَّوَافِ وَتأخيرِ بَعْضِ مَرَّاتِ السَّعْي عَنْ بَعْضٍ وَكَذَا بَعْض مَرَّاتِ الطَّوَافِ عَنْ بَعْضٍ حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلى وَطَنِهِ وَمَضَى عَلَيْهِ سنُونُ كثيرةٌ جَازَ أن يَبْنِيَ عَلَى ما مَضَى مِنْ سَعْيِهِ وَطَوَافِهِ لَكِنِ الأَفْضَلُ الاسْتِئْنَافُ. ¬

_ (¬1) قال في الحاشية: هو المعتمد وشمل إطلاقه القارن فلا يسن له تكراره خروجاً من خلاف الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى القائل على القارن طوافان وسعيان لأنه خلاف ما صح من السنة في القارن أي وشرط ندب الخروج من الخلاف أن لا يعارض سنة صحيحة وهي هنا قول جابر رضي الله تعالى عنه لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً. اهـ مختصراً. (تنبيه): قد تجب إعادة السعي كما لو بلغ الصبي أو أعتق العبد بعرفة وكان سعى بعد طواف القدوم كما سيأتي آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. (¬2) مراده رحمه الله تعالى بالركن الوقوف بعرفة كما في منهاجه وأن يسعى بعد طواف ركن أو قدوم بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة، فلو طاف ثم حلق أو عاد إلى منى ورمى صح سعيه بعد ذلك والله أعلم.

وأما سُنَنُ السَّعْي فَجَمِيعُ مَا سَبق فِي كَيْفِيةِ السَّعْي سِوَى الوَاجِبَاتِ الأَرْبَعَةِ وَهِيَ سُنَنٌ كثيرة: أحَدهما: الذّكْرُ والدُّعَاءُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ويُسْتَحَب أنْ يقُولَ بَيْنَ الصَّفا والْمَروَةِ فِي سعيهِ ومَشْيِهِ: رَبّ اغْفِرُ وارحم وتجاوَزْ عَمَّا تعلمْ إنّكَ أنتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ (¬1)، اللَّهم آتِنَا فِي الدُّنْيا حسنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ. ولو قَرَأ القرآن كانَ أفضلَ (¬2). الثانية: يُسْتَحَبُّ أنْ يَسْعَى عَلَى طَهَارَةٍ سَاتراً عورَتَهُ فَلَوْ سَعَى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ أوْ مُحْدِثاً أو جُنُباً أوْ حَائِضاً أوْ عَلَيْهِ نجاسَةٌ صَحَّ سَعْيُهُ (¬3). الثالثة: يُسْتَحَب أنْ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي مَوْضِعِ السَّعْي الَّذِي سَبَقَ بيانُهُ سَعْياً شَدِيداً (¬4) فَوْقَ الرَّمَلِ وَهُوَ مُسْتَحَب فِي كُل مَرَّة مِنَ السَّبع وَلَوْ مَشَى فِي جَمِيعِ الْمَسَافَةِ أوْ سَعَى فِيهَا صَحَّ وَفَاتَتْهُ الفضيلَةُ. وأمَّا الْمَرأةُ (¬5) فَالأَصَح أَنهَا لاَ تَسْعَى أصْلاً بل تمشي على هِينَتها بِكُلّ حَالٍ وَقِيل إنْ كَانَ بِاللَّيْلِ فِي حَالِ خلُوّ الْمَسْعَى فَهِيَ كَالرَّجُلِ تَسْعَى فِي مَوْضِعِ السَّعْي. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما وأخرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما رحمهم الله تعالى بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سعى بين الميلين قال: "اللهم اغفر وارحم فأنت الأعز الأكرم". (¬2) أي من غير الذكر الوارد نظير ما مر في الطواف. (¬3) هو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها وقد حاضت: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أنْ لا تطوفي بالبيت" رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. (¬4) يقصد به السنة لا اللعب والسبق وإلا لم يحصل له ثواب، ومَر أنّ صرفه مبطل كالطواف ولا يسن العدو لزحمة أو مشقة نظير رفع الصوت بالتلبية. (¬5) أي والخنثى.

الرابعةُ: الأَفْضلُ أنْ يَتَحَرَّى زَمَنَ الخلوةِ لسَعْيه وَطَوَافِهِ (¬1) وَإِذا كَثُرَتْ الرحْمَةُ فَيَنْبَغِي أنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ إيذاءِ النَّاسِ وَتَرْكُ هَيْئَةِ السَّعْي أَهْوَنُ مِنْ إيذاءِ الْمُسْلِمِ أوْ مِنْ تَعَرُّضِ نَفْسِهِ إلَى الأَذَى وإذَا عَجَزَ عَنِ السَّعْي الشَّدِيدِ فِي مَوْضِعِهِ للزحْمَةِ تَشَبَّه فِي حَرَكَتِهِ بالسَّاعِي كَمَا قُلْنَا في الرَّمَلِ. الخامسةُ: الأَفْضَلُ أنْ لاَ يَرْكَبَ فِي سَعْيِهِ إلا لِعُذر (¬2) كَمَا سَبَقَ فِي الطَّوافِ. السادسةُ: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ مَرَّاتِ السَّعِي (¬3) مُسْتَحَبة فلو فَرَّقَ بِلا عُذْرِ تَفْرِيقاً كَثِيراً لَمْ يَضُرَّ عَلَى الصَّحِيحِ (¬4) كَمَا سَبَقَ لَكِنّ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَلَوْ أُقِيْمَتْ الجمَاعَةُ وَهُوَ يَسْعَى أوْ عَرَضَ لَهُ مَانع قَطَعَ السَّعْيَ فإذا فَرَغَ بَنَى عَلَى مَا مَضَى (¬5). ¬

_ (¬1) قال في الحاشية أي غير القدوم لما مر من تأكد المبادرة إليه قبل حط أحماله وللخلاف في فواته التأخير والذي يظهر أنه لو خشي من المبادرة به حصول تأذ له أو لغيره لشدة الزحمة كان تأخيره أفضل كغيره. اهـ. (¬2) فلو سعى راكباً بلا عذر لم يكره ما لم تكن هناك زحمة بل قد يحرم الركوب إن تحقق الإيذاء أو ظنه كما مَرّ في الطواف راكباً. (¬3) أي وبين أجزاء كل مرة بل يكره الوقوف فيه لنحو حديث بلا عذر. (¬4) هو الأصح من مذهب أحمد كما في المغني لابن قدامة رحم الله الجميع آمين. لأن ابن عمر رضي الله عنهما سعى بين الصفا والمروة فتوضأ وجاء فبنى على ما مضى ذكره في القرى لقاصد أم القرى، وذكر فيه أيضاً أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير رضي الله عنهما سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها في ثلاثة أيام، وكانت ضخمة أخرجه سعيد بن منصور، ولمن منع ذلك أن يقول هذا التفريق للذعر، ولا دليل على إطلاق الجواز. اهـ. (¬5) ذكر في المجموع: لو أقيمت الصلاة المكتوبة وهو في أثناء السعي قطعه وصلاها ثم بنى عليه هذا مذهبنا، ومذهب أبي حنيفة. وقال مالك: لا يقطعه للصلاة إلا =

السابعةُ: قَالَ الشَّيخُ أبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى: رَأيْتُ النَّاسَ إذَا فَرَغُوا مِنَ السَّعْي صَلوا رَكْعَتَيْن عَلَى المَرْوَة وَذَلِكَ حَسَنٌ وزيَادَةُ طَاعَة لكن لم يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال الشَّيخُ أبُو عَمْرو بنُ الصَّلاحِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: يَنبغي أنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ لأَنَّهُ ابْتداعُ شعَارٍ (¬1) وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمهُ الله تَعَالَى ليس في السَّعْي صَلاَةٌ. ¬

_ = أن يضيق الوقت. اهـ أقول: مذهب أحمد مذهب الشافعي وأبي حنيفة كما في المغني لابن قدامة رحم الله الجميع. (¬1) قال في المجموع: وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر والله أعلم. اهـ. قال في الحاشية: وقول بعض الحنفية إنهما سنة لما رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما فرغ من سعيه جاء حتى إذا حاذى الركن فصلى ركعتين في حاشية المطاف وليس بينه وبين المطاف أحَد) مردود منشؤهُ أنه تصحف عليه سُبْعه بسعيه. لأن المحب الطبري رواه عمن ذكر من ابن حبان وغيره بلفظ حين فرغ من سُبْعِه بالموحدة أي طوافه وعلى تسليمه فلا دليل على أنّ الركعتين من سنن السعي لجواز كونهما راتبة أو تحية للمسجد فهي واقعة عين احتملت فلا دليل فيها. اهـ. مذاهب العلماء في مسائل من السعي مأخوذة من المجموع للنووي والمغني لابن قدامة رحمهم الله تعالى (الأولى): السعي عند الشافعية ركن في الحج والعمرة لا يتم واحد منهما إلا به ولا يجبر بدم ولو بقي منه خطوة لم يتم النسك وبه قال مالك وإسحق وأبو ثور وداود وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة: السعي واجب من ترَك منه أربعة أشواط لزمه دم، وإنْ ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع، وعن أحمد رواية أخرى أنه واجب يجبر بدم وهي الصحيحة عنه. (الثانية): لو سعى شخص قبل الطواف لم يصح سعيه عند الشافعية. وبه قال جمهور العلماء وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وحكى ابن المنذر عن عطاء وداود =

الفصل الرابع في الوقوف بعرفات وما يتعلق به قبله وبعده

الفصل الرابع في الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدهُ إذَا فَرَغَ مِنَ السعي بَيْنَ الصَّفَا والمروةِ فإن كَانَ مُعْتَمِراً مُتَمتعاً أوْ غَيْرَ مُتَمتع حَلَقَ رَأْسَه (¬1) أوْ قَصَّرَ وَصَارَ حَلاَلاً، وَسَيَأتي بَيَانُ حَال الْمُعتَمِر مبسُوطاً في بَابِ العمرةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. ثم المُعْتَمِر إن كانَ مُتمَتعاً أقامَ بِمكةَ حَلاَلاً يَفعلُ مَا أرَادَ مِنَ الْجِمَاعِ وَغيره مَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَاماً بِالإِحْرَامِ، فَإِذَا أَرَادَ أنْ يَعْتَمِرَ تَطَوُّعاً (¬2) كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيُسْتَحَب الإِكثَارُ مِنَ الاعْتِمَارِ كَمَا سَيأْتي في بَابِ المُقَامِ بِمَكَّةَ إن شَاءَ الله تَعَالَى، فإِذَا كَانَ عِندَ خُروجِهِ إِلَى عَرَفَات يَوْمَ التَّرْوِيةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثامِنُ مِن ذِي ¬

_ = وبعض أهل الحديث أنه يصح وعن أحمد رواية ثانية يجزئه إنْ كان ناسياً كما في مغني ابن قدامة. (الثالثة): الترتيب في السعي شرط فيبدأ بالصفا فلو عكسه لم يعتد به، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء، والمشهور عن أبي حنيفة يعتد به. (الرابعة): إذا أقيمت الصلاة المكتوبة والشخص في السعي قطعه وصلاّها ثم بنى عليه، هذا مذهب الشافعية، وبه قال جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك: لا يقطعه إلا أنْ يضيق وقتها، وقد تقدمت هذه المسألة. (الخامسة): لو سعى شخص راكباً جاز وليس بمكروه لكنه خلاف الأولى وليس عليه دم عند الشافعية، وعند أحمد مكروه، وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة أعاده ولا دم وإن رجع إلى وطنه بلا إعادة لزمه دم. (¬1) أي إن كان رأس المتمتع يسود قبل مجيء وقت حلقه في الحج. وأما عمرة غير المتمتع فَيُسَن له حَلْق رأسه مطلقاً. (¬2) ليس بقيد بل ولو واجباً كنذر وقضاء لعمرة أفسدها.

الحِجَّةِ أحرَمَ مِنَ مَكَّةَ بِالْحجِّ (¬1) وَكَذَا مَنْ أراد الْحَج مِنْ أَهْلِ مَكّةَ (¬2) الْكَائنينَ فِيهَا ذَلِكَ الوَقْت سَوَاءٌ المقيمُونَ والغُربَاءُ وَقَدْ سَبَقَ بيان إِحْرَامِهِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَرَغَ مِنَ السَّعْي حَاجَّاً مُفْرداً أوْ قَارِناً فَإنْ وَقَعَ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ فَقَدْ فَرَغَ مِنْ أرْكَانِ الْحجِّ كُلِّهَا وَبقِيَ عَلَيْهِ المبيتُ بمنى وَرَمْيُ أيَّامِ التَّشرِيقِ وإنْ وَقَعَ بَعْدَ طَوَافِ القُدُوم فَلْيَمْكُثْ بِمَكَّةَ إِلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ مِنَ مَكَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجةِ فَإذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَبْلَهُ وهُوَ الْيَوْمُ السَّابعُ خَطَبَ فيه الإِمامُ بَعْدَ صَلاَةِ الطهْرِ خُطْبةً (¬3) فَرْدةً عِنْدَ الْكَعْبةِ وَهِيَ أولُ خُطَبِ الْحَجّ الأَرْبَعِ. وَاعْلَمْ أَنهُ يُسْتَحَبُّ للإمَامِ الَّذِي هُوَ الخَلِيفَةُ إذَا لم يَحْضُرْ بِنَفْسِهِ الْحَج أنْ يَنْصِبَ أمِيراً عَلَى الْحَجِيجِ وَيُطيعُونَهُ فيما ينوبُهُمْ وَسَيَأتِي إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى فِي آخرِ الْكِتَابِ بَيَانُ صِفَاتِ هَذَا الأمير وَأحْكَامِهِ وَيَنْبَغِي للإمَامِ أوْ مَنْصُوبِهِ أنْ يَخْطُبَ خُطَبَ الْحَج وَهُنَّ أرْبَعُ (¬4) خُطَب: إِحْدَاهُنَّ يومَ السَّابع بِمَكَّةَ وَقَدْ ¬

_ (¬1) محله كما تقدم إذا كان المتمتع واجداً للهدي، أمّا مَنْ فقده فتقدم أيضاً أنه يحرم ليلة الخامس ويصومه وتالييه ويفطر الثامن لأنه يوم السفر والتاسع لأنه يوم عرفة يسن فطره للحاج للاتباع. (¬2) هو قول الأئمة في الاستحباب إلا الإمام مالكاً فإنه يستحب الإِهلال لهم من أول ذي الحجة لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل مكة: (ما لكم يقدم الناس عليكم شعثاً؟ إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج) ودليل الأئمة قول جابر رضي الله عنه: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج). (¬3) الدليل عليها كما في المهذب والمجموع حديث البيهقي الذي رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم قال المصنف في المجموع: وإسناده جيد. (¬4) هذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبه قال داود رحمه الله، وقال مالك وأبو =

ذَكَرْنَاهَا والثانِيةُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالثالِثَةُ يَومَ النَّحْرِ بمنى (¬1) وَالرَّابِعَةُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَوَّلِ بمنى (¬2) أيْضاً يُخْبِرُهُمْ فِي كُلّ خُطْبةٍ بما بَيْنَ أيْدِيهِم مِنَ الْمَنَاسِكِ وَأحْكَامِهَا إِلى الْخُطْبَةِ الأُخْرَى وكُلُّهُنَّ أَفْرَادٌ بَعْدَ صَلاَةِ الظهْرِ إِلا التِي بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُمَا خُطْبَتَانِ وَقَبْلَ صَلاَةِ الظُّهْرِ كَمَا سَيَأتِي (¬3) إِنْ شاء اللهُ تَعَالى. ويَأْمُرُ الإِمامُ الناسَ في الخُطْبةِ التي في اليوم السابعِ بِمَكَّةَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا للْغُدُو أو الرَّوَاحِ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِنى. وَيَأْمُرُ المُتَمَتعين (¬4) أنْ يَطُوفُوا (¬5) قبلَ الخروجِ إِلَى مِنى وَإنْ كانَ يومُ السابعِ يوم جُمعَةٍ خطب الإِمام للجمعة وصَلاَّهَا ¬

_ = حنيفة رحمهما الله: خطب الحج ثلاث يوم السابع والتاسع ويوم النفر الثاني، قالا: ولا خطبة في يوم النحر. وقال الإِمام أحمد رحمه الله: ليس في السابع خطبة. (¬1) صَحت فيها أحاديث كثيرة منها كما في المجموع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يخطب يوم النحر، قام إليه رجل فقال: كنت أحسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا) الحديث رواه البخاري ومسلم. (¬2) فيها أحاديث منها كما في المجموع حديث سُرَّاءَ بنت نبهان الصحابية رضي الله عنها -وهي بضم السين المهملة وتشديد الراء- وبالإمالة قالت: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الرءوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس أوسط أيام التشريق؟) رواه أبو داود بإسناد حسن ولم يضعفه. (¬3) أي في هذا الباب بعد قوله رحمه الله: فإذا زالت الشمس ذهب الإمام والناس إلى المسجد المسمى مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ويخطب الإِمام قبل صلاة الظهر خطبتين، إلى آخره. قال: سأذكر هناك إن شاء الله دليل الخطبتين وكونهما قبل صلاة الظهر. (¬4) أي والمقيمين بمكة إذا أحرموا بالحج منها كما في المجموع. (¬5) أي بعد إحرامهم ومنع مالك وأحمد هذا الطواف، وأما المفردون والقارنون فلا يطوفون هذا الطواف لبقاء نسكهم فتوجههم لإتمامه، وأما المتمتعون والمقيمون سابقوا الذكر فإن توجههم لابتداء نسك فندب لهم أن يودعوا لمشابهتهم لمن قضى نسكه وأراد التوجه إلى بلده فإن لم يفعلوا لم يجب عليهم دم لأنه لا يجب في ترك مندوب والمشابهة المذكورة لا تقتضي وجوب ذلك لضعفها.

ثُم خَطَبَ هذِهِ الخُطْبَةَ لأَنَّ السُنَّةَ فيهَا التأَخيرُ (¬1) عَنِ الصلاةِ ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي اليَوْمِ الثامِنِ إِلَى مِنى وَيَكونُ خروجُهُم بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ بِمَكَّة (¬2) بِحَيثُ يُصَلونَ الظُّهْر (¬3) بِمِنى وَهذا هُوَ الْمَذْهبُ الصَّحِيحُ المشهُورُ مِنْ نُصِوصِ الشَّافِعِي وَالأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ الله تَعَالَى، وَفِيْ قَوْل يُصَلونَ الظهْرَ بِمَكةَ ثمَّ يَخْرُجُونَ (¬4). فَإِنْ كَانَ اليومُ الثَّامِنُ يومَ الجمعةِ خَرَجُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لأَنَّ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمَعَةِ (¬5) إِلَى حَيْثُ لاَ يُصَلِّي الْجُمعَةَ حَرَامٌ أو مكْرُوه (¬6) وَهُمْ لاَ يُصَلُونَ ¬

_ (¬1) أي ولأنها لا تشارك خطبة الجمعة إذْ القصد بها التعليم لا الوعظ والتخويف بخلاف خطبة الكسوف فيما لو اجتمع كسوف وجمعة وتعرض الإمام في خطبة الجمعة لخطبة الكسوف فإنه يكتفي بخطبة الجمعة عنها، لأن القصد فيهما الوعظ والتخويف والله أعلم. (¬2) والأكمل أن يكون الخروج إلى منى يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) ضحى للاتباع ولا ينافيه قول المصنف بعد الصبح. قال في كشاف القناع للعلامة منصور البهوتي الحنبلي رحمه الله: ثم يخرج إلى منى قبل الزوال. اهـ. وقال المصنف رحمه الله في مجموعه: قال أبو حنيفة: وكل هذا قريب إلا أنهم يصلون الظهر بمنى. اهـ. وقال العلامة ابن رشد في بدايته: واتفقوا على أن الإمام يصلي بالناس بمنى يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء. اهـ. (¬3) أي في أول وقتها. (¬4) قال في الحاشية: وما وقع في أصل الروضة في الإحرام من أنهم يخرجون بعد صلاة الظهر ضعيف كما أفاده المصنف بقوله هنا وفي قول إلخ. اهـ. (¬5) أي بعد الفجر وقبل الزوال كما في المجموع، وفي كشاف القناع للعلامة البهوتي الحنبلي: ولو صادف يوم جمعة وهو مقيم بمكة ممن تجب عليه وزالت الشمس وهو بمكة فلا يخرج قبل صلاتها -أي الجمعة- لوجوبها بالزوال، وقبل الزوال إنْ شاء خرج إلى منى، وإن شاء أقام بمكة حتى يصليها أي الجمعة. اهـ. (¬6) قال في الحاشية: المذهب أنه حرام ومحله كما هو ظاهر وصرح به ابن النقيب في مقيم بمكة إقامة مؤثرة في منع الترخيص، أما غيره فله السفر بعد الفجر وقول المتولي =

الْجُمُعَةَ بِمِنى وَلاَ بِعَرَفَاتٍ لأنَّ شَرْطَهَا دارُ الإِقَامَةِ قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى: فَإِنْ بُنِيَ بِهَا قَرْيةٌ (¬1) واسْتَوَطَنَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ أقَامُوا الْجُمُعَة هُمْ وَالنَّاسُ مَعَهُمْ (¬2). ¬

_ = صلاة الجمعة بمكة أولى ضعيف وإن نقل الروياني عن النص ما يوافقه من جواز الخروج لمنى ولو بعد الزوال. اهـ. (¬1) أقول: قد أصبحت منى بلدة وسكانها يزيدون أضعاف أضعاف العدد المشروط في الجمعة بكثير، والآن تقام بمسجد الخيف جمعة، بل وجميع الصلوات، وللمسجد المذكور إمام رسمي ومؤذن كذلك من جهة حكومتنا السنية وفقها الله وجميع حكومات المسلمين لمرضاته آمين. (¬2) قال في الحاشية: والذي يظهر أنه لو أقيمت جمعة في منى أيام التشريق أو العيد لزم نحو المكي الحضور ويؤيده قولهم: إن المسافر إذا لم يحل له القصر تلزمه الجمعة وينبغي تقييده بما إذا لم يرد النفر إلى مكة للطواف وإن كان وقته موسعاً. اهـ. حكم البناء بمنى قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله في حاشيته على الإِيضاح: قال الزركشي: إن منى لا يجوز إحياؤها، وإنْ جاز البناء فيها للارتفاق فتصير مساكنهم مشتركة. اهـ. وقوله: "وإنْ جاز" سبقه إليه الإِسنوي حيث قال: البناء بعرفة ومزدلفة ومنى ممتنع، وعللوه بالتضييق فإنْ بنيت لانتفاع الواقفين بها عامة فيحتمل الجواز لعدم الاختصاص ويكون ذلك مستثنى ويؤيده اتفاقهم على مسجد الخيف ويحتمل المنع للتضييق بموضع الجدار. اهـ. والبلقيني حيث قال: ويخرج من كلام حكاه الحاكم والبيهقي عن الشافعي رضي الله عنه ما يدل على جواز البناء بمنى حيث قال: بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إذا حجوا ينزلون فيه. اهـ. قال أبو زرعة: والظاهر أن الشافعي لم يحتجز ما بناه عن الناس بل جعله مسبلاً لهم ففيه زيادة إرفاق للحجيج في نزولهم في مكان يأويهم من الحر والبرد والمطر والممتنع إنما هو البناء الذي يقصد به بانيه تملكه ومنع الناس منه. اهـ. ووافقه على ذلك العلائي حيث حمل بناء الشافعي رضي الله عنه على إنه إنما كان لأجل الارتفاق به من جهة الظل، وصيانة الأمتعة ونحو ذلك لا للتحجر وأخذ الأجرة على النزول =

(فرع): اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى يوم التروية فإنهم يتروون مَعَهُمُ الْمَاءَ مِنْ مَكَّة (¬1) وَالْيَومُ التَّاسِعُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْعَاشِرُ يَوْمُ النَّحْرِ والْحَادِي عَشَرَ الْقَرُّ بفَتْح القَافِ وتَشْدِيد الرَّاءِ لأَنَّهُمْ يقرُّونَ فِيهِ بِمِنى والثاني عَشَرَ يَوْمَ النَّفْرِ الأَوَّلُ (¬2) والثالثَ عَشَرَ يَوْمُ النَّفرِ الثانِي (¬3). ¬

_ = فيه. اهـ. لكنه قال: وما فعله الشافعي رضي الله عنه إن صَحّ عنه فقد صح الحديث عن النهي عن البناء فيها بخلافه وقد قال: إذا صَح الحديث فهو مذهبي. اهـ. ويؤيده إطلاق الشيخين كالأصحاب حرمة البناء بمنى مطلقاً، والحديث الذي أشار إليه هو ما صححه الحاكم أنه - صلى الله عليه وسلم -: (قيل له: ألا نبني لك بمنى بيتاً يظلك؟ فقال: لا، منى مناخ مَنْ سبق) فظاهره حرمة البناء فيها كعرفة ومزدلفة وكذا المحصب على الأوجه لندب المبيت فيه كما يأتي سواء كان ذلك البناء يضيق أم لا قصد به التملك أو الارتفاق ولعل ما ذكر عن الشافعي رضي الله عنه مبني على الضعيف: (إن هذه البقاع يجوز إحياؤها) بل هذا هو الظاهر من قوله: يكون لأصحابنا إذا حجوا ينزلون فيه فإن قضيته تخصيصه بهم فاعتماد هؤلاء المتأخرين جواز البناء للارتفاق فيه نظر لما علمت، وأما إفتاء الأصفوني بأن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها وأخذ أجرتها فمردود نقلاً وتوجيهاً، ويمكن حمل كلامه على أن جواز ما ذكره إنما هو من حيث الأبنية القائمة وَإنْ عصى بها لا الأرض لأنها لا تملك بالإحياء. اهـ. (¬1) قال في الحاشية: أي لأنه لم يكن بعرفة ولا منى ماء، وظاهر كلامه كغيره عدم تقييد التروي بماء مخصوص لكن قيده ابن خليل بماء زمزم ثم ما ذكره التعليل هو المشهور وقيل: لأن جبريل أرى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام مناسكه فيه وعليه فقياسه أنْ يسمى يوم الأراء لا التروية. وقيل: لأنه تروى فيه من الروية في ذبح ولده وقيل: لأن آدم رأى فيه حواء عندما أهبط إلى الأرض ويسمى أيضاً يوم النقلة لانتقالهم فيه إلى منى، وظاهر كلامه أن يوم السابع لا اسم له، وهو ما صرح به في المجموع لكن ذكر غيره أنه يسمى يوم الزينة لتزيينهم المحامل فيه إلى عرفة. اهـ. أقول: والآن ولله الحمد الماء ميسور بعرفة ومزدَلفة ومنى. (¬2) أي ويوم الرءوس كلهم فيه رءوس الهدي. (¬3) أي ويوم الخلاء لخلو منى منهم.

