الأساس في التفسير
سعيد حوَّى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم
مقدمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت- يا رب- من شيء بعد. والصلاة والسلام على حبيبنا محمد وآله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين. وبعد ... إنني وأنا أكتب هذه الكلمات تقديما لهذا التفسير الجليل، أزداد إيمانا على إيمان، وثقة على ثقة، بقول الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس- رضي الله عنه-: « ... واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك ... ». ذلك لأنني منذ أسست (دار السلام) عام 1393 هـ وأنا أطمع وأطمح ... أطمع- من قرارة نفسي- في أن أقدم عملا قيما، أخدم به كتاب الله- تبارك وتعالى- وأنفع به أمتي التي أنتمي إليها ... وأطمح- في نفس الوقت- إلى أن يكون هذا العمل جديدا كل الجدة، لم يسبقني أحد إليه؛ فإني أكره منافسة الناس في أرزاقهم فأحب أن أنشر ما لم أسبق إليه. وفي عام 1398 هـ أرسل إلي المؤلف الكريم هذا المصنف التفسيري الضخم الذي بين أيديكم. وأحسست- ساعتها- أن العمل أكبر من إمكانياتي، إلا أنني استعنت بالله وهو خير معين، وأعددت العدة النفسية لهذا العمل الذي كنت أطمح لمثله. وبعد بضعة أشهر حضر إلي ناشر كريم من بيروت، أقدر مني في هذا المجال وأطول باعا. حضر إلي وهو يحمل رغبة الشيخ المؤلف- أعزه الله- في أن يشار كني جهدي في هذا العمل، رغبة من فضيلته في أن يخرج هذا الكتاب مخدوما خدمة تامة تليق بمقام كتاب الله تعالى. فتنازلت عن حقي كاملا للأخ الناشر متمنيا له- من كل قلبي- التوفيق والسداد. ودارت الأيام دورتها، وقدر الله أن يحدث ببيروت ما حدث، بحيث أصبح متعذرا على الأخ الناشر إتمام هذا العمل بعد أن قطع شوطا كبيرا في تنضيد حرفه. فاعتذر الأخ الناشر عن إتمام العمل لظروف خارجة عن إرادته- ومرة أخرى- أدبا ولطفا من فضيلة الشيخ المؤلف- يرسل إلي مستشيرا، ماذا يفعل؟ وكأنه يرشحني من جديد لهذا العمل. وشاءت أقدار الله أن يصيبني هذا الخير بعد أن أخطأني في المرة الأولى، وعاد إلي هذا التفسير لكي أقوم بطبعه، ويكون أول عمل لي في مجال خدمة كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ولعل من حكمة الله العزيز في هذا العمل أن أخطأني في المرة الأولى؛ لأنني لم أكن على مستوى
القدرة الكاملة لإتمام مثل هذا العمل الكبير القيم، الذي هو جزء من أساس تبني أمتنا الحبيبة بناءها عليه صرحا شامخا عاليا، هذا الأساس هو الفهم الدقيق لكتاب الله والوعي العميق بأبعاده ومتطلباته، حتى يكون ثمرة ذلك الفهم الإيمان العميق بالله تعالى والالتزام بما أوجب بعد ذلك. وهذا المصنف التفسيري غني عن القول بأن فيه من الجديد الكثير، فإنه قد تفرد بأشياء لم يسبق إليها، خاصة مسألة تقديم أول نظرية متكاملة عن الوحدة القرآنية في القرآن الكريم. كما أنه استفاد من القديم وأعمل فيه بعض التهذيب بما يناسب حاجة عصرنا، فلكل عصر حاجته ومشاكله التي يواجهها. ولن أطيل الحديث عن هذا التفسير، وأترك الحكم للقارئ الكريم ولأولي العلم بخاصة. وأما عن المؤلف فلن أعرف أو أمتدح الرجل، فهو غني عن التعريف على مستوى العالم الإسلامي وغيره، وما أقول إلا دعاء من كل قلبي له بالتوفيق والسداد والرشاد في كل أمر من أموره. وأود أن أوجه الكلمة لكل من يقرأ أو يطالع هذا التفسير ألا يألو جهدا في النصيحة. فإن وجد تقصيرا أو نقصا في أي جانب من جوانب التفسير فليتصل بالناشر مباشرة، فإن النقص يعتري كل البشر، وقد جعل رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- النصيحة هي الدين، وليثق القارئ الكريم في أن أي ملاحظة مهما كان حجمها ومهما كانت لهجتها، ستؤخذ في الاعتبار وستكون محط عناية وتقدير؛ ذلك أن المؤمن مرآة أخيه فكونوا لنا مرآة حتى نصل- إن شاء الله- بهذا العمل وبغيره من الأعمال إلى أقصى ما يصل إليه البشر من الدقة والإحكام. ولا أنسى في هذا المقام أن أقدم شكري وتقديري ومحبتي لأسرة دار السلام من مصححين وإلى أقسام المونتاج والتصوير والجمع وإلى مندوبي المبيعات والمحاسبين، لما قدموا، فهم نعم الإخوة، حاولوا جهدهم إخراج هذا التفسير على أفضل ما يستطيعون، جزاهم الله خيرا وأحسن إليهم. وأخيرا وليس آخرا .. أقول: اللهم إن أحسنت فمن فضلك وكرمك، وإن كانت الأخرى فمن نفسي. أرجوك حسن العاقبة وأن ألقاك وأنت راض عني، فاجعل اللهم هذا العمل ذخرا لي إلى يوم ألقاك، يوم لا ينفع مال ولا بنون. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الناشر عبد القادر البكار
مقدمة سلسلة الأساس في المنهج
مقدمة سلسلة الأساس في المنهج هذه السلسلة تتألف من ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأساس في التفسير. القسم الثاني: الأساس في السنة وفقهها. القسم الثالث: الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص. وهذا القسم الأخير بمثابة المفاتيح لأمهات القضايا، التي تلزم دارس الكتاب والسنة، أو تصلح كمقدمات لدراسة الكتاب والسنة، سواء كانت هذه القضايا مرتبطة بأصول الفقه، وكيفية انبثاق الأحكام عن الكتاب والسنة، أو كانت مرتبطة بقضايا اختلاف الفقهاء، وأسباب اختلاف الفرق الإسلامية، فضلا عن الكلام في قضايا الحكم العقلي والعادي والشرعي، ومحل كل «وصلة كل» من الثلاثة بالآخر، إلى غير ذلك. ولا يظنن ظان أن تسميتي لهذه السلسلة باسم الأساس في المنهج، وكذلك في استعمالي كلمة الأساس في كل من أقسامها الثلاثة أن ذلك تزكية لها وإشعار بإحاطتها، فالأمر ليس كذلك، بل كل ما أحلم به هو أن أقدم لإخواني المسلمين أساسا يبنون عليه، ولكن حرصت على أن يكون أساسا غاية في القوة والمتانة.
بعض احتياجات عصرنا
إن القارئ سيرى بإذن الله كيف أن هذه السلسلة تعطيه أساسا في فهم القرآن، وأساسا في السنة وفقهها، بل ستعطيه كذلك أساسا في أشياء كثيرة من توحيد إلى فقه إلى سلوك ... إلى غير ذلك، بل ستعطيه أساسا لفقه الدعوة الإسلامية، وأساسا لنظرة المسلم إلى القضايا المعاصرة؛ ولكن نرجو ألا يطالبنا المسلم بأكثر من الأساس، وإن كنا قد نقدم أكثر من ذلك أحيانا. ولقد حرصنا فيما حرصنا عليه في هذه السلسلة بأقسامها الثلاثة على أن ندل المسلم على أسباب اختلاف الأمة الإسلامية في فرقها الاعتقادية مبرهنين على الاعتقاد الحق بأدلته الساطعة، كما حاولنا أن نبرز أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين، وكيف أن الاجتهاد كان ضرورة لا بد منها، وكيف أن من أهم ميزات المجتهد استشرافه الشامل لمجموع النصوص، وقدرته على أن يضع كل نص في محله بالنسبة لمجموع النصوص، ولقد حاولنا في هذه السلسلة أن نبرز منطلقات الأئمة المجتهدين وحججها، وما ترتب على الاختلاف في المنطلقات من آثار، وكما حرصنا على إبراز ذلك كله، فقد حرصنا على أمور كثيرة أخرى ستضح في هذه المقدمة، وكلها تقتضيها احتياجات عصرنا إذ كانت هذه الاحتياجات في الحقيقة هي الدافع الأول نحو العمل في هذه السلسلة، فهي خدمة تضاف إلى خدمات هذه الأمة لكتاب ربها تعالى، ولسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، إنه لم تخدم نصوص في تاريخ هذا العلم كما خدمت نصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة النبوية المطهرة، حتى إن مجموعة العلوم التي وجدت لأنواع من هذه الخدمة تبلغ العشرات بل المئات، ومجموعة الكتب التي ألفت لهذه الخدمة لا يمكن حصرها ولا إحصاؤها فضلا عن الكتب التي تعتبر انبثاقا عن علوم انبثقت من الكتاب والسنة، ومع هذا كله فإن لكل عصر احتياجاته التي تختلف عن احتياجات عصر سبقه، ومن ثم فلا بد من ملاحظة احتياجات عصرنا، لمعرفة ما ينبغي أن يضاف إلى المكتبة القرآنية والحديثية مستفادا مما قدمه المؤلفون في عصور سابقة، مع ملاحظة أن ما قدمه السابقون يكاد ألا يكون عليه مزيد، ولا في شأنه مستزيد، ومن ثم فإن المؤلف المعاصر ليس عليه في الغالب إلا أن يتخير من تحقيقات السابقين في كثير من الأمور، وأن يكون تخيره ملاحظا فيه احتياجات العصر. [بعض احتياجات عصرنا] إذا اتضح هذا الأمر، فلنر بعض احتياجات عصرنا بالنسبة للقرآن الكريم ثم بالنسبة للسنة المطهرة، وبعض جوانب الخدمة التي نرغب أن نقدمها نتيجة لذلك في بعض أقسام هذه السلسلة:
أولا: بالنسبة للقرآن
(الأساس في التفسير) و (الأساس في السنة وفقهها) و (الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص) أولا: بالنسبة للقرآن: أ- دندن علماؤنا حول الصلة بين آيات السورة الواحدة وحول الصلة بين سور القرآن وحول السياق القرآني؛ وجاءت نصوص تتحدث عن أقسام القرآن: قسم الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل. ولم يستوعب أحد من المؤلفين الحديث عن هذه القضايا- في علمي- بما يغطيها تغطية مستوعبة. وفي عصرنا- الذي كثر فيه السؤال عن كل شئ- أخذ كثيرون من الناس يتساءلون عن الصلة بين آيات القرآن الكريم وسوره، وعن السر في تسلسل سور القرآن على هذه الشاكلة المعروفة. فأصبح الكلام في هذا الموضوع من فروض العصر الذي نحن فيه. ولقد من الله علي في أن أسد هذه الثغرة مصححا الكثير من الغلط في هذا الشأن، ومضيفا أشياء كثيرة لم يسبق أن طرقها أحد. ب- في عصرنا وجدت علوم كثيرة، هذه العلوم قدمت فهوما جديدة للنصوص، أو أنها رجحت فهوما قديمة، وبسبب من هذه العلوم وبسبب من الوقائع التي انبثقت عنها، طرحت تساؤلات حول كثير من معاني القرآن، وكأثر عن ذلك كله كان لا بد من عرض للقرآن الكريم يغطي ذلك كله .. ولقد حاولت في قسم التفسير أن أقدم جوابا لتساؤلات وتبيانا لنصوص، وإقامة حجة في شأنها بالنسبة لقضايا العلوم والدراسات الحديثة بحسب الإمكان. ج- وفي عصرنا كثرت الشبه والاعتراضات على القرآن، وعلى إمكانية انبثاق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عنه، ووجدت مفاهيم واتجاهات مزخرفة ومعاكسة، محليا وعالميا، ضد بناء الحياة المعاصرة على أساس قرآني، والمسلمون الحقيقيون يتحركون حركتهم الصعبة في البيان والتبيين، لإقناع هذا العالم بأن القرآن هو الكتاب الرباني الوحيد، الذي تكلف به البشرية بحق، وهذا يقتضي عملا وجهدا يكافئان ذلك. ونرجو أن يكون قسم التفسير من هذه السلسلة قد أعطى هذا الموضوع حقه.
د- ولقد ابتعدت الشخصية المسلمة كثيرا عن التحقق بمعاني القرآن، وابتعدت الأمة الإسلامية كثيرا عن تمثل كتاب الله، ولا بد من بذل جهد لإعادة المطابقة بحيث تعود الشخصية الإسلامية إلى أن يكون القرآن خلقها، وبحيث يعود القرآن إلى الظهور في حياة الأمة المسلمة، فتكون تجسيدا لمعانيه. وذلك موضوع متشعب الجوانب ولعل هذا التفسير يؤدي دورا فيه فإنه من أهم ما ينبغي أن يشتغل به ذهن المسلم المعاصر. هـ- والمسلم المعاصر يعجبه أن يأخذ خلاصة التحقيق بأدلته المباشرة في أمر ما، أما التحقيق نفسه فإنه يولع به طبقة من الناس. ومن ثم فحتى أمهات كتب التفسير كثيرا ما يضيق المسلم العادي ذرعا وهو يقرؤها، وكثيرا ما يضيع وهو يرى أقوالا متعددة، وروايات كثيرة ومناقشات لا حصر لها، وهذا كله ينبغي أن يختصر للمسلم غير المختص ليكون فهم كتاب الله متيسرا للجميع. ولقد راعيت في قسم التفسير هذه الضرورة بحيث لم أقدم فيه إلا ما له مساس مباشر في فهم القرآن دون مخالط كثير. و- وفي عصرنا هناك قضايا إسلامية مطروحة، ومناقشات تدور بين المسلمين أنفسهم، بعض هذه القضايا استمرار لمناقشات قديمة، سببها الاختلاف المذهبي أو الخلاف الاعتقادي، وبعضها وليد عصرنا، وهذا موضوع لا بد من الاستقرار فيه على شئ، وقد حاولت في هذه السلسلة كلها أن أغطي هذا الموضوع في كل مناسبة ذات صلة بشيء من ذلك. هذه أبرز النقاط التي تعتبر احتياجات عصر، والتي استهدفتها في قسم التفسير وبعضها مستهدف في السلسلة كلها. وهناك نقاط أخرى لم تكن هدفا في حد ذاتها بل جاءت بسبب ظروفي التي بدأت فيها العمل في التفسير: إنه من الواضح أن كل من يرغب في أن يشتغل بالتفسير سيجد نفسه بين أمرين:- الأول: أن قسما من التفسير الذي يريده سيجده في أي تفسير معتمد، وهو بالتالي لا يحتاج إلا إلى نقله وأحيانا إلى تبسيطه.
- الثاني: أن الأغراض الخاصة التي يحب المفسر أن يحققها في تفسيره عليه أن يبذل جهدا خاصا من أجلها، حتى إنه ليحتاج أن يقرأ مئات الصفحات، من أجل أن يغطي نقطة صغيرة جدا. ولم يكن باختياري أنني لتحقيق النوع الأول اعتمدت في الابتداء على تفسيرين فقط هما: تفسير ابن كثير وتفسير النسفي، إذ لم يتوفر لي في سجني في المرحلة التي ابتدأت فيها العمل إلا هذان التفسيران، وهما تفسيران مشهوران يغلب على الأول التفسير بالمأثور، ويغلب على الثاني قضايا التحقيق المختصر لأمور اعتقادية أو مذهبية، مع محاولة كل من التفسيرين أن يغطي المعنى الحرفي لآيات القرآن الكريم، فأقبلت على هذين التفسيرين محاولا من خلالهما أن أغطي المعاني الحرفية لكتاب الله تعالى، وأحيانا المعاني الإجمالية، ومحققا خلال ذلك ما أستطيع تحقيقه من أغراض هذا التفسير، على أن أكمل فيما بعد- إذا تغيرت ظروفي- كل ما استهدفته من هذا التفسير. ولقد حاولت في المرحلة الأولى من العمل أن أضمن هذا التفسير خلاصة التفسيرين ومجمل الفوائد الموجودة فيهما تاركا ما لا يتفق وأهداف هذا التفسير، وكنت أرى حرص الكثيرين من المسلمين على استيعاب تفسير ابن كثير، ولم أزل أرى فشل الكثيرين في استيعاب هذا التفسير، بسبب هو ميزة في حق العالم، ومتعب في حق الرجل العادي، وهو ذكر ابن كثير للأسانيد والروايات المتعددة والأقوال الكثيرة في الموضوع الواحد، ومن ثم فقد حاولت أن أريح القارئ العادي من مثل هذا فأخذت خلاصة ما في هذا التفسير من معان إجمالية، أو معان حرفية، أو فوائد مذكورة فيه؛ حتى إنه ليستطيع قارئ تفسيري هذا أن يطمئن إلى أنه أخذ تفسير ابن كثير دون ما يمله الرجل العادي منه، مضافا إليه تحقيقات وفوائد كثيرة مبثوثة في تفسير النسفي، حتى ليكاد أن يكون هذا التفسير كذلك مستوعبا الكثير مما هو موجود في تفسير النسفي، تاركا نقل أمور كثيرة لا تتمشى مع أهداف هذا التفسير؛ فكانت هذه القضايا ميزة لهذا التفسير، ولكنها ميزة لم تكن مستهدفة في الأصل، ومن خلال هذين التفسيرين وضعت الأساس الذي بنيت عليه هذا التفسير، ثم بعد ذلك بدأ العمل الذي تم به هذا التفسير كما يراه القارئ. وسيرى القارئ أنني كعادتي في كل ما أجمعه، لا أكلف نفسي عناء صياغة شئ يحتاجه كتابي، إذا كان غيري قد صاغه الصياغة التي أرضاها، أو التي تقصر عنها صياغتي أصلا. فليس الهدف إلا وجه الله عزّ وجل، وما سوى ذلك فإنني أرجو أن أتجاوزه. ولم يزل علماؤنا ينقلون في كتبهم الفصول الطويلة، وأحيانا لا ينسبونها إلى أصحابها، معتمدين فكرة أن أي تجديد في علم أو فن تعطي صاحبه حق النقل دون
ثانيا: بالنسبة للسنة
العزو؛ على أنني لا أفعل ذلك بل أنقل وأعزو؛ وإنما ذكرت هذا من باب الاعتذار، ومن باب الاعتذار كذلك أقول: إنه من الظلم لهذا التفسير أن يقول قائل: إن هذا التفسير هو خلاصة لكتابين، كما أنه من الظلم أن يقول قائل: إن إحياء علوم الدين للغزالي هو مجرد دمج لكتابي: قوت القلوب، والرعاية. على أنني لا أدعي أن لهذا التفسير ميزة على تفسير ابن كثير أو تفسير النسفي بل أريد أن أقول: إن في هذا التفسير شيئا آخر، هو من الكثرة بمكان مما يحقق أهداف هذا التفسير ولم يكن هدفا أصلا لابن كثير أو للنسفي رحمهما الله. وبعد هذا الاستطراد الذي اضطرنا إليه استكمال ميزات هذا التفسير، في سياق الكلام عن بعض احتياجات عصرنا في شأن عرض القرآن في هذا العصر؛ نرجع إلى ذكر الأسباب الموجبة، التي أدت إلى إيجاد هذه السلسلة والتي هي احتياجات العصر كما ذكرنا، فنذكر بالنسبة للسنة بعض ما نراه احتياجات عصر. ثانيا: بالنسبة للسنة: أما بالنسبة للسنة، فإنني أرى أن احتياجات عصرنا في شأنها مجموعة أمور: 1 - المسلم المعاصر عنده رغبة في أن يتعرف على السنة المتواترة والصحيحة والحسنة السند، ويحتاج إلى كتاب جامع لذلك كله، على أن يكون هذا الكتاب مضبوطا شكله مشروحا غريبه. 2 - والمسلم غير المتخصص بالحديث يهمه كذلك أن يأخذ الجوهر- دون ما احتاجه هذا الجوهر لحمايته- أي هو يحرص على أن يقرأ متون السنة دون أسانيدها. 3 - والمسلم المعاصر بحاجة إلى أن يفهم السنة فهما صحيحا وأن يأخذ الجواب الشافي على كثير من الإشكالات، وأن يعرف كثيرا من الأمور التي يتلجلج في قلبه سؤال عنها. 4 - وهناك شبهات حول السنة يثيرها أعداء الله عزّ وجل، وهناك مناقشات حادة حول الكثير من الأمور بين المسلمين أنفسهم في شأن فهم الكثير من متون السنة، وكل ذلك يحتاج المسلم المعاصر إلى أن يرتاح قلبه في شأنه.
إن من أهداف هذه السلسلة خدمة قضية زيادة الإيمان، وإصلاح الاعتقاد والعمل.
وقد كنت أحس بضرورة وجود الكتاب الذي يخدم في هذه الشئون، وغيرها مما رأيناه وسنراه، ولكن ما العمل؟ ولم أكن أستطيع وخاصة في المراحل الأولى من سجني أن أصل إلى أي كتاب إلا بصعوبة شديدة، ومن ثم لم أكن أطمع في أن أقدم خدمة مستوعبة في شأن السنة تحقق كل الأمور التي أعتبرها احتياجات عصرنا، كما لم يكن بإمكاني أن أقدم التحقيق المناسب الذي يخدم أغراض هذه الاحتياجات، ومن ثم فقد رأيت أن أعمل بقدر المستطاع المتاح، مما سنرى حدوده في مقدمة الكلام عن القسم الثاني من هذه السلسلة، وهو بفضل الله كثير طيب. هذه مجمل أمور في شأن الكتاب والسنة أعتبرها من احتياجات عصرنا، وأرجو أن أكون قد قدمت خدمة لا بأس بها فيها ويأتي القسم الثالث ليضع الأساس في ضبط مسار الفهم. ولئن كان المشتغلون قديما في خدمة الكتاب والسنة يفترضون في الغالب أنهم يخاطبون إيمانا كاملا، وبالتالي فإنهم لا يتكلفون كثيرا لما يخدم قضية الإيمان؛ فإنني أعتبر أن من واجبات العصر أن نلاحظ قضية الإيمان: إن في عرض المعاني، أو إبراز ما يلزم لذلك. ففيما يتعلق بعرض السنة فإنه ينبغي على الباحث أن يلاحظ هذا الموضوع حتى في عملية ترتيب أبحاث السنة. وأما بالنسبة للتفسير فإذا لم تخدم قضية الإيمان فيه في عصرنا المادي والشهواني فكأن المفسر لم يفعل شيئا، إن الله عزّ وجل يقول: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً. فالأصل الأصيل هو أن يتعمق الإيمان بتلاوة الآيات، وعلى المفسر أن يساعد في ذلك. إن كثيرا من التفاسير- كما قلنا- يفترض سلامة الإيمان وكماله، ومن ثم يركز على النكت والشروح والفوائد ومناقشة الخصوم، وكل ذلك له فوائده، ولكن هذا التفسير يريد صاحبه أن يكون أداة لرفع درجات اليقين، بحيث لا يخلص القارئ من صفحة إلى صفحة إلا وقد ارتقى يقينه، هذا مع تصحيح التصورات وزيادة العلم. إن من أهداف هذه السلسلة خدمة قضية زيادة الإيمان، وإصلاح الاعتقاد والعمل. ولقد حرصت على أن أربط بين أقسام هذه السلسلة برباط، مع أنه جرت عادة المؤلفين أن يخصوا الكتاب بالتأليف وكذلك السنة وكذلك الأصول دون أن يتكلف
الواحد منهم لتأليف متسلسل يضمها مكتفيا بما استقر في ضمير المسلم من أنه سيأخذ حظه من الكتاب ومن السنة ومن الأصول كل من مصادره. لكني وجدت أن الربط بين الكلام عن الكتاب والسنة والأصول في سلسلة واحدة مفيد لأسباب متعددة، أولها: الاختصار، فبدلا من أن يبحث الباحث قضية واحدة فيفصلها هاهنا وهاهنا فإنه يكتفي بالتفصيل في مكان واحد. ثم إن السنة هي المبينة للكتاب، فالوضع الكامل أن تدرس معه. ولكي أضمن الاقتراب من الكمال في الفهم، حرصت على أن تكون السلسلة شاملة لعرض نصوص الكتاب والسنة، ثم إن الحركة الإسلامية وهي تنطلق مصححة لأوضاع محلية أو لأوضاع عالمية أو لإرث موروث أو لدخن مختلط أو وهي تقيم الحجة على الناس كل الناس مسلمين وغير مسلمين، لا بد أن تقدم الفهم الحق للكتاب والسنة، اللذين هما أصل الإسلام على طريقة سواء وضوابط هذا الفهم كل ذلك وغيره من معان متعددة كلها يصب في كون المسلم لا بد له من معرفة بنصوص الكتاب والسنة، ولا بد له لتحقيق كمالاته من الاطلاع على الكتاب والسنة، ولا بد له من فهم لنصوص الكتاب والسنة فهما صحيحا يحفظه من الخطأ، كل ذلك دعاني لإصدار هذه السلسلة تحت عنوان واحد (الأساس في المنهج) لأن منهج الحق يتمثل في الكتاب والسنة كليهما. وشئ بدهي أن أوضح في هذه السلسلة موضوع أن الإسلام تغطية كاملة لشئون الحياة، وأن أبين أنه يستحيل شئ مما وصل إليه الإنسان من حقائق علمية ينقضه نص من نصوص الكتاب والسنة، بل إن الكثير مما وصل إليه الإنسان من حقائق علمية قطعية كان لصالح إثبات أن الكتاب والسنة حق خالص، وكيف أن عصرنا قد أبرز من معجزات الكتاب والسنة ما تقوم به الحجة على أهل جيلنا أكثر من أي جيل مضى، كل ذلك شئ عادي أن أبرزه في هذه السلسلة. وفي سلسلتنا (في البناء) أشرنا أكثر من مرة إلى هذه السلسلة ووعدنا هناك أن نحقق هنا نعاني بعينها، ونرجو أن نفي بوعودنا كلها في هذه السلسلة بإذن الله. ومن المعلوم أنه ينبثق عن نصوص الكتاب والسنة كثير من المواضيع، ومن ثم فلا نطمع أن نخص كل موضوع بعنوان. على أننا سنستعين بالفهارس للدلالة على وجود بعض المواضيع التي تعتبر أهم من غيرها.
وسنعطي قضايا الحكم العقلي والشرعي والعادي، وأصول ذلك وصلة ذلك بالنصوص أهمية خاصة. هذا كله مراعى في تأليف هذه السلسلة ودافع نحو تأليفها غير أن هناك أسبابا بعينها كانت هي الأقوى في الدفع نحو هذا التأليف وهذه هي: 1 تعتبر العصور المتأخرة ومنها عصرنا عصور الامتحان لكل شئ؛ لأن الإنسان في الغالب قد شك في كل شئ، خاصة وأن الشعوب التي ملكت السيطرة المادية على العالم، والتي أصبحت نتيجة لذلك هي التي تصدر الأفكار وتدعو إليها وتفلسفها، وتحاول- سواء كانت رأسمالية أو شيوعية- أن تصوغ الأمور بالقالب الذي تريد. إن هذه الحكومات والشعوب جعلت كل شئ محل امتحان في الظاهر، ولكنها في الواقع قد أصدرت أحكامها سلفا في كثير من الأمور، وتحاول باسم الامتحان أن توصل الناس إلى ما تريد في الاعتقاد والسلوك وغير ذلك، وارتبط ذلك كله بعملية تناحر هائلة جبارة على المواد الخام وعلى السيطرة على العالم، وبقضية الصراع من أجل البقاء، ومن ثم فقد سخر في عملية الامتحان الظاهري للأشياء وفي عملية صبغ الأشياء بالفكر المسبقة، سخر لهذا الموضوع من الإمكانات والطاقات ما لا يخطر بالبال، فأصبحت الأشياء كلها محل امتحان وكادت تتغير كل المسلمات القديمة لدى أكثر الناس، والقليل من الناس هم الذين بقوا في مثل هذا الجو الضاغط الفظيع محتفظين بمسلماتهم، وقليل من هذا القليل هو الذي احتفظ بالمسلمات على بصيرة. وأمام هذا كله لا بد من عرض شامل واستعراض كامل لنصوص الإسلام التي هي بالدليل والبرهان تشكل المسلمات الوحيدة الصحيحة في هذا العالم، أو أنها وحدها الميزان الصحيح الذي توزن به المسلمات. هذه النصوص التي هذا شأنها والتي ليس أمام أحد خيار إلا قبولها والتسليم لها، وهذا العرض الشامل والاستعراض الكامل هما أول دافع قوي نحو إصدار هذه السلسلة؛ لأنه بدون العرض الشامل والاستعراض الكامل تبقى ثغرات كبيرة يمكن أن ينفذ من خلالها المشككون، فتسهل بدون ذلك عملية سقوط المتشككين، فضلا عن كون ذلك واجب العصر، إذ لكل عصر واجبات على أهل الحق، يقتضيها حق العصر وهذه إحدى أهم واجبات هذا العصر.
2 وفي عصرنا طرحت كثير من الأمور نفسها بشكل حاد، فأصبح لا بد من إجابة شافية كاملة عنها، واختلط الأمر واختلطت الإجابات، فكان لا بد من عملية تمييز شاملة كاملة للإجابة الصحيحة من ناحية، وللتوضيح من ناحية أخرى، وإذا كانت نصوص الإسلام هي الإجابة الشاملة والكاملة على كل قضية تخطر ببال الإنسان، وهي التي من خلالها يتم التمييز الشامل الكامل، فإن هذه النصوص لا بد أن تفهم في إطارها الصحيح لتعطي الجواب، ويتم التمييز ويكون الوضوح. إن كل تساؤل حاد لا يحتمل عصرنا تأخير الإجابة عليه أو السكوت عنه، وإجابة شاملة على كل الأمور لن تتم إلا من خلال عرض شامل لكل النصوص لأن الله عزّ وجل جعل كتابه تبيانا لكل شئ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وبدون السنة التي هي بيان للقرآن، لا يتم البيان قال تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وبدون علم الأصول لا يستطيع الإنسان أن يضع الأمور في مواضعها. 3 وفي عصرنا انطلق كل شئ من عقاله بحرية كاملة دون أي التزام مسبق في الظاهر كما رأينا. ولكن الأمر العجيب أن كل شئ يخدم قضية الحق أبعد لصالح الهوى، وكل شئ يخدم قضية اليقين أبعد لصالح الظنون. وكل ذلك يعطى صفة علمية يتم الإيهام بأنها قطعية، وهي باطل في جوهرها. فعلى سبيل المثال: لقد انطلق علم الجيولوجيا والبيولوجيا والمستحاثات وغير ذلك من العلوم، وبدأت الحفريات عن الآثار وعن غيرها للوصول إلى حقائق، فإذا جاءت النتائج تؤيد النصوص الدينية استبعدت، وإذا جاءت لغير صالح نوع من النصوص الدينية المحرفة تبنيت وحمل بسببها على كل دين، حتى ولو كانت نصوصه لا تتناقض مع هذه المكتشفات، وأصاب الإسلام من ذلك الكثير. نجد مثلا دارسي التاريخ الفرعوني في مصر يرجحون أن جثة فرعون الذي عاصر موسى موجودة حتى الآن. والقرآن يذكر النجاة البدنية لفرعون من الغرق مع إثباته الغرق. وفي ذلك دليل على أن القرآن هو الذي أعطى الجواب الكامل الصحيح على هذا
الموضوع، وأن القرآن ليس مستمدا من روايات الكتب السابقة كما يزعم الزاعمون؛ لأن ما يسمى بالتوراة- الحالية- تذكر غرق فرعون دون أن تذكر نجاة جثته. فبدلا من أن يرى فيما ذكره القرآن دليلا على الوحي وعلى أن القرآن وحي إلهي، تكون المسألة أن يشكك في كل الوحي الإلهي، بسبب أن ما يسمى بالتوراة حاليا- وهي محرفة كما سنرى بالدليل- عارضت مكتشفات أثرية. والحفريات التي تمت في العراق أوصلت إلى ملحمة جلجاميش التي تحدثت عن نوح عليه السلام وعن الطوفان، وأوصلتنا هي وغيرها إلى أن الطوفان كان مشهورا معروفا، وأن قصة نوح عليه السلام كانت معلومة معروفة، ثم تذكر هذه الحفريات كما يقول أنطون مورتكات في تاريخ الشرق الأدنى القديم الذي عربه توفيق سليمان وآخران: (لقد صنفت المصادر المحلية التي ترجع إلى ما بعد الطوفان سلالة كيش الأولى في ثلاثة وعشرين ملكا بلغ مجموع حكمهم (24) ألف سنة. ثم تتبعها سلالة أوروك الأولى باثني عشر ملكا وصل مجموع حكمهم مدة زادت عن ألفي سنة). هذا ما أوصلت إليه الحفريات وفيه دليل على أن الناس في الماضي كانوا يعمرون فعند ما يحكم ثلاثة وعشرون ملكا أربعة وعشرين ألف سنة فذلك دليل على أن ما ذكره القرآن من رقم (950) سنة في حق نوح عليه السلام تسنده الحفريات، وأن الإنسان في الماضي كان يعمر أكثر من إنساننا الحالي، ولكن هذه القضية نفسها تعرض على أنها مستبعدة أصلا فما أوصلت إليه الحفريات مرفوض إذا! ولماذا الحفريات إذا! إن هذا يؤكد أن الإنسان الحالي في الغالب عنده أحكام مسبقة يحاول أن يفسر الأشياء بها لا أن يصل إلى الحق. ويذكر الدكتور حسن زينو المتخصص في الجيولوجيا في كتابه (التطور والإنسان) كيف أن الحفريات أوصلت إلى اكتشاف الإنسان العملاق، وكيف أن الحفريات أعطتنا جثة إنسان أضخم من إنساننا الحالي بست مرات وهذا يؤيد النصوص التي تذكر أن الخلق لم يزل يتناقص منذ خلق آدم كما سنرى، ولكن بدلا من أن يكون مثل هذا الاكتشاف يخدم قضية الإيمان فإنه يصاغ صياغة تخدم قضية الكفر. وقل ذلك في أمور كثيرة.
لقد انطلق الإنسان بحرية كاملة في كل شأن فوصل إلى حقائق تخدم قضية الإيمان فرفضها، ووصل وأوصل إلى تخريب وضلال في العقل والوجدان، وفي السلوك والاجتماع وفي السياسة والاقتصاد، وهو مصر على أن يستمر في هذا الطريق. ومن ثم فقد آن الأوان أن يقول المسلم لهذا العالم كلمته الحاسمة، وبداية ذلك العرض الشامل لنصوص الإسلام وإقامة الحجة في شأنها على أنها الحق الخالص. لقد آن الأوان للمسلم أن يرجع الأمور إلى نصابها في هذا العالم، الذي انطلق كل شئ فيه في غير مساره الصحيح، ليرجع الأشياء كلها إلى المسار الصحيح، بأن تصبح كلمة الله هي العليا، وبداية ذلك كله أن تفهم كلمة الله فهما صحيحا، وأن تفهم كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا، وأن تقام الحجة بكلمات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على العالم. 4 إن الوحي الإلهي في صيغته الصحيحة الوحيدة حاليا، يتمثل بالدليل والبرهان بما أنزل الله عزّ وجل على محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن وحكمة، هذا القرآن الذي كانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه البلاغ والبيان هو حجة الله على خلقه، وهو حجة الله على أن محمدا عبده ورسوله. هذا القرآن الذي هذا شأنه؛ لا بد من إبراز كمال الحجية فيه، وما أكثر الحجج وأكبرها، إنه كلمات الله إلى هذا العالم، فلا بد من إقامة الحجة فيه، ولا بد من الإجابة على شبهات الخلق في شأنه. ومن آخر هذه الشبه وأعجبها ما تثيره الآن أكثر دوائر الكفر بشكل مهذب أو وقح حول الوحدة القرآنية والصلة بين سور القرآن بعضها ببعض، أو آيات القرآن بعضها ببعض، كما ترى نموذج ذلك في مقدمة (كلود كاهن) في تاريخه، مع أن هذا الموضوع وحده هو من أعظم مظاهر الإعجاز في القرآن كما سنرى في هذه السلسلة، ولكن الأمر يحتاج إلى بيان، فكانت هذه السلسلة وخاصة جزؤها الأول هي هذا البيان. ومع البيان لمثل هذا الشأن وغيره مما تندفع به الشبه وتقوم به الحجة، فهناك محاولة الفهم الصحيح لكلمة الله وكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر أصبحت فيه كثير من النصوص تفهم فهما خاطئا ويبنى على هذا الفهم الخاطئ أحكام خاطئة.
5 ثم إنه منذ العصور الأولى وجدت عقلية حرفية، تحاول أن تفهم نصوص الكتاب والسنة غير مراعية طرائق العرب في الخطاب والفهم، كما وجدت عقلية تأويلية تنطلق بالتأويل بدون ضوابط، وهناك عقلية تريد أن تفهم الأصل على ضوء الفرع، وعقلية تنسى الأصل وتستيقظ على الفرع، وكل ذلك لا يسع المسلمين أن يبقوا على غفلة عنه في عصر المخاض لميلاد الدولة الإسلامية العالمية بإذن الله تعالى. هذه النقاط الخمس تشكل الدوافع الأقوى لإصدار هذه السلسلة، ولكن هل استطعت أن أحقق هذه الأحلام؟ لا أقول هاهنا شيئا فلي كلمة في الختام، ولكن أستعين بالله عزّ وجل وأبدأ، وأرجو ألا يندم أحد سهر الليالي في قراءة هذه السلسلة، بل إنني لأرجو أن ينتهي القارئ منها وقد شعر أنه بحاجة إلى أن يقرأها مرة ومرة. وإني لأعتبر السلاسل الأربع التي أصدرتها: سلسلة الأصول الثلاثة، وسلسلة في البناء وسلسلة إحياء الربانية، وهذه السلسة مما لا ينبغي أن يتجاوزها طالب علم إلا وقرأها، فضلا عن إنسان له دور الداعية أو المربي في هذه الأمة، لأنني أعتبرها جميعا احتياجات عصر. وإني لأرجو أن أكون بهذه السلاسل قد أجبت على كل شبهة، وأعطيت جواب الحركة الإسلامية على كل المسائل المعاصرة. ومن ثم فإنني أرجو أن تكون نقاط علام مضيئة على طريق طويل، وضع النقاط الأولى فيه حسن البنا، ووضع النقاط التالية فيه حسن الهضيبي، ووضع نقاطا مضيئة كثيرة فيه سيد قطب وغيره من أبناء هذه الحركة في الشرق الإسلامي وعلى امتداد هذا العالم؛ فإن الكثيرين قد وضعوا من هذه النقاط على هذا الطريق، وأخص بالذكر منهم الأستاذ أبا الأعلى المودودي، وشيخنا أبا الحسن الندوي، فجزى الله الجميع خيرا. ولئن وضعت اسمي بين هذه الأسماء اللامعة، فما ذلك إلا لتشجيع القارئ على قراءة هذه السلاسل، وإلا فإنني بفضل الله أعرف مكاني وهو الجندية الخالصة لهذه الدعوة الربانية. هذا ونسأل الله أن يعين وأن يتقبل إنه سميع مجيب. اللهم آمين. ولنبدأ في القسم الأول من هذه السلسلة مبتدءين بالمقدمة المباشرة لقسم الأساس في التفسير.
مقدمة الأساس فى التفسير
مقدمة الأساس فى التفسير
رأينا في مقدمة هذه السلسلة (الأساس في المنهج) مجموعة من الأمور لها صلة بالسلسلة كلها. ولا شك أن قسما مما ذكرنا هناك هو بمثابة مقدمة لهذا التفسير، غير أنا رأينا أن نقدم مقدمة خاصة لهذا التفسير ولو تكررت بعض المعاني لإبراز بعض خصائصه، ليدرك القارئ أن هذا التفسير- وإن كان في بعض جوانبه- لا يحوي جديدا إلا أنه في جوانب أخرى كان جديدا، وما ذلك إلا من فضل الله عزّ وجل. إن الخاصية الأولى لهذا التفسير وقد تكون ميزته الرئيسية أنه قدم لأول مرة- فيما أعلم- نظرية جديدة في موضوع الوحدة القرآنية، وهو موضوع حاوله كثيرون وألفوا فيه الكتب ووصلوا فيه إلى أشياء كثيرة، ولكن أكثر ما اشتغلوا فيه، كان يدور إما حول مناسبة الآية في السورة الواحدة، أو مناسبة آخر السورة السابقة لبداية السورة اللاحقة، ولم يزيدوا على ذلك- فيما أعلم- هذا مع ملاحظة أن الموضوع الأول نادرا من استوعبه والتزم به في تفسير كامل للقرآن، وإذا التزم به فلم يكن ذلك على ضوء نظرية شاملة تحتوي مفاتيح الوحدة القرآنية. ولقد من الله علي منذ الصغر أنني كنت كثير التفكير في أسرار الصلة بين الآيات والسور ووقع في قلبي منذ الصغر مفتاح للصلة بين سورة البقرة والسور السبع التي جاءت بعدها وهي بمجموعها تشكل القسم الأول من أقسام القرآن كما سنرى ذلك في حديث حسن. فقد لاحظت مثلا أن الآيات الأولى في سورة البقرة مبدوءة بقوله تعالى: الم ومنتهية بقوله تعالي: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وأن سورة آل عمران مبدوءة ب: الم ومنتهية بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فقلت في نفسي هل سورة آل عمران تفصيل للآيات الأولى من سورة البقرة؟ ثم لاحظت أنه بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأن سورة النساء الآتية بعد سورة آل عمران مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ....
فتساءلت عما إذا كانت سورة النساء تفصيلا لآيات تقابلها من سورة البقرة. ثم لاحظت أنه بعد آيات من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... وأن سورة المائدة الآتية بعد سورة النساء مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. فتساءلت عما إذا كانت سورة المائدة تفصيلا لشئ يقابلها في سورة البقرة. ثم لاحظت أنه بعد ذلك في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. وأن سورة الأنعام تفصل هذا المعني ولذلك تتكرر فيها الآيات المبدوءة بقوله تعالى: وَهُوَ. بل آخر آية فيها هي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ... وصلة ذلك بآية البقرة واضحة فتساءلت عما إذا كانت سورة الأنعام تفصيلا لآية أو لأكثر تقابلها في سورة البقرة؟ ثم لاحظت أنه بعد ذلك في سورة البقرة، تأتي قصة آدم وهي منتهية بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .... وأن الآية الثانية في سورة الأعراف هي قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وأن قصة آدم معروضة فيها منذ بدايتها، فهل لسورة الأعراف صلة بآيات تقابلها في سورة البقرة؟ ثم بعد ذلك بآيات كثير في سورة البقرة، تأتي الآية التي يفرض بها القتال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ ... وبعدها مباشرة آية فيها سؤال عن قضية لها صلة بالقتال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .... وأن سورة الأنفال وبراءة- وهما في موضوع واحد: وهو القتال- قد بدئتا بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ فكأنهما تفصيل لقضايا متعلقة بالقتال. وهكذا وجدنا أن السور السبع التي جاءت بعد البقرة، وهي التي تشكل مع سورة البقرة القسم الأول من أقسام القرآن كما سنرى، هذه السور التي جاءت بعد سورة البقرة مباشرة أتت على تسلسل معين هو نفس التسلسل الذي جاءت به
المعاني في سورة البقرة، وأن لكل سورة منها محورا موجودا في سورة البقرة هذه الملاحظة وقعت في قلبي منذ الصغر وسجلتها في كتاب (الرسول) صلى الله عليه وسلم في فصل المعجزة القرآنية، ورأيتني بعد استعراضات كثيرة لكتاب الله قد عثرت فعلا على مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية، وتفتحت لدي من آفاق الفهم معان كثيرة بخصوص السياق العام للقرآن والسياق الخاص داخل السورة الواحدة. وكلما سرت في عرض القرآن الكريم تبين لي من الأدلة على سلامة سيري الكثير الكثير. وليست هذه المقدمة هي محل عرض هذا الاتجاه في موضوع فهم الوحدة القرآنية، ولكنها نموذج على عملي في التفسير أكملت فيه بناء أو حققت فيه أملا، فلقد دندن علماؤنا حول هذا الموضوع ولم يستوعبوه، واستوعبته بفضل الله، وأشاروا إليه ولم يفصلوا فيه، ولقد فصلت فيه تفصيلا استوعب الآيات في السورة الواحدة والسور في القرآن كله على ضوء نظرية شاملة أثبت البحث صحتها، وهي تعطي الجواب على كثير من الأمور مما له صلة بوحدة السورة، ووحدة المجموعة القرآنية، ووحدة القسم القرآني، ثم في الوحدة القرآنية كلها. وبدون هذه النظرية فإن كثيرا من الصلات التي تحدث عنها المتحدثون، إنما تتحقق بنوع من الاستكراه. ولئن توسعت في هذا الشأن بما لم يتوسع به أحد، فلأنه كما ذكرت احتياج عصر وضرورته، أما الماضون فلم يكونوا يستشعرون ضرورته، فاكتفوا بالتلميح إليه مع اعتقادهم أنه موجود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة البقرة ما نصه: «ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار. وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته … والذنب للطرف لا للنجم في الصغر» ا. هـ وقال الشيخ ولي الدين الملوي: «وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب: أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شئ عن كونها مكملة لما
قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له .. اه.» هذان النقلان نقلهما صاحب (مناهل العرفان) في الصفحة 73 - 74 من كتابه في طبعته الثانية من هذين النقلين ندرك أن علماءنا قد دندنوا حول ضرورة البحث عن الصلة والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة. بل كان البقاعي الذي يطبع تفسيره الآن ولم أطلع عليه، يلوم علماء بغداد لإهمالهم الكلام في هذا الشأن. وكما دندنوا حول المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة، بحثوا عن الصلة والمناسبة بين سور القرآن عامة. وهذه قضايا بمجموعها نادرا ما تجد تفسيرا قد خلا عن طرف منها، ونادرا ما تجد مفسرا إلا وقد عرج عليها ما بين مكثر ومقل. ويبدو أن بعض الصحابة قد عرج عليها فقد ذكر ابن كثير: «قال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة وفي رواية سورة النور، ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا»، ترى ما هو هذا التفسير الذي فسره ابن عباس حتى لو سمعه هؤلاء لأسلموا إلا أن يكون من جملته ذكر معان دقيقة زائدة على ما يفهم الرجل العادي من مجرد النظرة البادهة لسورة البقرة، ولا شك أن هذا احتمال ولكنه احتمال له حظه من النظر. ولكن لئن عرج بعض المفسرين على هذا الموضوع، فإن أحدا منهم لم يستوعب القرآن كله بذكر الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين سور القرآن بعضها مع بعض على ضوء نظرية شاملة، وقد بذل حتى الآن الجهد الأكبر في الربط بين الآيات في السورة الواحدة، ولكن النقطة الثانية لم يبذل فيها جهد إلا ضمن حدود ضيقة وكلا الجهدين فاتته إلى حد كبير بعض أسرار الوحدة الشاملة. ولقد حاولت في هذا التفسير أن أسد هذه الثغرة مع اعتقادي أن أسرار الوحدة القرآنية لا يحاط بها، ولكن وإذ أصبح الكلام عن هذا الموضوع مطلبا خاصا وعاما حتى جعلها بعض المستشرقين مدخلا يلج من خلاله إلى تشكيك المسلمين أو اتهام القرآن أو اتهام علماء المسلمين بالقصور، إذ أصبح الأمر كذلك فقد أصبحت على يقين من أن هذا الموضوع لا بد من تغطيته، وسيرى قارئ هذا التفسير أنني بفضل الله غطيت هذا الموضوع تغطية تامة، وسيرى قارئ هذا التفسير صحة سيرنا في هذه التغطية كلما قرأ صفحة جديدة من صفحات هذا التفسير.
هذه التغطية لهذا الموضوع كما أنها تلبي مطلبا من مطالب عصرنا، فإنها تروي ظمأ طلاب المعرفة والباحثين عن دقائق أسرار هذا القرآن، كما أنها تضع لبنة في صرح الحديث عن إعجاز القرآن ومعجزاته، كما أنها تجيب على تساؤلات كثيرة من جملتها موضوع فواتح السور، سواء منها المصدرة بالأحرف الهجائية أو المصدرة بما سوى ذلك، ومن خلالها يزداد ترجيح بعض الجوانب التي وقع فيها خلاف كقضية: إن ترتيب سور القرآن توقيفي وليس اجتهاديا. فمع أن جماهير الأمة ذهبت إلى هذا، فإن هذا التفسير سيبرهن على هذا الموضوع بشكل عملي، كما أنه بإبرازنا الوحدة القرآنية، بإبراز الصلة بين سور القرآن والصلة بين الآيات في السورة الواحدة، سنأخذ الجواب على السؤال: لماذا لم تكن المعاني ذات المضمون الواحد موجودة بجانب بعضها؟ وسنجد لذلك حكما كثيرة، وسيرى القارئ لهذا التفسير أن هذا الترتيب ما بين سور القرآن على هذه الشاكلة التي رتبها الله عزّ وجل في كتابه، شئ به وحده تقوم الحجة على كل من يتصور أن هذا القرآن يمكن أن يكون بشري المصدر. وذلك من جانب ترتيبه فقط، فكيف بما سوى ذلك من عشرات الظواهر التي فى كل واحدة منها الدليل من خلال عشرات الأمثلة، على أن هذا القرآن يستحيل أن يكون بشري المصدر. ثم إنه بعملنا هذا نكون قد زدنا بعض حجج الكاتبين عن القرآن وضوحا. فمثلا ذكر صاحب (مناهل العرفان) في باب حكم نزول القرآن منجما هذه الحكمة التي هي الحكمة الرابعة في عرضه فقال: «الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده وأنه لا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه». وبيان ذلك أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب قوي الاتصال آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، وعقد فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته وجاء آخره مساوقا لأوله وبدا أوله مواتيا لآخره. وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التأليف المعجز؟ وكيف استقام هذا التناسق المدهش على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة، بل تنزل آحادا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما؟ الجواب: أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز .. ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن وأنه كلام الواحد الديان وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً .. وإلا فحدثني بربك كيف تستطيع أنت أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات، مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه، التي يجئ كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ومتحدثا عنها سببا بعد سبب، وداعية إثر داعية، مع اختلاف ما بين هذه الدواعي، وتغاير ما بين تلك الأسباب، ومع تراخي زمان هذا التأليف وتطاول آماد هذه النجوم إلى أكثر من عشرين عاما!!!. لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام. أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا: نزل مفرقا منجما، ولكنه تم مترابطا محكما، وتفرقت نجومه تفرق الأسباب، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب، ولم يتكامل نزوله إلا بعد أكثر من عشرين عاما ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما. أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، العليم بما كان وما سيكون الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون. لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال: (ضعوها في مكان كذا من سورة كذا) وهو بشر لا يدري- طبعا- ما ستجئ به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث، فضلا عما سينزل من الله فيها. وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول صلى الله عليه وسلم على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لا يمكن أن يأتي على مثل هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط لا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام غيره من البلغاء، خذ مثلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه: لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة لدواع متباينة في أزمان متطاولة، فهل في مكنتك
ومكنة البشر معك أن ينظموا مثله أو يزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟ ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ... إذن فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده. وتلك حكمة جليلة الشأن تدل الخلق على الحق في مصدر القرآن قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (سورة الفرقان) اه. إن هذه الحكمة التي ذكرها المؤلف تتضح أبعادها بشكل أقوى وأكثر بيانا عند ما يقرأ الإنسان تفسيرنا هذا، ليجد من عجائب الصلة بين الآيات والسور ما لا يمكن أن يخطر ببال بشر، بحيث يجد أنواعا من الوحدة الشاملة التي تضم معاني القرآن وآياته وسوره بما يحير الألباب ويدهش الأبصار والبصائر. ولا يستعجلن القارئ علينا وهو يرى هذا الكلام قبل أن يقرأ هذا التفسير. فإن وجد الأمر كما ذكرنا فليدع لنا بحسن الخاتمة وبالمغفرة. وإذا لم يجد ما نقلناه هنا فإني أسامحه في كل ما يقول. ولقد سئلت أكثر من مرة من بعض من عرضت عليه وجهة نظري في فهمي للصلة بين الآيات والسور عن فائدة هذا الموضوع، وكنت أجيبه بمثل ما ذكرته فيما مضى من هذه المقدمة، في أن الإجابة على هذا الموضوع تخدم رد شبهة أن هذا القرآن لا يجمع آياته في السورة الواحدة جامع ولا يجمع بين سوره رابط، وذلك لا يليق في كلام البشر فكيف بكلام رب العالمين، إنها لشبهة فظيعة جدا أن يحاول محاول إشعار المسلم بأن كتاب الله ينزل عن كتب البشر في هذا الشأن. ولقد استطعت بتوفيق الله أن أبرهن على أن كمال القرآن في وحدة آياته في السورة الواحدة، وكماله في الواحدة الجامعة التي تجمع ما بين سوره وآياته على طريقة لم يعرف لها العالم مثيلا ولا يمكن أن تخطر على قلب بشر. لقد استطعت خلال هذا أن أرد السهم إلى كبد راميه من أعداء الله في هذه النقطة بالذات. على أن الإجابة على هذا الموضوع كما قلنا تخدم قضايا أخرى: منها قضية تأكيد إعجاز القرآن، ومنها قضية دحض شبهة أن هناك افتراقا بين القرآن المكي والمدني، ومنها أنها تخدم في معرفة بعض أسرار القرآن، ومنها أنها تخدم قضية الفهم للكثير من المعاني التي يدل عليها السياق. إن هذه النقطة التي هي في بعض جوانبها تميز هذا التفسير عن غيره لا تخدم فقط فيما ذكرناه، بل تخدم في رؤية كثير من المعاني، ومحل هذه المعاني في البرهان
على كثير من القضايا. كما أنها ترينا أن هذا القرآن من خلال سياق الآية في السورة ومن خلال سياق الآيات بالنسبة لمجموع القرآن ومن خلال صلات السور بعضها ببعض، ومن خلال نواح أخرى، يعطينا معاني لا نهاية لها ولا يمكن الإحاطة بها وهو موضوع سنراه كثيرا في هذا التفسير. وكأثر من آثار هذه النظرة الشاملة التي على ضوئها فهمت الوحدة القرآنية تكشفت لي إحدى الحكم في كون بعض السور مفتتحة ببعض الحروف، فكانت ملاحظة جديدة تضاف إلى ملاحظات كثيرة، سجلها علماء المسلمين خلال العصور حول أسرار هذه الأحرف. لقد أقمت على هذا الاتجاه الذي اتجهته في موضوع الوحدة القرآنية من الحجج الكثير، بحيث لا يرتاب عالم منصف بعد الاطلاع عليها بأن اتجاهي في ذلك كان صحيحا. ولكني تعمدت ألا أذكر حججي كلها في مكان واحد بل وزعتها في الكتاب كله عند ما تأتي مناسبتها، ولولا ذلك لاقتضى إبراز كل الحجج مجلدا كاملا من مجلدات هذا التفسير، ثم هي في هذه الحالة لا تستوعب كما لو جاءت في مناسبتها. وهذا جوابي على من يقول: إنه كان بالإمكان أن أكتفي بإبراز هذه القضية من خلال كتاب مستقل بدلا من كتابة تفسير كامل. إنه لم يكن بالإمكان أن أعرض لهذا الموضوع منفصلا عن تفسير آيات القرآن على اعتبار أن هذا الاتجاه له صلة بفهم القرآن كله، فلو أنني ذكرته منفصلا لكان عملي ناقصا؛ ولذلك جعلت هذا الموضوع جزءا من تفسير، فلكي تتجلى الوحدة القرآنية بشكل واضح لا بد أن يكون النص القرآني مفسرا وواضحا، ثم إن الهدف من إصدار هذه السلسلة متعدد أصلا كما رأينا. إني أتمنى لإخواني المسلمين ألا يتسرعوا في الحكم على هذا الاتجاه الذي اتجهته إلا بعد أن يقرءوا التفسير كله وأظن أن أشدهم إنكارا علي سيكون أكثرهم حماسا لما ذهبت إليه. ولا أدعي العصمة، ولكن فضل الله كبير، وعلى كل الأحوال فهذا موضوع لم يعد بالإمكان السكوت عن الإجابة عليه وهذا اجتهادي فيه، وأرجو أن أكون مصيبا في هذا الاجتهاد، وأتمنى لكل من عنده رأي آخر أن يناقشني فيه ولكن بعد أن يقرأ هذا التفسير كله. ولئن كانت هذه هي المزية الرئيسية لهذا التفسير فإن له مميزات أخرى ذكرنا بعضها من قبل:
فمن مميزاته أنه حاول أن يستفيد من المراجع التي توفرت لدينا حاليا من كتب دينية قديمة وأن ينقل عنها مباشرة مع العزو إليها مضافا إلى ذلك قضية نقد ما ينبغي نقده، ومضافا إلى ذلك تبيان نقاط الضعف فيها. ومن مميزاته أنه حاول التبسيط والتقريب ولكن مع الاحتفاظ إلى حد كبير بعبارات المفسرين أو بدقة طرائقهم في الأداء، وهو موضوع لا يدرك صعوبته إلا من عاناه، إذ إن كثيرا من العبارات لم تستقر على ما هي عليه إلا بعد عمليات تنقيح أجريت عليها خلال العصور، وكل من حاول التقريب أو التبسيط أو الانطلاق في التعبير وقع في محاذير ينتقده عليها العلماء، ومن ثم فقد حاولت في هذا التفسير أن أتقيد بعبارات العلماء ومصطلحاتهم. وفي الحالات التي وجدت أنه لا بد من التبسيط والتقريب فيها فقد حاولت ما استطعت أن أبسط مع الاحتفاظ بمقاصد العلماء نفسها وملاحظة احترازاتهم وهم يتخيرون اللفظ المناسب والمعنى المناسب. ومن مميزاته أنه ليس فيه حشو وليس فيه إلا ما له علاقة بصلب التفسير وقد استبعدت منه كل قضية لم أعتبرها علمية. ومن مميزاته أنه حاول الاستفادة بقدر المستطاع من مزية العصر الكبرى: التخصص وما ترتب عليه من علوم ودقائق وحقائق في كل جانب من جوانب الحياة والكون والإنسان. إنه في عصرنا إذ توفرت لنا معان وتيسرت لنا علوم وأصبح بإمكاننا من خلالها أن نلحظ كثيرا من المعجزات القرآنية وأن نلحظ كثيرا من أسرار هذا القرآن فقد أصبح مما لا يحسن لمشتغل بالتفسير ألا يعطي هذا الموضوع حقه مع كونه مرهقا جدا، فقد تحتاج أن تقرأ مئات الصفحات للوصول إلى كلمة، أو لالتقاط حجة، ولقد حاولت أن أبذل جهدا في هذا السبيل، وأرجو أن يتضح ذلك للقارئ شيئا فشيئا، وكأثر من آثار هذه المزية والتي قبلها فقد حررت هذا التفسير من تأثير ثقافات خاطئة على فهم القرآن، مما نجده عند كثير من المفسرين وحاولت ألا أقع في مثل أخطائهم، بحيث أحمل النصوص القرآنية على فرضيات أو نظريات لم تثبت. ومن مميزات هذا التفسير أنه حاول ربط المسلم بقرآنه وحاول تبصير المسلم بواقعه، وإذا كان للمسلم الحق في عصرنا معارك متعددة وعلى جبهات متعددة، وإذا كان المسلم لا بد أن يخوض معاركه على أساس القرآن من خلال توضيح الفارق بين ما يجري في هذا العالم وما بين أحكام القرآن، وإذا كان لا يحسن بكتاب معاصر للتفسير
ملاحظة حول اصطلاحات في هذا التفسير
أن يغمض مؤلفه عينيه عن هذه المعارك كلها، وإذا كان هذا كله يقتضي تربية مكافئة لهذه الأمور كلها على ضوء القرآن فقد راعيت أن يكون هذا بارزا في هذا التفسير. ومن مميزات هذا التفسير أنه حاول أن يبين من هي جماعة المسلمين، وما هي مدارسها الاعتقادية والفقهية والروحية والسلوكية والأصولية، ومن يقرب من ذلك ومن يبعد عنه، وما خالط ذلك من دخن في العصور المتأخرة، وأصول الخلاف وأمهات مسائل الخلاف، وما هو الخلاف المرفوض والاختلاف المقبول؟ وما هو إطار ذلك؟ وما ينبغي أن يترتب عليه سلبا أو إيجابا؟ ومن مميزاته أنه حاول أن يبين كيف أن القرآن أعطى الجواب على كل شئ إما بشكل مباشر أو بما أحال عليه من سنة أو بما أحال القرآن والسنة على طرائق ووسائل يعرف بها حكم الله. ومن مميزاته أنه كتاب علم ودعوة وتربية وجهاد بآن واحد، فهو كتاب تبصير للمسلم في هذه الدوائر كلها، وكيف ينبغي أن يتصرف في كل دائرة منها على بصيرة بما لا يطغى فيه حق العلم على حق المعركة، أو حق المعركة على حق العلم، أو حق العلم والمعركة على حقوق الدعوة وطرائق التربية. على أنني وإن حاولت أن ألاحظ في هذا التفسير مجموعة من القضايا التي لا بد منها في تفسير معاصر، إلا أنني أحب أن أذكر بأن القصور عن المستوى المطلوب كثير، والعلة في أولا، ولكن قد يكون من العذر أنني كتبت مسودة هذا التفسير في سجن كان يصعب علي فيه- في بعض المراحل- أن أصل إلى كتاب أصلا. ثم إنني كتبت مبيضته في غربة وعزلة، وكل ذلك يحول دون الكمال المطلوب. ورحم الله امرأ دلني على خطأ أو كمال. وأسأل الله أن يتقبل، وأن يرزقني العفو والعافية وحسن الختام. ملاحظة حول اصطلاحات في هذا التفسير: اعتمادا على حديث حسن سنراه اعتبرنا أن القرآن يتألف من أربعة أقسام: قسم الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل، وبناء على معان سنراها اعتبرنا أن السبع الطوال تنتهي بانتهاء سورة براءة، وأن قسم المئين ينتهي بانتهاء سورة (القصص)، وأن قسم المثاني ينتهي بانتهاء سورة (ق)، وأن قسم المفصل ينتهي بانتهاء
القرآن، وبناء على تتبع المعاني رأينا أن كلا من القسم الثاني والثالث والرابع يتألف من مجموعات متعددة من السور، كل مجموعة تشكل وحدة في قسمها، هذا بالنسبة لسور القرآن، فإننا نستعمل كلمة قسم وكلمة مجموعة، أما بالنسبة للآيات في السورة الواحدة فإننا نستعمل كلمة قسم وكلمة مقطع وكلمة فقرة وكلمة مجموعة. فكلمة قسم أوسع مما بعدها ولا نستعملها إلا في السور الطويلة حيث يكون عندنا عدة مقاطع يجمعها جامع، وكلمة مقطع أوسع من كلمة فقرة ونستعلمها حيث تكون الآيات ذات الموضوع الواحد كثيرة، وكلمة فقرة أوسع من كلمة مجموعة ونستعملها عند ما يكون عندنا مقطع ذو موضوع واحد ولكنه يتألف من مجموعة معان رئيسية فنستعمل لكل معنى رئيسي في المقطع كلمة فقرة، وكلمة مجموعة أضيق من كلمة فقرة، ونستعملها إذا كان في الفقرة داخل المقطع أكثر من معنى يحسن أن نشرحه منفصلا عما قبله وعما بعده. وإذا كانت السورة طويلة فقد يرد لفظ القسم والمقطع والفقرة والمجموعة، ولكن إذا لم تكن كذلك فقد يرد في تقسيماتها لفظ المقطع والفقرة والمجموعة، أو لفظ الفقرة والمجموعة، أو لفظ الفقرة فقط، وسيكون دليلنا في هذا كله المعاني والمعالم، وسنحاول بإذن الله ألا نتكلف في شئ لا توصلنا إليه المعاني والمعالم معا. وأحيانا نجد سورا تضمها خاصية واحدة مع أنها تنتسب لأكثر من مجموعة داخل القسم فنستعمل لها تعبير الزمرة، وكل ذلك سنرى دواعية أثناء العرض فلينتبه القارئ لذلك، ثم لينتبه القارئ إلى أن هذا التفسير مبناه على قراءة (حفص) في الأصل وقد نتعرض أحيانا لبعض القراءات الأخرى ولكن الأصل هو ما ذكرناه حتى لا نشتت القارئ. ثم إننا قد نذكر أثناء العرض المعنى العام ثم المعنى الحرفي ثم نعقب بفوائد ثم نعقد فصولا ويتكامل العرض بذلك كله. فعلى القارئ أن ينتبه لمثل هذا إذا كان يبحث عن شئ بعينه. ولقد جرت عادة الكثيرين من المفسرين أن يقدموا مقدمات كثيرة لها صلة بالتفسير وعلومه وقواعده، أو لها صلة بالقرآن وقراءاته وعلومه. غير أنني أحببت أن أبدأ بالتفسير مباشرة لأنه هو المقصود المباشر للقارئ، على أنني سأحاول أن أذكر في آخر القسم الثالث ما يغطي كل ما يلزم في هذه الشئون. ولنبدأ التفسير على بركة الله.
سورة الفاتحة
سورة الفاتحة وهي السورة الأولى بحسب الرسم القرآني وهي سبع آيات وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم
1 - فقرات السورة
1 - فقرات السورة تتألف سورة الفاتحة من البسملة على القول بأنها آية من الفاتحة، ومن ثلاث فقرات: الفقرة الأولى وهي ثلاث آيات، والفقرة الثانية وهي آية واحدة، والفقرة الثالثة وهي ثلاث آيات على رأي من اعتبر أن البسملة ليست من السورة، وآيتان على رأي من يرى أن البسملة من السورة وهذه هي مع ملاحظة ما مر: [سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) والاستعاذة و (آمين) ليستا من السورة إجماعا 2 - تعريفات قال ابن كثير: «يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطا وبها تفتح القراءة في الصلوات ويقال لها أيضا أم الكتاب عند الجمهور ... ويقال لها (الحمد) ويقال لها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي .. إلخ» ... ويقال لها الشفاء لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا .. فاتحة الكتاب شفاء من كل سم .. ويقال لها الرقية لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك أنها رقية .. وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها أساس القرآن قال:
3 - بعض ما ورد في الفاتحة
وأساسهابسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة بالواقية، وسماها يحيى بن أبي كثير: الكافية لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها .. ويقال لها سورة الصلاة والكنز ذكرهما الزمخشري في كشافه». وسورة الفاتحة مكية على القول الراجح وهي سبع آيات بلا خلاف وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية؟. قال ابن كثير: «قالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفا قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وقيل إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته». 3 - بعض ما ورد في الفاتحة أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: «كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال، قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: نعم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته». وفي حادثة مشابهة مع أبي بن كعب يقول أبي: «فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القرآن قال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني». أخرجه الإمام أحمد. وفي معناه مع زيادة أخرج الترمذي بإسناد حسن صحيح وفي حديث بإسناد جيد كما ذكر ابن كثير عن عبد الله بن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها .. أخرجه الإمام أحمد. قال ابن كثير: واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء ... وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام الله ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه وإن كان الجميع فاضلا ... »
أقول: فليلاحظ المحذور والمفاضلة جاءت بالنص. أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في سير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم (أي لديغ) وإن نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه (أي نعرفه) برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا. فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا لا تحدثوا شيئا حتى نأتي أو نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم». أخرج الإمام مسلم والنسائي وهذا لفظه عن ابن عباس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته». أخرج الإمام مسلم والنسائي وغيرهما وهذه رواية النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا)، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزّ وجل «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الله حمدني عبدي وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». أقول وفي سؤال سامعي الحديث أبا هريرة: إنا نكون خلف الإمام وفي إجابته: اقرأ بها في نفسك «ما يدل على أنه كان مشهورا في جيل الصحابة أن الصلاة وراء الإمام لها أحكامها الخاصة في موضوع القراءة، وذلك يستأنس به لمذهب الحنفية إذ لا يقرءون وراء الإمام شيئا من القرآن».
4 - المعاني العامة والكلية
أخرج البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقد أمنت من كل شئ إلا الموت». 4 - المعاني العامة والكلية إذ كانت الفاتحة هي مقدمة القرآن فقد تجمعت فيها مقاصده ومعانيه. فالقرآن يدور حديثه حول العقائد والعبادات ومناهج الحياة، وقد بدأت السورة بذكر العقائد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وثنت بالعبادات إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وثلثت بمناهج الحياة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. والقرآن دعوة إلى العقيدة أولا، ثم إلى العبادة، ثم إلى مناهج الحياة، وقد تسلسلت المعاني في هذه السورة على هذا الترتيب. والعقيدة في الإسلام ليست فكرة مجردة، بل إن لها ثمارها وآثارها وواجباتها، فكونك تعرف لله الربوبية والرحمة والحساب فهذا يقتضي منك عملا. ومن ثم بدأت السورة بالحمد ثم علمتنا العبادة والاستعانة وطلب الهداية والسير في صراط الله عزّ وجل، لقد عرفتنا السورة على الله وربوبيته، وعرفتنا أن مقامنا هو العبودية له، وأن مقام العبودية مضمونه الحمد لله والعبادة له والاستعانة به وطلب الهداية منه والسير في منهاجه. والإسلام مداره على معرفة الله ومن ثم عرفتنا السورة على الله في مقدمتها وفي وسطها وفي نهايتها: فهو رب العالمين ذو الرحمة، وهو المعين وهو الهادي. وأساس العقيدة الإسلامية الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد ذكرت السورة ذلك رَبِّ الْعالَمِينَ .. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وأساس العبادة إخلاصها لله، وقد أشارت السورة إلى ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ إذ تقديم الضمير إِيَّاكَ على الفعل يفيد ذلك. وأساس الطريق إلى الله القدوة الحسنة المتمثلة في النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وقد أشارت السورة إلى ذلك. وأساس الانحراف القدوة السيئة، وقد أشارت السورة إلى ذلك.
ابتدأت السورة بذكر الحقيق بالحمد والثناء ووصفته بالصفات العظام فتعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع، والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بهذه الصفات العظام فقيل إِيَّاكَ يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة وأطلقت الاستعانة لتتناول كل ما يطلب العون من الله فيه. ثم قيل اهْدِنَا، بيانا للمطلوب الأول من المعونة فكأنهم سئلوا عن ماهية المعونة التي يريدونها فقالوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .. فالاهتداء إلى الصراط المستقيم لا يكون إلا بالله، ولا تنال عطايا الله بالهداية إلا بالافتقار إليه ومظهر ذلك طلب المعونة منه ولا يوصل إلى الافتقار مثل دوام العبادة، ولا عبادة إلا بمعرفة، ومعرفة لا يعطى فيها الحمد كله لله معرفة قاصرة، ينظر العبد ما أعطي فيقول: الحمد لله، فإذا ما استقرت معرفته خاطب ربه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم دعاه بما هو الأهم والأعظم وهو الاهتداء في الأمر كله. من المعاني الكبرى في الإسلام: موضوع لزوم الجماعة «أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .. » والسورة دلتنا من خلال الخطاب الجماعي إِيَّاكَ نَعْبُدُ اهْدِنَا .. على أن الأصل في المسلم أن يكون جزءا من كل هو جماعة المسلمين وأن الأصل في التربية الإسلامية أنها تقوم على التربية الجماعية. ويلاحظ من السورة أن الصراط المستقيم مظهره شيئان السير في طريق المنعم عليهم وتنكب صراط المغضوب عليهم والضالين. والمنعم عليهم فصل الله فيهم في الآية: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وهناك نص ستراه ذكر أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى. وإذا كان هؤلاء وهؤلاء كذلك فمن باب أولى غيرهم. وكثيرا ما ينسى الناس هذه المعاني فلا يفطنون أن الشهداء هم القدوة، وأن الصديقين هم القدوة، وأن الصالحين هم القدوة، فضلا عن النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يفطن لذلك، ولكنهم ينسون تنكب طرق الضالين والمغضوب عليهم، ومن ثم فإن على المسلم وهو يقرأ كتاب الله أن يتفطن لهذا وهذا، فالقرآن فصل هذا كله، والمسلم عليه أن ينتبه لأخطاء أهل الضلال وأهل الغضب فيتخلى عنها، بل عليه من الأصل ألا يقربها وعليه أن يفطن لمظاهر القدوة فيسير فيها.
وبعد هذه الجولة عن المعاني العامة والكلية في سورة الفاتحة نقول مختصرين
وبعد هذه الجولة عن المعاني العامة والكلية في سورة الفاتحة نقول مختصرين: اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبري من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية وتنزيهه من أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط المفضي بهم يوم القيامة إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين كانوا محل القدوة، فاشتملت السورة على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكون الإنسان مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشر الإنسان مع سالكيها يوم القيامة. 5 - المعنى الحرفي بِسْمِ اللَّهِ تعلقت الباء بمحذوف تقديره: أقرأ أو أتلو لأن الذي يلي التسمية مقروء «وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدءا له» وإنما قدرنا الفعل متأخرا لأن ذلك أقوى لدلالته على الاختصاص والمعنى: متبركا باسم الله أقرأ ففيه تعليم الله عباده كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه و (الله) هو الإله ولكن كلمة الإله تطلق على كل معبود بحق أو بباطل ثم غلب على المعبود بحق، وأما اسم (الله) فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به فصفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه وهو اسم الله جل جلاله. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان واسمان يعبران عن رحمة الله تعالى التي مظهرها إنعامه على عباده فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ (سورة الروم) وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولذلك لا يسمى ولا يوصف بالرحمن غير الله ويسمى ويوصف بالرحيم غيره، ومن ثم ذهب بعضهم إلى أن الرحمة في اسم الرحمن تشمل الكافر والمؤمن، والرحمة في اسم الرحيم تخص المؤمنين الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التفضيل وهو أحد شعب الشكر لأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح وإنما يكون باللسان الحمد ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفران، وإنما يستحق الحمد إما بكمال الذات والصفات والأفعال أو بكثرة الإنعام، والله عزّ وجل لا أكمل من ذاته وصفاته وأسمائه، ولا إنعام إلا منه مباشرة أو بالواسطة فله في الحقيقة الحمد كله.
[سورة الفاتحة (1): آية 3]
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب هو المالك ومنه قول صفوان بن أمية: «لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن» ولا يطلق إلا على الله وحده وهو في العبيد مع التقييد إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ (سورة يوسف) قال الواسطي في تفسير كلمة الرب: (هو الخالق ابتداء والمربي غذاء والغافر انتهاء وهو اسم الله الأعظم) والعالم هو كل ما سوى الله تعالى لأنه علم على وجود ربنا تعالى، إذ يعرف الخالق بما خلق. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مر الكلام عليهما. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الدين هو يوم الجزاء ولذلك قالوا: كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى، والله تعالى مالك الأمر كله في يوم الدين وغيره، وإنما كان التخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. هذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه ربا للعالمين ومنعما بالنعم كلها ومالكا للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: الحمد لله دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ العبادة هي أقصى غاية الخضوع والتذلل، والاستعانة هي طلب المعونة، وتقديم إِيَّاكَ على نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ لقصد الاختصاص فيكون المعنى: نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي ثبتنا على المنهاج الواضح أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال، والصراط هو الطريق والمراد: طريق الحق وهو ملة الإسلام، والمستقيم هو الذي لا عوج فيه. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي صراط المسلمين، وفائدة تكرار كلمة الصراط مع هذه الزيادة التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده؛ والذين أنعم الله عليهم هم مجموع من ذكرهم الله بقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (سورة النساء) وإذن فهم المؤمنون الكاملون غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يعني: أن المنعم
6 - فصول شتى ..
عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال فجمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال. و (آمين) بالإجماع ليست من القرآن، وهي اسم فعل بمعنى (استجب). ملاحظة: في حديث حسن غريب رواه أحمد عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى .. وفي هذا المعنى وردت أكثر من رواية ولذلك قال ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا قال ابن كثير: (فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الحق ضلوا. وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ (سورة المائدة) وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ .. (سورة المائدة). أقول: إذا كنا نهينا أن نسير في طريق اليهود والنصارى وهم أهل كتاب فكيف نتابع غيرهم ونجعلهم قدوتنا؟! وانظر الآن إلى حال الكثيرين من أبناء المسلمين فإنك تجدهم إما مقلدين للغربيين وهم على بقية من كتاب، وإما متابعين للشيوعيين وهم يكفرون بالكتاب كله. 6 - فصول شتى .. فصل في البسملة: افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها كتبت للفصل لا أنها آية، على أقوال للعلماء سلفا وخلفا. والجهر بها في الصلاة مفرع على هذا الخلاف، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال: إنها آية في أولها. وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا؛ فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأحمد. وعن الإمام مالك أنه لا يقرأ
فصل في الاستعاذة
البسملة بالكلية لا جهرا ولا سرا. قال ابن كثير بعد أن عرض مآخذ الأئمة في هذه المسألة: «وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر». ... ومن ابتداء الله عزّ وجل كتابه بالتسمية ندرك فضلها، ونأخذ منه أدبا عاما في ألا ننسى التسمية حيث تستحب التسمية فللابتداء باسم الله بركة، ولذكر الله عامة بركة. أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه «عثر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (القائل هو أسامة بن عمير رديف النبي صلى الله عليه وسلم): تعس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب» قال ابن كثير: فهذا من تأثير بركة باسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول، فتستحب في أول الخطبة كما جاء «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم»، وتستحب عند دخول الخلاء كما ورد من الحديث في ذلك، وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن .. مرفوعا: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» وهو حديث حسن ... وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذبح، ومطلقا في قول بعضهم ... وهكذا تستحب عند الأكل كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة «قل باسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه، وكذا تستحب عند الجماع كما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا». فصل في الاستعاذة: سيأتي الكلام عن الاستعاذة عند الآيات التي تذكرها وهاهنا ننقل ما له صلة بالصلاة والتلاوة بشكل مختصر. قال ابن كثير: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة وليست بمتحتمة يأثم تاركها وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة. قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب .. أقول على رأي ابن سيرين: إنها واجبة في العمر مرة، وما سوى ذلك فهي مستحبة.
فصل في الحمد
قال ابن كثير: وقال الشافعي في الإملاء: يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الأم بالتخيير ... واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب .. فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة ... ... ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد تكبيرة الإحرام وقبل تكبيرات العيدين، والجمهور يعدها قبل القراءة. ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وهو لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني ... ». فصل في الحمد: عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» .. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وإنما كان الحمد أفضل الدعاء، لأنها رأس الشكر والله عزّ وجل يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وفي الحديث الذي رواه ابن جرير «إذا: قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك». وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ»، وقال القرطبي في تفسيره: وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله تعالى فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله:- وهو أعلم بما قال عبده-ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها». وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد
فصل في التأمين
حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال: «أما إن ربك يحب الحمد» أقول: وفي هذا الحديث إشارة إلى الشعر، وعلى من يعالج قضية الإنشاد في المجتمع الإسلامي أن يضعه في حسابه ولنا جولة في هذا الموضوع في آخر سورة الشعراء. فصل في التأمين: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين، ومعناها اللهم استجب سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، ويتأكد في حق المصلي سواء كان منفردا أو إماما أو مأموما. وقال أصحاب مالك: لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم. واختلفوا في الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية. قال الشافعية: إن نسي الإمام التأمين جهر المأموم به قولا واحدا، وإن أمن جهرا فالجديد أنه لا يجهر المأموم والقديم أنه يجهر. ومذهب الحنفية عدم الجهر للإمام وهو رواية عن مالك، وقال الحنابلة بالجهر وهو رواية أخرى عن مالك. والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقال آمين مد بها صوته. ولأبي داود رفع بها صوته. قال الترمذي: هذا حديث حسن وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول. رواه أبو داود وابن ماجه وزاد فيه فيرتج بها المسجد. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا أمن الإمام فأمنوا فانه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»، ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه» قال ابن كثير: «قيل: بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان وقيل في الإجابة في صفة الإخلاص وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا إذا قال- يعني الإمام- ولا الضالين فقولوا: آمين يحيكم الله». فصل في قراءة الفاتحة في الصلاة: اختلف الأئمة في أنه هل تتعين فاتحة الكتاب في الصلاة؟ أم تجزئ هي أو غيرها؟ ففي ذلك قولان مشهوران فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه أن قراءة الفاتحة أو سورة قصيرة، أو ما يعادلها واجب في كل ركعات النفل وواجب في الركعتين الأوليين من الفرض إلا أنه لو لم يقرأ الإمام أو المنفرد الفاتحة وقرأ شيئا من القرآن فإن الصلاة صحيحة مع الكراهة، فعندهم أن قراءة أي شئ من القرآن
فصل في كيفية أداء الفاتحة
في الصلاة هو الركن لقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وأما الفاتحة فإنها واجبة كما رأينا. وعند الشافعي ومالك وأحمد أنها تتعين قراءتها للصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، واختلف هؤلاء هل تجب قراءتها في كل الركعات؟ أو في معظم الركعات؟ أو في بعضها؟ فمذهب الشافعي وجوب قراءتها في كل الركعات، ومذهب الحسن وأكثر البصريين أنها تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلاة. واختلف الأئمة: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ ففيه ثلاثة أقوال للعلماء: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه، والثاني لا تجب على المأموم بل تكره، والثالث لا تجب قراءتها في الجهرية وتجب في السرية. ومحل التفصيل في هذا الشأن وغيره من اتجاهات الفقهاء هو في القسم الثاني من هذه السلسلة الأساس في السنة وفقهها. فصل في كيفية أداء الفاتحة: في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ... قال الدارقطني: إسناده صحيح، أقول: والوقوف على رؤوس الآي سنة متبعة ولكنها من نوع المستحبات في الصلاة وغيرها. فصل في أن الصراط المستقيم هو الإسلام أخرج الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم». إن صراطك أيها المسلم هو الإسلام وله داعيتان داعية الفطرة وداعية الوحي الإلهي، فلا تفرط في هذا الإسلام بأن ترتكب الحرام فتدخل في متاهات طرق الشيطان. فصل: في أن المالكية العليا لله: في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله قال: يقبض الله الأرض بيمينه ثم يقول: «أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون» فالله عز وجل مالك يوم الدين وهو رب العالمين وكل منازعة لله عز وجل في
فصل في رد مزاعم
ربوبيته أو مالكيته العليا لا تصح ولو في التسمية. ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله»، وقد وقع في هذا الغلط الكثيرون ممن حكموا المسلمين. فصل في رد مزاعم: - مما ذهبت إليه الفلسفة اليونانية أن الله عز وجل لا يتدخل في شؤون الخلق، والآن تجد أكثر الخلق لا يعتبرون أن من حق الله عز وجل أن يتدخل في أمر الناس، وليست فكرة فصل الدين عن الدولة إلا مظهرا من مظاهر هذه العقلية، وفي سورة الفاتحة تصحيح لهذه المعاني كلها: فالله رب العالمين هو الخالق وهو المربي وهو المالك، وعلى الناس أن يعبدوه وأن يسيروا في طريقه طالبين العون والهداية. زعم بعض المستشرقين أن الدين الإسلامي لا يعرف أهله فيه عن الله عز وجل إلا صفات القسوة وأي زعم أظهر في البطلان من هذا الزعم؟! فالإسلام الذي يبتدئ كتابه بقوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ والذي تثنى فيه كلمتا الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بعد آية من ذلك، هل يدعي ما ادعوه إلا مجنون؟! ألا إنه العمى عن الحق ليس إلا. فالله غفور رحيم، وهو عزيز ذو انتقام، ولله الأسماء الحسنى. في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد»، ولكن الله عز وجل حدد في كتابه المرحومين وغيرهم فحيثما كان له حكم فعنده نقف. فصل في مسألة اعتقادية: من المسائل التي وقع فيها خلاف كثير بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة مسألة تسمى بمسألة خلق الأفعال. فأهل السنة يرون أن كل شئ يجري في هذا الكون إنما هو بعلم الله وإرادة الله وقدرة الله، وذلك لا ينافي اختيار الإنسان وهو موضوع سنبسطه في أكثر من مكان. والمعتزلة يقولون بالقوة المودعة، وأن الإنسان يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وهو كلام ظاهره براق لأنه يتفق مع النظرة الحسية، ولكنه منقوض عقلا ونقلا كما سنرى. ومناقشات أهل السنة والجماعة لهم في هذا الموضوع كثيرة، ونادرا ما تجد سورة من سور القرآن إلا ولأهل السنة حجة فيها على المعتزلة في هذا الشأن، ومما استدلوا به على المعتزلة من سورة الفاتحة كلمة الحمد لله فإن الألف واللام للاستغراق، وهذا يفيد أن كل أنواع الحمد لله. وهذا لا يتأتى إلا إذا كان الله هو الفاعل لكل شئ قال ابن كثير: والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع
ملاحظة في قضايا اختلاف الأئمة
أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله»، واستدلوا من الفاتحة على المعتزلة بقوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وبقوله تعالى اهْدِنَا فلولا أن الله هو الخالق فكيف يستعان؟ وكيف تطلب الهداية منه؟ وهذا موضوع سنرى حيثياته في أمكنة أخرى. ملاحظة في قضايا اختلاف الأئمة: يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .... »، إن كل مناقشات أئمة أهل السنة والجماعة مع بعضهم إنما تدور حول أمور مشتبهات، وكل منهم على بصيرة حاول أن يعطي حكم الله في هذه الأمور، ومن ثم فالأمر واسع؛ فمهما كان الواحد منا على مذهب إمام في مثل هذه الشؤون فإنه لا حرج عليه، ولكن الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وبين الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية، كالمعتزلة وأنواع من المرجئة، وطوائف من الشيعة والخوارج ليس فيما ذكرنا، وإنما هو خلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف لكثرة النصوص ووضوحها، ولذلك في قسم التفسير قد لا نعتني بعرض أدلة الأئمة في اختلافاتهم ولكننا نعتني بعرض الأدلة في أي خلاف بين أهل السنة والجماعة ومن خالفهم. 7 - فوائد أ- من أساليب العرب في الكلام: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والعرب يستكثرون منه، ويرون أن الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ لاستلذاذ إصغائه، وتختص مواقعه بفوائد ولطائف يراعيها القائل وتتضح للحذاق المهرة. والقرآن جاء على أساليب العرب في الخطاب ومن ثم تجد فيه هذا النوع من طرق البيان على أدقها وأرقاها وأعظمها فوائد ولطائف وقد رأينا ذلك في سورة الفاتحة. إذ عدل عن لفظ الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ بعد قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ .. قال صاحب الكشاف: هذا يسمى الالتفات في علم البيان، قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وقوله تعالى وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثة التفاتات في ثلاثة أبيات:
تطاول ليلك بالأثمد … ونام الخلي ولم ترقد وبات وباتت له ليلة … كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبإ جاءني … وخبرته عن أبي الأسود وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه .. وقد رأينا عند عرض المعاني العامة حكمة الالتفات في سورة الفاتحة. ب- مما يدل على أن كلمة الدين تأتي بمعنى الحساب والجزاء الحديث الذي رواه أحمد والترمذي: «الكيس من دان نفسه- أي حاسب نفسه- وعمل لما بعد الموت» واستطرادا ننقل كلمة عمر (رضي الله عنه): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم» يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. ج- أكمل أحوال الداعي أن يبدأ بالحمد ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين ومن ثم جاء قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بعد الثناء، فالسؤال بعد الثناء أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. وقد يتقدم مع ذلك وصف المسئول كقول ذي النون لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. د- يتشدد كثير من الناس في أمر تحرير مخارج الحروف أثناء تلاوة القرآن وذلك شئ جيد، ولكن بعضهم يعتبر الإخلال بالتحرير مبطلا للصلاة، وذلك خطأ ولتصحيح مثل هذا ننقل كلام ابن كثير. يقول ابن كثير: «الصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما»، وكلامنا كله عند ما لا يخرج الحرف صافيا، أما إذا استبدل حرف بحرف فلذلك أحكامه التي سنراها. هـ- رأينا من خلال سورة الفاتحة: أن الأصل في المسلم أن يكون جزءا من كل هو الجماعة، وأن الأصل في التربية الإسلامية أنها تقوم على التربية الجماعية، وهذا يجعلنا نفكر كثيرا في الأسباب والأمراض التي تحول دون وجود هذه الروح عند الأكثرين من المسلمين ويجعلنا نتفطن لأهمية معالجة هذه الأسباب والأمراض التي تحول بين المسلم وبين مشاركته جماعة المسلمين فيما تفترض المشاركة فيه، ولا شك أن هذه
8 - كلمة في السياق
الأسباب إما مرجعها لمرض عام مثل انعدام الثقة أو لمرض فردي مثل حب الدنيا وإيثار العافية والشح والإعجاب بالرأي واتباع الهوى والحسد وغير ذلك من أمراض. و- يردد المسلم سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى. وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنة، وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا غير الفرائض والسنة ... لما ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، «إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة» عن الظلال بتصرف. وقد رأينا الخلاف في قراءتها وراء الإمام. 8 - كلمة في السياق هذه السورة كما رأينا هي مقدمة القرآن، ولذلك فقد تجمعت فيها معانيه وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباط هذه السورة بالقرآن كله، وقد رأيت بأكثر من وجه كيف تسلسلت معانيها تسلسلا خاصا هذا التسلسل ظهرت فيه أكثر من حكمة من حكم تسلسل المعاني في القرآن، فلا سير في الصراط بلا عبادة، ولا عبادة بلا عقيدة ومعرفة بالله. والآن انتبه إلى الصلة بين آخر فقرة في سورة الفاتحة وبين أول آية في سورة البقرة تبدأ الفقرة الأخيرة في سورة الفاتحة بقول الله تعالى معلما لنا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... وتبدأ سورة البقرة بقول الله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لاحظ الصلة بين اهْدِنَا وبين هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم عرفنا على أن هذا القرآن هو محل الهدى، وهكذا نجد الصلة على أقواها بين خاتمة الفاتحة وبداية سورة البقرة، ولننتقل الآن للكلام عن القسم الأول من أقسام القرآن وهو قسم السبع الطوال.
قسم الطوال
القسم الأول من أقسام القرآن قسم الطوال ويتضمن سور البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام الأعراف، الأنفال التوبة
كلمة في هذا القسم
كلمة في هذا القسم: هناك أكثر من أثر وخبر يذكر السبع السور الطويلة الأولى من القرآن ويخصها بالذكر، وقد عقد ابن كثير لذلك فصلا تحت عنوان (ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال) وذكر بهذه المناسبة حديثا له أكثر من سند هو: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور وفصلت بالمفصل»، قال الشيخ المحدث عبد الله الغماري في كتابه (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) عن هذا الحديث: فهذا الحديث حسن. هذا الحديث ذكر أن القرآن أربعة أقسام القسم الأول هو السبع الطوال، ونحن سنرى في هذا التفسير كيف أن واقع القرآن يصدق هذا التقسيم من خلال المعاني، وكثير من الأمور التي سنراها. وذكر ابن كثير: أن أبا عبيد، والإمام أحمد كل منهما أخرج عن أبي هريرة وعن عائشة (رضي الله عنهما) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أخذ السبع الاول من القرآن فهو حبر». ليس هناك نص يحدد السبع الطوال، بل المتبادر أنها السور الأول الطويلة من القرآن. ورواية عائشة وأبي هريرة تذكر السبع الأول فالمفروض أن تكون: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والأنفال ومعها براءة؛ لأنهما بحكم السورة الواحدة ولذلك لم يفصل الصحابة بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم: أخرج الترمذي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ ووضعتموها في السبع الطوال! وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان (الطويل) وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر: «بسم الله الرحمن الرحيم» فوضعتها في السبع
الطوال» فهذا نص في أن الأنفال وبراءة من السبع الطوال وإذا كان ما قبلهما ست سور الأعراف فالأنعام فالمائدة فالنساء فآل عمران فالبقرة، فذلك دليل على أن الأنفال وبراءة هما السورة الطويلة السابعة وأن براءة هي نهاية قسم الطوال. قال الشيخ الغماري في كتابه (جواهر البيان): (السبع الطوال أولها البقرة وآخرها براءة)، وإذن فبعد الفاتحة التي هي مقدمة القرآن يأتي القسم الأول من أقسام القرآن الذي يبدأ بالبقرة وينتهي بسورة براءة. وقد ذكر ابن كثير اتجاها في تفسير السبع الطوال بأن السورة السابعة بعد الأعراف هي يونس ولكن ذكره على أنه قول في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. فقد نقل عن مجاهد وغيره أن المراد بها السبع الطوال، وفسرها بأنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس. وسنرى عند تفسير هذه الآية أن هذا القول ليس هو الأقوى في تفسيرها، فمن باب أولى ألا يصلح تفسيرا للسبع الطوال. خاصة وكثير من الأدلة تشير إلى أن سورة يونس من القسم الثاني من أقسام القرآن وليست من القسم الأول. فسورة يونس مبدوءة ب الر، وكذلك سورة هود بعدها، وهذا يشير إلى أن هذه السور من زمرة واحدة ومجموعة واحدة، ثم إن سورة يونس آياتها (109)، وسورة هود بعدها آياتها (123)، بينما سورة براءة وحدها (129) آية، فهي أطول من سورة هود التي هي أطول من سورة يونس، فإذا عرفنا أن سورة الأنفال خمس وسبعون آية، فإن مجموع آيات سورة الأنفال وبراءة يكون مائتين وأربع آيات، ثم هما بالنص عن الصحابة كما رأينا في رواية الترمذي من السبع الطوال، فلم يبق بعد هذا إلا أن نرد اتجاه مجاهد ومن وافقه من أن سورة يونس هي السابعة في قسم الطوال. لاحظنا من قبل أنه ما بين آخر فقرة في الفاتحة، وما بين أول سورة البقرة صلة ففي الفاتحة اهْدِنَا وفي البقرة عن القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وسنرى أن الصلة بين الفاتحة والبقرة ليست ضمن هذه الحدود فقبل الفقرة الأخيرة من الفاتحة قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وسنرى أن القسم الأول من سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وينتهي بقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فمقدمة سورة البقرة مرتبطة بآخر فقرة في الفاتحة، والقسم
الأول من سورة البقرة مرتبط بالفقرة الثانية، وسنرى أن القسم الثاني في البقرة مرتبط بالفقرة الأولى من الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ ... .. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، والكلام في هذه المعاني قبل مجئ أوانها يبدو معقدا فلنقتصر على هذه الإشارة، ومع هذا الترابط بين سورة البقرة والفاتحة، فإن سورة البقرة ككل سورة في القرآن لها ذاتيتها الخاصة وتسلسلها الخاص، وسنرى أنه تسلسل عجيب معجز، ثم إننا سنرى كما ذكرنا في مقدمة هذا التفسير كيف أن السور الست الطوال الآتية بعد البقرة كل سورة منها تفصل في محور على نفس التسلسل الموجود في سورة البقرة، وكل ذلك سنراه، وسنرى فيه أن مثل هذا الربط، ومثل هذه الصلات لا يمكن أن تخطر بقلب بشر فضلا عن أن يستطيعها بشر وهذا بعض الأمر وليس كل الأمر، والشرح سيأتي، وتكفي هاهنا الإشارات ولنبدأ عرض سورة البقرة.
سورة البقرة
سورة البقرة وهي السورة الثانية بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من قسم الطوال وآياتها مائتان وست وثمانون وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم
نصوص ونقول
نصوص ونقول: أخرج الإمام أحمد والإمام مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما، ثم قال: اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة». قال ابن كثير: الزهراوان: المنيرتان والغياية: ما أظلك من فوقك. والفرق القطعة من الشئ والصواف: المصطفة المتضامة، والبطلة: السحرة ومعنى لا تستطيعها: أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها. - أخرج الإمام أحمد عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سورة البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم». وفي مسند أحمد وصحيح مسلم وفي الترمذي والنسائي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان ينفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت الجوف الصفر (أي الخالي) من كتاب الله». وأخرج الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه، وابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شئ سناما، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».
وأخرج الدارمي في مسنده عن طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة: أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها، وفي رواية: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شئ يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق». وأخرج النسائي وابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم، فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن واقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك». هذا لفظ الترمذي وقال عنه: حديث حسن. وأخرج البخاري عن أسيد بن حضير (رضي الله عنه) قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة- وفرسه مربوطة عنده- إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير قال: قد أشفقت يا رسول الله على يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال: «وتدري ما ذاك؟ قال: لا. قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم». قالوا والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، لكن قوله تعالى فيها: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. آخر ما نزل من القرآن. وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن. وقد رد ابن كثير الرواية التي تنهى عن
كلمة في سورة البقرة وسياقها
التسمية بسورة البقرة، وقال عن أحد رواتها: وهو ضعيف الرواية لا يحتج به ثم قال: وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود «أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام من أنزلت عليه سورة البقرة .... » وروى ابن مردويه ... عن عتبة بن مرثد قال: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا فقال: يا أصحاب سورة البقرة» قال ابن كثير: وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: «يا أصحاب الشجرة يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية: يا أصحاب سورة البقرة» لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه. وكذلك يوم اليمامة، مع أصحاب مسيلمة، جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة حتى فتح الله عليهم. أخرج أبو عبيد .. «أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب أقرأت البقرة وآل عمران قال: نعم. قال: فو الذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب قال: فأخبرني به قال: لا، والله لا أخبرك به. ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت» ذكره ابن كثير. وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) «من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان- أو كتب- من القانتين» قال ابن كثير: «فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ بهما في ركعة واحدة». كلمة في سورة البقرة وسياقها: تتألف سورة البقرة- في اجتهادي- من مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة، أما المقدمة فعشرون آية وفيها كلام عن المتقين وصفاتهم، ثم عن الكافرين وأوضح علاماتهم، ثم عن المنافقين وحقيقتهم وعلاماتهم، وتوضيحات في شأنهم، وبعد أن تقسم مقدمة السورة الناس إلى أقسام ثلاثة هم: المتقون، والكافرون، والمنافقون، وتحدد السمات الرئيسية لكل من هؤلاء، يأتي القسم الأول ويمتد من الآية الحادية والعشرين إلى نهاية الآية السابعة والستين بعد المائة.
يبدأ القسم الأول من السورة بأمر ونهي
يبدأ القسم الأول من السورة بأمر ونهي: أما الأمر فهو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وأما النهي فهو قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الأمر والنهي واردان في الآيتين الأوليين من القسم الأول، وينتهي القسم الأول بفقرة هي قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ .... لاحظ الصلة بين قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً في بداية القسم، وبين آخر فقرة في القسم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً وبعد ذلك يأتي القسم الثاني ويمتد من الآية الثامنة والستين بعد المائة إلى نهاية الآية السابعة بعد المائتين. لاحظنا أن القسم الأول بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ثم لم تذكر كلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ إلا بعد الآية السابعة والستين بعد المائة، حيث تظهر مرة أخرى وأخيرة في سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فكما بدأ القسم الأول ب يا أَيُّهَا النَّاسُ فإن القسم الثاني بدأ كذلك وكما انتهى بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ فإن الثاني ينتهي بفقرة مبدوءة بقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. وهكذا نجد أن مقدمة سورة البقرة مختومة بفقرة بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وأن القسم الأول مختوم بفقرة بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً. وأن القسم الثاني منته بفقرة تتكرر فيها وَمِنَ النَّاسِ* مرتين:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثم يأتي القسم الثالث ويمتد من الآية الثامنة بعد المائتين إلى نهاية الآية الرابعة والثمانين بعد المائتين. يبدأ القسم الثالث بأمر ونهي، أما الأمر: فهو في موضوع الدخول في الإسلام كله. وأما النهي: فعن اتباع خطوات الشيطان وهو نفس النهي الذي جاء في ابتداء القسم الثاني. لاحظ أن بداية القسم الثاني كانت: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وأن بداية القسم الثالث: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا كما فسرها ابن عباس وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ومن المعلوم أن الآيتين الأخيرتين في سورة البقرة قد ورد فيهما أكثر من نص يخصهما بالذكر فهما خاتمة السورة وبدايتهما: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ .... لاحظ صلة ذلك ببداية السورة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هذه نقاط علام كبيرة على معالم السورة، ونحن نعلم أننا الآن ونحن نذكر مثل هذه المعاني كأننا نبني على فراغ في حق من لا يحفظ السورة أو لا يمسك بيده مصحفا يتتبع ما نقول، ولكن أحببنا في هذه الكلمة أن نضع أساسا يبني عليه القارئ ونحن نسير معه فقرة فقرة، ومقطعا مقطعا وقسما قسما ونحن نعرض الترابط والصلات بين أجزاء السورة، وإلا فإن الكلام المختصر هنا لا يغني ولكنه ينفع، ولذلك فلنستمر به على ملاحظتنا عليه: تبدأ المقدمة بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: متقين، وكافرين، ومنافقين. ثم يأتي القسم الأول مبتدئا بدعوة الناس لسلوك طريق العبادة والتوحيد كطريق موصل إلى التقوى، ثم يسير القسم ليناقش الكفر، وليعمق قضية السير في التقوى، من خلال تأكيد طاعة الأمر واجتناب النهي، ومن خلال عرض الآثار الخطيرة لمخالفة الأمر.
مقدمة سورة البقرة
والوقوع في النهي، ومن خلال عرض نماذج الانحراف في قصة بني إسرائيل، ومن خلال عرض نماذج الاستقامة في قصة إبراهيم عليه السلام. ولا ينتهي القسم إلا وتأكدت قضية التقوى وقضية السير فيها وقضية العبادة والتوحيد ومظاهر ذلك. ثم يأتي القسم الثاني: فيؤكد قضية التقوى، ويرسم طرائق التحقيق بها على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، ويعمق مفهوم الشكر وطرائق الشكر، ولا نكاد ننتهي من هذا القسم إلا وقد وضحت قضية التقوى وقضية العبادة وقضية الشكر، وقضية الصراط المستقيم وقضية الانحراف عنه، واتجاهات المنحرفين، وخلال ذلك يتم الكلام عن كل أركان الإسلام: الإيمان والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فتصبح أرضية النفس والقلب والعقل جاهزة للسير في الإسلام كله. وهاهنا يأتي القسم الثالث: داعيا إلى الدخول في الإسلام كله فيعرض قضايا في الحرب والعلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة وغيرها ويعرض أمهات في قضايا السياسة والاقتصاد، ثم تأتي خاتمة السورة رابطة كل شئ بقضايا الإيمان والتوجه إلى الله معلمة في ذلك مربية عليه مفصلة فيه. وفيما بين ذلك وخلاله نعرض القضايا الكثيرة، وكل واحدة في محلها تؤدي دورها في بناء الذات، وفي بناء الأمة بعد المقدمات التي تناسب ذلك، وتتولد المعاني الكثيرة في هذا السياق الكبير من خلال المعنى الحرفي للآية، ومن خلال محل الآية في السياق القريب، ومن خلال محلها في السياق البعيد، ومن خلال محل المقطع في القسم، ومحل القسم في السورة، ومحل السورة مع ما قبلها، وما بعدها، وفي هذا السير نجد كثرة الروابط والوشائج والصلات فيما بين الأقسام والمقدمة والخاتمة، وكل ذلك يجري على تسلسل معين وعلى طريقة عجيبة لم يألفها البشر وليس الخبر كالمعاينة فلنبدأ عرض مقدمة السورة: مقدمة سورة البقرة: تتألف مقدمة سورة البقرة من عشرين آية: الأحرف الم وبعضهم يعتبرها آية ثم أربع آيات في وصف المتقين واثنتين في وصف الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين: قال مجاهد: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين .. وعلى هذا فالمقدمة تتألف من ثلاث فقرات وهذه هي:
الفقرة الأولى
الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الفقرة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) الفقرة الثالثة: وتتألف من ثلاث مجموعات: مجموعة في تبيان حقيقة المنافقين، ومجموعة في ذكر نماذج من أقوالهم، ومواقفهم ليعرفوا بها. ومجموعة فيها مثلان يبينان ويوضحان شأنهم: المجموعة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
المجموعة الثانية
المجموعة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 16] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) المجموعة الثالثة: [سورة البقرة (2): الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
1 - المعاني العامة لمقدمة السورة
1 - المعاني العامة لمقدمة السورة قسمت المقدمة الناس إلى أصناف ثلاثة: متقين وكافرين ومنافقين، ويفهم من ذلك: أن هذا هو التقسيم المعتبر شرعا، والذي تترتب عليه آثاره في المواقف والمواقع، ومن المقدمة نعرف أن التقوى قضية محددة مفصلة، والكفر قضية محددة واضحة المعالم ومفصلة، والنفاق قضية محددة ومفصلة وله علاماته، ومقدمة سورة البقرة ذكرت الصفات الرئيسية لأهل الإيمان، من إيمان بالغيب، وصلاة، وإنفاق، واهتداء بكتاب الله في الشأن كله، وذكرت المظهر الأجلى للكفر في كون الكافر لا يؤثر فيه الإنذار من أهله، وذكرت حقيقة النفاق في أن أهله يكذبون في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن علة ذلك هي الخداع وأن سبب ذلك مرض القلب، ثم ذكرت نماذج ثلاثة من مواقفهم، نتعرف عليهم من خلالها، ثم ضربت لهم مثلين، مثلا للمنافق الخالص، ومثلا للمنافق الذي لا زال في قلبه بقية من إيمان. 2 - المعنى الحرفي للمقدمة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، في هذا النص أربع جمل: الم جملة برأسها، وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية، ولا رَيْبَ فِيهِ جملة ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ جملة رابعة، وجيء بها هكذا متناسقة بلا حرف عطف لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة. ونبه ب الم على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب
[سورة البقرة (2): آية 3]
المنعوت بغاية الكمال من خلال استعمال لفظ الإشارة ذلِكَ فكان تقريرا لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا كمال أكمل كالحق واليقين، ولا نقص أنقص كالباطل والشبهة. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ف ذلِكَ الْكِتابُ معناه: هذا الكتاب الكامل لأن كلمة ذلِكَ فيها إشارة إلى بعده عن أن يكون على اقتراب في المستوى من غيره ولا رَيْبَ فِيهِ معناه لا شك فيه، وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير، لأن المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له، لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه أحد، لا أن أحدا لا يرتاب، والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى البغية، والمتقي: هو من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، وإنما خص المتقون بالاهتداء لأنهم وحدهم المهتدون بكتاب الله. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وصف المتقون بالإيمان والصلاة والصدقة، فالإيمان أساس لكل شئ من الحسنات والخيرات، والصلاة والصدقة معيار العبادات البدنية والمالية، فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغني عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والإيمان هو التصديق، والغيب هو المغيب عنهم مما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما غاب عنهم، سواء في ذلك أمر البعث والنشور والحساب والخلق إلى غير ذلك، وإقامة الصلاة: أداؤها حسا ومعنى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي ومما أعطيناهم يتصدقون ثم أكمل الله وصف المتقين بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، أي سائر الكتب المنزلة على النبيين، وهذه وإن كانت داخلة في قضية الإيمان بالغيب من وجه لكن لها مظهرا محسوسا من جهة أخرى، ولأن للآخرة معنى استقباليا زائدا على كونها من الغيب، فقد خصت بالذكر وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الإيقان هو رسوخ العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: أي الظافرون بما طلبوا، الناجون مما هربوا، فالفلاح إدراك البغية والمفلح الفائز بالبغية وفي ذكر الحرف عَلى في قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ما يدل على تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه، ودخل في قوله تعالى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة فروضها وإتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها والإقبال عليها فيها، والمحافظة على مواقيتها
[سورة البقرة (2): آية 6]
وإسباغ الطهور فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما دخل في ذلك فرضها ونفلها ودخل في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ النفقات الواجبة والزكاة المفروضة وأنواع الصدقات. في هذه الآيات قضيتان: أساس وبناء، الأساس هو: الإيمان والصلاة والإنفاق والبناء هو: اتباع الكتاب، ومجموع ذلك هو التقوى، وقد غفل الكثيرون عن هذا فعطل بعضهم كتاب الله وهم يظنون أنهم متقون، وعطلوا الصلاة والإنفاق وأخلوا بالإيمان وهم يظنون أنهم متقون، وليفهم على ضوء ذلك كله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه «بني الإسلام على خمس ... » فهناك أساس فوقه بناء، والأساس وإن كان جزءا من البناء لكنه ركنه، والبناء هو الأركان وما فوقها وذلك هو الإسلام. ثم وبعد أن ذكر الله أولياءه بصفاتهم المقربة إليه، وبين أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الكفر: ستر الحق بالجحود، والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار: إقامة الحجة، وليكون الإرسال عاما وليثاب الرسول خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ والختم هو: التغطية، والختم والطبع واحد، والغشاوة: الغطاء، والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ العذاب هو: النكال والعظيم يقابل الحقير، والمراد بالذين كفروا هنا: أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: «الكافر لما لم يسمع قول الحق، ولم ينظر في نفسه وغيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث، فيعلم أنه لا بد له من صانع جعل كأن على بصره غشاوة». وبعد أن قدم الله عزّ وجل وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بآيتين، ذكر حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة هنا، كما أنزل سورة براءة وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون،
[سورة البقرة (2): آية 9]
فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير. ولما كنا لا نعرف المنافق إلا من سيماه وفلتات لسانه كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (سورة محمد) فقد بين الله لنا هنا حقيقة المنافق، وأعطانا نماذج من كلامه وتصرفاته، ثم ضرب لنا الأمثلة عليه لتتضح الحال تماما، لأن النفاق أخطر شئ على الأمة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان ... » وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: ادعى المنافقون إحاطتهم بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى المبدأ، وهي العلم بالخالق وصفاته وأسمائه وأفعاله ومسائل المعاد وهي: العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرار الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام، وقد نفي الله عزّ وجل إيمانهم على أبلغ وجه، إذ أخرج ذواتهم من أن تكون من المؤمنين، فقال: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. ولليوم الآخر تعريفان: الأول: هو الوقت الذي لا حد له، وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخرة لتأخره عن الأوقات المنقضية. الثاني: هو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الخداع: إظهار غير ما في النفس على نية الغش وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ النفس: ذات الشئ وحقيقته، ثم قيل للقلب والروح نفس لأن النفس بهما، وقيل للدم نفس لأن قوام النفس بالدم، وقيل للماء نفس لفرط حاجة النفس إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى أنهم بمخادعتهم الله والمؤمنين لا يخدعون في الحقيقة إلا أنفسهم لعود أضرار ذلك عليهم، فالخداع لاحق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولكنهم لا يشعرون أن حاصل خداعهم يرجع إليهم، والشعور: علم الشئ علما حسيا، ومشاعر الإنسان في الأصل حواسه لأنها آلات الشعور. والمعنى أن لحوق ضرر الخداع بهم كالمحسوس، وهم للتمادي في غفلتهم كالذي لا حس له. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: المرض هنا هو الشك والنفاق، لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد، كما أن المريض متردد بين الحياة والموت ولأن
[سورة البقرة (2): الآيات 11 إلى 12]
المرض ضد الصحة، والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسما لكل فساد، والشك، والنفاق فساد في القلب فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: أي فزادهم الله رجسا وشرا إلى شرهم عقوبة لهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ: أي بكذبهم في قولهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ خداعا للمؤمنين. والكذب هو الإخبار عن الشئ على خلاف ما هو به. وبهذه الآيات الثلاث عرفنا حقيقة النفاق وأسبابه ثم بعد أن بين الله لنا ذلك، ذكر لنا ثلاثة نماذج من أقوالهم ومواقفهم لنعرفهم بها: 1 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ الفساد: خروج الشئ عن حال استقامته وكونه منتفعا به، وضده الصلاح وهو: الحصول على الحال المستقيمة النافعة والمراد بالفساد في الآية الكريمة- والله أعلم- الكفر والعمل بالمعصية، فهؤلاء المنافقون يعملون بالكفر والمعصية ويدعون إليهما، ويزعمون أن ما يفعلون وما يدعون إليه إصلاح وهو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون أنه فساد و (إنما) في اللغة العربية تفيد: قصر الحكم على شئ أو قصر الشئ على حكم، وقد استعملوها في تعبيرهم. إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فذلك يدل على أنهم يتصورون أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة تقدح فيها من وجه من وجوه الفساد، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا- في القرن الخامس عشر الهجري- إذ تجد الدعاة إلى الكفر والمعصية والعاملين بهما ممن لهم أسماء إسلامية، ويتظاهرون بأنهم مسلمون، ويخلعون على أنفسهم ودعواتهم الكافرة أسماء براقة تعطيهم صفة المصلحين، كالتقدمية والتقدميين، والحرية والأحرار، وقد روي من غير طريق ذكره ابن كثير عن سلمان الفارسي، في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ: ما جاء هؤلاء. لم يجئ أهل هذه الآية بعد .. أقول: قد جاءوا في عصرنا ورأيناهم ونسأل الله أن يطهر الأرض منهم. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان (رضي الله عنه) أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. 2 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ السفه: سخافة العقل وخفة الحلم. والناس في الآية هم الكاملون في الإنسانية وهم المؤمنون، لأنهم هم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم.
[سورة البقرة (2): آية 14]
نصحهم أهل الإيمان النصيحة الأولى كما رأينا بتقبيح ما كانوا عليه؛ لبعده عن الصواب وجره للفساد، فردوا عليهم كما رأينا، ونصحوهم النصيحة الثانية كما في هذه الآية بأن بصروهم بالطريق الأسد من اتباع ذوي الأحلام، فكان جوابهم أن سفهوهم للتمادي في جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. ولم يظهر أهل هذه الآية كذلك في عصر كما ظهروا في عصرنا، إذ ترى المنافقين يحتقرون أهل الإيمان من علماء وربانيين ودعاة وعباد ويعتبرونهم ضعاف العقول، ويصفونهم بالرجعية والجمود وضيق الأفق وأمثال ذلك، فهم أبعد الناس عن احترامهم، فضلا عن متابعتهم والاقتداء بهم فيما هم فيه من خير، وقد تولى الله سبحانه الجواب الذي يفضح حقيقة أمرهم فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ، فأكد وحصر السفاهة فيهم، وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون أن ما هم فيه ضلال وجهل وسفه، وذلك أردى وأبلغ في العمي والبعد عن الهدى، وإنما وصفهم في الآية الأولى بأنهم لا يشعرون، وفي الآية الثانية بأنهم لا يعلمون، لأنه ذكر في الآية الثانية السفه وهو الجهل فكان ذكر العلم هو الأحسن طباقا له، ولأن الإيمان يحتاج إلى نظر واستدلال ليكتسب الناظر المعرفة، فناسب ذلك ذكر العلم، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس فناسب هناك أن يذكر عدم الشعور. 3 - وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. يزيدنا الله بيانا في توضيح حال المنافقين من خلال أقوالهم، ومواقفهم، فذكر لنا أن هؤلاء المنافقين إذا لقوا المؤمنين قالُوا آمَنَّا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة تغريرا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، وإذا خلوا إلى سادتهم وكبرائهم ورؤسائهم وأصحابهم من الكافرين والمشركين والمنافقين قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أي: إنما نحن نسخر بالقوم ونستهزئ منهم ونلعب بهم، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا، إذ كثرت المؤسسات الكافرة من محافل ماسونية وأحزاب ضالة، أو مؤسسات خائنة، أو جمعيات فاجرة، أو تكتلات على أسس فاسدة. وتجد كثيرا من أبناء المسلمين يتظاهرون مع أهل الإيمان بالإيمان ولكنهم مع زعمائهم في هذه المؤسسات وأمثالها على غاية من المتابعة والولاء. وليس أبلغ من كلام الله في وصف حالهم ومقالهم للمؤمنين ولزعمائهم،
[سورة البقرة (2): آية 15]
ولكن الله أكبر، والله محيط بهم وبأعمالهم، وهو يتولى أمر المؤمنين، ويدافع عنهم، ويعاقب هؤلاء وينتقم منهم. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فهذا تطمين للمؤمنين وتهديد للمنافقين والمعنى أنه تعالى مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع. قال ابن كثير نقلا عن ابن جرير: «لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عزّ وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك». فيملي لهم تعالى ويزيدهم من نعمه على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم؛ ليستمروا في طغيانهم يترددون؛ فتقوم عليهم الحجة باستحقاقهم عقوبة الدنيا والآخرة. والطغيان: مجاوزة الحد والإمداد: الإملاء، والعمه: هو الضلال والضياع، وقال بعضهم العمى في العين والعمه في القلب. ثم بين الله عزّ وجل واقع هؤلاء المنافقين الذين بدأ الكلام عنهم بقوله وَمِنَ النَّاسِ فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ بين الله عزّ وجل في هذه الآية: أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي بذلوا الهدى الذي هو الإيمان ثمنا للضلالة التي هي الكفر، سواء في ذلك من كان منهم حصل له الإيمان ثم رجع إلى الكفر، أو من كان منهم استحب الضلالة على الهدى، دون أن يكون الإيمان قد أصاب قلوبهم من قبل مع تظاهر الجميع بالإيمان؛ فما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك. قال قتادة: «قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة»، فليحصلوا ما حصلوا من أمر الدنيا فإنهم الخاسرون. وبعد هذا البيان عن حقيقة المنافقين وبعد أن أعطانا الله عزّ وجل نماذج من أقوالهم ومواقفهم نعرفهم بها، يضرب الله لنا مثلين نعرف بهما حال المنافقين معرفة تامة: المثل الأول: لنوع من المنافقين وصلوا إلى النفاق الخالص بعد أن كانوا مؤمنين. والمثل الثاني: لنوع من المنافقين لا زالوا مترددين، الأولون لم يعد فيهم أمل للرجوع إلى الإيمان، أما الآخرون فلم يقنطوا، وبعض المفسرين اعتبر المثلين لنوع واحد، وهذا خطأ، لأن أهل المثل الأول قال الله عنهم ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وقال صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ بينما قال عن الآخرين كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، وابن كثير وضح
ذلك، لذلك قال عن المثل الثاني: هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم: قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب .. المثل الأول: قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ المثل هو القول السائر، ثم استعير للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة. ويضرب المثل زيادة في الكشف، وتتميما للبيان، وتقدير هذا المثل: إن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى: بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك. فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا قال الرازي: «والتشبيه هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين» فصار المعنى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، نور الإسلام الذي يرون به الأشياء كلها على حقائقها. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. لا يُبْصِرُونَ أي لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها وهم مع ذلك صُمٌّ لا يسمعون خيرا، بُكْمٌ لا يتكلمون بما ينفعهم، عُمْيٌ عن رؤية الحق، فبصيرتهم عمياء وهم في ضلالة. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي فلذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة، وهذا المثل نجده منطبقا على كثير من أبناء المسلمين في عصرنا ممن مرت عليهم فترات استغرقوا فيها بالعبادة والإسلام، ثم انتظموا في سلك أهل الكفر والضلال، ساخرين من حالهم الأول، مزدادين كل يوم كفرا على كفر، وقد دل المثل على أن الإنسان الذي لا يرى الأشياء بنور الإيمان منافق، ومن لم تكن منطلقاته في الحكم على الأشياء منطلقات إسلامية، فإنه: منافق لا يرى الأشياء بنور الله على ما هي عليه في الحقيقة، ثم ضرب الله مثلا آخر لنوع آخر من النفاق:
[سورة البقرة (2): الآيات 19 إلى 20]
المثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قال ابن كثير: «هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى». شبه دين الإسلام في المثل بالصيب أي: بالمطر لأن القلوب تحيا به، حياة الأرض بالمطر، والشبهات والشكوك في قلب هذا الضرب من المنافقين شبهها بالظلمات، والوعيد الموجود في دين الله سواء كان الوعيد بالفضيحة أو بالعذاب الأخروي أو بانتصار المؤمنين بالرعد، وبقايا الفطرة في قلوب هؤلاء بالبرق، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا بالصواعق. الصيب: المطر، والرعد: هو الصوت الذي يسمع من السحب لاصطكاك أجرامه، والبرق: هو الذي يلمع من السحاب. وظلمات المطر: ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل، والإسلام والقرآن في المثل هو المطر وحده، وأما الظلمات ففي القلب والنفس ظلمات الشبهات والشكوك والشهوات. وذكر في المثل الأصابع- ولم تذكر الأنامل مع أن رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان: اتساعا كقوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (سورة النور) والمراد إلى الرسغ، ولأن في ذكر الأصابع من الإشعار بمخالفتهم ما ليس في ذكر الأنامل، وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسد به الأذن لأن السبابة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة، والصاعقة: قصفة رعد تنقض، والخطف: الأخذ بسرعة، وإحاطة الله بالكافرين تعني: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط. وكل ما علاك فهو سماء، وتطلق السماء على السحاب أو على المطر لنزوله من السحاب فصار المعنى: مثل المنافقين كمثل أصحاب مطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والشبهات، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، وبرق وهو ما يلمع في قلوب ذلك الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، فهم يسدون آذانهم فلا يرغبون أن يسمعوا التهديد والوعيد وأخبار أيام الله، ولكن ذلك لا يجديهم فإن سد
ويمكن أن يقال في المثل
الأذن لا يغني من الصاعقة شيئا، ومع شدة لمعان البرق فينقدح في قلوبهم نور إضافي فإنهم لا يستفيدون منه إلا قليلا لما يعقبه من ظلام. فهؤلاء إذا ظهر لهم شئ من الإيمان استأنسوا به واتبعوه، ثم تعرض لهم الشكوك فتظلم قلوبهم، فيقفون حائرين، وقد حذر الله المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير فإن الله على كل ما أراد بعباده من نعمة أو نقمة أو عفو أو عقاب أو غير ذلك قدير. ويمكن أن يقال في المثل: المطر يحيي الأرض وينزل من السماء، والإسلام يحيي القلوب وقد نزل من السماء، والمطر في الليل يرافقه ظلمات ورعد وبرق، وهؤلاء المنافقون بسبب ليل قلوبهم؛ صار الإسلام بالنسبة لهم ظلمة ورعدا وبرقا، فشبه الكافرين والمنافقين ظلمات تحيط بهم والتهديدات تقرع آذانهم فتخيفهم، ولشدة ضوء الحق فإنه يظهر لهم نور فيسيرون به قليلا ثم تحيط بهم الظلمة من جديد فيقفون. هذا المثل من غوامض الأمثال القرآنية، والأمثال في القرآن كما قال الله تعالى في سورة (العنكبوت): وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ونادرا ما تجد شرحا مبسطا في كتب التفسير لهذا المثل، وإذ كان ظهور هذا المثل في عصرنا أكثر من ظهوره في بقية العصور فإننا نستطيع أن نقول: إن هناك مسلمين بحكم النشأة والبيئة، وجدوا في عصرنا المليء بالشبه والدعوات الضالة، ولم يتح لهم أن يسيروا في طريق الإيمان حتى يحققوه في قلوبهم، فبقيت قلوبهم فيها إيمان ونفاق، أو إيمان وكفر، فتارة تأتيهم حجة من حجج الإسلام القوية فتضيء جوانب قلوبهم بالإيمان فيسيرون على زاد ذلك قليلا، ثم تحيط بهم شبهة من الشبهات فينطفئ النور في قلوبهم فيقفون حائرين، وهم في هذه الحالة على غاية من الخوف من انكشاف أمرهم للمؤمنين، أو من سلطان الكافرين، أو من عقوبة الله لهم على ما هم فيه. هذا حال الكثيرين من أبناء المسلمين في عصرنا، ولعل ما هم فيه يجعلنا نفهم المثل من خلال واقعهم. وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل لكل كلمة وردت في المثل ما يقابلها على انفراد، ثم قابلوا ذلك بمفردات، فالمطر الإسلام، والظلمات الآيات المتشابهات، والرعد آيات الوعيد، والبرق الآيات المحكمات، أو غير ذلك على اعتبار أنهم ظنوا أن للعرب طريقة
3 - حديث شريف كاشف
واحدة في هذا السبيل، وهو أن تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها عن بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها. ولكن الواقع أن للعرب طريقة أخرى، وهي أن تشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها كما هنا. فالمراد العام هنا تشبيه حال المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة كحال من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. 3 - حديث شريف كاشف إن هناك حديثا شريفا يكشف لنا هذين المثلين ويبين لنا أهلهما كما يكشف لنا مقدمة سورة البقرة كلها فلنره: عن أبي سعيد (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» قال ابن كثير: رواه الإمام أحمد بإسناد جيد حسن. لا شك أن القلب الأول هو: قلب المؤمنين المتقين الذين وردت صفاتهم في الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة، وأن القلب الثاني هو قلب الكافرين الذين وردت صفاتهم في الفقرة الثانية من مقدمة سورة البقرة، وأن القلبين الثالث والرابع هما في من وردت صفاتهم في الفقرة الثالثة من مقدمة سورة البقرة، وأن القلب الثالث مثله هو المثل الأول وأن القلب الرابع مثله هو المثل الثاني. والملاحظ أن القلب الرابع لا زال فيه أمل، وذلك إذا أصبح مدد الإيمان أكثر من مدد النفاق، وذلك بالإقبال على الأعمال الصالحة وترك السيئات وخلطة أهل الباطل. وسنرى كيف أن سورة البقرة بأقسامها كلها، إنما تدل على الطريق ليكون الإنسان من الفئة الأولى. فئة الإيمان والتقوى، ولذلك فإن القسم الأول يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهذا حديث سيأتي فلنبق الآن في أجواء مقدمة سورة البقرة.
4 - (فصول شتى)
4 - (فصول شتى) فصل في فواتح السور: لو أنك تأملت فواتح سور القرآن، فإنك تجد أن نوعا من الفواتح يتكرر، فمثلا تجد أكثر من سورة مبدوءة ب الم* أو الر* أو حم* أو إِنَّا* أو إِذا* أو هَلْ* أو وَيْلٌ* وتجد سورا كثيرة مبدوءة بقسم، ثم إنك تلاحظ أحيانا أن مجموعة من السور لها بدايات معينة تشبهها مجموعة أخرى لها نفس البدايات فمثلا: نلاحظ أن سورتي البقرة وآل عمران مبدوءتان ب الم* وتأتي بعدهما سورتا النساء والمائدة وكل منهما مبدوءة ب يا أَيُّهَا* ثم تأتي سورة الأنعام وهي مبدوءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ. ونلاحظ بعد ذلك بسور كثيرة: أنه تأتي سورة العنكبوت، وهي والسور الثلاث بعدها مبدوءة ب الم، ثم تأتي بعد ذلك سورة الأحزاب وهي مبدوءة ب يا أَيُّهَا ثم تأتي بعد ذلك سورتا سبأ وفاطر وكل منهما تبدأ ب الْحَمْدُ لِلَّهِ.* لاحظ التشابه بين بدايات هذه المجموعة، وبين بدايات المجموعة الأولى مع الاختلاف في عدد السور التي بدأت بالنوع الواحد من الفواتح. ولنأخذ مثلا آخر: بعد سورة المدثر: تأتي سورة القيامة، وهي مبدوءة بقسم، وتأتي بعدها سورة الدهر وهي مبدوءة باستفهام: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ؟ ثم تأتي بعد سورة الدهر سورة مبدوءة بقسم، وبعدها سورة مبدوءة باستفهام: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً عَمَّ يَتَساءَلُونَ لاحظ القسم والاستفهام في كل من النموذجين الأول والثاني وبعد سور كثيرة تأتي خمس سور متتالية مبدوءة بقسم، ثم تأتي سورة مبدوءة باستفهام:
فهل هناك تعليل شامل لهذه الظاهرة
وَالْفَجْرِ، لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالضُّحى. ثم سورة مبدوءة باستفهام أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. فهل هناك تعليل شامل لهذه الظاهرة إننا الآن نقول باختصار: (وسنرى الدليل على ذلك شيئا فشيئا): إن فواتح السور هي بعض المفاتيح التي تتعرف بها على الرابطة بين أقسام القرآن، وبين مجموعات هذه الأقسام، وبين تسلسل السور ضمن القسم الأول أو المجموعة الواحدة، فهي من مفاتيح الوحدة القرآنية المعجزة، ولو أننا أردنا أن ندلل على هذا الموضوع هاهنا لتعثر القارئ ولطال البحث وتعقد، ولذلك فإننا سنعرض لأدلة هذا الموضوع شيئا فشيئا، فإنه موضوع يصعب التدليل عليه إلا من خلال السير الشامل والوقوف عند كل سورة وبدايتها، والتدليل آت بإذن الله تعالى. فصل في الحروف التي بدأت بها بعض السور: هذه الحروف التي بدأت بها بعض سور القرآن مثل (الم) * أو (المص) أو (الر) * أو (أَحْرَصَ) * وقف عندها بعض المفسرين كثيرا، وبعضهم لم يقف واكتفى بأن يذكر بعد الواحدة منها: الله أعلم بمراده. والذين وقفوا عندها إما واحد أراد أن يعطيها تفسيرا فاعتبر كل حرف هو جزء لكلمة تدل عليها، ثم حاول أن يجد الكلمة التي يدل عليها الحرف، وإما واحد اعتبرها رموزا على أزمنة، وحاول من خلال ما اعتاده العرب أن يعطوا كل حرف رقمه الحسابي وأن يستخرج نبوءات زمنية، وإما واحد اكتفى بأن يسجل ملاحظة حول هذه الأحرف، ومن أهم الملاحظات التي سجلت خلال العصور أنه حيث وردت هذه الأحرف في سورة فإن السورة لها صلة في الحديث عن القرآن. ومن ثم اعتبروا أن ذكر هذه الأحرف فيه إشارة إلى الإعجاز، وفيه مظهر من مظاهر التحدي، وقد عبر سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عن هذا المعنى تعبيرا طيبا. يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عند الكلام عن (الم) في سورة البقرة: «ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية وقد وردت في
تفسيرها وجوه كثيرة نختار منها وجها: أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب، ولكنه مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فلا يملكون لهذا التحدي جوابا. والشأن في هذا الإعجاز: هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شئ وصنع الناس. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة، أو آجرة، أو آنية، أو أسطوانة، أو هيكل، أو جهاز كائنا في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة؛ حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز، سر الحياة. السر الذي لا يستطيعه بشر ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا. والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة». أقول وصدق الله العظيم وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا (سورة الشورى) هذه الملاحظة التي سجلها صاحب الطلال ببيانه المشرق سجلها علماء المسلمين قديما، إلا أنه في عصرنا- فيما أعلم- سجلت ملاحظة أخرى إضافية حول هذه الأحرف وهي ما ذكرناه في الفصل السابق من أن فواتح السور- ومنها الأحرف- هي مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية، وهذا الموضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا في هذا التفسير. ولنكتف هنا بتسجيل هاتين الملاحظتين حول الأحرف التي افتتحت بها بعض السور، ولنا عودة على ما قيل في هذه الأحرف في أول سورة يونس حيث أول القسم الثاني من أقسام القرآن.
فصل في القلوب في المصطلح الشرعي: ورد في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وورد قوله تعالى عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وترد كلمة القلب في الكتاب والسنة كثيرا، وكثيرون من الناس يغلطون في شأنها. وباختصار نقول: إن هناك قلبا محسوسا لكل الناس يشترك فيه الإنسان مع كثير من المخلوقات هو القلب الدموي، هذا القلب الذي له وظيفة المضخة الدموية هو مركز لقلب آخر هو مركز الأحاسيس الوجدانية، من حب وبغض وحقد وسماحة وخوف وأمن، وهذه القضايا كذلك محسوسة لكل الناس، إذ كل الناس يحسون بشيء من هذه المعاني في قلوبهم. هذا القلب الثاني هو محل الإيمان الذوقي، وهو محل الكفر والنفاق كذلك، وهاهنا نجد أمورا محسة عند بعض الناس وغير محسة عند آخرين، فأهل الإيمان- مثلا يحسون بمعان كثيرة في قلوبهم، هذه المعاني لا يحس بها الكافرون لأن هذا الجانب في قلوبهم ميت، هذا القلب المرتبط بالقلب الدموي ليس هو عين القلب الدموي، بدليل أن الذين أجريت لهم عمليات استئصال لقلوبهم، وأعطوا قلبا آخر، لم تتغير أحاسيسهم، وفي التفريق بين القلب الدموي والقلب الآخر يقول صاحب حاشية الجمل على تفسير الجلالين: «وحيث أطلق القلب في لسان الشرع فليس المراد به الجسم الصنوبري الشكل فإنه للبهائم وللأموات، بل المراد به معنى آخر يسمى بالقلب أيضا، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني قيام العرض بمحله أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك وترتسم فيه العلوم والمعارف». هذا القلب في المصطلح الشرعي يمرض ويصح ويموت ويعمى ويصم. ومن ثم رأينا في الكلام عن الكافرين في الفقرة كيف أن الله عزّ وجل قال خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقال عن المنافقين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ووصفهم بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. هذا القلب في المصطلح الشرعي مقره الصدر لا كما توهم بعضهم، من أن مقره الدماغ، قال تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: 46) فحدد مكانها في الصدور. وقد فصلنا في كتابنا (تربيتنا الروحية) في هذه المعاني فليراجع. وبمناسبة قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله تعالى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ننقل هذه النقول:
قال مجاهد: «الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله». وقال مجاهد: «ثبتت الذنوب على القلب، فحفت به من كل جوانبه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم»: وقال: «كانوا يرون أن القلب في مثل هذه- يعني الكف- فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال: بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم وقال: بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال: بأصبع أخرى، هكذا، حتى ضم أصابعه كلها ثم قال: يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك عين الران». وفي الحديث الصحيح عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين قلب أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا». وأخرج الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه. وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (المطففين: 14) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه» اه. فإذا علم الإنسان هذا وفهم قوله تعالى فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وما أشبه ذلك من الآيات، أدرك أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق.
فصل في الكفر الذي لا يؤمن أهله
وبمناسبة ما مر أقول: إن التركيز على قضية القلب من أهم ملامح التربية القرآنية والنبوية، وقد أهمل الناس هذا إلا القليل، والقليل عنده دخن كثير إلا أقل القليل. ولأن الجزء الأكبر من التكاليف الربانية منوط بالقلب، فإن على الإنسان أن ينتبه لذلك. ونحن- في هذه السلسلة- سنعطي هذا الموضوع حقه، كلما جاءت مناسبته بإذن الله. فصل في الكفر الذي لا يؤمن أهله: يلاحظ أن كثيرين من الناس يكونون كافرين ثم يدخلون في الإسلام، وقد ذكرت الفقرة التي تحدثت عن الكافرين في مقدمة سورة البقرة أن الكافرين يستوي عليهم الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون فكيف نجمع بين هذا وهذا؟ قال بعض المفسرين في هذا: والمراد بالذين كفروا هنا أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ .. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر التفسير، أن هاتين الآيتين قد فصلت فيهما سور في كتاب الله، ومن خلال دراسة هذه السور سنرى أن الكفر الكامل هو ما انعدمت فيه قضية الفطرة في قلب الإنسان، وأن هذا له علاماته وله حقيقته وثمراته. فمن اجتمعت له الحقيقة والثمرات والعلامات فهذا الذي لم تعد فيه بقية من الفطرة، وهذا الذي لم يعد ينفع معه إنذار. ولكون هذا لا يعلمه إلا الله فإننا مكلفون بالإنذار لإقامة الحجة، أما الكافرون الذين لم يصلوا إلى مثل تلك الدرجة، فهؤلاء لا زال في شأنهم أمل أن يهتدوا بإذن الله أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ (الأنعام: 122) ولا يصل الإنسان إلى الكفر الذي لا أمل معه في الإيمان إلا بسيره في طريق ذلك كما رأينا. في الفصل السابق، وهذا موضوع سنراه كثيرا. وبكلامنا هذا لا نرد على من ذهب إلى أن الآيتين وردتا في شأن كفار علم الله أنهم لا يؤمنون، بل كلامنا تبيان لأسباب هداية بعض الكافرين وعدم هداية بعضهم، وإلا فالآيتان حتما واردتان في كفار علم الله أنهم لا يهتدون.
5 - فوائد
5 - فوائد (أ) أخرج الترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس) قال الترمذي عنه: حديث حسن غريب. وذكر ابن كثير أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت قال: فذلك التقوى .. » وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)، دل الحديث على أن تقوى الله هي أعظم ما يعطاه عبد. (ب) مما أورده ابن كثير بمناسبة قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - قال أبو العالية في تفسير الإيمان بالغيب: «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث». - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ .. إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعن صالح بن جبير قال: «قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: هات رحمك الله. قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل- عاشر عشرة- فقلنا: يا رسول الله: هل من قوم أعظم منا أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك. قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين، يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا». وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون وهم
عند ربهم؟ قالوا: فالنبيون، قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن، قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا، لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها». قال ابن كثير: قال الحاكم: صحيح الإسناد دلت هذه النصوص على فضل إيمان من جاء بعد الصحابة من المسلمين، ولا يعني ذلك أن من جاء بعد الصحابة أفضل منهم بل من جاء بعدهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا. (ج) أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله: إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال. قال: أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله ... قال: الم ذلِكَ الْكِتابُ إلى قوله تعالى الْمُفْلِحُونَ هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هؤلاء أهل النار. قالوا: لسنا هم يا رسول الله .. قال: أجل. (د) فهم بعضهم أن الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ذكرت صنفين من أهل الإيمان، الأول: هم الذين آمنوا بالقرآن دون أن يكونوا على دين سماوي سابق، وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. والثاني: هم الذين كانوا على دين سماوي سابق ثم آمنوا بالقرآن وهم الذين ذكروا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ونحن في التفسير الحرفي لم نعتمد هذا الاتجاه، بل اعتبرنا أن المتكلم عنهم في الفقرة صنف واحد، فالناس كلهم مطالبون بالإيمان بالغيب والإيمان بالوحي كله وباليوم الآخر، وقد ذكرنا حكمة التفصيل بذكر الإيمان بالوحي كله وباليوم الآخر مع أنهما داخلان في الإيمان بالغيب؛ نعم قد يكون من حكمة ذكر قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ البيان لأهل الكتاب ولأصناف من الناس قد لا يعتبرون الإيمان بالآخرة ضروريا، قد يكون من جملة الحكم في التفصيل البيان لهؤلاء جميعا أن التقوى لا بد فيها من إيمان بالوحي كله وباليوم الآخر هذا مع الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والاهتداء بكتاب الله.