ثُمَّ إِذا خَرَجُوا يَوْمَ الترْوِيةِ إِلى مِنَى فالسُّنَّةُ أنْ يُصَلُّوا بِهَا الظهْرَ والْعَصْرَ والْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ وَيَبِيتُوا بِهَا وَيُصَلونَ بِهَا الصُّبْحَ (¬1) وَكُل ذَلِكَ مَسْنُون لَيْسَ بِنُسُك وَاجِب (¬2) فَلَوْ لَمْ يَبِيتُوا بِهَا أصْلاً وَلَمْ يَدْخُلُوهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ (¬3) لَكِنْ فَاتَتْهُمْ السُنَّة (¬4) فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى ثَبِير وَهُوَ جَبَل (¬5) مَعْرُوف ¬

_ (¬1) قال الزعفراني: ويقصد مسجد الخيف فيصلى فيه ركعتين ويصلي بها مكتوبات يومه وصبح غده عند الأحجار التي بين يدي المنارة فإنه مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله أهل العلم. اهـ. والضمير في قاله يحتمل رجوعه إلى كل ما ذكره ويحتمل عوده للأخير فقط وعلى كل فكلامه يحتج به في أن السنة صلاة المكتوبات في هذا المبيت بمسجد الخيف. اهـ حاشية. (¬2) أي لتخلف السيدة عائشة رضي الله عنها ليلة التروية حتى ذهب ثلث الليل، وصلى ابن الزبير رضي الله عنهما الظهر يوم التروية بمكة كما في المجموع نقلاً عن ابن المنذر رحمه الله تعالى. (¬3) هو مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحم الله تعالى الجميع، ومذهبم أن الحاج ينزل من منى حيث شاء كما في المجموع عن ابن المنذر رحمه الله تعالى ورحمنا والأمة رحمة عامة آمين. (¬4) قال العلامة ابن حجر المكي في حاشيته: الظاهر أنهم إذا صلوا بها ما ذكر ولم يبيتوا أو باتوا بها ولم يصلوا ذلك بها حصلت لهم سنة الصلاة أو المبيت، وإنْ فاتتهم السنة الأخرى. اهـ. (¬5) قال في الحاشية: قال -أي المصنف- في تهذيبه: على يمين الذاهب من منى إلى عرفات بالمزدلفة، وخالفه المحب الطبري فقال: إنه على يسار الذاهب إلى عرفة مشرف على منى من جمرة العقبة إلى تلقاء مسجد الخيف وأمامه قليلاً وكلام الأزرقي يوافقه، قيل: وأهل مكة أدرى بشعابها، ومِنْ ثَمَّ اعتمده جمع متأخرون لكن اعتمد آخرون الأول. وقول المصنف: أنه بالمزدلفة أي يمتد من منى إليها فيوجد بهما فاندفع الاعتراض عليه بالإجماع على خلافه وبأن بمزدلفة جبلاً يسمى بذلك لكن ليس هو المراد قبل، فيستفاد منه أن بكل منهما جبلاً اسمه ذلك فلا يبعد اتصالهما في الجهة المذكورة. اهـ. =

هُنَاكَ سَارُوا مِنْ مِنى مُتَوَجهِينَ إِلَى عَرَفَاتٍ واسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أنْ يقُولَ في مَسِيرِهِ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَلَوجهِكَ الْكَرِيمِ أردْتُ فاجْعَلْ ذنْبِي مَغْفُوراً وَحَجي مَبْرُوراً، ارحَمْنِي وَلاَ تخيبني إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّلْبِيَةِ. قَالَ أقْضَى القُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ (¬1): يُسْتَحَب أَنْ يَسِيرُوا عَلَى طَرِيقِ ¬

_ = الدعاء عند التوجه إلى منى (اللهم إياك أرجو ولك أدعو، فبلغني صالح عملي واغفر لي ذنبي، وامنن عليَّ بما مننت به على أهل طاعتك إنك على كل شيء قدير) ويكثر في طريقه من التلبية والذكر والدعاء والتلاوة. الدعاء عند الوصول إلى منى (الحمد لله الذي بلغني سالماً معافى، اللهم هذه منى أتيتها وأنا عبدك وفي قبضتك، أسألك أن تمن علي بما مننت به على أوليائك وأهل طاعتك، اللهم إني أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين). الدعاء عند التوجه إلى عرفات (اللهم اجعلها خير غدوة غدوتها وأقربها من رضوانك وأبعدها من سخطك، اللهم إليك غدوت وإياك اعتمدت ووجهك أردت، فاجعلني ممن تباهي به اليوم من هو خير مني، وأفضل اللهم إِليك توجهت ووجهك الكريم أردت فاجعل ذنبي مغفوراً وحجي مبروراً وسعيي مشكوراً ولا تخيبني إنك على كل شيء قدير، لبيك اللهم لبيك إلى آخر التلبية اللهم صلي على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأمته وسلم) .. (¬1) هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الإمام المعروف بالماوردي رحمه الله المتوفى سنة خمس وأربعمائة هجرية عن ست وثمانين سنة، صاحب الحاوي والإِقناع في الفقه وأدب الدين والدنيا والتفسير ودلائل النبوة والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وغير ذلك، وهو أول من لقب بأقضى القضاة، فاعترض عليه بعض أهل عصره بأن هذا اللفظ شبه أحكم الحاكمين فيدخل فيه الباري تعالى. وكذا قاضي القضاة لأنه تعالى وصف نفسه بالقضاء في غير آية نحو {يَقْضِي بِالْحَقِّ} ويدخل فيه كل قاض =

ضَب (¬1) وَيَعُودُوا عَلَى طَرِيقِ المأْزمَيْنِ (¬2) اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَليَكُنْ عَائِداً فِي طَريق غَيْر التي صَدَرَ مِنْهَا كَالْعِيدِ. وذكر الأزرَقي نَحْوَ هَذَا، قَالَ الأَزْرَقِي: وَطَرِيقُ ضَب مُخْتَصَر مِن المُزْدَلِفَةِ إِلَى عَرَفَةَ وَهو فِي أصْلِ المأزمَيْن عَنْ يَمِينَكَ وَأنْتَ ذَاهِب إِلَى عَرَفَاتِ (¬3) وَاللهُ تَعَالَى أعْلَمُ. فَإِذَا وَصَلُوا نَمِرة (¬4) ضُرِبَتْ فِيهَا قُبةُ الإِمامِ وَمَنْ كَانَ لَهُ قُبَّة ضَرَبَهَا اقتداءَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولاَ يَدْخُلُ عَرَفَاتِ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوالِ وَبَعْدَ صَلاَةِ الظهْرِ وَالْعَصْرِ مَجمُوعَتَيْنِ كما سَنَذْكُرُه إنْ شَاءَ الله تَعَالَى. ¬

_ = تقدم من الأنبياء وغيرهم فلم يلتفت لإنكاره بل استمر على التلقيب به. وأجاب هو والمحققون من أهل زمانه بأن هذا اللفظ إذا أطلق إنما ينصرف عرفاً إلى أهل عالمه وزمانه فقط. وأما أول من لقب بقاضي القضاة فهو أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى. (¬1) ضب: اسم الجبل الذي بأصل مسجد الخيف، وهذه الطريق إذا سلكها الصاعد إلى عرفات يكون مسجد مزدلفة والمأزمان أي الأخشبان وعلما الحرم على يساره. والآن في وقت الحج تسلكها السيارات في صعودها إلى عرفات. (¬2) يُعْرَفان الآن بالأخشبين وهما الجبلان الواقعان فيما بين عرفة ومزدلفة، وهذه الطريق إذا سلكها الصاعد إلى عرفات صار مسجد مزدلفة على يمينه. ثم يسير بين المأزمين، ثم يأتي على عَلَمَيْ الحرم وعلى عَلَمَيْ وادي عرنة بالنون. (¬3) نقل الأزرقي رحمه الله تعالى عن بعض المكيين كما في الحاشية أنه - صلى الله عليه وسلم -: (سلك هذه الطريق حين غدا من منى إلى عرفة). (¬4) نمرة: بفتح النون وكسر الميم. ويجوز إسكانها مع فتح النون وكسرها. قال العلامة ابن القيم رحمه الله كما في مفيد الأنام: نمرة قرية غربي عرفات وهي خراب اليوم. وقال الأزرقي رحمه الله: ونمرة هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمَيْ عرفة تريد الموقف. اهـ. أقول: يجمع بين القولين بأن القرية سميت =

وَأَمَّا مَا يفْعَلُهُ النَّاسُ فِي هذه الأَزْمَانِ مِنْ دُخُولهِمْ أرْضَ عَرَفَات في الْيَوْمِ الثامِنِ فَخَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُنَّةِ وتَفُوتُهُمْ بِسَبَبِهِ سُنَنٌ كَثِيرَة مِنْهَا الصَّلاةُ بِمِنى والْمَبيتُ بِهَا والتَّوجهُ مِنْهَا إِلَى نَمِرَةَ والنُّزُولُ بِهَا والْخُطْبةُ والصَّلاةُ قَبْلَ دُخُولِ عَرَفَات وغيرُ ذَلِكَ فالسُّنَّةُ أنْ يَمْكُثُوا بِنَمِرَةَ حتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ويغْتَسِلُوا (¬1) بِهَا للوقوفِ فإذَا زالت الشَّمْسُ ذهَبَ الإِمامُ والنَّاسُ إلى المسجِدِ المسمى مسجد إبْراهِيمَ (¬2) عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ وَيَخْطُبُ الإِمَامُ قبلَ صلاةِ الظُّهْرِ خُطْبَتَيْن (¬3) يبين لَهُمْ في الأولَى الوقوفَ وشرطَهُ ومتى الدَّفْعُ من عَرَفَةَ إلى المُزْدَلِفة وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ أيْدِيهِمْ ويُحَرّضُهُمْ عَلَى إكْثَارِ الدُّعَاءِ والتهليلِ بالْموقِفِ ويُخَفّفُ هذه الْخُطْبةَ لَكِنْ لاَ يَبْلُغُ تَخْفِيفُهَا تَخْفِيفَ الثَّانِيةِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا جَلَسَ قَدْرَ ¬

_ = باسم جبلها والله أعلم، وأنصاب الحرم الآن مُقَامة على وجه الأرض وليس شيء منها مُقَاماً على الجبل المذكور. (¬1) أي ندباً قبل الزوال لما أخرجه مالك عن ابن عمر رضي الله عنهم: (أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أنْ يُحْرم، ولدخول مكة، ولوقوفه عشية عرفة) وكذا روى الغسل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود رضي الله عنه كما في القرى للطبري رحمه الله تعالى. (¬2) بنى هذا المسجد في أول دولة بني العباس رضي الله عنه وكانت له مئذنة واحدة والآن جدد، وبنيت له ست مآذن كما هو مشاهد في عام 1398 هجرية في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود وفقهم الله لمرضاته آمين. (¬3) أي عند الشافعية خلافاً للأئمة الثلاثة فعندهم خطبة واحدة. قال المصنف رحمه الله في المجموع. (فرع): مذهبنا أن في خطبة عرفات يخطب الأولى قبل الأذان ثم يشرع الإمام في الخطبة الثانية مع شروع المؤذن في الأذان. وقال أبو حنيفة: يؤذن قبل الخطبة كالجمعة. واحتج أصحابنا بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم عرفة وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم .. إلى آخر خطبته" قال: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم =

قَرَاءَةِ سُورَةِ الإِخْلاَصِ ثُمّ يقوم إلى الخُطْبَةِ الثانية ويأخُذُ المؤَذنُ في الأذانِ (¬1) وَيُخَففُ الْخُطْبةَ بحيثُ يفرُغُ منها مع فراغ المؤذنِ مِنَ الأذانِ وقيل معَ فراغِهِ من الإِقَامَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلَي بالنَّاسِ الظهْرَ ثُم الْعَصْر جَامعاً بينهما وقد تَقَدَّم بيانُ الجمعِ وأحْكَامُهُ في أوّلِ الكتابِ، ويكُونُ جمعُهُ بأذَانٍ (¬2) وإقامتيْن ويُسِرُّ بِالقِرَاءَة (¬3)، ثُمَ قيل إِنَّهُ يَسْتَوِي في هذَا الْجَمْعِ المقيمُ والمُسَافِرُ وأنَّهُ يَجْمَعُ بسببِ النُّسُكِ (¬4) والأَصَحُّ أَنهُ بِسَبَبِ ¬

_ = أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف رواه مسلم بهذه الحروف. اهـ. وعند ابن رشد في بدايته رحمه الله روايتان عن الإِمام مالك في وقت الأذان يوم عرفة رواية كأبي حنيفة قبل الخطبة، وهي محكية عن ابن نافع عن مالك والثانية قال مالك: يخطب الإِمام حتى يمضي صدرٌ من خطبته أو بعضها ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب. اهـ. وفي المغني لابن قدامة رحمه الله: وقيل يؤذن في آخر خطبة الإِمام، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على أنه أذن بعد فراغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من خطبته وكيفما فعل حَسَن. اهـ يظهر من هذا أن الكيفيات التي صَحَّت عن الأئمة رحمهم الله رواية عنه الحنابلة والله أعلم. (¬1) فإنْ قيل: الأذان يمنع سماع الخطبة أو أكثرها فيفوت مقصودها. أجيب كما في مغني المحتاج للعلامة محمد الشربيني الخطيب رحمه الله تعالى: بأن المقصود بالخطبة من التعليم إنما هو في الأولى. وأما في الثانية فهي ذكر ودعاء، وشرعت مع الأذان قصد المبادرة بالصلاة والله أعلم. (¬2) عند الإِمام مالك رحمه الله بأذانين وإقامتين لكل صلاة أذان وإقامة. (¬3) قال في المجموع: نقل ابن المنذر رحمه الله تعالى الإجماع عليه. ونقل أصحابنا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى الجهر كالجمعة. دليلنا أَنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - الجهر. اهـ. (¬4) هو مذهب المالكية والحنابلة قال في المجموع: به قطع الصيمري والماوردي في الحاوي من الشافعية. قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة: وهذا الجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بالمزدلفة بعد الدفع من عرفة متفق عليه بين العلماء =

السَّفَرِ (¬1) فَيَخْتَص بالمسَافِر سَفَراً طويلاً وهو مرحَلَتانِ (¬2) وَلاَ يقْصرُ إِلاَّ مَنْ كانَ مُسَافراً سفراً طَويلاً بِلاَ خِلاَفِ (¬3). ¬

_ = مع إمام الحاج لمن جاء من مسافات القصر، ولو ترك رجل الجمع وصلى كل صلاة في وقتها المعهود جاز عند أكثر الفقهاء، واتباع السنة أفضل. (¬1) هو مذهب الشافعي وأبو حنيفة لا يجيز الجمع إلا لمن صلى مع إمام الحج لأنه لا يقول بالجمع إلا جمع مزدلفة فقط فلا يجمع المنفرد عنده ويجمع عند الأئمة الثلاثة. (¬2) أي عند الأئمة الثلاثة وثلاثة أيام عند أبي حنيفة. (¬3) أي عند الشافعية كما في المجموع، وقول الشافعية هو قول أبي حنيفة وأحمد والجمهور كما في المجموع، فعند هؤلاء الأئمة والجمهور لا يجوز القصر لأهل مكة ولا لمن جاء من أقل من مسافة القصر. وقال مالك والأوزاعي وسفيان بن عُيَيْنة والقاسم بن محمد وسالم يقصرون. فعند الإمام مالك يجمع ويقصر الحجاج مطلقاً سواء كان سفرهم طويلاً أو قصيراً، وكذا أهل مكة ومَنْ في معناهم لروايته في موطئه بإسناده الصحيح عن عمر رضي الله عنه أن لَما قَدِمَ مكةَ صلى بهم ركعتين ثم انصرف. فقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سَفْرٌ، ثم صلى ركعتين بمنى ولم يبلغني أنه قال لهم شيئاً، وعند الإمام أحمد يجوز الجمع لكل مَنْ بعرفة من مكي وغيره، ولا يقصر أهل مكة ومَنْ في معناهم، وعند الإمام الشافعي: لا يجوز الجمع ولا القصر لأهل مكة ومَنْ في معناهم لقوله: الجمع والقصر للسفر الطويل، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الظهر والعصر وقصر وجمع بأهل مكة، ومَنْ في معناهم، فوجب عليهم الإتمام قياساً على قوله - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة بمكة في غزوة الفتح: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" وعند أبي حنيفة كالشافعي غير أنه يوجب الجمع في مزدلفة لجميع الحجاج مكيين وغيرهم، ولا يقول بالقصر إلا للمسافر سفراً طويلاً، ويجيز الجمع بعرفة لمن صلّى مع الإمام كما تقدم، فلو صلى الحاج المغرب قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة عند أبي حنيفة، وأجاز أن يصلي الحاج الظهر والعصر كل صلاة في وقتها مع الكراهة ولم يوجب الإِعادة والله أعلم.

وإذا كان الإِمَامُ مُسَافِراً (¬1) قَصَرَ وإذا سَلَّمَ قَالَ: يا أهل مَكَّةَ وَمَنْ سَفَرهُ قَصيرٌ أتمُّوا فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَيُصَلي السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ كَمَا يُصَليها غيرُه مِمَّنْ يَجْمَعُ بين الصَّلاَتَين كما سَبَقَ بيانُهُ في أوَّلِ الكِتَابِ فَيُصلي أولاً سُنَّة الظهرِ التي قَبْلَهَا ثُم يُصَلي الظهْرَ ثُم العَصْرَ ثُمّ سُنَّةَ الظهْرِ التي بعدها ثم سنة العَصرِ ولا يَتَنَفلونَ بعدَ الصَّلاَتَيْنِ بِغَيْرِ السُّنَّةِ الرَّاتبةِ بل يبادُرونَ إلى تَعْجيلِ الوُقُوفِ، نصَ عليه الشَّافعي رَحِمهُ الله تعالى وهُوَ ظاهرٌ، ولو انفردَ بَعْضُهم بالجمع بعرَفَةَ أو المزدلفَةِ أو صلَّى إحْدى الصَّلاَتَيْنِ مع الإِمامِ والأُخْرَى وَحْدَهُ أو صَلى كُل واحِدَة في وَقْتِهَا جاز (¬2) لكن السُّنَّة ما سَبَقَ. ولو وافَقَ يَومُ عَرَفَةَ يومَ جمعة لم يصل الجمعة لأنّ مِنْ شروطِ الجمعةِ أنْ تكُونَ في دار الإِقامةِ وأنْ يصليهَا جَماعةٌ يسْتوطنُون ذلكَ الموضِعَ (¬3) فَإذا فَرغُوا مِنَ الصَّلاَةِ سَارُوا إلَى المَوْقِف وعرفَاتٌ كُلُّها موقفٌ فَفِي أي موضع وقف منهَا أجْزأهُ لكن أفضلُها موقفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ عِنْدَ الصَّخراتِ الكِبَارِ الْمفترشَةِ في أسْفَلِ جبلِ الرحمةِ وهُوَ الجبلُ الَّذي بوسطِ عرفاتٍ ويقال له ¬

_ (¬1) أي سفر قصر، وإلا فينبغي له أن يستنيب لئلا يشق على المسافرين بتفويتهم السنة في حقهم من القصر والجمع. (¬2) قد تقدم الكلام على هذا واختلاف العلماء فيه قريباً. (¬3) هذا مذهب الشافعي رحمه الله. قال العلامة ابن رشد المالكي رحمه الله في بدايته: اختلف العلماء في وجوب الجمعة بعرفة ومنى، فقال مالك رحمه الله: لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمنى أيام الحج لا لأهل مكة ولا لغيرهم إلا أن يكون الإمام من أهل عرفة، وقال الشافعي مثل ذلك إلا أنه اشترط في وجوب الجمعة أن يكون هناك من أهل عرفة أربعون رجلاً على مذهبه في اشتراط هذا العدد في الجمعة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان أمير الحج ممن لا يقصر الصلاة بمنى ولا بعرفة صلى بهم فيها الجمعة إذا صادفها. وقال أحمد رحمه الله: إذا كان والي مكة يجمع بهم وبه قال أبو ثور. اهـ.

إِلآل (¬1) وزنُ هِلاَل وذكرهُ الجوهريُّ في صِحَاحِهِ بفتح الهمزةِ والمعروف كَسْرُهَا. وأمَّا حدُّ عرفاتٍ فقالَ الشَّافعيُّ رحمهُ الله تعالَى: هُوَ ما جاوزَ واديَ عُرَنَةَ بضَمّ العينِ وفَتْحِ الرَّاءِ وبعدهَا نُونٌ إلى الجِبَالِ مِمّا يلي بساتِين بني عامرٍ (¬2). وَنَقَل الأَزْرقيُّ عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: حَدُّ عَرَفَاتٍ مِنَ ¬

_ (¬1) بعض العامة يسميه القرين بضم القاف مصغراً. (¬2) كانت هذه البساتين عند عرنة بالنون وبقربها مسجد إبراهيم المسمى مسجد عرنة بالنون تارة لأنه بني بها وبالفاء أخرى للمجاورة وكان بها نخل وعين تنسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز ابن خال عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي افتتح فارس وخراسان. قال المحب الطبري رحمه الله، وهي الآن خراب. قال الفاسي رحمه الله: وحَد عرفة من هذه الجهة الآن بينٌ، وهو علمان بعد العلمين اللذين هما حد الحرم إلى جهة عرفة، وكان ثم ثلاثة أعلام فسقط واحد وبقي أثره مكتوباً عليه: إن الآمر بإنشائها بين منتهى أرض عرفة ووادي عرنة مظفر الدين صاحب إربل سنة خمس وستمائة. اهـ. أقول ذكر الشيخ عبد الله بن جاسر في مفيد الأنام أنه اكتشف بساتين عبد الله بن عامر وإليك قوله رحمه الله تعالى: (وقد اكتشفتها في خامس عشر صفر سنة ألف وثلثمائة وثمان وثمانين هجرية فوجدت الساقي الذي يجري معه ماء العين مستطيلاً، ومشيت معه جنوباً شرقاً حتى أتيت على موضع بركة العين فوجدتها مبنية هي وساقيها بالحجارة والنورة القوية الصلبة وقد عجزت عن فصل النورة وهذا أول اكتشاف لبساتين ابن عامر وعينها، وجدت موضعها على طبق ما حدده الشافعي). أقول: فأخذ الشيخ بعد ذلك يذكر حدود عرفة إلى أنْ قال: (وبمشاهدة عَلَمَيْ عرفة القديمين يتضح أنّ جميع المسجد يعني مسجد نمرة ليس من عرفة، ويقال: إن صدر هذا المسجد كانت بنايته في المحل الذي خطب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخطبة البليغة وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة صلاة الظهر والعصر جمع تقديم وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة النبوية والعلمان القديمان المذكوران يقعان شرقاً شمالاً عن المسجد المذكور =

الجبلِ (¬1) الْمُشْرِفِ على بَطْنِ عُرَنَةَ (¬2) إلى جبالِ عَرَفَة إِلى وَصيقٍ (¬3) إلى مُلْتَقَى وصيق وَوَادِي عَرَفَةَ قَالَ بعضُ أصْحَابِنَا لَعَرَفَات أرْبَعَةُ حُدُود: أحدها: يَنْتَهِي إلى جَادَّةِ طَرِيقِ الْمَشرِقِ. والثاني: إلَى حَافَاتِ الْجَبَلِ الذي وَرَاءَ أرْضِ عَرَفَاتٍ. والثالث: إلى الْبَسَاتينِ التي تَلِي قَرْيةَ عرفاتٍ وهذه الْقَرْيةُ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبِل الكعبَةِ إذَا وَقَفَ بِأرْضِ عرفاتِ. والرابع: يَنْتَهِي إلى وادي عُرَنَةَ. قَالَ إمامُ الْحَرَمَيْنِ: ويطيف بمُنفَرجَاتِ عَرَفاتٍ جِبَالٌ وجوهها المقبلة من عرفات. واعلمْ أنهُ ليسَ مِنْ عرفَاتٍ وادي عُرَنَةَ (¬4) ولا نمرةُ ولا المسجدُ الذي ¬