(هـ) في قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يصح الوقوف على قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ كما يصح الوقوف على لا رَيْبَ فِيهِ فإذا وقفنا على لا رَيْبَ كان المعنى: هذا القرآن الذي لا يدانيه كتاب بلا شك، فيه هدى للمتقين وفي هذه الحالة يكون في الآية إشارة إلى أن المتقين يأخذون هداية أخرى نفهمها من نصوص الكتاب ذاته إذ المتقون مكلفون بالاهتداء بالسنة مع الكتاب، وبما أحال عليه الكتاب والسنة من طرق الاهتداء إلى حكم الله. أما الوقوف على قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ فإنه يفيد أن أصل الريب منفي عن هذا الكتاب، بينما على الوقف الأول، فإن الشك منفي عن أن هذا الكتاب يدانيه كتاب آخر، ثم إن قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ في الوقف على لا رَيْبَ فِيهِ يعطينا أن هداية المتقين محصورة في الكتاب، ولا تنافي بين المعاني فهداية المتقين محصورة في الكتاب. ولكن الكتاب هداهم إلى اعتماد السنة والاهتداء بها، وإلى اعتماد الإجماع والاهتداء به، وإلى اعتماد القياس وغيره. وهكذا نرى أنه من خلال الوقف فقط عرفنا معاني متعددة يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا، وسنرى هذا وغيره فندرك كيف أنه من خلال الوقف، ومن خلال القراءات المتعددة، ومن خلال السياق الخاص، ومن خلال السياق العام، تتولد عن هذا القرآن معاني لا نهاية لها، وكل هذا مع تيسير الفهم لكتاب الله، لكل طبقات الناس، بحيث يأخذ كل من مائدة القرآن ثم هي تبقى بلا نفاد. (و) قال قتادة في نعت المنافق: «خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هبت معها». وقال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم .. ونقل ابن كثير- عن بعض العلماء- أن المنافقين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون أنهم يقتلون ... وقال ابن كثير: «وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر، هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟» وسنتحدث عن هذا
6 - كلمة في السياق
الموضوع في سورة الأحزاب عند قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. (ز) فرق بعض العلماء بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي، والحقيقة أن النفاق حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها، كما أن الكفر حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها، وكذلك الإيمان حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها. فمن أخلاقية النفاق ما ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». وكذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان. وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر»، فهذه أخلاقيات النفاق التي تدل على وجوده، ومن الحديث الأخير ندرك أن علينا أن نفرق بين النفاق الخالص والنفاق المخالط، وفي الأصل فإن علينا أن نفرق بين الزلة العارضة والخلق الدائم. (هـ) من ذكر التجارة في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ نفهم فهما بعيدا لا ينصب عليه السياق أن من عوامل النفاق وأسبابه الرغبة في الدنيا، والحرص عليها، وأنهم باعوا دينهم بمنفعة أو مصلحة. 6 - كلمة في السياق (أ) جاءت مقدمة سورة البقرة بعد سورة الفاتحة مباشرة فأرتنا النموذج الذي ينبغي أن نكونه، وعرفتنا على نموذجين لا ينبغي أن نكون من أهلهما، ولنلاحظ خاتمة سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فهؤلاء رأينا نموذجهم الفقرة الأولى عن المتقين. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. وقد رأينا نماذج ذلك في الفقرتين الثانية والثالثة من مقدمة سورة البقرة، فالكافرون مغضوب عليهم وضالون، والمنافقون مغضوب عليهم وضالون، ولا يتعارض هذا مع كون المغضوب عليهم على الأخص
اليهود، والضالون على الوجه الأخص هم النصارى، لأن جميع الكافرين والمنافقين على الوجه العام مغضوب عليهم وضالون. (ب) وقبل الفقرة الأخيرة من الفاتحة يأتي قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وسنرى أن القسم الأول من أقسام البقرة مبدوء بدعوة الناس جميعا إلى العبادة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فالصلة بين سورة البقرة والفاتحة على أكثر ما تكون وأدق ما تكون. (ج) يلاحظ أنه بعد أن قسم الله عزّ وجل الناس إلى أصناف ثلاثة، يأتي القسم الأول من أقسام سورة البقرة ليدعو إلى سلوك الطريق الذي يحررهم من أن يكونوا كافرين، أو منافقين، ويجعلهم مؤمنين متقين فلننتقل للكلام عن القسم الأول من أقسام سورة البقرة:
القسم الأول من أقسام سورة البقرة
القسم الأول من أقسام سورة البقرة: ويمتد من الآية (21) إلى نهاية الآية (167) حيث يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً
كلمة في القسم الأول من أقسام سورة البقرة
كلمة في القسم الأول من أقسام سورة البقرة: ترد كلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ مرتين في سورة البقرة: مرة في بداية القسم الأول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، ومرة في بداية القسم الثاني: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وهذا الابتداء هو إحدى العلامات التي دلتنا على القسم الأول والثاني. والعلامة الثانية التي دلتنا على نهاية القسم الأول، هو انتهاؤه بنفس معاني الابتداء. البداية هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. والنهاية هي قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في البداية: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ قال ابن عباس في تفسيرها: وحدوا ربكم. - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في البداية الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وبعد آية الخلق يأتي قوله تعالى في نهاية القسم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
لاحظ صلة قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً هنا بقوله تعالى في بداية القسم فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فهذه العلامة الثانية التي دلتنا على أن هاهنا نهاية القسم الأول من سورة البقرة. والعلامة الثالثة هي: أننا لاحظنا أن مقدمة سورة البقرة وهي تشكل كلا بالنسبة للسورة انتهت بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ ونلاحظ هنا أنه لأول مرة في سورة البقرة بعد المقدمة يأتي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ في الآيات التي مرت معنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فهذا كذلك مما دلنا على أن القسم الأول من سورة البقرة ينتهي هنا. والعلامة الرابعة التي دلتنا على القسم الأول بداية ونهاية هي المعاني: فهذا القسم كما سنرى من خلال المعاني يتألف من ستة مقاطع كل مقطع مرتبط بما قبله وبما بعده بوشائج وصلات فلنستعرض بعض معاني المقاطع لنرى كيف أنها تدلنا على أنها مع بعضها تشكل قسما من الأقسام: يبدأ المقطع الأول بدعوة الناس جميعا إلى سلوك طريق العبادة والتوحيد، ليكونوا من المتقين، مقيما عليهم الحجة من خلال إعجاز القرآن محذرا ومنذرا ومبشرا، ثم يبين لهم العوامل التي تحول بين الإنسان وبين الهداية، مقيما الحجة على الكافرين بكفرهم، ثم يأتي المقطع الثاني: وفيه قصة آدم التي نهايتها فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وهي تبين أن الوضع العادي للإنسان أن يكون مهتديا بهدى الله، وبالتالي فشئ عادي أن يكون الإنسان من المتقين بسلوك طريق ذلك. ثم بعد ذلك يأتي مقطعان: مقطع فيه قصة بني إسرائيل، وهي لأمة جاءها وحي ففرطت فيه، ومقطع فيه قصة إبراهيم (عليه السلام) وفيه نموذج على من قام بحق الوحي قياما كاملا: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أي قام بهن كلهن وفي كل من المقطعين تأخذ هذه الأمة دروسا. وقصة إبراهيم (عليه السلام) التي فيها بناء الكعبة، تصل بنا إلى مقطع جديد حول
المقطع الأول من القسم الأول
قبلة المسلمين ودروس ذلك، وذلك هو المقطع الخامس. ثم يأتي المقطع السادس، وفيه توجيهات مباشرة للمسلمين لها صلة بكل ما مر قبل ذلك في السورة. فالمعاني إذن هي العلامة الرابعة التي دلتنا على القسم ابتداء وانتهاء ولئن اختصرنا وبسطنا فمن أجل مجرد وضع أساس وسيتضح الأمر لنا شيئا فشيئا. ومما مر ندرك أن القسم الأول يتألف من ستة مقاطع- ذلك اجتهادنا- فلنبدأ بعرض المقطع الأول. المقطع الأول من القسم الأول: يمتد هذا المقطع من الآية (21) إلى نهاية الآية (29) وهذا هو:
1 - كلمة إجمالية في هذا المقطع وسياقه
1 - كلمة إجمالية في هذا المقطع وسياقه بعد أن عدد الله في مقدمة السورة فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة أقبل عليهم بالخطاب داعيا إياهم إلى عبادته وتوحيده دالا لهم على طريق الكون من المتقين مقيما عليهم الحجة، على أن كتابه لا ريب فيه، مبشرا المستجيبين له بما أعده لهم مبينا الأسباب الحقيقة لضلال الضالين من كافرين ومنافقين، ومناقشا الكافرين مقيما عليهم الحجة، فإذا كانت مقدمة البقرة قد قررت بعض المعاني تقريرا فهذا المقطع كان دعوة وإقامة حجة. 2 - المعنى الحرفي وسنعرض فيه المقطع على ثلاث مراحل كل مرحلة نعرض فقرة وتعقيبا على محل الفقرة في السياق. الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي اعرفوه ووحدوه وأدوا له حقوق الربوبية بعبادتكم إياه. قال ابن عباس: كل عبادة في القرآن توحيد. أقول: ولا توحيد إلا
[سورة البقرة (2): آية 22]
بمعرفة، والمعرفة تقتضي القيام بحقوق المعبود. الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. الخلق هو إيجاد المعدوم على تقدير واستواء، وتذكيره إيانا بخلقنا وخلق من قبلنا في سياق الأمر بالعبادة تهييج لنا على العبادة وتبيان أن من خلق هو الذي يستحق العبادة. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لعل في أصل اللغة للترجي والإطماع ولكنه في القرآن إطماع من كريم، فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه، فمن عرف الله حق المعرفة ووحده حق التوحيد، وعبده حق العبادة، وحققه الله عزّ وجل بالتقوى كان من المفلحين، ففي الآية دعوة للناس جميعا أن يكونوا من الفئة الأولى التي ذكرت في مقدمة سورة البقرة- فئة المتقين- وذلك بسلوك طريق ذلك، وطريق ذلك معرفة الله وتوحيده وعبادته. وقد عرفهم على ذاته بأنه خالقهم وخالق من قبلهم، ثم أكمل التعريف على ذاته بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً معنى جعل: صير. والفراش كالبساط قال الألوسي: ومعنى صيرها فراشا أي كالفراش فى صحة القعود والنوم عليها قال السيوطي: أي بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها، قال القرطبي: وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها لأن الجبال كالأوتاد .. والبحار تركب إلى سائر منافعها، وَالسَّماءَ بِناءً. قال القرطبي: وكل ما علا فأظل قيل له سماء أقول: وقد شبهت السماء بالبناء في الآية لدقة إحكامها وكمال ترتيبها وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي من السحاب فَأَخْرَجَ بِهِ أي بالماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، وهذا يقتضي منكم معرفة وعبادة وتوحيدا. ولذلك قال تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً الند: المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنها لا تخلق شيئا ولا ترزق، وأن الله هو الخالق والرازق فهو صاحب الحق بالعبادة ويمكن أن يكون التقدير: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم من أهل العلم بأصل الفطرة بأن الله هو المستحق للعبادة وحده. ثم بعد أن عرفهم على ذاته من خلال ظاهرتي الخلق والعناية، بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ويستوجب العبادة ويستأهل التقوى ذكر ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يقرر إعجاز القرآن مما يستوجب السير على هداه لتحقيق التقوى وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا العبد اسم لمملوك من جنس العقلاء والمراد به في الآية محمد صلى الله عليه وسلم وكلمة نَزَّلْنا تفيد التنزيل التدريجي المنجم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ السورة هي: الطائفة من القرآن المترجمة أي المعنونة
[سورة البقرة (2): آية 24]
التي أقلها ثلاث آيات وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ الشهيد هو: الحاضر أو القائم بالشهادة مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعاواكم، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا: بأن تأتوا بسورة من مثله فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ. الوقود: ما توقد به النار من مثل الحطب، ومعنى وقودها الناس والحجارة: أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي إما حجارة الكبريت فهي أشد توقدا، وأبطأ خمودا، وأنتن رائحة، وألصق بالبدن، وإما الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيرا، أو هي هذه وهذه وكل ذلك اتجاهات للمفسرين أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي هيئت لهم، وفي ذلك دليل أن النار مخلوقة موجودة الآن، وبعد أن بين الله عزّ وجل طريق تقواه، وأقام الحجة على وجوبها، وبين أن هذا القرآن لا ريب فيه، وتوعد الكافرين، فكأنه لم يعد هناك مبرر لإنسان في ألا يؤمن ويعمل صالحا، ومن ثم فقد توجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر هؤلاء العاملين: وَبَشِّرِ الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء ولكل مسلم انتهاء بحكم أن للمؤمنين أسوة برسول الله فهو قدوتهم، والبشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: الذين آمنوا بالغيب، وآمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبل، وآمنوا بالآخرة وعملوا الصالحات؛ من إقامة صلاة وإنفاق وذلك كله قرر من قبل والصالحات في الاصطلاح الشرعي: كل ما استقام من الأعمال بدليل الكتاب والسنة، وعطف العمل الصالح على الإيمان دليل على أن الإيمان غير العمل الصالح. أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. الجنة في اللغة: البستان من الشجر المتكاثف وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الأشجار، وقد جمعت في الآية ونكرت لاشتمالها على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ودار الثواب مخلوقة من قبل موجودة الآن. رزقنا الله إياها، قال علماء أصول الدين: ولا نجعل للمؤمن العاصي صاحب الكبيرة بشارة مطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ النهر هو: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر والجري: الاطراد. قالوا: وأنهار الجنة تجري في غير أخدود من تحت أشجار الجنة وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة، والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً هذه الجنات لها ثمار أجناسها
كلمة في السياق
أجناس ثمرات الدنيا وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله، وإنما كانت ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا، ولم تكن أجناسا أخرى لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، وإذا رأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتا بينا كان تعجبه أكثر واستغرابه أوفر. وقوله تعالى مِنْ قَبْلُ أى من قبل ذلك مما رزقوه في الدنيا والآخرة وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في المنظر والطعم مختلف وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من مساوئ الأخلاق، ومما يختص بالنساء في الدنيا من حيض واستحاضة، ومما لا يختص بالمرأة من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس، ومطهرة أبلغ من طاهرة لأنها تكون للتكثير وفيها إشعار بأن مطهرا طهرهن وما ذلك إلا الله وَهُمْ فِيها خالِدُونَ الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع، فالجنة باقية ولكنها مخلوقة، وهي باقية بإبقاء الله، والله باق وبقاؤه واجب وليس لوجوده ابتداء فهو الأول. عن ابن عباس قال: لا يشبه شئ مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء «وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» وعن ابن مسعود في قوله تعالى وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قال: في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم، وقال يحيى بن كثير فيها: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشئ فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل فتقول الملائكة: كل فاللون واحد والطعم مختلف، وقال مجاهد في تفسير قوله تعالى وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .. نسأل الله أن يجعلنا من أهل جنته وأن يقينا ناره. كلمة في السياق: - قسمت مقدمة سورة البقرة الناس إلى ثلاثة أقسام ثم جاءت الآيتان التاليتان للمقدمة تدعوان الناس إلى أن يكونوا من المتقين بسلوك طريق ذلك، فأقامتا الحجة عليهم بلزوم السير في هذا الطريق من خلال ظاهرتي الخلق والعناية، ثم في الآية اللاحقة أقامت عليهم الحجة في أن هذا القرآن من عند الله، فأكملت الحجة على ضرورة السير ليكون الإنسان من المتقين، ويلاحظ أن بداية سورة البقرة كانت: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وأن هاهنا قد جاء قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فههنا يأتي الدليل على أن القرآن لا ريب فيه، ويأتي الدليل الملزم على وجوب الإيمان بالوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهي إحدى النقاط المذكورة في المقدمة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. - وفي المقدمة ذكرت الآيات استحقاق الكافرين للعذاب، واستحقاق المنافقين
الفقرة الثانية
للعذاب، فقالت عن الكافرين وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعن المنافقين وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وفي الآيات التي جاءت بعد المقدمة ذكر فيها ماهية هذا العذاب فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ والمنافقون كفار بل هم شر الكفار. - لاحظ الصلة بين الأمر بالعبادة بعد المقدمة، وبين صفات المتقين التي وردت في المقدمة ثم لاحظ الصلة بين قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في المقدمة، وبين قوله تعالى فيما بعد فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ثم لاحظ أن مقدمة سورة البقرة بعد أن قررت أن القرآن لا ريب فيه ذكرت أن المهتدين به هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وهاهنا بعد أن أقامت الآيتان السابقتان على آية الأمر بالبشارة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه، بشر أهل الإيمان والعمل الصالح أي: الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة واتبعوا الكتاب، وبهذا عرفنا مظهر الفلاح الذي ورد في مقدمة سورة البقرة في حق المتقين، وهو أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .. وإذا عرفنا الصلة بين مقدمة سورة البقرة والفقرة الأولى من المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة فلننتقل إلى الفقرة الثانية من المقطع: الفقرة الثانية: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها قال قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... فالمعنى إذن: أن الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها، وما في الآية إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته عموما فَما فَوْقَها: أي فما تجاوزها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة أو فما زاد عليها في الحجم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي يعلمون أن المثل هو الحق من عند الله والحق هو: الثابت الذي لا يصح إنكاره. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أشعر سؤالهم الاستحقار، وذلك من جهلهم بالله،
[سورة البقرة (2): آية 27]
والإرادة طلب النفس وميل القلب بالنسبة للإنسان، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص الممكنات بوجه دون وجه، والله تعالى موصوف بالإرادة: على الحقيقة عند أهل السنة. يُضِلُّ بِهِ أي بالمثل كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً دلت على أن فريق العالمين بأنه الحق، وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة، وأهل الهدى كثيرون في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال، والإضلال: خلق فعل الضلال في العبد، والهداية: خلق فعل الاهتداء عند أهل السنة. وَما يُضِلُّ بِهِ، أي بالمثل إِلَّا الْفاسِقِينَ الفاسق في اصطلاح الفقهاء هو: الخارج عن الأمر بارتكاب كبيرة أو بإصرار على صغيرة وأما في الاصطلاح القرآني فإذا جاء في سياق الكلام عن الكافرين والمنافقين فالمراد به الكافر، وإذا جاء حديثا عن المسلمين العاصين فالمراد به المقصرون في الفعل أو في الترك. وهاهنا المراد به الكافرون والمنافقون، وينسحب الكلام على المؤمنين، لأنه كثيرا ما ينسحب الوعيد في حق الكافرين والمنافقين على عصاة هذه الأمة ممن يوافقون الكافرين أو المنافقين في أمر هو معصية. ثم وصف الله- عزّ وجل- هؤلاء الذين يستحقون الإضلال بسبب فسوقهم فقال: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ النقض هو الفسخ وفك التركيب، والعهد الموثق، والضمير في مِيثاقِهِ يعود إلى العهد أو لله تعالى، والميثاق من الوثاقة وهي: إحكام الشئ، فإذا كان الضمير للعهد صار المعنى ينقضون عهد الله من بعد ما وثقوه به من قبوله وإلزامه أنفسهم، وإذا كان الضمير (لله) صار المعنى: ينقضون عهد الله من بعد توثقته عليهم، وعهد الله هو: إما ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به، ووثقه عليهم، وإما الميثاق بأنه إذا بعث رسولا يصدقه بالمعجزات أن يؤمنوا ويتابعوا، وإما أخذ الله العهد على ألا يسفك دم ظلما وألا يكون بغي وفساد وتقطيع أرحام. وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ هو: قطعهم الأرحام وقطعهم موالاة المؤمنين ومن باب أولى موالاة الرسل، فمن قطع ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق فآمن ببعض وكفر ببعض فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل، والأمر: طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ من أظهر مظاهر الإفساد في الأرض الدعوة إلى الكفر
كلمة في السياق
والمعصية والفواحش، والتعويق عن الإيمان. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الخاسر هو: المغبون وهؤلاء مغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب. كلمة في السياق: 1 - في مقدمة سورة البقرة ذكر المتقون، وذكر أنهم هم المفلحون، وذكر الكافرون وأن لهم عذابا عظيما، وذكر المنافقون وأن لهم عذابا أليما، وأنهم اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وهاهنا ذكر أن من اجتمعت لهم صفات بعينها هم الخاسرون، فدل ذلك على أن هذه الصفات التي ذكرت هنا صفات مشتركة بين المنافقين والكافرين، وأنهم جميعا فاسقون، وفي الكلام عن الكافرين ذكر الله عزّ وجل أنه ختم على قلوبهم. وفي الكلام عن المنافقين ذكر الله عزّ وجل أنه ذهب بنورهم. وهاهنا بين الله عزّ وجل أنه لا يضل إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، فعرفنا أنه ما ختم على قلوب الكافرين ولا ذهب بنور المنافقين إلا بسبب من أعمال ارتكبوها وطريق ساروا فيها فاستحقوا من الله ما استحقوا، فهذا أول مظهر من مظاهر صلة الآيتين بما قبلهما. 2 - مقدمة سورة البقرة ذكرت الذين يهتدون بالكتاب، وهم من اجتمع لهم الإيمان بالغيب، والصلاة والإنفاق. وفي هاتين الآيتين ذكر من لا يهتدي بالكتاب، وهم الناقضون للعهد والقاطعون لما ينبغي وصله، والمفسدون في الأرض، وبالتالي فعلى الراغبين في الهداية أن يفعلوا شيئا، ويتركوا شيئا وكل من الشيئين مفصل محدد، وهذا مظهر ثان من مظاهر الصلة بين هاتين الآيتين وما قبلهما، فبعد أن دلنا الله عزّ وجل على الطريق السالك نحو تقواه وعرفنا على ماهية تقواه وبشر المتقين، دلنا على طريق الضلال ليجتنب وذلك من خلال التعريف به جل جلاله. 3 - جاءت هاتان الآيتان في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ورأينا أن الأمر بالعبادة أمر بالمعرفة بالضرورة، وهاتان الآيتان جاءتا معرفتين على الله، ولذلك بدأتا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فعرفتانا على الله عزّ وجل أنه يضل وأنه يهدي وأن إضلاله باستحقاق، وذلك كله تعريف على الله وتصحيح لمفاهيم خاطئة عن الله عزّ وجل، فهناك أناس يؤمنون بالله في زعمهم ولكنهم يعتقدون أن الله لا يتدخل في قضايا عباده، أو في شأن توجيههم، وهناك أناس يتصورون أن الله عزّ وجل لا يهتم بشئون عباده وإذا اهتم فضمن حدود، ويرون أن هناك أمورا لا تليق
الفقرة الثالثة
به، وكل ذلك من بنات أفكارهم، وقد جاءت الآيتان تصحح ذلك كله، ومن ثم فهي تعرف على الله في سياق أمر الله للناس بالعبادة، ومن هاهنا ندرك صلة الآيتين ببداية المقطع، وهذا شئ سنراه كثيرا من كون بداية المقطع لها صلة بكل آيات المقطع. 4 - جاءت هاتان الآيتان بعد الآية التي أمر الله عزّ وجل بها رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات فكان في هاتين الآيتين الإنذار المقابل للتبشير وذلك لمن ضل عن طريق الله عزّ وجل، وهكذا نجد كيف أن الآيتين مرتبطتان بما قبلهما مباشرة ومرتبطتان بمقدمة السورة بأقوى رباط. والآن لننتقل إلى الفقرة الثالثة في المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة. الفقرة الثالثة: المعنى الحرفي: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ؟ الاستفهام بكيف هنا يفيد الإنكار والتعجب فكأنه قال: أتكفرون بالله وفيكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، والأموات: جمع ميت كالأقوال جمع قول وهو عادم الحياة أصلا، وذلك حال كون الإنسان ترابا إذ النطفة من الغذاء، والغذاء من التراب، والحياة الأولى هي حال كون الإنسان في الرحم فما بعد ذلك حتى يموت. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث؛ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تصيرون إلى الجزاء، أو التقدير: ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور. وإنما أنكر اجتماع الكفر مع ما ذكر، لأن ما ذكر يقتضي شكرا وخشية، لا كفرا وإدبارا وغفلة. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما في دنياكم فظاهر إذ ما من شئ إلا وهو لصالح الإنسان بشكل من الأشكال، وأما في دينكم فلما يؤدي النظر في ذلك إلى معرفة بالله وتذكر للآخرة، فملاذ الدنيا تذكر بثواب الآخرة، ومكارهها تذكر بمكارهها ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شئ آخر والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل ثم استوى إلى فوق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معنى تسويتهن: تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور أو إتمام خلقهن، ومن فعل هذا كله كان علمه محيطا فليتق الإنسان الله الذي يعلم كل شئ فيعلم تقلبه في كل حال وسره وعلانيته.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: 1 - بدأت الفقرة الأولى من هذا المقطع بالدعوة إلى عبادة الله وتوحيده وجاءت الفقرة الثانية فزادتنا تعريفا على الله ثم جاءت الفقرة الثالثة فناقشت الكافرين بالله، وأقامت عليهم الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية. 2 - يلاحظ أن المقطع بدأ بقوله تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وأن الآيتين الأخيرتين منه بدأتا بالتذكير بذلك كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، والآن لنحاول أن نبحث عن حكمة تسلسل فقرات المقطع: في الفقرة الأولى ذكر الطريق إلى الله كاملا، ومن جملة ما ذكر في الفقرة الأولى وجوب معرفة الله وإقامة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه، وجاءت الفقرة الثانية في سياقها الرئيسي فزادت معرفتنا بالله ونفت شبهة عن هذا القرآن، وجاءت الفقرة الثالثة لتناقش الكافرين في كفرهم بالله، وتأخير الفقرة الثالثة فيه إشارة إلى أن باطل الأباطيل الكفر بالله، فقد جاءت الفقرة الثالثة بعد قوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، فمجيء قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ .. بعد ذلك فيه إشارة إلى أن السبب الأول في ضلال الكافرين والمنافقين هو الكفر بالله، وهكذا نجد أن الفقرة اللاحقة تخدم في كل ما سبقها وجميع الفقرات على غاية من التلاحم مع بعضها، والمقطع كله كما رأينا شديد الصلة بالمقدمة. 3 - فوائد 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ننقل هذه النقول: في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك». وفي حديث معاذ: «أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وفي الحديث «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان». وعن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده» وأخرج ابن مردويه والنسائي وابن ماجه عن الطفيل بن سخبرة قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم
تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا: ما شاء الله وحده. وقال ابن عباس في تفسيره قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً «الأنداد هو الشرك. أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها (فلان). هذا كله به شرك» أقول: وقد غرقت كثير من البيئات في مخلات التوحيد الكبرى أو الصغرى، فعلى العلماء أن يتقوا الله فيقوموا بكل ما يحمي جناب التوحيد كأعظم واجب على الإطلاق، ولنختم هذه النقول بهذا النص: أخرج الإمام أحمد بإسناد قال عنه ابن كثير: إنه حسن، عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عزّ وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، وقعدوا على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم؛ فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك مثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى
عنقه وقدموه ليضربوا عنقه وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرا، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن به وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس؛ الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ فقال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عزّ وجل المسلمين المؤمنين عباد الله». 2 - قوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم، كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، فكل سورة من القرآن معجزة، لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، بل ما كان في حجم السورة القصيرة من السور الطوال، يقوم به الإعجاز وتثبت به الحجة. ولقد تحدى القرآن العرب- والتحدي للعرب تحد للناس جميعا من باب أولى؛ لأنهم أفصح الأمم والقرآن بلغتهم- مرات عديدة أن يأتوا بشيء مثله، ومع شدة عداوتهم له وبغضهم لهذا الدين عجزوا عن ذلك. ولقد قال تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ولن: تفيد النفي المؤبد في المستقبل أي: ولن تفعلوا ذلك أبدا، وهذه أيضا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين. وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد؛ والقرآن كلام الله خالق كل شئ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز وجوها ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى وسنرى ذلك في هذا التفسير حيث جاءت مناسبة. في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» اهـ. وذلك لأن معجزات الرسل خارجة عن ماهية الوحي أما في رسالة رسولنا فالقرآن نفسه معجزة بل معجزات.
3 - قال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ: «هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين» رواه ابن جرير. وأخرج الإمام مسلم عن ابن مسعود قال: سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى مقرها». أقول: فهذا دليل على أن النار موجودة الآن، وأن الصحابة كان يكشف عن أسماعهم فيسمعون شيئا من أمر الغيب. 4 - سيقت آية إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل، ليس بموضوع للاستنكار والاستغراب؛ لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، وإدناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور، وإن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حالة الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله لا حال أحقر منها وأقل، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقل من الذباب، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا فمثل هذا التمثيل لا يستنكر ولا يستبعد، إذ المثل مضروب في محله مسوق على قضية مضربه، كما سيقت الآية لبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور بناظر العقل، إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق، وأن الكفار الذين غلب عليهم الجهل والإثارة الغوغائية، إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار، غوغائية وتشويشا دون مبرر. فلم يزل الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا: أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد، وأضعف من فراشة، وآكل من السوس، وأضعف من البعوضة، وأعز من مخ البعوضة، والله جل شأنه خاطب البشر من حيث ما ألفوه من فنون الخطاب، فبدلا من أن يشكر الإنسان الله على ما قرب إليه من معان، كفر!! وما أكثر ما نرى المحجوج والمبهوت يدفع الواضح وينكر اللائح. 5 - ذكر الله عزّ وجل ثلاث صفات استحق بها- من استحق- الضلال وهي صفات مشتركة في الكافرين والمنافقين، والحديث الشريف ذكر أن للمنافقين ثلاث
خصال، ولأبي العالية جمع لطيف بين هذه الصفات جميعا يقول أبو العالية فيما ذكره ابن كثير: «ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا». وفيما ذهب إليه أبو العالية دليل لما ذهبنا إليه أن الآية في الفقرة الثانية شملت الكافرين والمنافقين، ومن درس حال من تنطبق عليهم صفات المنافقين المتقدمة في مقدمة السورة قبل وصولهم إلى حكم البلاد في عصرنا وبعد الوصول إلى الحكم عرف مصداق ما ذكره أبو العالية. 6 - في قوله تعالى عن الفاسقين في الفقرة الثانية من المقطع .. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قال ابن جرير: «الخاسرون جمع خاسر وهم: الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل من تجارته بأن يوضع من رأسماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسرا بحرمان الله إياهما رحمته التي خلقها لعباده في القيامة وهم أحوج ما كانوا إلى رحمته». وقال الضحاك عن ابن عباس «كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب» أقول: وهذا شئ مهم جدا في فهم النصوص فكثير من الناس غلطوا فكفروا عصاة المؤمنين بسبب عدم فهم مثل هذه الدقائق. 7 - قال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قال: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى، فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً .. نقل هذا التفسير ابن كثير وهو نص مهم في تفسير الآيتين، لأن بعض المفسرين فسر الموتة الأولى: بأنها عند ما كان الإنسان نطفة فاستغل ذلك بعض المضللين بأن أصبح يقول: إن النطفة فيها حياة فكيف تعتبر ميتة بينما تفسير ابن عباس يجعل الموتة الأولى مرحلة ما قبل النطفة مرحلة الترابية، إذ ذرات النطفة قبل أن تتخلق كانت غذاء، وقبل ذلك كان
الغذاء ترابا وهواء وماء، وذلك كله عديم حياة وإذن فهذا التفسير عن ابن عباس أبعد عن الإشكال. 8 - استدل الكرخي وأبو بكر الرازي بقوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل ومنه القاعدة: «الأصل في الأشياء الإباحة» وهذا مبحث من مباحث علم أصول الفقه. 9 - النصوص القرآنية قطعية الدلالة في أن السموات والأرض خلقت في ستة أيام، ولكن لم يرد نص في الكتاب والسنة يوضح ماهية هذه الأيام الستة، وماذا تم في كل واحد منها على التعيين، نقول هذا لأن علماء الكون لهم كلام طويل في موضوع تطور الأرض حتى وصلت إلى ما هي عليه فحتى لا يظن ظان أن هناك كلاما قطعيا في الكتاب والسنة حول هذا الشأن فيعارض به الأبحاث العلمية أحببنا الإشارة إلى هذا الموضوع. كل ما في الأمر أن هناك كلاما عن أهل الكتاب في هذا الموضوع، وهو كلام متناقض متهافت ساقط علميا، وفي كل الأحوال لا ينبغي أن يحسب على الكتاب والسنة أو على الإسلام بشكل عام، وهناك قضية موهمة وهي أن الإمام مسلما روى حديثا في هذا الموضوع، فلننقل الحديث وتعليق ابن كثير عليه لنعرف الخطأ في هذا الشأن: عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» قال ابن كثير: «وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب (أي كعب الأحبار اليهودي الأصل ثم أسلم)، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا وقد حرر ذلك البيهقي» اهـ كلام ابن كثير. أقول: والنص إذا فهمناه على أنه شرح للأيام الستة وما حدث فيها فإنه يناقض القرآن لأن اليومين الأخيرين من الستة تم فيهما خلق السموات كما نص القرآن على ذلك في سورة فصلت ولهذا وغيره أنكره المحدثون وعلى فرض صحة رفعه، فإنه يحمل على تسلسل الخلق دون أن يعتبر تفسيرا للستة التي خلق الله بها السموات والأرض، وعلى ألا يعتبر ذلك
4 - فصول شتى
تسلسلا متواليا بل أن يفهم على أنه في سبت من السبوت تم خلق التربة ثم في أحد من أيام الأحد فيما بعد تم خلق الشجر، والملاحظ أن هذا النص إذا فهم في إطاره الحرفي وعلى أنه تفسير للأيام الستة فإنه لا يتفق مع القرآن، ولا حتى مع رواية ما يسمى الآن بالتوراة، لأن التوراة المحرفة الحالية تزعم أن الله فرغ من الخلق يوم الجمعة، وأنه لم يعمل شيئا يوم السبت، وعلى كل فقد رأيت ترجيح المحدثين لاعتبار النص كتابيا وليس حديثا شريفا. وهناك نص عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكان قبل إسلامه من أحبار اليهود يقول: «إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة». ولنا على هذه الرواية أكثر من عودة فالأمر يحتاج إلى بحث طويل ولنا عنده وقفات. 4 - فصول شتى فصل في السموات: هناك ألفاظ لها في الأصل معانيها اللغوية، ويعطيها الشارع معان شرعية، وأحيانا يستعملها الشارع بمعناها اللغوي، وأحيانا بمعناها الشرعي الخاص الذي أعطاها إياه، وهذا يقتضي دقة في الفهم عن الشارع. مثال ذلك: كلمة السماء فهي في أصل اللغة تدل على العلو، والشارع يستعملها أحيانا بهذا المعنى، ثم هي في هذا المعنى تستعمل للدلالة على العلو القريب وأحيانا على العلو كله، والشارع حدثنا عن السموات السبع وهي من حيث إنها في جهة العلو تتفق مع أصل الوضع اللغوي، ولكنها في اصطلاح الشارع تدل على شئ بعينه من مجموع هذا العلو. في مجموع هذه الأمور زلت أقدام وتزل أقدام ويقع خطأ كبير، وفي المقطع الذي مر معنا وردت كلمة السماء أربع مرات: وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وفي اجتهادي أن اللفظ الأول للسماء في الآية الأولى يراد به جهة العلو كلها، واللفظ الثاني للسماء في نفس الآية يراد به السماء القريبة أي: منطقة تشكل السحاب. وأما اللفظ الأول للسماء في الآية الثانية فهو يوافق اللفظ الأول لها في الآية الأولى وأما السموات السبع فيراد بها السموات في الاصطلاح الخاص. بعد هذا العرض السريع لهذا الموضوع فلنتحدث عن بعض مقولات علماء الطبيعة في عصرنا: يقدر علماء الطبيعة أن عمر مجرتنا التي تشكل مجموعتنا الشمسية جزءا منها حوالي
عشرة مليارات من السنين، بينما يعتبرون أن عمر الأرض والشمس حوالي أربع مليارات ونصف من السنين، فعمر الأرض إذن أقل بكثير من عمر المجرات، فالسماء بمجموعها إذن أقدم من الأرض، ونتيجة لهذا فإن بعض الدارسين وقع في حيرة، بسبب أن القرآن يذكر أن السموات خلقت بعد الأرض، وسبب الحيرة أنهم لم يفرقوا بين السماء بالمعنى الأعم والسموات السبع بالمعنى الأخص، فالنص القرآني يثبت أن السموات السبع بالمعنى الأخص قد خلقت بعد الأرض، ولكن القرآن يثبت كذلك أن الأرض قد خلقت بعد السماء بالمعنى الأعم. لقد زعم بعض الباحثين أن السموات السبع هي هذه المجرات أو هي الكواكب وهذا الذي أوقعهم في الخطأ مرتين ومن أجل وضع الأمور في نصابها نقول: تستعمل كلمة السماء في القرآن على أكثر من استعمال، فأحيانا تطلق على ما علا، فيدخل في ذلك الجو والنجوم والسموات والمجرات، وأحيانا تذكر ويراد بها السموات السبع التي هي سكن الملائكة، وإليها تعرج أرواح المؤمنين وإليها كان معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي في أعلاها الجنة، وسقفها عرش الرحمن، وعدم التفريق بين المعنى الاصطلاحي للسماوات وهي هذه السبع وبين السماء مطلقا كما هو معناها في اللغة مزلة قدم في فهم كتاب الله، والسموات الواردة في قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، إنما هي السموات في المصطلح الذي ذكرناه، وهي سماوات يجب أن نؤمن بها فمن أنكرها كفر، ولكن هل هي غيبية أو لا؟ أو هي فوق المجرات كلها أو لا؟ هذه كلها قضايا تحتملها النصوص وعبارات العلماء، ولا يترتب عليه كفر أو إيمان وسنتعرض له في محله ولا يؤثر على العقيدة الجهل به، ولكن هناك قضية تفرض نفسها في عصرنا وهي أن ظاهر الآية هنا- ويؤكد هذا المعنى الآيات الواردة في سورة فصلت- يذكر أن السموات السبع خلقت بعد الأرض، بينما قال الله تعالى في سورة النازعات: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً، أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فههنا ذكر دحو الأرض بعد خلق السماء والذي أتجه إليه في هذا الموضوع: أن السموات السبع التي ذكرنا مواصفاتها خلقت بعد الأرض، أما السماء ككل أي هذه المجرات فإنها خلقت قبل الأرض ويؤيد هذا الاتجاه أن الله- عزّ وجل- قد ذكر أن خلق السموات والأرض قد كان قبله شئ آخر وذلك قوله تعالى في سورة هود وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وبهذا
فصل في إعجاز القرآن ومعجزاته
الاتجاه الذي اتجهناه نكون قد جمعنا بين النصوص، وبعد أن سجلت هذا الاتجاه في مسودة التفسير رايت أن الألوسي في تفسيره قد نقل عن بعض الإسلاميين ما يشبه هذا الاتجاه يقول في الصفحة (217) من الجزء الأول من تفسيره. «والذي يفهم من بعض عبارات القوم ... أن المحدد ويقال له سماء أيضا مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان» أقول: هذا النقل يحتاج إلى نقاش في بعض أجزائه ولكنه يؤيد أصل ما اتجهنا إليه، وينبغي أن يكون واضحا أن القرآن يثبت قدم المجرات على تشكل الأرض، وهذا من أعظم المعجزات التي تدل على أن هذا القرآن من عند الله. فصل في إعجاز القرآن ومعجزاته: رأينا أن الإعجاز شئ مشترك في القرآن كله، ففي أصغر سورة أو بقدرها يقوم الإعجاز، ويثبت التحدي، وتقوم حجة الله عزّ وجل على الخلق بأن هذا القرآن من عند الله، ولكن هناك معجزات أخرى في هذا القرآن زائدة على أصل الإعجاز، إن كل معنى في القرآن يستحيل أن يكون أثرا عن علم بشري، سواء كان حديثا عن ماض أو آت أو سر من أسرار هذا الكون يشكل في حد ذاته معجزة تزيد على مجرد الإعجاز، إن الإعجاز حاصل في القرآن سواء وجد إخبار عن مستقبل أو لا، وجد كلام عن قضية علمية أو لا، فإذا وجد شئ من ذلك وجدت معجزة زائدة على الإعجاز الموجود في سور القرآن كلها، وهذا معنى سيتضح شيئا فشيئا، وإنما نبهنا على ذلك لأن كثيرا من المؤلفين يتساهلون في التعبير عن هذه الأمور ولا حرج في ذلك، ولكنه كلام تقتضيه دقة العرض العلمي لهذا القرآن الكريم، وبهذه المناسبة نقول: إن من أهم واجبات الدعاة في هذا العصر أن يعرفوا معجزات القرآن، وأن يمتلكوا القدرة على فهم إعجازه، وأن يحسنوا العرض لهذا كله، فما من شئ أقرب من إقامة الحجة وأكثر تأثيرا في النفس من مثل هذا، إن سيرنا في هذا الطريق وامتلاكنا ناصية البيان فيه يختصر لنا الطريق في الدعوة إلى الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالإسلام بآن واحد. فصل في قضايا عقدية: مر معنا في هذا المقطع قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فدل ذلك على أن الله عزّ وجل هو الذي يخلق الهداية والضلال، على أن ذلك له أسبابه كما رأينا
فصل في بعض دروس مقدمة السورة والمقطع الأول من قسمها الأول
وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. وهذا يؤيد ما اتجه إليه أهل السنة والجماعة في مسألة خلق الأفعال في أنهم يثبتون الأسباب ويسندون الخلق لله، فكل شيء بعلمه جل جلاله وإرادته وقدرته ابتداء واستمرارا، ولقد رأينا النقول التي نقلناها بمناسبة قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وكيف أن الصحابة اعتبروا من مخلات التوحيد الاعتماد على الأسباب أو نسبة الأفعال إليها دون ملاحظة أن ذلك لم يكن إلا بالله. وأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان هو التصديق، ويعتبرون العمل بالإسلام علامة كمال، ومن ثم فلا يحكمون بكفر من صدق إذا أخل إلا إذا كان في تصديقه خلل، أو أتى ناقضا يخل بأصل الإيمان، ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فالعطف في اللغة العربية يقتضي المغايرة، ومن ثم فإن العمل الصالح غير الإيمان. ولعل أحدا من الناس يضايقه ذكر مثل هذه المعاني ولهؤلاء نقول: إننا لسنا أمام خيار، فلقد ثارت هذه المسائل في التاريخ وأثيرت وإما أن نقدم للمسلمين اليوم خلاصة التحقيق فيها ليكون عند المسلم مناعة ضد الخطأ، أو نسكت فيقع المسلم في الاتجاهات الخاطئة، ونحيل المسلم على رسالتنا «جولات في الفقهين الكبير والأكبر» ليرى فيها ضرورة ما ذكرنا. فصل في بعض دروس مقدمة السورة والمقطع الأول من قسمها الأول: رأينا في المقطع أن الله عزّ وجل أقام الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وأقام الحجة على وجوب عبادته وتوحيده من خلال ظاهرتي الخلق والعناية، وعرفنا على أسباب الضلال ومظاهره، وعرفنا على طريق الهداية ومعالمها، وطرق سمعنا خلال ذلك قضية التقوى وقضية العبادة كأهم قضيتين على الإطلاق، ونحب هنا أن نضع بعض الأطر لنعرف محل قضية التقوى والعبادة في مجموع دين الله. 1 - ما من قضية من قضايا التكليف إلا وقد بينها الله عزّ وجل في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بما أحال عليه الكتاب والسنة من أصول تستنبط منها أحكام الله، وأن مجموع ذلك وغيره إنما هو إسلام أو من الإسلام. 2 - إن أركان الإسلام الذي يقوم عليه بناؤه خمسة، وقد ذكرت الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ثلاثا منها.
وباختصار نقول
3 - إن مجموع ما يطالب به المسلم من مجموع الإسلام هو التقوى حقيقة وطريقا والتقوى هي التي توصل إلى الشكر، ويدخل فيها العمل بالإسلام والتحقق بالإيمان والارتقاء إلى مقام الإحسان، وقد فصلنا هذا كله في كتابنا «تربيتنا الروحية». وباختصار نقول: إن المسلم مكلف بأن يعرف الإسلام، وأن يعرف شموله، وأن يؤمن به، ومكلف بأن يأخذ حظه من العمل بالإسلام، وبأن يتحقق بالإيمان، وبأن يسعى للإحسان، وبأن يتحقق بحقيقة التقوى، وأن يصل بذلك إلى مقام الشكر، وهذه معان نعرضها هنا باختصار وسنراها كثيرا فيما بعد، وإنما أحببنا هنا أن نلفت النظر إلى مجمل ما درسناه بالنسبة لمجموع النصوص، ولعله قد وضح لدينا أنه لكي لا نكون كافرين ولا منافقين: فإن علينا أن نتذكر عهودنا مع الله ولا ننقضها، وأن نصل ما أمر الله به أن يوصل من رحم وأن نواد أهل الإيمان ونواليهم، وأن علينا ألا نفسد في الأرض بصد عن سبيل الله أو بدعوة إلى كفر، وأن علينا أن نؤمن وأن نعمل صالحا، بإقام الصلاة والإنفاق والعبادة واتباع كتاب الله، وأن نتذكر- إذا وقع في قلوبنا وسوسة- هذا القرآن وإعجازه، وظواهر هذا الكون التي تدلنا على الله، وأن نتذكر أن أمامنا نارا أعدها الله للكافرين، وسنرى كيف أن هذه المعاني كلها- مما ورد هاهنا ومما سيرد في سورة البقرة- ستفصل فيه سور كثيرة. كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الأول: مر معنا حتى الآن من سورة البقرة مقدمتها والمقطع الأول من القسم الأول منها، وقد رأينا صلة المقدمة بهذا المقطع وعمق الارتباط بين المقدمة وبين هذا المقطع، ورأينا صلة ذلك كله بفاتحة الكتاب. هذا كله قد رأيناه، والآن نحب أن نذكر شيئا هو: أن هذا المقطع هو أول مقطع في القسم الأول من أقسام سورة البقرة، وإذ كان هو المقطع الأول، فإن صلته ببقية مقاطع القسم صلة خاصة حتى ليكاد يكون كل مقطع من المقاطع التالية يعمق معاني تعرض لها المقطع بشكل من الأشكال، وسنرى ذلك كله تفصيلا فلننتقل بعد هذه الإشارة إلى المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة، وفيه قصة آدم، وقد وصلنا إليها بعد أن وضح لدينا: «أن الإنسان سيد هذه الأرض ومن أجله خلق كل شئ فيها كما تقدم ذلك نصا، فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شئ مادي ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا ... فهذه الماديات كلها مخلوقة أو مصنوعة من أجله، من أجل تحقيق إنسانيته، من أجل تقرير وجوده الإنساني ... ».
المقطع الثاني من القسم الأول
«وأن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها، وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها، وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج هما اللتان تقودان الإنسان وراءهما ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر». عن الظلال. المقطع الثاني من القسم الأول: يمتد هذا المقطع من الآية (30) إلى نهاية الآية (39) وهذا هو: [سورة البقرة (2): الآيات 30 الى 39] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
1 - كلمة عامة في هذا المقطع وسياقه
1 - كلمة عامة في هذا المقطع وسياقه: - يقص الله عزّ وجل علينا في هذا المقطع قصة آدم (عليه السلام) والحكمة في خلقه وكرامته على الله عزّ وجل، وتمرد الشيطان بسببه وإغواء الشيطان لآدم وزوجه وإهباط الله عزّ وجل آدم وزوجه والشيطان إلى الأرض والقاعدة التي قررها لهم حين الإهباط فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. - جاءت قصة آدم بعد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فبعد أن أخبرنا الله عزّ وجل عن تهيئة الأرض لنا، أخبرنا عن قصة خلقنا وما ركبه فينا من استعدادات؛ لاحظ الصلة بين قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وبين: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لاحظ ذكر الأرض في كل من الآيتين فإذا ما لاحظت الصلة المباشرة بين قصة آدم وبين الآية التي سبقتها فلنحاول أن نرى صلة هذا المقطع بما قبله: بدأت سورة البقرة بكلام عن المتقين والكافرين ومما ذكرته: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لاحظ صلة ذلك
2 - التفسير
في القاعدة الكلية التي تختم بها قصة آدم: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فبعد أن قرر الله عزّ وجل في المقدمة ما قرر، تأتي قصة آدم فكأنها تقول: إن اتباع هداي هو شرطي عليكم من الابتداء، ومن ثم فقصة آدم تعمق قضية الاهتداء بكتاب الله، وتحذر من قضية المخالفة والكفر، وهي في الوقت نفسه تعمق معنى الصراط المستقيم والسير فيه، ومعنى تنكب صراط المغضوب عليهم والضالين الذي ورد في آخر فقرة من الفاتحة. - رأينا أنه قد جاء بعد مقدمة سورة البقرة مقطع: في بدايته أمر ونهي. الأمر: هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. والنهي هو قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي قصة آدم نجد أمرا ونهيا. الأمر هو اسْجُدُوا لِآدَمَ. والنهي هو وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ. وقد حدثت مخالفة للأمر والنهي فكان العقاب، فقصة آدم جاءت لتعمق ضرورة الالتزام بطاعة الأمر واجتناب النهي. وفي هذا القدر من ذكر الصلة بين قصة آدم وما سبقها من سورة البقرة كفاية وللكلام تتمة فلننتقل إلى ذكر التفسير: 2 - التفسير: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (إذ) بإجماع المفسرين متعلقة بفعل أمر تقديره (اذكر) فإن يأمرنا الله عزّ وجل بعد ما مر من مقدمة السورة والمقطع الأول بتذكر هذه القصة، فذلك دليل على ارتباط هذه القصة بما قبلها، وورودها ضمن سياق متسلسل يخدم المعاني التي سبقتها كما رأينا، وكما سنرى. والمراد بالخليفة في الآية: آدم وذريته ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك مضر وهاشم، وهل هو خليفة عن الله؟ أو خليفة عن الجن؟ أو خليفة عن خلق آخرين؟ أقوال للمفسرين أقواها الأول وليس هناك نص قطعي في الموضوع، والخليفة في اللغة: من خلف فلان فلانا في
[سورة البقرة (2): الآيات 31 إلى 32]
أمر إذا قام فيه مقامه بعده. عن ابن مسعود: أن الله قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. قالُوا أي الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. أخبرهم بذلك ليسألوا هذا السؤال فيجابون بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلاف الإنسان قبل كونه، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولا يصدر منا شئ من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ: أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وإنما عرفوا أن الخليفة الجديد سيفسد في الأرض ويسفك الدماء إما بإخبار من الله تعالى، أو من جهة اللوح، أو قاسوا ما سيكون على شئ معروف لديهم من قبل، ومعنى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي ننزهك ونبرئك من كل نقص وعيب متلبسين بالشكر لك، ومعنى: نُقَدِّسُ لَكَ أي ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ علم آدم أسماء المسميات كلها، فأراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا بعير، وهذا سحاب، وهذه مجرة، وهذه شمس، وهذا نجم، حتى القصعة والمغرفة، ثم عرض المسميات على الملائكة وطالبهم أن يخبروه عن أسمائها إن كانوا صادقين في ما اتجهوا إليه أنه يستخلف مفسدين سفاكين للدماء، وفيه رد عليهم، وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله
[سورة البقرة (2): آية 33]
أن يستخلفوا، فما كان جوابهم إلا أن قدسوه ونزهوه أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم فهو العليم بكل شئ، الحكيم في خلقه، وأمره، وفي تعليمه، وعطائه ما يشاء ومنعه ما يشاء، له الحكمة في ذلك والعدل التام .. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أمر آدم أن يخبرهم بأسماء الأشياء كلها، فلما ظهر فضل آدم عليه السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، ذكرهم بأنه جل جلاله يعلم الغيب الظاهر والخفي ويعلم ما يظهرونه في ألسنتهم وما كانوا يخفونه في أنفسهم، وما أظهروه هو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها .. والذي كانوا يكتمونه هو ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته ومن المعتاد تعميم الخطاب وإرادة البعض. هذا الذي رجحه ابن جرير. وبعد أن أرى الله عزّ وجل الملائكة مزية آدم، أمرهم بالسجود له وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ هذه كرامة عظيمة من الله عزّ وجل لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، والجمهور: على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض. وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح، إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس، وكان سجود التحية جائزا فيما مضى، ثم نسخ بشريعتنا، وإبليس من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور، ولأنه أبى وعصى واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا يستكبرون عن عبادته، ولأن الله عزّ وجل قال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ولا نسل للملائكة، ودخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، قال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير، وعن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس فلذلك قال تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ (سورة الكهف)، وللمفسرين اتجاهات أخرى في هذا المقام ولا طائل في ذلك، وقد حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله
[سورة البقرة (2): آية 35]
من الكرامة وقال: أنا ناري وهذا طيني، فامتنع عن السجود كبرا، فكان بدء الذنوب الكبر، فاقتضى ذلك طرده وإبعاده عن جنات الرحمة وحضرة القدس، ومعنى قوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا والجنة هي نفسها دار الثواب وقالت المعتزلة: كانت بستانا في الأرض لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها والجواب: إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم إليها ليلة المعراج ثم خرج منها، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد قال ابن جرير: «نهي آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل كانت شجرة البر، وقيل كانت شجرة العنب، وقيل كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به» اهـ. وقد بين الله عزّ وجل لآدم وزوجته أنهما إذا قاربا الشجرة كانا من الظالمين، لأنه لا ظلم للنفس أعظم من معصية الله، ولا ضرر عليها أعظم من ذنبها، فأي ظلم أكبر من أن تتجاوز ما حد الله لك بعد كل ما أعطاك بلا مقابل منك؟ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي عن الشجرة أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، أي فأصدر الشيطان زلتهما عنها، أو عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. وزلة آدم بالخطإ في التأويل بحمل النهي على التنزيه دون التحريم. وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال بعضهم: لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية، وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعاتبهم ربهم وله عتابهم، أما نحن فقد أدبنا الله بأن نتأدب معهم، وذهب بعضهم أن ما فعله آدم كان قبل النبوة، وبالتالي فلا خدش لموضوع العصمة فيما فعله آدم عليه السلام. فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في (عنها).
[سورة البقرة (2): آية 37]
والسؤال: كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ سورة (ص) والجواب: إنه منع من دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وبعضهم ذهب إلى أن الوسوسة مستطاعة له على البعد، والرواية الإسرائيلية تذكر الحية كواسطة في الدخول وسنرى قيمة الروايات الإسرائيلية فيما بعد. وَقُلْنَا: اهْبِطُوا الهبوط النزول والخطاب على رأي بعضهم لآدم وحواء وإبليس وبعضهم قال: الخطاب لآدم وحواء لأن إبليس أمر بالهبوط من قبل، والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ على الوجه الأول فالمراد به عداوة إبليس للإنسان وعلى الوجه الثاني فالمراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ المستقر إما موضع الاستقرار أو هو الاستقرار نفسه وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ المتاع: التمتع، والحين: إما يوم القيامة أو الموت فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها، أي إن الله عزّ وجل ألهمه إياها والكلمات هن: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، (سورة الأعراف) فَتابَ عَلَيْهِ. أي فرجع عليه بالرحمة والقبول واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعا له. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. التواب: الكثير القبول للتوبة، والرحيم: الكثير الرحمة. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً. أي مجتمعين، وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد، أو لما نيط به من زيادة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً إذ هي القاعدة الكلية التي سيكون عليها مدار فعل الله جل جلاله بهم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الهدى هنا هو: الرسول أو الكتاب أو الوحي، أو هو: الكتاب أو الوحي بواسطة رسوله فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الاتباع يكون بالقبول له والإيمان به والعمل. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من أمر الدنيا وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا. أي: جحدوا الهدى وكذبوا أهله مع مجيئهم بالآيات أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ. أي: أهلها ومستحقوها هُمْ فِيها خالِدُونَ. أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.
3 - فوائد
3 - فوائد (أ) أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أقول: وهو نص في كون آدم لم يتطور عن شئ سبقه، ولنا عودة على هذا الموضوع، وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: «ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» وقال الحسن: «لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا» وقال أبو موسى: «إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شئ، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير». أخرج الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان؟ قال: نعم. أنبيا رسولا يكلمه الله قبيلا» أي: عيانا. (ب) يلاحظ من قصة آدم وموقف الملائكة من خلقه، كيف أن العلم المحيط تنكشف به من الأسرار والحكم ما لا ينكشف بغيره، وعلم الله أزلي ليس كمثله شئ، ولكن من قصة آدم نأخذ درسا وهو أنه كلما ازداد العلم كان الحكم أصح ففي حياتنا الدنيوية نجد كثيرين ليسوا مرشحين لإصدار أحكام في كثير من القضايا لعدم إحاطتهم بها، ومن ثم فإن أحكامهم تبقى قاصرة وهذا يجعلنا- وخاصة في أمر بناء الأمم واعتماد ما ينبغي اعتماده في شئون الحكم والعامة والخاصة- نتأنى كثيرا فلا نصدر حكما إلا بعد استيعاب شامل للقضية التي بين أيدينا. (ج) يلاحظ أن الملائكة عند ما سئلوا عما لا يعلمون كان جوابهم سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا وهذا أدب رفيع أن يقول المسئول عن شئ لا يدريه: لا أدري. قال القرطبي: وذكر الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال: في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري» وهو أدب نفيس. فقد اعتاد
الكثيرون أن يهجموا على الحديث في كل شئ دون أن يكون عندهم علم فيه، وإنما هي الظنون أو الأوهام. (د) يلاحظ من قصة آدم أن استعداد الإنسان للعلم هو سر استخلافه وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها .. وفي عصرنا تبينت لنا آفاق هذا السر كثيرا حيث نرى ما استطاع الإنسان أن يكتشفه من أسرار هذا الكون، ولكن للأسف فإن الإنسان سخر هذا من أجل التدبير لسفك الدماء وإفساد الأرض، وكل ذلك بسبب غياب المسلمين عن حكم هذا العالم بكلمة الله، ولكن أليس من المؤسف أن تكون حصة المسلمين منذ قرون في استكشاف هذا الكون ومعرفة أسراره أقل من غيرهم!؟ وكان هذا من عوامل سيطرة الكافرين، إن على المسلمين أن يعودوا رجال قمة في كل اختصاص كوني. (هـ) يلاحظ من خلال قصة آدم أن الله عزّ وجل أبرز للملائكة مزية آدم ثم أمرهم بالسجود، وكانت المزية هي العلم، وهذا درس كبير في موضوع اختيار القيادات، وهو شئ كنا نراه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يري المزية ثم يؤمر كما فعل مع الوفد الذين أمر عليهم رجلا من أحدثهم سنا وليس من أشرفهم لأنه يحفظ سورة البقرة، إن أهم قضية ينبغي أن تلاحظ في التقديم والتأخير هي العلم في القضية التي من أجلها يكون التقديم والتأخير، وبمناسبة قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها يقول النسفي: أفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي (أي التفرغ) للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟! (و) وفي قصة آدم من العبر الكثير، فمن فهمها وأخذ عبرها استقام أمره، ولذلك أمرنا الله أن نتذكرها فهي قصة البداية التي ينسحب أثرها على الزمان كله، وهي قصة الفطرة، ومن عبرها امتحان الإنسان بالشيطان وامتحان الناس بعضهم ببعض، وهذا يقتضي من الإنسان العاقل أن يحذر لينجح في الامتحان، ولا نجاح إلا بملازمة الأمر ومجانبة النهي، ومن عبرها أن الله عزّ وجل عرف الإنسان فيها على طريق الخلاص من الذنب إذا وقع فيه وذلك بالتوبة. قال ابن عباس ذاكرا ما تم بين آدم وربه بعد الخطيئة قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم». ومن عبرها أن الكبر بداية الخطأ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» ثم عرف الكبر بأنه «غمط الناس وبطر الحق». ومن
وقال الشاعر
عبرها أن امتحان الله رفيق فقد أعطى آدم الجنة ومنعه القليل، وأباح لنا الكثير النافع، ومنعنا القليل الضار، أباح لنا الطعام وحرم علينا لحم الخنزير والميتة والدم، أباح لنا الشراب وحرم علينا الخمر، فالعاقل من وقف عند الحدود. ومن عبرها أن الشهوات الحسية والمعنوية باب الخطيئة، فإن حرص آدم على الخلود وطاعته لشهوة الطعام كانا سبب الخطيئة، وهذا دأب الإنسان في كل العصور، فهو إما مغلوب بشهوة العز والمجد والرئاسة، وإما مغلوب بشهوة الفرج والبطن، فيسلك في هذا أو ذاك غير طريق الله إلا القليل. نسأل الله أن يجعلنا من أهله وأن يحفظنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. قال فتح الموصلي «كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها». وقال الشاعر: يا ناظرا يرنو بعيني راقد … ومشاهدا للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي … درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربك حين أخرج آدما … منها إلى الدنيا بذنب واحد؟ وقال الرازي: «إن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على على وجل شديد من المعاصي». ويقول صاحب الظلال: «لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه، كانت تدريبا له على تلقي الغواية وتذوق العاقبة وتجرع الندامة ومعرفة العدو والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين، إن قصة الشجرة المحرمة ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة والندم وطلب المغفرة إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة، لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا». (ز) ومن دروس قصة آدم «أن الخطيئة فردية والتوبة فردية في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض، ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده- كما تقوله نظرية الكنيسة- وليس هنالك تكفير لاهوتي كالذي تقول به الكنيسة: إن عيسى عليه السلام (ابن الله بزعمهم) قام بصلبه تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم، كلا،
4 - فصول شتى
خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة، وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة، تصور مريح صريح يحمل كل إنسان وزره، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط» عن الظلال. 4 - فصول شتى: فصل في الإسرائيليات: فيما يتعلق بقصة آدم هناك ثلاثة تأثرات تأثر بها بعض الإسلاميين خلال العصور من الإرث الإسرائيلي، فأدخلوها في كتبهم، سواء كانت هذه الكتب كتب تفسير أو كتب تاريخ. 1 - أن الجنة التي أهبط منها آدم كانت جنة أرضية. 2 - أن الحية هي التى كانت الواسطة في إدخال إبليس ليوسوس لآدم. 3 - تاريخ الحياة البشرية وقدر الزمن ما بين آدم وبيننا. وهذا يقتضي منا أن نقف وقفة عند الإسرائيليات بشكل عام: في تحقيق كتبه موريس بوكاي الفرنسي كجزء من دراسة خرجت تحت عنوان: «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» يذكر كيف أن بحاثة القرن الثامن عشر لاحظوا أن بعض نصوص سفر التكوين- وهو السفر الأول فيما يسمي الآن بالتوراة- تذكر اسم يهوه، وبعضها تسميه بألوهيم، فاستدلوا بذلك على أن سفر التكوين يحتوي نصين جنبا إلى جنب قد أدمج أحدهما بالآخر، ثم إن إيخهورن لاحظ نفس الملاحظة بالنسبة للأسفار الأربعة الأخرى، وأن إيخهورن لم يكتف بذلك بل لاحظ أن أحد المصادر ينقسم إلى قسمين أيضا. ثم يقول موريس بوكاي: أما بحاثة القرن التاسع عشر فقد كرسوا جهدهم في البحث عن مصادر أكثر دقة وفي (1854) كانت هناك أربعة مصادر مقبولة وتسمى بالأسماء التالية: الوثيقة اليهوية، والوثيقة الألوهيمية وسفر التثنية، والنص الكهنوتي، وقد أفلح الباحثون في إعطائها أعمارا: 1 - تقع الوثيقة اليهوية في القرن التاسع قبل الميلاد وقد حررت في مملكة الجنوب. 2 - أما الوثيقة الألوهيمية فهي أقرب تاريخيا وقد حررت بإسرائيل.
3 - وأما سفر التثنية فينتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد في رأي أدموند جاكوب. وهناك بحاثة آخرون مثل الأب ديفويرون أنه ينتمي إلى عصر جوزياس (أي القرن السابع قبل الميلاد). 4 - وأما النص الكهنوتي فينتمي إلى عصر النفي أو ما بعد النفي أي القرن السادس قبل الميلاد. بهذا إذن يمتد تحرير نص أسفار موسى الخمسة على ثلاثة قرون بأقل تقدير، ولكن المشكلة أكثر تعقدا من هذا ففي (1941) استطاع أ. لودز أن يميز في الوثيقة اليهوية ثلاثة مصادر وفي الوثيقة الألوهيمية أربعة، وفي سفر التثنية ستة، وفي النص الكهنوتي تسعة». وبعد كلام يقول موريس بوكاي: «وبهذا يتضح تكون كتاب أسفار موسى الخمسة من أقوال موروثة مختلفة جمعها- بشكل يقل أو يزيد حذقا- محررون وضعوا تارة ما جمعوا جنبا إلى جنب، وطورا غيروا من شكل هذه الروايات بهدف إيجاد وحدة مركبة تاركين للعين أمورا غير معقولة، وأخرى متنافرة كان من شأنها أن قادت المحدثين إلى البحث الموضوعي عن المصادر». والملاحظ أن الرواية الكهنوتية التي كتبت حوالي القرن السادس قبل الميلاد، هي التي فيها تفصيلات عن ذكر بداية الخلق، وعن ذكر تاريخ البشرية، وفيها فكرة أن الله تعب أثناء خلق العالم فاستراح، وهي قضايا يسهل على الباحث إما ردها مباشرة أو ردها من خلال أدنى عرض لمعارف الإنسان الحديثة. وقد قام موريس بوكاي في كتابه بامتحان قضيتين مما ذكر في هذه الأسفار، وهما قضية خلق العالم وقضية عمر الإنسان على ضوء المعارف الحديثة فلاحظ أن عمر العالم بالنسبة لسفر التكوين كان عام (1975) ميلادية هو (5736) سنة قمرية بينما التقدير العلمي لتشكل النظام الشمسي هو أربع مليارات ونصف من السنين. كما لاحظ أن تسلسل ظهور الأشياء لا يتفق مع أي دراسة علمية لظهورها على أرض الواقع. وتاريخ الإنسان كما يذكره سفر التكوين هو نفس الشئ بالنسبة لتاريخ خلق العالم فهو لا يعدو ستة آلاف سنة قمرية بينما نجد المعطيات العلمية تقول: «يمكن أن نؤكد اليوم وجود أطلال لإنسانية مفكرة وعاملة ويحسب قدمها بوحدات تتكون من عشرات من ألوف السنين».
فصل في الشيطان
ويقول موريس بوكاي: «هناك إذن استحالة اتفاق واضحة بين ما يمكن استنتاجه من المعطيات الحسابية لسفر التكوين الخاصة بظهور الإنسان على الأرض، وبين أكثر المعارف تأسسا في عصرنا». أقول: وقد مر معنا في مقدمة هذا التفسير كيف أن الدراسات الأثرية في ما بين الرافدين، أثبتت أن إحدى الأسر التي حكمت بعض المناطق بعد الطوفان حكمت أربعا وعشرين ألفا من السنين. وأن كل هذه المعاني تجعلنا حذرين من أن نحمل الإسلام معاني، هي جزء من الإرث الكتابي السابق. إن موريس بوكاي في دراسته التي أشرنا إليها قال الكثير في نقد العهد القديم والجديد، ولكنه بعد ذلك أكد كثيرا أنه لم يحدث قط أن النص القرآني عارضه أي اكتشاف علمي أو مقولة علمية. إن علينا أن نكون دقيقين جدا، ونحن ننقل عن أهل الكتاب، أو نقرأ لهم حتى لا نحمل إسلامنا ما لا يحتمله. إذا اتضح هذا، فإنه بالنسبة لقصة آدم فنحن لا نقبل الرواية الإسرائيلية في خلق الكون أو في عمر الإنسان، لأن ذلك يتنافى مع دراسات علمية صحيحة وقد رفض أهل السنة والجماعة فكرة أن الجنة التي هبط منها آدم أرضية، ولم يذهب إلى ذلك ابتداء إلا بعض المعتزلة، وبالنسبة لموضوع توسل إبليس بالحية للدخول إلى الجنة بعد أن طرد منها من أجل أن يوسوس لآدم، فهذا موضوع لا نطالب بالإيمان به، ولا علينا أن نكفر به ولكن حتى في مثل هذه المواضيع فإن ما يرافق عرض أصلها من تعبيرات وحكايات، يرافقه الكثير من الخطأ وتفوته دقة الأداء النبوي بحيث يعطي صورة مشوهة عن الوحي، وهذا وحده شئ خطير. فصل في الشيطان: كتب عن الشيطان ملايين الصفحات خلال العصور، وممن عرض لنظرات الأمم والشعوب في هذا الموضوع (عباس محمود العقاد) في كتابه (إبليس). وهو في الكتاب يجلو الصورة المشرقة لهذا الدين في هذا الشأن، شأن الإسلام في كل شئ، إلا أن لنا ملاحظة على كل هذا النوع من الدراسات التي تسمى دراسات مقارنة، إذ في كثير من الأحيان يخرج الإنسان من مثل هذه الدراسات بانطباع: أن الإسلام هو وجهة
نظر بين وجهات نظر أخرى، وتأثير ذلك على تصورات المسلم وعلى قضية الإيمان سيئ جدا. إن النص القرآني الذي جعله الله- عزّ وجل- معجزا، لكي يأخذ الإنسان منه الحكم القطعي في كل شئ، وليكون ميزانا يزن به الخطأ والصواب، لا يصح أن يعرض العرض الذي يوحي وكأنه وجهة نظر رفيعة فقط، هذه ملاحظة ينبغي أن نضعها في حسابنا في أي دراسة مقارنة نفعلها، وأن نستقبل كذلك على ضوئها كل دراسة مقارنة. في قضية الشيطان كتب الكثير وذهبت البشرية في هذا الشأن مذاهب شتى، وكان للتصورات الخاطئة في هذا الشأن التأثيرات الكثيرة، إما على تفكير الناس أو على طرائق حياتهم، أو على نمو طاقاتهم، أو على تفجيرها، والإسلام لا يتحمل شيئا من ذلك، لأن الإسلام وضع هذا الموضوع في إطاره الحق والصحيح، شأن الإسلام في كل شئ. ولكن بلا شك فإنه قد حدث خطأ في بعض الحالات، وهو أن بعض الكاتبين خلال العصور ذكروا ما هب ودب في هذه الشئون، كما أن العلماء لم يتابعوا تصحيح الكثير من الأوهام المتضخمة في بعض البيئات حول قضايا الجن والشياطين، مع أن هذا الموضوع غيبي، وكل المواضيع الغيبية لا يصح أن يتلقى المسلم في شأنها إلا عن المعصوم، أو بشكل تقوم فيه حجة شرعية معتبرة. وقد حدث تفريط ما في هذه الشئون، ومن جملة التفريط تفريط له صلة بموضوع الجن والشياطين. وفي عصرنا حدثت حملات عنيفة على كل ما هو غيبي، واتهمت العقلية التي تؤمن بالغيب حتى ولو كان هذا الغيب هو (الله) جل جلاله، اتهمت هذه العقلية بأنها عقلية غير علمية، بل اتهمت بأنها عقلية غبية .. !! دون تفريق بين العقلية الإسلامية التي لا تؤمن بغيب إلا إذا قام عليه دليل العقل أو دليل الشرع المعصوم من الخطأ، وبين العقلية الغيبية الأخرى التي لا تستند في إيمانها الغيبي على دليل. ولم تكن هذه الحملة مستغربة من أصحابها الماديين الذين لا يؤمنون إلا بالحس، فذلك مرض العصور ولم تخل البشرية من أصحابه منذ القديم، ولكن الغريب أن يتجاوب مع هذه الحملة بعض من تصدروا لتوجيه المسلمين، فحاولوا أن يؤولوا النصوص لصالح المادية، ومن جملة ذلك النصوص التي لها صلة بالجن والشياطين فقالوا: بأن الشيطان رمز على الشر وعلى نوازع الشر عند الإنسان، وإذن فهو ليس ذاتا ذات صفات.
فصل في رفض الداروينية كتعليل لنشأة البشر
ترى إذا كانت النصوص الواردة في شأن الجن والشياطين تؤول كلها على أنها ليست من باب الحقائق وإنما هي رموز لمعان فأي حقيقة إذن لا تؤول؟ إنه الكفر بالنصوص وليس التأويل لها. إن الشيطان ذات من الذوات الغيبية نؤمن بوجودها، كما نؤمن بكل غيب أخبرتنا عنه النصوص، وموقفنا منه هو الموقف الذي أمرتنا به النصوص، والقلب المؤمن الحي يميز بين نوعين من الإلقاءات يحسها في قلبه: إلقاء نفسه وهواجسها، وإلقاء الشيطان ووساوسه. إن المسلم الذي يعلم أن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعلم أن ما حدثه عنه القرآن هو الحق، ويحاول دائما أن يبحث عن الفهم الصحيح لكتاب الله ولذلك قواعده التي لا تخطئ. ولقد حاول بعض الكتاب في عصرنا أن يعطي الشيطان صفة البطولة في مواقفه النضالية ضد آدم، وفي الاعتراض على الله، وذلك من باب قوله تعالى في سورة الأنعام: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. وحاول بعضهم أن يشكك من خلال: أن موقف إبليس كان بإرادة الله، وذلك من باب التشويش لأن كون الأشياء كلها بإرادة الله لا ينفي اختيار المكلف، ولقد كان إبليس مختارا في موقفه فاستحق العقوبة، وموضوع اختيار المكلفين، وأن ذلك وغيره بإرادة الله، موضوع سيمر بنا فلا نقف عنده هنا، إذ إن خطتنا في هذا التفسير ألا نقف عند كل مقام إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام، وموضوع الجن والشياطين سيمر معنا كثيرا فلنقتصر على هذا القدر فيه. فصل في رفض الداروينية كتعليل لنشأة البشر: إن نظرية داروين أصبحت منقوضة بأكثر من علم، إن دراسة السائل المغذي للكائن الحي ليست لصالح نظرية داروين، وإن حسابا رياضيا لتعميم الأجناس على ضوء نظرية داروين ليس لصالحها، وإن نظام الوراثة وخصائصها وقوانينها ليس لصالح هذه النظرية، وإن دراسة المستحاثات ليست لصالح هذه النظرية، فالنظرية أصبحت منقوضة من جوانب شتى، وحتى لو لم تكن منقوضة فإن قصارى ما يمكن أن تقدمه مجموعة ملاحظات، وليس شرطا أن يكون لهذه الملاحظات تعليل وحيد.
إن الذين يفرون من الإيمان بالله ومن أنه هو الخالق، يفرون إلى نظرية داروين، ولكن إن استطاعوا أن يوجدوا نظرية تغنيهم في زعمهم عن أن الله هو خالق الحياة، فقوانين الكون تدل على أن الله هو خالق الكون كله، وبالتالي فلا ينفعهم الفرار من خلال نظرية داروين عن أن الله هو الخالق. إن الله عزّ وجل في القرآن يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فهذا أمر من الله عزّ وجل لنا في أن ندرس خلق الكون وخلق الحياة ومن ثم فنحن المسلمين مطالبون بالدراسة المستطاعة، وما توصلنا إليه الدراسة عن خلق الكون أو الحياة فنحن لا نتحرج منه بل نفهم على ضوئه النصوص إن كان من باب الحقائق العلمية. والله عزّ وجل في آية أخرى في نفس السورة (سورة العنكبوت) يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فإن نرى خلقا ثم خلقا، فذلك دليل على قدرة الله، أما أن يفهم فاهم أن ذلك دليل على استغناء الأشياء عن الله، فذلك هو العمى الكامل في البصيرة. لقد رأى الإنسان في عملية البحث عن مسيرة الحياة هياكل لمخلوقات تشبه إنساننا الحالي، ووجودها أقدم من وجود إنساننا الحالي، فهل هذا وحده كاف للقول بأن إنساننا الحالي قد تطور عن تلك؟ يقول الله عزّ وجل: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ. سورة الكهف. إن الله- عزّ وجل- في كتابه المعجز الذي خلق الإنسان يقول لنا: أنتم من ذرية آدم يا بَنِي آدَمَ.* ويقول لنا: إن آدم: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أبعد هذا الوضوح وضوح في أصل نشأة آدم. أما إذا كان لا بد من تعليل لوجود هذه الهياكل الشبيهة بالإنسان فهذه مجموعة تعليلات: في قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أكثر من اتجاه في التفسير: الاتجاه الأقوى أنه خليفة عن الله، ولكن هناك اتجاهات أخرى، فهناك من يقول بأنه خليفة عن خلق آخرين هم الجن. ذكر ابن كثير عن ابن جرير عن ابن عباس قال: «إن أول من سكن الأرض الجن
فصل في السجود لآدم وبعض دروسه
فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال». وهناك اتجاه نقله صاحب السيرة الحلبية عن بعض الصوفية أن أبانا آدم عليه السلام ليس هو أول آدم على الأرض بل خلق بشر، ثم أفناهم الله ثم خلق بشر، ثم أفناهم الله وهكذا مرات ومرات ثم خلق الله عزّ وجل أبانا آدم، وعلى ذريته تقوم القيامة. فعلى هذا الاتجاه فنحن نخلف بشرا آخرين، وقد يستأنس لذلك بقوله الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ على رأي من قال بأنهم قالوا ذلك لتجربة سابقة يعرفونها. في الحديث الصحيح «إن الله خلق آدم على صورته» وبعض الشراح قالوا في تفسير هذا الحديث: أي على صورة الإنسان المضروب الذي بسببه قيل الحديث، وعلى هذا الاتجاه فحتما إن آدم وذريته لهم سمت خاص بهم، مع ملاحظة أن هناك نصوصا تذكر: أنه عند ما خلق آدم في الجنة كان طويلا جدا وعلى هذا، فالصورة واحدة، والضخامة مختلفة، وقد ذكر الدكتور حسن زينو المختص بالجيولوجيا في كتابه «التطور والإنسان» كيف أنه عثر على جثة ما يسمى بالإنسان العملاق، وكيف أن بعض الهياكل التي عثر عليها كان ضرس الواحد منهم يعدل ستة أضعاف ضرس إنساننا الحالي، فهو إذن يعدل ستة أضعاف إنساننا الحالي. إن هذا الاكتشاف وحده يقلب كل التعليلات المادية رأسا على عقب. إن آدم خلق خلقا مباشرا بقدرة الله، أما وجود أنواع من المخلوقات تشبه إنساننا الحالي فلا يعني هذا أن ذلك قد تحدر عنه آدم، وإنما المسألة على الشكل التالي إما أن نعتبر تلك الهياكل هياكل بشر، خلقوا قبلنا ثم انتهوا، وإما أن نعتبرها هياكل لمخلوقات غير بشرية مندثرة. أما النصوص فقطعية في أن آدم خلق مباشرة بيد الله، وأما العلم فإنه يرفض رفضا قاطعا نظرية داروين، ولتراجع ظاهرة الحياة في كتابنا «الله جل جلاله» ثم إن علينا أن نذكر نقطة مهمة جدا وهي أن نصوص الكتاب والسنة لا تحدد تاريخا لوجود آدم عليه الصلاة والسلام. فصل في السجود لآدم وبعض دروسه: - بمناسبة ذكر أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، بحث بعض المفسرين هل الملائكة أفضل من البشر أو العكس؟ ولا خلاف بينهم أن الملائكة أفضل من فساق أهل
فصل في منصب الخلافة وضرورة إحيائه
الإيمان، فضلا عن الكافرين، فالخلاف فيما سوى ذلك، والذي استقر عليه بعضهم أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة، ورسل الملائكة أفضل من أولياء المسلمين، وأولياء الأمة الإسلامية أفضل من عامة الملائكة بعد الرسل. - وبمناسبة ذكر السجود لآدم نحب أن نذكر بأن المسلم يسجد لجهة القبلة وهذه فريضة عليه، ولكنه لو سجد لصنم فإنه يكفر، ومن هنا نعلم أن قضية الكفر والإيمان قضية لها ضوابطها ولها أحكامها، والفتوى الصحيحة المبصرة من أهلها، هي التي تعطينا الجواب على كثير من الأمور التي تحتمل كفرا أو إيمانا. وقد اختلط الأمر في عصرنا كثيرا حتى أصبحت المعلومات من الدين بالضرورة، محل نسيان أو جهل، وهذا يقتضي من العلماء بيانا، والعلماء مختلفون هل يكفر الإنسان وهو على الأرض الإسلامية، إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة، قبل البيان أو بعده؟ هناك اتجاهان للعلماء في ذلك، ولكثرة الجهل في عصرنا، ولكثرة التضليل، فإننا نرجح الكفر إذا أصر المنكر بعد البيان، على أن الأمر يحتاج إلى دقة فقهية ومعرفة صحيحة بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة. فصل في منصب الخلافة وضرورة إحيائه: بمناسبة قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تحدث القرطبي في تفسيره عن منصب الخلافة في صفحات طويلة مفيدة، فليراجع كلامه، وننقل هنا نبذا من كلامه ثم نعلق تعليقا موجزا على هذا الموضوع: يقول القرطبي: - «هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم «حيث كان عن الشريعة أصم». - في شرائط الإمام وهي أحد عشر: الأول: أن يكون من صميم قريش ... وقد اختلف في هذا. الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث وهذا متفق عليه.
فصل في تصحيح أخطاء
الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور، وحماية البيضة (أي بيضة الإسلام أي عزه وجماعته) وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم. الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولا فزع في ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار. الخامس: أن يكون حرا ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس. السابع: أن يكون ذكرا سليم الأعضاء وهو الثامن، وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه. التاسع والعاشر: أن يكون بالغا عاقلا ولا خلاف في ذلك. الحادي عشر: أن يكون عدلا لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق». - «يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة» - «الإمام إذا نصب ثم فسق بعد إبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم .. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شئ من الشريعة». «ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة» «ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شئ له أن يعزل نفسه، كذلك الإمام يجب أن يكون مثله». أقول: إن الناس في أمر إقامة فريضة الخلافة مقصرون، وهم بذلك آثمون، ولا شك أن الأمر في عصرنا معقد ولكن علينا أن نسير في الطريق المؤدي لإقامة الخلافة فمن سار في الطريق رفع الإثم عن نفسه، وفي سلسلتنا في البناء: مباحث لها علاقة بمثل هذا فلتراجع. فصل في تصحيح أخطاء: - كثيرا ما يحدث أن يرى بعض المتتبعين للحفريات ظاهرة ما، هي في الأصل حالة شاذة، فيعتبروها أصلا يقيسون عليه، وكثيرا ما يحدث أن بعض الكاتبين ينطلقون بانين على فكرة ما، هي خاطئة في الأصل، فيضعون النظرية، والنظرية كلها
5 - كلمة أخيرة في المقطع وسياقه
مبنية على أصل فاسد، نجد تطبيقات هذه المعاني في أكثر ما كتبه الكاتبون عن نشأة الإنسان وتاريخه القديم، وعن نشأة اللغات. وقصة آدم تصحح لنا هذه المفاهيم كلها. فقد عرفنا من خلال الآيات كيف أن إنساننا الحالي كان يعلم، وكان يتكلم من بداية خلقه، فما يقوله بعضهم من كون الإنسان لم يضل إلى لغة الخطاب إلا متأخرا فخطأ، وما يقوله بعضهم: عن فوضى جنسية في الابتداء فخطأ، وما يقوله بعضهم: عن جهل مطبق في التعامل مع الأشياء فخطأ، قد تكون هناك مراحل لاحقة أو ظواهر شاذة، لكن آدم عليه السلام، نزل إلى الأرض، وهو مزود باللازم الأول للاستخلاف: العلم والبيان. - ختمت قصة آدم في القاعدة الكلية فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. هؤلاء أهل النار الذين هم أهلها ولكن قد يدخل النار عصاة المؤمنين، فهؤلاء لهم وضع خاص. أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة». - يهول بعض الناس عند ما يعلم أن أكثرية البشرية إلى النار، ولا يهوله أن تكفر أكثرية البشرية بالله وتحاربه وتحارب أولياءه وشريعته، إن الله يخلق الشجرة العظيمة ذات الثمر الكثير الطيب، الشجرة كلها للنار في المآل وفي الثمر الخير، إن شجرة البشرية خيرها في ثمارها، وثمارها أهل الإيمان فلا ينبغي أن يغتر أحد بكثرة المفسدين، وكثرة سفاكي الدماء ظلما، وعليه أن يحقق حكمة الله في خلقه بالقيام بعبادته وشكره وذكره واتباع هداه باتباع كتابه. 5 - كلمة أخيرة في المقطع وسياقه: لعل القارئ من خلال ما مر قد ارتبطت لديه قصة آدم بالآيات التي قبلها. وأدرك سر طلب الله منا أن نتذكرها بعد ما عرفنا على أصناف الناس، وبعد ما عرفنا على الطريق إليه، فجاءت قصة آدم بعد ذلك لتقول: إنكم إن كنتم من المتقين المهتدين
بكتابي، فإنكم تكونون منسجمين مع القاعدة الكلية التي وضعتها لكم: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وإن لم تكونوا كذلك تكونوا قد وقعتم فيما تهددكم الله به: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، ومع أننا قلنا ما فيه الكفاية في تبيان الصلة بين قصة آدم وما قبلها فإننا نؤثر أن نزيد الأمر وضوحا بذكر بعض الملاحظات: 1 - جاءنا في المقطع الأول أمر ونهي، وجاءت قصة آدم لتبين لنا عاقبة الأمر والنهي، وتدلنا على الطريق الذي ينبغي أن نسلكه إذا واقعنا المعصية. 2 - عرفنا في المقطع الأول أن سر الضلال هو نقض العهود، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض، وعلمتنا قصة آدم أن الإفساد في الأرض يتنافى مع حكمة خلقنا، كما عرفتنا أن الأسباب الأولى للضلال تكمن في الكبر والحسد والشهوة والحرص. 3 - عرفنا في المقطع الأول أن الأرض قد خلقت لنا، وعرفنا في المقطع الثاني بعض أسرار استخلافنا في الأرض. 4 - وفي تذكير الله عزّ وجل إيانا بكمال النعمة علينا، إذ خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض بإعطائنا كمال الاستعداد للتعلم الذي نستطيع به أن نقوم بمقتضيات الخلافة، تهييج لنا على الطاعة فيما سبق ذكره وإبعاد لنا عن المعاصي التي سبق ذكرها. 5 - وإذا كانت مقدمة سورة البقرة قد ذكرت متقين وكافرين. فقصة آدم عمقت لدينا قضية التقوى، وأفهمتنا قضية الكفر. 6 - وكان ذلك كله تعميقا لقضية السير في الصراط المستقيم وتنكب صراط المغضوب عليهم والضالين. وصلات ذلك كله بما مر من قبل لا تخفى. فلننتقل إلى المقطع الثالث من مقاطع القسم الأول من أقسام سورة البقرة.
المقطع الثالث من القسم الأول من أقسام سورة البقرة
المقطع الثالث من القسم الأول من أقسام سورة البقرة: يمتد هذا المقطع من الآية (40) إلى نهاية الآية (123) يبدأ بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وينتهي بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. يأتي هذا المقطع بعد قصة آدم التي انتهت بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فكأن المقطع الجديد بعد هذه الخاتمة يقص علينا- كنموذج- قصة أمة أنزل عليها هدى وكيف كان موقفها من هذا الهدى، وما هي الدروس التي ينبغي أن تأخذها أمتنا من ذلك. إن هناك أمة قبلنا قد أنزل عليها هدى، وبعث فيها رسل، وكان مما أنزل عليها كتاب سماوي ثم كتاب آخر، فهي على علم من الله، وقد أخذ عليها عهودا وهي تعرف عن موضوع العهود والهدى والرسل ما لا يعرفه غيرها. فالمفروض أن تستجيب هذه الأمة لهدى الله الأخير ولكتابه الأخير. ولرسوله الخاتم، خاصة وعندهم علم في كتبهم عنه، ولهذا يتوجه الخطاب في السورة إليهم بعد أن خوطب الناس جميعا. وإذ كانوا أهل الكتاب الأول- وللناس ثقة بعلمهم، وقد يكون موقفهم المتعنت المتكبر من الهدى الجديد سببا في توقف بعض الناس- فقد اقتضى ذلك الكلام عن أخلاقهم ومواقفهم من رسلهم ومن الهدى الذي أنزل عليهم- لكيلا تستغرب مواقفهم المتعنتة الجديدة. وإذ كان الهدى الجديد فيه معنى انتزاع الإمامة والقدوة من أمة، إلى أمة فإن على
مدخل إلى المقطع
الأمة الجديدة أن تعرف ذلك فتخرج عن أي تبعية لغيرها في غير الحق. وإذا كانت تلك الأمة لم تقم بحق الهدى الذي أنزل إليها حق القيام، فإن هذا يسجل كدروس لكيلا تقع هذه الأمة فيما وقع فيه غيرها. وإذ كانت تلك الأمة سيكون لها مناقشات ومواقف من أمتنا فإن ذلك يقتضي أن توجه هذه الأمة لتعرف ما ينبغي فعله وقوله في مواجهة هذه المناقشات والمواقف. ومن خلال ذلك كله يتضح الصراط المستقيم الذي ينبغي أن نسير فيه، ويتضح صراط المغضوب عليهم والضالين لنتنكب السير فيه. هذا كله بعض ما في هذا المقطع، ولكن العرض كان فيه من صور الإعجاز ما يذهل: لقد دعا المقطع الأول في هذا القسم: الناس جميعا للسير في طريق التقوى بسلوك طريق العبادة والتوحيد، ولكن إذا كان كل الناس تكفيهم توجيهات سريعة للوصول إلى حقيقة التقوى، فإن أهل الكتاب الأول قد تعقدت أنفسهم، فلا يكفيهم إلا أن يلاحظوا مجموعة توجيهات ليستطيعوا الانسجام والتفاعل والتسليم مع هذا الدين ولهذا الدين، ومن ثم جاء المقطع متوجها بمجموعة أوامر ونواه لبني إسرائيل، ثم أعقبه ما هو بمثابة التعليل لأسباب المطالبة بهذه الأوامر والنواهي، وقد أعطيت هذه الأمة خلال ذلك كل الدروس اللازمة لإيجاد المناعة عندها؛ إن في عدم الوقوع في ما وقع فيه هؤلاء، أو في التحذير من تأثيراتهم السيئة. وخلال ذلك تتعمق كل المعاني التي مرت من قبل. وهكذا نجد أن المقطع في محله من السورة يحقق مقاصد شتى، وإذ كان كل كلام عنه قبل عرضه أقل مما ينبغي فلنبدأ العرض: يتألف المقطع من مدخل وفصلين، وكل فصل يتألف من فقرات ولطول المقطع فإننا سنعرض أجزاءه جزءا فجزءا. مدخل إلى المقطع: يمتد مدخل المقطع من الآية (40) إلى نهاية الآية (46) وهذا هو: [سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 46] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
التفسير
التفسير: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إسرائيل هو: يعقوب عليه السلام وذلك لقب له، وذكر النعمة القيام بشكرها، وطاعة الله مانحها، والنعمة التي أمروا بذكرها هي: ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون وتفجير الحجر وإرسال الرسل، وإنزال الكتب وغير ذلك مما سنراه. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الوفاء بالعهد أداؤه تاما، وعهد الله عليهم هو: ما أخذه عليهم مما قص الله علينا في القرآن، والذي في جملته أن يتابعوا رسله وأن ينصروهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم من الرسل، وقد بشرت به التوراة فعليهم أن يؤمنوا ويتابعوا وينصروا، فإن فعلوا أعطاهم الله عزّ وجل ما وعدهم به من تكفير السيئات ودخول الجنات. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي فاخشون ولا تخشوا أحدا سواي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن قبلكم من آبائكم من النقمات، ولعذاب الآخرة أكبر .. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. يعني به القرآن الذي أنزل علي محمد صلى الله عليه وسلم مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل في أصليهما السماويين قبل التحريف والتبديل. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال ابن عباس: (أي) «ولا تكونوا أول كافر به وعندكم من العلم ما ليس عند غيركم»، وهذا تعريض: بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، والضمير في (به) يعود إلى القرآن وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، فالثمن
[سورة البقرة (2): آية 42]
القليل هو الدنيا بحذافيرها، فإنها قليلة بجنب رضوان الله، ومن الدنيا الرئاسة والمال والجاه. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أي فخافون الخوف الذي يوصلكم إلى فعل الأمر، وترك النهي. قال طلق بن حبيب: «التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله». وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لبس الحق بالباطل: خلطه، وكتمان الحق: عدم إظهاره، نهاهم عن الشيئين معا: ألا يلبسوا الحق بالباطل فيموهوه به، وألا يكتموا الحق في حال علمهم أنهم لابسون وكاتمون، لأن ذلك أقبح إذ ربما عذر مرتكب القبيح إذا كان جاهلا قال قتادة: (أي) «لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله هو الإسلام». وقال ابن عباس: «لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم» أقول: وكلام قتادة وابن عباس مما يدخل في النهي، والنهي أعم. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرهم أن يصلوا صلاة المسلمين، وأن يدفعوا زكاة أموالهم كما يفعل المسلمون، وأن تكون صلاتهم مع المسلمين ليكونوا معهم ومنهم. وقد استدل كثير من العلماء بقوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ على وجوب صلاة الجماعة. أمرهم فيما مر أن يذكروا نعمته، وأن يوفوا بعهده، وأن يرهبوه، وأن يكونوا أول المؤمنين بالإسلام، وألا يعتاضوا عن الإسلام بالدنيا، وأن يتقوا الله، وألا يخلطوا الحق بالباطل، وألا يكتموا الحق مع علمهم به، وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة، وأن يصلوا مع المسلمين في جماعاتهم، فإن فعلوا هذا كانوا أبرارا على الحقيقة وهم يزعمون أنهم دعاة إلى البر وليس البر إلا هذا، فالبر إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبر صلاة وزكاة ووفاء بالعهد ... كما سنرى في آية البر، ومن ثم فإن الله عزّ وجل بعد هذه الأوامر والنواهي خاطبهم موبخا ومعجبا من حالهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه والالتزام بكتابه وهداه والوفاء بعهوده، وهذا القرآن هو كتابه ومحمد رسوله صلى الله عليه وسلم فلو كانوا صادقين في الدعوة إلى الله لآمنوا بما أنزل وبمن أنزل عليه والتزموا. ولكنهم كاذبون في دعواهم ودعوتهم ولذلك فإنهم بعيدون عن البر لأن الصادق في الدعوة يوجه الدعوة إلى نفسه أولا، وهؤلاء يوجهون الدعوة إلى
غيرهم وينسون أنفسهم مع أنهم يتلون الكتاب الذي: هو التوراة هنا، وهي تأمرهم بالبر الحقيقي وتعظهم. فصار معنى الآية: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب- وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون به الناس، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعرفون ما فيه على من قصر في أوامر الله. أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه؟ أفلا تفطنون إلى ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتبصروا من عمايتكم؟ ألا عقول لكم توصلكم إلى هذا؟!! وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف واجب على العالم، ولكن الواجب الأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر، فالصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه مع إثمه بالتفريط وقصوره ونقصانه، فالآية إذن تلوم على الجانب الثاني ولا تنكر فعل الأول، ومن ثم قال سعيد بن جبير: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر» قال مالك: (وصدق من ذا الذي ليس فيه شئ؟) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث والآثار في الوعيد على ذلك: أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار، فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» هذه رواية أحمد. وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء». وقد ورد في بعض الآثار: فإنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم. وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال: قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟».
[سورة البقرة (2): آية 45]
وبعد أن امرهم الله عزّ وجل ونهاهم ووبخهم دلهم على شئ إن يفعلوه سهل عليهم تنفيذ كل ما سبق قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ على حوائجكم إلى الله، وعلى البلايا والنوائب، وعلى القيام بأمر الله كله، وعلى ما يترتب من القيام بالأوامر السابقة من وفاء بالعهود والجهر بالحق والأمر بالبر والالتزام به، وعلى إقامة ذلك أصلا استعينوا على ذلك كله بالجمع بين الصبر والصلاة. وفسر الصبر هنا بالصوم لقوله عليه السلام «الصوم نصف الصبر». ولتسمية شهر رمضان بشهر الصبر. وفسر الصبر بالاسترجاع لقول الله تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وفسرت الصلاة في الآية بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي للصلاة، وفسرت بالصلاة المعروفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وَإِنَّها أي الصلاة على القول الراجح أو الاستعانة لَكَبِيرَةٌ أي ثقيلة شاقة. إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخشوع هو: الإخبات لله والتطامن، أو هو الخوف والتواضع والخضوع الذي هو اللين والانقياد وقد عرفنا الله عزّ وجل من هو الخاشع بقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. والظن هنا: اليقين، ولقاء الله: فسر بلقاء جزائه، وفسر برؤيته ومعاينته بلا كيف، وفسر الرجوع: بالعود إليه في الآخرة، وفسر بعود الأمور كلها إلى مشيئته وحكمه. فالخاشع: هو من أيقن بلقاء الجزاء في الآخرة فهذا يعمل على حسب ذلك، وأما من لم يوقن بالجزاء، ولم يرج الثواب فإن التكليف عليه شاق، والصلاة التي هي أولى العبادات تكون عليه مشقة خالصة. قال ابن كثير: «والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم» أقول: إنه ما من آية في القرآن إلا وهي موجهة للمؤمنين بشكل من الأشكال لأنهم هم المستفيدون وحدهم من كتاب الله. وعلى هذا فما مر وما يمر لا بد أن نعرف فيه هذه القاعدة كي نأخذ حظنا من كل آية، فإذ يقص الله علينا شيئا حدث لبني إسرائيل فلكي نأخذ منه العبرة فنتجنب أو نستبشر أو نتعظ أو نعمل أو نتوقع أو نتعلم، وهكذا الشأن في كل آية.
كلمة في هذه الآيات وسياقها
وفي تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ قال ابن جرير: «العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظنا، والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر» وقد استشهد على ذلك ببعض الأبيات ليخلص إلى أن الظن في الآية معناه اليقين. وقال مجاهد: «كل ظن في القرآن يقين». وقال: «كل ظن في القرآن فهو علم». ونحن مطالبون بأنواع من الصبر: الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على الابتلاءات. وقد عرف سعيد بن جبير الصبر على المصيبة فقال: «الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب به فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر». والصلاة الكاملة: هي التي يراعي العبد فيها ما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية، ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض. أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى وفي رواية لغير أحمد: إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وقال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى». وقال علي رضي الله عنه: «لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح». وروى ابن جرير: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. كلمة في هذه الآيات وسياقها: - في هذا المدخل للمقطع الثالث: خمسة عشر أمرا ونهيا، أو ما له حكم الأمر أو النهي وهي بمجموعها العلاج الكامل للنفسية الكتابية حتى يصلح أمرها على مقتضى دين الله في صيغته النهائية والخاتمة؛ الإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فالكتابي لا ينصهر بهذا الدين إلا إذا لاحظ مجموع هذا وبقدر انصهاره بمجموع هذه الأوامر، فإنه يكون أكثر صدقا.
- يلاحظ أن هذه الأوامر والنواهي جاءت في سياق الخطاب لبني إسرائيل، ثم يلاحظ أن بقية المقطع كانت إما في تعليل صدور هذه الأوامر والنواهي، أو في دروس تعطى لهذه الأمة من خلال ذلك بما يعمق ضرورة الالتزام بهذه المعاني جميعا، ثم يلاحظ من خلال دراسة سورة البقرة، أن هذه الأوامر والنواهي أحد اثنين إما شئ قد طولبنا به من قبل، أو شئ سنطالب به فيما بعد: فمثلا في مقدمة سورة البقرة والمقطعين بعدها عرفنا قضية الإيمان والصلاة والزكاة وعدم نقض الميثاق، ووصل ما أمر الله به أن يوصل. وعدم الإفساد في الأرض وألا نبيع دين الله بشيء من الدنيا، وكل ذلك قد جاء بصيغة الأمر والنهي لبني إسرائيل هنا. وسنرى فيما يأتي في السورة أمرا لنا بالاستعانة بالصبر والصلاة، وتحذيرا لنا من كتمان شئ مما أنزل الله، وتعريفا لنا على البر، وكان ذلك مما صدرت فيه الأوامر والنواهي لبني إسرائيل، ومن ثم ندرك أن هذا المقطع الذي يتوجه فيه الخطاب لبني إسرائيل هو بمثابة التهييج لنا على تنفيذ ما سبق، وبمثابة التأسيس لما سنطالب به فيما يأتي من السورة. - كنا قلنا من قبل: إن المقطع الثالث يتألف: من مدخل وفصلين. المدخل وقد رأيناه، والفصل الأول ينتهي في الآية (74). وهو يتألف من فقرتين الفقرة الأولى: لها صلة بقوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ. والفقرة الثانية: لها صلة بقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. والفصل الثاني له صلة بقوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وهكذا نجد أن الفصلين اللاحقين للمدخل في هذا المقطع، إنما هما بمثابة تعليل لهذه الأوامر والنواهي التي صدرت لبني إسرائيل مع إعطاء الدروس للأمة الإسلامية خلال ذلك لتعرف أن لها الإمامة بحق، وأن عليها ألا تقع في خطأ السير في طريق المغضوب عليهم والضالين. ولعل القارئ بهذا وبما مر أدرك الصلة بين هذا المقطع وما قبله وما بعده، ولا زال في هذا الموضوع كلام فلننتقل إلى الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع.
الفصل الاول
[الفصل الاول] الفقرة الأولى من الفصل الأول: تمتد هذه الفقرة من الآية (47) إلى نهاية الآية (62) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 47 الى 62] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: تقص علينا هذه الفقرة نماذج من نعم الله على بني إسرائيل: من تفضيلهم على عالم زمانهم، ومن إنجائهم من فرعون، ومن إنزال التوراة عليهم، ومن قبول توبتهم من بعد ما عبدوا العجل، ومن إحيائهم بعد ما أماتهم عقوبة لهم، ومن تظليل الغمام على آبائهم وإنزال المن والسلوى، ومن فتح بعض البلدان عليهم، ومن سقيهم ماء بشكل معجز، ومن إباحة لما طلبوه مما اشتهته أنفسهم. ولكن هذا التذكير بالنعم يأتي في طيه تذكير بمواقفهم الخائنة مع وجود هذه النعم. بل تستقر الفقرة على ذكر العقوبات الكبرى من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب الله، إلا من كان منهم مؤمنا يعمل الصالحات، وذلك للإشعار بأنه لا أحد له دالة على الله إذا خالف. وذلك درس لنا أيتها الأمة وتوطئة لما سيأتي بعد من دروس أخرى؛ من خلالها يتعمق في نفوس هذه الأمة: أنه لا ينبغي أن يكون في قلوب أبنائها شعور بأي نوع من أنواع الأستاذية لليهود عليها فضلا عن غيرهم. نلحظ هذا من قوله تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. وكان جل جلاله في الفاتحة علمنا أن ندعوه: ... غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. لقد كان بعض الذين لهم احتكاك ببعض الأديان السابقة، يرون لأهل هذه الأديان ميزة يظهر ذلك من بعض التعبيرات التي وردت على ألسنة بعض الأنصار رضوان الله عليهم، ويظهر ذلك في أن قريشا في بعض الأحوال سألت بعض أهل الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك في أن خديجة نفسها رضي الله عنها استفسرت عما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار بأن سألت ورقة بن نوفل، وإذ جاء الإسلام تقريرا للحق وتصحيحا لكل التصورات والمعتقدات الفاسدة ومن جملتها معتقدات وتصورات أهل الكتاب، فلا بد من أن يحرر المسلمون من مشاعر التبعية للآخرين، ولا بد أن يربوا على الأستاذية للآخرين، ومن ثم فإن هذا المقطع يخدم في جملة ما يخدم في هذا الشأن، وهذه الفقرة تضع أساسا في ذلك. تفسير الفقرة: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ يتجه الخطاب مرة ثانية إلى بني إسرائيل بذكر النعم التي أنعمها على آبائهم وأسلافهم. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ: أي فضلهم على سائر الأمم من أهل زمانهم بإرسال الرسل منهم وإنزال
[سورة البقرة (2): آية 48]
الكتب عليهم. قال أبو العالية في تفسيرها: «بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما» أقول: هذا فهم بعض أهل التفسير لظاهر التفضيل، والقرآن قد أطلق التفضيل ومن ثم فقد يكون التفضيل لهم على غيرهم مع اشتراك غيرهم معهم في مثل ما ذكر من الأسباب. وتفضيلهم على العالمين من أعظم نعمه عليهم، ولكنه خص بالأمر بالتذكر، بعد الأمر بتذكر النعم، لأهمية ذلك، فالعقلية اليهودية منطبع فيها أن اليهود شعب الله المختار مهما فعلوا ومهما أساءوا ومهما أفسدوا، وأن هذه صفة أبدية لهم مهما كفروا ومهما عصوا، ولذلك فإنه يذكر بهذه النعمة ابتداء بين يدي تعداد النعم الذي في طياته التأنيب على الانحراف، ليستقر ذلك على العقوبة الأبدية لهم إن لم يراجعوا أنفسهم في الولوج في حمى الأمة المرحومة أبدا، إن ذكر ذلك على انفراد كما قلنا له أهميته الخاصة. وبعد هذا التذكير المجمل بالنعم وبالتفضيل يتجه الخطاب إليهم بالتذكير بالآخرة .. وَاتَّقُوا يَوْماً. أي: يوم القيامة الذي من صفاته: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً. أي: لا يغني أحد عن أحد، فلا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئا من الحقوق التي لزمتها وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الضمير في (منها) يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة فهو كقوله تعالى في سورة المدثر: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فهذا أبلغ رد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وعلى النصارى الذين يزعمون أن عيسى يحمل عنهم خطاياهم، وعلى أمثالهم، ممن كفر بعد إيمان. وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة من المؤمنين مردود بالنصوص كما سنرى لأن المنفي شفاعة الكفار وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ: أي لا يقبل منها فداء، فالعدل هنا الفدية والبدل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا أحد يعينهم ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، قال ابن جرير: «يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار، العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. أقول: وفي تذكيرهم باليوم الآخر وبعض قوانينه الصارمة بعد أمرهم بتذكر النعم وتفضيلهم إشعار لهم أنهم مكلفون ومحاسبون، وأن ذلك يقتضي منهم شكرا لا بطرا، وطاعة لا معصية، قياما بحق الله لا فرارا منه. وهذا يدلنا على أن السياق ... سياق تذكير وتأنيب ودعوة، وهي في النهاية إعطاء دروس لهذه الأمة، ألا تقع فيما وقعت فيه أمم أخرى. وللأسف فإن الكثيرين من أبناء أمتنا واقعون فيما وقع فيه اليهود في سيرهم الطويل كما
[سورة البقرة (2): آية 49]
سنرى، ثم بعد الأمر بتذكر النعم وتذكر التفضيل وبعد الأمر بتوقي عذاب اليوم الآخر تتجه الفقرة إلى تذكيرهم بنعم الله الكبرى عليهم واحدة فواحدة، وكل نعمة تذكر، يصدر التذكير بها بقوله تعالى وَإِذْ فيكون التقدير: واذكروا إذ، فحيثما وردت إِذْ فيما يأتي فإنها أمر بتذكر نعمة. ومن ثم فما بقي من الفقرة فهو أمر بتذكر النعم تفصيلا بعد الأمر بتذكرها إجمالا والملاحظ أن بعض النعم التي ذكروا بها كانت من نوع قبول التوبة بعد انحراف خطير يذكر، وأن بعضها ذكر وذكر ما رافقه من انحراف، فكان ذلك كله تمهيدا لاستحقاقهم العقوبة الأبدية لهم وهي: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: والتي لا مخرج لهم منها إلا بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك كله دروس لهذه الأمة تحذرها من أن تفعل ما فعلوا: 1 - وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ خلصتكم وأنقذتكم من أيدي فرعون وقومه، وقد كانوا يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب بذبح الأبناء وإبقاء البنات للخدمة، وفي ذلك تعريض العرض للفتنة وفي ذلك محنة عظيمة لكم فتذكروا الخلاص منها. (والآل) بمعنى: الأهل، وخص استعماله بأولي الخطر، كالملوك وأشباههم، وفرعون علم على من ملك مصر قديما ككسرى لملك الفرس، وسامه بمعنى: أولاه. وسوء العذاب: أشده وأفظعه. والبلاء: يطلق على النعمة والنقمة على حسب تقدير اشتقاقه، وهاهنا يصلح للوجهين فإن أشير به إلى صنع فرعون كان المراد به المحنة، وإن أشير به إلى الإنجاء كان نعمة، وجمهور المفسرين على أن البلاء هنا المراد به المحنة. 2 - وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أمروا بتذكر هذه النعم استقلالا، مع أنها جزء من نعمة الخروج من مصر، لما في كل منها من نعمة عظيمة، يذكرهم تعالى كيف أنه بعد أن أنقذهم من آل فرعون وخرجوا مع موسى خرج فرعون في طلبهم ففرق الله بهم البحر فخلصهم منهم وحجز بينهم وبينه وأغرقه مع من معه وبنو إسرائيل ينظرون، ليكون ذلك أشفى لصدورهم وأبلغ لإهانة عدوهم. ومعنى فَرَقْنا فصلنا بين بعض وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم
[سورة البقرة (2): الآيات 51 إلى 52]
وقد بقي يوم الإنجاء مشهورا عند بني إسرائيل يعظمونه. فقد روى البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله- عزّ وجل- فيه بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه. 3 - وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. يذكرهم تعالى قائلا: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر. والضمير في مِنْ بَعْدِهِ يعود على موسى والتقدير من بعد ذهابه إلى الطور إذ اتخذوا العجل إلها وعبدوه. فههنا ذكرهم بنعمة العفو عنهم على فظاعة الجرم الذي ارتكبوه وهم حديثو عهد بالخروج ومعجزاته. 4 - وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. الكتاب: التوراة والفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل، وهو هنا: إما الآيات التي أعطيها موسى كالعصا واليد، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام؛ فهذه نعمة رابعة أنعمها عليهم أنه أنزل عليهم كتابا ليهتدوا بهديه. 5 - وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. في هذه الآية توبة الله على بني إسرائيل من عبادة العجل، فلم تقبل التوبة إلا بأن قتل بعضهم بعضا، ومع شدة هذا فإن الله يمن عليهم أن تاب عليهم وقبل توبتهم، والبارئ هو: الخالق الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، والتواب هو: المفضال بقبول التوبة مرة بعد مرة ولو كثرت الذنوب واسم الرحيم في هذا السياق يشير إلى معنى: أن رحمته من السعة بحيث يعفو عن الذنب وإن عظم إذا تاب صاحبه، وأي ذنب أعظم من الشرك؟ وأي ظلم للنفس أكبر من هذا الظلم الذي وقع فيه بنو إسرائيل؟ إذ تركوا بعد المعرفة عبادة العليم الحكيم الذي برأهم إلى عبادة البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة
[سورة البقرة (2): آية 55]
والبلادة، فاستحقوا هذا العقاب الذي نزل بهم. وقتل النفس الذي أمروا به يحتمل معاني من جملتها وهو الأرجح أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده وأن يستسلم الآخر، أو أن يقتل كل منهم من لقيه من أهل وولد وغير ذلك. ولا شك أن تنفيذ هذا الأمر من بني إسرائيل منقبة لهم تظهر فيه حكمة الله في تفضيلهم على عالم زمانهم. وقد قال الله في الآية: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ أي: إن التوبة والقتل خير من الإصرار على المعصية عند الله. وفي هذه الآية دروس منها: أن الذنب لا يمر بلا عقوبة مهما كان فاعلوه إلا إذا شاء الله أن يعفو. وفي ذلك تذكير لليهود بأن يخففوا من دعاواهم مع الله وأمام خلقه. ومن الدروس في الآية أن المؤمن لا يبالي في ذات الله أن يقتل أهله أو قومه أو تقتل نفسه، ومن الدروس في الآية درس للجاهلين بالله الذين يتصورون أن كل ما يجري من معصية لله في هذه الأرض، لا يجوز معه لأهل الله أن يتحركوا إلا في حدود الكلمة، وإذا فكروا في شئ آخر فكأنهم أخلوا بقوانين السماء والأرض، إن هؤلاء جهلة بالله وجهلة بالإسلام. 6 - وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يأمرهم الله عزّ وجل في هذه الآيات أن يتذكروا مجموعة نعم: بعثهم بعد إماتتهم، وتظليلهم بالغمام مع إنزال المن والسلوى، ولكنه تذكير يرافقه تذكير آخر بظلمهم وتعنتهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً: أي عيانا ومعاينة فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الصاعقة هاهنا: إما صوت سمعوه فصعقوا وماتوا وإما نار أحرقتهم. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البعث: هو الإحياء بعد الإماتة، وأصل كلمة البعث في اللغة: الإثارة وفي قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دليل على أن السياق لا زال يصب في موضوع التذكير بالنعم. والفارق بين سؤال موسى ربه أن يراه وسؤالهم الرؤية: أن موسى سأل الرؤية مع الإيمان شوقا لله، وهؤلاء سألوا تعنتا وكفرا، إذ علقوا الإيمان بموسى بعد ظهور معجزاته حتى يروا ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم، ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم، وسؤالهم لم يكن سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد فعوقبوا على ذلك بالصعق والموت. فدل ذلك على عظم الجرم، وما أكثر من يطلب
[سورة البقرة (2): آية 57]
هذا الطلب من أهل عصرنا مع زيادة وقاحة، فبنوا إسرائيل طلبوا الرؤية وعلقوا عليها الإيمان، وإن من أبناء عصرنا من كتب طالبا الرؤية من أجل أن يؤذي الله في زعمه. ألا ما أجهل الكافر وأغباه وما أحمقه وأضله وما أعظم حلم ربنا!؟ ولكن ما أعده الله لأعدائه في الدنيا والآخرة كثير. وهل الذين طلبوا الرؤية هم الجميع، أو هم السبعون الوارد ذكرهم في سورة الأعراف؟ قولان للمفسرين وسنقف في سورة الأعراف وقفات طويلة مستعرضين الروايات اليهودية مع النقد فإلى هناك. وقد ناقشنا موضوع تعليق الإيمان بالله على رؤيته وسماعه في كتابنا «الله جل جلاله» وقد اتضح لنا من خلال ما مر هنا وما مر من قبل في قصة بني إسرائيل أو في قصة آدم كيف أن معصية الله لا تمر بدون عقوبة للفرد أو للجماعة أو للأمة فما أكثر غفلة الناس. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ: أي جعلنا الغمام يظلكم، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو وسننقل في سورة الأعراف ما تذكره الروايات الإسرائيلية. قال ابن كثير ملخصا عبارات المفسرين في شرح المن قال: «فمنهم من فسره بالطعام ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه كل ما من الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمن: المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر». وهناك حديث صحيح رواه البخاري يستأنس به هنا وهو: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» وأما السلوى: فالمشهور الذي يكاد يكون عليه إجماع المفسرين أنها طير، وفسر بأنه السمانى وهو طير أكبر من العصفور، وقال بعضهم غير ذلك. ووجد من قال بأن السلوى هي العسل. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. قال ابن كثير: «أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا .. فخالفوا وكفروا، فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات». قال ابن كثير تعليقا على هذه الآية: «من هاهنا نتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في
[سورة البقرة (2): آية 58]
ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر فهذا هو الأكمل». 7 - وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. هذه نعمة أخرى يأمرهم الله عزّ وجل بتذكرها وهي الفتح بعد التيه، ويأمرهم أن يشكروه على نعمة الفتح والرخاء بأنواع من الطاعة، وهم العطاش إلى الفتح والاستقرار بعد تشرد طويل، وهم المحتاجون إلى العيش الرغد بعد تيه طويل، ومع ذلك لم يقابلوا ذلك بما ينبغي. وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ الظاهر أن هذا القول لهم بعد ما خرجوا من التيه بعد وفاة موسى عليه الصلاة والسلام في عهد يوشع بن نون خليفة موسى على قومه والقرية إما بيت المقدس أو أريحا، فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي هنيئا واسعا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً الباب باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها، وسجدا جمع ساجد أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا له، وهل المراد بالسجود هنا الركوع أو الخضوع، أو السجود الحقيقي؟ أقوال للمفسرين والظاهر أنه السجود الحقيقي. وَقُولُوا حِطَّةٌ أمروا أن يجمعوا مع الفعل القول فيطلبوا من الله أن يحط عنهم ذنوبهم فالحطة: مشتقة من الحط وهو هنا إما طلب حط الذنوب، أو أن مسألتنا وأمرنا حطة أي تواضع لجلال الله، أو أمر الله حطة بمعنى: أنه موضوع علينا. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ: الخطايا جمع خطيئة وهي الذنب، وعدوا (على الطاعة في القول والفعل) غفران الذنب للمذنب والزيادة في الثواب للمحسن، فكيف كان موقفهم من الأمرين: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه ما أمروا به، قيل: قالوا بدل حطة: حنطة، وأمروا بالسجود حال الدخول، فبدلوا بأن دخلوا زاحفين على أستاههم. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ الفسوق هو
[سورة البقرة (2): آية 60]
الخروج عن طاعة الله. وقد كرر تعبير الَّذِينَ ظَلَمُوا في الآية الأخيرة مرتين زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بإنزال الرجز عليهم لظلمهم. أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا: حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة» أقول: وهذا نص في التبديل الذي فعلوه فلا محل لكلام آخر. وأما ما هو الرجز الذي نزل بهم فللمفسرين أقوال وليس هناك من نص خاص في هذا الموضوع. قال الضحاك: عن ابن عباس «كل شئ في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب». وقال أبو العالية: الرجز الغضب وأخرج ابن جرير بسنده عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم». وأخرج النسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم». لكن هذين النصين ليسا في الحادثة التي نحن فيها عينا، ولكن بعض المفسرين استأنس بهما ففسر الرجز هنا بالطاعون وبالبرد، والله أعلم. وفي الآيتين إشعار بأن النعمة ينبغي أن يقابلها شكر، والشكر قول وعمل، وفيهما إشعار أن الأمر بالقول والفعل ينبغي أن يكون تنفيذه حرفيا لا تبديل ولا تغيير، وأن المعصية لا تمر بلا عقوبة، والملاحظ أن السياق كلما تقدم يوضح لنا طبيعة جديدة من طبائع يهود، ليكون ذلك تأسيسا لفهم مواقفهم من الدعوة الجديدة، ولتعتبر هذه الأمة فلا تقع فيما وقع به غيرها، والطبيعة الجديدة لليهود التي عرفناها في هاتين الآيتين هي التحريف في التنفيذ. ثم يأمرهم الله عزّ وجل بأن يتذكروا نعمة أخرى: 8 - وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه الصلاة والسلام حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم من اثنتي عشرة عينا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. والاستسقاء: طلب السقيا من الله والألف واللام في الحجر، هل هي للعهد أو
[سورة البقرة (2): آية 61]
للجنس؟ قولان للمفسرين فإن كانت للعهد فذلك إشارة إلى حجر معلوم، وإن كانت للجنس فذلك إشارة إلى أي حجر، والانفجار هو: السيلان بكثرة وكانت اثنتا عشرة عينا على عدد أسباط بني إسرائيل، وقد عرف كل سبط- أي فروع ابن من أبناء يعقوب- عينهم التي يشربون منها فأصبح أكلهم في التيه المن والسلوى وشربهم من العيون والكل من رزق الله، والعيث أشد الفساد. ومعنى قوله تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي ولا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم، وبهذه الآية تمت صورة ما أعطي بنو إسرائيل في التيه لطعامهم وشرابهم ليكون ذلك تأسيسا للآية بعدها، التي تعرفنا على طبيعة جديدة لليهود هي الطبيعة المتطلعة لغير ما أعطيت، الطبيعة التي تتطلع إلى الدنئ الممنوع رغم ما بيدها من الخير الرفيع، وقد نهتهم هذه الآية عن الفساد ولم تذكر لنا شيئا عن فسادهم ولكن الآية اللاحقة تؤكد إفسادهم في الأرض كما سنرى. 9 - وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. الطعام الواحد هو المن والسلوى، وإنما قالوا: على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا، والبقول: ما أنبتته الأرض من الخضار، والمراد به في النص أطايب البقول، والقثاء معروفة وهي والخيار صنف واحد، والفوم هو الحنطة على لغة قريش، أو الحمص على لغة الشام، أو الثوم، وقد قرأ به ابن مسعود، أو هو كل ما يختبز. والأدنى: هو الأقرب منزلة والأدون مقدارا، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار، والخير في الآية هو الأرفع والأجل، ومصرا في الآية منكرة أي: أي مصر من الأمصار يوجد فيه ما سألتم، والذلة الهوان، والمسكنة: الاستكانة فاليهود أذلاء وأهل مسكنة من طبيعتهم التصاغر والتفاقر ومعنى «باءوا بغضب من الله» أي صاروا أحقاء بغضبه- أو حقوا على رأي الكسائي وباء معناها رجع. يقول تعالى في الآية: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما
[سورة البقرة (2): آية 62]
طيبا هنيئا نافعا سهلا، واذكروا ضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها. فكان جواب موسى: أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، هذا الذي ذكره المفسرون. ولكني ألمح مع التأنيب الإباحة، أخذا من السياق الذي يعدد النعم فكأنهم مع نزولهم عن المقام الأعلى أبيح لهم أن يحصلوا على مثل هذه الأشياء بالنزول إلى الأمصار المجاورة لهم في رحلة التيه، وبهذا يكون قد انتهى تعداد النعم ثم بعد ذلك يذكر الله عزّ وجل ما عوقبوا به بعد موسى بكثير. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. ثم علل جل جلاله لهذه العقوبة: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. فالكفر بالآيات وقتل الأنبياء والعصيان والاعتداء، هي سبب استحقاقهم للذلة والمسكنة والغضب من الله بعد سير تاريخي طويل، وبعد إنعام كثير وبعد تفضيل الله إياهم على عالم زمانهم. إنها عقوبة تأتي بعد فترة من المرحلة التي قص الله علينا من أنباء الإنعام عليهم، ولكنه جل جلاله وهو يقص علينا من أنبائهم في المرحلة الأولى، هيأ أذهاننا لنصل إلى هذه النتيجة من خلال ما رأيناه من تعنتهم في الطلب وتحريفهم للأمر، وظلمهم واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وذلك كله في العصر الأول، إن بذور الأخلاق الفاسدة الكبرى التي أدت إلى عقوبتهم النهائية كانت موجودة عند بعضهم حتى في العصر الأول عصر موسى ويوشع. عليهما السلام. ثم تأتي آية أخيرة في الفقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. من المعلوم أن الأمة كلها لا تقع في المعصية بل يبقى أفراد ملتزمون مطيعون وهم لما يفعله الآخرون كارهون ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، هؤلاء ما محلهم في أمتهم؟ ما حظهم من العقوبة الدنيوية والأخروية؟ مع أنهم يقومون بحق الله، إن هذه الآية تأتي لتقرر أن فضل الله عزّ وجل سابغ على أمثال هؤلاء في كل أمة من الأمم، فهم بمنجاة من العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية والذين هادوا هم: اليهود، والنصارى هم من
كلمة في هذه الفقرة وسياقها
نصروا المسيح وللمفسرين في الصابئين اتجاهان، الاتجاه الأول: أنهم قوم بأعيانهم تجد بقاياهم الآن في العراق يعبدون النجوم والملائكة، والاتجاه الثاني: أنهم كل من فارق الباطل إلى الله ولا يعرف ما هو الدين الصحيح، وذهب بعض العلماء أنهم الذين لم تبلغهم دعوة نبي ولم يدخلوا في عبادة غير الله. ويجب أن يكون واضحا أن المقصود بهؤلاء من المذكورين إنما هم المؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا والعاملون بدين الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً. وحتى لا يقع لبس نقول: إنه لم يعد الآن نجاة لا ليهودي ولا لنصراني ولا لصابئي ولا لمجوسي ولا لغير ذلك إلا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا لم تبلغه الدعوة، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». وعلى هذا فاليهود المعنيون في الآية: هم من كانوا قبل عيسى ممن لم يشاركوا في المعصية واستمروا على الإيمان، أما اليهودي الذي لم يؤمن بعيسى بعد بعثته فإنه هالك، والمراد بالنصارى، النصارى الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ممن استمروا على الإيمان الصحيح والعمل الصالح ولم ينحرفوا بانحراف الناس، أما بعد محمد صلى الله عليه وسلم فكل نصراني هالك إذا لم يدخل في الإسلام. وكذلك الصابئون فإنهم ناجون حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بحكم مفارقتهم قومهم إذا أريد بهم هذا المعنى، أما بعد البعثة فكل من لم يؤمن هالك. وصدرت الآية بالكلام عن الذين آمنوا، والمراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم الآخرون وجودا، لأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضين والغيوب الآتية فكان الإيمان علما عليهم. إن أهل الإيمان والعمل الصالح لهم السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلون ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه. وبهذا انتهت الفقرة الأولى من الفصل الأول من المقطع الثالث. كلمة في هذه الفقرة وسياقها: - دلنا على نهاية هذه الفقرة أنها ختمت بمثل القاعدة التي ختمت بها قصة آدم. ودلنا على ذلك أيضا: أن الفقرة كلها كانت في التذكير بالنعم، ثم ختمت بقاعدة، ثم
الفقرة الثانية من الفصل الأول من المقطع الثالث
تأتي فقرة أخرى تذكر بالميثاق وبشيء آخر، وإذن ففي القرآن علامات للمتأملين على بدايات ونهايات الفقرات والمقاطع والأقسام وذلك سيتضح معنا شيئا فشيئا. - يلاحظ أن هذه الفقرة ختمت بقوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لاحظ التشابه بين نهاية هذه الفقرة ونهاية قصة آدم: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن المقطع الذي جاء بعد قصة آدم كان نموذجا لأمة أنزل عليها وحي، وما هو موقفها من هذا الوحي، لتأخذ هذه الأمة دروس ذلك. - بدأ هذا المقطع بأوامر ونواه موجهة لبني إسرائيل: وكان الأمر الأول يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وجاءت هذه الفقرة في التذكير بالنعم الجلى عليهم. وكان الأمر الثاني والثالث: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وستأتي الفقرة الثانية في التذكير بالعهد والتذكير بالخشية: ولذلك تبدأ الفقرة الثانية بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ .. وتنتهي بقوله تعالى وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فالصلة واضحة بين مدخل المقطع وبين الفصل الأول من المقطع في فقرتيه فلننتقل إلى الفقرة الثانية من الفصل الأول. الفقرة الثانية من الفصل الأول من المقطع الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (63) إلى نهاية الآية (74) وهذه هي:
[سورة البقرة (2): الآيات 63 الى 74] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
كلمة عامة في هذه الفقرة
كلمة عامة في هذه الفقرة: تتحدث الفقرة في جولتها الأولى عن الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل، وماذا فعلوا فيه، وتتحدث في جولتها الثانية عما عوقب به المخالفون لأمر الله في البست، وتتحدث في الجولة الثالثة عن حادثة كشف القاتل، ثم تنتهي الفقرة بآية تتحدث عما أصيبت به قلوب بني إسرائيل من قسوة زادت على قسوة الحجارة وهي في جولتيها الثانية والثالثة تبرز من مظاهر الجلال الإلهي ما يستجيش أعظم مظاهر الرهبة من الله جل جلاله. التفسير وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بقبول ما في التوراة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قال ابن عباس: إنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ. أي: خذوا التوراة بجد واجتهاد وعزيمة، وذلك بالعلم والعمل وَاذْكُرُوا ما فِيهِ. أي: بحفظه ودراسته وتذكره وعدم نسيانه والغفلة عنه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أي رجاء أن تكونوا من المتقين الناجين عند الله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. أي: ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به، أي إنهم بعد ذلك الميثاق المؤكد العظيم انثنوا عنه ونقضوه فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيق الله إياكم للتوبة عليكم وإرسال النبيين والمرسلين إليكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. أي: الهالكين بنقضكم ذلك الميثاق في العذاب بالدنيا والآخرة وَلَقَدْ
[سورة البقرة (2): آية 66]
عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ هم أهل (إيلة) إيلات اليوم أي العقبة، وعلمتم هنا بمعنى عرفتم والاعتداء في السبت مجاوزة ما حد لهم فيه، وذلك أنهم جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. أي: كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد. فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها النكال العبرة المانعة لِما بَيْنَ يَدَيْها. أي: من بحضرتها من القرى الذين يبلغهم خبرها وما حل بها وَما خَلْفَها. أي: لمن يأتي بعدها بالخبر المتواتر عنهم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. أي: وزاجرا وعبرة لكل تقي سمع خبرها، يدخل في ذلك من نهوهم ويدخل في ذلك المتقون خلال العصور ومنهم هذه الأمة، والضمير في قوله تعالى فَجَعَلْناها يعود إلى القرية. وتأتي القصة مفصلة في سورة الأعراف وسنرى هناك كيف احتالوا للصيد يوم السبت بما ظاهره أنهم لم يفعلوا شيئا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد جيد مخاطبا أمتنا «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وقد بين لنا ما مر من هذه الفقرة خلقان جديدان من أخلاق اليهود وطبائعهم: 1 - إعراضهم عن الوحي المنزل إليهم مع كثرة المؤكدات وقوة الدواعي للإقبال. 2 - تحيلهم على التخلص من الأوامر والنواهي بمراعاتها ظاهرا ومخالفتها باطنا والواجب المراعاة الظاهرة والباطنة. ثم يتجه السياق لتبيان طبيعة أخرى من طبائع اليهود هي الطبيعة الجدلية ليتم في نهاية الفقرة تحديد معالم الطبيعة اليهودية لتخاطب هذه الأمة على ضوء ذلك فتأخذ الدرس الأول في طريقة التعامل مع هذه الطبيعة في الفصل الثاني من المقطع: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ العياذ واللواذ بمعنى واحد، والجهل والسفه هنا بمعنى واحد، وقد استعاذ موسى من الجهل لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه وفيه تأنيب لهم إذ لم يعرفوا مقام الرسول وأنه لا يليق به ما نسبوه إليه قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ هذا سؤال عن حالها وصفتها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي لا مسنة ولا فتية وإنما هي نصف بين الفارض والبكر وسميت المسنة فارضا لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي افعلوا ما أمرتم
[سورة البقرة (2): آية 69]
به، وفي ذلك إشعار لهم في أن البيان كاف وعليهم أن ينفذوا قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع. والسرور: لذة في القلب تكون عند حصول نفع أو توقعه وهاهنا وصفت البقرة بأنها تسر الناظرين لحسنها، فرؤية الحسن من لذات القلب قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ هذا تكرار للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أي: أن البقر العوان والأصفر كثير فاشتبه علينا، هذا تعليل لطلبهم مزيد بيان وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل أخرج ابن أبي حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما أعطوا ولكن استثنوا»، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها لا ذلول أي لم تذلل للكراب وإثارة الأرض وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروث مُسَلَّمَةٌ أي عن العيوب وآثار العمل لا شِيَةَ فِيها أي لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بالحق البين، أي بحقيقة وصف البقرة بحيث لم يبق إشكال في أمرها فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ أي حصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها وما كادوا يفعلون ذلك، إما لغلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل والآن تأتي بداية القصة. قال المفسرون أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً .. وذلك لأن السياق يقص قصة بني إسرائيل هاهنا تعديدا لوجود الجنايات منهم وتقريعا لهم عليها، وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة لوجود القتيل فيهم وهذا يشعر بمسئولية الجماعة كلها عما يقع فيها. فَادَّارَأْتُمْ فِيها. أي: فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفع، أو المعنى فتدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح، أو لأن الطرح في نفسه دفع. وَاللَّهُ
[سورة البقرة (2): آية 73]
مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. أي: مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوما فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. أي: اضربوا القتيل ببعض البقرة المذكورة في الجزء الأول من القصة، وهذا الضمير هو الذي ربط بين جزئي القصة فضربوه فحيي فأخبر عن قاتله كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى. أي: كهذا الإحياء يحيي الله الموتى يوم القيامة؟ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. أي: يريكم دلائله على أنه قادر على كل شئ فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص، ثم عقب الله- عزّ وجل- على ما مر بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. أي: من بعد إحياء القتيل أو من بعد كل الآيات المارة، ووصف القلوب بالقسوة بيان عنها أنها لم تعد تقبل موعظة ولا اعتبارا، واستعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على التعقيب المتراخي يشير إلى أن المفروض أن لا تقسو قلوبهم بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها كإحياء القتيل وغير ذلك من الآيات المارة. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. أي: فهي في قسوتها كالحجارة وأشد قسوة، أو أن بعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة أي أن منهم من هو هكذا ومنهم من هو هكذا. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هذا بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة، يعني أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا، وقلوبهم لا تندى ولا تنبض بقطرة خير، ومن الحجارة ما يتردى من أعلى الجبل من خشية الله وقلوبهم لا تخشى. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا تهديد ووعيد وفيه إشارة إلى أن قسوة القلب ينتج عنها أعمال سيئة وأن الله لا يغفل عن عمل. فوائد: 1 - قالوا في خشية الحجارة وترديها، إنه مجاز في انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به. وقالوا المراد بها الحقيقة: على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة، وعلى هذا قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ .. (سورة الحشر) ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح عن أحد: «هذا جبل يحبنا ونحبه» ومنه حنين الجذع المتواتر، ومنه ما في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن».
2 - قال ابن كثير: والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داود الطيالسي .. عن أبي رزين العقيلي قال، «قلت يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ قال أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا قال بلى قال: كذلك النشور أو قال كذلك يحيي الله الموتى». 3 - قال ابن جريج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم، وأيم الله لو لم يستثنوا «أي لو لم يقولوا إن شاء الله» لما بينت لهم آخر الأبد». ومن ثم فعلينا أن نترك التشديد في الأمور، وأن نسارع إلى امتثال الأوامر وترك النواهي من غير تفتيش وكثرة سؤال. 4 - قال بعض العلماء: إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها لأنها أفضل قرابينهم، ولعبادتهم العجل. 5 - قال المسيب بن رافع: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك في كلام الله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. 6 - نقل المفسرون أقوالا كثيرة في تحديد العضو الذي ضرب به القتيل. وقال ابن كثير تعليقا: هذا البعض أي شئ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى، ولكن أبهمه ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله. 7 - اختلف علماء العربية في معنى (أو) في قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: (أو) هاهنا بمعنى الواو، وقال آخرون: (أو) هاهنا بمعنى بل، وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، وقال بعضهم: معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة، وهذا الذي رجحه ابن جرير.
كلمة في السياق
8 - أخرج ابن مردويه والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي». وأخرج البزار عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا». وبعد: فإننا نحب خلال عرض المقطع ألا نكثر من الفوائد وألا نعقد فصولا حتى لا يكون ذلك على حساب وضوح السياق، فلنؤخر من ذلك إلى نهاية المقطع ما لا يضر تأخيره. كلمة في السياق: - انتهينا حتى الآن من عرض مدخل المقطع الثالث ومن عرض الفقرتين الأولى والثانية منه واللتين تشكلان الفصل الأول منه، وقد رأينا أن الفصل قد ارتبط بالآية الأولى من المدخل وهي قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فجاء الفصل مذكرا بالنعم، مذكرا بالميثاق، مذكرا بالخشية من الله. ونلاحظ أن الفصل الثاني يبدأ بخطاب أمتنا أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... ومن مطلع الفصل الثاني ومما مر معنا من قبل ندرك أن ما اتجهنا إليه في التقسيم إلى فقرات ومقاطع له أدلته التي تدلنا فيها المعاني على ذلك، وواضح كذلك من بداية الفصل اللاحق أنه مرتبط بالآية التالية في المدخل على الآية التي فصل فيها الفصل الأول: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ .... - قلنا أثناء الكلام عن مدخل المقطع: إن مجموعة هذه الأوامر والنواهي هي العلاج الكامل للطبيعة اليهودية. ورأينا من خلال الفصل الأول دليل ذلك، ويكفي أن نشير إلى الآية التي ختم بها الفصل ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ .. لندرك أنه لا دواء إلا قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وسيتضح لنا من خلال الفصل الثاني أن ما اتجهنا إليه كان صحيحا في هذا الشأن، وبهذه المناسبة نقول: إن أمتنا نفسها بعد سير طويل قد تعقدت نفسيات الكثير من أبنائها حتى إنه لم يعد يصلحهم إلا أن ينفذوا مجموعة هذه الأوامر والنواهي بسير جاد لترجع نفوسهم إلى صفائها وهذا يقتضي من المربين أن يلحظوا ذلك عمليا إذا ما واتاهم مسلم يريد العودة الكاملة إلى الله، كما أن على الوعاظ أن يركزوا عمليا على مجموعة هذه القضايا، وألا يقتصروا على واحد منها كطريقة بعضهم إذ يكتفون بتذكير المسلمين بماضيهم فقط.
الفصل الثاني في المقطع الثالث
- ورد معنا في هذا الفصل قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وفي ذلك ما يذكرنا بقوله تعالى في بداية سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فالمقطع يعمق فيما يعمق التقوى والالتزام بها، ويعمق قضية الالتزام بالأمر وترك النهي، وذلك تعميق للالتزام بالأمر والنهي اللذين بدأ بهما القسم كله، يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ... وقد مر معنا في المقطع الأول من القسم الأول قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... وقد رأينا في هذا الفصل نموذج ذلك، والصورة الكلية للوحدة الشاملة في السورة ستتكامل معنا شيئا فشيئا فلننتقل إلى الفصل الثاني في المقطع الثالث. الفصل الثاني في المقطع الثالث: هذا الفصل يبدأ بقوله تعالى مخاطبا هذه الأمة: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .... وينتهي بقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... ثم تأتي خاتمة المقطع. فالفصل كله في قضية الإيمان. إن مدخل المقطع قد دعا اليهود إلى الإيمان: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. والملاحظ أن الفصل كله في هذا. ولا نلاحظ أن المقطع تحدث عما له صلة فيما بعد ذلك من آيات المدخل وذلك- والله أعلم- لأن تنفيذ الأوامر وترك النواهي اللاحقة متوقف على قضية الإيمان، فإذا دخلوا فيها أصبح الخطاب متوجها لهم بتلك القضايا مع المؤمنين، وإذا لم يدخلوا في الإيمان فلا فائدة في بحثها معهم، غير أنه من مجئ تعريف البر فيما بعد، ندرك أن نقاشا له صلة بالمعاني المذكورة في هذا المقطع لا زال مفتوحا مع بني إسرائيل فالصلات في السورة بعيدة الأغوار.
الفقرة الأولى
- يمتد هذا الفصل من الآية (76) إلى نهاية الآية (121) حيث تأتي خاتمة المقطع وهو يتألف من أربع فقرات، بعضها طويل وبعضها أقصر، وكلها كما قلنا تعالج قضية إيمان بني إسرائيل ونؤثر أن يكون الكلام منصبا على العرض والسياق، حتى ننتهي من عرض الفقرات ثم بعد ذلك نذكر بعض الفوائد ونعقد بعض الفصول فلنبدأ عرض الفقرة الأولى من الفصل الثاني: الفقرة الأولى: تمتد هذه الفقرة من الآية (75) إلى نهاية الآية (82) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 82] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
كلمة في هذه الفقرة وسياقها
كلمة في هذه الفقرة وسياقها: - تبين لنا هذه الفقرة علة رئيسية من علل عدم إيمان اليهود وهي عقليتهم التحريفية المنافقة، وأن هذا يرافقه أماني جاهلة عند العامة وكذب على الله عند العلماء، كما تبين لنا علة جرأتهم على كل شئ، وهي تصورهم أنهم سيعذبون أياما معدودة ثم يكون مآلهم الجنة، وقد ناقشت الفقرة هذا كله. - يلاحظ أن قصة آدم ختمت بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وأن الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع ختمت بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وأن هذه الفقرة وهي الأولى في الفصل الثاني ختمت بقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وكما أنه بعد الفقرة الأولى من الفصل الأول جاء قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فإنه بعد هذه الفقرة الأولى من الفصل الثاني يأتي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ .. أن هذا كله يؤكد أن تقسيما ما موجود في سور هذا القرآن للمتتبع، كما أن مجئ هذه الخاتمة لهذه الفقرة هنا تدلنا على صحة ما ذكرناه من قبل، من أن قصة بني إسرائيل بعد قصة آدم إنما تخدم في ذكر نموذج على أمة أنزل عليها هدى، وكيف كان موقفها من هذا الهدى، فهي توضيح عملي للقاعدة التي ختمت بها قصة آدم.
- يلاحظ أنه في مدخل المقطع الثالث جاء قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. وفي هذه الفقرة يأتي قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. ويأتي قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. إن هذا يؤكد ارتباط هذه الفقرة بما يقابلها من مدخل المقطع كما كنا تحدثنا عنه من قبل. - وبعد فلأول مرة في سورة البقرة يتوجه الخطاب مباشرة إلى الأمة الإسلامية وذلك في هذه الفقرة بقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ .. فقد سبق من قبل خطاب لبني إسرائيل، وقبل ذلك توجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَبَشِّرِ* وقبله توجه الخطاب إلى الناس جمعيا، وقبل ذلك خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاف الخطاب وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ولأول مرة يتوجه الخطاب إلينا بشكل مباشر بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ ... وذلك بعد مجموعة الدروس التي أخذتها الأمة في سورة البقرة، وكأن الدروس الماضية كافية لإيجاد نضج خاص في الذات العامة للأمة، والخطاب في هذه الفقرة هو في حقيقته درس في المواجهة بين هذه الأمة واليهود، بعد أن اتضحت إلى حد كبير الصورة التاريخية لليهود، وفي هذا الدرس تتقرر مجموعة حقائق لها علاقة باليهود، ومواقفهم، وأسبابها، والرد عليهم، وتأنيبهم وغير ذلك، ففي هذه الفقرة إذن يتجه السياق لخطاب هذه الأمة؛ لتضع قدمها حيث ينبغي أن توضع في آرائها بالآخرين، وفي مواقفها، وفي معرفة أعدائها وتحليل مواقفهم، وذلك كله يؤكد ما ذكرناه من قبل أن هذا المقطع إنما يقدم لأمتنا نموذجا على أمة أنزل عليها الوحي، وكيف كان موقفها من ذلك ليعطيها دروسه، ولكن في الوقت نفسه فإن المقطع يخدم قضايا أخرى كثيرة منها: دعوة بني إسرائيل، وإقامة الحجة عليهم، ومنها توضيح صراط المغضوب عليهم والضالين لتجتنب، ومنها ومنها مما لا يحيط بأسراره إلا الله، ثم يأتي من أعداء الله من يتساءل أين الصلات بين الآيات في السورة الواحدة والصلة بين السور في القرآن، ألا إنه العمى وحده هو الذي يجعل هؤلاء لا يبصرون عمق الصلات. - قد يكون مناسبا قبل أن نبدأ عرض الفقرة أن نذكر بعض ملامح الشخصية اليهودية مما وضحه لنا الفصل الأول:
التفسير
1 - طبيعة مسارعة إلى الشرك 2 - طبيعة متعنتة تطلب ما لا يصح طلبه كرؤية الله 3 - طبيعة فاسقة محرفة 4 - طبيعة مفسدة شهوانية 5 - طبيعة كافرة مكذبة بالآيات 6 - طبيعة تكره الحق وتقتل أهله ولو كانوا أنبياء 7 - طبيعة محتالة على الأوامر والنواهي 8 - طبيعة غادرة تنقض المواثيق حتى مع الله- جل جلاله- 9 - طبيعة مجادلة. ولنبدأ عرض الفقرة: التفسير: أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. أي: ينقاد لكم هؤلاء اليهود بالتصديق والطاعة والاستجابة لدعوتكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. أي: طائفة ممن سلف منهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ. أي: التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ. أي: يتأولونه على غير تأويله مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أي: من بعد ما فهموه على الجلية، ومع هذا فهم يخالفونه على بصيرة مع علمهم أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، يفهم من ذلك أنه متى وجدت هذه العقلية التحريفية فلا أمل يرتجى عندها في قبول الحق ومتابعته. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا. أن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ. أي: في حال اختلائهم ببعضهم يقول بعضهم لبعض: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقال ابن عباس: «وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله وَإِذا لَقُوا .. لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ. أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا: اجحدوه ولا تقروا به. وقال النسفي في تفسير هذا الجزء من الآية أي: أتخبرون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما بين الله لكم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ألا تراك تقول: هو في كتاب الله تعالى هكذا، وهو عند الله هكذا، بمعنى واحد. وقيل في قوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ إنه إضمار مضاف والتقدير أي: عند كتاب ربكم. وقيل: ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم في الآخرة، يقولون كفرتم بعد أن وقفتم على صدقه
[سورة البقرة (2): آية 77]
أَفَلا تَعْقِلُونَ أن هذا حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعونه، دلت هذه الآية على أن من طبيعة اليهود أن يظهروا خلاف ما يبطنون مع عدم الإكراه، وأنهم يقولون للناس شيئا ويقولون فيما بينهم شيئا آخر، كما دلت الآية على أن هذا النوع من المواقف سببه عدم معرفة الله حق المعرفة، وإلا لو أنهم يعلمون أن الله يعلم السر وأخفى لعلموا أن الحجة قائمة عليهم اعترفوا أو لم يعترفوا ولذلك قال تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إنهم جهلة بالله؛ ولذلك فإنهم يقولون ما يقولون، فإذا كان هذا حال أهل العلم منهم فما بالك بالعامة، إن الآية الآتية تصور لنا حال هؤلاء العامة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الأمي: هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة، والمراد بالكتاب هنا التوراة، والأماني: جمع أمنية وهي التمني الذي لا يرافقه عمل، وقد تأتي بمعنى الكذب، أو بمعنى التلاوة غير المتعمقة، والأرجح أن المراد بها هاهنا الأول، فمعنى الآية: ومن اليهود من لا يحسن القراءة والكتابة، فهم لا يطالعون التوراة فيتحققون بما فيها، فهم لا يعرفون إلا ما هم عليه من أماني من أن الله يحبهم، ويعفوا عنهم، ويرحمهم على ما هم عليه كائنا ما كان، وما هم في هذا إلا ظانين؛ لا يستندون في ما هم فيه على يقين. ذكر في هذه الآية العامة المقلدون، وفيما قبلها العلماء المحرفون، والمنافقون والمضللون، وهذا هو التقليد المذموم أن يوجد إمام يتبعه متبع على غير هدى، ومن الضلال الفظيع تأويل كتاب الله على غير ما يحتمله نص الكتاب وما تشعبت فرق الضلال إلا عن مثل هذا، وما تضل العامة في الغالب إلا بسبب أئمة الضلال الذين يحرفون كتاب الله، أو يتأولونه بهوى، أو ينسبون إلى الله ما لم يقله أو يحكم به، وعلماء اليهود فعلوا هذا كله، والآية التالية تذكر فعلة من فعلاتهم، والدواعي التي دعتهم لذلك وما يستحقونه من عقاب عليها قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ عن ابن عباس: «الويل المشقة من العذاب» .. وقال الخليل بن أحمد: الويل شدة الشر. وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها وقال بعضهم: الويل الحزن. وقال الحسن البصري: «الثمن القليل الدنيا بحذافيرها» ومن الدنيا المال والزعامة والجاه وعلى هذا فمعنى الآية. أن الهلاك والعذاب للكتبة الوضاعين الذين يكتبون كتبا مختلقة من عند أنفسهم،
[سورة البقرة (2): آية 80]
ويزعمون أنها من عند الله وليست كذلك، ومن أجل كسب يسير كهذه الدنيا الفانية وما فيها أو بعض ما فيها، فويل لهم مرتين: مرة على ما كتبوا ومرة على ما كسبوه من مال حرام، والآية وإن جاءت في سياق الحديث عن بني إسرائيل فإنها عامة. قال عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ قال نزلت في المشركين وأهل الكتاب. ثم قال تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ مجئ هذه الآية بعد ما قبلها بمثابة البيان لأسباب هذه المواقف الخائنة. إن جرأة اليهود على التحريف والتبديل، وعلى الكيد والمكر والحسد والخداع ومعاندة الأنبياء، وغير ذلك من صفاتهم ومواقفهم، إن ذلك كله سببه هذا الاعتقاد الفاسد أن مدة مكثهم في النار أياما معدودة، ثم إن مجئ الآية بعد الآية التي ذكرت كتاباتهم المختلقة، ونسبتهم إياها إلى الله يوحي كذلك بأن هذا مما اختلقوه وقالوا هو من عند الله، وفي الوقت نفسه فإن الآية تسجل واحدة من الأماني الكاذبة التي ربي عليها عامة اليهود. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فهذه إحدى الأماني المظنونة، وقد ردت الآية على زعمهم في هذا الموضوع. وعلينا أن ندرك هنا بعمق كيف أن تصور الإنسان عن اليوم الآخر يؤثر تأثيرا كاملا في مواقفه فإذا كانت هذه المواقف اليهودية الفظيعة أثرا من آثار هذه العقيدة التي رأيناها وذلك شئ منصوص عليه في سورة آل عمران: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. إذا كانت هذه مواقف اليهود بسبب هذه العقيدة، فكيف تكون مواقف الذين لا يؤمنون باليوم الآخر أصلا! فكيف تكون مواقف الذين يتصورون أن الله لا يعذبهم أبدا! وللأسف فإن كثيرين من عامة المسلمين وعلمائهم يستشعرون الأمن من النار ومن عقاب الله، وذلك أقل ما يقال فيه أنه من الكبائر كما نص عليه الفقهاء. في الأيام المعدودة أقوال منها أنها سبعة أيام، ومنها أنها أربعون يوما، ولا شك أن
وبإجمال نقول تفسيرا للآية
التحديد هو مما سمعه علماء المسلمين منهم أو عنهم، وهناك حديث رواه البخاري والنسائي وأحمد فيه كلام لليهود أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه تحديد والأمر واسع ولا تهمنا معرفته عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبوكم؟ قالوا: فلان قال: كذبتم أبوكم فلان فقالوا صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا ثم قال ... ». وبإجمال نقول تفسيرا للآية: يقول تعالى فى الآية إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان ولذا أتى ب أَمْ التي بمعنى بل في الرد على زعمهم، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه، ثم بين الله عزّ وجل أن الأمر عنده هو: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات، فهذا من أهل النار، والخطيئة هنا الشرك كما هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة إذ إنهم آمنوا بما كفر به الآخرون، وعملوا بما ترك الناس من دين الله، أخبر الله بالآية أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له. وللمفسرين كلام كثير في قوله تعالى بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
كلمة في الفقرة الأولى
قال النسفي: بلى من كسب شركا؛ وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه (أي فهذا الذي أحاطت به خطيئته) فأما إذا مات مؤمنا فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطا به؛ فلا يتناوله النص، وبهذا التأويل يبطل تشبث المعتزلة والخوارج. وقيل في تفسير إحاطة الخطيئة: أي استولت عليه كما يحيط العدو ولم يتخلص منها بالتوبة. وعلى كل حال فإن الخطايا، ولو لم تكن كفرا، فإنها بريد الكفر، فإذا سار الإنسان في طريق الخطايا، فإنه بذلك يجني على قلبه شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكفر عند ما تحيط به الخطايا. أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجئ بالعود، والرجل يجئ بالعود؛ حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا؛ فأنضجوا ما قذفوا فيها» وفي هذا الموضوع نصوص كثيرة سنراها. كلمة في الفقرة الأولى: - بينت هذه الفقرة أن لليهود عقيدة هي أنهم يتصورون أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة، وبسبب من هذه العقيدة فعامتهم غلبتهم الأماني الكاذبة، وهم وراء علمائهم، وعلماؤهم كذابون على الله منافقون، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فكتاب الله يحرفونه ويزيدون على ذلك الاختلاق على الله، وناس هذا شأنهم لا طمع في إيمانهم، ومن ثم فإن هذه الفقرة قطعت الطريق على حسن الظن باليهود ما دامت طبيعتهم على هذه الشاكلة، والطريق أمامهم مفتوح إذا أرادوا الإيمان، وقد حدده الله عزّ وجل في مدخل المقطع، ولكن أن يتوهم المسلمون في هذا الشأن فذلك شئ آخر، وبهذا أعطت الفقرة المسلمين دروسا: درسا في انحرافات أمة عن دين الله، ودرسا في حدود حسن الظن بهذه الأمة، ودرسا في أن على المسلمين ألا يقعوا فيما وقعت فيه هذه الأمة، وألا يسيروا فيه، وللأسف فإن كثيرا من الفرق التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية كان سبب ضلالها هو غياب درس هذه الفقرة عنها. - بعد أن بينت هذه الفقرة محل اليهود في قضية الإيمان بالإسلام فإن السياق الآن سيتجه لإقامة الحجة عليهم في قضية الإيمان هذه.