_ = وهما فاصلان بين عرفة ووادي عرنة من جهة الغرب عن عرفة، فما كان شرقاً عن العلمين المذكورين فهو من عرفة بالفاء وما كان غرباً عنهما فهو من عرنة -بالنون- وقد وجدت مكتوباً على العلم الجنوبي منهما في حجر ملزق بالعلم ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أمر بعمارة علمي عرفات المفروض القيام بها على كافة الأنام في حجة الإسلام سيدنا ومولانا الإمام الأعظم مفترض الطاعة على كافة الأمم أبو جعفر المنصور عبد الله أمير المؤمنين أمتع الله بطول بقائه" وله بقية لم نتمكن من قراءتها لصعوبة معرفتها. وتاريخ اكتشافي لما هو مكتوب في العلم المذكور في جمادى الأولى سنة سبعين وثلثمائة وألف فليعتمد ذلك. اهـ. (¬1) أسماه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجاسر رحمه الله في مفيد الأنام (بسعد) فقال هي يعني عرفة - من الشرق الجبل المشرف المسمى "سعداً" إلى آخر كلامه. (¬2) عرنة: بالنون إلى جبال (عرفة) بالفاء. (¬3) وَصِيق بواو مفتوحة فصاد مهملة مكسورة فتحتية مثناة فقاف. (¬4) قال في المجموع: لو وقف ببطن عرنة -بالنون- لم يصح وقوفه عندنا، وبه قال جماهير العلماء وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن مالك أنه يصح ويلزمه دم، وقال =

يُصلِّي فيه الإِمامُ المُسمَّى مسجد إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ويقالُ لَهُْ أيضاً مَسجدُ عُرَنَةَ (¬1) بلْ هذه المواضعُ خارجُ عَرَفات على طَرَفِهَا الغربِي مما يلِي مُزدلفةَ ومنى ومكَّةَ وهَنَا الَّذِي ذَكَرناهُ مِنْ كَونِ المسجدِ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ هُوَ نَصُّ الشافِعِي رحمه الله تَعَالى. وقال الشَّيخُ أبُو محمَّدٍ الجوينيُّ: مُقَدَّمُ هذَا المسجدِ في طَرَفِ وادِي عُرَنة لاَ في عرفاتِ قَالَ: وآخره في عَرَفَاتٍ، قالَ: فمنْ وَقَفَ في مُقدَّمِ الْمَسْجِدِ لم يصحَّ وقُوفُهُ وَمَنْ وقفَ في آخره صحَّ وقُوفُهُ قالَ: وَيَتَمَيَّزُ ذلك بصَخراتٍ كِبَارٍ فُرِشَتْ في ذلِكَ الموضع هذَا قولُ الشيْخِ أبي محمدٍ الجويني وتَابعَهُ عليه جمَاعةٌ (و) بِهِ جَزَمَ الإِمامُ أبُو القَاسِم الرافعي مَعَ شدَّة تَحقيقِهِ واطِّلاَعِهِ فلعَلَّه زِيدَ فِيهِ بعد الشَافِعِيّ رحمةُ الله تَعَالَى (¬2) مِنْ أرْضِ عَرَفَاتٍ هذَا القَدرُ المذْكُورُ فِي آخرِهِ وَبَيْنَ هذَا المسْجِدِ وَالْجَبَلِ الذي بِوَسَطِ عَرَفَات المُسَمَّى بجَبَلِ الرَّحْمَةِ قَدْرُ مِيلٍ وجميعُ تِلْكَ الأَرضِ يصحُّ الوُقُوفُ فِيهَا وَكَذَا غَيْرُهَا مما هُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِّ المذْكُور والله تَعَالَى أعْلَمُ. ¬

_ = العبدري هذا الذي حكاه أصحابنا عن مالك لم أره له بل مذهبه في هذه المسألة كمذهب الفقهاء أنه لا يجزئه. قال وقد نص أصحابه أنه لا يجوز أنْ يقف بعرنة. اهـ. (¬1) مسجد عرنة -بالنون- تارة لأنه مقام بها وبالفاء أخرى لمجاورته لعرفة كما تقدم. (¬2) هذا هو الذي جمع به العلامة ابن الصلاح بين مقالة الشافعي ومقالة الشيخ أبي محمد الجويني رحمهم الله جميعاً. كما في المجموع أقول الأحوط - وهو الذي ينبغي الوقوف بعرفة بعد آخر المسجد لا سيما بعد اختيار الفاسي رحمه الله ذرعه فوجد مطابقاً لذرع الأزرقي المعاصر للشافعي رحمهما الله. وليس هناك إلا تفاوت يسير في الذرع لا اعتبار به كما أفاده في الحاشية لأنه لا يقتضي أنه زيد فيه لتفاوت ما قيس به، أو لغير ذلك والله أعلم.

واعلَمْ أنَّ عَرَفَاتٍ لَيْسَتْ مِنَ الحرَمِ ومُنْتَهَى الْحَرَمِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ عِنْدَ الْعَلَمَيْنِ (¬1) المْنصُوبينِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْمأْزَمَيْنِ (¬2) وَهُمَا ظاهران وَسَيَأتي في بابِ المقَامِ بمكةَ وفَضْلِهَا وبيانِ حُدُودِ الحرمِ إِنْ شاء الله تَعَالَى. (فَرْع): وَاجِبُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ شَيْئَانِ: أحَدُهُمَا: كَوْنُهُ في وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ وَهُوَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلى طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ العِيدِ (¬3) فمن حَصَلَ بِعَرَفَةَ (¬4) فِي لَحْظَة لَطِيفَةٍ مِنْ هذَا الوَقْتِ صَحَّ وُقُوفُهُ وَأدرَكَ الحَج ومن فاته ذلك فقد فاته الحج. ¬

_ (¬1) أقول قد جدد غالب الأعلام وكتب عليها حدود كل من عرفة ومزدلفة ومنى في زماننا عهد حكومتنا السعودية السنية متع الله بها وأرشدها إلى مرضاته آمين. (¬2) أي الجبلين اللذين بين مزدلفة وعرفة ويقال لهما الأخشبان والآن قد أزيلا توسعة. (¬3) هو مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة والجمهور وبه قال شيخ الإِسلام ابن تيمية. وقال الإمام أحمد: وقت الوقوف ما بين طلوع الفجر يوم عرفة وطلوعه يوم النحر. دليل الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعد الزوال وكذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى اليوم. وحملوا حديث عروة بن مضرس الطائي الذي احتج به الإِمام أحمد على ما بعد الزوال قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبليْ طيىء قد أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي منْ حج؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقل قبل ذلك، ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه"، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح وأبو داود والنسائي، وزاد النسائي: (ومَنْ لم يدرك مع الإِمام والناس فلم يدرك). (¬4) أي وهو محرم. (تنبيه): قال في المجموع: إذا وقف في النهار ودفع قبل غروب الشمس ولم يعد في نهاره إلى عرفات، هل يلزمه الدم؟ فيه قولان الأصح أنه لا يلزمه، وقال أبو حنفية وأحمد: يلزمه. فإن قلنا يلزمه، فعاد في الليل سقط عندنا وعند مالك، وقال أبو حنيفة =

والثانِي: كَوْنُهُ أهْلاً لِلْعِبَادَةِ (¬1) وسَوَاءٌ فِيهِ الصَّبي وَالنَّائِمُ وَغَيْرُهُمَا، وأمَّا المُغْمَى عَلَيْهِ (¬2) وَالسَّكْرَانُ (¬3) فَلاَ يَصِحُّ وُقُوفُهُمَا لأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ العِبَادَةِ (¬4) فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ العِبَادَةِ وَحَصَلَ فِي جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْ أجْزَاءِ عَرَفَاتٍ في لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ وَقْتِ الْوُقُوفِ الْمَذْكُورِ صَحَّ وُقُوفُهُ حَضَرَهَا عَمْداً أوْ وَقَفَ مَعَ الْغَفْلَةِ أوْ مَعَ الْبَيع والشِّرَاءِ أوْ التحدُّثِ واللَّهْوِ أوْ في حالَةِ النومِ أو اجْتَازَ بِعَرفاتٍ في ¬

_ = وأبو ثور: لا يسقط، وإذا دفع بالنهار ولم يعد أجزأه وقوفه وحجه صحيح سواء أوجبنا الدم أم لا. وبه قال عطاء والثوري وأبو حنيفة، وأبو ثور وهو الصحيح من مذهب أحمد. قال ابن المنذر: وبه قال جميع العلماء إلا مالكاً. وقال مالك: المعتمد في الوقوف بعرفة هو الليل، فإنْ لم يدرك شيئاً من الليل فقد فاته الحج، وهو رواية عن أحمد. واحتج مالك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف حتى غربت الشمس، وقال لتأخذوا عني مناسككم. واحتج أصحابنا بحديث عروة بن مضرس السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهد صلاتنا هذه -يعني الصبح- وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه" وهو حديث صحيح، (والجواب) عن حديثهم أنه محمول على الاستحباب أو أنّ الجمع بين الليل والنهار يجب لكن يجبر بدم، ولا بد من الجمع بين الحديثين، وهذا الذي ذكرناه طريق الجمع والله أعلم. إنما كان الخلاف في هذا - أي فيمن وقف نهاراً ثم انصرف قبل الغروب لأنه مقصر بالإِعراض وقطع الوقوف والله أعلم. أما مَنْ لم يحضر عرفات إلا في ليلة النحر فلا دم عليه بلا خلاف. (¬1) أي في هذا الباب. (¬2) قال في المجموع الأصح عندنا لا يصح وقوف المغمى عليه، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأحمد وقال مالك وأبو حنيفة يصح. اهـ. أقول: المراد بالمغمى المغمى عليه جميع وقت الوقوف كما في الصوم والله أعلم. (¬3) أي جميع وقت الوقوف. (¬4) ومثلهما المجنون جميع وقت الوقوف. فيبني الولي بقية الأعمال على إحرام المجنون وكذا المغمى عليه والسكران إن أيس من إفاقتهما وإلا يبقيان لإفاقتهما ويقع لهم نفلاً وإنْ تعدوا كما في التحفة. وقال في النهاية يقع للسكران والمجنون نفلاً وإنْ تعديا بخلاف المغمى عليه. اهـ عمدة الأبرار.

وَقْتِ الوقوفِ وهُوَ لاَ يَعْلَمُ أنَّها عَرَفَاتٌ ولم يَلْبثْ أصْلاً بَلِ اجْتَازَ مُسْرِعاً في طَرَفٍ من أرْضِهَا الْمحدُودَةِ أوْ كانَ نائماً عَلَى بَعيرِهِ فَانْتَهَى بِهِ البَعِيرُ إلى عَرَفَاتٍ فَمَرّ بِهَا البَعيرُ ولَمْ يَسْتيقظْ راكِبُهُ حتَى فَارَقَهَا أو اجْتازَهَا في طَلَبِ غَرِيم هاربٍ بينَ يَدَيْهِ أو بَهيمَةٍ شَارِدَة أو غَير ذَلِكَ ممَّا هُوَ في معنَاهُ صَحَّ وقوفهُ فِي جميعِ ذَلِكَ (¬1) ولَكِنْ يَفُوتُهُ كمالُ الْفَضيلَةِ. أَمَّا سُنَنُ الوُقُوفِ وآدَابُهُ فَكَثيرٌة: إحداها: أن يغتسل بنمرة للوقوف (¬2). الثانية: أن لا يَدْخلَ عَرَفَاتٍ إِلا بَعْدَ الزوَالِ والصَّلاَتَيْنِ. الثالثة: أنْ يَخْطُبَ الإِمامُ خُطْبَتين ويَجْمَعَ الصَّلاَتَيْنِ كما سبقَ. الرابعة: تَعْجِيلُ الوُقُوفِ عَقِبَ الصَّلاَتَيْنِ. الخامسة: أنْ يَحْرِصَ على الوُقُوفِ بمَوْقفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الصَّخَرَاتِ كما سبقَ بيانُهُ. وأمَّا ما اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَوَامِّ مِنَ الاعتنَاء بالوقوفِ على جَبَلِ الرَّحْمَةِ الذي بِوَسَطِ عرفاتٍ كما سبقَ بَيَانُهُ وترْجيحُهُمْ لَهُ عَلَى غيرِهِ من أرض عَرَفَاتٍ حتى ربما تَوَهَّمَ كثيرٌ مِنْ جَهَلَتِهِم أنَّهُ لا يصحُّ الوقوفُ إلاَّ بِهِ فخطأ مُخَالِف للسُّنَّةِ، ولم يَذْكُرْ أحدٌ مِمَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي صُعُودِ هَذَا الْجَبَلِ فضيلةً ¬

_ (¬1) هو مذهب الأئمة رحمهم الله تعالى لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه: (وقد أتى قبل ذلك ليلاً أو نهاراً). وقال أبو ثور لا يجزئه لأنه لا يكون واقفاً إلا بإرادة. (¬2) أي قبل الزوال وقد تقدم دليله عند قول المصنف وأما ما يفعله الناس في هذه الأزمان من دخولهم أرض عرفات في اليوم الثامن فخطأ مخالف للسنة.

إِلاَّ أبُو جَعْفَر محمدُ بن جريرِ الطبريُّ فإنه قال: يستحب الوقوفُ عليه وكذا قال أقضى القضاةِ أبو الحسن الماورديُّ البصري صاحبُ الحاوِي من أصْحَابِنَا: يُسْتَحبُّ أنْ يقْصدَ هذا الْجَبَلَ الذي يقالُ له جَبَلُ الدُّعاء. قال: وهو موقفُ الأنْبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْهِمْ أجمعينَ. وهذا الَّذِي قالاهُ لا أصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرِدْ فيه حديثٌ صحيحٌ ولا ضعيفٌ والصوابُ الاعتِنَاءُ بمَوْقِفِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي خَصَّه الْعُلَمَاءُ بالذِّكْر والتَّفْضيلِ وحَديثُهُ في صحيح مُسْلم وغيرِهِ. وقد قال إمامُ الْحَرَمينِ في وَسَطِ عَرفَاتِ جَبَلٌ يُسَمَى جَبَلَ الرَّحْمَةِ لا نُسُكَ في صَعُودِهِ وإِن كَانَ يَعْتَادُهُ النَّاسُ. فإذَا عَرَفْتَ ما ذَكَرَنَاهُ فمن كانَ راكباً فَلْيُخَالِطْ بدابته الصَّخَراتِ المذكورَةَ ولْيداخلها كما فعل رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ومَنْ كانَ راجلاً قامَ على الصَّخَرَاتِ أو عِنْدهَا على حَسَبِ الإِمْكَانِ بحيثُ لا يُؤذِي أحداً وإذا لم يُمْكِنْهُ ذلكَ الْمَوْقِف فَيقْرُبُ ممَّا يقْرُبُ مِنْهُ وَيَتَجَنَّبُ كلَّ موضعٍ يُؤْذِي فيه أو يَتأذى. السادسة: إذَا كانَ يَشُق عَلَيْهِ الوُقُوفُ مَاشياً أو كان يَضْعُفُ بهِ عَنْ الدُّعَاءِ أو كانَ مِمَّنْ يقتَدَى بِهِ وَيُسْتَفْتَى فَالسُّنَّةُ أنْ يقِفَ رَاكِباً وَهُوَ أفْضَلُ مِنَ الْمَاشِي فإنْ كَانَ لا يَضْعُفُ بالوُقُوفِ ماشياً ولا يَشُق عَلَيْهِ وَلاَ هُوَ ممنْ يُسْتَفْتَى فَفِي الأَفْضَلِ أقْوالِ للشَّافعِيّ رَحِمه الله تعالى: أصَحُّهَا رَاكِباً أَفْضَلُ (¬2) اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأَنَّهُ أعونُ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ الْمُهِم في هذا الموضعِ. ¬

_ (¬1) جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات). (¬2) به قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، قال ابن الحاج رحمه الله تعالى كما في مفيد الأنام: وهذا مستثنى من النهي عن اتخاذ ظهور الدواب مجلساً يجلس عليها. اهـ.

والثاني: مَاشِياً أفْضَلُ. والثالث: هُمَا سَوَاء (¬1) هَذَا حُكم الرَّجُلِ. وأمَّا الْمَرْأةُ فالأَفْضَلُ أن تكونَ قاعِدَة (¬2) لأَنَّهُ أستر لَهَا ومِمَّنْ صَرَّحَ لمسأَلةِ المَاوَرْدِيُّ قَالَ: وَيُسْتَحَب لَهَا أن تكُونَ فِي حَاشِية الْمَوْقِفِ (¬3) لاَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ والزحْمَةِ. السابعة: الأَفضلُ أن يكونَ مُسْتَقْبلاً لِلْقِبْلَةِ (¬4) مُتَطهِراً سَاتِراً عَوْرَتَهُ فَلَوْ وَقَفَ مُحْدثاً أو جُنُباً أو حَائِضاً أوْ عَلَيْهِ نَجَاسَة أوْ مكشُوفَ الْعَوْرَةِ صَحَّ وقُوفُهُ وفَاتَتْهُ الفَضيلةُ. الثامنة: أن يكُونَ مُفْطِراً فَلاَ يصُومُ سَوَاء كانَ يَضْعُفُ بِهِ أمْ لا لأنَّ الفِطْرَ أعْوَنُ لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ وقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَفَ مُفْطراً واللهُ تعالى أعلمُ. التاسعة: أن يكُونَ حاضِر القلبِ فارغاً من الأمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنْ الدُّعَاءِ وينبغي أن يقدمَ قَضَاءَ أشْغَالِهِ قَبْلَ الزوَالِ ويتفَرع بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَنْ جَمِيعِ العلائِقِ وينبغي أنْ لاَ يقِفَ فِي طُرُقِ القَوَافِلِ وَغَيْرِهِمْ لِئلاَّ يَنْزَعِجَ بِهِمْ. العاشر: أنْ يُكثِر من الدُّعَاءِ والتَّهليلِ وقراءةِ القُرآنِ فهذه وظيفةُ هذَا ¬

_ (¬1) به قال الإِمامان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى. (¬2) هذا إن لم يكن لها هودج أو سيارة وإلا فالأفضل أن تكون فيه وفيها لأنهما أسترُ لها. (¬3) محله عند أمنها من فراق أهلها. (¬4) لقول جابر رضي الله عنه في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واستقبل القبلة.

المَوْضِعِ المُبَارَكِ ولا يقصِّرُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُعْظَمُ الْحَجّ ومُخُّهُ (¬1) ومَطْلُوبُهُ. وفي الحديث الصَّحيحِ: الحج عَرَفَةُ (¬2) فالْمَحْرُومُ مَنْ قَصَر فِي الاهتمامِ بِذَلِكَ واستفراغِ الْوُسْعِ فيهِ ويكثر من هذَا الذِكْر والدُّعاءِ قَائماً وقاعداً وَيَرْفَعُ يَديهِ فِي الدُّعاءِ ولا يُجَاوزُ بهما رأسَهُ (¬3) ولا يتكَلَّفُ السَّجْعَ في الدعاءِ ولا بَأسَ بالدعاءِ المَسْجُوعِ إذا كانَ مَحْفُوظاً أو قالَهُ بلا تَكلفٍ ولا فِكْرٍ فيهِ بل ¬

_ (¬1) أي لبه وخالصه. (¬2) قال في المجموع: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون بأسانيد صحيحة. وهذا لفظ الترمذي عن عبد الرحمن بن يعمر أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة فسألوه فأمر منادياً ينادي: الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. اهـ. وقال الطبري في القرى وأبو داود أي وأخرجه أبو داود وقال: جاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الحج؟ فأمر رجلاً فنادى الحج يوم عرفة، من جاء ليلة جمع فتم حجه أيام منى إلى آخره. اهـ. أقول: معنى الحديث والله أعلم كما هو ظاهر أن الركن الذي يدرك به الحج ويفوت بفوات زمانه هو الوقوف بعرفة ووقته من زوال يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، وبه قال عامة العلماء مالك وأبو حنيفة والجمهور. وقال أحمد: وقته من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوعه يوم النحر. وقد تقدم الكلام على وقت الوقوف في الفصل الرابع في الوقوف بعرفات مع أدلة الفريقين ولله الحمد والمنة، وليس معنى (الحج عرفة) هو ما يفهمه بعض أهل زماننا -أصلحنا الله جميعاً- من أنه يقوم بالوقوف بعرفة ويقصر في باقي الأركان والواجبات والسنن ويقول (الحج عرفة) ويحمل الحديث على غير معناه ولا يبحث عن سبب وروده عنه - صلى الله عليه وسلم - ليعرف معناه الصحيح وفقنا الله والمسلمين لمرضاته آمين. (¬3) أي للاتباع أخرجه أحمد وغيره. وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين ولا ينافيه ما في رواية من أنه رفع يديه إلى السماء وباطنهما إلى الأرض وظاهرهما إلى السماء لاحتمال أن ذلك كان بعض أحواله لما هو معلوم من أن هذه الكيفية إنما تندب عند الدعاء برفع البلاء. اهـ حاشية.

يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غير تكلُّف لِتَْرتيبِهِ وإعْرَابِهِ (¬1) وغيرِ ذَلِكَ مِمَّا يشْغلُ قلبه، وَيُسْتَحَب أنْ يَخْفِضَ صَوتَه بالدُّعَاءِ وَيكْرَهُ الإِفْرَاط في رَفْعِ الصَّوْتِ. وَينبغي أنْ يُكْثرَ مِنَ التَّضَرُّع فِيهِ والخُشُوعِ وإظْهَارِ الضَّعْفِ والافْتِقَارِ والذِّلةِ ويُلحُّ في الدُّعَاءِ ولا يَسْتَبْطِىءُ الإِجَابةَ بَلْ يكونُ قويَّ الرَّجاء للإجَابةِ ويُكَرِّرُ كلَّ دُعاء ثَلاَثاً ويَفْتَتحُ دُعاءَهُ بِالتَّحْمِيدِ والتمجيدِ للهِ تَعَالى والتَّسْبِيحِ والصَّلاَةِ والسَّلامِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَخْتِمُهُ بمثلِ ذلكَ وَلْيَكُنْ مُتَطَهراً مُتبَاعِداً عَنِ الْحَرام والشُّبْهَةِ فِي طَعَامِهِ وشَرَابِهِ ولِبَاسِهِ وَمَركُوبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِما مَعَهُ فَإنَّ هذه مِنْ آدَابِ جَميعِ الدَّعَوَاتِ، ولْيَختِمْ دُعاءَه بآمين وَلْيُكْثر من التَّسبِيحِ والتحْميد والتكْبيرِ والتهليلِ، وأفْضَلُ ذَلِكَ ما رَوَاهُ الترْمِذِي وغَيْرهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الدعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ وأفْضَلُ ما قُلْتُ أنا والنَّبِيونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ وَلَهُ الْحَمْدُ (¬2) وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ". وَفِي كِتَابِ التِّرمذِي عَنْ عَلِيّ رضي الله عَنُهُ قَالَ: أكْثَرُ ما دَعَا بِهِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ في الْمَوْقِفِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَالذِي تقُولُ وَخَيراً ممّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاَتِي وَنُسُكِي (¬3) وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي وإلَيْكَ مَآبي وَلَكَ رَبي تُرَاثِي (¬4)، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَسَة الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الأَمْرِ، اللَهُمَ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَر مَا تجيءُ به الريحُ" (¬5). ¬

_ (¬1) ظاهره أن تحري إتيان الدعاء من غير لحن مكروه كالسجع وهو ظاهر. وإلا ففيه تفصيل محصله أن تجنب اللحن مِن القادر شرط في الدعاء وعليه يحمل حديث: "لا يقبل الله دعاءً ملحوناً" وأما غير القادر فلا يقدح اللحن في الدعاء ويعذر فيه. (¬2) زاد أحمد بعده في رواية: (بيده الخير). (¬3) أي عبادتي. (¬4) أي إرثي إذْ لا ملك لأحد. (¬5) أي من العذاب.