الفقرة الثانية من الفصل الثاني من المقطع الثالث
إن دعواهم الرئيسية في عدم إيمانهم هي: أن إيمانهم بما أنزل عليهم يكفيهم ويغنيهم وينجيهم؛ ومن ثم تأتي الفقرة التالية لتنقض هذا الزعم نوع نقض، وتأتي الفقرة الثالثة لتنهي هذه المزاعم إنهاء كاملا فلنر الفقرة الثانية: الفقرة الثانية من الفصل الثاني من المقطع الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (83) إلى نهاية الآية (86) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
كلمة في هذه الفقرة وسياقها
كلمة في هذه الفقرة وسياقها: 1 - يلاحظ أن الفقرة الأولى من الفصل الأول انتهت بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وأن الفقرة الأولى من الفصل الثاني انتهت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فهناك تشابه بين نهاية الفقرة الأولى في الفصل الأول، وبين نهاية الفقرة الأولى من الفصل الثاني. وكما أن الفقرة الثانية من الفصل الأول بدأت بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فإن الفقرة الثانية من الفصل الثاني تبدأ بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 2 - يلاحظ أن هذه الفقرة ذكرت مضمونين لميثاقين أخذا على بني إسرائيل بينما مرت معنا من قبل كلمة الميثاق دون أن يذكر مضمون لها، فههنا يأتي بعض التفصيل في قضية الميثاق، وتأخير التفصيل إلى هذا الموضع يقدم لنا أكثر من درس مرتبط بمجموع ما مر من قبل، ولو أن هذه الفقرة جاءت قبل ذلك لكانت خدماتها للسياق أقل مما أعطته هاهنا كما سنرى. 3 - جاءت هذه الفقرة بعد ذكر ادعاء اليهود أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة، وبعد الرد عليهم من خلال قاعدة كلية، فكانت هذه الفقرة بمثابة تفصيل أو تمثيل لأنواع من الأعمال ارتكبوها يستأهلون فيها العذاب الشديد والخلود، ولذلك تختم هذه الفقرة بقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ .. ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إنهم يستحقون ذلك بسبب من نقضهم الميثاق في شأن العبادة والمعاملة، وبسبب من نقضهم الميثاق في شأن التطبيق الشامل للتوراة. وجاءت هذه الفقرة بعد الفقرة التي تبدأ بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. فهي تعمق عند المسلمين فهم النفسية اليهودية التي تعقدت فلم تعد تستجيب لدعوة الإيمان، كما جاءت مقدمة للفقرات التي تناقش اليهود في لب قضية دعاواهم الإيمانية مقيمة الحجة عليهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
4 - قلنا: إن هذا الفصل يفصل ويعلل لما يقابله من الأوامر والنواهي التي وردت في مدخل المقطع وهي: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ وهذه الفقرة ختمت بقوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ... فالفقرة تبين أن اليهود اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وخلطوا الحق بالباطل، وأنهم نقضوا الميثاق في قضية الصلاة والزكاة والتوحيد واتباع الهدى المنزل عليهم، وهذا كله يقتضي تجديد المطالبة بالأوامر والنواهي التي أهملوها، وكان ذلك من خلال رسالة جديدة ودعوة جديدة. 5 - وقصة آدم انتهت كما رأينا بقاعدة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وفي هذه الفقرة يرينا الله عزّ وجل موقف هؤلاء مما طالبهم الله عزّ وجل به من الهدى وخيانتهم في ذلك واستحقاقهم بذلك عذاب الله. وفيما قبل قصة آدم: ذكر من صفات المتقين في مقدمة سورة البقرة: الإيمان والصلاة والإنفاق واتباع الكتاب، ثم جاءت دعوة عامة للتوحيد والعبادة، وجاء تحذير من نقض العهد والإفساد في الأرض وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ونلاحظ أن هذه الفقرة أعطتنا درسا في ذلك كله بينت لنا أن بني إسرائيل أمروا بعبادة الله وبالصلاة والزكاة فأعرضوا إلا قليلا، وأن بني إسرائيل طبقوا بعض الكتاب وأهملوا بعضه الآخر، وأنهم نقضوا العهد والميثاق مع الله، وكيف أنهم يقتلون أنفسهم وهو إفساد، وكيف أنهم لا يقومون بحق أخوة الإيمان وهو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وهكذا نجد أن الفقرة مرتبطة بما قبلها مباشرة من الآيات، وتخدم في سياق فصلها وفي سياق مقطعها، وتخدم في تعميق معاني كل المقاطع السابقة عليها، وتخدم في تعميق معاني مقدمة السورة وهي تأتي حلقة في سلسلة، فهي بمثابة المكمل لما سبق والمقدمة لما لحق. 6 - يلاحظ أنه بعد مدخل المقطع الأول جاء خطاب لبني إسرائيل وجاءت موعظة ثم بدأ التذكير بالنعم، والملاحظ أن الموعظة انتهت بقوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وهنا تختم الفقرة بقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ
التفسير
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. لاحظ جملة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولو أنك تأملت المعاني التى مرت معنا حتى الآن في المقطع، والمعاني التي تأتي معنا لرأيت عجبا فكأننا في هذه الفقرة في نهاية شئ، وكأننا فيما يأتي في بداية جديدة ضمن إطار كلي هو المقطع ضمن إطار أكبر هو السورة. بدأ الفصل الأول بعد مدخل المقطع بهذا النداء: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. فكان هذا النداء بمثابة المقدمة للفصلين الأول والثاني ونلاحظ أن المقطع كله ينتهي بمثل هذه المقدمة. وجاء الفصل الأول، وجاءت الفقرة الأولى والثانية من الفصل الثاني، وجاء تذكير بالنعم، وجاء تذكير بالعقوبة الصارمة القطعية، وختمت الفقرة الثانية من الفصل الثاني بقوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فكأن هاهنا خاتمة التقرير لأسباب الموعظة في بداية الفصلين ليكون الآن عرض جديد وتغير فى أسلوب الخطاب والمعالجة ولذلك يأتي بعد هذه الفقرة قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ .... إننا أمام سياق يشبه أن يكون جديدا بالنسبة لما سبقه وكأن هذه الفقرة تعتبر خاتمة من وجه لجولات في المقطع. وكأن مقطع بني إسرائيل في النهاية يتألف من مدخل وفصلين وكل فصل يتألف من فقرتين، نهاية الفقرة الأولى في الفصلين متقاربة، وبدايات الفقرة الثانية من الفصلين متشابهة، ثم بعد ذلك عندنا في المقطع مناقشات ودروس، ولنبدأ عرض الفقرة الثانية في الفصل الثاني من المقطع الثالث. التفسير: تعطينا هذه الفقرة درسين من خلال موقفين لليهود لهما علاقة بالعهود المأخوذة عليهم وموقفهم منها، وكلا الدرسين مبدوء بكلمة (إذ) التي تأتي عادة في هذا السياق بعد أمر محذوف تقديره (اذكر) ولا شك أن الذي يتذكر هو المسلم وحده، إذ هو الذي
الدرس الأول
يستفيد من كتاب الله، فإذ يتذكر المسلم ما أمروا به، وما فعلوه، وما عوقبوا به نتيجة لذلك فإنه يكون قد استفاد من الدرس. الدرس الأول: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الميثاق هو العهد المؤكد غاية التوكيد لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ هذا إخبار في معنى النهي وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الانتهاء والامتثال وهو يخبر عنه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى أي القرابة وَالْيَتامى جمع يتيم: وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا هو الحسن في نفسه لإفراط حسنة، يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه، ويتذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم، وهذا هو أعلى الحقوق، وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين وأكبرهم وأولادهم بذلك حق الوالدين، والأقربين، ثم اليتامى والمساكين، فهؤلاء يستحقون الإحسان؛ لأن اليتامى لا كاسب لهم؛ والمساكين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، أما الناس كل الناس فلهم الكلمة الطيبة ولين الجانب وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً قال الحسن البصري: «فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا» وقد ناسب أن يأمر بالإحسان بالقول بعد الإحسان في الفعل؛ ليجتمع طرفا الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك، وهو الصلاة والزكاة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثم أخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي تركوا كل ما أمروا به ونهوا عنه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد، بعد العلم به إلا القليل منهم. وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء كما سنرى، وكم من هذه الأمة قد أعرض. بينت هذه الآية كيف كان موقفهم القولي، وإعراضهم عن العبادة، والإحسان الفعلي، والقولي، وعن الصلاة والزكاة. وبمناسبة هذه الآية فلنذكر بهذين الحديثين: في الصحيحين عن ابن مسعود «قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في
الدرس الثاني
سبيل الله .. » وأخرج مسلم والترمذي والإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحقرن من المعروف شيئا وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق». الدرس الثاني: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه ولا ينفيه جعل غير الرجل بمثابة نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه السلام «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» ثم قال تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به وتعترفون على أنفسكم بلزومه. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ كانوا في المدينة المنورة فريقان طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والطائفة الأخرى النضير وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك، يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ويخرجونهم منها. تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ كانوا إذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة الذي جاء فيها (إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته)، فهم يطبقون التوراة في هذا الجانب ويخالفونها في غيره مما ذكر قبله وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. فالإخراج حرام عليهم وكذلك القتل وكذلك مظاهرة غيرهم على بعضهم. قال السدي: «أخذ الله عليهم أربعة عهود ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، والفداء فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء. قال تعالى مؤنبا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي أتفادونهم بحكم التوراة،
[سورة البقرة (2): آية 86]
وتقتلونهم، وتخرجونهم، وتظاهرون عليهم، مع أن التوراة تحرم هذا، جعلت الآية التطبيق إيمانا وعدم التطبيق كفرا. قال السدي: فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما، جمعوا له حتى يفدونه فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا فلم تقاتلوهم؟ قالوا إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين يخبرهم الله تعالى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ أي فما جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي إلا ذلة وهوان بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أشد العذاب هو الذي لا روح فيه ولا فرح جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الأعمال القبيحة والسيئة، ولكن له سننا أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة واختاروها عليها اختيار المشتري. دلت الآية على أن سبب الخلل في التطبيق هو محبة الدنيا وتفضيلها على الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم فليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه. وبمناسبة قوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ نحب أن نلفت النظر هاهنا إلى أن اليهود، أو النصارى، أو أبناء الأديان، يرون أنهم بسبب من كونهم يهودا، أو نصارى، أو غير ذلك، فإنهم سينصرون يوم القيامة، وأن من ينتسبون إليهم سينصرونهم، وقد قطع الله عزّ وجل في هذه الآية طمع اليهود من ذلك بسبب من أعمالهم. وكثيرون من أبناء المسلمين غلب عليهم هذا التفكير أنهم سينجون عند الله مهما اقترفوا، وكثيرون من صوفية المسلمين غلب عليهم هذا التفكير حتى أصبحت تجد صوفيا لا يصلي، ولا يزكي، ولا يهتدي بكتاب الله، ويوالي الكافرين، ويؤمن بشعاراتهم المعطلة للكتاب، ويتصور مع هذا أن نسبته إلى فلان من الناس، أو إلى الطريقة الفلانية، تنجيه عند الله. وبمناسبة قوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ نقول: لقد أخذ الله على هذه الأمة ما أخذ على بني إسرائيل في وجوب إقامة أحكام القرآن، فطبقت في عصورها المتأخرة بعضا وتركت بعضا؛ فابتلاها الله بما ابتلاها به، من الذلة، والهوان ولعذاب الآخرة أشد. وها نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري نعاني من الذلة والهوان، بأن سلط الله
كلمة في السياق
علينا أمم الكفر، حتى سلط علينا اليهود أذل خلق، وتلك عقوبة نسيان جزء من كتاب الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وها نحن نلنا خزي الدنيا ونعوذ بالله من ذلك ومن عذاب الآخرة، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ إنه لا خلاص لنا مما نحن فيه بالدنيا، ولا نجاة لنا في الآخرة، إلا بالعودة الكاملة لكتاب الله، بتطبيقه كله، في محيط الفرد، والأسرة، والدولة، والأمة. وإلا فإن الذلة مستمرة، وكل محاولة للخروج منها عن غير هذا الطريق محاولة فاشلة. قال عمر رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»، وقد رأينا أن سبب التطبيق الجزئي هو استحباب الدنيا على الآخرة، فبداية الدواء إذن أن نغرس في قلب المسلم تفضيل الآخرة على الدنيا، وأن نغرس في قلبه حب الآخرة، وطريق ذلك العلم بالكتاب والسنة، والعمل، ومجالسة الصالحين من عباد الله. كلمة في السياق: بقيت عندنا فقرتان من الفصل الثاني في المقطع الثالث ثم خاتمة المقطع، والحقيقة أن هاتين الفقرتين بمثابة جولتين في النقاش المباشر مع بني إسرائيل، فهما من ناحية امتداد للفصل الثاني، لأنهما نقاش في قضية الإيمان، ومن ناحية أخرى فهما يشبهان أن يكونا فصلا جديدا في المقطع، فهما يمثلان استمرارية من ناحية، واستقلالية من ناحية أخرى، ولذلك فسنعرضهما على أنهما جولتان في هذا الفصل، مع اعتبارنا إياهما فقرتين من فقرات أربع تشكل الفصل الثاني كما رأينا من قبل. الفقرة الثالثة من الفصل الثاني تمتد هذه الفقرة من الآية (87) إلى نهاية الآية (103) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 87 الى 103] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: 1 - لقد رأينا أن مدخل هذا المقطع دعا اليهود إلى الإيمان بالقرآن: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ورأينا الفقرة الأولى من الفصل الثاني تيئس المسلمين من الطمع بإيمان اليهود، ثم تأتي الفقرة الثانية من الفصل الثاني فترينا أن عند اليهود خللا في إيمانهم بكتابهم أصلا، ثم تأتي هذه الفقرة لتبدأ حوارا مفتوحا مع اليهود في قضية الإيمان والأسباب الصارفة لهم عن الإيمان بالقرآن، وأنها ليست إلا الطبيعة الكافرة المستكبرة الفارة من الهدى إلى الضلال، فهي إذن استمرار للفصل الأول المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. ومن ثم فهي تحدثنا عن أن عادة بني إسرائيل أن يكذبوا، ويقتلوا كل رسول لا يوافق كلامه أهواءهم، وتحدثنا عن أسباب أخرى يرفضون من أجلها الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم عليهم الحجة بشكل ثم بآخر، فهي استكمال لعرض الأسباب والعوامل التي تحول بينهم وبين الإيمان بالقرآن. 2 - في الفصل الأول من هذا المقطع جاء قوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وتأتي هذه الفقرة فترينا تفصيلات، في قتلهم الأنبياء، وكفرهم بالآيات، وعصيانهم، واعتدائهم بعد أن وجدت الأسس اللازمة لهذه التفصيلات، ولتخدم هذه التفصيلات هنا السياق السابق، واللاحق بشكل أجدى. 3 - دعاهم مدخل هذا المقطع إلى الإيمان والتقوى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. ونجد في هذه الفقرة وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ونجد أن خاتمتها هي: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
المجموعة الأولى
فالفقرة هذه إذن تناقش مواقفهم من الدعوة الموجهة إليهم، ومن قبل كان عرض لمواقفهم، فهناك عرض، وهاهنا حوار مباشر. 4 - يلاحظ أن المعاني في الفقرة تتعانق ومن ثم تتكرر بدايات بعينها، فالآية الأولى في الفقرة مبدوءة بقوله تعالى وَلَقَدْ وكذلك الآية (92) وكذلك الآية (99) والآية (89) مبدوءة بكلمة وَلَمَّا وكذلك الآية (101) وفي الفقرة ورد قوله تعالى أَفَكُلَّما وبعد اثنتي عشرة آية قوله تعالى أَوَكُلَّما وهذا كله يعطينا مؤشرات على وحدة الفقرة كما سنرى. 5 - ومن خلال النقاش الطويل مع بني إسرائيل في قضية الإيمان بالقرآن والهدى المنزل من الله عزّ وجل، تتضح للمسلم مجموعة الأمور التي تصرف عن الإيمان بالقرآن، ويتعمق لديه حس المعرفة بالطبيعة اليهودية العابثة التي ستكون بينها وبين المسلمين مواجهات خلال العصور. والفقرة مع تعانق معانيها فإنها تكاد تنقسم إلى ثلاث مجموعات، كل مجموعة فيها درس، بل دروس، ولنبدأ عرض المجموعة الأولى: المجموعة الأولى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل، يقال قفاه به إذا أتبعه إياه، وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، والإخبار بالمغيبات وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي بالروح المقدسة، ومعنى القدس في الأصل الطهارة. وما هي هنا؟ للمفسرين أقوال، منهم من قال: إنه جبريل؛ لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب، ومنهم من قال: إنه الإنجيل؛ لأنه كالقرآن روح من عند الله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. (سورة الشورى) ومنهم من قال: إنه اسم الله الأعظم، الذي كان يحيي به الموتى. قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع جبريل .. أقول ويؤيد هذا الاتجاه قول الله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ .. (سورة الشعراء) فسمى جبريل في هذه الآية روحا، ويؤيد هذا الاتجاه ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أيد حسان بروح القدس؛ كما نافح عن نبيك». وفي بعض الروايات: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك». أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أي بما لا تحبه وتريده اسْتَكْبَرْتُمْ
[سورة البقرة (2): آية 88]
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ أي تعظمتم عن القبول والمتابعة، ففريقا كذبتموهم كعيسى ومحمد، وفريقا تقتلونهم كز كريا ويحيى. قال الزمخشري في قوله تعالى فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ «إنما لم يقل وفريقا قتلتم، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا، لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر». في الآية نعت بني إسرائيل بالعتو، والعناد، والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، آتى الله موسى الكتاب فحرفوه، وبدلوه، وخالفوا أوامره، وأولوها، وأرسل الرسل بعده يحكمون بشريعته، فكانوا يعاملونهم أسوأ معاملة، من التكذيب إلى القتل. ثم ختم الله أنبياء بني إسرائيل بعيسى عليه السلام، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، وأعطاه الله من المعجزات الكثير وأيده بجبريل، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وصدهم وعنادهم، وكل هذه المواقف من الأنبياء سببه أن الأنبياء يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، فالأمر بالنسبة لهم معكوس، إنهم بدلا من أي يضبطوا أهواءهم على شرع الله يريدون أن يكون شرع الله تابعا لأهوائهم، وأمة هذا شأنها لا يستغرب موقفها الكافر من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أشبه حال الكثيرين من أبناء عصرنا بهذا الذي عليه اليهود: إذا حدثتهم عن الإسلام بما يوافق هواهم قبلوا وإلا كذبوا؛ وإن كان لهم سلطان قتلوا، وما أكثر من يجعل الإسلام تابعا لأهواء الناس من الحاكمين والمحكومين، حتى صعب على أهل الإخلاص والعلم أن يبينوا الإسلام للناس كما هو، لكثرة مسايرة الأهواء فأين هذا من الحديث؟ «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به». همزة الاستفهام في قوله تعالى أَفَكُلَّما تفيد التوبيخ، والتعجب، وأي عجب أكبر من تكذيب الرسل، وقتلهم، والاستكبار عن متابعتهم، والسماع لهم، ومن يستحق اللوم أكثر من هؤلاء؟ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أي هي مخلوقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تفقهه، وقيل غلف تخفيف غلف جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية للعلوم، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقا لقبلنا، والقول الأول أقوى بدليل الحديث «وقلب أغلف مربوط على غلافه .. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر» وقولهم هذا يدل على طبيعة متبجحة تتبجح بالكفر، وتفتخر بقساوة القلب، وما أكثر ما تجد هذا النوع من الناس بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي بل طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم الذي اختاروه لأنفسهم. هذا رد
[سورة البقرة (2): آية 89]
من الله عليهم أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك؛ لأنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي فإيمانا قليلا يؤمنون، وهو إيمانهم ببعض الكتاب، أو ببعض الوحي، وقيل القلة بمعنى العدم و (ما) في الآية مزيدة أي لا يؤمنون بشيء. وقيل: فقليل منهم من يؤمن، والأقوى الأول. دلت الآية على أن الإيمان ببعض الكتاب أثر من آثار الطرد من رحمة الله، وأن سبب الطرد هو الكفر، وأن من أسباب الكفر اتهام الله، والتبجح في الوصف الكافر. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي ولما جاء اليهود القرآن المصدق للتوراة وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي على المشركين. ذكر ابن كثير عن ابن عباس: «أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم وَلَمَّا جاءَهُمْ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ أي فلما جاءهم ما عرفوه من الوحي والنبوة كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرئاسة فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ أي فلعنة الله عليهم. ووضع الاسم الظاهر بدل الضمير للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم، أو أن المعنى: أن لعنة الله على كل كافر، واليهود دخلوا في ذلك دخولا أوليا؛ لأنهم أحق الناس أن يؤمنوا. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الشراء هنا البيع. والبغي الحسد. فصار المعنى: بئسما باعوا به أنفسهم، باعتياضهم الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بدلا من تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك، البغي، والحسد، والكراهية لأن ينزل من الوحي على من يصطفيه من عباده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حسد أفظع من هذا النوع من الحسد لأنه معاندة مباشرة، واعتراض مباشر على الذات الإلهية فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي رجعوا بسبب سيرهم هذا مستوجبين مستحقين الغضب على الغضب. أي الغضب المترادف، غضب بسبب ما ضيعوا من التوراة، وغضب بسبب كفرهم بعيسى وبالإنجيل، وغضب بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، ومن ثم فقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (في الفاتحة) بأنهم اليهود لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه وينحرفون عنه
[سورة البقرة (2): آية 91]
ويعاندونه. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي مذل، إذ لما كان كفرهم سببه البغي، والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة، والصغار. أخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شئ من الصغار، حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال، عصارة أهل النار». وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي إذا قيل لليهود صدقوا بالقرآن واتبعوه قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة، ولا نقر إلا بذلك وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ يعني بما بعده وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ أي غير مخالف له، وفيه رد لمقالتهم، وتسفيه لهم، وإقامة حجة عليهم، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها فمن عرف الله وعرف كتابه؛ آمن بكل رسول له، وآمن بكل كتاب له أنزل أو ينزل وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بشرت به التوراة، والكتاب المنزل عليه يصدق ما في التوراة، فكيف يكفرون به! ولكنها ليست أول مواقفهم السيئة قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا، وعنادا، واستكبارا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، وهكذا أهل الباطل في كل زمن يفرون من الحق ويحتجون بما ليس حجة، بل بما به الحجة عليهم، فهم متناقضون وليس كمواقفهم وأفعالهم دليل على ما في قلوبهم، فهؤلاء ناس يدعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم وبسبب ذلك يرفضون الإيمان بالوحي الجديد، فأقام الله عليهم الحجة بأنهم ليسوا مؤمنين بما أنزل عليهم، بدليل أنهم كانوا يقتلون أنبياءهم، وبدليل أنهم عبدوا العجل في زمن موسى مع كل الآيات التي رأوها. قال تعالى مقيما عليهم تتمة الحجة: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ البينات هي الآيات الواضحات، والدلائل القاطعات، كالطوفان، والجراد، والقمل، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، لقد جاءكم موسى بالآيات الواضحات، ثم اتخذتم العجل معبودا من دون الله، من بعد ما ذهب موسى إلى الطور لمناجاة الله عزّ وجل، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه، من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، أو أنتم قوم من عادتكم الظلم، فإذا كان هذا شأنكم، وموسى موجود بين أظهركم، أتدعون الآن أن إيمانكم بالتوراة هو الذي يجعلكم لا
كلمة في هذه المجموعة وسياقها
تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن! إنها الطبيعة الكافرة في مواقفها وأفعالها وأقوالها. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من الفقرة. كلمة في هذه المجموعة وسياقها: 1 - بدأت المجموعة بآية مبدوءة ب وَلَقَدْ وانتهت بآية مبدوءة ب وَلَقَدْ وتأتي مجموعة بعدها مبدوءة ب وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ مما يوحي بأننا أمام مجموعة جديدة، وفي الآية الأولى من هذه المجموعة ورد قوله تعالى وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ وجاءت خاتمة المجموعة لتقول فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. 2 - في هذه المجموعة حوار مباشر مع اليهود في قضية الإيمان بالقرآن، ومناقشة الصوارف التي يطرحونها، وإقامة حجة عليهم فيها من خلال مجموعة الأمور التي تدل على أن هذا الموقف الظالم هو استمرار لمواقف ظالمة أخرى. 3 - وقد سبقت هذه المجموعة بخاتمة الفقرة السابقة: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكانت هذه المجموعة بمثابة استمرار لنقاش يفضح دعواهم الإيمان سابقا ولا حقا، واستكمالا للحجة عليهم، كما جاءت هذه المجموعة في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فقدمت لنا مجموعة معان سابقة تجعل إيمان هؤلاء ميئوسا منه. 4 - ونكرر أن هذه المجموعة جزء من جولة من النقاش المباشر مع بني إسرائيل في أجواء قوله تعالى وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وذلك بعد فقرات سابقة كان الكلام في الغالب يأتي بشكل غير مباشر في هذا الموضوع بالذات. فلننتقل إلى عرض المجموعة الثانية من هذه الفقرة: المجموعة الثانية: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ كرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى، ولأنها في المرة الأولى ذكرت في معرض، وهاهنا تذكر في معرض آخر خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا أي خذوا التوراة أخذا قويا واسمعوا ما أمرتكم به فيها، سماع قبول وعمل قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك،
أمروا أن يكون سماعهم سماع طاعة، فكان سماعهم سماع عصيان، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، فداخلهم حبه، والحرص على عبادته، كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله فِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الإشراب بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم، واعتقادهم التشبيه. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفر ومخالفة، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله؟؟. هم يدعون الإيمان، والإيمان يقتضي طاعة، وهم يعصون، هم يدعون الإيمان بالتوراة وليس في التوراة عبادة عجل، فأي إيمان هذا الذي يأمرهم بعبادة العجل وبمحبته؟ فإذا كان هذا هو إيمانهم الذي سول لهم مثل هذه القبائح فإنه هو هو نفس الإيمان الذي يسول لهم أفظع قبيح، وهو عدم الإيمان بالقرآن. وقوله تعالى بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ من باب الأسلوب التهكمي، لأن الأصل في الإيمان ألا يأمر صاحبه بمثل هذا وفي قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم. هذه أول حجة عليهم في هذه المجموعة تكمل حجج المجموعة السابقة عليهم في رفضهم الإيمان بحجة إيمانهم بالتوراة. ثم تأتي الحجة الثانية. ويتجه السياق إلى التحدي، ليضع اليهود على المحك في قضية الإيمان، ليثبت لهم بما لا يقبل الجدل أنهم غير مؤمنين، وأنهم كفرة، وذلك أنهم إذا كانوا صادقين في دعواهم من أنهم أهل الحق، وأنهم عباد الله المصطفون، وأنهم غير مكلفين بالاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي أن يكونوا هم المستحقين ثواب الله الذي أعده لأوليائه في الآخرة التي يؤمنون بها، والإنسان الذي يثق بهذا الثواب، ويعرف أن الآخرة خير من الدنيا، يتمنى هذه الآخرة، ويفضلها على الدنيا، وبالتالي فإن الموت أحب إليه من الحياة فهل هم كذلك؟ لا؛ إذن فهم كاذبون .. أو يقال: من كان مطمئنا إلى أنه على الحق، وإلى أن غيره ليس كذلك، فهو على استعداد لأن يدعو الله أن يميت من كان على الباطل هو أو خصمه، وهو يفعل هذا وهو مطمئن إلى النتيجة، فإذا كان اليهود يرفضون هذا، فذلك علامة على أنهم يعلمون حق العلم أنهم على الباطل.
[سورة البقرة (2): آية 94]
هذه هي الحجة الثانية التي يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم، وهذه الحجة يمكن أن تكون صياغتها إما على الشكل الأول، أو على الشكل الثاني، على حسب اتجاهات المفسرين في التفسير فلنر الآيات: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ معنى خالِصَةً أي سالمة لكم فالمعنى: إن كنتم تعتقدون أن الدار الآخرة لكم دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فيما تقولون، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصا من الدار ذات الشوائب، كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه. هذا هو المعنى العام المتبادر إلى الذهن عند تلاوة الآية، وهو الذي يرجحه ابن جرير، ولكن هناك اتجاها آخر لابن عباس في الآية يرجحه ابن كثير ونحن هنا ننقل عبارة ابن جرير، وكلام ابن كثير مع شئ من الحذف. قال ابن جرير: فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم، وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف .. فقال لفريق اليهود إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان، وقرب المنزلة من الله لكم، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذ تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا، ونصبها، وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خاصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون، ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم، فامتنعت اليهود من ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها؛ وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها .. ». وقال ابن كثير: فأما على تفسير ابن عباس أي في تفسير قوله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي ادعوا على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل قيل لهم كلام نصف: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة، ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك، وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة؛ لما يعلمون من كذبهم وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل بالموت
[سورة البقرة (2): آية 95]
لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ... ». وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي الموت أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي لن يتمنوه ما عاشوا بسبب ما أسلفوه من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتحريف كتاب الله وغير ذلك، وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب، وكانوا يستطيعون أن يكذبوا القرآن بإعلانهم أنهم يتمنون الموت ولكنهم لم يفعلوا. قال ابن عباس: «ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات». وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ومن علمه جل جلاله أنه تحداهم، ومن علمه أنه أخبر أنهم لن يتمنوه، وكان كما أخبر، وفي النص تهديد لهم. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ هذه تتمة الحجة عليهم في أنهم أهل باطل. ظهور هذا الحرص العظيم عندهم على الحياة، فهم كالمشركين في هذا الحرص، أو أشد حرصا من المشركين، فلو كان إيمانهم بالله واليوم الآخر سليما، واستقامتهم موجودة لما كانوا كذلك، والتنكير في لفظ حَياةٍ يدل على أنهم يرغبون بالحياة المتطاولة مهما كان نوع هذه الحياة، فهم أحرص الناس على طول العمر؛ لما يعلمون من مآلهم السيئ، وعاقبتهم الخاسرة عند الله لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. هل الضمير أَحَدُهُمْ يعود على المشركين أو على اليهود؟ قولان للمفسرين فعلى القول أنه يعود على اليهود يكون المعنى: أن اليهود أحرص الناس على الحياة وهم أحرص من المشركين عليها، حتى أن أحدهم يتمنى لو عمر ألف عام، وعلى القول بأن الضمير يعود على المشركين يكون المعنى: أن المشرك يود لو عمر ألف عام فهو حريص على الحياة ومع ذلك فاليهود أحرص منه على الحياة، وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار، والمشركون لا يعلمون ذلك. قال مجاهد: «حببت إليهم الخطيئة طول العمر». وقد دلت الآية على أن المؤمن الحق يحب الآخرة أكثر من الدنيا، ويحب الموت أكثر من الحياة، وقد أدبنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ألا نتمنى الموت لضر أصابنا، بل نقول: «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وأمتني ما كان الموت خيرا لي، واجعل لحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون». ثم قال تعالى:
[سورة البقرة (2): الآيات 97 إلى 98]
وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أي وما تعميره بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من خير وشر وسيجازي عليه. ثم تأتي الحجة الثالثة عليهم في هذه المجموعة: إن دين الله واحد، ومن أحب الله أحب ملائكته كلهم، وأحب رسله كلهم؛ فوالى الجميع ولم يعاد أحدا منهم، واليهود ليسوا كذلك، فهم يوالون في زعمهم رسولا ويعادون رسولا، ويوالون ملكا ويعادون ملكا، فها هم يعادون جبريل ويزعمون أنهم يوالون ميكائيل فأي طبيعة طبيعتهم؟ وأي تناقض عندهم؟ وإذ كانوا كذلك فذلك دليل على أنهم ناس منحرفون عن الحق وعن الربانية الخالصة فما هم بأهل الله وليسوا على دينه. قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. معنى كلمة جبريل عبد الله، وكذلك كلمة ميكائيل، وقيل بأن جبريل معناها خادم الله، وذكر جبريل وميكال بعد الملائكة والرسل من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة وفي عموم الرسل، ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا، ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته الرئيسية. وميكائيل موكل بالنبات والقطر، ذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وإنما قال فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل فإن الله عدو له؛ لإظهار أن من عادى رسولا فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له. فالمجئ بالاسم الظاهر بدل الضمير ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء، ومن عاداهم عاداه الله. وفي قوله تعالى في وصف جبريل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى
[سورة البقرة (2): آية 99]
قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أكثر من رد عليهم: 1 - أنه لا وجه لمعاداة جبريل حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه فلو أنصفوا لأحبوه، وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. 2 - وفي الآية رد عليهم من حيث إنهم حاربوا جبريل لأنه ينزل بالحرب والشدة فقيل: فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا ولكن للمؤمنين، فالمؤمنون يحبونه. إنه من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما بين يديه من الكتب المتقدمة، وهدى لقلوب المؤمنين، وبشرى للمؤمنين بالجنة، فهو رسول ملكي من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، ومن كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، ومن عادى الله وملائكته ورسله من الملائكة والبشر فإنه يكون كافرا ويعاديه الله. وقد ذكر ابن كثير روايات كثيرة لها علاقة بالآية، إما في سبب نزولها، أو في شاهد على مضمونها حول ما كان يصرح به اليهود من عداوة لجبريل. منها ما رواه الإمام أحمد من جملة محاورة طويلة لليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «قالوا: إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا. لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... وفي قصة إسلام عبد الله بن سلام كما رواها البخاري أنه عليه الصلاة والسلام عند ما ذكر جبريل قال عبد الله ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ عليه السلام هذه الآية، ونكتفي بهاتين الروايتين عما سواهما. وإذ قامت عليهم الحجة على أنهم على باطل من خلال ما رأينا تأتي الآية الأخيرة في المجموعة جازمة بأن هذا الرسول قد أنزلت عليه المعجزات الواضحات، وأن الفاسقين عن أمر الله وحدهم هم الذين يكفرون بهذه المعجزات، وبالتالي فهم لا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتابعونه قال تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي معجزات واضحات وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي هذا القرآن المعجز، وما حواه من معجزات، ونبوءات صادقات، ودقائق وخفايا لا يعلمها إلا الله، ومن ذلك ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والإخبار عما تضمنته
كلمة في المجموعة الثانية وسياقها
كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه على ذلك، فكان في ذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وهو شاهد صدق على أن محمدا رسول الله لمن أنصف من نفسه، ولم يسر في هلاكها بأن سار في طريق الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة سليمة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئا منه من آدمي، بل هو أمي لم يقرأ كتابا ومع ذلك فهو يخبرهم بما في أيديهم على وجهه، فلهم في ذلك عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون، وهذا بعض الأمر من شأن هذا القرآن، فلا يكفر بعد ذلك بهذه الآيات وهذا القرآن العظيم إلا الفاسقون أي المتمردون من الكفرة، وفي ذلك إشارة إلى أن من لم يؤمن من أهل الكتاب فإنه فاسق عن أمر الله متمرد عليه. عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد: ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، دلت الآية من خلال سبب نزولها ومن خلال لفظها على أن القرآن العظيم هو المعجزات القاطعات الدلالة، الواضحات البينات على رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام. فهو وحده كاف، ولا زال الخلق يكتشفون كل يوم جديدا من معجزاته، ومع ذلك فالله عزّ وجل قد أكرم رسوله صلى الله عليه وسلم بأنواع من المعجزات أخرى. وبهذه الآية تنتهي المجموعة الثانية: كلمة في المجموعة الثانية وسياقها: 1 - استقرت هذه المجموعة على قوله تعالى وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ كما استقرت المجموعة السابقة على قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ لاحظ التشابه بين الآيتين الخاتمتين: موسى جاء بالبينات فظلموا بها، ومحمد جاء بالبينات فكفروا بها ولقد استقرت كل من المجموعتين على آية فيها تقرير أن ما جاءهم كاف لإيمانهم، وكل من هاتين الآيتين قد جاء بعد حجج عليهم في شأن قضية الإيمان. وقد رأينا ذلك أثناء عرض المجموعتين. 2 - لقد جاءت هذه المجموعة لتكمل الرد على اليهود الذين يرفضون الإيمان بالقرآن
المجموعة الثالثة والأخيرة في الفقرة
بسبب من إيمانهم بالتوراة، فأبطلت دعاواهم الكاذبة من خلال ثلاث قضايا، ولذلك تجد أن أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم (قل) قد تكرر ثلاث مرات في المجموعة، وفي كل مرة ورد فيها الأمر: (قل) كانت هناك حجة ضدهم، ومن هنا ندرك الصلة المباشرة بين المجموعة الثانية والمجموعة الأولى، ومحل ذلك في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. لا يخفى فلننتقل إلى المجموعة الثالثة. المجموعة الثالثة والأخيرة في الفقرة: تتألف هذه المجموعة من أربع آيات فلننقلها ليتضح لنا سياقها ومحلها مع فقرتها: [سورة البقرة (2): الآيات 100 الى 103] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
كلمة في هذه المجموعة وسياقها
كلمة في هذه المجموعة وسياقها: 1 - يلاحظ أن هذه الفقرة كلها بدأت بآية فيها: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ. وأن هذه المجموعة بدأت بقوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فكأن هذه المجموعة تكمل ما بدأته المجموعة الأولى، وحرف الواو في (أو كلما) كأنه يعطف الآية الأولى في هذه المجموعة على ما ورد في الآية الأولى من المجموعة الأولى. 2 - وفي المجموعة الأولى ورد قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ... والآية الثانية من هذه المجموعة هي قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. فالتكامل في الفقرة في مجموعاتها الثلاث واضح، خاصة وقد رأينا كيف أن وحدة المجموعتين الأولى والثانية واضحة، وتكاملهما واضح، وتأتي هذه المجموعة لترينا بوضوح وحدتها، وأنها في نفس الوقت جزء من كل ما تحتويه فقرتها. 3 - يأتي بعد هذه المجموعة خطاب مباشر لأول مرة في سورة البقرة بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .... وهذا يدلنا على أننا أمام فقرة جديدة، ولكنه في الوقت نفسه ندرك أن هذه المجموعة قد أكملت الحجة على بني إسرائيل، إن في دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم، أو في رفضهم الإيمان بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام، إنه لم يتوجه الخطاب لأهل الإيمان بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعد هذه المجموعة إلا بعد أن قامت الحجة على اليهود، وعرفت هذه الأمة واقعهم، عندئذ آن الأوان أن يتوجه الخطاب لأهل الإيمان أن يتحرروا من كل مظهر من مظاهر التبعية لليهود، بل ليناقشوا ويحذروا ويتحدوا ويعلموا ويتميزوا ويعملوا ويعتبروا .. 4 - في المجموعة الثانية وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ .. وفي هذه المجموعة بيان لطبيعتهم الغادرة، وفضح لهم كيف أنهم يرفضون رسالة الرسول
العرض والتفسير
المصدق لما معهم، وكيف أنهم في الوقت نفسه يتبعون الشياطين والسحر، بينما هم يزعمون كما عرضته علينا المجموعة الأولى أنهم لا يتبعون القرآن؛ لأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وبذلك كملت المجموعات الثلاث بعضها بعضا، فكانت فقرة واحدة إذ بمجموعها بينت كيف أنهم يتركون ما أمروا به، ويقتلون أو يكذبون من أمروا بمتابعته، ويتابعون من أمروا بمحاربته، ويعملون ما أمروا بتركه. ولنبدأ عرض الآيات: العرض والتفسير: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نبذه أي نقضه ورفضه وقوله فَرِيقٌ مِنْهُمْ يدل على أن الذي يتولى النقض هم البعض، قال الحسن البصري: «نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غدا». أقول: فعلينا أن نلاحظ دائما في التعامل معهم هذا المعنى، فمن لم يضع هذا المعنى في حسابه يكون من الغافلين، صحيح أن الذي ينقض العهد فريق، ولكن الآخرين يؤيدون النقض، ويقبلونه ويرضون به، إن لم يكن علنا فسرا أو ضمنا، هذا ما نأخذه من الآية بشكل دائم، ولكن إذا ربطنا هذه الآية بقوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فإنه يخرج معنا معنى مرتبط بموقفهم من الرسل، وقد سجل هذا المعنى ابن كثير: حين قال: «وقال مالك بن الصيف (من اليهود) حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا» فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ... فكأن الفريق على هذا التفسير هو الجيل من أجيالهم. قال ابن كثير: «قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته». بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إذا نظرنا إلى هذه الجملة من خلال التفسير الأول كان معناها: بل أكثرهم لا تظهر عليه ثمرات الإيمان من تمسك بالعهود ووفاء لها، وإذا نظرنا إلى الآية من خلال التفسير الثاني كان المعنى: بل أكثرهم لا يؤمنون بمن أخذ عليهم
[سورة البقرة (2): آية 101]
العهد أن يؤمنوا به، ومن ثم قال السدي فيها: «(أي) لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم»، وقال النسفي: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالتوراة وليسوا من الدين في شئ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ولا يبالون، وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ. أي: ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما معهم من التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أي: طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم وهو التوراة بما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو كأنهم ليسوا أهل كتاب سابق يعلمهم، والذين أوتوا الكتاب في الآية هم اليهود، ونبذ الكتاب وراء الظهور مثل لتركهم له وإعراضهم عنه، مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه، ويلاحظ أن كلمة (فريق) تكررت في هذه الآية والتي قبلها، هناك في معرض نقض الميثاق، وهنا في معرض ترك اتباع التوراة في موضوع الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين الآيتين ارتباط لا يخفى على اللبيب، ثم تأتي الآية الثالثة وارتباطها بما قبلها واضح لوجود حرف العطف إذ تبتدئ الآية بقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ فصار التقدير نبذ اليهود كتاب الله، واتبعوا إملاءات الشياطين، وكتب السحر، والشعوذة هذه طبيعتهم: إعراض عما كلفوا به مما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، واتباع لما حظر عليهم مما يظنون أنه ينفعهم في دنياهم. وقبل أن نبدأ شرح الآية نحب أن نلفت النظر إلى قضيتين: الأولى السحر، والقضية الثانية حول هاروت وماروت، فالآية في سياقها تعرضت لهاتين القضيتين. وقد جرى خلاف كثير بين العلماء في تفسير الآية بسبب هاتين القضيتين ونحن سنعقد فصلين حولهما بعد أن ننهي عرض المقطع حتى يبقى عرض السياق مستمرا وسنقتصر على أدنى ما يلزم من كلام للعرض فليلاحظ ذلك. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ هذه الآية معطوفة على ما قبلها فبنو إسرائيل نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا .. قال ابن كثير: أي واتبعت اليهود- الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به، وتتحدث به الشياطين على ملك سليمان، وعداه ب (على) لأنه ضمن (تتلو) تكذب ومعنى عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. أي: على عهد ملكه وفي زمانه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا هذه تبرئة لسليمان من الكفر والسحر، وحكم على الشياطين بالكفر باستعمال السحر وتعليمه يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. أي: يعلم الشياطين الناس
[سورة البقرة (2): آية 103]
السحر، ومن ثم صدر الحكم عليهم بالكفر بهذا السبب مع أنهم كفار في الأصل، يفهم من ذلك أن السحر الذي هو سحر يلازمه الكفر. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ للمفسرين في (ما) من قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ مذهبان: الأول أنها نافية، والثاني على أنها اسم موصول، وعلى أنها نافية يفهم النص مجموعة فهوم، وعلى أنها اسم موصول يفهم النص مجموعة فهوم، وسنعقد لذلك فصلا أما الآن فنقول: إن إحدى الاتجاهات الرئيسية في النص: أن هذين ملكان أنزلهما الله- عزّ وجل- ليعلما الناس السحر ليستطيعوا أن يفرقوا بين السحر والمعجزة، ومن ثم فإنهما كانا يقولان لمن يتعلم إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ بأن تعمل بالسحر وتسحر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر سوء منظر، أو خلق أو بغضة أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة، والمرء هو الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. أي: وما هم بضارين بالسحر أحدا إلا بعلم الله ومشيئته وقضائه وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. أي: يضرهم في دينهم وأخراهم وليس له نفع يوازي ضرره أصلا. دل ذلك على أن تعلم السحر ضرر محض قال النسفي: وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية. أقول: المطالعة في كتب الفلسفة حرام على من ليس عنده مناعة ضدها، وهذا بحث يقتضي فصلا وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من نصيب، فالخلاق هو النصيب وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. أي: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لو كان لهم علم بما وعظوا به، ولكنهم لا علم عندهم، إنما نفى العلم عنهم مع إثباته لهم بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا لأن معناه لو كان عندهم علم يعملون به، جعلهم حين لم يعلموا بعلمهم كأنهم لا يعلمون وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله والقرآن، واتقوا الله باجتناب المحارم وترك ما هم عليه من نبذ كتاب الله، واتباع كتب الشياطين، لكان ثواب الله خيرا لهم مما هم فيه، فالمثوبة الثواب، وقد حكم عليهم بالجهل بقوله لَوْ
كلمة في الفقرة وسياقها
كانُوا يَعْلَمُونَ لتركهم العمل بالعلم. كلمة في الفقرة وسياقها: هذه الفقرة هي إحدى فقرتين تواجهان بشكل مباشر بني إسرائيل في أقوالهم وأفعالهم في قضية الإيمان، والملاحظ أن هذه الفقرة انتهت بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولو أننا رجعنا إلى مدخل هذا المقطع لوجدنا قوله تعالى هناك: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فالشئ الذي طالبتهم به الآيتان هناك، جاء النقاش على أشده معهم في شأنه في هذه الفقرة. وهكذا رأينا أن ذلك المدخل الذي طالبهم بأوامر ونواه، قد جاء الفصل الأول، وفقرتان من الفصل الثاني، كتعليل وتفصيل للمطالبة بتلك الأوامر والنواهي. ثم تأتي فقرتان في الفصل الثاني لتواجها اليهود مواجهة في قضية الإيمان بالقرآن، ولتحددا لهذه الأمة طريقها في العلاقة مع بني إسرائيل، وليعطي المقطع كله دروسا لهذه الأمة في كيفية التعامل مع الأوامر والنواهي، ولننتقل إلى الفقرة الثانية في هذه المواجهة أي إلى الجولة الثانية وهي الفقرة الرابعة في الفصل الثاني من المقطع والذي بدايته أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... والذي ينصب الكلام فيه على قضية الإيمان: الفقرة الرابعة من الفصل الثاني من المقطع الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (104) إلى نهاية الآية (121) ثم تأتي بعد ذلك آيتان هما خاتمة المقطع فينتهي المقطع بنهاية الآية (123) وهذه هي الفقرة مع خاتمة المقطع: [سورة البقرة (2): الآيات 104 الى 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
كلمة في هذه الفقرة وسياقها
كلمة في هذه الفقرة وسياقها: لأول مرة تتصدر كلمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب المؤمنين في سورة البقرة وذلك بعد الدروس الكثيرة التي أخذها المؤمنون، وبعد الجولة المباشرة مع بني إسرائيل في قضية الإيمان، وجاء الخطاب مطالبا أهل الإيمان بالتحرر من أسر متابعة اليهود حتى في التعابير، ومحذرا من الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الأدب مع الله. وجاء السياق معرفا أهل الإيمان على العواطف الحقيقة للكافرين تجاه المسلمين، وعارضا لكثير من الأقوال والأفعال الخاطئة والموقف الصحيح منها. ومن ثم فإن الفقرة تناقش مجموعة
الأوهام والتصورات الأساسية عند اليهود والنصارى من كون الشرائع السابقة لا يجوز نسخها، ومن كون الجنة حكرا على هؤلاء مع انحرافهم عن الدين الحق! ومن كون أهل كل باطل لا يرون غيرهم على شئ!، ومن ادعاء الولد لله، ومن طلب سماع كلام الله واقتراح الآيات، ومن كون بقايا أهل الكتاب كلهم على هوى ورغبة في أن يحملوا الناس على أهوائهم. وفي الفقرة توجيهات لهذه الأمة تساعدها على تحمل عبء الصراع مع الكفر وأهله، وفيها موازين تعرف بها حقائق وكليات، ويتضح في هذه الفقرة تماما أن هذا المقطع وإن كان في سياقه العام يدعو بني إسرائيل للصلاح والإصلاح، ولكن الهدف الأول هو هذه الأمة، وإصلاحها، وتربيتها، وتعليمها، والارتقاء بها. إن هذه الفقرة مبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو الخطاب الأول بهذه الصيغة في القرآن، فكأن ما قبله إنما كان من أجل وجود الشخصية المؤمنة، حتى إذا وجدت الشخصية المؤمنة من خلال كل المعاني السابقة أصبحت مؤهلة للخطاب الخاص بها. ومن هنا فإننا نستنتج أن ما قبل هذا الخطاب ضروري في قضية الإيمان، فالإيمان العملي الكامل غير الإيمان النظري الذي لا يواجه به صاحبه كل شئ حوله بعقلية المؤمن. ونتيجة لذلك فإننا نقول: إن هذه الفقرة من الأهمية في المكان الكبير على اعتبار أنها أول خطاب مباشر للمؤمنين بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فالمعاني الموجودة فيها والتوجيهات ذات أهمية خاصة: ففيها وجهت الأمة المسلمة نحو الاحتراس الكامل من متابعة غيرها، أو الوقوع في أسر مصطلحاته، وفيها عرفت الأمة أن عدوها لا يريد بها خيرا، ولا يريد لها خيرا بل ينفس عليها أي خير يصيبها من ربها، وفيها وجهت الأمة نحو التسليم المطلق لله في أحكامه وشرائعه، ينسخ ما شاء ويثبت ما شاء؛ فهو ذو القدرة المطلقة والعلم المحيط، وفيها وجهت الأمة نحو الاحتراس من السير على طريق بني إسرائيل في تعنتهم وسؤال رسولهم ما لا ينبغي، وفيها وجهت الأمة نحو الحرص على الإيمان وعدم استبداله بالكفر، وفيها عرفت الأمة على الرغبة الملحة عند أهل الكتاب عامة من أجل صرف هذه الأمة عن دينها، وفيها وجهت الأمة نحو الصلاة والزكاة كمرتكزين رئيسيين للبقاء في هذا الدين، وفيها تمت الدلالة على الطريق للإيمان بالكتاب وهو تلاوته حق التلاوة. إن كل قضية من القضايا التي تعرضت لها الفقرة ذات أهمية بالغة جدا. فأية غفلة عنها، أو جهل بها، أو انحراف عن الأخذ بها؛ يترتب عليه شر كبير وبلاء مستطير.
التفسير
إن دروس ما مر من قبل في هذا المقطع تأتينا هنا بشكل مكثف فلنعرف ذلك. التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا ذكر لي بعض الدارسين للغة العبرية أن كلمة (راعينو) ومشتقاتها لا زالت تستعمل في اللغة العبرية الحالية كلمة سباب. هذه الكلمة يشبهها في اللغة العربية من حيث اللفظ مع اختلاف المعنى كلمة (راعنا). فكان اليهود يستعملون هذه الكلمة في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متسترين بمعناها العربي، وهم يريدون الإساءة. وكان المسلمون يظنون باليهود خيرا فتابعوهم على ذلك؛ فأنزل الله الآية. وبعض المفسرين ظنوا أن سبب النهي عن استعمال كلمة (راعنا) أن اليهود كانوا يستعملونها ويريدون (الرعونة) ولا يبعد أن يكون هناك صلة بين اللغة العبرية وهذا المعنى في الاشتقاق. قال السدي: «كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: ارعني سمعك، واسمع عير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء تفخم بهذا؛ فكان ناس منهم يقولون اسمع غير مسمع (غير سامع)، وهي كالتي في سورة النساء فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا». وقال الحسن: الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام. قال ابن كثير: نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا ويورون بالرعونة ... والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ... أخرج الإمام أحمد .. عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم». وأخرج أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تشبه بقوم فهو منهم».
قال ابن كثير: ففيه دلالة على النهي الشديد، والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار، في أقوالهم، وأفعالهم ولباسهم، وأعيادهم، وعياداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وقال النسفي في الآية: كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين (راعنا) افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها وهو انظرنا، من نظره إذا انتظره. يقول صاحب الظلال: «فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة، فيحتالون على سبه- صلوات الله وسلامه عليه- عن هذا الطريق الملتوي الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء، ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته؛ كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه، واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم، كما يشي بسوء الأدب وخسة الوسيلة وانحطاط السلوك، والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه، وللجماعة المسلمة، ودفاعه سبحانه عن أوليائه، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين». أقول: إن هذه الحادثة تدل على أن اليهود لا يتركون فرصة يسيئون إلينا بها إلا اهتبلوها مهما كانت هذه الفرصة صغيرة أو خسيسة، وإن أمثالهم كثيرون، وعلينا أن نكون يقظين بحيث لا نعطي عدوا فرصة. وأول درس يستفاد من الحادثة والآية: أن يحذر المسلم من خداع الألفاظ التي يطلقها الكافرون ومن متابعتهم عليها، ولعل غياب هذه الحقيقة عن أذهان المسلمين كان من أعظم أسباب كوارثهم، فقد تابعوا أعداء الله والإسلام في شعاراتهم وألبستهم وعاداتهم وأفكارهم وتقويمهم للأشياء، وإذا بآلاف الألوية الكافرة ترتفع في أرض الإسلام، ويلتف حولها أبناء المسلمين، واللواء الحقيقي للمسلم لواء الله ورسوله لم يعد يحمله إلا القليل، ولو أن المسلم عقل الانحراف النفسي والعقلي للكافرين عامة لأدرك خطر المتابعة، ولو أن المسلم عقل الوضع النفسي والعقلي للكافرين عامة لعرف أن هؤلاء
[سورة البقرة (2): آية 105]
الكافرين جميعا أعداؤه، وأنهم لا يريدون به خيرا، ولا يريدون له خيرا كما سنرى في الآية اللاحقة للآية التي نحن بصددها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا أي وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة، وليكن سماعكم سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ولليهود وأشباههم من الكافرين جميعا ممن يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسيئون الأدب معه، ويرفضون السماع له عذاب مؤلم. أخرج ابن أبي حاتم: «أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه». ثم تأتي الآية التالية للآية الأولى لتؤكد أن الكافرين- سواء كانوا كتابيين أو مشركين- يكرهون أن يصيب المسلمين أي خير من ربهم. فهي تكمل الآية السابقة فكأنها تقول للمسلم: كيف تتابع أعداء الله وتقلدهم وتترك طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وأعداء الله يعادونك، ويحاربونك، ويكرهون لك الخير: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ الخير هنا الوحي، وبين الله عزّ وجل في هذه الآية شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من تقليدهم ومحاكاتهم؛ ليقطع المودة بيننا وبينهم. ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ المراد بالرحمة هنا النبوة والوحي والشريعة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وفي هذا إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم على الرسول وعلى المستجيبين له. بين سياق المقطع الانحراف الخطير الذي وقع فيه أهل الكتاب، فكان مقتضى هذه المعرفة أن يكون المسلم في علاقته بأهل الكتاب- فضلا عن غيرهم- على حذر، وخاصة في المتابعة والطاعة، وكيف لا وقد خصت هذه الأمة بالخير وبالفضل، أفتترك هذه الأمة هذا الخير وهذا الفضل وتتابع أعداءها ممن لا خير عندهم ولا فضل ولا يريدون بهذه الأمة خيرا. ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لم تظهر حكمة مجئ هاتين الآيتين في هذا السياق وفي هذا المكان كما ظهرت في عصرنا. إذ في العصور المتأخرة صاغ أهل الكتاب في زعمهم نظريات النقد الرئيسية الكاذبة لإسلامنا، وكان منها نقد الإسلام من خلال موضوع النسخ، فكان عملهم استمرارا لعمل أسلافهم في زمن النبوة. فأسلافهم في زمن النبوة نقدوا الإسلام من خلال ما ينسخ من حكم ويوضع من حكم جديد، وأتم هؤلاء النظرية فرفضوا أن يكون الإسلام ناسخا لما قبله؛ بحجة أن دين الله واحد والله واحد، فلماذا ينسخ الله شرعه؟ فكون النسخ موجودا في الشريعة الإسلامية، وكون الشريعة الإسلامية تعتبر نفسها ناسخة لما قبلها؛ فذلك علامة على أن هذه الشريعة ليست من عند الله. ومن أعظم من تولى الرد عليهم في هذا الموضوع وفي غيره رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه «إظهار الحق» الذي لم يؤلف في الإسلام مثله في موضوعه، إذ أقام عليهم الحجة من كلامهم، ومن نصوص ديانتهم التي يعتمدونها في مجموع المسائل التي أثاروها. فبرهن في موضوع النسخ من خلال ما يعتمدونه على أن التوراة نسخت أحكاما كانت قبلها في بني إسرائيل، وأن الإنجيل قد نسخ أحكاما في التوراة، بل إن رسل المسيح- في زعمهم- قد نسخوا أحكاما في الإنجيل، وأن التوراة قد نسخت أحكام فيها بأحكام أخرى. بعد هذه المقدمة أصبح بإمكاننا أن ندرك محل هاتين الآيتين في سياق الفقرة: خص الله هذه الأمة بالفضل والخير؛ بإنزاله عليها شريعته الأخيرة الناسخة لسواها. والكافرون الذين لا يريدون لهذه الأمة خيرا ينكرون أن تنسخ شريعة لاحقة شريعة سابقة. وبالتالي فإنهم يعتبرون الإسلام باطلا. وهم إذ يزعمون هذا الزعم فكأنهم يعتبرون الله عاجزا، وهم بذلك لا يعرفون إحاطة علم الله، فتأتي الآيتان لترد هذا كله وتبطله. ففي الآيتين تأكيد لفضل الله على هذه الأمة وتوضيح، وهذا يستدعي من هذه الأمة أن تعرف فضل الله عليها، فلا تستجر إلى متابعة أهل الضلال، بل أن تشكر الله على نعمه بالسماع والمتابعة، وبهذا نعرف صلة هاتين الآيتين بسياق الفقرة التي بدايتها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ولنبدأ عرض الآيتين: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها طعن اليهود في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت هذه الآية. والنسخ لغة: التبديل. وشريعة: بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلا في حقنا، بيانا محضا في
[سورة البقرة (2): آية 107]
حق صاحب الشرع. والإنساء: أن يذهب بحفظها من القلوب نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه، أي في الحكم بالنسبة لمصلحة المكلفين إما أنفع وإما أرفق وإما أكثر ثوابا. قال قتادة: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله وعلى أفضل منه أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أموركم ويدبرها، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أموركم وَلا نَصِيرٍ أي ناصر ينصركم من العذاب. قال ابن كثير: «يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء؛ يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ؛ فيأمر بالشئ لما فيه من المصلحة التي يعلمها ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله، في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم- لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيرى؛ أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته. فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته؛ وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره ونهيه، قلت (القائل ابن كثير) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد. فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما
[سورة البقرة (2): آية 108]
يريد مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدقونه». وفي الصلة بين قوله تعالى ما نَنْسَخْ وبين ما قبلها زيادة على ما ذكرنا، ما قاله الألوسي: «ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ؛ حيث أقر الصحابة رضي الله عنهم مدة على قول (راعنا) وإقراره صلى الله عليه وسلم على الشئ منزل منزلة الأمر به والإذن فيه ثم إنهم نهوا عن ذلك، فكان مظنة لما يحاكي ما حكي في سبب النزول، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كاد ترفع الطغام رءوسها وتقول: «إن من الفضل عدم النسخ .. فأتى سبحانه بما ينكس رءوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم، وجوده العميم، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا، عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر» اه. وفي حكمة النسخ يقول صاحب الظلال: «فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال في فترة الرسالة هو لصالح البشرية ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها» اه. وسنعقد للنسخ فصلا بعد أن ننهي عرض المقطع ولننتقل إلى آية أخرى في الفقرة وهي: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. (أم) في اللغة العربية تأتي متصلة، وتأتي منفصلة، تأتي متصلة إذا سبقت بهمزة استفهام وجاءت حرفا معادلا له تقول (أجاز زيد أم خالد) وتأتي منفصلة إذا لم تسبق بشيء من هذا لفظا أو تقديرا، وتكون في هذه الحالة حرف إضراب تقديره (بل) قال الألوسي: جوز في (أم) هذه أن تكون متصلة وأن تكون منقطعة، ثم أخذ يوجه الاتصال والانقطاع، وذكر كيف أن بعضهم جزم بالانقطاع، والألوسي احتمل الاتصال لسبق (أم) بقوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. ورده بعضهم لأن الخطاب في الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما الخطاب في الآية الثانية.
الوقفة الأولى حول أهمية هذا التوجيه
للمؤمنين. والذي أرتاح إليه أن (أم) متصلة ولكن همزتها هي التي مرت معنا في ابتداء الفصل في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ. في الفصل الأول من هذا المقطع: سئل موسى من قبل بني إسرائيل أن يريهم الله جهرة، وسألوا موسى أن يخرج الله لهم من بقول الأرض، وفي الفصل الأول تبينت معالم الطبيعة اليهودية، ثم جاء الفصل الثاني مصدرا بقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. وسار السياق موئسا المسلمين من إيمان هؤلاء ثم جاء قوله تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ .. ناهيا المسلمين أن يسألوا كما سأل بنو إسرائيل ولكن بعد أن اتضحت النفسية اليهودية بشكل أجلى. فالفصل في سياقه الرئيسي يقول للمسلمين: لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم، ولا تسألوا رسولكم كما سألوه، هذا على القول بأن (أم) متصلة. أما على القول بأنها منفصلة فإن المعنى يكون: بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل. وفي حالة اتصال (أم) أو انفصالها فالإنكار هو المقدر ولنا عودة على السياق: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قال ابن كثير: «أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو إنكاري» وقال: والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ أي ومن يشتر الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم، والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم، بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر ولنا عند هذه الآية وقفتان: الوقفة الأولى حول أهمية هذا التوجيه: إن بني إسرائيل عند ما بعث لهم موسى عليه السلام كانوا أمة مستعبدة، ثم تخلصوا من العبودية وبقوا حدثاء عهد بها، وكانوا حدثاء عهد بالكتاب، ومن ثم كانوا يسألون ما لا يسأل، ويتعنتون ويخالفون، وقد أعطى الله هذه الأمة دروسا عن
الوقفة الثانية في سياق هذه الآية
هؤلاء. ولقد كونت هذه الأمة في قلب الجزيرة العربية حيث لا عبودية سابقة، فانتفت الظروف وأخذنا الدروس، فالمفروض أن تكون أمتنا بمنأى عن الأسئلة الساذجة أو المتعنتة أو التي لا تليق بالأمة الربانية. وأهم الأسئلة التي وجهها بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) في هذا السياق تعليقهم الإيمان به برؤية الله جهرة، وهو طلب متعنت ظالم، وطلبهم طعام الرخاء، وهو طلب أمة مسترخية، والأمة المسترخية لا تستطيع تحمل أعباء جهاد طويل المدى. إن هذا التوجيه يراد به من الأمة أن تبتعد عن مثل هذا النوع من السير الخاطئ الذي سارت به بنو إسرائيل، واقرأ هذه النصوص لترى كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نماذج صدق في كل حق: في الصحيحين عن المغيرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» ... وتنفيذا لمثل هذا ولمثل ما ورد في الآية: يقول البراء بن عازب: «إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشئ فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب» أي نتمنى أن يأتي الأعرابي فيسأله فنتعلم. وقال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه صلى الله عليه وسلم إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... اه. يعنى هذا وأشباهه فما أعظم هذا الجيل! فهم لم يكتفوا ألا يسألوا طلب تعنت بل لم يسألوا حتى على شاكلة أخرى إلا حيث الضرورة القصوى. الوقفة الثانية في سياق هذه الآية: - إذا اعتبرنا (أم) في الآية منقطعة فإن محل الآية مع ما قبلها وما بعدها على الشكل التالي: نهى الله المؤمنين أن يحاكوا اليهود في أدنى شئ، وأمرهم أن يسمعوا وبين لهم أن الكافرين جميعا لا يرغبون لهذه الأمة أدنى خير من الله، بينما خص الله عزّ وجل هذه الأمة بمزيد فضله؛ بأن أنزل عليهم رسالته وخاتمة شرائعه، وبذلك نسخت هذه الشريعة الشرائع السابقة، ومن ثم جاءت آية النسخ وما بعدها لتعلل للنسخ كله رادة
على أهل الكتاب. وفي هذا السياق تأتي هذه الآية أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا .. ناهية المسلمين عن السؤال المتعنت، مبينة لهم أن بداية السير في الضلال هو السؤال المتعنت، فالآية تأتي بعد أن بين الله عزّ وجل لهذه الأمة فضله عليها؛ لتدلهم على ما لا ينبغي فعله، قياما بشكر الله، ولتبين لهم أن مما تسلب به هذه النعمة العظيمة عنهم هو السؤال المتعنت كسؤال قوم موسى لموسى. إذا تقرر هذا فلنلاحظ: بدأت هذه الفقرة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ثم بعد آيات جاء قوله تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إن السياق كأنه يقول لنا: إنكم إن واتيتم اليهود بمثل (راعنا) فستصلون في النهاية إلى أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى؛ لأنهم لا يريدون بكم خيرا، ويثيرون الشبهات والشكوك ضد إسلامكم ودينكم من مثل شبهة النسخ وغيرها. ولو أننا تتبعنا واقع أبناء المسلمين الذين لا يكتفون بالسؤال كما سئل موسى من قبل بل يقولون ما هو أفظع، لو أنك تتبعت: ما الذي أوصل المسلمين إلى مثل هذا لوجدته تلك البدايات من المواتاة لأعداء الله في أشياء ظاهرها صغير، ومن ثم تأتي الآية اللاحقة لتبين كيف أن أهل الكتاب يودون لو أنهم أرجعونا كفارا، فأمام هذه الرغبة فإنه لا ينبغي أن نواتيهم في بدايات توصلنا إلى نهايات خطيرة نضل بها عن سواء السبيل. هذا ما نراه في محل هذه الآية ضمن السياق إذا اعتبرنا أن (أم) منقطعة. قال الألوسي: والمراد على التقديرين (اتصال «أم» أو انفصالها) توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في النسخ، فكأنه قيل لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها؛ فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها فضلا عن السؤال. يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك ولم يقل سبحانه كما سأل أمة موسى أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره- وإذا اعتبرنا أن (أم) متصلة على الوجه الذي ذكرناه من أنها متصلة بالهمزة في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ فإن السياق يكون على الشكل التالي:
يبدأ الفصل بقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ثم يسير الفصل مبينا فساد قلوب هؤلاء ليستقر على الأمر بعدم محاكاة هؤلاء في شئ مبينا كراهيتهم لإنزال الله على هذه الأمة وحيا واصلا إلى سنة الله في النسخ، فشريعة نسخت وشريعة وجدت، فإذا استقر السياق على هذا جاء قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... فصار السياق الرئيسي: لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم، ولا تسألوا كما سألوا رسولهم، وكأن الطمع بإيمانهم مع ما هم فيه قد يؤدي إلى سؤال رسولنا أسئلة في غير محلها. ثم تأتي بقية الفصل وفيها تعليل لكلا القضيتين لعدم الطمع بالإيمان ولعدم السؤال فيأتي بعد ذلك. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ... وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ... وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ ... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ... وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ... وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... فناس هذه مواقفهم وهذه أقوالهم كيف يتابعون؟ وكيف يطمع بإيمانهم؟ وكيف يكونون محل قدوة للمسلمين؟
[سورة البقرة (2): آية 109]
إنه على القول بأن (أم) حرف معادل للهمزة في قوله تعالى: «أفتطمعون .. » نرى وحدة الفصل الثاني في هذا المقطع بشكل واضح، ولكنه اتجاه لم نره في كتب التفسير التي اطلعنا عليها، ولذلك فنحن نسجله مع ذكر انفرادنا به ولننتقل إلى ما بعد ذلك في الفقرة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ في هاتين الآيتين شرح حال من أحوال أهل الكتاب بالنسبة لنا، والموقف المكافئ لذلك، ومحل هاتين الآيتين في السياق أنهما بمثابة البيان والتفصيل لحكمة النهي عن المتابعة الوارد في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا والوارد في قوله تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... كما أنهما تعليل لعدم الطمع في الإيمان الوارد في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... إذ السياق واحد. قال ابن كثير في تفسير الآيتين: يحذر تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه. أقول: إن الآيتين فيهما شرح حال، وإلزام بموقف .. - أما شرح الحال فهو: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أي أن يردوكم، وهل المراد بالكثير هنا العلماء منهم أو العلماء والعامة، وبالتالي فلا يخرج منهم إلا من آمن سرا. قولان للمفسرين. مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ هذه علة الرغبة في أن يردونا مرتدين. والحسد هو: الأسف على الخير عند الغير، والحسد من عند النفس هو الحسد النابع عن شهوة النفس لا من قبل التدين والميل مع الحق، فحسدهم متبالغ منبعث من أصل أنفسهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ أي من بعد علمهم بأنكم على الحق، كانوا يعلمون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غير بني إسرائيل. قال الألوسي: «فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد عنه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق، إلا أن الحظوظ النفسانية، والشهوات الدنية، والتسويلات الشيطانية؛ حجبت من حجبت عن الإيمان، وقيدت من قيدت في قيد الخذلان» اه هذا هو شرح حال الكثيرين من أهل الكتاب. فما هو الموقف الذي ألزمنا به؟ - وأما الموقف الذي ألزمنا به فهو: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا أي فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الأمر هنا إما مفرد الأوامر وإما مفرد الأمور. فإن كان مفرد الأوامر فالمراد بالآية حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بالقتل والقتال. وفي إسناد صحيح عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. أما إذا كان الأمر في الآية مفرد الأمور فالمراد به القيامة، أو المجازاة يومها، أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، أو المراد به نصر الله وفتحه، وعلى القول الأول فالآية منسوخة بآيات القتال، وعلى القول الثاني فالآية محكمة غير منسوخة، وعلى القول بأنها محكمة فنحن مأمورون بالصفح والعفو حتى يأتي النصر والفتح والغلبة، وعندئذ فإن حكم الله ينفذ فيهم، ومحاكمنا تحاكم شططهم، وسلطتنا تمنع تجاوزاتهم، وتحول دون مكرهم، وتحظر مؤسساتهم التي يقيمونها لفتنة المسلمين وخديعتهم. وعلى القول بأنها محكمة فهي واحدة من آيات محكمات في شأن التعامل مع أهل الكتاب، وقوتنا وضعفنا هي التي تحكم موقفنا وخطتنا، وضرورات حركتنا هي التي تحدد الموقف المختار ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم، ويقدر على الإتيان بما
[سورة البقرة (2): آية 110]
شاء من أمر. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ قال الألوسي: أمرهم بالمخالقة والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية؛ لأنها تدفع عنهم ما يكرهون وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه عنده إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يضيع عنده عمل عامل، أمرهم بالعفو والصفح، ثم حثهم على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يأتي الله بالنصر. وأخبرهم تعالى أنه لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. قال ابن جرير في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر فإن فيه وعدا وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه. وفي سبب نزول هاتين الآيتين يروي ابن إسحاق عن ابن عباس أنه قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدا؛ إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... أقول: والقاعدة عند المفسرين أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالآية عامة وإن كان سبب نزولها ما ذكر. فائدة: تظهر فائدة الخلاف في كون قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا منسوخا بآيات القتال من مثل قوله تعالى في سورة التوبة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ومن مثل قوله تعالى أيضا في سورة التوبة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. أو أنها غير منسوخة على تفسير الأمر في قوله تعالى حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ بأنه مفرد (الأمور) تظهر فائدة الخلاف في عصرنا بشكل واضح؛ حيث فقد الإسلام والمسلمون السلطان السياسي، فهل هم في هذه الحالة مأمورون بالصفح والعفو أو لا؟ ذهب أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي بأن الآية منسوخة، وعلى هذا فالصيغة الوحيدة للتعامل بيننا وبين أهل الكتاب هي القتال حتى يعطوا الجزية. لكن يلاحظ أن ابن كثير عند ما ذكر المعنى العام للآية قال: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ من النصر والفتح وعلى هذا فالمراد بأمر الله هو الأمر
كلمة في السياق
القدري وهذا يعني أنه إذا كان للمسلمين النصر والفتح فللمسألة وجهة أخرى غير الصفح والعفو، إذ في تلك الحالة يحال هؤلاء إذا كانوا من مواطني الدولة المسلمة إلى القضاء الإسلامي، أما إذا لم يكن للمسلمين السلطان والدولة فإن الصفح والعفو يسعانهم في معاملتهم لأهل الكتاب، على أنه في هذه الحالة يكون العفو والصفح مباحين للمسلمين، ويجوز لهما غير ذلك كالقتال أخذا من وجهة النظر الأخرى. فخلال السير للوصول إلى أن تكون كلمة الله هي العليا يخير المسلمون بين عدة مواقف على حسب ما تقتضيه عملية السير، والآية تشعرنا بأن الموقف الأصلح في التعامل مع أهل الكتاب هو العفو والصفح حتى يتم النصر، ولكن هذا كله يكون إذا لم يكن الصراع مباشرا مع أهل الكتاب. ومن سبب النزول ندرك أن هذه الآية صورتها فيما إذا كان أهل الكتاب على الأرض الإسلامية نفسها، ولعل الصفح والعفو هو الموقف المناسب لمسلم يعيش بين أهل الكتاب على الأرض الكافرة. إنني أرى أنه ما دام أهل الكتاب على الأرض الإسلامية مواقفهم منا في حدود الرغبات والأقوال، أن نعاملهم بالصفح والعفو، وأن يكون هذا جزءا من خطتنا ونحن نسعى لاسترداد السلطان السياسي للمسلمين. أما إذا تجاوزت مواقفهم ذلك بأن حملوا السلاح وقرروا أن يستعملوه ضدنا، أو أنهم بدءوا يستعملونه ضدنا، فالأمر وقتذاك يختلف .. أما الموقف من دولة اليهود فسنراه إذا جاءت مناسبته في هذه السلسة. كلمة في السياق: قلنا عن سياق الآيتين بأنهما بمثابة البيان والتعليل للنهي الذي جاء من قبل عن متابعة أهل الكتاب، وبعد هاتين الآيتين يذكر الله عزّ وجل مجموعة من الأقوال والمواقف لأهل الكتاب، فمثلا يأتي بعد هاتين الآيتين قوله تعالى وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى والمفسرون يقولون بأن الواو من (وقالوا) حرف عطف يعطف (قالوا) في هذه الآية على قوله تعالى (ود) من الآية وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً.
[سورة البقرة (2): آية 111]
وإذن فسيعرض الله عزّ وجل علينا مجموعة من الأقوال والمواقف هي بمثابة البيان والتعليل للنهي عن متابعة أهل الكتاب فضلا عن غيرهم. وإذا تذكرنا أننا في نهاية الفصل الذي بدئ بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. فإن هذه المواقف والأقوال تكمل الصورة الداعية إلى ترك الطمع بإيمان أهل الكتاب مع دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. وإذا تذكرنا أن هذه الفقرة هي نهاية المقطع الذي بدأ بدعوة بني إسرائيل للدخول في الإسلام فإن ذلك كذلك يفسر لنا عرض مجموعة من أقوالهم وأفعالهم ومناقشتهم فيها وتعليمنا الرد عليها أو الموقف الحكيم منها لأننا دعاة وهم مدعوون فلا بد أن نعرف كيف نناقشهم. إن عرض هذه الأقوال والمواقف في هذه الفقرة وفي نهاية الفصل الثاني وفي نهاية المقطع كله مرتبط بما سبقه جميعا فهو يخدم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ... ويخدم قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... ويخدم قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وسنرى عند استعراض كل موقف وقول محله في السياق وخدمته لما سبق. 1 - وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، إن دخول الجنة متعلق بالإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فمن كان كذلك نال رضوان الله.
[سورة البقرة (2): آية 112]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه وبين ذلك في آية لاحقة وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ التي تمنوها على الله بغير حق. أشير بالآية هنا إلى الأماني المذكورة في الآية وفي الفقرة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم، والأمنية على وزن أفعولة من التمني مثل الأضحوكة، قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي هلموا حجتكم وبينتكم على اختصاصكم بدخول الجنة. وهات: بمنزلة هاء بمعنى أحضر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنكم أهل الجنة. بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ في قوله بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ومعنى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره. ومعنى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي مصدق بالقرآن ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: «فإن للعمل المتقبل شرطين أحدهما أن يكون خالصا لله وحده، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين» فلا بد من أن يسلم المؤمن لله وجهه قال صاحب الظلال: والوجه رمز على الكل ولفظ (أسلم) يعني الاستسلام والتسليم الاستسلام المعنوي والتسليم العملي، ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل بين الإيمان القلبي والإحسان العملي، بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها، وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وأمنهم مما يخافونه من المحذور، فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما مضى مما يتركونه، قال سعيد بن جبير: «فلا خوف عليهم يعني في الآخرة، ولا هم يحزنون يعني لا يحزنون للموت»، وهكذا رأينا
كلمة في السياق
المقولة الأولى لليهود والنصارى في هذه الفقرة والرد عليها، فالله عزّ وجل ذو العدل الكامل والكمال المطلق، يدخل جنته بالإسلام له والإخلاص له والعمل بشرعه، وليس دخول الجنة بالأماني والتمنيات. كلمة في السياق: - مر معنا في الفقرة الثانية من الفصل الثاني قوله تعالى وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وقد جاء في هاتين الآيتين تفصيل لنوع أمانيهم الباطلة وهي اعتقادهم أنهم سيد خلون الجنة بلا إحسان ولا إسلام. ومن كان يعتقد أن الجنة خالصة له فكيف ينتقل مما هو فيه إلى شئ آخر! إن صلة ذلك بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... لا تخفى. - إن الآيتين تبينان ضمنا أن من اجتمع له الإسلام والإحسان في العمل هو الذي يدخل الجنة، وأن اليهود والنصارى ليسوا كذلك مع اعتقاد كل منهم أن له الجنة، فهل يليق والأمر كذلك أن يتابع أهل الإسلام أمثال هؤلاء: ومن هنا نجد الآيتين مرتبطتين بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا .. فههنا مزيد بيان في شأن ترك متابعة أهل الكتاب. وبعد هذه المقولة لأهل الكتاب والرد عليها تأتي المقولة الثانية: 2 - وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. تبين هذه الآية أن كل فئة من الناس تدعي أنها على الحق وأن غيرها على باطل، اليهود يدعون هذا والنصارى يدعون هذا، والذين لا يؤمنون بكتاب أصلا يدعون هذا كذلك، والله وحده هو الحكم فيما اختلف فيه الناس، واليوم الذي سيحكم فيه هو يوم القيامة. وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أي على شئ يصح ويعتد به، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ أي يصح ويعتد به. بين الله تعالى بهذا تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أي والحال أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر، فشريعة التوراة والإنجيل كل منهما قد كانت
كلمة في السياق
مشروعة في وقت ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ الذين لا يعلمون هم الجهلة الذين لا علم عندهم بما وراء هذه المادة، ولا كتاب من الله كعبدة الأصنام والملحدين فهؤلاء يقولون لأهل كل دين ليسوا على شئ ومن عرف كلام ملحدي عصرنا من مثل: الدين أفيون الشعوب أدرك كيف أن القرآن يسع الزمان والمكان فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة (من اليهود): ما أنتم على شئ وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ما أنتم على شئ وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل في ذلك من قولهما: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ... الآية. قال قتادة وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ. قال: بلى. قد كانت أوائل النصارى على شئ ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ قال: بلى. قد كانت أوائل اليهود على شئ ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا» اه قول قتادة. قال ابن كثير: وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، أقول: قد وصف الله عزّ وجل غير اليهود والنصارى بأنهم لا يعلمون، وإذن فمن لم يؤمن بالله ويتبع الوحي الذي أنزله فهو جاهل، وأي جهل أكبر من الجهل بالله، وأي جهل أكبر من الضرب في هذه الحياة بلا هدى من الله، والعجيب أن هؤلاء يصفون أنفسهم أنهم علميون وقد انخدع كثير من أبناء المسلمين بهذه الدعاوى فضلوا. كلمة في السياق: - قص الله عزّ وجل علينا هذه المقولة لليهود والنصارى وغيرهم من الكافرين في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ... وفي ذلك ما يعمق مفهوم عدم المتابعة وتحسين الظن في الطوائف الكافرة خاصة. ومع أن كلا منها على باطل فهو لا يرى أن غيره على شئ. ثم إن هذه المقولة جاءت في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... ومن ثم فهي تعمق فكرة عدم الطمع بإيمان هؤلاء ما داموا على هذه النفسية، وقد أشعرنا الله عزّ وجل بذلك في قوله فَاللَّهُ
كلمة في السياق
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فكون الحكم سيكون بينهم يوم القيامة، فذلك يشعر أنه لا أمل في تزحزحهم عن مواقفهم. وهكذا يقص الله عزّ وجل علينا. في نهاية هذا الفصل، وفي الفقرة الأخيرة منه، وفي خاتمة مقطع بني إسرائيل. المقولات الكبرى عند الناس لنحدد بذلك مواقفنا منهم ولنعرف دقائق تركيبهم النفسي واتجاهاتهم الخطيرة، ثم يأتي بعد المقولتين السابقتين موقف. 3 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ. كلمة في السياق: تأتي هذه الآيات بعد الآية التي تعرض دعاوى أهل الباطل واتهاماتهم لبعضهم، وكأنها تعطينا ميزانا نتعرف به على كذبهم جميعا. فأظلم الظالمين هو الذي يعطل المساجد فلا يذكر فيها اسم الله ويسعى في خرابها. وهذه المجموعات الثلاث تخرب مساجد الله ولا تتوجه له بخالص العبادة فإذن دعاواها باطلة. إلا أن السياق لم يأت بنقض دعاوى القوم بشكل مباشر بل يقرر حقائق مطلقة وجد من يدعي أو لم يوجد. ولكن الصلة بين هذه الآيات والمقولة السابقة موجودة وهذا الواقع يؤيد ذلك، إن من يتذكر محاكم التفتيش وما ترتب عليها من تعطيل لذكر الله في المساجد، ومن يعلم أن أربعة عشر ألفا من المساجد في سمرقند عطل الشيوعيون فيها ذكر الله، ومن علم أن اليهود وراء كل تخريب أخلاقي وديني في هذا العالم، وأن المسلمين وحدهم هم الذين حموا للنصارى كنائسهم، ولليهود كنائسهم، وللمجوس معابدهم، على كفر هؤلاء جميعا يعلم أن المسلمين وحدهم هم أصحاب الحق في هذا العالم ولنا عودة على السياق فلنكتف الآن بهذا القدر. التفسير: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي لا أحد أظلم من الذي يمنع المساجد من أن يذكر فيها اسم الله وَسَعى فِي خَرابِها بأن قطع من يعمرها بذكره أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ قال ابن كثير: «هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية». وهذا يفهم منه أن الله عزّ وجل أعطى الوصاية للمسلمين على هذا العالم وكلفهم أن
يفرضوا سلطانه ويعلوا كلمته بحيث يخاف غيرهم من سلطان الله بخوفهم منهم فإذا أراد أن يدخل مساجد الله لا يدخلها إلا وهو خاضع خائف. فكيف يصح أن يكون له السلطان عليها. قال النسفي: «أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا عن أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين عنها». لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي للمانعين قتل، وسبي للحربي، وذلة بضرب الجزية للذمي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي النار هذا التفسير النسفي لهذه الآية وهو يؤكد أن المانعين لمساجد الله يدخل فيهم اليهود والنصارى والمشركون وغيرهم، أي من غير المسلمين. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه ابتداء من الربط الكامل في المعنى ما بين هذه الآيات والآية قبلها. فآية وَمَنْ أَظْلَمُ ... رد على اليهود والنصارى والذين لا يعلمون أنهم على شئ لأنهم جميعا ظالمون، وتأكيد أن المسلمين وحدهم على شئ لأنهم لا يمنعون أحدا أن يذكر اسم الله في مسجد أو معبد. وهذه الآية آية وَمَنْ أَظْلَمُ .. من غوامض الآيات وخاصة في خاتمتها ولذلك فللمفسرين كلام كثير فيها واختلاف كثير: اختلفوا في المراد بالمانعين فقال قوم اليهود، وقال قوم النصارى، وقال قوم المشركون وكل استدل بشيء. والذي أراه- ويظهر ذلك من خلال التاريخ والواقع- أن الجميع كذلك إذا كان لهم السلطان ولذلك فعلى المسلمين أن يكون لهم السلطان السياسي في هذا العالم، لأنه ليس غير المسلمين مؤتمنين على حفظ حرمة أماكن العبادة لله في العالم. واختلفوا في قوله تعالى أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ هل هو إخبار عن حال، أو هو خبر بمعنى النهي، أو هو وصف لما ينبغي أن يكون، أو هو بشارة للمسلمين أن الحال سيكون كذلك، وقد بسط ابن كثير هذه الأقوال وقدم القول بأنه خبر بمعنى النهي. وقدم النسفي القول بأنه وصف لما ينبغي أن يكون، وجمعنا نحن بين القولين كما مر. ولمجرد توضيح القول الرابع ننقل عبارة ابن كثير فيه «وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام».
[سورة البقرة (2): آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي بلاد المشرق والمغرب كلها لله وهو مالكها ومتوليها. فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي ففي أي مكان فعلتم التولية فثم وجه الله. والمعنى إنكم إذا منعتم من مسجد فقد جعلت لكم الأرض مسجدا وطهورا فصلوا في أية بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان. إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده عَلِيمٌ بمصالح عباده. وهناك مسائل تثار عند هذه الآية منها المسائل الفقيهة ومنها ما له علاقة بمعرفة الذات الإلهية وسنعقد بعد عرض المقطع من أجل ذلك كله فصلا. كلمة في السياق: جاءت هذه الآيات بين مقولتين بين قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ... وبين قوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً .... فهي بلا شك تعرض موقفا للكافرين وهو منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. وتبين للمسلمين الموقف المكافئ لهذا الظلم العريض وفي الوقت نفسه تبين للمسلمين أنه إذا حيل بينكم وبين المسجد فالأرض كلها لكم مسجد. وكما أن الآيات في سياقها العام أعطتنا هذا وأعطتنا ردا ضمنيا على مقولة اليهود والنصارى والجاهلين، فإنها في سياق فقرتها تعمق المعاني التي من أجلها نهينا عن المتابعة لكافر، وهي في سياق فصلها تعلل لعدم الطمع في إيمان اليهود وأمثالهم، وهي في سياق مقطعها ترينا إحدى الانحرافات الخطيرة التي وقع فيها اليهود وغيرهم، وتعطينا دروسا فيما ينبغي أن نفعله لمواجهة الانحراف والمنحرفين. 4 - وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ اشتملت هاتان الآيتان على الرد على النصارى ومن أشبههم من اليهود الذين قالوا عزير ابن الله، ومن المشركين ممن جعل الملائكة بنات الله وغيرهم من أصحاب هذه المقولة فأكذب الله جميعهم في دعواهم، وقولهم إن لله ولدا وكان الرد عليهم في هاتين الآيتين في خمسة مواطن: 1 - في قوله تعالى سُبْحانَهُ أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا فمن
المعنى الحرفي
عرف الله وجلاله وعظمته نزهه عن ذلك. 2 - في قوله تعالى بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ وهو العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وجميع الأشياء له مخلوقة مربوبة. 3 - في قوله تعالى كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ فالجميع مقرون له بالعبودية فلا يشذ أحد عن ذلك فمن كان هذا شأنه لا يكون أحد إلا عبد له سبحانه. 4 - في قوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فمن ابتدع السموات والأرض على غير مثال سبق هو أجل من أن يكون له ولد. 5 - في قوله تعالى وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له (كن) أي مرة واحدة فيكون أي فيوجد على وفق ما أراد بين بذلك أيضا على أن خلق عيسى أو عزير أو الملائكة أو غير ذلك مما زعم الزاعمون أنه ابن لله بكلمة كن فكان، كما أمر الله ومن كان كذلك لا يكون إلا عبدا قال ابن جرير: فمعنى الكلام: سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته .. المعنى الحرفي: وَقالُوا أشهر القائلين بهذه الفكرة الضالة هم النصارى ولكنها فكرة شائعة عند كل الأمم تقريبا إما بشكل أو بآخر كما سنحقق ذلك في سورة براءة، اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قال النصارى: المسيح ابن الله وقال اليهود: عزير ابن الله وقال مشركوا العرب: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أي تنزيه له بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
[سورة البقرة (2): آية 117]
وَالْأَرْضِ أي هو خالقه ومالكه ومن جملة ذلك المسيح وعزير والولادة تنافي الملك كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي منقادون لا يمتنع شئ منهم على تكوينه وتقديره فهم مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مخترعهما لا على مثال سبق وَإِذا قَضى أَمْراً أي حكم أو قدر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي احدث فيحدث وهو من كان التامة وهذا مجاز عن سرعة التكوين. فالمعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء وأكد بهذا استبعاد الولادة. لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثم، وإنما قالوا بأن (كن) أمر مجازي لأنه لا فرق بين أن يقال وإذا قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون. ولأنه لو كان أمرا على الحقيقة فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بكن أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب. أقول: إنما يضطر العالم للخوض في مثل هذا إذا وجد من يجادل أما إذا وجد ذو القلب فإنه يتلقى مثل هذا بالتسليم ويترك الخطاب في قلبه من الأثر ما لا تتركه كلمة أخرى وسنعقد لهذا الموضوع فصلا. أخرج البخاري في تفسير قوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ... عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي: فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم». كلمة في السياق: جاءت هذه المقولة في سياق عرض أمهات من القضايا الرئيسية عند أهل الكتاب، أو الكافرين عامة؛ لتعميق فكرة عدم التلقي عنهم، والاقتداء بهم كيف وهذا شأنهم في الضلال والكفر وإيذاء الله تعالى. والملاحظ أنه في سياق المقطع الذي هو خطاب لبني إسرائيل تذكر مقولات لهم، أو لغيرهم، أو لهم ولغيرهم، مما يشير إلى أن السياق يريد أن يوصل في قلوب هذه الأمة موقفا من الكفر عامة. فالمقطع في الأصل آت في سياق عرض نموذج على موقف من هدى أنزل على أمة من قبل. ثم تأتي بعد ذلك مقولة أخرى.
المعنى الحرفي
5 - وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. يرجح ابن كثير أن القائلين هم كفار العرب. ويرجح هذا الاتجاه ذكر الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فيما مضى على أنهم غير اليهود والنصارى ممن لا وحي سماويا عندهم. ونحن نرجح أنه يدخل في كلمة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هنا كل من يسأل هذه الأسئلة، سواء كان ملحدا، أو مشركا، أو كتابيا في الأصل، فإنه بسؤاله مثل هذه الأسئلة دخل في سلك الذين لا يعلمون. إن هذه الطبقة الجاهلة من الناس تعلق الإيمان على تكليم الله إياها، أو على مجئ الآيات هذا مع أن الآيات الكافية للإيمان موجودة ولكنه التعنت. إن هذا النوع من المطالب المتعنتة ليس جديدا على منطق الكفر بل هو طريق الكفار في كل عصر. لذلك قال تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. وقد ناقشنا هذا الموضوع في أول كتابنا (الله جل جلاله) وبينا في ذلك الكتاب أن هذا الطلب غير علمي وغير عقلي. وقد رد الله عزّ وجل على هؤلاء هنا بقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالآيات موجودة وهي كافية لأهل اليقين بوجود الله. وذكر كلمة يُوقِنُونَ هنا يشعر بأن طلاب هذه المطالب طالبوا بها من أجل الإيمان برسول الله، فكأنهم قالوا فليكلمنا الله شاهدا أنك رسوله، أو فلتأتنا آية تدلنا على ذلك. فكان الجواب أن الآيات قد جاءت واضحة لمن كان عنده يقين بالله. قال القرطبي في لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك قال ابن كثير: وهو ظاهر السياق. المعنى الحرفي: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من المشركين والملحدين وأهل الكتاب الذين بتركهم العمل بما يعلمون أصبحوا لا يعلمون لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة، أو هلا يكلمنا الله بنبوتك أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي معجزة تشهد على نبوتك ورسالتك يا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما قالوا هذا جحودا واستهانة لأن يكون ما آتى الله محمدا صلى الله عليه وسلم من الآيات كافيا للإيمان كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ إنها عقلية واحدة، عقلية الجحود والشك في كل عصر ومصر تتكلم بلغة واحدة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي تشابهت قلوب هؤلاء ومن قبلهم، في العمي، والجحود، والشك؛
المعنى
فتكلموا بلغة واحدة قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها، والإذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها، أو يوقنون بأن الله موجود؛ فهؤلاء لا تخفى عليهم آيات الله التي تشهد لرسالة رسله عليهم الصلاة والسلام بما في ذلك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا أكملت هذه الآية صورة الاتجاهات الكبرى التي تواجه الدعوة الإسلامية أقوالا وأفعالا، وجاء هذا كله في سياق النهي عن متابعة أهل الكفر في أدنى شئ، وفي سياق الانحراف عن هدى الله، ثم تأتي بعد ذلك آيتان تتوجهان بالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ* وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. المعنى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً للمؤمنين بالثواب. وَنَذِيراً للكافرين بالعقاب وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ أي عن أصحاب النار أي لا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت، وبلغت جهدك في دعوتهم. في هذه الآية مجموعة قضايا 1 - أن هناك رسولا بالحق مهمته التبشير والإنذار هو محمد صلى الله عليه وسلم 2 - وأن الذي أرسله هو الله رب العالمين 3 - وأن الثواب والعقاب على الله، وأن الله لا يسأل رسوله عن كفر من كفر به، بل سيتحمل كل كافر مسئوليته عن نفسه أمام الله. ومجئ هذه الآية بعد المقولات والمواقف السابقة للكافرين فيها إشارة إلى أن هذا الكفر الذي عليه هؤلاء سيجعلهم من أهل الجحيم، وأن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر، وأن ينذر، وأنه لا عليه من هؤلاء. ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هذا تقنيط من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من رضى اليهود والنصارى عنهم ما داموا على الإسلام. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي إن هدى الله الذي رضيه لعباده وهو الإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الهدى كله ليس وراءه هدى. وأن ما يدعون إليه ليس هدى بل هو هوى بدليل وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع، وقد رأيت بعضها فيما مر بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة. ما لَكَ
كلمة في السياق
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يرفع عنك عذاب الله وَلا نَصِيرٍ أي ينصرك من الله ويلاحظ أن الله عزّ وجل قال حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أفرد الملة مع أنهما ملتان؛ وذلك إشارة إلى أن ملة الكفر واحدة. في هذه الآية وصف لحقيقة موقف اليهود والنصارى من هذه الأمة أن كلا من اليهود أو النصارى لا يرضيه من هذه الأمة إلا أن تترك الإسلام وتدخل في دينه، وأن غير ذلك لا يرضيهم أبدا ولو تظاهروا بقبوله. إن نسيان هذا الدرس البليغ كان سبب الكوارث الكبيرة في عصرنا فقد حاول كثير من أبناء المسلمين أن يرضوا الكافرين ببعض التنازلات والمداهنات؛ ظنا منهم أنهم يرضونهم بهذا القدر، فلم يحصدوا إلا الغدر والقهر. فالآية تقول مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب للأمة كلها: ليست اليهود والنصارى براضية عنك أبدا؛ فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، وقل إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى يعني: هو الدين المستقيم، الصحيح، الكامل الشامل، وأن ما أنتم عليه هو الهوى الذي عقوبته عند الله شديدة. كلمة في السياق: - بعد أن عرضت الفقرة مجموعة من المواقف والأقوال الظالمة والباطلة جاء قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فدلل ذلك على أن الرسالة المصححة هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء قوله تعالى وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ وفي ذلك إشارة إلى أن أصحاب هذه الأقوال والمواقف هم من أصحاب الجحيم، وقد جاءت هذه الآية في سياق الفقرة المبدوءة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ فكانت في محلها مبينة أن الحق في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يتابع الكافرون المستحقون للعذاب الأليم. - وبعد عرض الأقوال والمواقف الضالة جاء قوله تعالى وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أي حتى تتابعهم على مثل هذه المواقف والأقوال الضالة الظالمة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فالهدى هو في الإسلام. جاءت هذه الآية في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ... وفي ذلك إعلام بأن أي متابعة لأهل الكتاب من باب مسايرة الأهواء، وأنها لا ترضيهم إلا
المعنى
إذا انحرفنا كاملا، فالسياق في الفقرة يصب في قطع دابر المتابعة للكفر وأهواء أهله. - وجاء هذا كله في سياق الفصل الذي بدايته أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فجاءت الآيات مبينة ما يحول بينهم وبين الإيمان، ومثبتة لنا على الإيمان، وموصلة لنا إلى تبيان الطريق الصحيح للوصول إلى الإيمان، وذلك في الآية الأخيرة من الفصل الثاني وهي قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. المعنى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم مؤمنو أهل الكتاب، وهو التوراة، أو الإنجيل، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الكتاب هو القرآن، أو الجميع، ويكون الكتاب المقصود جنس الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه حق قراءته، في الترتيل، وأداء الحروف، والتدبر، والتفكر، والإيمان بمضمونه، والعمل به. ومن ذلك إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار كما قال عمر بن الخطاب. ومن حق التلاوة ما قاله ابن مسعود: «والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرؤه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله». ومن حق التلاوة ما قاله الحسن البصري: «يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه». ومن حق التلاوة ما قاله ابن عباس «يتبعونه حق اتباعه» أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ هذا خبر عن الذين آتيناهم الكتاب أي: من أقام كتاب الله كما وصفنا هو المؤمن به على الحقيقة وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الضلالة بالهدى. كلمة في السياق: بهذه الآية انتهى الفصل الثاني في المقطع الثالث وهو المقطع الذي ابتدأ بخطاب بني إسرائيل، وانتهى بخطاب بني إسرائيل، في الآيتين اللتين سنذكرهما بعد قليل. إن هذه الآية التي ختم بها الفصل الثاني الذي بدايته أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ دلت على طريق الإيمان وهو: تلاوة الكتاب حق التلاوة، فمن قرأ التوراة حق التلاوة، وصل إلى
[سورة البقرة (2): الآيات 122 إلى 123]
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلا الإنجيل حق التلاوة وصل إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلا القرآن حق التلاوة وصل إلى الإيمان بالقرآن، إن الآية تحتمل ذلك كله، كما تحتمل الطعن في أهل الكتاب في أنهم لا يؤمنون بكتابهم أصلا؛ لأنهم لا يتلونه حق تلاوته وهكذا، فهذه الآية التي تختم الفصل تفهم فهوما عدة، وكل فهم من فهومها يخدم السياق بشكل ما. وكما بدأ الفصل الأول بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. فإن الفصل الثاني من هذا المقطع ينتهي بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وبذلك ينتهي المقطع الثالث ولكنها نوع نهاية كما سنرى، وهاتان الآيتان فسرناهما من قبل وتأتيان هنا معلنتين انتهاء الخطاب التفصيلي لبني إسرائيل بما بدئ به هذا الخطاب، رابطتين آخر الكلام بأوله، وفيهما تكرار للأمر؛ زيادة في الحث، فلعله ينفع التذكير اللاحق حيث لم ينفع التذكير السابق وقد آن الأوان- وقد انتهى المقطع- أن نتكلم كلمة أخيرة في سياقه، قبل أن نعقد بعض الفصول التي وعدنا بها تفصيلا، لأمور وردت معنا. كلمة أخيرة في سياق المقطع الثالث: - رأينا أن المقطع الثالث- مقطع خطاب بني إسرائيل- يتألف من مدخل وفصلين، وأن فاتحة الفصل الأول هي خاتمة الفصل الثاني، ورأينا أن المدخل فيه مجموعة أوامر ونواه، في تطبيقها صلاح حال بني إسرائيل وأمثالهم ممن عقده سير طويل، ثم رأينا أن الفصل الأول كان في أجواء الآية الأولى من المدخل، وأن الفقرتين الأولى والثانية من الفصل الثاني كانت في أجواء الآيات الثلاث اللاحقة على الآية الأولى، ثم جاءت الفقرة الثالثة في الفصل الثاني لتناقش في قضية الآية الأولى من هذه
الآيات الثلاثة، على اعتبار أن ذلك يتوقف عليه كل ما بعده، وبناء على هذا النقاش جاءت الفقرة الرابعة تعطي للأمة الإسلامية دروس التعامل مع أهل الكتاب والكافرين، وترد على مقولاتهم الرئيسية، ومن خلال هذه النظرة السريعة نلاحظ أن المقطع قد انتهى ولم تغط فيه كل الأوامر والنواهي الواردة في المدخل وذلك لأن الحوار لا زال مفتوحا مع أهل الكتاب ومن ثم فإنه في مقاطع لاحقة سيرد معنا ما يغطي أوامر ونواهي المقطع. وهذا تفصيل ما ذكرنا: الآية الأولى في المدخل هي قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وقد جاء الفصل الأول بفقرتيه يغطي أوامر هذه الآية. ثم جاء قوله تعالى في المدخل: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ وجاءت الفقرة الأولى والثانية من الفصل الثاني تغطي هذه الأوامر والنواهي. ثم عادت الفقرة الثالثة في الفصل الثاني إلى الحوار في مضمون قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. ثم جاءت الفقرة الرابعة في الفصل لتحاور الكافرين في مقولاتهم الرئيسية، وتدل على مواقفهم الظالمة، وتعطي الأمة الإسلامية دروس ذلك، ثم ختم المقطع. وإذن ففي العودة إلى فتح الحوار في قضية الإيمان لم يتجاوز الحوار الآية الثانية في المدخل. فبقيت من آيات المدخل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وسنرى أن كتمان الحق سيرد معنا مرة بعد مرة، في مقطع إبراهيم وفي مقطعين لاحقين. وبقي من آيات المدخل بلا تغطية قوله تعالى:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وسنرى أن كلاما عن البر سيأتي. وبقيت من آيات المدخل بلا تغطية قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وسنرى أن هذا الأمر سيتوجه إلينا فيما بعد في السورة. إنه إن قبل الكافرون الإيمان؛ فقد أصبحوا مخاطبين بما يخاطب به المسلمون، وإن رفضوه فلن يطبقوا ما يترتب عليه، ولذلك فإن السياق سيترك الحوار المباشر مع هؤلاء في الغالب وإنما يذكر كثيرا من المعاني بشكل تقريرات، وبهذا نكون قد عرفنا المقطع الثالث وبعض صلاته ببعضه وبما بعده. - رأينا أن المقطع الثالث بدأ بمجموعة من الأوامر والنواهي هي العلاج الكامل لليهود وأمثالهم من أجل أن ينصهروا بدين الله ودعوته، فبعد أن جاء النداء لكل الناس أن يسيروا في الطريق الموصل إلى التقوى، خص بنو إسرائيل بنداء خاص ولكن هذا جاء بعد قصة آدم التي انتهت بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وقلنا من قبل إن مجئ الكلام عن بني إسرائيل بعد قصة آدم هو بمثابة عرض نموذج على أمة أنزل عليها وحي وكيف تصرفت مع هذا الهدى لتأخذ هذه الأمة دروس ذلك، ولإدراك هذا الهدف في الصلة بين قصة آدم وقصة بني إسرائيل نلاحظ أنه خلال المقطع تكرر كثيرا ذكر ما يشبه القاعدة التي ختمت بها قصة آدم، فقد ورد في نهاية الفقرة الأولى من الفصل الأول: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وقد ختمت الفقرة الأولى من الفصل الثاني بقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وقد ورد في الفقرة الرابعة من الفصل الثاني: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ثم بعد آيات ورد قوله تعالى وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فهذا المقطع إذن يعطينا درسا عمليا في أمة أنزل عليها وحي، وكيف كان موقفها من هذا الوحي. وبما أن لهذه الأمة استمرارها التاريخي، وهي مخاطبة بالقرآن فمن ثم يندمج العرض للموقف التاريخي مع الموقف الجديد المتجدد، ليرى الانحراف كله قديما وحديثا عن وحي الله، لتأخذ الأمة الإسلامية دروس ذلك ولتواجه هؤلاء المنحرفين بما يناسب. وعلى هذا فالصلات بين مقطع بني إسرائيل وبين مقطع آدم واضحة المعالم. - ومن قبل مقطع آدم عليه السلام جاء المقطع الأول في القسم الأول من سورة البقرة وفيه نداء للناس جميعا بالتوحيد والعبادة والإيمان بالقرآن، وضرورة الإيمان والعمل الصالح، وضرورة ترك الفسوق، المتمثل بنقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وترك الإفساد في الأرض، ومناقشة الكفر، وتبيان أن الأرض كلها للإنسان، وجاء مقطع بني إسرائيل وفيه خطاب بما يحقق ذلك كله، ودروس في ذلك كله وعواقبه. لقد رأينا في مقطع بني إسرائيل كيف أخلوا بالتوحيد، وبالعبادة، وبالعمل الصالح، وكيف نقضوا الميثاق، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وكفروا، فتعمق من خلال مقطع بني إسرائيل مضمون ما ورد في المقطع الأول سلبا وإيجابا لاحظ مثلا أنه ورد في المقطع الأول: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وفي مقطع بني إسرائيل ورد: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ .. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ولو أننا تتبعنا الصلات بين مقطع يا أَيُّهَا النَّاسُ ومقطع بني إسرائيل لاقتضى ذلك منا أن نعيد المقطعين كليهما.
فصل وفوائد حول آيات ومعان في المقطع
- ورأينا مقدمة سورة البقرة، وجاء مقطع بني إسرائيل فأرانا الانحراف عن كتاب الله وعن الصلاة والزكاة، وأرانا الكفر وما يؤدي إلى الكفر، وأرانا ما ينبغي أن نلاحظه حتى نثبت على الإيمان والتقوى وما ينبغي أن نجتنبه. - ومن قبل في سورة الفاتحة علمنا أن ندعو الله أن يجنبنا السير في طريق المغضوب عليهم والضالين، ولقد رأينا في مقطع بني إسرائيل قوله تعالى وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ لقد رأينا في هذا المقطع بيانا كثيرا حول طريق المغضوب عليهم والضالين، ودلنا الله على معالم في السير لنبقى في الطريق المستقيم، ولعل في هذا كفاية لإدراك سياق المقطع، وصلته بما قبله وبما بعده. وإذ قص الله عزّ وجل علينا في هذا المقطع قصة نموذج على أمة انحرفت عن الهدى، فإن المقطع الرابع- وهو مقطع إبراهيم عليه السلام فيه قصة نموذج لمن قام بأمر الله كاملا، وإذن فقصة آدم يعقبها مقطعان، مقطع في أمة أنزل عليها وحي فانحرفت، ومقطع في من أنزل عليه وحي فقام به كله، مع دروس ذلك لهذه الأمة ومع قضايا كثيرة تعرض خلال ذلك - وقبل أن ننتقل إلى المقطع الرابع في القسم الأول من أقسام سورة البقرة مقطع إبراهيم عليه السلام فإن علينا أن نفي بما وعدنا به من قبل من أننا بعد نهاية المقطع سنعقد فصولا. فصل وفوائد حول آيات ومعان في المقطع: فصل في فرعون الاضطهاد والخروج: من معجزات القرآن أنه حدثنا عن النجاة البدنية لفرعون، إذ إن كل الفراعنة- الذين هم مظنة أن يكونوا فرعون موسى- جثثهم موجودة الآن، في الوقت الذي لا تتحدث فيه كتب العهد القديم والجديد عن النجاة البدنية لفرعون، ومما بحثه الباحثون اعتمادا على نصوص العهد القديم وهي نصوص لا يستطيع الدارس أن يعتمدها إلا بحذر شديد. من هو فرعون موسى؟. وقد سجل (موريس بوكاي) في دراسته عن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم مختصرا عن هذه الأبحاث، فذكر أن هناك اتجاها يقول بأن فرعون موسى هو تحتمس الثاني، وهناك اتجاه يقول بأنه أمينوفيس الثاني، والاتجاه
فصل في أحكام فقهية من (آل فرعون)
الذي يقويه المؤلف أن هناك فرعونين، فرعون الاضطهاد وهو رمسيس الثاني، وفرعون الخروج وهو ابنه منيتاح، ويذكر المؤلف أنه في طريقه لمتابعة دراسة على جثة منيتاح لرؤية ما إذا كان مات ميتة غير عادية، ولا يشعر الدارس للقرآن الكريم وهو يقرأ قصة موسى مع فرعون أنه أمام شخصيتين، ولكن لنفرض فرضا أن الدراسات العلمية القطعية أوصلتنا إلى تحديد في شأن شخصية فرعون، وأوصلتنا إلى أن هناك فرعونين فرعون الاضطهاد وفرعون الخروج، فإن ذلك يكون أحد أسرار استعمال كلمة (الآل) في قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ففرعون الاضطهاد إذا صح أنه رمسيس الثاني، فإن آله (منيتاح) ابنه هو الذي تمت في عهده نجاة موسى وقومه، وكل ذلك نتوقف فيه على معطيات قطعية تسمح لنا بهذا السير، أما فقهاؤنا فقد استفادوا من استعمال كلمة الآل هاهنا أحكاما فلنرها في الفصل التالي: فصل في أحكام فقهية من (آل فرعون): بمناسبة قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قال القرطبي: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون، وهم إنما كانوا يفعلون بأمره، وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله، قال الطبري: ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، قال القرطبي وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته ... وقال سليمان بن موسى: لا يقتل الآمر ولكن تقطع يداه ثم يعاقب ويحبس، وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة ... وقال زفر: لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث ... أقول: وعلى القول الثالث فكل منهما يستأهل التعزير، وقد يصل التعزير إلى القتل إذا رأى الإمام ذلك. ومن هذه المسألة نعرف بعض الأحكام التي تنطبق على الظلمة وأعوانهم، إذا أدال الله دولتهم، وكيف ينبغي أن تكون محاسبتهم على ما اقترفت أيديهم، إن أقل ما يجوز لنا أن نعاملهم به التعزير آمرين ومأمورين من خلال دعاوى ومحاكم يثبت فيها على كل واحد منهم أنه ظلم بأدنى شئ فيقتص منه. فائدة: يلاحظ أن الخطاب في المقطع توجه لبني إسرائيل جملة، وأنب الجميع بفعل البعض، وأنب اللاحق بفعل السابق، ومن المعلوم- من الدين بالضرورة- أن الإنسان لا يسأل
فصل في أكل الثوم والبصل
عن فعل غيره إلا في حالات المسئولية المشتركة والتقصير، أو في حالات يكون على الإنسان تكليف ما في حق الآخرين، وإنما كان التأنيب شاملا، للموافقة والاستمرار على فعل القبيح، وعلى كل حال فإننا نأخذ من هذا درسا في ضرورة مراجعة الحال القلبي لنا، فلا نقر خطأ وقع فيه أحد من هذه الأمة خلال العصور، ونسعى ما استطعنا أن تستقيم أمورنا، وأمور أمتنا لأن في ذلك نجاتنا جميعا. اعتذار: كثيرا ما يحدث أن تتجمع التحقيقات في مكان واحد من التفسير، وهذا يؤدي إلى تضخيم قسم من التفسير، وضمور أقسام أخرى، وهذا الذي دعانا أن نرجئ كثيرا من التحقيقات حتى تأتي مناسباتها الأكثر ملائمة؛ حتى لا يتضخم تفسير سورة البقرة. فصل في أكل الثوم والبصل: بمناسبة قوله تعالى على لسان اليهود لموسى فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قال القرطبي: اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول: فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك للأحاديث الثابتة في ذلك، وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا- إلى المنع وقالوا: كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به ... أقول: الأكل مباح، ولكن إذا ترتب عليه إيذاء مطلق، أو إيذاء لمن لا يتسامح بمثل ذلك، فالكراهة حاصلة وسنرى الموضوع تفصيلا في قسم السنة. فصل في الصابئة: هل المراد بالصابئة في آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ صابئة العراق الحاليين؟ وبالتالي فالآية تتحدث عن أسلاف لهم كانوا على حق، أو المراد بهم من مال عن الدين الباطل إلى الدين الحق كالحنيفيين من العرب قبل الإسلام؟ قولان للعلماء، وفي صابئة العراق قولان في جواز أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم ذكرهما القرطبي، والذي أرجحه عدم جواز ذلك لأنهم أفردوا باسم خاص عن أهل الكتاب، وقد خص أهل الكتاب بجواز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
فصل في المسخ
فصل في المسخ: ذهب بعض المفسرين إلى أن المسخ الذي وقع بأهل القرية إنما كان مسخ قلوب وليس مسخ أجساد، وليس هذا صحيحا، بل هو اتجاه خاطئ، فالمسخ كان صوريا معنويا كما قال ابن كثير، إذ لا داعي يدعو إلى صرف النص عن ظاهره والنص صريح فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال الضحاك عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، قال ابن عباس: «ولم يعش قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل» أقول: في هذا رد على من يتصور أن القردة الحالية يحتمل أن يكون أصلها بشرا قد مسخوا، وهو موضوع سنراه فيما بعد وإنما انفرد بفكرة المسخ المعنوي مجاهد، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير هي مما مسخ فقال: «إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». فصل في الاستهزاء والمزاح: بمناسبة قول اليهود لموسى أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قال القرطبي: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل، وصاحبه مستحق للوعيد، وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده ... فصل في السلم في الحيوان: استدل بقوله تعالى إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها على صحة بيع السلم في الحيوان إذ إن الآية حصرت صفات البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة، والثوري، والكوفيون، لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وعبد الرحمن بن سمرة؛ وغيرهم ونحن نرجح التوسيع في باب السلم؛ على اعتبار أن السلم أحد الحلول التي وضعها الإسلام في وجه الربا، وهو البديل الأقوى كما سنرى، ولكن على أن يراعى في حالة الفتوى شروط الأئمة المجيزين حتى لا نقع في مخالفة لإجماع.
فصل في القتيل إذا وجد في محلة قوم
فصل في القتيل إذا وجد في محلة قوم: بمناسبة حادثة القتيل الذي أحياه الله بضربه ببعض البقرة، يثير المفسرون مجموعة مسائل: مسألة ما إذا قال القتيل دمي عند فلان ثم مات، ومسألة ما إذا وجد قتيل في مكان ولا يعرف له قاتل وما ثم شهود، أو كان شهود لكنهم نساء، أو كان شاهد واحد، وإنما بحثوا هذه المسائل هنا تفريعا على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا وهو مذهب جماهير العلماء. يعتبر مالك أن قول القتيل: قتلني فلان أو دمي عند فلان، أمارة كافية للحكم على المذكور، ومنع ذلك عامة الفقهاء؛ لاحتمال الخطأ والكذب، وعامة الفقهاء أوجبوا القسامة إذا وجد قتيل في محلة وفيه أثر القتل، والقسامة: أن يحلف خمسون يمينا أنهم ما قتلوا ولا يعرفون له قاتلا، ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، فإن كانوا أقل من ذلك، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه، ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم، وهناك خلاف في كيفية الحكم بها: إذ ترى طائفة أن يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرءوا، وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرءون، وهل يكون بالقسامة القصاص أو الدية؟ الراجح أن يكون فيها الدية ولا قصاص. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم، وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله- أي ديته- عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شئ إلا أن تقوم البينة على واحد، وذهب مالك والشافعي: إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر لا يؤخذ به أقرب الناس دارا؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك، حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة وهي عند مالك إما دعوى القتيل أو شهادة امرأتين أو شهادة عدل. فصل في التحريفيين من هذه الأمة: رأينا تفسير قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، ورأينا كيف أن الله عزّ وجل قطع عنا الطمع بإيمان أهل الكتاب؛ بسبب من هذه العقلية التحريفية للنصوص،
وخلال مسيرة التاريخ الإسلامي وجد بين المسلمين طوائف، جعلت للقرآن باطنا يخالف الظاهر، وذلك كفر بإجماع المسلمين. هؤلاء حرفوا كلام الله وهم يعلمون حق العلم ماذا يعني كلام الله، فهؤلاء وقعوا فيما وقع فيه اليهود من قبل، وهؤلاء فيما يبدو يكاد ينقطع الأمل في عودتهم إلى الحق إلا بتوبتهم، فكما أن اليهود إذ وقعوا في هذه المفسدة ينقطع الطمع في إيمانهم، فهؤلاء وإن ادعوا أنهم هم خيار الناس، يكاد أن ينقطع الطمع في فيئهم إلى الله عزّ وجل، يدخل في ذلك كل طوائف الباطنية الذين يعطون الإمام حق الفهم الباطن للنصوص، وبذلك عطلوا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من الإسلام؛ إذ أعطوا كل النصوص فهما يخالف الظاهر، فسبقوا في ذلك اليهود أنفسهم، كما دخل في ذلك طوائف من المتصوفة يحملون النصوص ما لا تحتمله من معنى، وخرج من ذلك الذين يرون أن في القرآن من المعاني الدقيقة ما لا يحاط به، ويسمون هذه المعاني باطنا، فلا يتعارض عندهم ظاهر بباطن أي معنى دقيق مع معنى ظاهر، وكل ذلك على ضوء الأصول الصحيحة للفهم، كما خرج بذلك نوع من الوعظ هو بمثابة تداعي أفكار عند عرض آية يذكره أصحابه على أنه استطراد، أو على أنه فوائد تعرض بمناسبة الآية لا على أنه تفسير للآية وهذا مزلق قديم خطير. قال النسفي في عقائده: «والنصوص على ظواهرها فالعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد» قال التفتازاني تعليقا على هذه العبارة: «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص محمولة على ظواهرها، ومع هذا ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان». ويقول ابن الصلاح في فتاواه «الظن بمن يوثق به من الصوفية أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك لسلكوا مسلك الباطنية وإنما ذكر ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير». وقد شدد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور على الألوسي في تفسيره إذ ذكر التفسير الإشاري فقال «قد فتح خرقا جديدا يقتضي أن هنالك طريقا لاستفادة المراد غير مقتضى الألفاظ وهو خروج عن قواعد أهل السنة: في أن الإلهام ليس من أسباب المعرفة، وإذا كانت تلك المعاني مقصودة فكأن غيرها حائل دونها وبذلك صح له أن يسمي الفقهاء والعلماء في كثير من المقامات بأهل الحجاب مما أثار على تفسيره الطامة الكبرى من العلماء».
فصل في حكمة من حكم تكرار المعاني في القرآن
(نقلت هذه النقول الأربعة عن كتاب سيكولوجية القصة في القرآن). فصل في حكمة من حكم تكرار المعاني في القرآن: يلاحظ أنه في سياق إقامة الحجة على بني إسرائيل أن قضية عبادتهم للعجل تعرض مرة بعد مرة، وفي كل مرة تأتي ضمن سياق يناسبها، فمرة في سياق الكلام عن النعمة، لأن الله تاب عليهم مع فعلهم الشنيع هذا، ومرة في سياق إقامة الحجة عليهم في أن الانحراف عن أمر الله طبيعة لهم، ومرة في معرض استمرارية هذا الانحراف فيهم، والانتباه لحكمة تكرار بعض الأمور في القرآن مهم إن في عملية التربية، أو في عملية الصراع مع الكافرين، فالقضية التي تتكرر في القرآن مرات ومرات لم تتكرر إلا وهناك سياق يقتضيها، ثم إن تكرارها مهم إن في ضرورة هذا التكرار للنفس البشرية، أو في ضرورة هذا التكرار للتوضيح، أو للتفصيل، أو للصراع مع الكفر وأهله، وقد أدرك علماء النفس المعاصرون أهمية التكرار في تثبيت المعاني، وبنى عليه المشتغلون في فنون الدعاية والإعلام كل نظرياتهم في الدعاية والإعلام، وبنى عليه الشيوعيون وغيرهم نظرية غسيل الدماغ التي محتواها أن تجعل الإنسان في وضع غير طبيعي، ثم تكرر عليه بعض المعاني آلاف المرات حتى تستقر عنده ويزول ما عداها، وكل ذلك مرجعه ما عرف عن طبيعة النفس البشرية، ولئن أدرك الإنسان هذا فالله الذي خلق الإنسان أعلم به وأعلم باحتياجاته، فكان كتابه مذكرا للإنسان على حسب احتياجات الإنسان، وإن كل قراءة للقرآن لتتأكد فيها عند القارئ معان وتستقر معان، ويتذكر بها القارئ الخاشع معاني ومن خلال التكرار بأساليب شتى تأخذ كل قضية محلها في النفس البشرية، مراعى في ذلك ما تغفل عنه النفس البشرية كثيرا، أو ما تحتاج إلى تذكره كثيرا، إلى غير ذلك من معان لا يحاط بها، وفي هذا كله من مظاهر الإعجاز القرآني الكثير لمن عقل. فصل في التوسل: مما يستدل به القائلون بجواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وموته قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ إذ ورد في سبب نزولها أكثر من رواية فبعض الروايات تذكر عنهم أنهم كانوا يقولون «إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم» وبعض الروايات تذكر ما يلي:
فصل في روايات أهل الكتاب
قال ابن كثير: وقال العوفي عن ابن عباس وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ... وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. ولما عرض القرطبي لهذه الآية قال: والاستفتاح: الاستنصار ... قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود، فعاذت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان» فعلى هذا الاتجاه في سبب النزول يكون اليهود قد توسلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معرفتهم بوجوده، ولأن الله عزّ وجل قد أقام عليهم الحجة بذلك، فذلك دليل عند هؤلاء على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حياته ومن المعلوم أن حسن البنا- رحمه الله- مجدد القرن الرابع عشر الهجري يرى أن التوسل مسألة فرعية، أي ليست من مسائل الأصول التي لا يسع المسلمين الخلاف فيها، وذلك لوجود أدلة لكل من الطرفين فيها، ونحن سنحقق هذا الموضوع عند قوله تعالى في سورة الأعراف وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وإنما أشرنا إلى هذا الموضوع هنا بمناسبة استدلال أحد الطرفين بالآية المذكورة على صحة ما ذهب إليه. فصل في روايات أهل الكتاب: رأينا في مقطع بني إسرائيل قوله تعالى ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وقوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهذا يجعلنا حذرين في قبول الروايات الكتابية: أخرج البخاري من طرق عن الزهري عن ابن عباس قال: «يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ، وكتاب الله تعالى الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضا لم يشب، وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، لا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم» ولقد استطاع رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه العظيم (إظهار الحق) أن يأتي بمئات الشواهد والأدلة من كلام علماء اليهود والنصارى أنفسهم على التحريف والتغيير والتبديل في الكتب الحالية المعتمدة عند
فصل في السحر
اليهود والنصارى، فإذا كان هذا في الكتب المتوارثة فما بال الروايات الشفهية وكلام الكذبة والعامة، ولا يعني هذا أننا نرفض كل شئ ورد في الكتب السابقة، بل يعني هذا أن نكون حذرين مع عدم إعطاء ما نقبله- قوة في تفسير كتاب الله- أكثر مما تحتمله، ولنا عودة على هذا الموضوع مرة ومرة إذا جاءت مناسبته. فصل في السحر: السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه، وهو أنواع، وكل نوع منه يستند إلى نوع من العلم أو الفن، فمن عرف علمه استطاعه، وهذا هو الفارق بينه وبين المعجزة والكرامة، فالمعجزة والكرامة لا دخل لعالم الأسباب فيهما، بل هما بقدرة الله المباشرة. أما السحر فمبناه عالم الأسباب، ولكن قلة من يعرفه تجعله غريبا خارقا، ومن أنواعه سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ومنه ما يكون أثرا عن الاستعانة بعالم الجن، ومنه ما يكون أثرا عن الخفة والمهارة في التلبيس على العيون والأبصار، ومنه ما يكون أثرا عن مهارات في بعض العلوم يظنها الجهلة سحرا وهي ليست سحرا، ومنه ما يكون أثرا عن استعمال أدوية أو ألوان، ومنه ما يكون أثرا عن استغلال ضعف نفسي عند الآخرين، ومنه ما يكون تغيرا وقلبا للأشياء عن أعيانها، وهذه الأنواع تدخل تحت كلمة السحر لغويا، أما السحر الذي هو سحر بالاصطلاح الشرعي وهو السحر المحرم: فهو ما رافقه كفر أو ضرر تلبيس أو استغلال أو كذب أو دعوى. ومن أقوالهم في السحر: قال القرطبي: وعندنا- أي أهل السنة والجماعة- أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الأسفرائيني من الشافعية حيث قالوا إنه تخييل وتمويه. وقال الألوسي: والمراد به أمر غريب يشبه الخارق وليس به- أي بالخارق- إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره، وعملا كعبادة الكواكب والتزام الجنابة وسائر الفسوق، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه ... وقال الألوسي كذلك: «فسره الجمهور بأنه خارق للعادة- في الظاهرة- يظهر في نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة، والجمهور على أن له حقيقة».
أقول: وأمهات المجلات والصحف العالمية تتحدث في عصرنا عن السحرة وسحرهم بما يدهش ويحير، اقرأ مثلا ما نشرته مجلة «ريدرز دايجست (المختار)» عن ديننجز قارئ الأفكار وخلال العصور كان الكلام عن السحر والسحرة مستمرا على ضيق أو توسع كما سنرى بمناسبات أخرى في هذا التفسير. يقول صاحب الظلال: «وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر وعما يفرق بين المرء وزوجه مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله: إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد، لقد سمى بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها. هذا «التلباثي» التخاطر عن بعد- ما هو؟ وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره فيتلقى عنه دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟ وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟ إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها هو أن أعطاها أسماء ولكنه لم يقل قط ما هي: ولم يقل قط كيف تتم، وثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم؛ إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها؛ وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه، هذه الأحلام التنبئية- وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها- كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟ وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد. كيف أحس أن أمرا ما سيحدث بعد قليل، أو أن شخصا ما قادم بعد قليل ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء! إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى. وليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة والجري وراء كل أسطورة إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا، لا ينفي على الإطلاق، ولا يثبت على الإطلاق؛ حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه، أو يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته ويعرف حدوده ويحسب للمجهول في الكون حسابه ... السحر من قبيل هذه الأمور، وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور، وقد تكون صورة من صوره: القدرة على الإيحاء والتأثير إما في الحواس والأفكار، وإما في
الأشياء والأجسام، وإن كان السحر الذى ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (سورة طه) - ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه وبين الصديق وصديقه، فالانفعالات تنشأ من التأثرات، وإن كانت الوسائل والآثار والأسباب والمسببات لا تقع كلها إلا بإذن الله على النحو الذي أسلفنا .. أقول ما اتجه إليه صاحب الظلال من كون السحر يمكن أن يكون من صور الإيحاء والتمويه هو ما ذهب إليه أبو إسحاق الأسفرائيني وهو من أكبر أئمة أهل السنة والجماعة، والجمهور على أن هذا نوع من السحر ولكنه ليس كل السحر والمسلم في كل القضايا التي أخبره عنها الوحي موقفه التصديق والتسليم، والسحر من جملة ذلك فخطاب (سيد قطب) للعقل الإنساني في أن عليه أن يكون موقفه مرنا في الإثبات والنفي إنما هو في حالة سكت عنها النص وأخذت محلها في كلام البشر. قال الشافعي: «إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر». واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: «إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر- وهذا إذا لم يرافق تعلمه كفر أو يلزم عليه كفر- ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر» وعلى القول بأنه يكفر بمجرد تعلمه فإنه يقتل بذلك وقد رأينا كلام الشافعي في هذا الأمر. قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل- والحالة هذه- قصاصا قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: في المشهور عنهم لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل. وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل ... واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة: لا تقتل ولكن تحبس وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل ...
فوائد
وهل يسأل الساحر حلا لسحره؟ أجاز سعيد بن المسيب ذلك فيما نقله عنه البخاري ولكن لا بد من اشتراط الوسيلة المباحة. قال النسفي: قال أبو منصور الماتريدي: «القول بأن السحر على الإطلاق كفر، خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر، وإلا فلا، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه، وتقبل توبته إذا تاب ومن قال: لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم». قال ابن كثير: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان وفي الحديث: «لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان». أقول: ظن بعضهم أن بعض المخترعات من قبيل السحر وذلك في أول ظهورها ولذلك فإن علينا من خلال نظرة شاملة وعلمية أن نميز بين ما أسماه الإنسان سحرا وهو ليس من السحر المحرم، وبين السحر المحرم في شريعة الله، وإن علينا أن نعرف أن الإسلام جاء ليقطع دابر السحر المحرم من حياة الإنسان، فقد رأينا أن من فقهاء المسلمين من يكفر الساحر في كل حال ومما استدل به هؤلاء قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا وذلك بعد الكلام عن فعل السحرة وهذا الاتجاه عليه الإمام أحمد وطائفة من السلف، وقال آخرون: لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه؛ لما رواه الشافعي وأحمد: أن عمر بن الخطاب كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال: فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري. وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت. قال الإمام أحمد: «صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الساحر». وكان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله قال: أراه كان ساحرا وحمل الشافعي قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا. فوائد: 1 - في الصحيح «من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم». 2 - وفي السنن «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر». 3 - في ضرب الله نموذجا على السحر التفريق بين المرء وزوجه إشارة إلى فظاعة
فصل في قوله تعالى: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
هذا الفعل، فلا شئ أفرح للشيطان من الخلاف بين الزوجين لما يترتب عليه من فتح أبواب كثيرة من الشر، وقد أخرج الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجئ أحدهم فيقول ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئا ويجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله. قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت». 4 - السحر قديم فقد كان في زمن سليمان عليه السلام، وكان قبل في زمن موسى كما ذكر القرآن وكان في قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إذ إنهم قالوا لصالح إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* (سورة الشعراء) أي المسحورين على المشهور كل هذا يدل على أن السحر كان موجودا قديما وقد جاءت الحفريات وجاء علم الآثار ودراسة تاريخ الأقوام فأعطى المزيد في هذا الشأن. فصل في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ: في (ما) في هذا النص مذهبان الأول: أنها نافية، والثاني: أنها اسم موصول: - فعلى القول بأنها نافية تصبح جملة وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ جملة معطوفة على وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ فيصير المعنى على هذا التقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشيطانين هاروت وماروت كفرا يعلمان الناس السحر ببابل، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما. هذا مذهب القرطبي في فهم الآية وقد وجه ذلك من حيث اللغة والإعراب، والمقصود بالملكين المبرءين هنا جبرائيل وميكائيل؛ لأن اليهود تزعم أن جبرائيل وميكائيل هما اللذان نزلا بالسحر على سليمان. وعلى القول بأن (ما) نافية يمكن أن نعتبر وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ جملة اعتراضية فيصير المعنى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، يعلمون هاروت وماروت، وهاروت وماروت يعلمان الناس وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر؛ فيتعلم الناس منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما أنزل السحر على الملكين جبرائيل وميكائيل. وهناك قراءة بكسر اللام؛ فيكون الملكان داود وسليمان وأنهما ما أنزل عليهما السحر. هذه أهم التفاسير التي تترتب على اعتبار ما نافية.
- وعلى القول بأن (ما) اسم موصول فإن معاني متعددة يحتملها النص على ضوء فهم قضية هاروت وماروت. إن المعنى العام للآية على هذا الاتجاه هو: ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت من السحر مع أن الملكين ما كانا يعلمان أحدا السحر إلا بعد أن يعلماه أنهما أنزلا ابتلاء للناس، فلا يعلمان أحدا السحر حتى ينهياه عن ذلك، فإذا أصر علماه فيكون المتعلم قد اختار الكفر عن بصيرة فيستحق عذاب الله. وبعض العلماء لم يفهم أن هناك تلازما بين التعلم والكفر. قال النسفي: «والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا إن كان فيه رد ما لزم في شرط الإيمان، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا» والفتنة في الآية معناها المحنة والإخبار، وهل هذا التعليم من قبل الملكين أثر عن تكليف لهما من الله ليفرق الناس بين السحر والمعجزة فيكونان غير عاصيين به، فهما على أصل العصمة أو أن الأمر غير ذلك؟ إن الفهم الشامل لشريعة الله ولنصوص الكتاب والسنة يرجح الأول. اختلف المفسرون في هاروت وماروت الوارد اسمهما في الآية فقال بعضهم: إن هاروت وماروت شيطانان ونصر هذا القرطبي، وقال بعضهم: إنهما قبيلان من الجن ونصر هذا ابن حزم، وقال بعضهم إنهما رجلان من أهل بابل وصفهما الناس بالملكين لظنهم صلاحهما، وقال بعضهم: إنهما ملكان أنزلا من السماء. ثم هؤلاء اختلفوا فمنهم من قال إنهما كلفا أن يعلما الناس السحر من أجل أن يميز الناس بين المعجزة والسحر، وكل هذه الآراء إنما يريد أصحابها أن لا يجرحوا العصمة الثابتة للملائكة بالنصوص القطعية. وهذا الذي يرجحه علماء الأصول وليس عنه نميل. وأما القول الآخر الذي عنه نعدل فهو: أنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بني آدم، فأهبطا إلى الأرض، فواقعا المعصية، فخيرا بين عذاب الدنيا أو الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا على الآخرة، فهما يعذبان الآن. والذين ذهبوا هذا المذهب جمعوا بينه وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصا لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفى قول: إنه من الملائكة، والذين ذهبوا إلى أن هاروت وماروت ملكان عصيا،
استشهدوا بما ظنوه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها رواية رواها الإمام أحمد، وقد نقلها ابن كثير ثم قال: «فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل» وإذن فليس هناك حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع واستشهد أصحاب هذا المذهب بآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وقد سردها كلها ابن كثير ثم علق عليها بقوله: «وحاصلها راجع ... إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال». قال صاحب الظلال في حديثه عن هاروت وماروت: فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود، بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها، وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين لها، وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض، ولم يكن هناك ما يدعو إلى تفصيل أكثر، لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود. وقد أغرب القصاصون في هذا الموضوع كثيرا كما يرى فيما نقله ابن كثير ومن أغرب ما ذكروه: أن كوكب الزهرة إنما هو المرأة التي زنيا بها وهذا كلام غريب جدا». قال الألوسي: «والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول» وسبب هذا الغلط هو العقلية الخرافية الإسرائيلية، فقد وردت في الإسرائيليات كلمة الزهرة إما على هذه الشاكلة أو أن القصاص أحبوا الإغراب فذكروا ما ذكروا، وقد يدل لذلك أن القصة في رواية ابن عباس- فيما يبدو عن أهل الكتاب- «وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب» قال الألوسي عن هذه القصة: «هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا، وقال غلطا، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى ويبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رءوس الكفرة الطغام، كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين». وتعليقا على قصة امرأة من دومة الجندل ادعت أنها اجتمعت بهاروت وماروت، وحدث لها ما حدث ثم جاءت تستفتي الصحابة في أمر توبتها يقول الألوسي: «فهو ونظائره مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه المرأة الدوجندلية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شئ عن رسول رب البرية صلى الله عليه وسلم ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا
فصل في التشبه
يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام». - وهناك أكثر من بابل والمراد في الآية (بابل العراق) ومما استدل به العلماء على أن بابل في الآية هي بابل العراق ما رواه أبو داود وسكت عنه. وهي علامة الحديث الحسن عنده: «أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة» قالوا عن هذا الحديث: «ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين» فصل في التشبه: يغلط كثير من الناس في موضوع التشبه ومن ثم فإننا نحب أن نضع أساسا في هذا الموضوع هنا، ثم يتضح لنا بعد ذلك شيئا فشيئا: كل بني الإنسان يشتركون في أمور، في كونهم يأكلون وينامون ويتناكحون ويتناسلون والإنسان يشترك مع الحيوان في أمور، فما هو التشبه المنهي عنه؟ هناك التشبه الذي ورد النهي عنه في النصوص، كالنهي عن إقعاء الكلب، وافتراش الثعلب، ونقر الديك في الصلاة، وكالنهي عن تشبه الرجال بالنساء فيما هو من خصوصيات النساء، وعن تشبه النساء بالرجال فيما هو من خصوصيات الرجال. ثم هناك تشبه بالكافرين فيما هو علم على الكفر، أو تشبه بالفاسقين فيما هو علم على الفسوق، أو تشبه بالكافرين والفاسقين فيما به تترك فريضة أو سنة، أو فيما يحقق مصلحة للكفر والكافرين، في مثل هذا يطبق النهي الوارد عن التشبه. فليس كل تشبه منهيا عنه، وسنرى ما يوضح هذه الشئون في التفسير وفي كتاب الأساس في السنة وفقهها بما نعرف حدود ذلك بدقة. فصل في النسخ: ألف في موضوع الناسخ والمنسوخ الكتب الكثيرة، وتبحث عادة قواعده
وتفصيلاته في كتب أصول الفقه وننقل لك هاهنا من كلام القرطبي في تفسيره ما يلائم حدود هذا التفسير: قال القرطبي: « ... معرفة هذا الكتاب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، روى أبو البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس فقال: ليس برجل يذكر الناس لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا .. قال: فاخرج من مسجدنا فلا تذكر فيه. وفي رواية أخرى: أعلمت الناسخ من المنسوخ قال: لا قال: هلكت وأهلكت. ومثله عن ابن عباس رضي الله عليه. قال علماؤنا .. : جائز نسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين (أي في القتال) ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان على ما يأتي بيانه في آية الصيام، وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة، وينسخ الشئ لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن ... وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة وذلك موجود في قوله عليه السلام «لا وصية لوارث» وهو ظاهر مسائل مالك، وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي ... والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى وفي قوله تعالى (في سورة الممتحنة) فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا (أقول: في كون كل الحذاق هذا مذهبهم فيه نظر) ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شرط القياس ألا يخالف نصا، وهذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي. (وهناك) ... نسخ الحكم دون التلاوة ومثله صدقة النجوى، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد تنسخ التلاوة والحكم معا ومنه قول الصديق رضي الله عنه كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ومثله كثير.
فصل في التأويل
والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول كما يأتي بيانه في تحويل القبلة، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس على ما يأتي بيانه في سورتي الإسراء والصافات. ... الجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى، وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه كقوله تعالى (في سورة النحل) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وهناك يأتي القول فيه ... - اختلفت عبارات أئمتنا في حد النسخ (أي في تعريفه) فالذي عليه الحذاق من أهل السنة: أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر. وزاد: لولاه لكان السابق ثابتا. فحافظا على معنى النسخ اللغوي إذ هو بمعنى الرفع والإزالة وتحرزا من الحكم العقلي، وذكرا الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيرها، وليخرج القياس والإجماع إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما وقيد بالتراخي لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا نسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله. وقال القرطبي: «أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة». وقال: لمعرفة الناسخ طرق منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا ونحوه» ومنها أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق وكان المنسوخ معلوما قبله، أو يقول نسخ حكم كذا بكذا، ومنها: أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية والله الموفق للهداية. فصل في التأويل: تعمدنا عند قوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ
فصل في قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله
كُنْ فَيَكُونُ أن نذكر أن هناك اتجاهين: اتجاها يمرها كما جاءت، واتجاها يحملها على المجاز، مع أننا نفضل المذهب الأول في مثل هذه النصوص وذلك من أجل هذا البيان: إن كثيرين من الناس يحملون على التأويل والتعطيل دون إدراك دقيق للتأويل المذموم، لقد لاحظنا عند الكلام عن بني إسرائيل أن بني إسرائيل إنما ذموا بتحريفهم كلام الله على علم منهم بالتحريف وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وسنرى عند قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أن هناك اتجاهات تقف على قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل ما تشابه من القرآن، ولا أعرف أن اتجاها من الاتجاهات حارب التأويل إلا وقد اضطر للتأويل، والمراد به هنا إخراج معنى اللفظ عن ظاهره إلى معنى مجازي، ولذلك فإنني أقول: إنه لا يصح أن يكون موقفنا تشنجيا ونحن نقرأ كلام الراسخين في العلم وهم يعرضون لنا وجهات نظرهم، ما داموا ممن شهدت لهم الأمة بالرسوخ في العلم ويتكلمون في الحدود التي تحتملها اللغة العربية، وبالشكل الذي لا يعارض القرآن بعضه بعضا، أو لا تتعارض به النصوص، ومع أنني أرجح دائما في آيات الصفات عدم التأويل مع التنزيه، إلا أنني لا أرى مانعا من عرض اتجاهات العلماء في الفهم ومناقشتها ورؤية الحجية أو عدمها في كلامهم، مع أنني من خلال تجربتي الشخصية وبعد التمحيص للتأويلات ومن خلال ما أفهمنيه الله عزّ وجل لبعض آيات الصفات أشعر أن كلام الله عزّ وجل عن ذاته لا يسعه إلا تعبيره عن ذاته، فسبحانه وتعالى ما أجله وأعظم صفاته وأرفع كلماته. ولكن كما قلت فهذا لا يمنع أن نرى فهوم العلماء لكل آية ولكل حديث مهما كان، وإني أعتقد أنه ما دام المسلم في دائرة فهوم الراسخين في العلم من هذه الأمة فيما لا يتعارض مع البديهيات ومع الإجماع فإنه لا يقرب من دائرة الضلال. فصل في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: هناك مجموعة من المسائل تثار أثناء الكلام عن هذه الآية منها المسائل الفقهية ومنها ما له علاقة في معرفة الذات الإلهية: أولا: هل هذه الآية منسوخة؟ في ذلك قولان، والذين ذهبوا إلى النسخ لهم في توجيهها قولان، ومن محص هذه الأقوال وجد أنها لا يترتب عليها خلاف عملي إلا
قليلا، إذ الجميع متفقون على وجوب التوجه إلى الكعبة في الأحوال العادية، والجميع متفقون على وجوب التحري حيث جهلت الجهة في ليل أو نهار، وإذا صلوا أجزأتهم، واختلفوا هل على من تبين له بعد أن صلى أنه صلى لغير القبلة هل عليه الإعادة؟ قولان والحنفية على عدم الإعادة، والجميع متفقون على أنه إذا اشتد الخوف صلوا إلى أي جهة قدروا، في صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا (قياما على أقدامهم) وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع متفقون على أن المتطوع في الصلاة على دابته في السفر يجوز له أن يصلي إلى أي جهة قدر، ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة والسفر القريب، وذهب أبو يوسف إلى جواز التطوع على الراحلة ولو في المصر واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي. ثانيا- وفي باب العقائد يثور نقاش في المراد بقوله تعالى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فللعلماء في النص اتجاهان: الاتجاه الأول هو عدم التأويل مع التنزيه فلله وجه ليس كمثله شئ، وعلى هذا فإن معنى الآية: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال عَلِيمٌ بأعمالهم ما يغيب عنه منها شئ، ولا يعزب عن علمه صغير أو كبير. والاتجاه الثاني هو التأويل، وهذه نماذج من أقوال السلف في الآية: قال عكرمة عن ابن عباس فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا. وقال مجاهد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة» وقال ابن جرير: « .. وقال آخرون ... لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان». قال ابن كثير تعليقا على آخر الكلام: وفي قوله «وأنه تعالى لا يخلو منه مكان، إن أراد علمه فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شئ من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا». وقد ذكر ابن جرير وجها آخر للآية فقال: «ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في
فصل: في الفرية الكبرى: أن لله ولدا.