وَيُسْتَحَب أنْ يُكْثِرَ مِن التلْبِيَةِ رَافِعاً بهَا صَوْتَهُ وَمِنْ الصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْبَغِي أنْ يَأْتي بِهَذِهِ الأَنْوَاعِ كُلهَا فَتَارَةً يَدْعُو وَتَارَةً يُهَلّلُ وتَارَةً يُكبر وتَارَة يُلَبي وتَارَة يُصَلِّي عَلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتارة يَسْتَغْفِرُ ويَدعو منفرِداً وَمَعَ جَمَاعَة وَلْيَدْعُ لِنَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ وَأقارِبِهِ وَشُيُوخِهِ وأصْحَابِهِ وأحْبَابِهِ وَأصدقَائِهِ وَسَائِرِ مَنْ أحْسَنَ إِلَيْهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَلْيَحْذَرْ كلَّ الحذَرِ مِنَ التقصير فِي ذَلِكَ فَإنَّ هذَا الْيَوْمَ لاَ يُمكنُ تَدَارُكُهُ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ وَيُسْتَحَب الإِكْثَارُ مِنَ الاسْتِغْفَارِ والتَّلفظِ بالتّوبَةِ مِنْ جَميعِ الْمخَالَفَاتِ مَعَ الاعتقَادِ بالقلبِ وَأنْ يُكْثِرَ مِنَ البكَاءِ مع الَذكْرِ والدُّعَاءِ فهُناكَ تُسْكَب العبرَاتُ (¬1) وتُستقَالُ العثَراتُ وتُرْتَجى الطلَبَاتُ وَإنّهُ لمجْمعٌ عَظِيم (¬2) وَمَوْقِفٌ جَسِيم يَجْتمع فيهِ خِيَارُ عِبَادِ الله الْمُخْلِصِينَ وَخَواصّهُ المقَربينَ وَهُوَ أعْظَم مجَامعِ الدُّنْيَا وَقِيَل: إذا وافَقَ يومُ عَرَفَة يَوْمَ جُمُعة غُفِرَ لِكُل أهْل الْمَوقِفِ (¬3) وَثَبَت فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ما مِنْ يَوْم أكْثَرُ من أن يُعتِقَ الله تَعَالَى فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يوم عَرَفَةَ وإنَّهُ يُبَاهِي بهم الملائِكَةَ يقُولُ مَا أرَادَ هَؤلاءِ". ¬

_ (¬1) أي من الأعين لما استحضره مما فرط من الذنوب. وقوله: "وتستقال العثرات" أي تغفر الذنوب. (¬2) أي عدداً وقَدْراً. جاء أنه لا ينقص عن ستمائة ألف إنسان فإن نقص كمل بالملائكة. (¬3) قال المحشي رحمه الله تعالى: هذا الذي حكاه بـ "قيل" حديث رواه العز بن جماعة رحمه الله بلفظ (إذا كان يوم عرفة يوم جمعة غفر الله لكل أهل الموقف) واستشكل بأنّ الله تعالى يغفر لأهل الموقف فما وجه تخصيص يوم الجمعة؟ وأجاب البدر بن جماعة رحمه الله بأنه يحتمل أن الله تعالى يغفر للجميع يوم الجمعة بغير واسطة وفي غيره يهب قوماً لقوم. =

وروينا عَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله أحَد العَشَرَةِ رضي الله عنهم قال: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما رُئيَ الشَّيْطَانُ أصْغَر (¬1) ولا أحْقَرَ ولا أدْحَرَ ولا أغْيظَ منهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وما ذَاكَ إلا أنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فِيهِ فَيَتَجَاوزُ عن الذُّنُوبِ العِظَامِ" (¬2). وعن الْفَضيل بن عَيَّاض رضي الله عنه أَنهُ نَظَرَ إلى بُكاء النَّاسِ بعرفة فقالَ: أرأيْتُمْ لَوْ أنَّ هَؤُلاءِ صَارُوا إلى رجل واحد فَسَألُوهُ دَانِقاً (¬3) أكانَ يَرُدُّهم؟ قِيلَ: لاَ، قالَ: والله للْمَغْفِرَةُ عند اللهِ عزَّ وجَل أهْونُ مِنْ إجَابةِ رَجُل بِدَانِق. ¬

_ = (فإنْ قلت) المغفرة حاصلة على كل تقدير، فأي فائدة تعود على المغفور له؟ (قلت) كفى بما في هذا القرب المقضي لعدم الاحتياج لواسطة من مزيد المزية بشرفه وكمال المغفرة له. قال: (ومن مزاياه) أيضاً شرف الأعمال بشرف الأزمنة كالأمكنة وهو أفضل الأسبوع. (ومنها) أن فيه ساعة يستجاب فيها الدعاء بخلاف غيره (ومنها) موافقته - صلى الله عليه وسلم - فإنه في حجة الوداع وقف فيه وإنما يختار الله له الأفضل. (ومن مزاياه) أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأيام يوم عرفة فإن وافق الوقوف يوم جمعة فهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة. اهـ. قال في مفيد الأنام: وقفة الجمعة في آخر يومها ساعة الإجابة للجبر: فإذا اجتمع فضل يوم الجمعة ويوم عرفة كان لهما مزية على سائر الأيام. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل اثنتين وسبعين فباطل لا أصل له انتهى والله أعلم. (¬1) أصغر من الصغار أي الذل أو من صغر الجثة وأدحر بمهملات من الدحر وهو الدفع بعنف وشدة والطرد إهانة وإبعاداً. ومنه: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}. (¬2) تتمة الحديث: إلا ما رئي يوم بدر. قيل: وما رئي يوم بدر؟ قيل أما إنه رأى جبريل يزع (يقود الملائكة) أي للجهاد ونصر المؤمنين. (¬3) أي سدس درهم وأنشد الفضيل رحمه الله تعالى بعد قوله: وإني لأدعو الله أسأل عفوه ... وأعلم أن الله يعفو ويغفر لأن أعظم الناس الذنوب فإنها ... وإنْ عظمت في رحمة الله تصغر

وعَنْ سالِم (¬1) بن عَبْدِ الله بن عُمَرَ بَنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهم أَنهُ رأى سَائِلاً يَسْألُ النَّاس يَومَ عرَفَة فَقال: يَا عَاجِزُ أفِي هذا اليومِ تَسْألُ غيرَ اللهِ تَعَالَى؟! (فرع): وَمِنَ الأَدْعِية المُخْتَارَةِ: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخرة حَسَنَةً وقِنَا عَذَابِ النَّارِ، اللَّهُمَّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلماً كثيراً (¬2) وإنَّهُ لا يغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ فاغْفِر لِي مغفرةً مِنْ عِنْدِكَ وَارحمني إنَّكَ أنتَ الغفُورُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ اغفر لِي مغفرةً مِنْ عِندكَ تُصْلحُ بها شأنِي في الدَّاريْنِ، وارحمْني رحمةً منكَ أسعد بِهَا في الدَّارِيْنِ، وتُبْ عليَّ توبة نصوحاً لا أنكثُهَا أبَداً، وألزمْنِي سبيلَ الاسْتقامةِ لا أزيعُ عَنْهَا أبَداً، اللَّهُمَّ انْقُلْنِي من ذُلِّ المعصية إلى عِزّ الطَّاعة وأغْنني بحلالِكَ عَنْ حرامِكَ وبطاعتِكَ عن معصيتَك وبفضْلِكَ عمَّن سواكَ، وَنَوّر قَلْبِي وَقَبْرِي وأعِذْنِي مِنَ الشَّر كُلهِ واجْمعْ لي الخيرَ كُلَّهُ أستودِعُكَ دِيني وأمانتِي وقلبِي وبدَني وَخَواتِيمَ عَمَلِي وجميعَ ما أَنعمتَ به عليَّ وعلَى جميعِ أحبائي والمسلمينَ أجمعينَ. وهذا البابُ واسعٌ جِداً لَكِنْ نبهتُ عَلى أصُولهِ ومقاصِدهِ والله تَعَالَى أعلمُ. ¬

_ (¬1) أحد الفقهاء السبعة الذين تدور عليهم رحى الفُتيا في زمانهم وكان أحب أولاد أبيه إليه، ولذا كان يقول فيه: يلومونني في سالم وألومهم ... وجِلْدة بين العين والأنف سالم والفقهاء السبعة هم المنظومة أسماؤهم في قول بعضهم رحمه الله تعالى: ألا كل مَنْ لي لا يَقْتَدي بأئمة ... فقسْمته ضيزى عن الحق خارجة فخذهم عبيد الله عُروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة وفي بعض الكتب (عن الحق عارية) والله أعلم، وسيأتي شرح أسمائهم إن شاء الله. (¬2) روى بالمثلثة وبالموحدة التحتية كما في الحاشية، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى فينبغي الجمع بينهما في الدعاء ليتيقن ما نطق به - صلى الله عليه وسلم -.

الحادية عشرةَ: الأَفْضلُ للواقفِ أنْ لا يَسْتَظِل (¬1) بل يبرزُ للشَّمسِ إلا لعذر بأنْ يتضرَّر أوْ أنْ ينقُصَ دُعاؤُهُ واجْتهادُهُ. الثانية عشرة: يَنْبَغِي أنْ يبقَى في المَوْقِفِ حتَّى تَغْرُبَ الشَّمسُ فيجمعُ في وقُوفِهِ بَيْنَ الليلِ والنَّهارِ (¬2) فإنْ أفاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (¬3) فعادَ إلى عَرَفَاتٍ قبلَ طُلوعِ الفَجْرِ فَلاَ شَيءَ عليه (¬4) وَإنْ لم يَعُدْ أراقَ دماً (¬5) وَهَلْ هُوَ وَاجِب أَوْ مُستحب؟ فيه قولانِ للشَّافعي رحمهُ الله تعالى: أصَحُّهُمَا أنهُ مُسْتَحَب (¬6) والثاني واجِب (¬7) وهذا فيمَنْ حَضَرَ نَهاراً (¬8) أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُر فَلاَ شَيءَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ فَاتَتْهُ الفَضيلَةُ. ¬

_ (¬1) قد تقدم الكلام على استظلال المحرم بغير ملاصق للرأس كالسيارة غير المكشوفة في فصل محرمات الإِحرام. فقال أبو حنيفة والشافعي بجوازه وقال مالك وأحمد بعدم جوازه، فإن استظل فعليه الفدية عند مالك وهو الأصح من مذهب أحمد. (¬2) الجمع بين الليل والنهار هو الذي صح عنه - صلى الله عليه وسلم - وهل هو مستحب أو واجب؟ فقال مالك بوجوبه كما تقدم، وقال الثلاثة باستحبابه لحديث عروة بن مُضرس (وقد أتى عرفة ليلاً أو نهاراً). (¬3) أي بعد الزوال. (¬4) كذا في الواضح وشرح المنتهى من كتب الحنابلة وفي المغني للعلامة ابن قدامة الحنبلي أن يعود قبل الغروب ويقع الغروب وهو بعرفة كما في مفيد الأنام. (¬5) أي لعدم جَمْعه بين الليل والنهار، وقد تقدم الكلام عليه أول الفصل. (¬6) أي لأنه وقف في أحد زماني الوقوف فلا يلزمه دم الزمان الآخر كما لو وقف في الليل دون النهار. (¬7) أي لأن الجمع بين الليل والنهار نسك يختص بمكان فجاز أن يجب بتركه دم كالإِحرام من الميقات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ ترك نسكاً فعليه دم" رواه ابن عباس رضي الله عنهما كما في المجموع. (¬8) أي بعد الزوال عند الأئمة الثلاثة والجمهور وعند الإمام أحمد مطلقاً قبله أو بعده، لأن وقت الوقوف عنده من الفجر كما تقدم.

الثالثة عشرةَ: ليحْذر كل الحذر مِنَ المخاصَمَة والمُشَاتَمَةِ والمنافرةِ والكلاَمِ القَبيحِ بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَحْتَرِزَ عَنْ الكَلاَمِ المُبَاحِ ما أمْكَنَهُ فإِنَّهُ تَضييعٌ للوقْتِ المهِمّ فيمَا لاَ يُغْنِي مَعَ أنهُ يخاف انْجِرَارُهُ إلى كلامٍ حَرَامٍ مِنْ غيبةِ ونحْوِهَا، ويَنْبَغِي أنْ يحترزَ غَايةَ الاحْتَرَازِ عَنْ احْتِقَارِ من يراهُ رَثَّ الْهَيْئَةِ (¬1) أو مُقْتَصِرَاً في شَيْءٍ ويحتَرِزَ عَنِ انْتِهَارِ السَّائِلِ ونَحْوِهِ وإِنْ خَاطَبَ ضَعيفاً فَلْيتلَطَّفْ فِي مُخَاطَبتهِ فإنْ رأى مُنكراً مُحَقَّقاً (¬2) تَوَجب عَلَيْهِ إنكارُهُ وَيتلطفْ فِي ذَلِكَ وبالله التَّوْفِيقُ. الرابعة عشرةَ: لِيَسْتكثِرْ مِنْ أعْمَالِ الْخَيْرِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وسَائِرِ أيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِي عن ابنِ عَبَّاسِ رضي الله عَنْهُمَا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ّ قَالَ: "ما العَمَلُ فِي أيَّامِ (¬3) أفضلُ مِنْهُ فِي هذ الأيَّامِ يَعْني أيامَ العَشْرِ" قالُوا: وَلاَ الجِهَادُ (¬4)؟ قال: "ولا الجهاد إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بمالِهِ وَنَفْسِهِ فَلَمْ يرجِعْ بشَيْءٍ. وأيَّامُ الْعَشْرِ (¬5) هِيَ الأَيَّامُ المعلُومَاتُ (¬6) وأَيامُ التشرِيقِ ¬

_ (¬1) رث الهيئة أي ضعيفها. (¬2) محققاً أي بأنْ كان مجمعاً عليه واعتقد الفاعل تحريمه. (¬3) أي غير عشر رمضان الأواخر لما اشتملت عليه هذه من ليلة القدر ويومها ولتميزه - صلى الله عليه وسلم - لها بتميزات واجتهادات في العبادات لا يفعلها في غيرها ولما يشترك سائر الناس في فعله من العبادات الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - وفضل عشر ذي الحجة لأمور يختص غالبها بالحجاج. (¬4) أي الخالي عن القتل في سبيل الله تعالى بدليل ما بعده. (¬5) أي عشر ذي الحجة. (¬6) أي عند الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى وعند مالك رحمه الله المعلومات ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: يوم عرفة ويوم النحر والأول من أيام التشريق. قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: وفائدة الاختلاف أنّ عندنا يجوز ذبح =

هِيَ الأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ" (¬1). (فرعِ): إذا غلطَ الحُجاجُ (¬2) فوقفوا في غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ نُظِرَ، إن غلطُوا بالتأخير فوقَفُوا (¬3) العَاشِر مِنْ ذِي الحجَّةِ أجْزأهُمْ (¬4) وَتَمَ حَجُّهُمْ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَسَوَاءٌ بانَ الغلط بعد الوقوف أو في حال الوقوف (¬5)، ولو غلطوا ¬

_ = الهدي والضحايا في أيام التشريق كلها، وعند مالك لا يجوز في اليوم الثالث. هذا كلام صاحب البيان. وقال العبدري: فائدة وصفه بأنه (معلوم) جواز النحر فيه، وفائدة وصفه بأنه معدود إنقطاع الرمي فيه. قال وبمذهبنا قال أحمد وداود. اهـ مختصراً. أقول: المعلومات هي المذكورة في سورة الحج في آية {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية 28. وأقول أيضاً: قول العبدري رحمه الله تعالى ورحمنا والمسلمين آمين: وبمذهبنا قال أحمد: لعله رواية ضعيفة فلذا لم يذكرها العلامة ابن قدامة رحمه الله في مغنيه عن الإمام أحمد وهي جواز النحر في ثالث أيام التشريق كالشافعية لأن المنصوص فيه عنه عدم الجواز كالإمامين مالك وأبي حنيفة رحم الله الجميع آمين. (¬1) قال صاحب البيان كما في المجموع: اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر. اهـ. أقول: المعدودات هي المذكورة في سورة البقرة في آية {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الآية 203. (¬2) أي بأنْ غُم عليهم هلال ذي الحجة وكملوا ذا القعدة ثلاثين ثم ثبتت رؤية الهلال ليلة الثلاثين. قال الرافعي رحمه الله: وليس من الغلط المراد ولهم -أي الأصحاب- ما إذا وقع ذلك بسبب الحساب فإنه لا يجزيهم ذلك بلا شك فتعبير المصنف رحمه الله تعالى كسائر الأصحاب بالغلط الشامل لذلك فيه تجوّز. اهـ حاشية. (¬3) أي كلهم أو فرقة منهم، وهم كثيرون على العادة المطردة. (¬4) أجزأهم إجماعاً إن كثروا كما تقدم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه" أخرجه أبو داود في مراسيله، قال البيهقي: وهو مرسل جيد، ولأنّ تأخير العبادة عن وقتها أقرب إلى الاحتساب من تقديمها عليه والله أعلم. (¬5) بقي ما إذا كان الغلط قبل وقت الوقوف بأن بان قبل زوال العاشر ولو في ليلته =

فوقفوا في الحادي عشر أوْ غَلَطُوا في التقديم فوقَفُوا في الثامن (¬1) أوْ غلطُوا فِي المكانِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ أرْضِ عَرفاتٍ فلا يصحُ حَجهُمْ بِحَالٍ (¬2) وَلَوْ وَقَعَ الْغَلَطُ بالْوُقُوفِ فِي الْعَاشِرِ لطَائِفَةٍ يَسِيرَةِ لاَ للحَجِيجِ العامِ لم يُجْزِهِمْ على الأَصَحّ (¬3) وَلَوْ شَهِدَ واحِدٌ أوْ عَدَدٌ برؤيةِ هِلاَلِ ذِي الْحِجةِ فَرُدَّتْ شهادَتُهُمْ لَزِمَ الشُّهُودَ الوُقُوفُ فِي التاسِع عندهم (¬4) وإنْ كانَ النّاسُ يقِفُونَ بَعْدَهُ. ¬

_ = ولم يتمكنوا فيها من الذهاب لعرفة لبعد المسافة وقفوا بعد زوال العاشر، وإليه حينئذ تنتقل أحكام التاسع كلها. فلا يُعْتَد بوقوفهم قبل الزوال ولا يصح رمي جمرة العقبة إلا بعد نصف ليلة الحادي عشر والوقوف، وهكذا جميع الأحكام والله أعلم. (¬1) قال في المجموع: وإنْ وقفوا في الثامن فالأصح عندنا لا يجزئهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والأصح من مذهب مالك وأحمد أنه لا يجزئهم. اهـ. (¬2) وعليهم القضاء. (¬3) أي لأنم مفرطون ويجب عليهم ما أوجبه الخليفة عمر بن الخطاب على هبّار بن الأسود ومَنْ معه، رضي الله عن الجميع وقد حج من الشام - كما في رواية. وإليك ما أوجبه عليهم في حديث مالك رواه في الموطأ بإسناده عن سليمان بن يسار: أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومَنْ معك، واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هدياً إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا، ثم ارجعوا فإن كان عام قابل فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع. وهبار هذا هو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي أسلم بالجعرانة بعد فتح مكة، صحابي شهير. كذا في الزرقاني رحمه الله تعالى. (¬4) قال المصنف رحمه الله في مجموعه: فلو اقتصروا على الوقوف مع الناس فى اليوم الذي بعده لم يصح وقوف الشهود بلا خلاف عندنا، وحكى أصحابنا عن محمد بنّ الحسن أنه قال: يلزمهم الوقوف مع الناس أي وإن كانوا يعتقدونه العاشر. قال: ولا يجزئهم التاسع عندهم. دليلنا أنهم يعتقدون هذا اليوم الذي يقف الناس فيه العاشر فلم يجز وقوفهم فيه كما لو قبلت شهادته. اهـ. =

(فرع): لَوْ أَنَّ مُحْرماً بالحجِّ سَعَى إِلَى عَرَفَةَ فَقَرُبَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النحْرِ بِحَيْثُ بقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَدْرٌ يَسَعُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ ولم يكُنْ بَعْدُ صَلى الْعِشَاءَ فَقَدْ تَعَارَضَ فِي حَقهِ أمْرُ الوُقُوفِ وَصَلاَةُ الْعِشَاءِ فَأَيُّهُما اشتغل بِهِ فَاتَهُ الآخَرُ فَكَيْفَ يفْعَلُ؟ فيه ثَلاَثَةُ أوْجُه لأَصْحَابِنَا: أصَحُّها أَنهُ يَذْهَبُ لإدْرَاكِ الْوُقُوفِ (¬1) فَإِنَّهُ يَتَرَتبُ عَلَى فَوَاتِهِ مَشاقٌ كثيرةٌ مِنْ وُجُوبِ القضاءِ ووجوب الدَّم للقضاءِ ورُبمَا تعذرَ القضاءُ وَفيه تغْرير عَظِيمٌ بالحجِّ فينبغي أنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَيُؤَخرَ الصَلاَةَ فإِنَّهُ يجُوزُ تَأخيرها بِعُذْرِ الجمعِ وهذا أشدُّ حَاجَة مِنْهُ. والثانِي: أنهُ يُصَلّي فِي موضعه فَيُحَافِظ عَلَى الصَّلاَةِ لأَنَّهَا عَلَى الفَوْرِ بِخِلاَفِ الْحجّ فَإِنهُ على التراخِي وَلأنَّ الصَّلاَةَ آكَدُ. والثالثُ: أنهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُصَلّي صَلاَةَ شِدَّةِ ¬

_ = أقول: جاء في مفيد الأنام للشيخ ابن جاسر الحنبلي عن سليمان بن علي في منسكه قوله رحمه الله: ولو رأى الهلال طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف بل الوقوف مع الجمهور، واختار في الفروع يعني ابن مفلح - أنه يقف من رآه في التاسع ومع الجمهور وهو حَسَنٌ، أقول -القائل هو الشيخ ابن جاسر-: الوقوف بعرفة مرتين بدعة لم يفعله السلف. اهـ مختصراً. أقول قد سبقه إلى هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث جاء عنه كما في مفيد الأنام: قال شيخ الإسلام الوقوف مرتين بدعة لم يفعله السلف. وقال فلو رآه طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف بل الوقوف مع الجمهور. اهـ. مذاهب العلماء في الغلط في الوقوف قال المصنف رحمه الله في مجموعه: اتفقوا على أنهم إذا غلطوا فوقفوا في العاشر وهم جمع كثير على العادة أجزأهم وإنْ وقفوا في الثامن فالأصح عندنا لا يجزئهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والأصح من مذهب مالك وأحمد أنه لا يجزئهم. اهـ. (¬1) أي وجوباً. ولا يصل صلاة شدة الخوف ومحل الخلاف كما يشير إليه قوله بحيث بقي إلخ حيث لم يكن يدرك ركعة مع إدراك الحج، وإلا وجب تقديمه قطعاً. اهـ حاشية.

الْخَوْفِ (¬1) فَيُحْرِمُ بالصَّلاَةِ وَيَشْرَعُ فيها ويَعدو (¬2) ذاهباً إلى الموقف وهذا عذرٌ من أعْذَار صَلاَةِ شدَّه الخوفِ والله تعالى أعلَمُ. (فرع): فِي التَّعْرِيفِ بغيرِ عَرَفَات وهذا هُوَ الاجتماعُ المعرُوفُ فِي البلدان اختلف العلماءُ فيه فجاءَ عن جَمَاعَةٍ اسْتحبَابُهُ وَفِعْلُهُ. فَقَد رُوِي عن الحسنِ البصريِّ أنهُ قَال: أوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَباس رضي الله عنهما. وَقَالَ الأَثْرَمُ: سَألْتُ أحْمَدَ بن حَنْبَلٍ رحمهُ اللهُ تَعَالى عَنِ التَّعْرِيف فِي الأمْصَارِ فقالَ: أرْجُو أنْ لا يكونَ به بأسٌ وقد فعلهُ غيرُ واحدٍ الْحَسَنُ وبكرٌ وثابِتٌ ومحمدُ بنُ واسع كانوا يشْهَدُونَ المسجدَ يومَ عرفةَ وَكَرِهَهُ جماعَةٌ منهم نَافع مَوْلَى ابنِ عُمَرَ وإبراهيمُ النَّخعيُّ والحكَمُ وحَمَّادٌ ومالكُ بنُ أنسٍ وغيرُهم. وصنَّفَ الإِمام أبو بكر الطَّرطوشي المالكيُّ الزاهدُ كِتَاباً في البدعِ المنكراتِ وَجَعَلَ منها هذا التعريفَ وبالغَ في إنكارِهِ ونقلَ أقوالَ العلماءِ فيها ولا شك أنّ مَنْ جَعَلَهَا بدْعَةً لا يُلْحِقُهَا بِفاحِشاتِ البدعِ بل يُخففُ أمْرَهَا بالنسبة إلى غيرها. ¬

_ (¬1) جاء في مفيد الأنام للشيخ ابن جاسر الحنبلي رحمه الله تعالى: إذا خاف فوت الوقوف بعرفة إن صلى صلاة أمن: صلى صلاة خائف إن رجا إدراك الوقوف لما في فوت الحج من الضرر العظيم. قال في شرح المختصر: وإذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً للقبلة وغيرها ويومئون طاقتهم، وكذا حالة هرب مباح من عدو أو سيل ونحوه. أو خوف فوت عدو يطلبه أو وقت وقوف بعرفة انتهى. فعلى هذا إذا خاف فوت الوقوف بعرفة صلى الفريضة راجلاً أو راكباً في سيارة أو على دابة أو غيرها للقبلة أو غيرهما ويومىء بقدر طاقته والله أعلم. اهـ. (¬2) أي راجلاً أو راكباً في سيارة أو على دابة أو غيرهما للقبلة ولغيرها ويومىء بقدر طاقته والله أعلم.

الفصل الخامس في الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة وما يتعلق بها

(فرع): ومن البِدَعِ الْقَبيحَةِ ما اعتاده الْعَوَامُّ فِي هذِهِ الأزْمَانِ مِنْ إيقادِ الشَّمْعِ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ ليلةَ التَّاسع (¬1) وَهذِهِ ضلاَلَةٌ فاحشَةٌ جَمَعُوا فيها أنْواعاً مِنَ الْقَبَائح: مِنْهَا إضَاعَةُ المالِ في غيرِ وجهِهِ، ومنها إظْهَارُ شِعَارِ المجُوسِ في النَّارِ، وَمِنْهَا اخْتلاطُ النسَاءِ بالرجَالِ والشُّمُوعُ بَيْنَهُمْ وَوُجُوهُهُنَّ بارِزَة، ومنها تقديم دُخُولِ عَرَفَاتٍ على وقْتِهِ المَشْرُوعِ ويَجبُ عَلَى وَلِي الأمرِ وَكُل مَنْ يَتمكنُ مِنْ إزَالَةِ هذه البدع إنكارُهَا وإزالتهَا والله تعالى أعلمُ. الفصل الخامس في الإِفاضَةِ (¬2) مِنْ عَرَفاتٍ إِلَى المزدلِفة وَمَا يَتَعلّقُ بِهَا السُّنَّةُ للإمَامِ (¬3) إِذا غَرَبَتْ الشمس وتَحققَ غُرُوبُهَا (¬4) أنْ يُفِيضَ (¬5) مِنْ عَرَفَاتٍ وَيُفيضَ الناسُ مَعَهُ (¬6) ويُؤَخرُوا صَلاَةَ المَغْرِبِ بِنيةِ الجمعِ إلى العشاءِ (¬7) ¬

_ (¬1) لله الحمد والمنة ليس لهذه البدعة القبيحة في زماننا وجود. (¬2) أي الدفع والذهاب. (¬3) أي أو نائبه. (¬4) بأن لم يبقَ منها شيء أصلاً. (¬5) أي أن يدفع ويذهب. (¬6) أي فيندب للناس أن لا يدفعوا ويذهبوا قبل الإمام أو نائبه بل يكره حيث لا عذر من نحو زحام ولا ينافي ذلك قوله الآتي ولا بأس أن يتقدم الناس الإمام لأن المراد لا يحرم ذلك، فالمنفي فيما يأتي الحرمة لا الكراهة. (¬7) أي جمع تأخير بالمزدلفة ندباً لمن سفره سفر قصر عند الشافعية لأنّ الجمع عندهم للسفر، وعند أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك وجوب جمع التأخير لأنه عندهم للنسك كما سيأتي عن المجموع والله أعلم.

وَيُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ الله تعالى والسُّنَّةُ أنْ يَسلُكَ فِي طَرِيقِهِ إلى المُزْدَلِفَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمأزَمَيْنِ (¬1) وهو بينَ الْعَلَمَيْنِ اللَّذيْنِ هُمَا حَدُّ الحرَمِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَالْمَأْزَمُ بالهمزَةِ بعدَ الميمِ المفتوحةِ وكسرِ الزّايِ هُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْن وَحَدُّ المزدلفةِ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ المذكُورَيْنِ وقُرْب مُحَسِّرٍ يميناً وشمالاً مِنْ تِلْكَ الموَاطِن الْقَوَابِلِ والظوَاهِرِ والشّعَابِ والجِبَالِ فَكُلهَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ وَلَيْسَ المأْزِمَانِ وَلاَ وَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مُزْدَلَفَةَ وَهُوَ بِضَمّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ السّينِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُهْمَلَتَيْنِ سُمّيَ بِذَلِكَ لأَنَّ فيل أصْحَابِ الفيلِ حَسَرَ فِيهِ أي أعْيَا (¬2) وَكَل عَنِ الْمَسِيرِ وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ مِنى وَالْمُزْدَلِفَةِ (¬3). واعلم أَنَّ بَيْنَ مَكَّةَ وَمنىً فَرْسخاً وَمُزْدَلِفَةُ مُتَوَسطَةٌ بينَ عَرَفَاتٍ ومنىً بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا فَرْسَخٌ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أميَالٍ وإذا سَارَ إِلَى المُزْدَلِفَةِ سار مُلَبِّياً مُكْثِراً مِنْهَا وَيَسِيرُ على هَينَتِهِ وعَادَةِ مشيْهِ بسكينة وَوَقَارٍ (¬4) فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً (¬5) اسْتُحِبَّ أنْ يُسْرِعَ وَيُحركَ دَابَّتَهُ اقتداءً بِرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ بَأْسَ (¬6) أنْ يَتَقَدَّمَ ¬

_ (¬1) أي الأخشبين، وقد تقدم الكلام عليهما في الصعود إلى عرفات فراجعه. (¬2) نظر فيه الفاسي رحمه الله بقول ابن الأثير أن الفيل لم يدخل الحرم، وقيل لأنه يحسر ويتعب سالكيه ويسميه أهل مكة (وادي النار) قيل لأن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته. (¬3) أي وليس محسر من منى ولا من مزدلفة قال الأزرقي رحمه الله: وهو خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً. اهـ. (¬4) سقطت مرتبة متوسطة ثبتت من فعله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لما أفاض كان في الزحام الشديد يسير بسكينَة، ويأمر بها، وعند خفة الزحام كان يسير سيراً سهلاً في سرعة ليس بالشديد، فإذا وجد السعة من الأرض حَرك ناقته حتى استخرج منها أقصى سيرها، وهذا يسمى النص بفتح النون وتشديد الصاد المهملة وما قبله يسمى العَنَق بفتح العين المهملة والنون. (¬5) بضم الفاء وفتحها، ويقال فرج بلا ها، ثلاث لغات. اهـ مجموع. (¬6) أي ولا يحرم بل يكره تقدم الناس الإمام كما تقدم.

النَّاسُ الإِمامَ أو يتأخرُوا عنهُ لكنْ مَنْ أراد الصَّلاَةَ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ قَرِيباً مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْ أصحَابِنَا أطْلَقُوا الْقَوْلَ بتأْخِيرِ الصَّلاَتَيْنِ إلى المُزْدَلِفَةِ (¬1). وقالَ جَمَاعَة يُؤخّرُهُمَا ما لم يَخْش فَوْتَ وَقْتِ الاختيار للعِشاء وهو ثلث الليل على القول الأصح وعلى قول نِصْفُ اللَّيلِ فإنْ خَافَهُ لَمْ يُؤَخرْ بَلْ يَجْمَعُ بالنَّاسِ في الطَّرِيقِ وإذا وَصَلَ المُزْدَلِفَةَ (¬2) فَقَدْ اسْتَحَب الشافِعِي رحمَهُ اللهُ تعَالَى أنْ يُصَلِّي (¬3) قَبْلَ حَط رَحْلِهِ ولا يُنيخُ الجمَالَ ويَعْقِلُهَا حتَى يُصَلّي لأنَّهُ ثَبَتَ في الصَّحيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أسامَةَ بْنِ زَيْدِ رضي الله عنهما أنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلوا المغرب والعشاء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَمْ يَحُطُّوا رحالَهُمْ حتَّى صَلَّوْا العشاءَ (¬4) وَالله تعالى أعلمُ، ثُم إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يكُونَ عَلى ¬

_ (¬1) أي لخبر الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أنه - صلى الله عليه وسلم - دفع من عرفة حتى إذا كان بالشعب الأيسر نزل فبال ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك. فركب. فلما جاء إلى مزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً)، ومعنى لم يُسْبغ الوضوء أي لم يكمله، بأن لم يثلثه. (¬2) يقول دعاء المزدلفة وهو: (اللهم أني أسالك أن ترزقني جوامع الخير كله، وأن تصرف عني الشر كله، لا يفعل ذلك ولا يجود به إلا أنت). (¬3) أي المغرب لما تقدم في حديث أسامة: فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها. وفي أخرى له أيضاً أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة فتستثنى هذه من ندب الموالاة بين الصلاتين في جمع التأخير كما في الحاشية. (¬4) لما في رواية مسلم: (فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصتى ثم حلوا).

الأَصَحِّ بِأَذانٍ وبإقامتيْنِ لَهُمَا (¬1) ولَوْ تَرَكَ الْجَمْعَ وَصَلى كُل واحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا أوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ أوْ جَمَعَ وَحْدَهُ لاَ مَعَ الإمَامِ أو صَلى إِحْدَاهُمَا مَعَ الإِمَامِ وَالأُخْرَى وَحْدَه جَامِعاً جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَة (¬2). (فَرْع): فَإذَا وَصَلُوا مُزْدَلفَةَ بَاتُوا وَهَذَا المبِيتُ نُسُك وَهَلْ هُوَ وَاجِب أمْ سُنَّة؟ (¬3) قولانِ للشافعي رحمهُ الله تعالى، فإنْ دفع بعد نِصْفِ اللَّيْلِ بِعُذْرٍ أوْ لغَيْرِهِ أوْ دَفَعَ قبل نصْفِ اللَّيْلِ وَعادَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وإنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ مِنْ أصْلِهِ أوْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَمْ يَعُدْ أوْ لَمْ يَدْخُلْ مُزْدَلِفَةَ أصْلاً صَحَّ حَجُّهُ وَأرَاقَ دَماً فإنْ قُلْنَ الْمَبيتُ وَاجِحب كَانَ الدَّمُ وَاجِباً وَإنْ قُلْنَا سُنَّة كَانَ الدَّمُ سُنَّةً وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ (¬4) مُزْدَلِفَةَ فِي النصفِ الأَولِ أصْلاً وَحَضَرَهَا ¬

_ (¬1) هو المذهب الثابت في حديث مسلم، وقدم على رواية إقامتين فقط، ورواية إقامة واحدة، ورواية أذان وإقامة، لأن راويه أثبتَ ما لم يُثْبته غيره فوجب الأخذ بما حفظه ونسيه غيره. وبهذا المذهب أخذ الإمام أحمد، وبرواية أذان واحد وإقامة واحدة أخذ الإمام أبو حنيفة، وبرواية أذانين وإقامتين أخذ الإمام مالك رحمهم الله جميعاً ورحمنا معهم آمين. (¬2) قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على جواز الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء للمسافر، فلو جمع بينهما في وقت المغرب أو في غير المزدلفة جاز -هذا مذهبنا- وبه قال عطاء، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسعيد بن جبير، ومالك، وأحمد، وإسحق، وأبو يوسف، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة، ومحمد وداود، وبعض أصحاب مالك لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة، ولا قبل وقت العشاء، والخلاف مبني على أن جمعهم بالنسك أم بالسفر. فعندنا بالسفر، وعند أبي حنيفة بالنسك. (¬3) المعتمد كما يأتي للمصنف وصححه في الروضة أنه إلا واجب لعذر. (¬4) يفهم من هذا أنه لو دفع من مزدلفة قبل النصف لعذر أو لغيره وعاد قبل الفجر لم يلزمه شيء وهو كذلك.

سَاعَة (¬1) فِي النصفِ الثانِي مِنَ الليْلِ حَصَلَ المبيتُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَحَمهُ الله تعالى فِي الأم. وَخَفِيَ هَذَا النَّص عَلَى بَعْضِ أصْحَابنَا فَقَالُوا خِلاَفَهُ (¬2) وَلَيْسَ بِمَقْبُول مِنْهُمْ ويَحْصُلُ هذَا المبيتُ بالحُضُورِ في أَي بقعة مِنْ مُزْدَلفة (¬3) وَقَدْ سَبق تحْدِيدُهَا، وَيُسْتَحَب أن يَبْقَى بِمُزْدَلِفَةَ حَتى يَطْلُعَ بها الفجْرُ ويُصَلّي وَيقِف عَلَى قُزَحِ كَمَا سَنَذكُرُه إنْ شاءَ اللهُ تعالَى فَيَكُونُ بمُزْدَلِفَةَ إِلَى قُبَيل طُلُوعِ الشَّمسِ (¬4) ويتأكَدُ الاعْتِنَاءُ بِهَذَا المَبِيتِ سَواءٌ قلنا وَاجِبٌ أمْ سُنَّةٌ، فَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ذهبَ إمَامَانِ جَلِيلاَنِ من أصْحَابِنَا إلى أن هذَا الْمَبِيت رُكْنٌ لا يصح الحج إلاَّ ¬

_ (¬1) المراد بالساعة مطلق الزمن فلا ينافي تعبير غيره باللحظة. (¬2) أي منهم مَنْ قال تكفي ساعة بعد النصف إلى طلوع الشمس ومنهم مَنْ قال يجب الحضور حال الفجر، ومنهم مَن قال يجب المعظم وكل ذلك ضعيف أو شاذ. (¬3) أي بعد نصف الليل وإنْ لم يحط رحله. قال في الحاشية: وهو كذلك. بل قال السبكي رحمه الله تعالى: يجزىء المرور كما في عرفات، وعليه يدل كلام المصنف وغيره. اهـ. أقول: عند الإمام مالك لا يكفي المرور بل لا بد من النزول، ويدفع متى شاء وإلا فعليه دم. قال في الحاشية: وإنما وجب في مبيت منى معظم الليل لأن الوارد ثم الأمر بالمبيت وهو لا يحصل إلا بذلك بخلاف هنا، وأيضاً فصنعه - صلى الله عليه وسلم - يدل لذلك فإنهم لا يصلونها عادة إلا بعد نحو ربع الليل، ومع ذلك فقد قدم الضعفة بعد نصفه، فدل على عدم وجوب المعظم، ومن ثم قال في المجموع: اتفق أصحابنا على أنه لو دفع منها بعد النصف أجزأه ولا دم. اهـ. أقول: هو قول للإمام أحمد رحمه الله تعالى. (¬4) هذا كمال السنة في المبيت بمزدلفة لحديث جابر رضي الله عنه الطويل، وفيه: (أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أتى المزدلفة صلى المغرب والعشاء ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع قبل طلوع الشمس).

بِهِ، قَالَهُ أبو عَبْدِ الرَّحْمن ابنُ بنتِ الشَّافِعِي وأبُو بكر محمَّدُ بن إسحقَ بن خُزَيْمَةَ (¬1) فَيَنْبَغِي أنْ يَحْرِصَ عَلَى الْمَبِيتِ للْخُروجِ مِنَ الْخِلاَفِ. (فرعٌ): وَيُسْتَحَبُّ أنْ يَغْتَسِلَ فِي مُزْدَلِفَة بالليْلِ (¬2) للْوُقُوفِ بالْمَشْعَرِ الحَرَامِ ولِلْعِيدِ وَلِما فيها مِنَ الاجْتِمَاع، وَقَدْ سَبَقَ أنَّ مَنْ لم يجِدْ ماء تَيَممَ وَهذِهِ اللَّيْلَةُ وَهِيَ ليلةُ العِيدِ عظيمة لَيْلَةٌ جَامِعَة لأَنْوَاع مِنَ الفَضْل مِنْهَا شَرَفُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فإِنَّ الْمُزْدَلِفَةَ مِنَ الْحَرَم كَمَا سَبقَ وَانْضَمَّ إلى هذَا جَلاَلَةُ أهْلِ الْجَمْعِ الحَاضرينَ بِهَا وَهُمْ وَفْدُ الله وخيرُ عبادهِ وَمَنْ لاَ يُشْقَى بِهِمْ جَليسُهُمْ، فَيَنْبَغِي أن يَعْتَنِيَ الحَاضِرُ بها بإحْيائِهَا (¬3) بِالْعِبَادة مِنَ ¬

_ (¬1) قد سبقهما بهذا القول خمسة من أئمة التابعين: علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري رحمهم الله. واحتج لهم بما مَرّ في حديث جابر المار قريباً، وعند الإمام أبي حنيفة إذا لم يكن بالمزدلفة بعد طلوع الفجر لزمه دم إلا لعذر من ضعف أو غيره فإن كان بها أجزأه، وإن لم يكن قبله، وهو ظاهر ما نقله البغوي عن مالك وأحمد، وفي قول لأحمد كالشافعي كما تقدم: يجوز الدفع بعد نصف الليل لعذر أولاً، لقول ابن عباس رضي الله عنهما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الثقل أو في الضعفة من جمع بليل، وابن عباس لم يكن من الضعفة. وعن أم حبيبة رضط الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بها من جمع بليل. (¬2) أي بعد نصفه إذ به يدخل وقت الغسل كما في المجموع، والأفضل بعد صلاة الصبح. (¬3) قال في الحاشية وهو لا يحصل إلا بمعظم الليل وإنما يُسَن له ذلك لأنها ليلة عيد. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا ليلتي العيد أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب" وإنكار العز ابن جماعة كابن الصلاح لسنة إحيائها لمشقته الشديدة على الحاج لكثرة أعماله قبلها وبعدها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصح عنه فيه شيء لاضطجاعه عقب صلاته جمعاً إلى الفجر، مردود بما مَرّ من الترغيب الشامل لهذه الليلة، ومَنْ قال يُحْمَل على ما عداها يحتاج لسند، وبأنه لا يلزم من اضطجاعه - صلى الله عليه وسلم - عدم الإحياء لحصوله بالذكر والتفكر، ويؤيد ذلك =

الصَّلاَةِ (¬1) والتلاوَةِ والذكْرِ والدُّعَاءِ (¬2) والتضَرع. وَيَتَأَهَّبُ بَعْدَ نِصْف الليْلِ ويَأْخُذُ مِنَ الْمُزْدَلِفَة (¬3) حَصَى الجِمَار لجَمْرَة العقَبة يَوْم النَّحْرِ وَهِيَ سَبْعُ حَصِيَّاتٍ والاحتياطُ أَنْ يزيدَ فَرُبما سَقَطَ مِنْهَا شيء. ¬

_ = ما أخرجه ابن الجوزي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة: ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة الفطر" ففي ذكر الثالثة عقب الأولتين إشعار بندب إحيائها للحاج أيضاً. اهـ. (¬1) أي الرواتب أما النوافل المطلقة فلا تسن في هذه الليلة. (¬2) دعاء المشعر الحرام. (اللهم إنك قلت وقولك الحق {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك وشكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا. اللهم لك الحمد كله والشكر كله ولك الجلال كله ولك الخلق كله ولك الأمر كله. اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ما سلف من ذنوبنا وأن تعصمنا فيما بقي من أعمارنا وأن ترزقنا أعمالاً صالحة ترضاها وترضى بها عنا، فإن الخير كله بيدك وأنت ذو الفضل العظيم، وأنت بنا رؤوف رحيم. اللهم أبلغ عنا سيدنا محمداً التحية والسلام وأدخلنا دار السلام يا ذا الجلال والإكرام آمين). (¬3) أي لخبر بذلك رواه أبو حفص الملاَّ عن أبان بن صالح: أخذ حصى جمرة العقبة من المزدلفة، ويعضده ما صح من قوله - صلى الله عليه وسلم - للفضل بن عباس غداة النحر: "التقط لي حصى" والغداة: لغة ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وهو - صلى الله عليه وسلم - حينئذ كان بمزدلفة فيكون أمره بالالتقاط منها والأمر به من وادي محسر لمن لم يأخذه من المزدلفة، قال في الحاشية: وقول ابن حزم: إنه رمى جمرة العقبة بحصى التقطها له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من موقفه الذي رمى فيه مردود، ومن ثَم روى البيهقي ذلك عن عبد الله عن أخيه الفضل وليس فيه التقطها من موقفه الذي رمى فيه على أنه يمكن الجمع بأنه يحتمل أنّ الفضل سقط منه شيء مما التقطه من مزدلفة فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالتقاط بدله من موقفه أي محل وقوفه، وهو بطن الوادي لا من المرمى. اهـ.

وَقَالَ بَعْضُ أصْحَابِنَا يأْخُذُ مِنْها حَصَى جِمَار أيامِ التَّشْرِيقِ أَيْضاً وَهِيَ ثَلاَثٌ وستونَ حَصَاة (¬1) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الأوْلَى: أنْ يأَخْذَ حَصَى جِمَارِ أيامِ التشْرِيقِ مِنْ غَيْرِ الْمُزْدَلِفَةِ وَكِلاهُمَا قَدْ نُقل عَنِ الشَّافِعِي رحِمَهُ الله تَعَالى لكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى هذَا. الثانِي: وَيُسْتَحَبُّ أنْ يَكُونَ أَخْذُهُ لِلْحصى بِالليْلِ كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ يَأْخُذُهُ بَعْدَ الصُّبْحِ (¬2) والمُخْتَارُ الأوَّلُ (¬3) لِئَلاّ يَشْتَغِلَ بهِ عَنْ وَظَائِفِهِ بَعْدَ الصبْحِ وَيَكُونُ الْحَصَى صِغَاراً وَقَدْرُهُ قَدْرُ حَصَى الخذفِ (¬4) لاَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَلاَ أَصْغَرَ وهي دون أنمُلةٍ نحو حَبَّةِ البَاقِلاَّ (¬5) وَقِيلَ نَحْوَ النوَاةِ وَيُكْرَهُ أنْ يَكُونَ أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ كَسْرُ الْحِجَارَةِ (¬6) لَهُ إلا لِعُذْرٍ بَلْ يَلْتَقِطُ صِغَاراً وَقَدْ وَرَدَ نَهْيٌ عَنْ ¬

_ (¬1) أي فيكون المجموع سبعين حصاة. (¬2) محل الخلاف فيما يريد المبيت بمزدلفة إلى الصبح، وأما من أراد الدفع ليلاً بعد النصف فيأخذ منها ليلاً. (¬3) هو استحباب أخذ الحصى بالليل، وعَبر عنه في المجموع بالمذهب، وهو المعتمد كما في الحاشية، قال فيها: لكن صَوّب الإسنوي رحمه الله تعالى الثاني المحكى بقيل [وهو أخذ الحصى بعد صلاة الصبح] لقوله - صلى الله عليه وسلم - للفضل رضي الله عنه غداة النحر: "التقط لي حصى" قال فالتقطت له حصيات مثل حصى الخذف. قال في الحاشية: والحديث ظاهر فيما قاله الإسنوي وتأويله بما يخالف ذلك بعيد جداً. (¬4) الخذف: بالخاء والذال المعجمتين: الرمي بنحو حصاة بين السبابتين يخذف بها. قال في "مفيد الأنام": وليس المراد أن رمي الجمار يكون على هيئة الخذف، ولكن المراد أن حصاة الجمار بقَدر حصاة الخذف. (¬5) أي الفول. (¬6) قال في المجموع: قال الماوردي: واختار قوم كسرها. اهـ.

كَسْرِها ههُنَا وَهُوَ أَيْضاً يفضِي (¬1) إِلَى الأَذَى وَمِنْ أي مَوضِعِ أَخَذها جازَ لَكِنْ يكرهُ (¬2) مِنَ الْمَسْجِدِ وَمِنَ الحُش (¬3) وَمِنَ الْمواضعِ النَّجِسَةِ وَمِنَ الْجَمَرَاتِ الَّتي رَمَاها هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابن عَبّاسِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: ما تُقبل مِنْهَا رُفع وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ تُرِكَ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَسَدَّ مَا بَيْنَ الجبلين. وَزَادَ بَعْضُ أصحابنَا فَكرِهِ أَخْذُها مِنْ جَمِيعِ مِنى (¬4) لانْتِشَارِ مَا رُمِيَ فيها وَلَمْ يُتَقَبَّلْ وَلَوْ رَمَى بِكُل مَا كَرِهْنَاهُ لَهُ جَازَ قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى: وَلاَ أكْرَهُ غَسْلَ حَصَى الجمارِ (¬5) بَلْ لَمْ أزَلْ أعْمَلُهُ وَأُحِبه فإذا طَلَعَ الْفَجْر بادرَ الإِمام والناسُ بِصَلاَةِ الصُّبْحِ في أوَّلِ وَقْتِهَا قَالَ أصْحَابُنَا: والمُبَالَغَةُ فِي التبْكِيرِ بِهَا فِي هذَا الْيَوْمِ آكَدُ مِنْ بَاقِي الأَيامِ اقتداء بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وليتسع الْوَقْتُ ¬

_ (¬1) أي يوصل كسر الحجارة إلى الأذى، وهو وقوع شيء من شظاياها إلى وجه كاسرها. (¬2) أي أخذ الحصى من المسجد، أي إذا لم يكن من أجزائه بأنْ فرشه أحدٌ به من غير وقف، وعلم منه الرضا بالأخذ وإلا حرم والله أعلم. (¬3) الحُشُّ بحاء مهملة مفتوحة، قال ابن العماد: أو مضمومة أو مكسورة فمعجمة هو المرحاض، وأصله البستان، فأطلق على ذلك لأن العرب كانت تقضي الحاجة في البساتين. اهـ حاشية. (¬4) هذا إنْ تحقق الانتشار فيكون كالأخذ من المرمى وإلا فلا كراهة. (¬5) لأنه روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه غسله، كما في المغني. قال في المجموع: قال ابن المنذر: لا يعلم في شيء من الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسلها أو أمر بغسلها. قال: ولا معنى لغسلها. قال: وكان عطاء والثوري ومالك وكثير من أهل العلم لا يرون غسلها. قال: ورَوَيْنَا عن طاوس أنه كان يغسلها. اهـ أقول: وعن الإمام أحمد استحباب غسلها وعدمه وهو الصحيح كما في المغني، وعند الحنفية كما أخبرني الشيخ محمد أمين مرداد الحنفي استحباب غسل الحصى والله أعلم.

الفصل السادس في الدفع إلى منى

لِوَظَائِفِ المَنَاسِكِ فإنَّهَا كَثِيرَة فِي هذَا الْيَوْمِ فَلَيْسَ فِي أيامِ الْحج أكثرُ عَمَلاً مِنْهُ (¬1) والله تعالى أعْلَمُ. الفصل السادس في الدفع إلى منى السُّنةُ أنْ يقَدمَ الضَّعفةَ مِنَ النّساءِ (¬2) وَغَيْرِهِن قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى منى لَيرْمُوا جَمْرةَ العَقبة قبل زَحْمةِ الناسِ ويكون تقْديمُهم بعدَ نصفِ اللَّيْل (¬3) وأمَّا غَيْرهُم فيَمْكُثُونَ حَتَّى يُصلوا الصُّبْحَ بِمُزْدَلِفَة (¬4) كَمَا سَبقَ، فإذَا صَلوهَا دَفَعُوا مُتَوجّهِينَ إِلَى منىً فَإذَا وَصَلُوا قُزَحَ بضم القاف وفتح الزاي وهو آخر المُزْدَلفة وهو جبل صغيرٌ وهُوَ الْمَشْعَرُ (¬5) الحَرامُ صَعِدَهُ إنْ أمكَنَهُ وَإِلاَّ وَقَفَ عِنْدَهُ أوْ ¬

_ (¬1) أقول: ولذا سمي يوم النحر يوم الحج الأكبر والله أعلم. (¬2) أي بشرط أن يكون معهن محرم. (¬3) أي لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل خطمة الناس وكانت امرأة ثبطة (فأذن لها) رواه الشيخان ولما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أذن لضعفة الناس أن يدفعوا من المزدلفة بليل). أخرجه أحمد. وفي الموضوع أحاديث صحيحة سوى ما ذكر والله أعلم. (¬4) أي خروجاً من خلاف مَنْ أوجب صلاة الصبح بمزدلفة. (¬5) قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: المشْعَر الحرام المذكور في القرآن الكريم الذي يؤمر بالوقوف عليه هو قزح جبل معروف بالمزدلفة. هذا مذهبنا. وقال جمهور المفسرين وأصحاب الحديث والسير: المشعر الحرام جميع المزدلفة. أقول كما في الحاشية: ويدل للأول وهو مذهب الشافعية والفقهاء ما صح عن علي رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - لَما أصبح بجمع أتى قزح فوقف عليه، وقال: هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف. ويوافقه ما في حديث مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - لَما صلى الصبح بمزدلفة ركب ناقته القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، ودعا الله وهلله وكبره، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر أن قزح هو المشعر =

تَحْتَهُ وَيقِفُ مُسْتَقبِل الكعبة فَيَدْعُو وَيَحْمَدُ الله تَعَالَى ويُكَبِّرُهُ ويهلله ويُوحِّدُهُ ويكثر مِنَ التَّلبيةِ واسْتَحَبوا أنْ يقُولَ: اللَّهُمَّ كَمَا أوقَفْتَنَا فِيهِ وَأرَيْتَنَا إيّاه فَوَفّقْنَا لذكركَ كَمَا هَدَيْتَنَا واغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة: 198 - 199]. ويُكثِرُ من قَوْلهِ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار (¬1) وَيَدْعُو بِمَا أحَبَّ وَيَخْتَارُ الدَّعَوَاتِ الجامِعَةِ وَبِالأُمُورِ المُهمة ويكرّر دَعَوَاتِهِ وَقَدْ اسْتَبْدَلَ النَّاسُ بالوُقُوفِ عَلَى جَبَل قُزَح الْوُقُوفَ على بِنَاءٍ مُسْتَحْدَث في وَسَطَ المُزْدَلِفَةِ (¬2) ثم قِيَل: لا يحصلُ أصْلُ هذِهِ السنةِ بِذَلِكَ ¬

_ = الحرام لا يؤثر لأن فعله صريح في ذلك وإلا لم يكن لارتحاله من محله إليه فائدة، ومن ثم جزم علي وجابر رضي الله عنهما في حديثيهما المذكورين بأنه المشعر، وبذلك يُعْلم أن إطلاقه في كلام كثيرين على المزدلفة مجاز (من باب تسمية الكل باسم البعض) أو محمول على أن أصل سنة الوقوف عنده يحصل بالوقوف في أي محل كان منها. وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ولم يقل في المشعر قرينة ظاهرة على أنه بعضها لا كلها، وكون (عند) بمعنى (في) خلاف الظاهر والله أعلم. اهـ. (¬1) ويتم دعاء المشعر الحرام بقوله (اللهم) لك الحمد كله، والشكر كله ولك الجلال كله، ولك الخلق كله، ولك الأمر كله. (اللهم) إنا نسألك أن تغفر لنا ما سلف من ذنوبنا وأن تعصمنا فيما بقي من أعمارنا، وأن ترزقنا أعمالاً صالحة ترضاها وترضى بها عنا فإن الخير كله بيدك وأنت ذو الفضل العظيم، وأنت بنا رؤوف رحيم. (اللهم) أبلغ عنا سيدنا محمداً التحية والسلام، وأدخلنا دار السلام، يا ذا الجلال والإكرام، آمين. (¬2) قال السيد محب الدين الطبري المكي في كتابه (القرى لقاصد أم القرى) قال الجوهري - رحم الله الجميع: قزح اسم جبل بالمزدلفة، قلت: وقد بُني عليه بناء ثم قال: وقد ذكر ابن الصلاح في منسكه أن قزح جبل صغير في آخر المزدلفة ثم قال: بعد ذلك: =

والأَظهرُ أَنهُ يحصُل أصْلُ السُنة (¬1) لَكِنْ الأَفْضَلُ ما ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ جَزَمَ بِهَذَا الإِمَامِ ¬

_ = استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة، ولا تتأدى به هذه السنة، والله المستعان. هذا آخر كلامه والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدم ذكره ولم أرَ ما ذكره لغيره. اهـ. قال في عمدة الأبرار: (والأفضل وقوفهم عند قزح وهو جبل في المزدلفة عليه البناء الموجود الآن يسمى المشعر الحرام). اهـ. قال في الدر المختار للحنفية كما في مفيد الأنام: وينزل عند جبل قزح. والأصح أنه المشعر الحرام، وعليه ميقدة. انتهى. الميقدة المذكورة قد ذكرها الأزرقي فقال: هي أسطوانة من حجارة مدورة تدويرها أربعة وعشرون ذراعاً وطولها إثنا عشر ذراعاً، وفيها خمس وعشرون درجة وهي على أكمة مرتفعة كان يوقد عليها في خلافة هرون الرشيد الشمع ليلة مزدلفة، وكانت قبل ذلك يوقد عليها النار بالحطب، وبعد وفاة هرون الرشيد رحمه الله وضعت عليها مصابيح. قال: وبين مسجد مزدلفة وبين قزح أربعمائة ذراع وعشرة أذرع، انتهى كلام الأزرقي ملخصاً. قلت: -القائل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر صاحب مفيد الأنام ونور الظلام رحم الله الجميع- المشاهد في زماننا هذا هو أن المشعر الحرام المسمى قزح في نفس مسجد مزدلفة. وقزح جبل صغير جداً عليه الآن منارة تجعل فيها تلك الليلة السرج بالكهرباء. اهـ ملخصاً. أقول: ظهر لي في جميع ما تقدم أن مسجد مزدلفة كان في زمن العلامة الأزرقي رحمه الله تعالى بعيداً عن قزح بالمسافة التي ذكرها وأنه بعدُ بني على الشكل الذي كان عليه قبل عام 1397 هـ. وأدخل قزح فيه وأصبحت عليه المنارة التي تجعل عليها الكهرباء أخيراً، وفي عام 1397 هـ. جَددت حكومتنا السعودية في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود هذا المسجد وجَعلت له مِئْذَنَتْين، وأصبح مكان المئذنة القديمة التي على جبل قزح على ما ذكره الشيخ عبد الله بن جاسر يمين المحراب إذا استقبلت القبلة. وقولهم: المشعر الحرام: أي لما فيه من الشعائر - أي معالم الدين وحرم انتهاكه جاهلية وإسلاماً، وهو موقف قريش في الجاهلية إذ كانت لا تقف بعرفة والله أعلم. (¬1) أقرّ المصنف في المجموع حصول أصل السنة بالمرور أي في النصف الثاني من ليلة النحر وإن لم يقف. وقد تقدم عن السبكي كما في الحاشية إجزاء المرور أي في النصف الثاني كما في عرفات.

أبُو القَاسِمِ الرَّافِعِي فَقَالَ: لَوْ وَقَفُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرٍ (¬1) مِنَ المُزْدَلِفَةِ حَصَلَ أصْلُ هذه السُّنة. وَقَدْ ثَبَتَ في صحيح مُسْلِمٍ عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: جَمْع كُلهَا مَوْقِفٌ، وَهذَا نَص صَرِيح لأن جَمْعاً اسْمٌ للْمُزْدَلِفَةِ كُلها بلاَ خِلاَف وَلَوْ فَاتَتْ هذه السُّنَّةُ (¬2) مِنْ أصْلِهَا لَمْ تُجْبَرْ بِدَم فإِذَا أَسْفَرَ الصبْحُ (¬3) دَفَعَ مِنَ المشعرِ الحَرَامِ خَارِجَاً مِنَ المُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ (¬4) مُتَوَجهاً إِلى مِنى وَعَلَيْهِ السَّكِينة (¬5) وَالوَقَارُ شِعَارُهُ التلْبِيةُ وَالذّكْرُ، وإنْ وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ فَإذَا بَلَغَ وَادِي مُحسر وَقَدْ تَقَدّم ضَبْطُهُ وَبيانُهُ أسْرَعَ (¬6) أوْ حَرّكَ دابّتَهُ (¬7) قَدرَ رَمْتةِ حَجَرٍ حَتّى ¬

_ (¬1) أي غير قزح. (¬2) أي التي هي الوقوف على قزح من أصلها بأن لم يقف عليه ولا عنده، وسميت المزدلفة جمعاً لاجتماع الناس فيها، أو آدم وحواء أو لجمع الصلاتين بها. أقوال اقتصر على أولها في المجموع. وبالمزدلفة لأنهم يقربون منها إلى منى، والإزدلاف الاقتراب، وقيل لاجتماع الناس بها والاجتماع الإزدلاف، وقيل: لأنهم يجيئون إليها في زلف من الليل أي ساعات منه. اهـ حاشية. (¬3) أي جداً بحيث تتفاسر الوجوه لحديث جابر مرفوعاً: (لم يزل واقفاً عند المشعر حتى أسفر جداً). (¬4) لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس) رواه البخاري. (¬5) لقول ابن عباس رضي الله عنهما ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - لفضل بن عباس رضي الله عنهما وقال: (يا أيها الناس إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل فعليكم السكينة). (¬6) أي إن كان ماشياً. (¬7) إن كان راكباً وهذا الإسراع للذكر ذهاباً كما تقدم وإياباً لقول جابر رضي الله عنه وعن الصحب أجمعين (حتى أتى محسراً فحرك قليلاً) يعنيه - صلى الله عليه وسلم -. أقول -كما في =

يقْطَعَ عَرْضَ الوَادِي (¬1) ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ سَائِراً إِلى مِنى سَالِكاً الطَّرِيقَ الْوُسْطَى ¬

_ = الحاشية- ولا ينافيه قول الشافعي في الإملاء: (لا أستحب الإسراع لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) لأن ذلك قبل أن يبلغه الحديث فلما بلغه الحديث نص عليه رحمه الله في الأم، ومن ثم قال في المجموع إن ندبه متفق عليه، والحكمة في الإسراع في وادي محسر -كما في المجموع- أن النصارى كانت تقف هناك، فنسرع نحن مخالفة لهم. وَعَبر الغزالي رحمه الله بالعرب بدل النصارى. قال في الحاشية: ولا مانع أن كلاً كان يقف ثَم أو مراده بالعرب العرب من النصارى. وقيل ومشى عليه المصنف فيما مَرَّ - لأنه محل هلاك أهل الفيل. وبحثه الإسنوي لعدم روايته منقولاً، ثم قال هو كديار ثمود إذ يُسن لمن مَرّ بها الإسراع ويؤيد الأول قول عمر وابنه رضي الله عنهما عند إسراعهما فيه: - إليك تعدو قلقاً وضينها ... معترضاً في بطنها جنينها مخالفاً دين النصارى دينها ... قد ذهب الشحم الذي يزينها قال القاضي حسين فيندب التأسي بهما في ذلك، واعترض الثاني بأن نزول العذاب على أصحاب الفيل إنما كان بمحل محاذ لعرفة يدعى المغمَس بفتح الميم الثانية، وقد تكسر. بل المعروف أن الفيل المذكور لم يدخل الحرم أصلاً كما مر عن ابن الأثير. اهـ. قال في مفيد الأنام: قائل هذه الأبيات أبو علقمة أخو أسقف نجران لأمه وابن عمه لمّا توجه يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوضين: بطان عريض منسوج من سيور أو شعْر أو لا يكون إلا مِنْ جلد كما في القاموس. والقلق: الانزعاج والمعنى كما في مغني المحتاج للعلامة الخطيب الشربيني رحمه الله: إن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقاً وضينها (بطانها وحزامها) من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك. والمراد صاحب الناقة. (¬1) أي وادي محسر. قال في المجموع: قال الأزرقي رحم الله الجميع-: وادي محسر خمسمائة ذراع وخمس وأربعون ذراعاً. اهـ. أقول: يظهر من قول الأزرقي السابق في ذرع عرض محسر، ومن رواية الموطأ المقيدة للقدْر الذي ذكره المصنف وهي قوله: (عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحرك راحلته قَدْر رمية حجر حتى يقطع عرض الوادي. ومن رواية الترمذي الدالة على الإطلاق وهي قوله: عن علي رضي الله عنه: (ثم =

الفصل السابع في الأعمال المشروعة بمنى يوم النحر

الَّتِي تَخْرُجُ إلى الْعَقَبَة (¬1) وليسَ وادي مُحَسرٍ مِنَ المُزدَلفةِ وَلاَ مِنْ مِنى بَلْ هُوَ مَسِيلُ مَا بَيْنَهُمَا فإِذَا وَصَلَ إِلَى مِنى بَدَأ بجمرة العَقبةِ. الفصلُ السابعُ في الأعمالِ المشروعةِ بِمنى يَوْم النَّحْرِ اعْلَمْ أَن حَدَّ مِنىً مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسرٍ وَجمرةِ العَقَبةِ (¬2) وَمنى شِعْبٌ طُولُهُ ¬

_ = أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فَخَبتْ حتى جاوز الوادي) أن عرض وادي محسر ضيق في جهة ومتسع في أخرى، وحديث علي هذا قال فيه الترمذي حسن صحيح، كما أن المصنف أثبت تصحيحه، وذكره بكامله في مجموعه. (¬1) أي ندباً إن أمكن من غير إيذاء أو تأذي لما في حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام (ثم سلك الطريق التي تخرج إلى الجمرة الكبرى) رواه مسلم. دعاء منى الحمد لله الذي بلغنيها سالماً معافىً، (اللهم) هذه منى أتيتها وأنا عبدك وفي قبضتك، أسألك أن تمن علي بما مننت به على أوليائك وأهل طاعتك، (اللهم) أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين، (اللهم) صلِّ على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وأمته وسلم آمين. (¬2) هذا هو المعتمد وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى كما في الحاشية (حَدُّ مِنَى ما بين قرني وادي محسر إلى العقبة والتي عندها) أي بلصقها الجمرة الدنيا إلى مكة هي جمرة العقبة، وليس محسر ولا العقبة من منى. اهـ. أقول: قول المحشي رحمه الله تعالى أي بلصقها إلخ، هذا باعتبار ما كان قبل إزالة العقبة بتمامها في عهد الحكومة السعودية عام 1376 ثم جَعَلَتْ موضع جميع الجمار الثلاث تحت جسر تسير فوقه السيارات طلباً لراحة الحجاج عند رميهم الجمار. نسأله تعالى أنْ يوفقها لما فيه خير العباد والبلاد آمين.

نحْو مِيلَيْنِ (¬1) وَعَرْضُهُ يَسِير (¬2) والجبالُ الْمُحِيطةُ بِهِ مَا أَقْبَلَ مِنْهَا عَلَيْه فَهُو مِنْ مِنى، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهَا فَلَيْسَ مِن مِنى وَمَسْجِدُ الخَيْف عَلَى أَقل مِنْ مِيلٍ ممَّا يَلِي مَكَّة وَجَمْرَةُ الْعَقَبة فِي آخِرِ مِنى (¬3) مما يَلِي مَكَّةَ وَلَيْسَتِ الْعَقَبةُ الَتي تُنْسَبُ إِلَيْهَا الْجَمرةُ مِنْ مِنى وهي الجَمْرَةُ الَتي بَايَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الأَنصَارَ عِنْدها قَبْلَ الهِجرَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الأزرقي رحمه الله كما في الحاشية قال: ذرع منى ذرع ما بين جمرة العقبة ومحسر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع. اهـ. فظهر من هذا الذرع أن قول المصنف طوله نحو ميلين مراده بالميل فيه الميل الذي هو ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع لا الميل المذكور في صلاة المسافر. قال في التحفة -كما في التقييدات- فليقس من ذراع العقبة ويحد به ثم الظاهر من هذا أنه يعتبر ما سامت أول العقبة المذكورة يميناً إلى الجبل ويساراً إلى الجبل، وحينئذ يخرج من منى كثير يظنه كثر الناس منها. اهـ. أقول: أما الآن فلا وجود للعقبة كما تقدم، فعليه فليقس من الجمرة الكبرى من جهة منى إلى أول محسر والله أعلم. (¬2) أي بالنسبة لطوله وإلا فهو عريض. (¬3) ظاهر هذا أن الجمرة من منى وهو ما اعتمده المحب الطبري في قراه -رحمه الله تعالى- حيث قال: (والعقبة التي تنسب إليها الجمرة منه) أي من شعب منى، والصحيح ما تقدم لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنىً عن يمينه ورمى بسبع، وقال: (هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) متفق عليه. وفي رواية للبخاري قال عبد الرحمن بن يزيد وكان مع ابن مسعود كما في الرواية الأخرى (رمى عبد الله من بطن الوادي) وقال بعضهم إن المراد بقول المصنف وجمرة العقبة في آخر منىً أي قرب آخرها وإن المراد الآخر في الظاهر لا الحقيقة فراراً من مناقضته لقوله أول الفصل: اعلم أن منى ... إلخ وسميت منى بمنى لكثرة ما يراق فيها من دماء الأضاحي. وقيل لأن الله سبحانه وتعالى مَنَّ فيها على عباده بالمغفرة والله أعلم. (¬4) أول بيعة كانت عام 12 اثنى عشر للبعثة أي عام 621 م إحدى وعشرين وستمائة للميلاد. والبيعة الثانية عام 13 للبعثة أي عام 622 م اثني وعشرين وستمائة للميلاد.

وأَمَّا الأَعْمَالُ المشروعةُ يَوْمَ النَّحْرِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحُ الهَدْيِ، ثَُم الْحَلْقُ ثُمَّ الذّهابُ إِلى مَكَّةَ لِطَوَافِ الإِفَاضَةِ وَهِيَ عَلى هَذَا التْرتيبِ مُسْتَحَبةٌ، فَلَوْ خَالَفَ فَقَدَّمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ ويَدْخُلُ وقت الرمْي والحَلْقِ والطوافِ بنصْفِ الليل (¬1) مِنْ ليْلَةِ الْعِيدِ وَيَبْقَى الرَّمْيُ إلى غُروبِ الشَّمْس (¬2) وَقِيلَ يَبْقَى إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ من لَيْلَة أول أيامِ ¬

_ (¬1) أي لمن وقف بعرفة قبله وإلا لم يعتد بما فعله منها وكذا المبيت بمزدلفة. (¬2) قال في الحاشية وما صححه هنا كالروضة من بقاء الرمي للغروب مراده به وقت اختياره وإلا فوقت أدائه لا يفوت إلا بآخر أيام التشريق كما يأتي تحقيقهُ أخذاًً من كلامه وله وقت فضيلة سيأتي. اهـ. أقول: تبين من هذا أن لرمي جمرة العقبة أربعة أوقات. الأول: وقت دخوله بنصف ليلة يوم النحر ويسمى الحج الأكبر لأن معظم أعمال الحج فيه كما تقدم. الثاني: وقت فضيلة ما بين ارتفاع الشمس وزوالها. الثالث: وقت اختيار إلى آخر يومه. الرابع: وقت جوازه إلى آخر أيام التشريق الثلاثة، وبهذا قال أحمد إلا أنه لا يجيز الرمي ليلاً لمن تخلف عن الرمي نهاراً بلْ يرمي من الغد بعد الزوال، والشافعي يجيز الرمي ليلاً ويعده أداء، مستند الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل الذي أخر الرمي إلى المساء "ارم ولا حرج" ولما أخرجه مالك عن نافع رحمهما الله تعالى أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر رضي الله عنهم نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما ابن عمر رضي الله عنهما: (أن ترميا فرمتا، ولم ير عليهما شيئاً). وبقول أحمد قال أبو حنيفة كما في المغني لابن قدامة، لكن قال الشبلي في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي كما في أضواء البيان للعلامة محمد أمين الشنقيطي رحمه الله: ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه لأن الليل تبع اليوم في مثل هذا كما في الوقوف بعرفة فإنْ أخَّره إلى الغد رماها وعليه دم، وقال مالك يرميها ليلاً قضاءً لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره وعليه الهدي.

التَّشْرِيقِ. وأمَّا الحَلْقُ والطَّوَاف فَلاَ آخِرَ لِوَقْتِهِمَا بَلْ يَبْقِيان ما دَامَ حَياً وَلَوْ طَالَ سِنِينَ مُتكاثرةً. وَأمَّا وَقْتُ الاخْتِيَارِ لِهَذه الأَعْمَال فَيَبْدَأُ فِيهِ بجَمْرَةِ الْعَقَبةِ عَلَى تَرْتيبِ الأَفْضَلِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا مَسَائِلُ: الأوْلى: يَنْبَغِي إِذَا وَصَلَ مِنى أن لا يُعَرّجَ عَلَى شَيْء قَبْلَ جَمْرَةِ الْعَقَبة وَتُسَمَّى الْجَمْرَةَ الكُبرَى وهي تَحيةُ منى فلا يبدأ قبلها بشيء وَيَرْمِيَهَا قَبْلَ نُزُولِهِ وَحَط رَحْلِه (¬1) وَهِيَ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ إِذَا وَقَفَ في الجَادَّةِ وَالْمَرْمَى مُرْتَفعٌ قَلِيلاً مِنْ سَفْحِ الْجَبَلِ (¬2). الثانيةُ: السُّنة أن يَرْميهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَارْتفاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ (¬3). الثالثة: الصَّحيحُ المُختارُ في كَيفيه وقُوفه لِيرمِيها أنْ يقفَ تَحْتَهَا في بَطْنِ الوَادي فَيَجْعَلَ مكَّةَ عن يَسَارِهِ وَمِنى عَنْ يَمِينِهِ ويَسْتَقْبِلَ العَقَبَةَ ثُمَّ يَرْمِي وَقِيلَ يقف مُسْتَقْبلَ الجَمْرَةَ مُسْتَدْبر الْكَعْبَة، وَقِيلَ يَسْتَقْبلُ الْكَعْبَةَ وَتكونُ الْجَمْرَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيح (¬4) يَدُلُّ عَلَى الأَوَّلِ تَصْرِيحاً. ¬

_ (¬1) أي إلا لعذر كزحمة وخوف على محترم. (¬2) هذا باعتبار السابق وأما الآن فقد أزيل الجبل والعقبة كما تقدم. (¬3) هذا هو الوقت الثاني من الأربعة المتقدمة. (¬4) هو ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة متفق عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى في المجموع: إنما خص سورة البقرة بالذكر لأن معظم المناسك فيها والله تعالى أعلم. اهـ. وروي عنه أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم -: (استبطن الوادي واستقبل الكعبة وجعل يرميها عن جانبها الأيمن) فجمعاً بين الحديثين حمل الأول كما في الحاشية على رمي يوم النحر والثاني على رمي غيره والله أعلم.

الرابعة: السُّنةُ أنْ يَرْفَعَ يده في رميها حَتَّى يُرى بَيَاضُ إبطه وَلاَ تَرْفَعُ الْمَرْأة (¬1). الخامسةُ: السُّنَّةُ أَنْ يقْطَعَ التّلْبِيَةَ بأَوَّلِ حَصَاة يَرْمِيهَا (¬2) وَيُكَبِّر بَدَلَ التَّلْبِيَةِ (¬3) لأَنَهُ بالرمْيِ يَشْرَعُ في التّحَللِ من الإِحرام، والتلبية شعار الإِحرام فلا يأتي بها مع شروعه في التحلل وَلَوْ قَدمَ الحَلْقَ أوْ الطوَافُ عَلى الرَّميِ قَطَعَ التَّلْبِية بشُروعِهِ في أَوَّلِهِ لأَنَّهُما مِنْ أسْبَابِ التحَللِ، واسْتَحَبَّ بعضُ أصْحَابِنا فِي التكْبِيرِ المشروعِ مَعَ الرمْيِ أَنْ تقُولَ: الله أكْبَرُ الله أكْبَرُ الله أكبر كَبِيراً والحَمْدُ لله كَثِيراً وَسُبْحَانَ الله بُكْرَة وَأصِيلاً، لاَ إِلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْد يحْيي وَيُمِيتُ وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِير، لاَ إِلهَ إِلا الله ولاَ نَعْبُدُ إلا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ. لا إلهَ إِلا الله وَحْدَهُ صدَقَ وَعْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ لاَ إِله إلا الله وَالله أكْبَر (¬4). ¬

_ (¬1) أي والخنثى، ويُسَن كون الرمي باليد اليمنى إن سهل، وإلا فباليسرى. (¬2) قال في الحاشية: الباء بمعنى (مع)، ولا ينافيه خبر أنه - صلى الله عليه وسلم - (لبى حين رمى جمرة العقبة) لأنه وإن كان محفوظاً كما قاله البخاري إلا أن غيره كرواية مسلم (لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة) أصح منه فقدم عليه. اهـ. أقول: قد تقدم في باب آداب الإحرام أن أول وقت التلبية هو وقت انعقاد الإِحرام وآخر وقتها عند الشافعية والحنفية وجمهور العلماء رحم الله تعالى الجميع والمسلمين ورحمنا معهم رمى أول حصاة من جمرة العقبة كما ذكره المصنف في مجموعه. وقال أحمد يلبى حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة، وقال مالك: بقطعها قبل الوقوف بعرفات. اهـ. (¬3) أي لما روى مسلم عن جابر رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى الجمرة يعني يوم النحر فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف وهي من بطن الوادي ثم انصرف). (¬4) قال المصنف في مجموعه: وهذا الذي ذكره هذا القائل غريب في كتب =

السادسةُ: أنْ يَرْمِيَ رَاكِباً هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. السابعةُ: تَقَدَّمَ أنهُ يُسْتَحَب أنْ يَكُونَ الحَجَرُ مِثْلَ حَصَى الْخَذْف لاَ أكْبَرَ وَلاَ أصْغَر. وَذَكَرَ بَعْض أصْحَابِنَا (¬1) أنهُ يُسْتَحَبُّ أنْ يَكُونَ كَيفِيةُ رَمْيهِ كَرَمْيِ الْخَاذفِ وَيَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى بَطْنِ أصبُعه ويرمِيها بِرأسِ السبّابةِ وَهَذِهِ الْكَيْفِيةُ لَمْ يَذْكُرْهَا جُمْهُورُ أصْحَابِنَا وَلاَ نَرَاهَا مُخْتَارَةً وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ نَهْيُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْخَذْفِ. الثامنة: يَجِبُ أنْ يَرْمِي سَبع مَرَّاتٍ بِمَا يُسَمَى حَجَراً بِحَيْثُ يُسمَّى رَمْياً فيرمي سَبع حَصَياتٍ وَاحِدَةً وَاحِدَةً حَتى يَسْتكْملَهُنَّ فَلَوْ وَضَعَ الحَجَرَ فِي الْمرْمَى لَمْ يُعْتَدَ بِهِ لأنَّهُ لا يُسَمَّى رَمْيَاً (¬2) وُيشْتَرَطُ قَصْدُ ¬