دعائكم لي فهناك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ... قال ابن جريج قال مجاهد: لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا: إلى أين فنزلت فأينما تولوا فثم وجه الله أقول: ولنا عودة على هذا الموضوع عند قوله تعالى في سورة القصص: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. فصل: في الفرية الكبرى: أن لله ولدا. إن هذه الفرية التي تكاد تكون مستمرة في تفكير الكثيرين في تاريخ البشرية تسللت إلى الديانة النصرانية من خلال بولس الذي حرف دين المسيح عليه الصلاة والسلام. إن هناك دراسة صدرت لعالم مسيحي شغل منصب رئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس اسمه (شارل جنيبير) تحت عنوان «المسيحية نشأتها وتطورها». في هذه الدراسة يثبت المؤلف أن المسيحية الحالية هي بولس وأن في أفكار بولس صبت كل الديانات المعروفة وقتذاك ومما يقوله المؤلف مما له علاقة بموضوعنا: «تعبير ابن الله لا يرد سوى مرة واحدة في أعمال الرسل (9/ 20) ويقدم لنا في تلك المجموعة باعتباره تعبيرا خاصا ببولس». «ولكن بولس لم يكن ليدرك في ذلك الوقت كل ما ترتب على مفهوم ابن الله بعد ذلك من مشاكل في فلسفة الدين لا تحصى» «فاليهود كانوا يطلقون عبارة «خادم يهوه» على كل إنسان يظنون لديه إلهاما ... وكلمة Rais تعني في نفس الوقت «خادم» أو (طفل) تماما كالكلمة اللاتينية Puem وعلى هذا يكون التطور من (Rais) أي طفل إلى (Uios) أي ابن، أمرا في غاية البساطة، وقد حدث مثل هذا التطور اللفظي فعلا في النصوص اليهودية- المسيحية (كمجموعة أعمال الرسل) عند ما نقل بعضها إلى رسائل بولس». والمؤلف لا يعتبر أن العملية تمت عند بولس بشكل لفظي بل كانت مرادة كجزء من فلسفة تعليلية لا بد منها لسد ثغرات. وهكذا تسللت هذه الفرية إلى الديانة المسيحية فكانت استمرارا ودعما لاتجاه باطل في التفكير البشري لا يشك عاقل ببطلانه. يقول الشيخ عبد الحليم محمود مترجم الكتاب في مقدمته: «ونفى المؤلف عن
فائدة
المسيح عليه السلام القول بالتثليث: هذا القول الذي لا يفهمه المسيحيون أنفسهم، ولا يفهمه كل من له عقل، إن الثلاثة ليست واحدا كما يقولون، وإن الواحد ليس ثلاثة كما يقولون، وأي عقل يمكنه أن يفهم أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة؟». أقول إن مأساة المسيحية أنها أرادت أن توفق بين التوحيد الذي أتى به موسى وعيسى، وبين كلام بولس فوصلت إلى اللامعقولية ثم قدستها، يقول الشيخ عبد الحليم محمود: ويقول القديس أوغسطين (وهو من أكبر فلاسفة النصرانية) مبررا كل هذا اللامفهوم بلا مفهوم جديد إنه يقول: «أومن بالمسيحية لأنها دين غير معقول». وهكذا حكمت المسيحية على نفسها باللامعقولية من هذه البداية فدخلت في سلك الأباطيل. إنه يستحيل في منطق العقل أن يجتمع كمال الإله مع البنوة، لأن النبوة فيها معنى الجزئية، والله منزه عن الأجزاء، وفيها معنى الافتقار، والله منزه عن ذلك. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ* سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ «سورة الزخرف». فائدة: بمناسبة الكلام عن قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً قال ابن كثير: «وقال الإمام أحمد ... عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لافظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا) انفرد بإخراجه البخاري ... قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال بلغته: «أعينا عمومى وآذانا صموما وقلوبا غلوفا» أخرج هذه الزيادة الحافظ أبو بكر بن مردويه. أقول: إن هذا النقل الصحيح عن ابن عمرو بن العاص له أهميته الكبيرة، إذ كان عند عبد الله بن عمرو زاملتا بعير من كتب أهل الكتاب، فهو من المتتبعين لهذه القضايا في كتب أهل الكتاب، كما كانت في عصر النبوة، وسأنقل في سورة الأعراف البشارة
فائدة
الموجودة في ما يسمى بالتوراة الحالية، وسنرى هناك عجيبة من العجائب، ومعجزة من معجزات هذا القرآن. فائدة: بمناسبة قوله تعالى وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى ... قال ابن كثير: «قال قتادة: «وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) قلت: هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو» أقول: في الظاهر لا توجد مناسبة بين ذكر هذه الرواية وسياق الكلام في تفسير هذه الآية، والذي أتصوره أن ابن كثير ساق ذلك حتى لا يتوهم متوهم بأن إرضاء اليهود والنصارى هو الطريق للنصر بل هو القتال ليظهر الإسلام. فائدة: عند قوله تعالى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قال ابن كثير: «وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ حيث أفرد الملة: على أن الكفر ملة واحدة، كقوله تعالى في سورة (الكافرون) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه، وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث والله أعلم». فصل في ألوية الخداع والرد المكافئ: عند قوله تعالى وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ يقول صاحب الظلال: «إنها العقيدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التى يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة، إنها معركة العقيدة المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين! إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاما شتى في خبث
فصل خاتم في المعجزات وخوارق العادات
ومكر وتورية، إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة، ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة. لم يعلنوها حربا باسم العقيدة- على حقيقتها- خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها، إنما أعلنوها باسم الأرض والاقتصاد والسياسة والمراكز العسكرية وما إليها، وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا، أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها، ولا يجوز رفع رايتها. وخوض المعركة باسمها، فهذه سمة المتخلفين المتعصبين، ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها، بينما هم في قرارة نفوسهم: الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية- بإضافة الشيوعية العالمية- جميعا يخوضون المعركة أولا وقبل كل شئ لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا فأدمتهم جميعا. إنها معركة العقيدة، إنها ليست معركة الأرض، ولا القلة، ولا المراكز العسكرية، ولا هذه الروايات المزيفة كلها، إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته وهو سبحانه أصدق القائلين وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه وما سواه فمرفوض ومردود! ولكن الأمر الحازم والتوجيه الصادق: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى على سبيل القصر والحصر، هدى الله هو الهدى، وما عداه ليس بهدى، فلا براح منه ولا فكاك عنه، ولا محاولة فيه ولا ترضية على حسابه، ولا مساومة في شئ منه قليل أو كثير، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ». أقول: إنه في فترات الضعف الإسلامي الأخيرة لم يزل العالم يتعامل معنا على أساس مصالح بمبادئ ومصالح، ونحن الخاسرون في كل صفقة، وعلينا أن نعمل لنكون أقوياء، فنفرض على العالم أن يتعامل معنا مصالح بمصالح، وضمن موازين عادلة، وحيث تجيز شريعتنا. فصل خاتم في المعجزات وخوارق العادات: لاحظنا من خلال مقطع بني إسرائيل كثرة المعجزات وخوارق العادات في حياة بني إسرائيل، وفي حياة أمتنا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى عصرنا ظهرت معجزات وكرامات، وخوارق عادات كثيرة، حتى إن بعض أولياء هذه الأمة ظهرت على أيديهم خوارق للعادات كثيرة، هذا الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول عنه ابن تيمية رحمه الله:
المقطع الرابع من القسم الأول من سورة البقرة
إن كراماته منقولة تواترا وابن تيمية معروف تدقيقه في هذه الشئون. ومن عرف الله لم يستغرب وقوع المعجزة أو الكرامة، فالله الذي خلق السموات والأرض بكلمة (كن) والذي خلق الأسباب والقوانين؛ لا يعجزه أن يخرق السبب والقانون؛ معجزة لنبي أو كرامة لولي، ولكن علينا في الحالتين أن نتثبت من الوقوع. فإذا ما حدثنا القرآن عن الوقوع فإن من البدهيات أن يوجد عندنا التسليم، وكذلك إذا حدثتنا السنة، وفي كرامات الصحابة والتابعين والأولياء حتى عصرنا، علينا أن نتثبت، فإذا صح النقل ولم يكن ثمة مبرر شرعي للرفض فالأصل التصديق، وقد حدثنا الله في القرآن عن أولياء أكرموا بكرامات كمريم، وجليس سليمان الذي عنده علم من الكتاب. والعجيب أن يسري الإنكار من المجتمعات الكافرة إلينا في هذه الشئون، إن المجتمعات الكافرة لا تظهر فيها كرامات؛ لأنها كافرة ولذلك فهي ترفض مبدأ خرق القانون، أما نحن فالأمر يختلف، فعندنا بفضل الله أولياء وعباد وزهاد، ولم تزل الكرامات تجري على أيديهم، وقد رأينا من كرامات بعض شيوخنا ما نجزم به، ولكن الأعجب من ذلك أن يسري هذا الإنكار حتى على المعجزات التي أخبر عنها القرآن، فيظهر ذلك بمحاولات التأويل لظواهر الآيات، بحيث تؤول كل المعجزات على أنها عادات، وذلك من عمى القلب وضعف اليقين بل هو الكفر نسأل الله العافية. وليكن هذا الفصل خاتمة الفصول. ولنعد إلى سياق السورة حيث وصلنا إلى المقطع الرابع في القسم الأول من سورة البقرة وهو مقطع الحديث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. المقطع الرابع من القسم الأول من سورة البقرة: يمتد هذا المقطع من الآية (124) إلى نهاية الآية (141) يبدأ بقوله تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ... وينتهي بقوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
الفقرة الأولى
يبدأ المقطع بالكلام عن إبراهيم، وينتهي بالكلام عن إبراهيم، ومن أدنى تأمل للمقطع يرى أن المقطع يتألف من ثلاث فقرات واضحة المعالم تضمها وحدة جامعة، والفقرتان الثانية والثالثة تنتهيان بآية واحدة هي قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ* وهذا هو المقطع في فقراته الثلاث. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 124 الى 129] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
الفقرة الثانية
الفقرة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 134] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) الفقرة الثالثة: [سورة البقرة (2): الآيات 135 الى 141] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
كلمة في هذا المقطع وسياقه
كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - ختمت قصة آدم عليه الصلاة والسلام بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وجاء مقطع بني إسرائيل ليعرض علينا نموذجا لأمة أنزل عليها هدى فانحرفت عنه، ويأتي الآن مقطع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ليقص علينا قصة النموذج الكامل لإنسان أنزل عليه هدى فقام به قياما كاملا وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال البيضاوي: فأداهن كملا وقام بهن حق القيام لقوله تعالى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (سورة النجم) لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى في أول آية في مقطع آدم عليه السلام: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وبين قوله تعالى في أول آية من مقطع إبراهيم عليه السلام: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. فالذي جعل آدم خليفة، جعل إبراهيم إماما فهو النموذج الكامل على الخليفة الكامل. 2 - وقبل مقطع آدم في سورة البقرة يأتي مقطع الدعوة إلى التوحيد يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي مقطع إبراهيم نرى النموذج الأعلى على التوحيد متمثلا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ .... أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فمقطع إبراهيم يعمق سياقه المعاني التي وردت في مقطع الدعوة إلى العبادة والتوحيد. 3 - ومن قبل المقطع الأول في هذا القسم جاءت مقدمة سورة البقرة وفيها: قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وفي مقطع إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأتي الأمر المفصل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. 4 - ومن قبل جاءت الفاتحة وكانت الفقرة الخاتمة فيها: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ* غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. وقد رأينا في مقطع بني إسرائيل بعض صراط المغضوب عليهم والضالين، وفي مقطع إبراهيم نرى صراط الذين أنعم الله عليهم. ومع ذلك كله الحوار مع المغضوب عليهم والضالين وإقامة الحجة.
5 - وكما أن مقطع إبراهيم عليه السلام يخدم في سياقه ما مر من السورة، فإنه الأساس والمقدمة للمقطع اللاحق من السورة، وهو مقطع القبلة، إن القبلة التي هي مرتكز من مرتكزات العبادة لله ستتحدد في المقطع اللاحق، ولكن مقطع إبراهيم جاء بمثابة الترشيح للكلام في شأنها، وجاء بمثابة المقدمة لتقريرها أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ .. وَأَرِنا مَناسِكَنا .... وهكذا نرى أن مقطع إبراهيم عليه السلام في محله يخدم سياق الفاتحة، ومقدمة سورة البقرة، ومقطع التوحيد، ومقطع آدم، والمقطع اللاحق، فما صلته بالمقطع السابق عليه مباشرة مقطع بني إسرائيل؟ 6 - قلنا من قبل: إن الحوار مع بني إسرائيل لا زال مفتوحا، وإن ختم مقطع بني إسرائيل، ذلك لأنه لا زال لليهود. كلام يقولونه، متكئين عليه في رفض الإيمان بالإسلام، وفي مقطع إبراهيم يستكمل جزء من الحوار، إذ الإمامة في ذرية إبراهيم مشروطة، وقد أخل اليهود بالشرط فلا حجة لهم في أن تستمر الإمامة فيهم، ولذلك تنتقل الإمامة إلى أمة تقوم بحق الله، وذلك مقتضى دعوة إبراهيم وإسماعيل وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم مقتضى دعوة إبراهيم عليه السلام لأبناء إسماعيل وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... والمقطع يقرر أن دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب هو الإسلام، فإن يرغب بنو إسرائيل عن الإسلام فذلك سفه فيهم. وكما أنه في مقطع بني إسرائيل أعطيت أمتنا دروسا، فكذلك في مقطع إبراهيم، وكما أن أمتنا قد علمت كيف ترد على الدعوات الباطلة في المقطع السابق فكذلك الحال هنا في هذا المقطع. 7 - في مدخل الكلام عن بني إسرائيل رأينا أنه وجهت لبني إسرائيل أوامر ونواه، وأن المقطع جاء بعد ذلك بمثابة تعليل لتوجيه هذه الأوامر والنواهي، ورأينا أن الفصل الثاني من مقطع بني إسرائيل مرتبط بقوله تعالى في المدخل وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وأن الحوار في الفقرتين الأخيرتين من الفصل الثاني انصب على هذه المعاني، وقلنا في هذه الكلمة إن مقطع إبراهيم عليه السلام يكمل الحوار في هذا الشأن، والآن نقول إن مقطع إبراهيم زيادة على تكملة الحوار فإنه يضع أساسا لنقطة تعرض لها مدخل مقطع بني
الفقرة الأولى وتفسيرها
إسرائيل، وهي القضية المذكورة بعد الآية التي ذكرناها آنفا، إن الآية اللاحقة لهذه الآية هي قوله تعالى وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إذ الملاحظ أن مقطع إبراهيم يرد فيه قبل الآية الأخيرة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وسنرى أن مقاطع لاحقه ستتعرض بشكل أوسع لموضوع كتمان ما أنزل الله إن تعانق المقطع مع ما قبله ومع ما بعده كثير كبير شديد، وتعانق فقراته مع بعضها كثير شديد كما سنرى. ولنطرز هذه المقدمة عن سياق المقطع بخاتمة ما قدم سيد قطب لهذا المقطع. يقول: وفي ثنايا هذا العرض التاريخي (الذي عرضه النص وتحدث عنه سيد) يبرز السياق أن الإسلام بمعنى إسلام الوجه لله وحده، كان هو الرسالة الأولى وكان هو الرسالة الأخيرة، هكذا اعتقد إبراهيم، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى، ثم آلت أخيرا إلى ورثه إبراهيم من المسلمين، فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ووريث عهودها وبشاراتها، ومن فسق عنها ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد الله، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشارته. عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته، وهم ورثته وخلفاؤه، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة، وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثه باني هذا البيت ورافع قواعده؛ بانحرافهم عن عقيدته، ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون، فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم، كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب حافل بالإشارات الموحية، والوقفات العميقة الدلالة، والإيضاح القوي التأثير». ولنبدأ عرض وتفسير المقطع: الفقرة الأولى وتفسيرها: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي: واذكر إذ اختبر إبراهيم ربه بأوامر ونواه فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية، من غير تفريط ولا توان، والابتلاء: هو الاختبار والاختبار منا لظهور ما لم نعلم، ومن الله لإظهار ما قد
علم، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى، وللمفسرين في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام كلام كثير، وكل أقوالهم استنباط، إما من خلال السياق، أو من خلال قصة إبراهيم في القرآن، أو من خلال ما قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبينا إبراهيم وهو كلام مفيد ولذلك سنعقد له فصلا. أما هاهنا فنقول: «لقد وردت كلمة (بكلمات) منكرة للإشعار بأن الهدف من السياق هو تبيان قيام إبراهيم بما كلف به لا تبيان التكليف، على أنه من الفقرة، سنرى نموذجا على قيام إبراهيم بما يكلف به من خلال قيامه ببناء البيت قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً الإمام هو: من يؤتم به ويقتدى، وإمامة إبراهيم مؤبدة يجمع عليها حتى المختلفون من أبناء الديانات الكتابية، والظاهر أن إتمام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكلمات سبب الإمامة، فكأنه كان نبيا ثم بإتمامه الكلمات أعطي منصب الرسالة مكافأة، فالقيام بأمر الله كاملا هو الذي يرشح لمنصب الإمامة في دين الله، فما أكثر خطأ الذين يتصدرون للإمامة عن غير طريقها. قالَ إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم، وذرية الرجل: أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ اختلف المفسرون في تفسير العهد والظلم في هذه الآية، فقد فسر الظلم: هنا بالكفر والشرك، وفسر: بالظلم الذي هو مخالفة الشريعة، فعلى الأول يكون المعنى لا ينال عهدي كافر. وعلى الثاني: لا ينال عهدي فاسق، وفسر العهد: بالنبوة والدين والأمر والطاعة والنجاة في الآخرة، كما فسر بالوعد بالإمامة وهو أحقها بالاعتماد. فالمعنى: أنه لا ينال الإمامة فى الدين ظالم، والظلم نوعان: ظلم يتعدى الإنسان إلى غيره، وظلم لنفسه، وسنعقد من أجل إبراز ما يدخل في هذا النص أو من أجل رد الفهوم الخاطئة فيه فصولا. قال ابن كثير: وقال ابن خويزمنداد المالكي: «الظالم لا يصلح أن يكون خليفة، ولا حاكما، ولا مفتيا، ولا شاهدا، ولا راويا». فالمعنى العام للآية كما يفهم من مجموع كلام ابن كثير: واذكر لهؤلاء المشركين، وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها، واذكر لهؤلاء وتذكر ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره بما كلفه به من الأوامر والنواهي، فأتمهن: أي: قام بهن كلهن؛ فاستحق بذلك منصب الإمامة جزاء على ما فعل، فكما قام بالأوامر وترك الزواجر؛ جعله الله قدوة وإماما يقتدى به في الخير،
كلمة في سياق هذه الآية
فرغب إلى الله أن تكون الإمامة في بعض ذريته كذلك فأجيب لذلك، لكنه أخبر بأنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة؛ فلا يقتدى بهم. وبعد الآية الأولى تأتي في الفقرة هذه الآية: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. كلمة في سياق هذه الآية: تأتي هذه الآية بعد إعطاء إبراهيم منصب الإمامة، وبعد إعطائه الوعد بأن يكون من ذريته أئمة، فترينا هذه الآية مظهرا من مظاهر إمامة إبراهيم وواحد من ذريته، وترينا نموذجا على قيام إبراهيم وإسماعيل بما كلفا به، وترينا كذلك أن البيت الذي سيكون قبلة للمسلمين ومحجا لهم إنما وجد بإرادة تشريفية من الله وبأمره، كما ترينا الحكمة من بناء البيت، وترينا أنه في الأصل بني للطواف والعكوف والسجود، وترينا أن الأمر صدر لإبراهيم وإسماعيل بتطهيره، ففي الآية تصحيح لمفاهيم أهل الكتاب والمشركين في شأن البيت، وتأسيس للرد على اليهود في شأن القبلة، وتأنيب لمن ينجس البيت بالشرك بعد أن بني في الأصل للتوحيد، وفي ذلك تأنيب لمن روع المؤمنين وآذاهم وفتنهم، حتى اضطروا أن يخرجوا من جواره، وقد جعله الله مثابة للناس جميعا وأمنا، وفي ذلك دروس لما يستقبل من الزمان. وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً البيت: الكعبة، والمثابة: المباءة والمرجع للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه، والأمن هنا: مكان السلام. وقد فسر ابن عباس كون هذا البيت مثابة بقوله: «لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه»، وقال غيره: «لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا»، وقال ابن زيد: «يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه»، وقال كثيرون من أئمة التفسير: إن المثابة: المجمع، وعلى هذا القول يكون المعنى: أن الله عزّ وجل أراد أن يكون هذا البيت ملتقى للشعوب كلها، وللأجناس كلها، يجتمعون فيه، فيتعارفون وينتفعون، قائمين بأمر الله، عابدين له موحدين معظمين شعائره، وأما كون البيت أمنا فمن حيث: إن من دخله كان آمنا، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف
الناس من حولهم وهم آمنون، واستدل الحنفية بهذه الآية على مذهبهم بأن الجاني إذا أوى الحرم فلا يتعرض له حتى يخرج، لكنه يلجأ إلى الخروج بمقاطعته. وسنعقد لموضوع الأمن عند البيت وحدوده واتجاهات العلماء فصلا. ذكر في هذا النص: شرف هذا البيت، وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مجمعا للناس من كل أقطار العالم، يعرف فيه بعضهم بعضا، ويألف فيه بعضهم بعضا، ويستمع فيه بعضهم إلى بعض، وينفع فيه بعضهم بعضا، وهو كذلك، المكان الذي تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام؛ استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (سورة إبراهيم) كما وصفه تعالى بأنه جعله آمنا لمن دخله حتى الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يهيجه، وقد فسر ابن عباس الأمن هنا بأن هذا البيت والقيام بحقه أمن لهذا العالم كله فلا يخرب، قال ابن عباس: «لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض» قال ابن كثير: وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى اختلف المفسرون في المراد بمقام إبراهيم ما هو: قال ابن عباس: «مقام إبراهيم الحرم كله، مقام إبراهيم الحج كله». وقال سعيد بن جبير: «الحجر مقام إبراهيم فقد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة» وقال السدي: «المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه» وهذا القول يلتقي مع الذي قبله في أن المراد بمقام إبراهيم هو الحجر الذي غاصت فيه قدما إبراهيم، فكان آية، وهو الحجر المعروف الآن، والأدلة التي تعضد أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء البيت كثيرة، من جملتها، أنه هو الذي عليه عمل الناس وفهمهم خلال العصور، إذ يطبقون هذا الأمر بصلاتهم عند الحجر الذي عليه آثار قدمي إبراهيم، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمر: «قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ومنها ما في صحيح مسلم عن جابر قال: «استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين» ومنها ظاهر قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وعلى هذا الاتجاه يكون المعنى: وقلنا اتخذوا من مقام إبراهيم موضع صلاة تصلون فيه.
وهل الحجر الآن في محله حيث تركه إبراهيم؟ يذكر ابن كثير: أن الذي وضعه محله الآن إنما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما قبل ذلك فقد كان ملصقا بجدار الكعبة، فدل فعل عمر، وصنيع الناس أن الحجر أيا كان من الكعبة، فذلك مقام إبراهيم وعنده تكون الصلاة التي أمر الله بها في هذه الآية. وفي فقه الحنفية «يجب على من طاف بالبيت أن يصلي ركعتين لكل طواف، ويسن أن تكون هاتان الركعتان وراء مقام إبراهيم، فإذا لم يتمكن الإنسان من الصلاة عند مقام إبراهيم صلى حيث أمكنه». وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي: أمرناهما أن يطهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها، للدائرين حوله، والمجاورين الذين عكفوا عنده، أي: أقاموا لا يبرحونه، أو المعتكفين والمصلين راكعين وساجدين. فالعهد هنا بمعنى الأمر، وإنما عدي بإلى لأنه بمعنى: تقدمنا وأوحينا فتقدير الكلام: وتقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي من الشرك والريب، وابنياه خالصا لله، معقلا للطائفين والعاكفين والراكعين الساجدين. وقد فهم من ذلك أن الطواف والعكوف والركوع والسجود كلها مما يتعبد الله عزّ وجل به في الحرم، وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل عند البيت الصلاة النافلة أو الطواف النافلة؟. قال مالك: الطواف به لأهل الأمصار أفضل وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا. قال العلماء: وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى في سورة النور: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... ومن السنة من أحاديث كثيرة في الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك، ولهذا قال عليه السلام: «إنما بنيت المساجد لما بنيت له» ومن قوله تعالى وَالْعاكِفِينَ استدلوا على جواز النوم في المسجد: قال ثابت: قلنا لعبد الله ابن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون: قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون قال ابن كثير: «وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب». وهكذا رأينا في الآية ثلاث قضايا معطوفا بعضها على بعض ومرتبطا بعضها ببعض إذ
المعنى الحرفي
التقدير: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وقلنا: اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. ثم بين تعليل الأمر الثاني وكيف تم تنفيذ القضية الأولى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ومن العبارة الثالثة عرفنا لم جعل البيت مثابة وأمنا، وذلك من أجل الطواف والعكوف والركوع والسجود، فمن كان في مكة أو ذهب إليها فعليه أن يلاحظ ذلك. وسنرى أنه بعد مقطع إبراهيم ومقطع القبلة سيأتي قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وذلك استكمالا للسياق في عبادات الحرم. ولكن بعد أن يأخذ السياق مجراه في استكمال التقرير والحوار في القضايا الرئيسية التي يحتاجها السياق. وهكذا رأينا في الآية الأولى من مقطع إبراهيم كيف قررت إمامة إبراهيم وسببها، ورأينا في الآية الثانية إمامة الكعبة واختصاصها بشرف عظيم، فلله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، يخص من شاء وما شاء بما شاء، وإذ تتقرر إمامة البيت وإمامة إبراهيم؛ يأتي الأمر لهذه الأمة باتخاذ مقام إبراهيم مصلى وصلة ذلك بإمامة إبراهيم واضحة: ثم يأتي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. المعنى الحرفي: واذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا البلد أو هذا المكان بلدا ذا أمن، وارزق المؤمنين بالله واليوم الآخر من أهله من الثمرات فقال الله تعالى جوابا له وَمَنْ كَفَرَ أي: وأرزق من كفر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا أي فأمتعه تمتيعا قليلا، أو زمانا قليلا إلى حين أجله ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي ألجئه إلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الذي يصير إليه وهو النار. قاس إبراهيم عليه السلام الرزق على الإمامة، فإذ أعلمه الله بخصوصية الإمامة في المؤمنين، فإنه قطع كل عاطفة تربطه بغيرهم فلم يدع الله بالرزق إلا لهم، فأخبره الله أنه يرزق الكافرين كما يرزق المؤمنين، قال ابن إسحاق: «لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف
كلمة في السياق
أمره، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك، قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا» أقول: ولذلك لم يكن الرزق علامة على القرب، فكان ذلك استدراجا في حق الكافر، ومحل اعتبار من المؤمن، وقد وافق دعاء إبراهيم بالأمن للبيت تقدير الله، فكان البيت آمنا، واستجاب الله عزّ وجل دعوة إبراهيم في رزق سكان الحرم، قال الألوسي: «حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد». كلمة في السياق: جاءت هذه الآية بعد آية العهد لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت، وبعد آية إعطاء الإمامة لإبراهيم، وقبل الآية التي تذكر الشروع ببناء البيت، فدلتنا على أن إبراهيم (عليه السلام) وقد علم مكان البيت بالنسبة للعالم دعى لأهله بالأمن والرزق، كما أرتنا نموذجا على قيام إبراهيم بأمر الله، فإنه لما علم أن عهد الله لا يناله الظالمون لم يدع إلا للمؤمنين بالرزق، فالآية ترينا في سياقها نموذجا على مسارعة إبراهيم في تنفيذ الأمر وقيامه بالأوامر والنواهي. وبعد أن عرفنا الله عزّ وجل على إرادته في جعل البيت مثابة وأمنا، وعرفنا على رغبة إبراهيم في أن يعطي أهل الحرم رزقا وأمنا، تأتي الآية اللاحقة لتقص علينا بناء البيت، ورغبات إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيانه، ورغبتهما إلى الله في ذلك مما حققه الله عزّ وجل فيما بعد، ومما يعاند أهل الكفر في شأنه بعد ذلك كما سنرى. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. المعنى الكلي: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يدعوان هذه الدعوات، فهما في عمل صالح، ويدعوان الله، إذ الدعاء والإنسان في طاعة أمر الله مظنة إجابة، ومجموع هذه الدعوات تعبر عن العواطف التي كانت تثور في أنفسهما آنذاك، ومجموع ذلك هو: الرغبة في قبول العمل، وفي قبول الذات بتوفيقها للإسلام في شأنها كله، والرغبة في استمرار الإسلام في الذرية،
المعنى الحرفي
وذلك تعبير عن الحرص على بقاء الإسلام، والرغبة في التعرف على الشعائر التي يحبها الله، والرغبة في مغفرة الله، والرغبة في أن يبعث الله للذرية رسولا يتلو عليها آيات الله، ويعلمها كتاب الله وسنن الأنبياء، ويطهرها من الأدران الحسية والمعنوية، وقد استجاب الله لهما ذلك كله: المعنى الحرفي: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ البيت: الكعبة والقواعد: جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه ومعناها: الثابتة، ورفع الأساس: البناء عليه، لأنه إذا بني على القاعدة نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر، وذكر القواعد مبهمة أولا ثم تبيانها بقوله مِنَ الْبَيْتِ تفخيم لشأن المبين، وإسماعيل معطوف على إبراهيم، وكان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قال الألوسي: «وآثر صيغة المضارع أي في قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ مع أن القصة ماضية .. استحضارا لهذا الأمر؛ ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها، وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه» وفي العرض من خلال الفعل المضارع يَرْفَعُ مع الابتهالات: «ما يرينا مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، يرينا إياه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن» عن الظلال بتصرف رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي قائلين: يا ربنا إنا تقربنا إليك ببناء هذا البيت، فتقبل عملنا؛ إنك أنت السميع لدعائنا، العليم بضمائرنا ونياتنا. قرأ وهيب بن الورد مرة هذه الآية ثم بكى وقال: «يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن، وأنت مشفق أن لا يتقبل منك» ذكره ابن كثير ثم قال: «وهذا كما حكى الله عن حال المؤمنين الخلص في قوله تعالى (في سورة: المؤمنون) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن لا يقبل منهم كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» كما سيأتي في موضعه رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي اجعلنا مستسلمين لك يقال: أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن، قال ابن جرير: «واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك». وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ قال السدي: يعنيان العرب. قال ابن كثير
[سورة البقرة (2): آية 129]
«والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... قال النسفي: «وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة» أقول: والذين لا يعطون العواطف البشرية العميقة في النفس البشرية حقها مخطئون، فالحرج أن تتجاوز العواطف البشرية حدودها المشروعة، أو تؤثر على النكوص عن أمر أو الوقوع في نهي وَأَرِنا مَناسِكَنا أي وبصرنا متعبداتنا في الحج، أو عرفنا إياها وواحد المناسك: منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك أقول: وقد عرف الله إبراهيم على المناسك، وإن حجنا الحالي كله له صلة بإبراهيم وآله عليهم السلام كما سنرى ذلك. وَتُبْ عَلَيْنا ما فرط منا من التقصير. قالا ذلك هضما لنفسيهما وإرشادا لذريتهما وللخلق إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ لمن تاب الرَّحِيمُ بعباده رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أي من الذرية أي وأرسل فيهم رسولا لهم من أنفسهم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلى الله عليه وسلم رسولا في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن، فكانت دعوة مستجابة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك، وصدق أنبيائك ورسلك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، قال الألوسي «بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ويوقفهم على حقائقه وأسراره، والظاهر أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن» أقول: كانت هذه الدعوة قبل إنزال التوراة على موسى (عليه السلام) بسنين طويلة، وهذا يقتضي إما أنهما دعوا بذلك بإخبار من الله تعالى أنه سينزل كتبا، أو بمعرفة عن الكتب، وعلى القول الثاني فإن احتمال أن يكون هناك كتب منزلة من الله قبل التوراة والزبور والإنجيل يبقى قائما، وإن كثيرا من الأمم كأهل الهند وفارس تدعي وجود كتب مقدسة عندها، فهل لهذه الكتب أصل، ثم طرأ عليه ما طرأ؟ موضوع قابل للدراسة، وإن دراسة مستوعبة مقارنة شاملة يمكن أن توصلنا إلى بعض الحقائق مع الاحتراس الكثير وَالْحِكْمَةَ أي: ويعلمهم الحكمة وهي: وضع الأشياء في مواضعها: سواء كانت دنيوية أو أخروية، وإذ كانت الحكمة هي ما سوى الكتاب من تعليم الرسل، فإن كل ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى حكمة، ومن ثم فسر بعضهم الحكمة بالسنة وفسر ابن إسحاق دعوة إبراهيم وإسماعيل بتعليم الكتاب والحكمة بقوله: «يعلمهم الخير فيعقلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضى الله عنهم إذا أطاعوه، ليستكثروا من طاعته، ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته» أقول فكأنه فسر
فوائد
الكتاب بالفرائض والحكمة بالسلوك الصحيح وَيُزَكِّيهِمْ أي: ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس الحسية والمعنوية أقول: دل ذلك على أن شأن الوارث الكامل للرسل أن يعلم الكتاب، ويربي على السلوك الحكيم، ويطهر الأنفس من شركها وأمراضها، فمن فاته شئ من ذلك؛ فاته شئ من الوراثة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يغلب، والذي لا يعجزه شئ، وهو قادر على كل شئ الْحَكِيمُ في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من مقطع إبراهيم «وقد أعطتنا دلالات وإيحاءات، وعلى ضوء هذه الدلالات والإيحاءات تأتي الفقرة الثانية لتواجه الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة، وينازعون الرسول صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالة، ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة» عن الظلال بتصرف. فوائد: 1 - قال ابن كثير: «وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل: الملائكة قبل آدم ... وقيل: آدم ... وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب ابن منبه أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث من ذلك فعلى الرأس والعين». 2 - روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قصة إسماعيل وإبراهيم ومنها ما له علاقة ببناء البيت. «قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا (وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. 3 - أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: «قلت يا رسول الله .. ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام .. » قال ابن كثير: وقوله: (ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام) قيل: كان مناما رأته حين حملت به، وقصته على قومها
كلمة في السياق
فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة، وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم، إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» وفي صحيح البخاري «وهم بالشام» .. اه. أقول: والمراد ببدء أمره عليه الصلاة والسلام أي بدء ظهور أمره في هذا العالم وأقول: إن للشام لرسالة وإن على أهلها لواجبا. 4 - وقال صاحب الظلال تعليقا على دعوة إبراهيم وإسماعيل في أن يبعث الله في ذريتهما رسولا: «وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون .... إن الدعوة المستجابة تستجاب ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته، غير أن الناس يستعجلون، وغير الواصلين يملون ويقنطون». كلمة في السياق: انتهت الفقرة الأولى من مقطع إبراهيم وقد تقررت فيها إمامة إبراهيم وسببها، وإمامة بعض ذريته، وتقررت فيها إمامة البيت، وبعض الآداب فيه ومعه، وتقررت فيها مجموعة الرغبات التي كانت في قلب إبراهيم وإسماعيل، والتي تمثلت بدعوات، وإذ كان إبراهيم إماما فإن هذه الرغبات لكل منها وزنه العظيم. والقضيتان الكبيرتان في الفقرة هما الإسلام والبيت، والفقرتان اللاحقتان في هذا المقطع تناقشان الراغبين عن الإسلام والداعين لغيره. وسيأتي المقطع اللاحق ليكون فيه كلام عن اتخاذ البيت قبلة ولم نخرج من الفقرة الأولى إلا وقد اتضح موضوع الإسلام، والأمة المسلمة، التي سيتجدد ظهورها فيما بعد، بذرية إبراهيم وإسماعيل من العرب، ليشكلوا نواة الأمة الإسلامية في العالم بعد غياب، بالقائد والمنشئ والمربي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. الفقرة الثانية في مقطع إبراهيم عليه السلام: قلنا الفقرتين التاليتين في مقطع إبراهيم كلتاهما تناقش موضوع الإسلام.
[سورة البقرة (2): آية 130]
إحداهما تناقش الراغبين عنه؛ ولذلك تبدأ بقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. والثانية: تناقش الداعين إلى غيره؛ ولذلك فإنها تبدأ بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً .. فنحن الآن إذن في الفقرة التي تناقش الراغبين عن الإسلام: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ هذا استفهام فيه معنى الإنكار والاستبعاد أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح، الذي هو ملة إبراهيم، والملة: هي السنة والطريقة وقوله إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جهل نفسه فظلمها بسفهه، وسوء تدبيره؛ بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفاه الله في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنة، إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من سفهه؛ أم أي ظلم أكبر من ظلمه؛ كما قال تعالى (في سورة لقمان): إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ هذا بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملة إبراهيم، لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. هذا بيان لسبب الاصطفاء أنه أمر بالإسلام والاستسلام لله فأسلم واستسلم، والإسلام فيه معنى التسليم والإذعان والطاعة والإخلاص لله. فوائد: 1 - اصطفاء إبراهيم في الدنيا أي: اختياره بالرسالة واجتباؤه من سائر المخلوقات، وكونه في الآخرة من الصالحين شهادة له بفعل الصلاح، والثبات على الاستقامة والخير والصلاح، فاجمع له الكمالات الدنيوية والأخروية. فالسفيه وحده أي: الجاهل الخفيف العقل هو الذي يرغب عن طريق فيه خير الدنيا والآخرة. 2 - ذهب أبو العالية وقتادة: «أن هذه الآية نزلت في اليهود؛ أحدثوا طريقا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه» والقاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فما من إنسان يرغب عن ملة إبراهيم إلا جاهل لنفسه، إذ الوضع الصحيح للنفس أن تكون مستسلمة لله علما وحالا وسلوكا، وكان إبراهيم إماما في ذلك، فالرغبة عن هذه الطريقة لا تكون إلا أثرا عن الجهل والسفه والطيش.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: 1 - مر معنا في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ وسيأتي معنا في أول المقطع اللاحق مقطع القبلة قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. وفي هذه الفقرة تحدد معنا معنى السفهاء بما لا يقبل لبسا، ألا وإنهم الراغبون عن الإسلام لله رب العالمين. 2 - إن الاستسلام لله رب العالمين هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فمهما أمر به الله أو نهى عنه أو اختاره، فعلى الإنسان أن يستسلم له، وقد اختار الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلى الإنسان أن يستسلم لله في ذلك، ومن لم يفعل فإنه من السفهاء كائنا من كان. 3 - ولقد احتج اليهود من قبل في رفضهم الإيمان بالقرآن؛ بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، وتستكمل الحجة عليهم فيما يأتي من هذه الفقرة، بأن وصية إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الإسلام والتوحيد، فعليهم أن يسلموا، ولا ينفعهم انتسابهم للصالحين إن كانوا كافرين. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله، أو وصى بهذه الكلمة وهي (أسلمت لله رب العالمين) إبراهيم بنيه لحرصه عليها ومحبته لها، حافظ عليها إلى حين الوفاة، ووصى بنيه بها من بعده كقوله تعالى (في سورة الزخرف) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَيَعْقُوبُ هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى: ووصى بها يعقوب بنيه أيضا، يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذه هي الوصية للأبناء، وإذن يقدر قبل: يا بَنِيَّ قول محذوف فيكون التقدير: قال «يا بني إن ... » ومعنى هذه الوصية: إن الله أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام، ووفقكم للأخذ به، فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، قال ابن كثير في تفسير هذه الوصية: «أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحا ثبت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة
[سورة البقرة (2): آية 133]
حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع- أو ذراع- فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع- أو ذراع- فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: «ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس»، وقد قال الله تعالى (في سورة الليل) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى اهـ. كلام ابن كثير. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. أَمْ على الراجح في الآية أنها منقطعة بمعنى بل، والهمزة للإنكار، ومعنى (بل) الانتقال عن الكلام الأول وهو التوصية- إلى توبيخ اليهود على ادعائهم أن يعقوب وأبناءه دينهم اليهودية، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى: أي ما كُنْتُمْ شُهَداءَ أي حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ حين احتضاره عليه الصلاة والسلام، وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟! قال ابن كثير في الآية: «يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب- أبناء إسماعيل- وعلى الكفار من بني إسرائيل- وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام- بأن يعقوب لما حضرته الوفاة إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه، قال النحاس: والعرب تسمي العم أبا نقله القرطبي ... إِلهاً واحِداً أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به غيره وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مطيعون خاضعون ... والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم» اه. ثم قال تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة في تِلْكَ إلى إبراهيم عليه السلام وأولاده والأمة هنا بمعنى: الجماعة قَدْ خَلَتْ أي قد مضت لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين، لا ينفعكم انتسابكم إليهم؛ إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بأعمالهم، نصت الآية على أن الكافر لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أم متأخرا، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم
فائدة
إلا ما اكتسبتم؛ وذلك لافتخارهم بآبائهم. وفي الحديث الذي رواه مسلم «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه». وبهذا استكملت الحجة على الراغبين عن دين إبراهيم، ومن رغب عن الإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فقد رغب عن ملة إبراهيم. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. فائدة: - استدل بقوله تعالى قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ من جعل الجد أبا (في حال وفاة الأب) وحجب به الإخوة في الإرث، كما هو قول الصديق، حكاه البخاري عنه، من طريق ابن عباس وابن الزبير ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف، وقال مالك والشافعي وأحمد فى المشهور عنه: إنه يقاسم الإخوة واختاره صاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. كلمة في السياق: بالفقرة السابقة تنتهي مناقشة الراغبين عن دين إبراهيم، وخاصة أصحاب دعوى الانتساب إليه، مع انحرافهم عن التوحيد والإسلام والعبادة الخالصة. وقد ذكرنا قوله تعالى- حكاية عن أبناء يعقوب (عليه السلام): نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ببداية هذا القسم كله يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فالأمر الذي وجه للناس جميعا بالعبادة والتوحيد تأتي المقاطع لتعمقه، ولم يبق من مقطع إبراهيم إلا الفقرة الأخيرة، وهي التي تناقش الداعين إلى غير ملة إبراهيم، بعد أن ناقشت الفقرة السابقة الراغبين عن ملته، وتختم بالآية نفسها التي ختمت بها الفقرة السابقة: الفقرة الثالثة في مقطع إبراهيم عليه السلام: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
كلمة في السياق
الْمُشْرِكِينَ أي قالت اليهود: كونوا يهودا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، والجواب قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً الحنيف: هو المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق، وقد رأينا في الفقرة السابقة أن ملة إبراهيم هي الإسلام، فالاستسلام لله واتباع هداه هو الهدى لا دعاواهم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل من الموحدين، هذا تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلا منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك، بينت الآية أن الهداية في الاستسلام لله وعدم الشرك به، وبدون ذلك فلا هداية، وهؤلاء وهؤلاء ليسوا مسلمين وليسوا موحدين، فأنى يكونون مهتدين، وكيف يزعمون أن الهداية عندهم ويدعون إليها، روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ... قال قتادة: «الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم الأمهات، والبنات، والخالات، والعمات، وما حرم الله- عزّ وجل- والختان» أقول: الحنيفية: هي موافقة الفطرة بالتوحيد، وترك ما نهى الله عنه، وفعل ما أمر به، ذلك مقتضى العهد الأول. كلمة في السياق: في هذه الآية الأولى من هذه الفقرة جاء الرد على زعم اليهود والنصارى، أن الهدى عندهم فجاء الرد عليهم: بأن الهداية في ملة إبراهيم، واستكمالا للرد واستكمالا لإقامة الحجة، يأمر الله هذه الأمة أن تعلن إيمانها بكل هدى أنزله الله، من لدن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل ذلك، وأن تعلن استسلامها لله عزّ وجل، تلك هي الهداية الكاملة لا مزاعم اليهود والنصارى. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا الخطاب للمؤمنين، وما أنزل إلينا هو القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ السبط: هو الحفيد والأسباط: هم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. قال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، ونحن مأمورون بأن نؤمن بالوحي الذي أنزل على أنبيائهم وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أوتي موسى التوراة؛ فنحن نؤمن بذلك، وأوتي عيسى الإنجيل؛ فنحن نؤمن بذلك، أخرج ابن أبي حاتم .. عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن» وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ أرشد الله عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم
[سورة البقرة (2): آية 137]
بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا، وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي نؤمن بهم جميعا فلا نفعل ما فعلت اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي ونحن لله مستسلمون، والاستسلام لله هو ذروة الإخلاص. يقول صاحب الظلال تعليقا على هذه الآية: «تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا، وبين الرسل جميعا، هي قاعدة التصور الإسلامي، وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور، والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي، الذي يملك الجميع الحياة في ظله، دون تعصب ولا اضطهاد، والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام، ومن ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى من اتبعها فقد اهتدى، ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت، ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار». فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا قال ابن كثير: يقول تعالى: فإن آمنوا يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، فقد اهتدوا أي: فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي في خلاف وعداوة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم، هذا ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم، وقد أنجز وعده بقتل بعضهم وإجلاء بعضهم، والوعد لا زال مستمرا ومعنى (السين) أن ذلك كائن لا محالة ولو تأخر إلى حين وَهُوَ السَّمِيعُ لما يضمرون من الحسد والغل، وهو معاقبهم عليه، فهو وعيد لهم، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يسمع ما تدعو به، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق، وهو مستجيب لك، وموصلك إلى مرادك صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ هذه تتمة الحجة في الرد على الداعين إلى ترك ملة إبراهيم إلى يهودية أو نصرانية، فتقدير الكلام على رأي بعض المفسرين إما: قولوا صبغنا الله صبغة أو قولوا: صبغة الله، أو بل صبغة الله، على البدل من ملة إبراهيم أي: بل ملة إبراهيم، بل صبغة الله، وعلى كل هذه الأقوال فإن هذه الآية استمرار للرد على دعاة اليهودية والنصرانية ومزاعمهم، أن الهدى عندهم، أمرنا أن نعلن أن الهداية في ملة إبراهيم ونحن عليها، وأمرنا أن نعلن إيماننا بكل
وحي أنزله، وأمرنا أن نعلن أن ما نحن عليه هو صبغة الله، وأنه لا أحسن من ذلك، وأننا مخلصون له العبادة فمن اجتمع له ذلك فهو على الهداية الكاملة، لا من زعم أن الهداية عنده بلا دليل. من عادات النصارى أنهم يغمسون أولادهم بماء يسمونه: المعمودية، ويقولون عنه: إنه تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانيا حقا. يقول شارل جنيبير في كتابه (المسيحية وتطورها) عن التعميد هذا: «فإذا ما آمن الإنسان به (أي بالمسيح) أقيمت له مراسم التعميد، وهي طقوس يهودية الأصل تبناها المسيحيون .... تعقد الدخول في الكنيسة المسيحية بفعل نمو الطقوس التي شملت شيئا فشيئا جميع المجالات الدينية .... وأصبح التعميد نفسه احتفالا معقدا يشتمل- على أقل تقدير- على مجموعة من التعليمات الخاصة، وعلى الغسل بالماء الذي يكرر ثلاثا، وعلى إجراء اللمس باليد الذي يصاحبه المسح بالزيت المقدس (المسح بالزيت تقليد من تقاليد اليهود كما يقول المؤلف) ثم ينتهي إلى طقوس القربان الأول .... وليس من العسير علينا أن نكشف عن روح الأسرار الهيلينية فى هذا التعليم التدريجى .... » فأمر المسلمون بهذه الآيات أن يقولوا لهم: آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغته، فعلى هذا الاتجاه في الفهم تكون صِبْغَةَ اللَّهِ هنا حديثا عن أثر الإيمان الذى أمر به المسلمون في الآية قُولُوا آمَنَّا .... فالإيمان الصحيح الشامل يطهر النفوس، فتصبح هذه الأنفس بالإيمان ذات لون رباني. قال البيضاوي ذاكرا بعض اتجاهات المفسرين في تفسير صِبْغَةَ اللَّهِ « .... أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسماه: صبغة، لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب، أو للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم .... » وهناك اتجاه في تفسير الآية أن المراد بصبغة الله دينه، فهذا الدين الذى أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي صبغه هذه الصبغة، فهو أثر مباشر عن الله صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي: لا دين أحسن من دينه، أولا تطهير أحسن من تطهيره الذي تأخذ به الأنفس لونها الصحيح وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ قال البيضاوي: (هذا) تعريض لهم أي: لا نشرك به كشرككم .. ، فنحن قائمون بعبادته كما أمر، معطون العبودية له كما يحب، وهذا مفترق الطريق بين المسلم وغيره، المسلم يعتبر أن مقامه الصحيح هو في العبودية لله، وغير المسلم يعتبر نفسه حرا، فلا عبودية ولا عبادة، أو عبودية وعبادة في
كلمة في السياق
غير محلهما الصحيحين. لقد صبغنا الله بالإيمان صبغته، فالحمد لله رب العالمين. كلمة في السياق: لقد رأينا أن هذه الفقرة رد على الداعين لغير ملة إبراهيم، وهذا الرد يأتي على مرحلتين: المرحلة الأولى هي ما مر معنا، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية: وهي الآيات الأخيرة في الفقرة فصار التسلسل: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ... قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ .... قُولُوا آمَنَّا .... صِبْغَةَ اللَّهِ .... هذه المرحلة الأولى في الرد، والمرحلة الثانية تبدأ بقوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ ... فهذا وما بعده من الفقرة تتمة الجواب على قولهم الذي بدأت به الفقرة فلنر تفسير تتمة الفقرة: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي أتجادلوننا وتناظروننا في شأن الله وهدايته واصطفائه من شاء، كاصطفائه النبي صلى الله عليه وسلم من العرب دونكم، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترون أنكم أحق بالنبوة منا وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي نشترك جميعا في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن العمل علامة ودليل، أنتم لكم أعمال ولنا أعمال، ومن تأمل أعمالنا وأعمالكم عرف المستقيم على أمر الله من المنحرف وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ هذه هي العلامة الثانية على أننا أهل الهداية لا أنتم والمعنى: ونحن له موحدون، نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالهداية، فنحن المهتدون لا أنتم، قال البيضاوي: «روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا، فنزلت: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم (أي الحجة) على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء- والكل فيه سواء- وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص، فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها، فلنا أيضا أعمال وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أي: موحدون نخلص بالإيمان والطاعة دونكم». وقد رد الألوسي اتجاه البيضاوي هذا،
[سورة البقرة (2): آية 140]
معتبرا أن القول الأقوى، هو في كون اليهود والنصارى ادعوا أن الدين الحق اليهودية والنصرانية، وبنوا دخول الجنة والاهتداء عليهما، فجاء الرد عليهم من خلال الحديث عن ربوبيته، وصلاح أعمالنا وفساد أعمالهم، وإخلاصنا في العمل له» ومما يمكن أن يقال: إن الله علمنا إلزامهم الحجة من خلال الإخلاص وحده في الآية، وذلك أنهم مشركون، وأنهم يعملون رياء وسمعة، وخضوعا لضغوط اجتماعية وغيرها، فالله رب الجميع، ولكل عمله، ولكنا مخلصون وأنتم غير مخلصين، فلا تدعوا أن الله لكم ومعكم وأنتم كذلك، وتكون المحاجة بيننا وبينهم في أن الله معنا أو معهم، لنا أو لهم، ومن تأمل لغة اليهود والنصارى حتى الآن، أدرك أن لغتهم الحديثة، هي لغتهم القديمة، في دعوى أن الله لهم ومعهم، مع أن إيمانهم بالربوبية مخدوش، وأعمالهم منقوضة، وإخلاصهم معدوم؛ لأن الإخلاص عمل لله وبالله، وفيما شرع الله، وأنى لهم ذلك كله، ثم تأتي الآية اللاحقة فتستكمل الحجة: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي: أتحاجوننا في الله ... فأنتم مغلوبون في زعمكم أنكم المهتدون، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ ......... كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى حتى تنحصر الهداية فيكم فأنتم كاذبون لأن هؤلاء كانوا قبل اليهودية والنصرانية، والله شهد بأن دينهم الإسلام، هذا إذا اعتبرنا أن (أم) في هذه الآية معادلة للهمزة الموجودة في الآية السابقة عليها، وهو اتجاه للمفسرين، وعلى هذا الاتجاه يكون الاستفهام في الآية السابقة وهذه الآية إنكاريا. قال الألوسي: «والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى: كل من الأمرين منكر ينبغي ألا يكون إقامة الحجة وتدوير البرهان على حقية ما أنتم عليه- والحال ما ذكر- والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام». وفائدة هذا الأسلوب- مع أن العلم حاصل بثبوت أحد الأمرين، الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم، فكيف إذا اجتمعا، كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: «أتدبيرك أم تقريرك». وعلى القول بأن (أم) منقطعة أي بمعنى الهمزة وبل، يكون التقدير: «بل أتقولون إن إبراهيم وإسماعيل ... » فيكون المعنى أنكم تحاجون في الله من خلال دعواكم أنكم على الهداية، فأنتم في هذه الدعوى تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم الصلاة والسلام، كانوا هودا أو نصارى؛ لأنكم تعتقدون هدايتهم، فذلك زعم منكم أن هؤلاء كانوا على اليهودية أو النصرانية، وذلك زعم باطل وسنرى في سورة (آل عمران) التي هي تغطية لمعان في
[سورة البقرة (2): آية 141]
سورة البقرة كيف يأتي قوله تعالى ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا .. وبهذا استكملت الحجة على اليهود والنصارى، في زعمهم أن الهداية عندهم و (أم) على القول الراجح معادلة للهمزة في (أتحاجوننا)، يعني: أي الأمرين تأتون؟ المحاجة في الله، أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين، فإذا حاججتمونا في الله تبين أننا المهتدون، وإذا ادعيتم أن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية فهذا كذب، فهل كان هؤلاء المذكورون على يهودية أو نصرانية؟ ولا يهودية إلا من بعد موسى، ولا نصرانية إلا من بعد عيسى، فالهداية إذن هداية الله التي يخص بها من شاء، الأمر أمره والوحي وحيه، ثم قال: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ بل الله أعلم بمن اهتدى، وأعلم بمن يهدي، وأعلم بخبر أنبيائه المذكورين، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى. قال الألوسي: أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين، بل الله تعالى أعلم بذلك، وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا، فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض، ثم قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة ثابتة عنده، واصلة من الله إليه، وهي شهادته تعالى لإبراهيم بالحنيفية، أو شهادتهم التي عليهم أن يؤدوها في حق محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وعلى كل فالآية فيها تعريض بهم؛ إذ إنهم يعرفون أن محمدا رسول الله، بشرت به التوراة والإنجيل، وكان عليهم أن يشهدوا له ويتابعوه فلم يفعلوا فليس أشد في الظلم من هذا، أن يكتم الشهادة الشهود. عرفوه وأنكروه وظلما … كتمته الشهادة الشهداء. وهم يعرفون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ... كانوا على الإسلام لله، وهم يكتمون هذا، ويدعون أن هؤلاء كانوا يهودا أو نصارى، فلا أظلم منهم، حملهم الله الشهادة فكتموها، أو شهد الله في كتبهم على أشياء فأنكروا شهادة الله؛ فمن أظلم منهم؟ لا أحد وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من تكذيب الرسل، وكتمان الشهادة، والدعوة إلى الباطل، وادعاء الهداية، وصرف الناس عن الدين الحق، هذا تهديد ووعيد لأهل الكتاب، أي: إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى، بل هو محصل لأعمالكم، محيط بجميع ما تأتون وتذرون، فيعاقبكم بذلك أشد عقاب. وبنفس الخاتمة التي ختمت بها الفقرة السابقة تختم هذه الفقرة. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ
كلمة في السياق
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ. قال الألوسي: (هذا) تكرير لما تقدم، للمبالغة في التحذير، عما استحكم في الطباع، من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم ... ، أو تأكيد وتقرير للوعيد، يعني: أن الله يجازيكم على أعمالكم، ولا تنفعكم آباؤكم، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم، بل عن أعمال أنفسكم» فكما لا يسألون عن أعمالكم السيئة، فلا يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، فلا تغتروا بمجرد النسبة إليهم، حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله، واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين، إلى جميع الإنس والجن صلى الله عليه وسلم، أقول كررت الآية للتأكيد، وعلامة على نهاية الفقرة، فمما يستدل به على نهاية بعض الفقرات، أو بعض المقاطع، أو بعض الأقسام، التشابه، مع نهايات سابقة أو لاحقة، كما سنرى في هذا التفسير. والمعاني هي التي تحدد. كلمة في السياق: 1 - بدأت سورة البقرة بمقدمة حددت صفات المتقين والكافرين والمنافقين، ثم جاء القسم الأول من السورة داعيا إلى عبادة الله وحده وتوحيده، ثم سار السياق حتى وصلنا إلى مقطع إبراهيم، فعلمنا من خلال المقطع أن ما دعينا إليه وما طولبنا به هو الإسلام دين إبراهيم. وبهذا نرى كيف أن السورة تبني الشخصية الإسلامية شيئا فشيئا، وتتكامل معانيها شيئا فشيئا، وتتلاحم المعاني بشكل هو وحده معجز. 2 - وإذا تأملت الفقرة الأخيرة في عرض القول ورده، تجد في ذلك نموذجا على نوع من الإعجاز، يستحيل أن يصدر من بشر، على مثل هذه الطريقة وهذا الأسلوب، وهكذا الشأن في رؤيتك تلاحم الفقرات في مقطعها، واتصال المقاطع ببعضها. 3 - ومن قبل رأينا محل مقطع إبراهيم في السياق: فإبراهيم هو النموذج الكامل على اتباع الهدى المنزل عليه، ومن قبل كانت قصة بني إسرائيل نموذجا على أمة انحرفت، وجاء المقطعان بعد مقطع آدم، الذي قرر أن
فصول شتى وفوائد
وظيفة الانسان هي اتباع ما أنزل الله، جاء ذلك كله بعد دعوة الناس جميعا للسير في طريق التقوى، التي أحد أركانها، الاهتداء بكتاب الله ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أليس مقطع إبراهيم درسا في أن كلمات الله ينبغي أن تقام على الوجه الأمثل، وأن اتباع هدى الله هو الطريق الأمثل، وبالتالي فإن هذا القرآن يجب أن يقام. 4 - وكما قلنا من قبل فإن مقطع إبراهيم هو مقدمة الحديث عن القبلة، وعن وجوب التوجه إلى الكعبة، الذي هو مرتكز كبير من مرتكزات العبادة لله رب العالمين، في سياق القسم الذي يأمر بعبادة الله رب العالمين، وهكذا نصل إلى المقطع الخامس في القسم الأول من سورة البقرة، وهو مقطع القبلة، وقبل أن نبدأ عرضه فلنذكر بعض الفصول التي وعدنا بعقدها هنا، أو اقتضاها المرور على بعض المعاني. فصول شتى وفوائد: فصل في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام: للمفسرين في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلام كثير، وكل أقوالهم استنباط، إما من خلال ما قصة الله علينا في القرآن، أو من خلال ما قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبينا إبراهيم، أو من خلال فهم قضية الفطرة، ومجموع ما ذكروه في الكلمات أنها: شرائع الإسلام، وبعضهم قال: ابتلاه الله بالمناسك، وقال آخرون: ابتلاه بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس، قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد، تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء، وبعضهم ذكر بدل فرق الشعر غسل البراجم وهي: عقد الأصابع، وذكر بدل الاستنجاء الاستحداد وهو: حلق العانة، وقال بعضهم: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن، فراق قومه في الله، حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمرود في الله، حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله، حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه، حين أمره بذبحه، وبعضهم قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس، وبالقمر، فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم، ابتلاه بعمارة البيت فقام به، وبعضهم
فصل في قريش والإمامة
قال: ابتلي بالكلمات: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ... هذا مجموع ما فسر به المفسرون الكلمات تقريبا. قال ابن جرير ما حاصله «إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا نجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين، إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر، بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له» وقال ابن كثير: وقوله تعالى بِكَلِماتٍ أي بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام (في سورة التحريم) وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ. وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى (في سورة الأنعام) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا أي كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرا ونهيا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة. فصل في قريش والإمامة: قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهم بعضهم من هذا النص أن الإمامة ينبغي أن تكون في بني إسماعيل لأنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، فقد انتقلت الإمامة بعد بعثة رسولنا عليه السلام من بني إسرائيل من ذرية إبراهيم إلى بني إسماعيل من ذريته باصطفاء الله محمدا صلى الله عليه وسلم منهم، ثم هي في ذريته النسبية وفيه قوله عليه السلام «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي- أهل بيتي- لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ولكن الفاسق منهم والمبتدع- بله الكافر- ليس أهلا لها ثم هي في ذرية إبراهيم من المسلمين أي في قريش، ومن ثم كانت الأئمة منهم، قال عليه السلام «الأئمة من قريش» ولكن لا يستأهلها منهم فاسق أو مبتدع أو كافر، وبعضهم قال: إنه لا تلازم بين الإمامة في الدين ومنصب الخلافة بالذات، ومنذ عصر الصحابة وجد في موضوع الخلافة ثلاث اتجاهات رئيسية: الأول: أنها في آل البيت، والثاني: أنها في قريش، والثالث: أنها في الأكفاء من مجموع الأمة، وفي كلام عمر رضي الله عنه ما يؤيد الاتجاه الأخير، ولكن أقوى الاتجاهات أنها في قريش، والمفروض بالنسبة للمستقبل أن يعطى كل اتجاه من هذه الاتجاهات حقه
فصل في أن قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين نص في أن الباطنين على باطل
في الترشيح، ويبقى للأمة حق الاختيار، ولن يفوت الأمة الإسلامية أن تختار الأرضى لله. قال تعالى (في سورة الشورى) وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ويا حبذا من خلال الشورى إمامة هاشمي عدل: فإن لم يكن فإمامة قرشي عدل: فإن لم يكن فإمامة مسلم عدل، ويا للأسف لم يعد في عصرنا للمسلمين خليفة يجمعهم. فصل في أن قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ نص في أن الباطنين على باطل: في العالم الآن فرق باطنية تدعي أن للقرآن ظاهرا يخالف الباطن، وأن أئمتهم هم الذين يعرفون هذا الباطن، وبناء على أقوال أئمتهم ظالمون في زعمهم عطلوا الصلاة والصوم والزكاة والحج، وغير ذلك من شعائر الإسلام، وبذلك ثبت أن أئمتهم ظالمون، وبذلك ثبت أنهم لا يستحقون الإمامة، وبذلك ثبت أن هؤلاء على باطل، والأمر أوضح من أن يتكلم به. فصل: في الظلم الذي لا يستحق به صاحبه منصب الخلافة: في شريعة الله الظلم ظلمان: ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لغيره، وظلم الإنسان لنفسه يتمثل فى الشرك والكفر، ويتمثل في البدعة والفسوق، وكلها تخرج صاحبها عن استحقاقه الإمامة في الوضع العادي، وإذا انعقدت الإمامة ثم فسق من انعقدت له ينعزل تلقائيا بفسوقه أو يستحق العزل؟ القول الأقوى عند الحنفية: أنه يستحق العزل من أهل الحل والعقد. قال القرطبي: «استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله على ما تقدم من القول فيه، فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل لقوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ولهذا خرج ابن الزبير، والحسين بن علي رضي الله عنه، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم، على الحجاج. وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم عقبة بن مسلم. والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض، والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج فاعلمه». أقول وهو مذهب كبار في أئمة أهل السنة والجماعة، ويكفي من ذكر،
كالحسين وابن الزبير وسعيد بن جبير وأقول: تبقى الموازنة بين الخروج على الظالمين وعدمه قائمة، إلا إذا كفروا وكنا قادرين. وأقول: إن علينا أن نعمل لإيجاد أنظمة إسلامية، لا يجد فيها الفاسق والظالم أحدا يتجاوب معه من الأمة، فضلا عن أهل الحل والعقد، وبالتالي فإذا فسق أو جار حاكمته محكمتنا العليا، أو مؤسساتنا العليا، ثم طرد من منصبه غير مأسوف عليه، لقد استطاع الغريبون أن يوجدوا نوعا من الأنظمة لا يستطيع معها زعيم أو قائد أن يستمر إذا ما وقع في خطأ أو خلل. فكيف نعجز نحن عن ذلك؟ والإسلام هو الإسلام، لقد سقط إيدن في بريطانيا لأنه ارتكب خطأ سياسيا، وسقط نيكسون في أمريكا لأنه استغل أجهزة الحكم لصالح تجديد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة. ولنعد إلى القرطبي: قال القرطبي: قال ابن خويزمنداد: «وكل من كان ظالما لم يكن نبيا، ولا خليفة، ولا حاكما، ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد، وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض، وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة، أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص، وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم، ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة، ولا إقامة الحدود التي أخذوا بها وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم». أقول: ومن قبل لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في شأن الجاهلية إلا في قضية قائمة، كإسقاطه ربا العباس، ومن ثم فالحركة الإسلامية إذا استلمت الحكم فإنها لن تنظر إلا في قضية قائمة، ومن هنا يعرف أننا لن نتعرض لماض، وإنما سنعالج الحاضر على ضوء الإسلام، وبالتالي فإننا لن نتعرض لمواضيع الإصلاح الزراعي وغيرها، مما حدث في مراحل سابقة على حكمنا وانتهى الأمر فيه، وسنحاول أن نعطي كل الناس مما يسعهم ويغنيهم، فالإسلام يزيد ولا ينقص، وسنربي الناس على المسامحة، وعلى أن يتخلصوا من مظالمهم على ضوء الفتوى المعتبرة من أهلها، ونعود إلى القرطبي. وقال القرطبي: قال ابن خويزمنداد: «وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد
فصل في الحاكمين بغير ما أنزل الله
أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره، وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه ... ، وإن كان ما في أيديهم، ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا، غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق ويجعل في بيت المال، وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين». أقول: في خطبة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون» ومن هنا نفهم أن الحركة الإسلامية إذا ورثت الحكم ففي القضايا المعلقة ستطبق الإسلام، فلا يعطى إنسان- كان قد وضع ماله في بنك ولا يزال- ربا، ولن يؤخذ من أحد ربا، ولكن في القضايا المنتهية لا مراجعة، فكل الأموال التي ترثها الحكومة الإسلامية ستتصرف بها في مصالح المسلمين، أما ما قبل ذلك فالمسلم أحق من غيره في خزينة الدولة سواء كانت كافرة، أو فاسقة، على ألا يسرق، أو يخون، أو يضر بآخرين، أو يغش، وللمقاتلين حيث- يجوز القتال- أحكام خاصة، ولقيادة الحركة الإسلامية حقوق في الحركة على ضوء الفتوى المعتبرة من أهلها، لأنها هي الأحق بالتصرف في أموال الأمة فليلاحظ ذلك، ولكنه مقام دقيق ومزلة قدم إن لم يكن ذلك على ضوء العلم والفتوى من أهلهما. فصل في الحاكمين بغير ما أنزل الله: بنص كتاب الله فإن الذين لا يحكمون بما أنزل الله ظالمون، قال تعالى: (في سورة المائدة) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وبنص كتاب الله فهؤلاء لا يستحقون الإمامة فكيف يعطيهم مسلم تأييده وولاءه، وكيف لا يضع يده بيد أهل الله للوصول إلى حكم الله!؟ غير أننا نحب أن نوضح أن الحركة الإسلامية وهي تواجه أوضاعا متعددة، قد ترى شرا أهون من شر، وضررا أهون من ضرر، وظلما دون ظلم، وبالتالي فإنها على ضوء الموازنة والمقايسة تختار أهون الشرين، وأخف الضررين مبقية على نظام- إذا كان الذي بعده سيكون شرا منه- ما دامت لا تستطيع أن تغير النظام إلى إسلام كامل، فليس المهم أن تسقط نظاما، ولكن المهم أن يكون النظام البديل إما أحسن لإسلامنا، أو هو إسلامي خالص، وهذه قضية خطيرة، وموازناتها صعبة، وحكم الله أولا، ثم الشورى ثانيا هما عصام الحركة عن الزلل الشرعي، أو السياسي الاستراتيجي، أو التكتيكي.
فصل: في الأمن عند البيت
فصل: في الأمن عند البيت: 1 - وردت أحاديث تدل على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ووردت أحاديث تدل على أن إبراهيم حرم مكة والجمع بينها: أن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها. 2 - في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» أي لقتال، فدل هذا وغيره مما سنرى على تحريم القتال في الحرم. جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها (أي لا يجز ولا يقلع كلؤها) فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: إلا الإذخر» وهذا لفظ مسلم. وأخرج مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما، وإني حرمت المدينة، حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين». فصل في دلالة ذكر الذرية في مقطع إبراهيم عليه السلام: يلاحظ أن إبراهيم عليه السلام رغب أن تكون الإمامة في ذريته فلما قال الله تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وقص الله علينا دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ولذلك دلالاته: قال صاحب الظلال تعليقا على النص الأول: «عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر: الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد، ذلك الشعور الفطري العميق الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة، وتمضي في طريقها المرسوم، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق، ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله (كالحركة الشيوعية)، وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك (الحكمة) البعيدة المدى وعلى
فصل: في إقامة الحدود في الحرم
أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث (انسجاما مع تلك الفطرة) وتنشيطا لها لتعمل ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد، وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها، وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة، وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى، وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة. ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق، وفكرة عن تكوينها أدق، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح» عن الظلال بتصرف. فصل: في إقامة الحدود في الحرم: قال القرطبي وهو مالكي عند قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: (في سورة آل العمران) وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال: آمنوا من دخل البيت والصحيح (في ترجيح القرطبي) إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ؛ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ويقتل خارج البيت، وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا، والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة، وقد أجمعوا على أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه، وقال أبو حنيفة: «من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه، ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج، فنحن (أي المالكية) نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا؟. وفي قوله أَمْناً تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه» أقول: نقلت الكلام الأخير لأن له صلة في السياق إذ مقطع إبراهيم مقدمة لمقطع القبلة الآتي. فصل في أبناء إبراهيم: رأينا أن الله عزّ وجل قال وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ هكذا بالجمع فمن هم أبناء إبراهيم سوى إسماعيل وإسحاق؟ قال القرطبي: «ثم لما توفيت سارة، تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومدائن ونهشان وزمران
فصل في أن أعلى مقام للإنسان هو الإسلام لله رب العالمين
ونشيعه وشيوخ» وقد ذكر الطبري وابن الأثير ست أولاد لإبراهيم عليه السلام سوى إسماعيل وإسحاق، ولكن كلا منهم أورد الأسماء إيرادا يختلف عن الآخر وكلاهما يختلف مع القرطبي، ولا شك أن مرجع الجميع روايات أهل الكتاب وقد تحدث سفر التكوين مما يسمى بالتوراة الحالية عن هذا الموضوع في الإصحاح (الخامس والعشرين)، فقال: «وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشاق وشوحا» وهذه الرواية تتفق إلى حد كبير مع رواية الطبري، ومما قاله الإصحاح الخامس والعشرون: «وأعطى إبراهيم إسحاق كل ما كان له، وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا، وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقا إلى أرض المشرق، وهو بعد بقيد الحياة». فهذا النص يفيد أن لإبراهيم أبناء من سرار بينما النص السابق يفيد أن له ست أبناء من زوجة واحدة تزوجها بعد سارة، وليس في كل ذلك ما يفيد القطع سوى أن لإبراهيم بنين فهم أكثر من أن يكونوا اثنين، وسيأتي كلام في سورة البقرة عن إبراهيم عليه السلام مرة أخرى وهناك سننقل اتجاهات الدارسين عن عصر إبراهيم واحتمالاته، وزمن وجوده، والدول التي عاشها، وليس في ذلك كله ما يصلح أن يجزم به. فصل في أن أعلى مقام للإنسان هو الإسلام لله رب العالمين: بحث بعضهم موضوع أيهما أرقى الإسلام أو الإيمان، وذلك بسبب قوله تعالى: (في سورة الحجرات) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ونقول: إن الإسلام الكامل والإيمان الكامل مترادفان، إذ يدخل في الإسلام الكامل إسلام القلب والجوارح، ويدخل في الإيمان الكامل تصديق القلب والجوارح، ولذلك نجد قوله تعالى (في سورة الذاريات) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فههنا المؤمنون هم المسلمون، فالإيمان الكامل هو الإسلام الكامل، غير أن في الإسلام معنى أتم لما يفيده من الخضوع الزائد على مجرد التصديق، ولذلك نرى أن الكلام في قصة إبراهيم ينصب على الثناء على إسلامه إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (سورة النساء)، قال القرطبي عند قوله تعالى إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، والإسلام هنا على أتم وجوهه، والإسلام في كلام العرب الخضوع والانقياد وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله
كلمة أخيرة في مقطع إبراهيم عليه السلام
فقد انقاد واستسلم لله، وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فرقا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الإيمان فكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن، لقوله تعالى: (في سورة آل عمران) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن ودليلنا (أي أهل السنة والجماعة)، قوله تعالى (في سورة الحجرات) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له: «اعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم .. الحديث أخرجه مسلم. فدل على أن الإيمان ليس الإسلام، فإن الإيمان باطن والإسلام ظاهر، وهذا بين، والإسلام ويراد به الإيمان للزوم أحدهما الآخر، وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته فاعلمه». كلمة أخيرة في مقطع إبراهيم عليه السلام: 1 - نحن لا زلنا في القسم الأول من أقسام سورة البقرة، والذي بدايته المقطع الأول، الذي حدد الطريق إلى التقوى، وحدد الطريق إلى الكفر والنفاق، ثم جاء مقطع آدم، ومقطع بني إسرائيل، ومقطع إبراهيم، وكل من هذه المقاطع بين في الطريق إلى التقوى، وفصل في الطريق إلى الكفر لتجتنب، وإذ كان الطريق إلى التقوى هو عبادة الله وحده، فإن مقطع إبراهيم عمق ذلك، وعرفنا من خلاله أن الطواف بالبيت والعكوف فيه والركوع والسجود كل ذلك من العبادة. وإذ كان الركوع والسجود يحتاج إلى قبلة، وإذ كانت كل المقدمات تشير إلى أن كعبة إبراهيم التي حولها يكون الطواف، وإليها يكون الحج، هي المرشحة لأن تكون قبلة المسلمين في صلاتهم، فإن قلب محمد صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى ذلك ومن ثم كان المقطع اللاحق (في القبلة). 2 - وبمقطع إبراهيم عليه السلام، ومن قبله مقطع بني إسرائيل، اتضح الكثير من صراط المغضوب عليهم والضالين، وصراط الذين أنعم الله عليهم، في سياق تعليم العبادة والاستعانة بالله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ألا ترى كيف يبني إبراهيم وإسماعيل البيت وهما يدعوان. وليكن هذا خاتمة الكلام عن مقطع إبراهيم لننتقل إلى الحديث عن مقطع القبلة:
المقطع الخامس من القسم الأول من سورة البقرة
المقطع الخامس من القسم الأول من سورة البقرة: يمتد هذا المقطع من الآية (142) إلى نهاية الآية (152) وهذا هو: [سورة البقرة (2): الآيات 142 الى 152] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
كلمة في هذا المقطع وسياقه
كلمة في هذا المقطع وسياقه: - مر معنا في مقطع إبراهيم قصة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الكعبة، ويأتي هذا المقطع ليكون الشئ الرئيسي فيه هو الكلام عن جعل الله هذه الكعبة هي قبلة المسلمين في صلاتهم، ورأينا في مقطع إبراهيم عليه السلام كيف أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دعوا بدعوات وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ونجد في بداية هذا المقطع قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ونجد في نهايته كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... فمقطع القبلة يرينا استجابة الله عزّ وجل لإبراهيم وإسماعيل في شأن الأمة والرسول صلى الله عليه وسلم.