_ = الحديث والفقه، وإنما في الأحاديث الصحيحة وكتب الفقه يكبر مع كل حصاة، وهذا مقتضاه مطلق التكبير، والذي ذكره هذا القائل طويل لا يحسن التفريق بين الحصاتين به. اهـ. (¬1) هو الوجه الأول من الوجهين المذكورين في المجموع وهو أنْ تكون كيفية الرمي كرمي الخاذف وهي أنْ يضع الرامي الحصاة على بطن إبهامه ويخذفها برأس سبابته أو يجعل الحصاة بين سبابتيه ويخذف بها. وهذا الوجه أخذ به البغوي والمتولي والرافعي رحمهم الله ورحمنا آمين. والثاني: وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور كما في المجموع: أن يكون الرمي على غير صفة الخاذف لورود نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف وقال فيه: (إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين ويكسر السن) رواه مسلم من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. قال المصنف في مجموعه: وهذا الحديث يتناول الخذف في رمي الجمار وغيره فلا يجوز تخصيصه إلا بدليل ولم يصح فيما قاله صاحب الوجه الأوى شيء ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه على العلة في كراهة الخذف وهو أنه لا يأمن أن يفقأ العين أو يكسر السن، وهذه العلة موجودة في رمي الجمار والله أعلم. (¬2) بل يسمى طرحاً وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل إلا الرمي، وقال: "خذوا عني مناسككم" =

الْمَرْمَى (¬1) فَلَوْ رَمَى فِي الهَوَاء فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلاَ يُشْتَرطُ بقَاءُ الْحَصَاةِ في الْمَرْمَى فَلا يَضُرُّ تَدَحْرُجُهَا أو خُرُوجُها بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ وُقُوفُ الرَّامِي خَارِجَ الْمَرْمَى فَلَوْ وَقَفَ في طَرَفِ الْمَرْمَى وَرَمَى إِلَى طَرَفِهِ الآخَرِ أجْزَأهُ وَلَوْ انْصَدَمَتْ الْحَصَاةُ الْمَرْمِية بالأَرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ أوْ بِمَحْمَلِ فِي الطَّرِيقِ أوْ عُنُقِ بَعِيرِ أوْ ثَوْب إِنْسَانِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى اعْتُدَّ بِهَا لِحُصُولهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةِ، وَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمَلِ فَنَفَضَهَا أوْ صَاحِبُ الثَّوْبِ تَحَرَّكَ الْبَعِيرُ فَدَفَعَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا (¬2) وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَحْمَلِ أوْ عُنُقِ الْبَعِيرِ ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إلى الْمَرْمَى فَفِي الاعْتِدَادِ بِهَا وَجْهَانِ ¬

_ = فإن قيل كيف أجزأ في الوضوء وضع اليد مبلولة على الرأس مع أنه لا يسمى مسحاً؟ أجيب: بأنه بوضعها مبلولة عليه حصل المقصود وهو وصول البلل إليه، والمقصود من الرمي مجاهدة الشيطان وإغاظته بالرمي الذي يغاظ به العدو، والوضع هنا لم يأت بشيء من المقصود من الرمي والله أعلم. (¬1) المرمى هو مجتمع الحصى لا الشاخص. ويشترط أيضاً عدم الصارف وقد نظم بعضهم رحمه الله تعالى شروط الرمي بقوله: شروط رمي للجمار ستة ... سبع بترتيب وكف وحجر وقصد مرمى يا فتى وسادس ... تحقق لأنْ يصيبه الحجر فلو قصد غير المرمى لم يكف وإن وقع فيه كرميه نحو حَيةٍ في الجمرة ورميه العلم المنصوب في الجمرة عند ابن حجر قال نعم لو رمى إليه بقصد الوقوع في المرمى وقد علمه فوقع فيه اتجه الإجزاء لأن قصدَه غير صارف حينئذ. اهـ. قال عبد الرؤوف: والأوجه أنه لا يكفي، وكون قَصْد العَلَم حينئذ غير صارف ممنوع لأنه تشريك بين ما يجزىء وما لا يجزىء أصلاً. اهـ. وفي الإِيعاب أنه يغتفر للعامي ذلك واعتمد محمد على إجزاء رمي العلم إذا وقع في المرمى. قال لأن العامة لا يقصدون بذلك إلا فِعْل الواجب والمرمى هو المحل المبني فيه العلم ثلاثة أذرع من جميع جوانبه إلا جمرة العقبة فليس لها إلا جهة واحدة. اهـ إعانة الطالبين. (¬2) أي بلا خلاف كما في المجموع لأنها لم تحصل في المرمى بمجرد فعله.

لأصْحَابِنَا أظْهَرُهُما لاَ يُعْتَدُ بِهَا (¬1) وَلَوْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَرْمَى (¬2) ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إِلى الْمَرْمَى أوْرَدَتْهَا الريحُ إِلَيْه اعْتُدَّ بِهَا (¬3) عَلَى الأَصَحّ ولا يجزِىء الرَّمْيُ عَنِ القَوْسِ وَلاَ الدّفْعُ بالرجْلِ (¬4) وَلَوْ شَك فِي وُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ وَهُوَ نَصُ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالى فِي الْجَدِيد (¬5) وَيُشْتَرطُ أنْ يَرْمِيَ الْحَصَيَاتِ فِي سَبعِ مَرّات فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْن أوْ سَبْعاً دَفْعَة وَاحِدَة فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى مَعاً أوْ بَعْضُهُنّ بَعْدَ بَعْض لَمْ تُحْسَبْ إلاّ حَصَاة واحِدَة (¬6)، وَلَوْ رَمَى حَصَاة ثُمَ أتْبَعَهَا حَصَاةً أُخْرَى حُسِبت الحصَاتان رَمْيَتَيْن ¬

_ (¬1) أي لاحتمال تأثرها به مع أن الأصل شغل الذمة فلا تبرأ إلا بيقين أو ظن قوي. (¬2) أي من الأرض. (¬3) وجه الاعتداد بها في صورتي الأرض قوله ولو انصدمت الحصاة المرمية بالأرض إلخ. والثانية قوله ولو وقعت في غير المرمى أن الأرض لا اختيار لها ولا حركة وألحق بما ذكر في الأرض من التدحرج الريح لعدم خلو الجو منها، وتعذر الاحتراز منها خلافاً لمن فرّق بينهما فقال: يجزىء في التدحرج دون حمل الريح. قال في الحاشية: نعم لو فرض أن رميه كان عاجزاً عن إيصالها للمرمى فوصلت بحمل الريح وحده اتجه عدم الإجزاء حينئذ لأنه لا دخل لفعله في إيصالها للمرمى البتة ولا فرق فيما ذكر بين أن تقع في محل عام أو لا خلافاً لمن غلط في ذلك كما قال في البحر. اهـ. (تنبيه): يجب على مَنْ يرمي الجمار من الطابق العلوي أن يتيقن سقوط الجمرة في المرمى. فلو بقيت ولم تسقط بسبب ما يرمى في فتحة المسقط من الأوراق والأحذية لم يجزىء. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه آمين. (¬4) لأنه لا يطلق عليه اسم الرمي وكله في غير مقطوع اليدين أما هو فالإجزاء وعدم جواز الاستنابة، ومثله الرمي بالفم والمقلاع كالقوس. (¬5) لأنّ الأصل عدم الوقوع في المرمى، والأصل أيضاً بقاء الرمي عليه والله أعلم. (¬6) قال في الحاشية: لا فرق فيه بين الرمي بيد واحدة أو بهما، فلو رمى بهما معاً لم تحسب إلا واحدة وإنْ وقعتا مرتباً لأن الرمية واحدة، والعبرة بالرمية لا بالوقوع. اهـ. =

سَوَاء وَقَعَتَا مَعاً أوْ الثَّانيةُ قَبْلَ الأُولى أو عَكْسهُ، وَلَوْ رَمَى بِحَجرٍ قَدْ رَمَى بهِ غيره أو رمى به هُوَ إلى جَمْرَةٍ أخْرَى أوْ إِلى هَذه الْجَمْرَةِ في يَوْم آخرٍ أجْزَأَهُ بِلاَ خِلاَفٍ (¬1). وإنْ رَمَى بِهِ هُوَ إِلى تِلْكَ الْجَمْرَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَجْزَأَهُ أيْضاً عَلى الأَصحَ كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى فَقِيرٍ مُداً فِي الْكَفَّارَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَفَعَهُ إِلى آخَرِ وَعَلَى هذَا يُمْكِنُ أَنهُ يُحَصلُ جَمِيعَ رَمْيِهِ فِي الأَيَّامِ بِحَصَاةٍ وَاحِدةَ بَلْ رَمْيُ جَمِيعِ النَّاسِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِحَصَاةٍ إِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ. (فرع): شَرْطُ مَا يُرْمَى به كَونُهُ حَجَراً فيجزِىء المرمَرُ والْبِرَامُ والْكَذَّانُ (¬2) وَسَائِرُ أنْوَاعِ الْحَجر ويُجْزِىء حَجَرُ النَّوْرَةِ قَبْلَ أنْ يُطْبَخَ وَيَصِيرَ نَوْرَةً وَيُجْزِىءُ حَجَرُ الْحَديدِ (¬3) عَلَى الْمَذْهَبِ الصَحِيحِ لأَنَّهُ حَجَر فِي الْحَالِ إِلا أَنَّ فِيهِ حَدِيداً كَامِناً يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ وَفِيمَا يُتَّخذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ كالْفيْرُوزَجِ والْيَاقوت وَالْعَقِيقِ والزُّمُردِ والْبَلَّور والزّبَرْجَدِ وَجهانِ لأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا الإِجْزَاء (¬4) لأَنَّهُمَا أَحْجَار ¬

_ = أقول: -كما في المجموع- وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: إن وقعن متفرقات حُسِبْنَ سبعاً وإلا فواحدة. (¬1) قال في الحاشية: ولا يتوهم منه عدم الكراهة لما مَرّ أنها بمعنى آخر وهو أن ما بقي لم يتقبل. اهـ. (¬2) بفتح الكاف وتشديد الذال المعجمة: حجارة رخوة. (¬3) مثله حجر نحو الذهب والفضة وغيرهما. (¬4) أي لا الجواز فيحرم الرمي بما ذكر من الفيروزج إلخ إن ترتب عليه كسر أو إضاعة مال ومع ذلك يصح الرمي به كالمغصوب. قال في الحاشية: ومن ذلك الجزع والمرجان ولا أثر هنا لاتخاذ ذلك فصوصاً، ويفرق بينه وبين انطباع الجواهر بأن انطباعها يخرجها عن الحجرية بخلاف اتخاذ ذلك فصوصاً، وبهذا يعلم أن مرادهم بالمنطبع هنا غيره في مبحث المشمس إذ المراد به ثَمَّ ما من شأنه الانطباع فيشمل البركة التي في حجر نحو الحديد فيكره المشمس فيها لوجود علة الكراهة فيه، وهنا ما انطبع أي طُرق بالفعل لأنه لا يخرج عن الحجرية إلا بذلك. اهـ.

وَيُجْزِىءُ مَا لاَ يُسَمَّى حَجَراً كَاللؤلُؤِ والزرْنِيخِ والأثمِدِ والْمَدَرِ والْجِصّ وَالذَّهبِ والْفِضةِ والنُّحَاسِ (¬1) والْحَدِيدِ وَسَائِرِ الجَوَاهِرِ الْمُنْطَبِعَةِ (¬2). ¬

_ (¬1) وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة يجوز بكل ما هو من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر، ولا يجوز بما ليس من جنسها وسيأتي هذا إن شاء الله في مذاهب العلماء عن المجموع. (¬2) أي المطرقة بالفعل كما تقدم. مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في رمي جمرة العقبة قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: قد ذكرنا أنه واجب ليس بركن، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود. قال العبدري: وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك: هو ركن، دليلنا القياس على رمي أيام التشريق. (فرع): مذهبنا جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة النحر والأفضل فعله بعد ارتفاع الشمس وبه قال عطاء وأحمد وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وقال مالك وأبو حنيفة وإسحق لا يجوز إلا بعد طلوع الشمس، واحتج لهم أصحابنا بحديث ابن عباس السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بضعفة أهله فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس. وهو حديث صحيح كما سبق. واحتج أصحابنا بحديث أم سلمة وغيره من الأحاديث الصحيحة السابقة في مسألة تعجيل دفع الضعفة من مزدلفة إلى منى. (وأما) حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل جمعاً بين الأحاديث. قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمعوا على أن مَنْ رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الشمس أجزاه. فرع في مذاهبهم في وقت قطع التلبية يوم النحر قال المصنف في مجموعه: قد ذكرنا أنه يقطعها عند أول شروعه في رمي جمرة العقبة وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم. وقال أحمد وإسحاق وطائفة: يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة، وأشار ابن المنذر إلى اختياره. وقال مالك يقطعها قبل الوقوف بعرفات وحكاه عن علي وابن عمر وعائشة. وقال الحسن البصري: يقطعها عقب صلاة الصبح يوم عرفة، دليلنا على ما ذكره المصنف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أقول: هو ما رواه الفضل بن عباس رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) ولان التلبية للإحرام، فإذا رمى فقد شرع في التحلل فلا معنى للتلبية. اهـ. (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يسْتَحب أخْذ الجمار من مزدلفة، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وسعيد بن جبير وإسحق. وقال عطاء ومالك وأحمد يأخذ من حيث شاء، قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافاً بينهم أنه من حيث أخذ أجزأه لكن أحب لقطه وأكره كسره لأنه قد يؤدي إلى احتسابها واحدة والله أعلم. (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب كون الحصى قَدْر حصى الخذف وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف منهم ابن عمر وجابر وابن عباس وابن الزبير وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأبو حنيفة وأبو ثور. قال ابن المنذر ولا معنى لقول مالك: (أكبر من ذلك أعجب إلي) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الرمي بمثل حصى الخذف واتباع السنة أولى. (فرع): قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة. (فرع): مذهبنا أنه يستحب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً إنْ كان دخل منى راكباً، ويرمي أيام التشريق ماشياً إلا يوم النفر فراكباً وبه قال مالك، قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد وإسحق وكره جابر الركوب إلى منى من الجمار إلا لضرورة. قال: وأجمعوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رمى جمرة العقبة يوم النحر راكباً) والله أعلم. (فرع): ذكرنا أن مذهبنا الصحيح أن الأفضل في موقف الرامي جمرة العقبة أنْ يقف في بطن الوادي، وتكون منى عن يمينه ومكة عن يساره وبهذا قال جمهور العلماء منهم ابن مسعود وجابر والقاسم بن محمد وسالم وعطاء ونافع والثوري ومالك وأحمد. قال ابن المنذر: وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزحام فرماها من فوقها. (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أن لو رمى بما رمى به أو غيره جاز مع الكراهة وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود. قال المزني: يجوز بما رمى به غيره ولا يجوز بما رمى هو به. قال ابن المنذر: وكره ذلك عطاء والأسود بن يزيد وسعيد بن أبي عروبة والشافعي وأحمد. قال ورخص فيه الشعبي. وقال إسحق يجزئه. قال ابن المنذر: يكره ويجزئه. قال: إذ لا أعلم أحداً أوجب على من فعل ذلك إعادة. =

(فرع): قَدْ تَقَدَّمَ أَنهُ يُسْتَحَب أَنْ تكُونَ الحصَاةُ كَحَصَاةِ الْخَذْفِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرِ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ وَيُسْتَحَب أَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ طَاهِراً فَلَوْ رَمَى بِنَجِس كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ. وَقَدْ سَبَقَ أَنهُ يُكْرَهُ أَنْ يَرْمِيَ بِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ أَوْ بِمَا رَمَى بِهِ غَيْرُهُ وَلَو رَمَى بِشَيْء مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَه. (فرع): مَنْ عَجَزَ عَنِ الرّمي بِنَفْسِهِ لِمَرَض (¬1) أَوْ حَبْس (¬2) يستنيب (¬3) مَنْ ¬

_ = (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لو رمى سبع حصيات رمية واحدة حسبت له حصاة واحدة فقط، وبه قال مالك وأبو حنيفة إن وقعن في المرمى متعاقبات أجزأه وإلا فلا. وحكى ابن المنذر عن عطاء أنه يجزئه ويكبر لكل حصاة تكبيرة. قال الحسن إنْ كان جاهلاً أجزأه. (فرع): ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز الرمي بكل ما يسمى حجراً، ولا يجوز بما لا يسمى حجراً كالرصاص والحديد والذهب والفضة والزرنيخ والكحل ونحوها، وبه قال مالك وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: يجوز بكل ما كان من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر ولا يجوز بما ليس من جنسها واحتج بالأحاديث المطلقة في الرمي. دليلنا: حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غداة جمع بمنى يوم النحر "عليكم بحصى الخذف الذي يرمي به الجمرة" رواه مسلم، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالحصى فلا يجوز العدول عنه والأحاديث المطلقة محمولة على هذا المعنى. اهـ. (¬1) كإغماء. (¬2) أي في غير دين يقدر على وفائه ولو بحَق كأنْ حبس في قود لصغير حتى يبلغ، فالحبس بحق في غير صورة الدين المذكور لا يمنع الاستنابة. (فإن قيل): أنّ المحصر إذا حبس بحق لا يتحلل، وهنا إذا حبس بحق له أن يستنيب في رمي الجمار. (أجيب): بأن الرمي أسهل من التحلل فسومح فيه. (¬3) أي وجوباً وقت الرمي لا قبله فلا يستنيب في رمي التشريق إلا بعد زوال يوم فيوم إلى آخر الأيام. وقوله: من يرمي عنه، قال في المجموع: (فرع): قال أصحابنا وينبغي أن يستنيب العاجز حلالاً أو مَنْ قد رمى عن نفسه. اهـ. وقال في "مفيد الأنام" =

يَرْمِي عنه ويُسْتَحَب أن يناول النائب الحصى إنْ قَدرَ وَيُكَبرُ هُو (¬1) وإِنَّمَا تَجُوزُ النيابة لِعَاجِزٍ بِعِلَّةٍ لاَ يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الرَّمْيِ (¬2) وَلاَ يُمْنع زَوَالُهَا بَعْدَهُ وَلاَ يَصحُّ رَمْيُ النَّائِبِ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ إِلا بَعْدَ رَمْيهِ عَنْ نَفْسِهِ (¬3) فَلَوْ خَالَفَ ¬

_ = للشيخ ابن جاسر الحنبلي رحمه الله: (فائدة) ذكر الأصحاب أنه لا يعتد برمي حلال ومرادهم بذلك والله أعلم مَنْ لم يحج في تلك السنة التي رمى فيها لأنه غير متلبس بتلك العبادة فلم يكن صالحاً لأدائها عن نفسه فعن غيره من باب أولى والله أعلم. (¬1) أي المستنيب عند الاستنابة وإعطاء الأحجار للنائب، وهذا التكبير غير التكبير المشروع عند الرمي. (¬2) أي وقت أداء الرمي بأن يغلب على ظنه بمعرفة نفسه أو إخبار طبيب بامتداد المانع إلى آخره، فمتى ظن القدرة ولو في اليوم الثالث امتنعت الاستنابة لأنّ أيام التشريق كيوم واحد إذ لا يفوت وقت الأداء إلا بانقضائها كلها. (¬3) قال في الحاشية أي رمى جميع اليوم، فلو رمى الجمرة الأولى لم يصح أن يرمي عن المستنيب قبل أن يرمي الجمرتين الباقيتين عن نفسه على الأوجه عندي من احتمالين للإسنوي خلافاً للزركشي حيث رجح مقابله، قال: لأنْ الموالاة بين الجمرات لا تشترط وكماله أن يطوف عن غيره إذا كان قد طاف عن نفسه وبقي عليه أعمال الحج، انتهى. والفرق أن الطواف ركن مستقل بنفسه لا ارتباط له بما بعده فحيث فَعَلَهُ جاز له فِعْلُه عن غيره، وأما رمي الجمرات الثلاث فواجب واحد له أجزاء كما أن الطواف كذلك فكما ليس له الطواف عن غيره ما بقي عليه من طوافه شيء وإن لم تجب الموالاة فيه، كذلك الثاني له الرمي عن غيره ما بقي عليه من رميه شيء ويدل لما ذكرته قولهم: من عليه رمي اليوم الثاني مثلاً لو رمى في اليوم الثالث لكل جمرة أربع عشرة حصاة لم يقع شيء منها عن يومه لأن رمي أمسه لم يتم ولو كان الأمر كما ذكره لزم الوقوع عن يومه لأنه رمي أمسه بالنسبة لكل جمرة تم قبل الشروع في الجمرة الثانية فدل كلامهم على أن الجمرات كالجمرة الواحدة وهو صريح فيما ذكرته. وبما تقرر يُعْلم أنه لو استناب مَنْ عليه رمي أول أيام التشريق في ثانيها مَنْ رمَى أولها عن نفسه تخير النائب بين أنْ يقدم رمي نفسه عند كل جمرة أو رمي مستنيبه لأنه قد فعل ما استنيب فيه. اهـ مختصراً. أقول: أما عند السادة الحنفية والمالكية والحنابلة كما في مفيد الأنام قال في لباب =

وقَعَ عَنْ نَفْسِهِ (¬1) كَأصْلِ الْحَجّ وَلَوْ أُغْمِيَ (¬2) عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِغَيرِهِ في الرَّمْي عَنْهُ لَمْ يَجُزْ الرمْيُ عَنْهُ وَلَوْ أَذِنَ (¬3) أجْزَأ الرَّمْيُ عَنْهُ عَلَى الأَصَحِّ وَلَوْ رَمَى النَّائب ثُم زَالَ عُذْرُ المُسْتَنِيبِ والوقْتُ بَاقٍ فالمذهب الصّحيحُ أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الرَّمي (¬4). ¬

_ = المناسك وشرحه من كتب الحنفية: ولو رمى بحصاتين إحداهما عن نفسه والأخرى عن غيره جاز، ويكره أي لتركه السنة فإنه ينبغي أنْ يرمي السبع عن نفسه أولاً ثم يرميها عن غيره نيابة. اهـ. وقال في توضيح المناسك من كتب المالكية: ويستحب لمن يرمي عن غيره أن يرمي أولاً عن نفسه ثم عمن ناب عنه. فإن رمى جمرة بتمامها أولاً عن نفسه ثم رماها عمن ناب عنه أو العكس أجزأه، وترك المندوب، وهو التتابع بين الجمرات الثلاث من غير فصل بشيء، ولو رمى حصاة عن نفسه وحصاة عمن ناب عنه أجزأه أيضاً وترك المندوب وهو تتابع الحصيات من غير فصل. اهـ مختصراً. وقال في مفيد الأنام عن مذهب الحنابلة: وإذا قلنا بعدم جواز رمي النائب عن مستنيبه أو الولي عن موليه قبل رميه عن نفسه فيما إذا كان حجه فرضاً فهل إذا رمى النائب عن نفسه أو الولي عن موليه الجمرة الأولى في أيام التشريق يجوز أن يرميها عن مستنيبه أو موليه في ذلك اليوم قبل رمي الجمرة الوسطى وجمرة العقبة عن نفسه أو لا يجوز؟ لم أرَ لأصحابنا الحنابلة كلاماً في ذلك وجواز ذلك لا يبعد فيما يظهر لأنه رمى الجمرة الأولى عن مستنيبه أو موليه بعد رميها عن نفسه ولأنه ليس فيه إخلال بالترتيب المشترط فى رمي الجمار والمنع من القول بالجواز يحتاج إلى دليل والله أعلم. اهـ. (¬1) أي وإن نوى مستنيبه أو لغا فيما إذا رمى للأولى أربع عشرة مثلاً سبعاً عنه ثم سبعاً عن موكله. (¬2) أي العاجز عن الرمي. (¬3) أي في حال عجزه عن الرمي وكالإغماء الجنون والموت فلا تبطل بها الاستنابة. (¬4) فإنْ قيل المعضوب تجب عليه إعادة الحج إذا برىء وهنا لا إعادة على المستنيب إذا زال عذره والوقت باقٍ. (أجيب): -كما في الحاشية- بأن الحج أصل. =

الثاني مِنَ الأَعْمَالِ الْمَشْروعَة بمِنى يَوْم النحْرِ ذَبْحُ الْهَدْيِ والاضْحِيَةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَة انْصَرَفَ فَنَزَلَ في مَوْضِعٍ فِي مِنىً وَحيث نَزِلَ مِنْهَا جَازَ وَلَكِنْ الأفْضَلُ أنْ يقْرُبَ مِنَ مَنْزِل رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ذكَرَ الأَزْرَقي أْنّ مَنْزِلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى يسار مُصَلَّى الإِمَامِ فَإِذا نَزَلَ ذَبَحَ أوْ نَحَرَ الْهَدْيَ (¬1) إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ. ¬

_ = فاحتيط له والرمي تابع لا يؤثر تركه في صحة الحج فخفف في أمره ومن ثَم دخله الجبر، بخلاف أصل الحج. نعم تسن له الإِعادة كما في المجموع. اهـ. وقد أوجب الإعادة مالك رحمه الله تعالى. (¬1) الهدي في الأصل ما يساق إلى الحرم تقرباً إلى الله تعالى من نَعَم وغيرها نذراً أو تطوعاً لكنه عند الإِطلاق اسم للإبل والبقر والغنم، ومحل ذبحه الحرم بمنى فقط وزمنه يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة. هذا حكم هدي الحج وأما الهدي الذي سبق ليذبح بعد الفراغ من سعي العمرة فلا يجب تأخيره إلى يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة بل يذبح بعد الفراغ من سعيها بالحرم لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح هديه في عمرة القضاء بعد إنقضاء سعيه بالمروة وكانت سنة سبع في ذي القعدة، والأضحية هي ما يذبح من الأنعام الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة فقط في الحرم وغيره تقرباً إلى الله تعالى والأفضل في الهدي والأضحية إبل ثم بقر إنْ أخرج كاملاً بأن ضحى ببدنة كاملة أو بقرة كاملة ثم غنم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (مِنْ اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قَرب بدنة، ومَنْ راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومَنْ راح في الساعة الثالثة فكأنما قَرَّب كبشاً أقرن) متفق عليه. ولأن الإبل أكثر ثمناً ولحماً وأنفع للفقراء. والتفضيل المذكور هو فيما إذا قوبل الجنس بالجنس، وإلا فسبع شياه أفضل من بدنة أو بقرة لأن الدم المراق بذبحها أكثر والقربة تزيد بحسبه، وبهذا قال الإمامان أبو حنيفة وأحمد وقال به الإمام مالك في الهدي، وقال في الأضحية: الأفضل الضأن ثم =

(فرع): وَسَوْقُ الْهَدْي لمنْ قَصَدَ مَكَّةَ حَاجاً أو مُعْتَمِراً (¬1) سُنّةٌ مُؤكَّدَةٌ أَعْرَضَ أكْثَرُ النّاسِ أوْ كُلهُمَْ عَنْهَا فِي هَذه الأَزْمَانِ والأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ هَدْيهُ مَعَه مِنَ الْمِيقَاتِ مُشْعَراً مُقَلَّداً وَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ إِلاَّ بالنذر (¬2) وَإِذا سَاقَ هَدْياً تَطَوُّعاً أوْ مَنذُوراً فَإِنْ كَانَ بَدنة أوْ بقَرَةً اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقلّدَهَا نَعْلَيْنِ (¬3) وَلْيَكُنْ لَهُمَا قِيمَةٌ لِيتصَدَّقَ بِهِمَا وأَنْ يُشْعِرهَا أَيْضَاً. وَالإِشْعَارُ الإعْلاَمُ وَالْمُرَادُ به هُنَا أنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا اليُمْنَى بحديدة فَيُدْمِيهَا وَيُلَطِّخَهَا بالدم لِيَعْلَمَ مَنْ رَآهَا أنَّهَا هَدْيٌ فَلاَ يَتَعرض لَهَا، وَإنْ ¬

_ = البقر ثم البدنة لأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل ولو علم الله خيراً منه لفدى به الذبيح عليه السلام. (¬1) وكذا يسن سوق الهدي لقاصد مكة ولو بغير نسك فيقلده ويشعره من بلده كمن لم يرد سفراً وأراد إرساله لما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قلد هديه وأشعره وبعث به إلى الحرم. (¬2) أي والتعيين كهذا هدي أو جعلته هدياً أو علي أن أهديه. (¬3) قال في الحاشية: كأن حكمتَها الإعلام بحقارة الدنيا وعدم الإلتفات إلى ما فيها وأنه في جنب الطاعة حقير. ويأتي ذلك في خُرَب القُرَب الآتية. اهـ. حكم الأضحية عند الأئمة ووقتها قال الأئمة مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة رحمهم الله جميعاً: هي سنة مؤكدة. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هي واجبة على المقيمين من أهل الأمصار. واعتبر في وجوبها النصاب. ويدخل وقتها عند الشافعي -كما سيأتي- بطلوع الشمس يوم النحر ومضي قَدْر صلاة العيد والخطبتين، صلى الإمام أو لم يصلِ، وعند الثلاثة شرط صحة الأضحية أن يصلي الإِمام ويخطب إلا أن أبا حنيفة جَوّزَ لأهل السواد التضحية إذا طلع الفجر الثاني وآخر وقتها عند الشافعي آخر أيام التشريق. وبه قال أحمد في رواية وعند مالك وأبي حنيفة إلى آخر الثاني من أيام التشريق. وبه قال أحمد في رواية أخرى والله أعلم.

سَاقَ غَنَماً اسْتُحِبَّ أنْ يقلدَهَا خُرَبَ الْقِرَبِ (¬1) وَهِيَ عُرَاهَا وآذَانَها وَلاَ يقلّدَها النَّعْلَ ولا يُشْعِرهَا لأَنها ضعيفَةٌ وَيَكُونُ تَقْلِيدُ الْجَمِيعِ والإِشْعَارُ وهي مستقبلة القبلة والبدنة باركة، وهل الأَفضل أن يقدم الإِشعار عَلَى التقْلِيد؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهمَا: يقدمُ الإِشْعَارَ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في صَحِيح مُسْلِمِ عَنْ ابن عُمَرَ رضِيَ الله عَنْهُمَا عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثانِي: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِي رَحِمهُ الله تَعَالَى تَقْدِيمُ التَّقْلِيدِ (¬2) وَقَدْ صَحَّ ذلكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا مِنْ فِعْلِهِ وَالأمْرُ فِي هذا قَرِيبٌ وَإِذا قَلدَ ¬

_ (¬1) خُرَب: بضم الخاء المعجمة وفتح الراء. جمع خربة وهي عروة القربة. (¬2) المعتمد كما في الحاشية الأول، ويسن أيضاً أن يجللها، ويتصدق بالجل (أقول الجُل بضم الجيم ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه) ويشقه عن الأسنمة إنْ قلت قيمته لئلا يسقط وليظهر الإِشعار اهـ. مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في الإِشعار والتقليد قال في المجموع: مذهبنا استحباب الإِشعار والتقليد في الإِبل والبقر وهو مذهب مالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وداود، وقال أبو حنيفة: الإشعار بدعة ونقل العبدري عنه أنه حرام لأنه تعذيب للحيوان ومثلة، وقد نهى الشرع عنهما. واحتج أصحابنا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد بُدُن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم أشْعَرَهَا وقَلدها ... الحديث. وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين) ... الحديث. وأما الجواب عن الإحتجاج بالنهي عن المثلة وعن التعذيب فهو أن ذلك عام وأحاديث الإشعار خاصة فقدمت. اهـ مختصراً. وقال أيضاً: قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الإِشعار في صفحة السنام اليمنى وبه قال أحمد وداود، وقال مالك وأبو يوسف يشعرها في الصفحة اليسرى. دليلنا حديث ابن =

النعَمَ وأشْعَرَها لَمْ تَصِرْ هَدْياً وَاجِباً عَلَى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ (¬1) كَمَا لَوْ كَتَبَ الْوَقْفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ. واعْلَمْ أن الأَفْضَلَ سَوْقُ الْهَدْي مِنْ بَلَدِهِ فإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ طَرِيقِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ أو غيره أَوْ مَكَّةَ أوْ منى. وصِفَاتُ الْهَدْي الْمُطْلَق كَصِفَاتِ الأَضْحِيةِ الْمُطْلَقَةِ وَلاَ يُجْزِىء فِيهمَا جَمِيعاً إِلا الجَذَعُ مِنَ الَضأْنِ أو الثني مِنَ الْمَعْزِ أو ¬

_ = عباس السابق. وقال أيضاً قد ذكرنا أن مذهبنا إشعار البقر مطلقاً، فإنْ كان لها سنام أشعرت فيه، إلاّ ففي موضعه. وقال مالك: إنْ كان لها سنام أشعرت فيه وإلا فلا إشعار. وقال أيضاً: مذهبنا تقليد الغنم -أي بعرى القرب كما تقدم- للأحاديث السابقة. أقول منها حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أهدى مَرة غنماً مقلدة) رواه مسلم بلفظه والبخاري بمعناه. وقال أبو حنيفة ومالك لا يستحب. اهـ مختصراً. (¬1) زاد في المجموع: المشهور الجديد بل يبقى سنة كما قبل الإشعار والتقليد، وفيه قول شاذ أنه يصير واجباً كما لو نذره باللفظ. اهـ. قال في المذهب: وفي القديم إذا أشعر بدنة أو قلدها ونوى أنها هدي أو أضحية صار هدياً أو أضحية، لأنه عليه الصلاة والسلام (أشعر بدنة وقلدها) ولم ينقل عنه أنه قال هدي، فصارت هدياً. وأخرج أبو العباس وجهاً أنه يصير هدياً وأضحية بمجرد النية، ومِنْ أصحابنا مَنْ قال إذا ذبح ونوى صار هدياً وأضحية، والصحيح هو الأول لأنه إزالة ملك يصح بالقول، فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه كالوقف والعتق ولأنه لو كتب على باب داره أنها وقف أو على فرسه أنه في سبيل الله لم يصر وقفاً فكذلك ها هنا. اهـ. قال في مفيد الأنام على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: - ويتعين الهدي أيضاً بتقليده النعل والعرى وآذان القرب بنية كونها هدياً أو إشعاره مع نية الهدي لأن الفعل مع النية يقوم مقام اللفظ إذا كان الفعل يدل على المقصود كمن بنى مسجداً وأذِن للناس في الصلاة فيه. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله يجب الهدي بالشراء مع النية، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختارها شيخ الإسلام وهو قول الإمام مالك رحمه الله تعالى قال: إذا إشتراها بنية الأضحية وجبت كالهدي بالإشعار. اهـ.

الإِبِلِ أو البقَرِ. وَالْجَذَعُ مِنَ الضأنِ مَا لَهُ سنةٌ عَلَى الأصح (¬1) وقيل سِتةُ أشْهُرٍ وَقِيلَ ثَمانِية وَالثنِي مِنَ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَتَان (¬2) وَقِيلَ سَنة وَمِنَ الْبقَر سَنَتَان وَمِنَ الإِبِلِ خَمْسُ سِنِينَ كَامِلَةٍ وَيُجْزىءُ مَا فَوْقَ الْجَذَع وَالثَّنِي وَهُوَ أفْضَلُ وَيُجْزِىءُ الذكَرُ وَالأنْثَى وَلاَ يُجْزِىءُ فِيْهِمَا مَعِيبٌ بعَيْبٍ يُؤثّرُ فِي نَقْصِ اللَّحْمِ تَأْثِيراً بيّناً (¬3) وَلاَ يُجْزِىءُ مَا قُطعَ مِنْ أذنه جزءٌ بين (¬4) وُيجْزىءُ الخصيُّ وَذَاهِبُ الْقَرْنِ (¬5) وَالتي لاَ أسنَانَ لَهَا إِذَا لَمْ تكنْ هَزُلَتْ، وَتُجْزِىءُ الشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ، والْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَة وَالْبقَرةُ عَنْ سَبَعَةٍ سَوَاء كَانُوا أهْلَ بيتٍ وَاحِدٍ أو أَجَانِبَ، ولَوْ كَانَ ¬

_ (¬1) أو أسقط مقدم أسنانه قبلها بعد ستة أشهر من ولادته. (¬2) ودخل في الثالثة. قال في الحاشية والأوجه أنه يجوز الرجوع في السن لإخبار البائع إذا كان عدلاً وهو من أهل الخبرة أو استنتجه. اهـ. (¬3) كيسير جرب وإنْ رجَى زواله أو مرض بين أو عَرَج كذلك بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب أو عور، وهو ذهاب نور إحدى العينين أو هزال مع ذهاب مخ أو جنون قَللَ رَعْياً بخلاف عمش وكي وإعشاء. اهـ حاشية. (¬4) قال في الحاشية: ليس بقيد كما في الروضة وغيرها في الأذن ومثلها كل عضو صغير يظهر فيه النقص اليسير، ومنه اللسان فيما يظهر فيضر إبانة اليسير من ذلك بخلاف ما إذا لم يبن بأن كان متدلياً، فخرج نحو الفخذ وكذا الإلية والضرع فيما يظهر فلا يضر إبانة فلقة يسيرة منه بالإضافة إليه بحيث لا يلوح النقص بها من بعد ويجزىء مخلوقة بلا ضرع أو إلية وكذا مخلوقة بلا ذنب بخلاف مخلوقة بلا أذن سواء فقد أذناها أم إحداهما لأنه عضو لازم غالباً ولا يضر صغر أذن وَرض عرق البيضتين. (¬5) أي ومكسورة، وإن سال الدم ما لم يتعيب به لحمه، نعم تكره التضحية بغير أقرن لأنه صح كما في الحاشية (خير الأضحية الكبش الأقرب). (فائدة): يجزىء الهدي والأضحية بالشرقاء وهي المشوقة الأذن والنهي عن التضحية بها محمول على كراهة التنزيه أو على ما أبين منه شيء بالشرق وإنْ قَل و (الخرقاء) وهي المثقوبه أذنها والجلحاء وهي التي لا قرن لها، والعضباء وهي التي انكسر قرنها، والعصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها. =

بَعْضُهُمْ يُريدُ اللحم وبعضهم يريد الأضْحِيةَ جَازَ (¬1) وأفْضَلُهَا أحْسَنُهَا وأسمَنُها ¬

_ = (تنبيه): لو أضجع الذابح الهدي أو الأضحية ليذبحه فحصل نحو عور أو عرج لم يجز كما في الحاشية. مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى في عيوب الأضحية قال في المجموع: أجمعوا على أن العمياء لا تُجزىء، وكذا العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها والعجفاء (أي التي ذهب مخها من شدة هزالها). واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته، فمذهبنا أنها تجزىء. قال مالك: إن كانت مكسورة القرن، وهو يدمى لم تجز، وإلا فتجزئه، وقال أحمد: إن ذهب أكثر من نصف قرن لم تجزه سواء دميت أم لا، وإن كان دون النصف أجزأته، وأما مقطوعة الأذن فمذهبنا أنها لا تجزىء سواء قطع كلها أو بعضها، وبه قال مالك، وقال أحمد: إنْ قطع أكثر من النصف لم تجزه وإلا فتجزئه، وقال أبو حنيفة: إنْ قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف ومحمد: إنْ بقي أكثر من نصف أذنها أجزأته. وأما مقطوعة بعض الأَلية فلا تجزىء عندنا وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في رواية إن بقي الثلث أجزأه وفي رواية إنْ بقي أكثرها أجزأت. (وأما) إذا أضجعها ليذبحها فعالجها فاعورت حال الذبح فلا تجزىء، وقال أبو حنيفة وأحمد: تجزىء. والله أعلم. اهـ. أقول: قال العلامة ابن رشد المالكي في كتابه بداية المجتهد: واختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين فمذهب مالك والشافعي إلا أنها لا تجوز، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقةً جاز كالأجم. اهـ. وفي مفيد الأنام: ويجزىء ما خلق بلا أذن لأن ذلك لا يخل بالمقصود. اهـ. (¬1) أي لأن الجزء المجزىء لا ينقص أجره بإرادة الشريك غير القربة، وبه قال الإمام أحمد، وقال الإمام أبو حنيفة: إن كانوا كلهم متقربين جاز. وقال الإمام مالك: لا يجوز الإشراك مطلقاً. كما لا يجوز في الشاة الواحدة، واحتج المجوزون بحديث جابر رضي الله عنه قال: (نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) رواه مسلم. قال في المجموع: وأما قياسه على الشاة فعجب لأن الشاة إنما تجزىء عن واحد والله أعلم.

وأطْيَبُها وأكْمَلُهَا، والأبْيَضُ أَفْضَلُ (¬1) مِنَ الأَغْبَرِ والأَغْبَرُ (¬2) أفْضَلُ مِنَ الأبْلَقِ (¬3) والأبْلَقُ أفْضَلُ مِنَ الأسْوَدِ. واعْلَمْ أنَّ الشَّاةَ أَفْضَلُ مِنَ المُشَارَكَةِ بِسُبع بَدَنَه (¬4) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى: وشاةٌ جيدةٌ سَمِينَةٌ أفضَلُ من شاتَيْنِ بقيمتِها بخلافِ العتْقِ فإنّ عِتْقَ عَبْدَيْنِ خَسِيسَيْنِ أفضَلُ مِن عتْقِ عبد نَفِيس بقيمَتِهما والْفَرْقُ ظَاهِرٌ فَإن الغَرَضَ في الأضْحِيةِ طِيبُ المأكُولِ وَفِي الْعِتْقِ التَّخْلِيصُ مِنَ الرِق. ¬

_ (¬1) لما رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (دم الشاة البيضاء عند الله أزكى من دم السوداوين). (¬2) قال في الحاشية: الأغبر الذي يعلو بياضه حمرة ودليل فضله ما رواه أحمد وغيره مرفوعاً: دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين، ومنه يفهم أن اللون كلما بعد عن السواد، وقرب من البياض كان أفضل ومن ثم ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين. قال الرافعي وغيره تبعاً لبعض اللغويين (الأملح) الذي بياضه أغلب من سواده. وقال ابن جماعة: والمشهور في اللغة أن الملحة بياض يخالطه سواد من غير اشتراط كون البياض أغلب. وفي البيان عن ثعلب أن الأملح الأبيض الشديد البياض. وعليه فلا إشكال في تقديمهم البيضاء لكن اختار ابن سراقة أن الأملح الذي يأكل في سواد ويبصر فيه ويمشي فيه أفضل مطلقاً أخذاً من حديث عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به، الحديث. ومعنى يطأ ويبرك وينظر في سواد أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود، ويحمل عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن الأبيض إلى الأملح على الأول فقد يجاب بأنه تعسر وجوده وحكمة أفضلية الأبيض تعبد عند الإمام الشافعي رضي الله عنه وقيل لحسن منظره، وقيل لطيب لحمه والله أعلم. اهـ مختصراً. (¬3) أي الذي بعضه أبيض وبعضه أسود كما في شرح مسلم للنووي رحمه الله تعالى. (¬4) أي أو بقرة لأن إراقة الدم مقصودة في الأضحية، والمنفرد تقرب بإراقته كله فصار أفضل من المتقرب بسبع بدنة أو سبع بقرة لأن المضحي بالسبع لم يتقرب إلا بشرك في دم والله أعلم.

(فرع): لو نَذَرَ شَاةً أضْحيةَ ثُمَّ حَدَثَ بها عَيْب يُنْقِصُ اللحْم لَمْ يُبَالِ بِهِ بَلْ يَذْبَحُهَا عَلى مَا هِيَ عَلَيْهِ ويُجْزِىء. هَذَا هُوَ المَذْهَبُ الصَّحيحُ عِنْدَ أصْحَابِنَا (¬1) وَشَذَّ أبو جَعْفَرِ الأسْتَرَابَاذِيُّ مِنْ أصْحَابِنَا فَقَالَ: عَلَيْهِ إبْدَالُها بِسَلِيمَةٍ (¬2)، وَهَذَا ضَعِيفٌ مَرْدُود (¬3) وَلَوْ وَلَدَتِ الأضْحِيةُ أو الْهَدْيُ المَنذُورَانِ لَزِمَهُ ذَبْحُ الوَلَد مَعَهَا (¬4) سَوَاء كَانَ حَمْلاً يَوْمَ النَّذْرِ أوْ حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَه (¬5) وَلَهُ أنْ يَرْكَبَهَا (¬6) وَيَشْرَبَ مِنْ لَبِنَهَا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا (¬7) وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صُوفٌ لاَ ¬

_ (¬1) وبه قال الإمامان مالك وأحمد وذلك لما رواه البيهقي رحمه الله تعالى عن ابن الزبير رضي الله عنهما أنه أتى في هداياه بناقة عوراء فقال: (إن كان أصابها بعدما اشتريتموها فامضوها، وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فابدلوها). (¬2) وبه قال الإمام أبو حنيفة. (¬3) قال في المجموع أي لأنه لم يلتزم في ذمته شيئاً، وإنما التزم هذا فإذا تعيب من غير تفريط لم يلزمه شيء كما لو تلف والله أعلم. (¬4) أي ويحرم عليه الأكل منه. (¬5) بهذا قال الإمام أحمد وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها) ولأن النذر معنى يزيل الملك فاستتبع الولد كالبيع أو العتق فيثبت له ما يثبت لأمه، وإذا لم يطق ولد الهدي المشي حمل على أمه أو غيرها إلى الحرم والله أعلم. (¬6) أي أو يعيرها لمن يركبها لا إجارتها، وله أن يحمل عليها أيضاً. ويشترط في الركوب والإرتكاب والحمل الإِطاقة، وعدم التضرر به ولا يجوز الركوب والحمل عليها إلا لحاجة لحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجِئْت إليها حتى تجد ظهراً" رواه مسلم. وبه قال الإمام مالك في رواية وقال الإمام أحمد ومالك في رواية: له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضرها، وقال الإمام أبو حنيفة: لا يركبها إلا إن لم يجد منه بدَّاً. (¬7) أي عن كفايته بحيث لا يحصل للولد ضرر وذلك لما رواه البيهقي عن علي =

مَنْفَعَة لَهَا فِي جَزّهِ ولا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ جَزهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا فِي بقَائِهِ ضَرَرٌ جَازَ له جَزهُ وَيَنْتَفعُ بِهِ (¬1) فَلَوْ تَصَدَقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ. (فرع): وُيسْتَحَب لِلرّجُلِ أنْ يَتَوَلَّى ذبْحَ هَدْيِهِ وأُضْحِيتِهِ بِنَفْسِهِ (¬2) ويُسْتَحَب للمَرأة (¬3) أنْ تَسْتَنِيبَ رَجُلاً يَذْبَحُ عَنْهَا وَيَنْوِي عِنْدَ ذَبْحِ الأضْحِيةِ أو الْهَدْيِ الْمَنْذُورَيْنِ أَنهُمَا ذَبِيحَةٌ عَنْ هَدْيِهِ المنْذُورِ أوْ أُضْحِيَتِهِ المنذُورَةِ وإنْ كَانَتْ تَطَوُّعاَ نَوَى التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى الله تَعَالَى وَلَوْ اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِ هَدْيِهِ وَأضحِيَتِهِ جَازَ وَيُسْتَحَب أنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا عِنْدَ الذبْحِ (¬4) والأَفْضَلُ أن يكونَ النَّائبُ مُسْلماً ذَكَراً (¬5) فَإِنْ اسْتَنَابَ كافراً ¬

_ = كرم الله وجهه ورضي عنه أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها) وبه قال الإمام أحمد، وقال الإمام أبو حنيفة: لا يجوز أي شرب لبنها بل ينضح ضرعها بالماء ليخف اللبن، فإذا حلبها تصدق به ... وفي شرح الزرقاني على الموطأ: وكرهه مالك في حال الاختيار ولو فضل عن رِيِّهِ لأنه نوع من الرجوع في الصدقة وليتصدق بما فضل. ومحل الكراهة حيث لا ضرر وإلا لزم إن أضرها أو فصيلها بشربه أرش النقص أو البدل إن حصل تلف. (¬1) أي من غير نحو بيع أخذاً مما قالوه في نظيره من اللبن وبهذا قال الإمام أحمد. (¬2) أي لأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين ذبحهما بيده الشريفة وسَمَّى وكبَّر، ونحر من البدن التي أهداها في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة بيده. (¬3) أي والخنثى وكل من ضعف عن الذبح لنحو مرض وإن أمكنه الإِتيان به ويتأكد استحبابه للأعمى لكراهة ذكاته ولا تكره ذكاة الحائض والنفساء وإن كانت خلاف الأولى. (¬4) كما رواه البيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة رضي الله عنها "قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنبك". (¬5) أي ففيها بباب الضحايا وما يتعلق بها من خيار المسلمين لأنهم أولى بالقيام بالقرب.

كِتَابِيَّاً (¬1) أو امرأةَ صَحَّ لأَنهُمَا من أَهْلِ الذكَاةِ (¬2) وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ والنُّفَسَاءُ (¬3) أولى مِنَ الْكَافِرِ وَيَنْوِي صَاحِبُ الْهَدْي أو الأضْحية عِنْدَ الدفْع إِلَى الْوَكِيلِ أوْ عِنْدَ ذَبْحِهِ فَإِنْ فَوَّض إِلَى الوَكيلِ جَازَ إِنْ كَانَ مُسْلِماً (¬4). فَإِنْ كَانَ كافِراً لم يَصِحَّ لأَنهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النية فِي الْعِبادَاتِ بَلْ يَنْوِي صَاحِبها عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِ أَوْ عِنْدَ ذَبْحِهِ (¬5). (فرع): ويُسْتَحَب أَنْ يُوَجهَ مَذْبَحَ الذبيحَةِ (¬6) إِلَى الْقِبْلَةِ وَأنْ يُسَمِّيَ (¬7) الله ¬

_ (¬1) أي لا مجوسياً ولا وثنياً ولا متولداً بين كتابي وغيره ولا مرتداً بشرط أن يكون ذبح الكتابي على الوجه الشرعي لعدم صحة ذبح هؤلاء. (¬2) وإنْ كره توكيل الذمي عند الثلاثة، وقال الإمام مالك لا تجوز استنابة الذمي ولا تكون أضحية. (¬3) أي والصبي الأعمى. (¬4) أي مميزاً. (¬5) أو عند تعيين الأضحية ولو قبل الوقت لجواز تقديم النية قبله كما في الصوم ولا حاجة لنية الوكيل بل لو لم يعلم أنه مضح لم يضر، وكالأضحية في ذلك سائر الدماء الواجبة ولا يكفي التعيين ابتداءً أو عما في الذمة عن النية والله أعلم. (¬6) أي لا وجهها لتمكنه من الاستقبال. (فإنْ قيل): لِمَ لَمْ يكره استقبال القبلة عند الذبح كما يكره عند التبول أو التغوط بجامع إخراج النجاسة جهتها. (أجيب): حالة الذبح حالة عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى وإنْ كان في غير أضحية، ولذا ندب ذكر اسمه تعالى بخلاف حالة التبول والتغوط والله أعلم. (¬7) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إن ترك الذابح التسمية عمداً لم تؤكل ذبيحته، وإن تركها ناسياً أكلت، وقال الإمام مالك: إن تعمد تركها لم تبح، وإن تركها ناسياً ففيه روايتان وهو مذهب الإمام أحمد. وعن مالكْ رواية ثالثة تحل مطلقاً سواء تركها عمداً أو سهواً وعند أصحابه أن تارك التسمية عمداً غير متأول لا تؤكل ذبيحته و