تفسير الفقرة الأولى
- حدثنا مقطع إبراهيم عن السفاهة في العزوف عن ملة إبراهيم وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وهذا المقطع يبدأ بالكلام عن مواقف السفهاء سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها وفي ذلك تقرير أن التوجه إلى حيث وجه الله إنما هو من الإسلام الذي هو ملة إبراهيم. والمقطع يقيم الحجة على بني إسرائيل وعلى النصارى في شأن القبلة. فالمقطع امتداد للحوار الذي مر معنا في مقطع بني إسرائيل. وإذ كانت القبلة بعض هدى الله المنزل نجد في هذا المقطع قوله تعالى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فإن صلة المقطع بقصة آدم عليه السلام المنتهية بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إن الصلة واضحة بين هذا المقطع ومقطع آدم عليه السلام من حيث إن المقطع يرينا ويقص علينا بعض ما أنزله الله علينا من هدى بواسطة رسول كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... ومحل القبلة في قضية العبادة لا يخفى. ومن ثم كان هذا المقطع جزءا من القسم الذي ابتدأ بالأمر بالعبادة والتوحيد يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وفي مقدمة سورة البقرة كلام عن المتقين والكافرين والمنافقين. ومما وصف به المنافقون قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وهاهنا حديث عن قولة من قولات السفهاء سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... وهاهنا حديث عن نعمة الله على هذه الأمة بالهداية وكيف ينبغي أن تقابلها. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ... فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فالمقطع فيه تذكير بالنعمة، وتأكيد للسير، وتفصيل في الطريق. فلم يأت مقطع القبلة إلا بعد كل المقدمات اللازمة له. وهذا يدلنا على أهمية قضية القبلة في حياة الأمة، لقد سبق بمقدمة تعمق الثقة بالبيت وبناته، وسبق ذلك بمقدمة تسلب الثقة عن نوع من المشوشين، وسبق ذلك ما يعمق الالتزام بطاعة الله واتباع هداه، وسبق ذلك بالأمر بالعبادة، وسبق ذلك ما يعرف به السفهاء من أهل النفاق وما يعرف به المتقون. وذلك كله ليأتي المقطع في مكانه، مفصلا قضية جديدة سبقتها كل تمهيداتها والكلام عن المقطع وسياقه مستمر فلنكتف هاهنا بما مر. تفسير الفقرة الأولى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها السين في
قوله تعالى سَيَقُولُ للاستقبال. فهل الآية إخبار عن القول قبل وقوعه أو أنها إخبار عنه بعد وقوعه؟ قولان للمفسرين: فعلى القول أن الآية نزلت بعد القول فذلك يفيد أن القائلين مستمرون في لغطهم وفي قولهم. وتكون الآية وما بعدها متأخرة نزولا على قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة. فأنزل الله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... إلى آخر الآية. فقال السفهاء وهم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ وعلى القول بأن الآية إخبار عما يأتي تكون الحكمة كما قال الألوسي: «وتقديم الإخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس عليه فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما. والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب. ولما أن فيه إعداد الجواب. والجواب المعد قبل الحاجة أقطع للخصم» والسفهاء: هم خفاف الأحلام. فأصل السفه الخفة. وهم هنا إما اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ. أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء. أو المشركون لقولهم: رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها. والله ليرجعن إلى دينهم. قال ابن كثير: والآية عامة في هؤلاء كلهم. قال الألوسي في ترجيح العموم: «لأن الجمع فيها محلى باللام وهو يفيد العموم. فيدخل فيه الكل. والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع» أقول وقد مر معنا في السورة قوله تعالى وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ومر معنا في المنافقين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فحمل الآية على جميع من وصف الله في السورة بالسفه مقتضى السياق. ومعنى قولهم: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس. والقبلة: هي الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة. لأن المصلي يقابلها. فهؤلاء السفهاء قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الصراط المستقيم هو الطريق المستوي. ومن الصراط المستقيم التوجه إلى كعبة إبراهيم بعد إذ أمر الله به. وفي ذكر ذلك إشارة إلى نعمة الله على هذه الأمة بهدايتها في شأنها كله إلى الصراط المستقيم. وتعريض بغيرهم. ومعنى النص: أن بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله. والحكم والتصرف والأمر كله لله فالشأن كله في امتثال أوامره. ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة. فنحن عبيده وفي تصرفه. وقد شاء عناية بعبده محمد صلى الله عليه وسلم وأمته
كلمة في السياق
أن يهديهم إلى اتخاذ كعبة إبراهيم خليل الرحمن قبلة. فجعل توجههم إليها وهي المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، وهي أشرف بيوت الله في الأرض. كلمة في السياق: 1 - ذكرنا من قبل صلة المقطع بما قبله. فما الصلة بين آية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ بما قبلها مباشرة؟ لقد كان ما قبلها يناقش اليهود والنصارى في قضايا العقائد. وهاهنا النقاش في العمليات ولذلك قال الألوسي: «ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول (أي في العقائد) وهذا في أمر متعلق بالفروع (أي في العمليات من الشريعة) وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منها في الشناعة». 2 - ثم يبين الله عزّ وجل في الآية اللاحقة أن تحويل القبلة بحيث تكون إلى الكعبة ينسجم مع مبدأ الوسطية الذي هو سمة هذه الأمة. وفي تحقيق أشار إليه الأستاذ الندوي في السيرة النبوية كتبه أحد المتخصصين: أثبت فيه أن مكة بالنسبة للعالم تقع في مركزه تماما. فهي وسط هذا العالم. فتحويل القبلة إلى البيت الحرام ينسجم مع صفة الوسطية لهذه الأمة. ولذلك جاءت الآية اللاحقة تقول: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. 3 - في قوله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إشارة إلى أن في تشريعاته لهذه الأمة هداية لها إلى صراطه المستقيم، فلنتذكر أننا في الفاتحة ندعو الله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... وقد فعل جل جلاله فيما هدانا إليه. وليكن في هذا إشارة إلى الربط بين سورة البقرة في سياقها كله وبين سورة الفاتحة ولنعد إلى التفسير: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الوسط: الخيار. وقيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل. والأوساط محمية. أي: كما جعلكم خير الأمم جعلت قبلتكم خير القبل. والوسط كذلك العدول. لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض. أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة جعلناكم أمة وسطا، فهذه الآية بمثابة تعليل لاختيار الكعبة قبلة لنا. ذلك أننا أمة وسط. فلتكن قبلتكم كذلك. وقد أفاض صاحب الظلال في استخراج مظاهر الوسطية في هذه الأمة كما سنرى في فوائد هذه الفقرة. وقد علل جل جلاله لجعلنا أمة وسطا أي عدولا أو خيارا بقوله لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي لتكونوا شهداء على سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم وحده شهيدا علينا بأنه قد بلغ وأدى وأقام الحجة. وأننا قد لبينا واستجبنا فنحن شهداء على الناس يوم القيامة أن رسلهم قد بلغتهم. ورسولنا شهيد علينا يزكينا. وأخر الجار والمجرور (على الناس) في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وقدم الجار والمجرور (عليكم) في قوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم. وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم. أخرج الحافظ ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق. ما من الناس أحد إلا ود أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه» وإذا كنا عدولا في الآخرة فنحن عدول في الدنيا كذلك. روى الحاكم وابن مردويه واللفظ له عن جابر بن عبد الله قال: «شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني سلمة. وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: والله يا رسول لنعم المرء كان. لقد كان عفيفا مسلما وكان .. وأثنوا عليه خيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت بما تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت ثم شهد جنازة في بني حارثة. وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان. إن كان لفظا غليظا. فأثنوا عليه شرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبعضهم أنت بالذي تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ثم قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الإمام أحمد .... عن أبي الأسود أنه قال: «أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع فيها مرض فهم يموتون موتا ذريعا. فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثنى على صاحبها خيرا. فقال: وجبت. ثم مر بأخرى فأثنى على صاحبها شرا. فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟. قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» قال: فقلنا وثلاثة؟ قال: فقال «وثلاثة» قال: فقلنا: واثنان. قال «واثنان» ثم لم نسأله عن الواحد» وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات. وأخرج ابن مردويه عن
أبي زهير الثقفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» قالوا: بم يا رسول الله؟. قال: «بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله في الأرض» ورواه ابن ماجه والإمام أحمد. ثم علل تعالى لاعتماد بيت المقدس أولا، والانتقال إلى الكعبة ثانيا بقوله: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي: إنما شرعنا ذلك يا محمد: التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك ويستقبل معك حيثما توجهت، ممن ينقلب على عقبيه أي: مرتدا عن دينه وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة إنه لعظيم شاق على النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه. وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء. فله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك. بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا. كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق .. وفي الحكمة التربوية التي نصت عليها الآية تعليلا لتحويل القبلة إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ يقول صاحب الظلال: «وكما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم ... فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى؛ ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر. اتباع للطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه؛ اعتزازا بنعرة جاهلية، تتعلق بالجنس والقوم، والأرض والتاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد ... حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم، بالإسلام الذي كان عليه
فوائد
هو وبنوه وحفدته ... ». وفي تفسير قوله تعالى لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أقوال للمفسرين يذكرونها كيلا يفهم فاهم أن لله علما حادثا وهو جل جلاله لم يزل عالما فيقولون فيها: «أي لنعلم كائنا أو موجودا ما قد علمناه أنه يكون ويوجد. فالله تعالى عالم أزلا بكل ما أراد وجوده أنه يوجد، في الوقت الذي شاء وجوده فيه أو: ليميز التابع من الناكص. فوضع العلم موضع التمييز. لأن العلم يقع به التمييز. أو: ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ذلك. وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه مثل قوله تعالى في سورة الفتح إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أو: هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب (فلنلقه في النار لنعلم أ يذوب) وهو يعلم أنه يذوب. أو: المراد به الجزاء أي: لنجازي الطائع والعاصي. وكثيرا ما يعلم التهديد في القرآن بالعلم» ولكي لا يفهم فاهم أن الصلاة إلى بيت المقدس ليس لها أجر، أو هي في إبان فرضها ليس لها فضل قال تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي: صلاتكم إلى القبلة المنسوخة التي هي أثر إيمانكم، سمى الصلاة إيمانا لأن أهل الإيمان هم الذين يعلمون وجوبها فيؤدونها. وبها يحيا الإيمان ويستمر ويستقر ويعلم، وقبولها إنما هو من أهل الإيمان وأداؤها في الجماعة دليل الإيمان. في الصحيح عن البراء قال: «مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس. فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه. ثم علل تعالى لعدم إضاعته إيمان المؤمنين بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أجورهم. والرأفة في اللغة: أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم. وبهذا انتهت الفقرة الأولى من مقطع القبلة وهي بمثابة المقدمة للأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام. فوائد: 1 - في عملية استقراء لمظاهر الوسطية في هذه الأمة يقول صاحب الظلال: إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم. وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم
وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم .. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يشهد عليها. فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة ... وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها .. لتعرفها أو لتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد. أو من الوسط بمعناه المادي الحسي أُمَّةً وَسَطاً. في التصور والاعتقاد .. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح تلبس الجسد، أو جسد تتلبس به روح. ويعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد واعتدال. أُمَّةً وَسَطاً في التفكير والشعور .. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك .. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب. وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها في تثبت ويقين. أُمَّةً وَسَطاً في التنظيم والتنسيق. لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب. وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك. أُمَّةً وَسَطاً .. في الارتباطات والعلاقات .. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فردا أشرا جشعا لا هم له إلا ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في الجماعة. وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة. والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق ..
أُمَّةً وَسَطاً في المكان .. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال. وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا. وتشهد على الناس جميعا. وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء. أُمَّةً وَسَطاً في الزمان .. تنهي عهد طفولة البشرية قبلها. وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهدى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك. وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها. واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها. والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحده. وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها خليقة بأن تتحمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها. ولا بد أن تفتن قبل كل ذلك، وتبتلى ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الرشيدة. 2 - ومن كلام صاحب الظلال في تبيان الحكمة في اتخاذ القبلة وتمييز قبلة المسلمين عن غيرهم يقول: إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد. والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة. وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص. وقد يكون الأمر واضحا فيما يختص بالتصور والاعتقاد، ولكنه بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة .. هنا نعرض التفاتة. إلى قيمة أشكال العبادة .. إن في النفس الإنسانية ميلا فطريا ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب، إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة. فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ ولا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس، وبذلك يتم
التعبير عنها. يتم في الحس كما في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا، وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل. وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان. وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدى بمجرد النية ولا بمجرد التوجه الروحي. ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا: قياما واتجاها إلى القبلة، وتكبيرا وقراءة وركوعا في الصلاة. وإحراما من مكان معين ولباسا معينا، وحركة وسعيا ودعاء، وتلبية ونحرا وحلقا في الحج. ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم .. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص ... ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة. وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه .. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد. كما أنه بدوره ينشئ شعورا بالامتياز والتفرد. ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة. كالنهي عن طريقهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال والظواهر. وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصور، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج على جماعة فقاموا له: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا». وقال صلوات الله وسلامه عليه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» صلى الله عليه وسلم. فنهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة وسلوك، ونهى عن تشبه في قول أو أدب .. لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة. ثم هو نهي عن التلقي من
غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض. نهي عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض. فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين. والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية. فينبغي لها أن تستمد تقاليدها- كما تستمد عقيدتها- من المصدر الذي اختارها للقيادة ... والمسلمون هم الأعلون. وهم الأمة الوسط. وهم خير أمة أخرجت للناس. فمن أين إذن يستمدون تصورهم ومهجهم؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم؟ إلا يستمدوها من الله فهم يستمدونها من الأدنى للأسف. ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور، وأقوم منهج في الحياة. فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه. وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو، لا على أي أساس آخر. وعلى منهجه هو، لا على أي منهج آخر. وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى. فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله، والوحدة في الأرفع من التصور، والوحدة في الأفضل من النظام، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله، والتردي في مهاوي الجاهلية .. ليس متعصبا، أو هو متعصب ولكن للخير والحق والصلاح. والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه. إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة. فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز. رمز للتميز والاختصاص. تميز التصور، وتميز الشخصية، وتميز الهدف وتميز الاهتمامات، وتميز الكيان. والأمة المسلمة- اليوم- بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعا وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعا، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا. الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة، والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور، والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها .. إن هذه العقيدة منهج حياة كامل، وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة والوارثة لتراث العقيدة. الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله .. وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي
الأهداف والاهتمامات. وفي الراية والعلامة. وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله. وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام.» 3 - تطلق العرب كلمة الوسط على الخيار ومن ثم تقول: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم. ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب. 4 - روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة. فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه. فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فذلك قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال: والوسط: العدل. فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم» رواه البخاري وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجئ النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه. فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال من يشهد لك؟. فيقول: محمد وأمته. فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال: عدلا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. 5 - استدل الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله بقوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، على أن الإجماع حجة. لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة. والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها. فإذا اجتمعوا على شئ وشهدوا به لزم قبوله .. وقد ناقش الألوسي أن تكون الآية يدخل فيها ذلك. وختم مناقشته بقوله «على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم. وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها» أقول لكن من تأمل استهالات رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة لهذه الآية كما رأينا نموذج ذلك أثناء شرحها لم يستبعد ما ذهب إليه أبو منصور. وقد ناقش الألوسي ادعاء الشيعة أن المراد بالأمة
كلمة في السياق
الوسط الأئمة الاثني عشر؛ بناء على نقول ينقلونها عن بعض الأئمة. فقال: «ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد» أقول: ومما يشهد لفساد هذا الاتجاه الخطاب العام لكل الأمة بقوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً نعم الصالحون من آل البيت هم من خيار هذه الأمة الوسط، وهم فيها محل المودة من قلوب أهل الإيمان. ولكن هذا وحده لا يعطيهم حقا في إمامة وخلافة إذا لم تقدم الشورى أحدا منهم. ولنعد إلى قضية فهم الإجماع من الآية: فممن ذهب هذا المذهب القرطبي وذهب إلى أن الآية دليل على أنه لا يشهد إلا العدول وذلك منه قياسا على اعتماد الله شهادة هذه الأمة في الآخرة بسبب العدالة التي هي أحد تفسيري الوسط في الآية. قال القرطبي: «قال علماؤنا: أنبأنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه .. وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول. ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا .. وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده. فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين. وقول التابعين على من بعدهم. وإذا جعلت الأمة شهداء فقد وجب قبول قولهم ... ». 6 - في قوله وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها رد واضح على من زعم أنه لا نسخ في الشريعة، وفيها دليل على نسخ السنة بالقرآن. يقول القرطبي: «في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى، ناسخا ومنسوخا. وأجمعت عليه الأمة إلا ممن شذ كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ ... ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس وليس في ذلك قرآن. فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة. ثم نسخ ذلك بالقرآن ... ». 7 - بمناسبة ذكر رأفة الله ورحمته في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أورد ابن كثير الحديث الصحيح فقال: في الصحيح: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها. فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها. فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟ فقالوا: لا يا رسول الله. قال: فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها». كلمة في السياق: 1 - لا خلاف أن قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ نزل متأخرا عن
تفسير الفقرة الثانية في مقطع القبلة
الأمر بالتوجه نحو البيت الحرام. ولكن الخلاف في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ هل نزل متأخرا؟ فعلى القول أنه نزل متأخرا فإن الآيتين تكونان قد نزلتا متأخرتين عن الفقرتين اللاحقتين في هذا المقطع. وقد ذكرتا متقدمتين على الفقرتين مع تأخرهما نزولا. لأنهما بمثابة المدخل لتغيير القبلة. وتعليل لهذا التغيير، ومن ثم فلم نبعد إذا اعتبرناهما فقرة من فقرات المقطع. 2 - ومما دلنا على أن الآيتين فقرة تميز الفقرتين اللاحقتين بما يدل على أنهما فقرتان ذواتا خصائص مشتركة. فكل من الفقرتين اللاحقتين تبدأ بآية مضمونها متشابه وخاتمتهما واحدة. فأول آية في الفقرة اللاحقة فيها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. وخاتمة هذه الآية قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وأول آية في الفقرة الثانية فيها قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وخاتمتها هي وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وهكذا يأتي مقطع القبلة من فقرات ثلاث واضحة المعالم: الأولى منها بمثابة التعليل للتغيير، والثانية فيها أمر بالتغيير، والثالثة فيها تأكيد للأمر. وفي كل من الفقرات الثلاث تعليم حجة أو إقامة حجة. وفي الفقرة الأولى والثالثة تبيان النعمة في شأن الأمر الناسخ. وفي الفقرة الثانية تهديد لمن خالف أو ناقش أو تردد، وفي ثنايا ذلك ومع ذلك معان لا يحاط بها. وذلك كله أوسع من أن يستطيع البشر بعضه لمن عقل. وذلك مظهر من مظاهر الإعجاز. تفسير الفقرة الثانية في مقطع القبلة: آثار: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: «كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود. فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم. فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء. فأنزل الله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إلى قوله تعالى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
التفسير
وقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وقال تعالى وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمرو عن داود بن الحصين .... عن ابن عباس قال: «كان النبي- صلى الله عليه وسلم إذ سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء. فأنزل الله فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام» وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ... عن يحيى بن قطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلا هذه الآية فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قال: نحو ميزاب الكعبة. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي ذكر ميزاب الكعبة في هذا النص والذي قبله إشارة إلى قبلة أهل المدينة ومن وراءهم. فميزاب الكعبة في الجهة الشمالية منها. وأهل المدينة في تلك الجهة بالنسبة للكعبة. التفسير: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأينا يحب أن يحول إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود. ولأنها أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومطافهم. قال الألوسي: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه. بل كان ينتظر فقط .. وذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله عليه وسلم فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أي فلنعطينك ولنمكننك من استقبال هذه القبلة التي تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته. والفعل (ولى) هنا يحتمل التولية. فإن كان من باب الولاية يكون المعنى ما ذكرنا. وإن كان من باب التولية يكون المعنى فلنجعلنك تتوجه سمت القبلة التي تحبها وتميل إليها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: نحوه. فصار المعنى: «اجعل تولية وجهك تلقاء المسجد الحرام. وهل المراد إصابة عين الكعبة أو المراد الجهة؟ قولان للأئمة في ذلك. والأكثر على أن المراد الجهة وهو أحد قولين للشافعي. ومما استدل به الحنفية وغيرهم على أن المراد إرادة الجهة لا عين القبلة من الآية، أن الآية ذكرت المسجد الحرام ولم تذكر الكعبة بالذات. فدل ذلك على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. واستدلوا كذلك بقوله عليه الصلاة والسلام ما بين
[سورة البقرة (2): آية 145]
المشرق والمغرب قبلة وهذا لمن كان في جهة الشمال أو الجنوب من الحرم. واستدلوا كذلك بالحديث «البيت قبلة لأهل المسجد. والمسجد قبلة لأهل الحرم. والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي». أخرج ابن جريج عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «أي حيثما كنتم من الأرض وأردتم الصلاة فولوا وجوهكم نحوه». قال ابن كثير: أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ولا يستثنى من هذا شئ سوى النافلة في حالة السفر. فإنه يصليها حيثما توجه قالبه، وقلبه نحو الكعبة. وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئا في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليها الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث. وأما في حال ركوعه، فإلى موضع قدميه. وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حجره. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ليعلمون أن التحويل أو التوجه إلى الكعبة هو الحق من الله عزّ وجل، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب بشقيهم من يهود ونصارى يعلمون أن النبوة القادمة المبشر بها قبلتها كعبة إبراهيم، وهذا واضح لكل من تأمل موضوع البشارات بالنبوة القادمة في كتب العهد القديم التي هي محل اعتماد اليهود والنصارى. إذ في هذه البشارات كما نقلنا نصوصها في كتابنا «الرسول» صلى الله عليه وسلم الفصل الخامس، كلام عن مكة، وإشارات إلى الكعبة بالذات. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ هذا وعيد للكافرين بالعقاب والعذاب على الجحود وإنكار الحق وكتمانه وإبائه. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ. وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يخبر تعالى في هذه الآية عن كفر أهل الكتاب، ومنهم اليهود. إذ هم المرادون أولا بهذا النص، يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفون من شأن رسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على
[سورة البقرة (2): آية 146]
صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم، كما في الآية إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه مستمسك بأمر الله وطاعته، واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله. وفي الآية تحذير العالم من مخالفة الحق الذي يعلمه إلى الهوى. فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأن تركهم المتابعة ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة. إنما هو عن مكابرة وعناد. وفي النص برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ. هذا حسم لأطماعهم، إذ كانوا اضطربوا في ذلك، وقالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وطمعوا فى رجوعه إلى قبلتهم. ووحدت القبلة فى النص مع أنهما قبلتان: قبلة لليهود، وقبلة للنصارى لاتحادهم فى البطلان وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي مع إنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة. وأن دين الله هو الإسلام إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق، وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته، ويتبع الهوى. والخطاب في الظاهر للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد أمته. وقد لزم الوقف على الظالمين في الآية. إذ ليس الَّذِينَ بعدها صفة لها. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. يخبرنا تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده من بين أبناء الناس كلهم. والعرب تضرب المثل في صحة الشئ بهذا. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ أي محمدا عليه الصلاة والسلام، أو القرآن، أو تحويل القبلة، والأول أظهر كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: «أنا أعلم به مني
[سورة البقرة (2): آية 147]
بابني. فقال له عمر: ولم؟. قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي. فأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه». وفي رواية: «نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته، فعرفته. وإني لا أدري ما كان من أمه» أي من أم ابنه. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي الذين لم يسلموا لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ حسدا وعنادا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الله تعالى بينه في كتابهم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: الحق من الله لا من غيره. يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله. كالذي أنت عليه. وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين في أنه من ربك. وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: ولكل أهل دين من أهل الأديان قبلة يرضونها. ووجهة الله حيث ما وجه المؤمنين فيا أيها المؤمنون جدوا في الخيرات، وليسابق بعضكم بعضا. أو جدوا في الخيرات حتى تسبقوها وتكونوا أمامها. فالله تعالى هو القادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم. وَلِكُلٍّ من أهل الأديان قبلة وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها. الضمير (هو) إما أن يعود لأهل كل دين. وإما أن يعود إلى الله. والضمير في موليها يعود على الوجهة. فصار المعنى على الاتجاه الأول في الضمير: ولكل أهل دين من الأديان قبلة يوليها وجهه. ويتوجه إليها منكم ومن غيركم. وعلى الاتجاه الثاني في الضمير: أن لأهل كل دين قبلة وجهها الله إليهم في الأصل. وقد وجه هذه الأمة لقبلتها الجديدة التي هي القبلة الحق للناس والبشر. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فاستبقوا أنتم وغيركم من الأمم الخيرات. فأهل كل دين سابق عند ما كانوا على الحق، فعلوا الخيرات. فأنتم فافعلوا وحاولوا أن تسبقوا. أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فيفصل بين المحق والمبطل. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شئ أراده. ويمكن أن تفهم الآية فهما آخر هو: ولكل منكم يا أمة محمد وجهة يصلي إليها، جنوبية أو شمالية، أو شرقية، أو غربية. فاستبقوا الفاضلات من الجهات. وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا. ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة. وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام. وقد رد الألوسي هذا الاتجاه. ويمكن أن تفهم بداية الآية على ما ذكر هنا، ونهايتها على ما ذكر من قبل.
فوائد
فوائد: 1 - في التأكيدات الأخيرة من قوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ قال الألوسي: تعظيم لأمر الحق، وتحريض على اقتفائه، وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الإنذار عليه أحوج، حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته. فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي، والمعني به غيره. لكن القرطبي يرى أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. والمراد به أمته. 2 - عند قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ يقول صاحب الظلال: (وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة .. وهذا وهم .. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه. يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وسلطانهم، ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق، وشتى الوسائل، عن طريق مباشر، وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجها لوجه، ويحاربونه من وراء ستار، ويحاربونه بأنفسهم، ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار ... ) 3 - وعند قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يقول الألوسي: (وليس المراد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. لأن النهي عن شئ يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه، وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. بل المراد إما تحقيق الأمر، وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه. فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر. وعند النص نفسه يقول صاحب الظلال: «وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير، ونحن في بلاهة منقطعة النظير- نروح نستفتي المستشرقين- من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار .. في أمر ديننا، ونتلقى عنهم تاريخنا، ونأمنهم على
مسائل
القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتنا لقرآننا وحديث نبينا، وسيرة أوائلنا ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتعلمون عنهم علوم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم، ثم يعودون إلينا مدخولي العقل والضمير. إن هذا القرآن قرآننا. قرآن الأمة المسلمة. وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره. وأهل الكتاب هم أهل الكتاب. والكفار هم الكفار، والدين هو الدين». مسائل: 1 - قال القرطبي: «لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها. وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له. وعليه إعادة كل ما صلى. ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها، أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها. فإن خفيت عليه، فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم، والرياح، والجبال، وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة. وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة». قال عطاء ومجاهد: «واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين، أو الجهة؟ فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف. لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ يعني من الأرض من شرق أو غرب فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت». 2 - من مجئ قوله تعالى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بعد وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فهم بعضهم أن المراد منه، المبادرة بالصلاة أول وقتها أفضل وهو مذهب الشافعي، وبعض الأئمة كمالك فصل. فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما
كلمة في السياق
أفضل، وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه، وأما الظهر فأول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وأما العصر فتقديمها أفضل .. والحنفية يرون أن الإسفار في الفجر أفضل. ويوافقون مالكا فيما سوى ذلك. ومناقشة الموضوع تكون في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها. فإن فضل الجماعة معلوم. وفضل أول الوقت مجهول. وتحصيل المعلوم أولى، قاله ابن العربي. كلمة في السياق: جاءت الفقرة الأولى من مقطع القبلة بمثابة مدخل ومقدمة لتحويل القبلة. فبينت حكمة التحويل، وحكمة التوجه إلى القبلة الأولى، وعلمت المسلمين كيف يردون على الاعتراضات، وطمأنتهم على صلاتهم الأولى وثبتتهم على أمر الله. ثم جاءت الفقرة الثانية وفيها الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في الصلاة، وأن هذا الأمر إنما جاء بعد تطلع إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا التوجه معلوم لأهل الكتاب الذين يعرفون أن كعبة إبراهيم هي قبلة أمة النبي المبشر به. ثم بينت الفقرة أنه لن تزال أكثر من قبلة. وأن هذه القبلة هي الحق. وأن كلا من أهل الكتاب لن يرجع عن قبلته. ثم هددت الفقرة: أن يتابع أهل الكتاب على أهوائهم. وكيف! وهم يعرفون، ويكتمون. ثم استقرت الفقرة في تقرير أن الحق من الله، ونهت عن الشك في هذا الحق. وأن لكل من الناس وجهته. وأن على هذه الأمة أن تفعل الخيرات. وأن المرجع إلى الله. ثم تأتي الفقرة الثالثة: الفقرة الثالثة: في هذه الفقرة كرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام. وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده. لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة، فكرر عليهم الأمر ليثبتوا. على أنه قد نيط بكل أمر ما لم ينط بالآخر، فاختلفت فوائدها، وفي هذه الفقرة ذكرت الحكمة في الأمر بالتوجه الدائم إلى المسجد الحرام، كما أن فيها أوامر ذكرت في معرض نعمة الأمر
التفسير
بالتوجه، وأي نعمة أجل من نعمة الهداية؟ وأي نعمة أجل من نعمة إرسال رسولنا عليه الصلاة والسلام؟ دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى عليهم السلام. التفسير: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ للسفر. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: نحوه إذا صليت. وَإِنَّهُ أي هذا المأمور به لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فراقبوا الله في أعمالكم كلها. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. قال ابن كثير: «هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار العالم. وقد اختلفوا في حكم هذا التكرار ثلاث مرات. فقيل تأكيد. لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره. وقيل بل هو منزل على أحوال: فالأمر الأول: لمن هو مشاهد الكعبة. والثاني: لمن هو في مكة غائبا عنها. والثالث: لمن هو في بقية البلدان. هكذا وجهه فخر الدين الرازي» وقال القرطبي: الأول: لمن هو بمكة. والثاني: لمن هو في بقية الأمصار. والثالث: لمن خرج في الأسفار. ورجح هذا الجواب القرطبي. وقيل إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق. فقال أولا قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. إلى قوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته، وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها. وقال في الأمر الثاني وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فذكر أنه الحق من الله. وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم. فبين أنه الحق أيضا من الله يحبه ويرتضيه. وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يحتجون باستقبال الرسول إلى قبلتهم. وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، إلى الكعبة. وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف. وقد كانوا يعظمون الكعبة. وأعجبهم استقبال الرسول لها. وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار. وقد بسطها الرازي وغيره والله أعلم.
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. أطلق اسم الحجة على المعاندين لأنهم يسوقونه سياق الحجة. علمتنا الآية أن على المسلم أن يبطل حجج أعداء الله بمواقفه وسلوكه، وقد أبطل الله عزّ وجل حججا كثيرة للكافرين على هذه الأمة بهذا التوجه إلى القبلة. إن كثيرا من الكافرين يريدون أن يبرهنوا على أن هذا الدين مأخوذ عن غيره، بينما القاعدة الأساسية فيه هي التميز عن غيره، والقبلة من مظاهر هذا التمييز. فلو بقيت القبلة إلى غير الكعبة لكان للكافرين في ذلك كلام. ومن الحجج التي بطلت بهذا التوجه، حجة العرب في أنه كيف يكون على ملة إبراهيم ويتوجه إلى غير بيته، ومن الحجج التي بطلت. زعم المشركين من العرب أن محمدا وأصحابه لا يعظمون الكعبة، ومن الحجج التي بطلت. حجة أهل الكتاب أنه بالإمكان أن يتابع محمد أهل الكتاب ما دام تابعهم في بعض دينهم. فكان التوجه نحو الكعبة قطعا لطمع أهل الكتاب في متابعة هذه الأمة. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ: الذين ظلموا هنا، إما اليهود، وإما قريش في ساعة نزول القرآن. وهي عامة في كل ظالم، لأن الاستثناء من الناس. وكلمة الناس يدخل فيها الجميع. دلت الآية على أن المسلم لا ينبغي أن يبالي بالكلمة الظالمة، ولا بحجة الظالم. ولكن عليه أن يبطل الحجج حتى لا ينخدع بها غير قائليها من الظلمة. وبالنسبة لموضوعنا إذا حملنا الآية على أن المراد بالظالمين اليهود، فإنهم قالوا: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه، وحبا لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام. وإذا حملنا الآية على أن المراد بالظالمين مشركو قريش إذ قالوا: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم. مثل هذه الحجج لا ينبغي أن تلتفت إليها هذه الأمة التي تعلم أن الحق والخير هو في طاعتها لله في جميع أحوالها. فلا تخرج عن أمر الله طرفة عين إلى كلام الخارجين عن أمر الله. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي. أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين. وأفردوا الخشية لي. فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه. فصار المعنى: لا تخشوا الظالمين، فتخافوا مطاعنهم فإنهم لا يضرونكم. واخشوني، فلا تخالفوا أمري. وهكذا شأن المسلم. إذا كان على الحق فإنه لا يبالي بأحد. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ هذه معطوفة على قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ فصار المعنى وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة، ولأتم نعمتي عليكم. ومن أجل هدايتكم. وإتمام النعمة هنا بشرع استقبال الكعبة، لتكمل الشريعة من جميع وجوهها. وتتميز هذه الأمة بشعائرها وشرائعها. وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مما
[سورة البقرة (2): آية 151]
ضلت عنه الأمم في كل ما هو الأحب إلى الله والحق عنده، هديناكم إليه، وخصصناكم به. ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ. هذه الآية، إما أنها متعلقة بما قبلها، فيصبح المعنى: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول الذي يتلو ... وإما أنها متعلقة بما بعدها. فيصبح المعنى: كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. فعلى هذا القول يوقف على تَهْتَدُونَ وعلى القول الأول لا يوقف. والخطاب في مِنْكُمْ للعرب. وفي ذلك إشعار للعرب بنعمة الله عليهم. فما أخس العرب إذا تركوا دعوة الله ودينه بعد ما خصهم الله بها من جميع الأمم. وكلفهم بتبليغها لكل الأمم. يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أي: يقرؤها عليكم. وآيات الله هي كتابه. وَيُزَكِّيكُمْ أي: يطهركم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجكم من الظلمات إلى النور. وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ. أي: القرآن. فهو يقرأ عليهم القرآن ويعلمه لهم. ففي التعليم زيادة على التلاوة. وذلك أن التلاوة وحدها مقصودة. وتعليم القرآن كذلك مقصود ولهذا فإن علينا أن نقيم حلقات التلاوة والتجويد، كما نقيم حلقات التفسير. وَالْحِكْمَةَ الحكمة: السنة والفقه. وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي. كانوا في الجاهلية الجهلاء، فانتقلوا ببركة رسالته، ويمن سفارته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء. فصاروا أعمق الناس علما، وأبرهم قلوبا، وأقلهم تكلفا، وأصدقهم لهجة. ولهذا ندب الله المؤمنين بالآية التالية إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. فاذكروني بالطاعة، أذكركم بالمغفرة. أو بالثناء والعطاء. أو اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. أو اذكروني بالتوبة، أذكركم بعفو ... أو اذكروني بالإخلاص، أذكركم بالخلاص. أو اذكروني بالمناجاة، أذكركم بالنجاة. أو اذكروني بهذا كله وغيره ومثله، أذكركم بهذا كله وغيره ومثله. واشكروا لي ما أنعمت به عليكم ولا تكفرون أي: لا تجحدوا نعمائي. أمر الله تعالى بشكره، ووعد على شكره بمزيد الخير وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. (سورة إبراهيم) قال الله عزّ وجل: «يا ابن آدم .. إن ذكرتني في نفسك، ذكرتك في نفسي. وإن ذكرتني في ملأ، ذكرتك في ملأ من الملائكة. أو قال: في ملأ خير منه. وإن دنوت مني شبرا، دنوت منك ذراعا. وإن دنوت مني ذراعا، دنوت منك باعا. وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة».
فوائد ومسائل
صحيح الإسناد. أخرجه البخاري من حديث قتادة. وعنده قال قتادة: الله أقرب بالرحمة. قال الحسن البصري: «إن الله يذكر من ذكره. ويزيد من شكره. ويعذب من كفره». فوائد ومسائل: 1 - قال صاحب الظلال في تفسير الشكر: «والشكر درجات. تبدأ بالاعتراف بفضله، والحياء من معصيته. وتنتهي بالتجرد لشكره. والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان». 2 - قال القرطبي: «الخشية أصلها: طمأنينة في القلب، تبعث على التوقي والخوف. فزع القلب تخف به الأعضاء. ولخفة الأعضاء به سمي خوفا». وقال: «وأصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي باللسان ذكرا، لأنه دلالة على الذكر القلبي. غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم». ونقل عن سعيد بن جبير قوله: «الذكر طاعة الله. فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن». وقال القرطبي: «وسئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته». 3 - ذكر القرطبي الخلاف في المتنفل في السفر على الدابة. هل يتوجه في ابتداء صلاته إلى القبلة ثم يتم صلاته حيث توجهت به راحلته، أو لا يلزمه التوجه إلى الكعبة أصلا ابتداء وانتهاء؟ فذكر أن مذهب الشافعي وأحمد وأبي ثور، الأول. وأن مذهب مالك أنه لا يلزم الاستقبال. أقول: وفي قول مالك فسحة لمن أراد التنفل في عصرنا وهو مسافر راكب. لأنه قد يشق عليه أن يتوجه إلى القبلة في ابتداء صلاته إذا كان راكبا سيارة أو قطارا ... 4 - تزكية النفس بدايتها ونهايتها التوحيد. ويدخل في ذلك تطهيرها من أمراضها وتحقيقها بكمالاتها. ومنعها المحرمات وإقامتها للطاعات. والأمر واسع جدا، وتزكية الأمة بإقامة شرع الله كاملا. والأمر كذلك واسع. والرسول صلى الله عليه وسلم تلا علينا الآيات وزكانا، وعلمنا القرآن وعلمنا السنة. فأصبحنا بذلك نضع الأمور كلها في مواضعها
فأصبحنا حكماء. وعلمنا الطريق الذي نتعرف به حكم الله، والذي نصل به إلى كل حكم عادي أو عقلي في أمر دنيا أو أخرى. فأي نعمة أجل؟. وفي منة الله علينا بالتزكية بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول صاحب الظلال: «ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهرهم. يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتغمره. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات. فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة. والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبئ من الشهوات والنزوات، تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة. وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الإنسان بدون الإيمان، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب .. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر ويلطخ المجتمع والحياة. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي. وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في الإسلام، وحكم الإسلام، ومنهج الإسلام. ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور ... ». 5 - ذكرت الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بعض مهمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن من الوراثة الكاملة لرسول الله أن يقوم إنسان ما بهذه الوظائف، فيزكي الأنفس بالعلم والعمل والحال والقدوة. ويقيم حلقات التلاوة وحلقات التفسير، وحلقات السنة، وحلقات الفقه. وإن على المسلمين جميعا أن يقيموا هذا أخذا وعطاء. والتلاوة واضحة. وطريق إقامتها واضحة. ويدخل فيها علم التجويد وآداب التلاوة. وتعليم الكتاب والحكمة واضح. ويدخل في ذلك علم التفسير للكتاب والسنة. ومن علم القرآن بتفسير آياته من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قد حقق ذلك. وتعليمنا ما لم نكن نعلم يدخل فيه الفقه في الدين بشكل شامل في كلياته، وجزئياته، ويدخل فيه علم الفقه وأصوله، وعلم التوحيد، وأمثال ذلك. بقيت قضية التزكية. فالتزكية في الحقيقة شئ زائد على العلم. فالعلم يعطي القواعد والبيان لكل شئ. أما التزكية فهي تطبيق هذا العلم على النفس البشرية، وأمراضها، وأغراضها،
كلمة في الفقرة وسياقها، والمقطع وسياقه
ومعرفة بالتطبيب وطرقه، ومعرفة بالكمال وكيفية النقل إليه، وأدوات ذلك، وفراسة خاصة بكل نفس لنقلها من حال إلى حال. وهذا شئ للكسب فيه نصيب. ولكن عطاء الله هو الأساس وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. 6 - روى الإمام أحمد عن عائشة (رضي الله عنها) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أهل الكتاب: «إنهم لا يحسدوننا على شئ كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله إليها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين» أقول ولا زالت الجمعة والجماعة والكعبة هي أعظم مظهر من مظاهر وحدتنا التي تغيظ الكفار. 7 - روى الإمام أحمد عن أبي رجاء العطاردي قال: «خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه». 8 - جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن. وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام. فاستداروا إلى الكعبة». قال ابن كثير: وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه. لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء. كلمة في الفقرة وسياقها، والمقطع وسياقه: 1 - كررت هذه الفقرة الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، وبينت الحكمة في ذلك وهي: قطع الطريق على أي كلمة يقولها كافر محتجا على هذه الأمة. وإتمام النعمة على هذه الأمة بأن تكون أمة متميزة. وهداية هذه الأمة إلى الحق في كل شئ. وفي الأصل ومن أجل الهداية الكاملة بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. وبمناسبة الكلام عن ذلك ذكر الله عزّ وجل مجموع ما أنعم به على هذه الأمة من هداية من خلال بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: التعريف بآياته، وتعليم الكتاب والحكمة، وتطهير الأنفس، والتعريف على كل ما يحتاج إلى تعليم. وعندئذ يذكرنا الله عزّ وجل بما ينبغي أن نقابل ذلك: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ كما أرسلت فيكم رسولا فعل لكم كذا وكذا. فقابلوا ذلك بالذكر والشكر. ويأتي المقطع اللاحق ليدلنا على طريق الذكر والشكر كما سنرى.
وهكذا نجد أن مقطع القبلة في فقراته الثلاث قد تكاملت المعاني فيه حتى وضع قضية القبلة في محلها في حياة هذه الأمة، مبينا قيمة هذا التوجه الكريم إلى كعبة إبراهيم. 2 - يلاحظ أن مقطع (إبراهيم) عليه السلام قد وردت فيه دعوة إبراهيم لذريته وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وفي مقطع القبلة يمن الله على هذه الأمة أنه فعل ذلك. ويأتي ذلك في معرض الكلام عن اتخاذ كعبة إبراهيم قبلة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. وفي ذلك من تكامل المقطعين وترابطهما ما فيه. 3 - جاء مقطع القبلة في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... فهو يعرفنا على قضية من قضايا العبادة. وهي التوجه إلى الله في العبادة، التي هي عمود الإسلام لله رب العالمين. فمحل المقطع في سياق قسمه واضح المعالم. 4 - وكان مقطع القبلة استمرارا للحوار مع أهل الكتاب. وهو حوار فتح منذ مقطع بني إسرائيل، واستمر في مقطع إبراهيم، ولا يزال. 5 - إن المقطع اللاحق لمقطع القبلة مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. ومقطع القبلة له صلة بالصلاة. فصلة ذلك ببعضه، وصلة ذلك بالعبادة، وصلة ذلك كله بقضية التقوى التي جاءت مقدمة سورة البقرة، لتقرر فيها الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ .... ثم صلة ذلك كله بقضية الهداية الربانية. وهي ما أوصلتنا إلى وجوبه قصة آدم. إن صلات ذلك كله ببعضه لا تخفى على المتأمل. وما يفوت كل متأمل على حدة من إدراك الصلات، وما يفوت الجميع كثير كثير. 6 - يلاحظ أن مقطع القبلة سبق بمقطعين كانا بمثابة المقدمتين له. لقد رأينا كيف شوش أهل الكتاب على المسلمين في موضوع القبلة. فكان مقطع بني إسرائيل وما ذكر فيه بمثابة تفريغ للثقة أصلا بأهل الكتاب عامة، وباليهود خاصة. فكان كالمقدمة الأولى لجعل هذا التشويش لا قيمة له. ثم جاء مقطع إبراهيم فكان استمرارا لعملية تحطيم الثقة، وتمهيدا لقضية القبلة. فكان كالمقدمة الثانية. ثم جاء مقطع القبلة. فإذا تذكرنا هذا. وتذكرنا ما مر معنا من قبل ندرك درسا من دروس الحكمة
المقطع السادس والأخير من القسم الأول من سورة البقرة
الربانية في أن الله جعل هذا القرآن على ما هو عليه من ترتيب، وندرك بذلك لم لم يكن هذا القرآن فصولا وأبوابا تضع النظير إلى جانب النظير. والأمر أوسع من ذلك بكثير كما سنرى. ولكنها لفتة أحببنا أن نذكرها هنا. 7 - لقد بدأ مقطع القبلة بالكلام عن التوجه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وانتهى بالأمر بالذكر والشكر. وقبل ذلك جاءت قصة إبراهيم عليه السلام. وجاء مقطع بني إسرائيل. وجاء مقطع آدم عليه السلام. وجاء قبل ذلك كله الأمر بالعبادة. فكان مقطع القبلة بعد تقريرات كثيرة لشئون كثيرة، هو التبيان العملي لأمور عملية في موضوع العبادة. وكأن ما سبقه بمثابة أساس نظري لبناء الجانب العملي. وسنرى كيف أن الجانب النظري والعملي سيتساوقان في المقطع اللاحق. ثم لنرى أن بدايات القسم الثاني من السورة كذلك. ثم يتمحض القسم الثاني لتقرير أمور عملية تتكامل خلالها قضية بناء التقوى ليأتي بعد ذلك القسم الثالث في البقرة فيكمل بناء الأمة المشرق بالإسلام. ويكمل بناء الإسلام. 8 - عمق مقطع القبلة في سياقه أن الأصل هو طاعة الله. واتباع هداه. والقيام بالتكليف كائنا ما كان. لا اتباع الهوى في مثل توجه نحو شرق وغرب قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وسنرى أن المقطع الأول من القسم الثاني من سورة البقرة سينتهي بآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَلكِنَّ الْبِرَّ ... فلنتذكر الصلة بين هذا المقطع وآية البر التي ستأتي، والتي هي خاتمة الحوار الذي بدأ مع أهل الكتاب في سورة البقرة. وسنرى من خلال هذه الصلة كيف أن الصلات بين أقسام سورة البقرة، والمقاطع في هذه الأقسام، وبين المقدمة والخاتمة والوسط واسعة جدا، حتى لا يحاط بها. وفي ذلك مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن. المقطع السادس والأخير من القسم الأول من سورة البقرة: ويمتد هذا المقطع من الآية (153) إلى نهاية الآية (167) ويتألف من فقرتين وهذا هو. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 162] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
الفقرة الثانية
الفقرة الثانية:
كلمة في هذا المقطع وسياقه
[سورة البقرة (2): الآيات 163 الى 167] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) كلمة في هذا المقطع وسياقه: يأتي هذا المقطع خاتمة لقسم وفيه معان متعددة. وقد لا يلحظ المتأمل لأول وهلة الصلات التي تربط بين معاني هذا المقطع نفسه فضلا عن الصلات بينه وبين ما سبق ولذلك فإننا نرجو أن يتابعنا القارئ بدقة ونحن نعرض لمحل هذا المقطع في السياق ولسياقه الخاص به: 1 - سبق هذا المقطع بشكل مباشر قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي
وَلا تَكْفُرُونِ. وجاء هذا المقطع ليدلنا على جوانب في الذكر والشكر والكفران. فالاستعانة بالصبر والصلاة ذكر. ومن ذكر الله بالصبر ذكره الله بالرحمة. ومن شكر الله، السعي بين الصفا والمروة. ومن الكفران، كتمان ما أنزل الله. وجزاء الكفران، اللعنة. ورأس الذكر والشكر، التوحيد. وإن مما يدل على التوحيد ويستخرج به الذكر والشكر ما أنعم الله على الإنسان من كثير النعم. ومع أن مقتضيات الذكر والشكر كثيرة فهناك ناس يتخذون من دون الله أندادا ... على هذه الشاكلة تتسلسل المعاني في هذا المقطع، وصلة ذلك في الآية السابقة مباشرة على المقطع واضحة جدا. 2 - بدأ هذا القسم بالدعوة إلى العبادة والتوحيد للتحقق بالتقوى. ونفر عن السلوك المؤدي إلى الكفر والنفاق والفسوق. ثم جاء مقطع آدم، فمقطع بني إسرائيل الذي كان في بدايته النهي عن كتمان الحق وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وكان فيه حوار مع أهل الكتاب، ثم جاء مقطع إبراهيم وفيه تركيز على الكعبة وذكر للمناسك، ثم جاء مقطع القبلة، ثم جاء المقطع الأخير في القسم، وله صلة بذلك كله: فمواقف أعداء الله تحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة، وهما عبادة، وارتباط ذلك بالأمر بالعبادة وبالأمر الذي وجه لبني إسرائيل ولم يعقلوه وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. وبالحوار معهم، وبالقبلة، واضح. والصفا والمروة من شعائر الله. فالكلام عنهما استكمال للكلام الذي بدأ في مقطع إبراهيم. والترهيب من كتمان ما أنزل الله، والترهيب من الكفر هو التحذير المتوقع بعد هذه الجولات الطويلة مع اليهود وغيرهم، وإعلان التوحيد. والتنديد بالمشركين في آخر المقطع هو مظهر الانسجام الكامل بين بداية القسم كله ونهايته. لاحظ كيف أن بداية القسم كانت دعوة لعبادة الله وحده. وتعليلا ونهيا عن الشرك: [سورة البقرة (2): الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
الفقرة الأولى
إن في هذه البداية دعوة إلى العبادة والتوحيد. وتعليلا لهذه الدعوة، كما فيها نهي عن الشرك. وانظر نهاية القسم ففيها إعلان التوحيد. والتعليل له والتحذير من الشرك. الإعلان: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. التعليل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي ...... التحذير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ....... وهكذا نجد أن الصلة بين هداية هذا القسم ونهايته على أوضح ما تكون. وإذا اتضحت الصلة بشكل عام بين هذا المقطع والآية السابقة عليه. وبين هذا المقطع والمقاطع السابقة عليه فلنبدأ عرض المجموعة الأولى من الفقرة الأولى منه. إذ المقطع فقرتان، الفقرة الأولى: تعرض ما هو ذكر وشكر، وتوضح قضايا من الكفر. والفقرة الثانية: تعرض ما هو ذكر وشكر، وتوضح جوانب من الكفر: [الفقرة الأولى] المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. الصلة واضحة بين هذه المجموعة وما قبلها من حيث إن جولات الحوار السابقة التي عرضها القرآن بين أهل الإيمان وغيرهم تقتضي تثبيتا ومساعدات على هذا الثبات كما أن جولات الحوار تخللها ما يدل على أن الكافرين والظالمين ستكون لهم مواقف إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وهذا يقتضي ما يقابله بشكل مكافئ. فإذا وقع ما وقع فكيف ينبغي أن تكون مواقف هذه الأمة. مثل هذه المعاني كلها وغيرها انتظمتها المجموعة الأولى في الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
[سورة البقرة (2): آية 154]
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر والإرشاد إلى ما يتم به، من معرفة بالله وبما أعد للشهداء والصابرين. وقد أمر بهذه الآية بالاستعانة بالصبر والصلاة فهما أجود ما يستعان به على تحمل المصائب. وفي الحديث «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» والصبر صبران: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات، والثاني أكثر ثوابا، لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب. ويدخل بالأمر بالاستعانة بالصبر، الصوم لأنه نصف الصبر. كما يدخل بالأمر بالاستعانة بالصلاة قراءة الفاتحة والدعاء. لأن الفاتحة صلاة ولأن الدعاء صلاة. ولكن المقصود الرئيسي من الصبر التصبر. فإذا وضح هذا نقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ لأنه به تنال كل فضيلة وَالصَّلاةِ لأنها تنهى عن كل رذيلة وتعطي صاحبها اطمئنانا. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة. قال عليه الصلاة والسلام «عجبا للمؤمن لا يقضي له الله قضاء إلا كان خيرا له .. إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له». قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان. والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله». وقال سعيد بن جبير: «الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه. وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر». وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون. فقالوا: يا ربنا وأي شئ نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. ثم عاد عليهم بمثل هذا. فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى. لما يرون من ثواب الشهادة. فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون». وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر تعلق
[سورة البقرة (2): آية 155]
في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى حيث يبعثه». ما يدل على أن هذا الخير لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر بالقرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما. وفي الآية نهي لنا أن نصف من قتل في سبيل الله بالموت، إذ هو حي حياة لا نشعر بها، لأن حياة الشهداء لا تعلم حسا. ذكر النسفي عن الحسن رضي الله عنه: (أن الشهداء أحياء عند الله، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا، فيصل إليهم الوجع). وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. أمر في بداية المقطع بالاستعانة بالصبر والصلاة. ووعد على الصبر النصر والمعونة. ثم ذكر بعد ذلك ما يعين على الصبر على أعظم المصائب في الله وهو القتل، بأن عرفنا حال الشهيد عنده. ثم بين لنا حال الصابرين، وحقيقة الصبر، وأجره، وعلى ماذا يكون، فاستكملت المجموعة بذلك قضية الصبر المكمل للشكر، الذي طولبنا به في نهاية المقطع السابق. وهل الإسلام إلا صبر وشكر وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ. أي: لنمتحننكم ولنختبرنكم بِشَيْءٍ أي: بقليل مما ذكر. وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه. ويرينا أن رحمته معنا في كل حال. وأعلمنا بوقوع البلواء قبل وقوعها لنوطن نفوسنا عليها مِنَ الْخَوْفِ خوف العدو وَالْجُوعِ القحط أو الإملاق أو الفاقة أو العوز. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أي: ذهاب بعضها كموت المواشي وأمثال ذلك وَالْأَنْفُسِ كموت أو قتل الأصحاب والأقارب والأحباب والإخوان، أو بالمرض والشيب. وَالثَّمَراتِ فلا تقل الحدائق والمزارع كعادتها. قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر إلا واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده. فمن صبر أثابه ومن قنط حل به عقابه. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة. والصابرون: هم الذين صبروا على هذه البلايا واسترجعوا عندها لأن الاسترجاع تسليم وإذعان. وهذا غاية الصبر. وأعلى منه الرضى. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ من مكروه أو شدة. قالُوا إِنَّا لِلَّهِ إقرارا له بالملك. وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار على أنفسهم بالهلك والعودة إليه، يتسلون بقولهم هذا عما أصابهم. عالمين أنهم ملك لله. يتصرف بعبيده بما يشاء وأنه لا يضيع
[سورة البقرة (2): آية 157]
لديه مثقال ذرة يوم القيامة. فأعطاهم الله مقابل اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة أن رحمهم وأمنهم وهداهم. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي تعطف وحنو. وَرَحْمَةٌ أي: أمنة من العذاب. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ إلى الطريق الصواب وذلك حين استرجعوا وأذعنوا لأمر الله. قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة أي: الصلاة والرحمة والاهتداء. فوائد: 1 - قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، ظلمات الشهوة والشك والشرك والكفر والنفاق والحيرة وغير ذلك. وقد جعل الله عزّ وجل مما لو فعلناه صلى علينا ما رأينا في هذه الآيات عند ما ذكر المسترجعين عند المصيبة، الصابرين عليها فإنه يصلي عليهم فلنحصل هذا المقام. 2 - ورد في الاسترجاع آثار كثيرة منها: أخرج الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: «أتاني أبو سلمة رضي الله عنه يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به، قال: لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا فعل ذلك. قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه. فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. ثم رجعت إلى نفسي فقلت من أين لي خير من أبي سلمة؟. فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي. فغسلت يدي من القرظ وأذنت له. فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف. فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت يا رسول الله: ما بي أن لا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن. وأنا ذات عيال. فقال صلى الله عليه وسلم: وأما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عزّ وجل عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي».
قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه: (رسول الله صلى الله عليه وسلم)» وفي صحيح مسلم بمعناه. وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها- وقال عباد: قدم عهدها- فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله عزّ وجل له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب». وأخرج الإمام أحمد والترمذي وقال حسن غريب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: يا ملك الموت. قبضت ولد عبدي؟. قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟. قال نعم. قال: فما قال؟. قال: حمدك واسترجع. قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد». 3 - بعد الأمر بالشكر جاء الأمر بالصبر. والشكر أعلى مقامات السالكين. ولا سلوك بلا صبر. فالصبر زاد الطريق من بدايته إلى نهايته. وقد يجر الهلع والجزع وانعدام الصبر إلى الكفر والعياذ بالله وأعلى من الصبر والتسليم والرضا بقضاء الله فيما ابتلى. وقد جاء الكلام عن الذكر والشكر والصبر والصلاة بين القبلة والسعي بين الصفا والمروة مما يذكرنا بأن هذا الدين شعائر كما أنه شرائع. وخصائص نفسية كما هو أعمال بدنية. وأن لتكوين النفس ارتباطا بعمل البدن ... 4 - يلاحظ أن الخطاب الأول للمؤمنين بصيغة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .... في هذه السورة جاء في سياق الحوار مع بني اسرائيل. فكان هناك بمثابة درس في سياق خطاب الآخرين، إلا أن هذه المجموعة في هذا المقطع يتوجه فيها الخطاب لأهل الإيمان بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. بشكل مباشر في السياق. فكأن الإيمان نما لدرجة استقلال شخصية أصحابه بعد أن أصبحوا مستقلين بقبلتهم. فأصبحوا يخاطبون بشكل مباشر. لا من خلال لفت نظر، أو إعطاء درس من خلال تصرفات الآخرين. وهذه نقطة مهمة في الدعوة والتربية: فكثيرا ما يضطر الداعية والمربي إلى تحريك العواطف الإيمانية، من خلال لفت النظر إلى تصرفات أهل الكفر. ولكن هذا إنما يكون بمثابة علاج لقصور أو لفتور أو لمرض
ريثما يعي المسلم حقيقة مركزه في الوجود. فلا ينظر إلى الأمور إلا من خلال وظيفته كإنسان مكلف أمام الله. فيرى الأمور كلها ببصيرة أهل الإيمان. 5 - يقدم صاحب الظلال لهذه المجموعة بقوله: «بعد تقرير القبلة وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك .. كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس .. كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم. والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والخوف والجوع، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس، وإقراره في الأرض بين الناس، وربط قلوب هذه الأمة بالله ورحمته وهدايته وهي وحدها جزاء ضخم للمؤمن الذي يدرك قيمة هذا الجزاء». ويختم صاحب الظلال الكلام عن هذه المجموعة معلقا على قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بقوله: «وبعد. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد والاستشهاد والقتل والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف. إن الله يضع هذا كله في كفة، ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا .. صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون .. إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا ولا يعدهم مغانم ولا يعدهم هنا شيئا، إلا صلوات الله ورحمته وشهادته .. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها، وأكبر من حياتها. فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية- حتى الرغبة في انتصار العقيدة- كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شئ إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها. إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس
كلمة في سياق المجموعة
والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة إن الكفة ترجح بهذا العطاء، فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر، وأرجح من التمكين، وأرجح من شفاء غيظ الصدور. هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب. وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين». كلمة في سياق المجموعة: انتهت المجموعة بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لاحظ كلمة الْمُهْتَدُونَ. وتذكر خاتمة قصة آدم عليه السلام: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. ثم تذكر مقدمة سورة البقرة وفيها ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إذا أدركت هذا كله أدركت محل هذه المجموعة في السياق القرآني وأدركت قيمة الصبر في دين الله. وأدركت الجانب العملي في هذا المقطع بعد ذلك الحوار الطويل. ثم إذا لاحظت أن هذه المجموعة جاءت بعد قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. فإنك ترى فيها نموذجا على ذكر نفعله لله، ونموذجا على نوع من الذكر يذكرنا الله به. فإذا ذكرت الله عند المصيبة بالاسترجاع، ذكرك الله بالصلاة عليك والرحمة لك. كما ترى فيها نموذجا على نوع من الكفر لا ينبغي أن يقربه الإنسان. وهو أن يقول لمن يقتل في سبيل الله إنه ميت. وقد جاءت هذه المجموعة في مقطعها قبل الأمر بالسعي بين الصفا والمروة، وقبل الترهيب من كتمان ما أنزل الله، وقبل التحذير من الموت على الكفر، وقبل إعلان التوحيد. وكلها قضايا تحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة. وجاء هذا المقطع خاتمة لقسم وسابقا لقسم. وفي القسم الثاني من سورة البقرة أوامر ونواه، منها الأمر بأكل الطيبات، ومنها الأمر بالصوم، ومنها الأمر بالقتال، ومنها الأمر بالحج. وكلها تحتاج إلى صبر وإلى استعانة بالصبر والصلاة. كما جاء المقطع بعد سياق طويل. فكان ما سبقه يحتاج إلى هذا التعليم للمؤمنين أن يستعينوا بالصبر والصلاة. وبعد المجموعة الأولى من الفقرة الأولى تأتي آية: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: 1 - إن أمر الصفا والمروة كان من المتردد فيه- كما سنرى في أسباب النزول- هل هو من الذكر والشكر اللذين أمر الله بهما قبل هذا المقطع في مقابل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم،؟ أو هو من الكفر الذي نهى الله عنه؟ ومن ثم- والله أعلم- جاء البت فيه في هذا السياق على أنه من الشكر ومن شعائر الله وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ. 2 - في سياق مقطع إبراهيم ورد كلام عن البيت، وورد دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وَأَرِنا مَناسِكَنا. ثم جاء مقطع القبلة وانصب الكلام فيه عن البيت. وفي معرض التوجيهات الكبرى التي جاءت في نهاية القسم: ذكر الله عزّ وجل شعيرة السعي بين الصفا والمروة حتى لا يفهم فاهم أنه ليس من الشعائر إلا تعظيم البيت. فهناك شعيرة أخرى في الحرم نفسه وهي شعيرة السعي بين الصفا والمروة. 3 - وفي محل هذه الآية في السياق حكمة تظهر من خلال عرض بعض المعاني فيعرف بذلك لماذا جاءت بعد مجموعة الصبر؟ فلنر ذلك: بين الله عزّ وجل في هذه الآية أن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله. أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج. وأصل ذلك مأخوذ من ترداد أمنا هاجر بين الصفا والمروة في طلب الماء لابنها إسماعيل لما نفد ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هناك وليس عندهما أحد من الناس. فلما خافت على ولدها الضيعة هناك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عزّ وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم وشفاء سقم. وأكرمها الله عزّ وجل وأكرم آل إبراهيم بأن جعل فعلها هذا شعيرة من شعائره إلى يوم القيامة. تتذكر فيه هذه الأمة ارتباطها بإبراهيم وآله، وتقتدي بفعله وفعل آله، وتتذكر فيه هذه الأمة عاقبة التسليم لأمر الله وطاعته مجيء الفرج بعد الشدة، وتتذكر فيه هذه الأمة تلك اللحظات الصعاب التى مرت بها أمنا هاجر أثرا عن طاعتها وطاعة إبراهيم لله. فكم هي مكافأة عظيمة أن جعل الله عزّ وجل فعلها شعيرة من شعائره إلى يوم القيامة فهذه عاقبة الصبر على أمر الله.
المعنى الحرفي
فهل وضحت الصلة بين هذه الآية وما قبلها في مجموعة الصبر؟ إن هذه الشعيرة سببها الصبر. فما نالت أمنا هاجر هذه الإمامة إلا بالصبر. وعلى هذا فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عزّ وجل: أن يزيل ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام، إذ نقلها من حال إلى حال. المعنى الحرفي: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ هما علمان للجبلين المعروفين. مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة. وهي العلامة. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أي قصده لإقامة فريضة الحج. أَوِ اعْتَمَرَ: أي زاره لإقامة العمرة. فالحج القصد والاعتمار الزيارة. ثم غلبا على قصد البيت وزيارته المعروفين. فَلا جُناحَ عَلَيْهِ: أي فلا إثم عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي: أن يتطوف. وأصل الطواف المشي حول الشئ. والمراد هنا السعي بينهما. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي: بالسعي بينهما فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ يجازي على القليل كثيرا. عَلِيمٌ بالأشياء صغيرا وكبيرا. فوائد: 1 - في أسباب النزول: قال الإمام أحمد «عن عروة عن عائشة قال: قالت: أرأيت قول الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟ قلت فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي (الخطاب لعروة ابن أختها أسماء) إنها لو كانت على ما أولتها عليه كان فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله. إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عزّ وجل إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما. فليس
لأحد أن يدع الطواف بهما» أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية عن الزهري «أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهلي يقولون: إن الناس- إلا من ذكرت عائشة- كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة. فأنزل الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء». وأخرج البخاري: «عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما. فأنزل الله عزّ وجل: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ». 2 - في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل: «وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به». وفي رواية النسائي: «ابدءوا بما بدأ الله به». وروى الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة عن حبيبة: بنت أبي تجراة قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى، حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». ثم رواه الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا». وقد استدل ابن كثير بهذا الحديث لمذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه، ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل أنه واجب وليس بركن. فإن تركه عمدا أو سهوا جبره بدم. وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة، وقيل: بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين. وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس. وحكي عن مالك في العتبية قال القرطبي: واحتجوا بقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال: «لتأخذوا عني مناسككم». فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل. والله أعلم. وقد تقدم قوله عليه السلام: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». أقول: الذي عليه الفتوى في مذهب الحنفية، أن السعي بين الصفا والمروة في الحج واجب عند الحنفية. فما نقله ابن كثير عن أبي حنيفة في كونه مستحبا، لعله قول
ضعيف في المذهب؟!. 3 - من قوله تعالى: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. نفهم أن السعي بين الصفا والمروة عبادة مرتبطة بالحج والعمرة، وليس عبادة مستقلة. والعمرة إحرام وطواف حول البيت، وسعي بين الصفا والمروة. أما الحج فأركانه عند الحنفية: إحرام ووقوف بعرفات ولو لحظة ما بين ظهر التاسع من ذي الحجة وفجر العاشر. وطواف الإفاضة. وما سوى ذلك عندهم فإما واجبات أو سنن. ومن سعى بعد طواف فقد أسقط واجب السعي. وإلا فإن عليه أن يسعى بعد طواف الإفاضة الذي هو طواف الركن. 4 - قال القرطبي: «ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر. فإن طاف معذورا فعليه دم. وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال: «خذوا عني مناسككم». وإنما جوزنا ذلك من العذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بغيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة وقد قالت: إني أشتكي. فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة». وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان. فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا. إنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويزمنداد: وهذه تفرقة اختيار وأما الإجزاء فيجزئ. ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه؟!. 5 - وعلى التحرج الذي تحرجه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسعوا بين الصفا والمروة ابتداء قبل نزول الإباحة علق صاحب الظلال بقوله: «وهذا هو الإسلام .. هذا هو: انسلاخا كاملا عن كل ما في الجاهلية، وتحرجا بالغا من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذرا دائما من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية. حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه .. فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة، أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى مما لا يرى فيه بأسا. ولكن يربطه بعروة الإسلام، يأتيه بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي. فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية. ولكن
المجموعة الثانية من الفقرة الأولى
لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام تستمد أصلها من الإسلام». [المجموعة الثانية من الفقرة الأولى] كلمة في السياق: جاءت آية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ .. بعد مجموعة الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة وهي مبدوءة بكلمة (إن). وبعد ذلك يأتي معنيان، كل منهما قد جاء في آيتين. وكلاهما قد بدئت آيتاه بكلمة (إن). فههنا تقريرات مؤكدة ثلاثة. فيها معنى الأمر والنهي. الأمر الأول: طوفوا بين الصفا والمروة. النهي الثاني: لا تكتموا ما أنزل الله. النهي الثالث: لا تموتوا كفارا. فالأمر الأول: تبيان أن السعي بين الصفا والمروة من نوع الشكر. والنهي الثاني والثالث: تبيان لجوانب من الكفران لا ينبغي أن تفعل: وصلة ذلك بقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ لا تخفى. ثم إن مجئ موضوع السعي بين الصفا والمروة. والكتمان والكفر بعد مجموعة الاستعانة بالصبر والصلاة، يدل على أن هذه أمور تحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة. فالسعي بين الصفا والمروة شاق جسديا ومعنويا على طبقات كثيرة من الناس. وليس تبيان حكم الله سهلا في كل موطن. وليس أن ينتقل الإنسان من دينه إلى الإسلام هينا، إن هذا كله يحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة. ولقد كررنا الكلام كثيرا في هذا المقطع لاعتقادنا أن السياق يحتاج لذلك. أما وقد أصبح سياق الفقرة الأولى واضحا. فإن تتمة الفقرة لا تحتاج إلى وقفة طويلة. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. في الآية السابقة تقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله. وفي هذا التقرير أمر كما رأينا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا». وقد رأينا أن الصلة بين الأمر بالصبر الوارد في أول المقطع. وبين السعي بين الصفا والمروة واضحة. إذ الأمر بالسعي بين الصفا والمروة تخليد لموقف من
المعنى العام
مواقف الصبر في قصة إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، وهو يحتاج إلى صبر. وفي هذه الآية تقرير فيه معنى الطلب: أن علينا ألا نكتم حكم الله، وفيه جزاء من يخالف ذلك. وطريق التوبة من هذا والصلة بين آية الكتمان والأمر بالصبر واضحة إذ تبيان حكم الله يترتب عليه أذى كما قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ. (سورة لقمان) فالاستعانة بالصبر والصلاة والاسترجاع أشياء أساسية لمن يريد أن يبين حكم الله. المعنى العام: في الآية وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله، فهؤلاء يستحقون اللعنة. ثم استثنى الله عزّ وجل من ذلك من تاب وأصلح وبين ما قد كان كتم. المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحات وَالْهُدى أي الهداية مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أي: من بعد ما أوضحناه للناس في كتاب الله. سواء في ذلك التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو القرآن. أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي الذين يتأتى منهم اللعنة. وهم الملائكة والمؤمنون من الإنس والجن. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عن الكتمان وترك الإيمان. وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم. وَبَيَّنُوا أي وأظهروا ما كتموا. فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أقبل توبتهم. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. فوائد: 1 - دلت هذه الآية على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. 2 - يلاحظ أن التوبة من الكتمان يشترط لها: الإصلاح والبيان. فمن كان يعرف الحق في قضية ما، فإن عليه أن يتوب ويصلح ويبين. وعندئذ تقبل توبته. وإلا فإنه يستحق اللعن من الله والملائكة والناس أجمعين. فما أصعب هذا وأشده إلا على من وفقه الله!!؟. 3 - قال ابن كثير: (جاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس
أجمعون. واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أو لو كان له عقل فى الدنيا ويوم القيامة). 4 - في الصحيح (عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا: أي آية الكتمان هذه). 5 - قال ابن كثير: (وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، أقول: هذا في علم يفترض تعليمه). قال الألوسي: (واستدلوا بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة، وحرمة كتمانه. ولكن اشترطوا لذلك: أن لا يخشى العالم على نفسه. وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم. إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه. وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد. لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله). وقال القرطبي: (وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه. وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»). رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص. أخرجه ابن ماجه ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه الصلاة والسلام: «حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله». وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام، أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام. فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته. وقال القرطبي كذلك: «وتحقيق الآية: هو أن العالم إذا قصد كتمان العلم، عصى. وإذا لم يقصد لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. ولكن لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم. وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقتطع بها ما له. ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. كما قال: مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى: دل على أن ما كان
المعنى الكلي
من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف. فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل، إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن. والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى. 6 - هناك اتجاه في تفسير قوله تعالى وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. أن المراد بذلك دواب الأرض. ويشهد لهذا الاتجاه حديث حسن رواه ابن ماجه. قال القرطبي: «قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال: دواب الأرض. اه. أقول: والحديث في حال ثبوته لا ينفي العموم عن الآية. بل يدخل في هذا العموم دواب الأرض. إذ يمكن أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام بيان لشئ يدخل في هذا العموم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. في هذا المقطع كما رأينا صدر الأمر لهذه الأمة- بعد أن استكملت فيما مضى وجودها المتميز كأمة- أن تستعين بالصبر والصلاة، ثم أمرت أن تصف الشهيد بالحياة، ثم حضت على الاسترجاع عند المصيبة، ثم صدر لها الأمر بصيغة التقرير أن تسعى بين الصفا والمروة، ثم صدر لها الأمر بصيغة التقرير أن لا تكتم الحق الذي أنزله الله عليها، ثم يصدر لها الأمر هنا بصيغة تقرير ألا تكفر. فمن خلال الأوامر المباشرة. والتقريرات الحاسمة تبني سورة البقرة هذه الأمة شيئا فشيئا. وتبني شخصية المسلم كذلك. المعنى الكلي: تخبر الآيتان عمن كفر بالله واستمر به الحال على الكفر إلى أن مات، أن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأنهم خالدون في هذه اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة. ثم المصاحبة لهم إلى نار جهنم التي لا يخفف عنهم عذابها فتنقص ولا يفتر ولا يغير ولا يؤجل. بل هو متواصل دائم. المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي: استمروا على الكفر حتى ماتوا عليه.
[سورة البقرة (2): آية 162]
إذ الإسلام يجب ما قبله. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. هل المراد بالناس هنا المؤمنون فقط أو المؤمنون والكافرون؟! إذ يلعن الكافرون بعضهم بعضا يوم القيامة كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. (سورة الأعراف) قولان للمفسرين. قال أبو العالية وقتادة: (إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون). خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، أو في النار وأضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ. أي: لا ينقص عما هم فيه. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ من الإنظار، أي لا يمهلون. أو من الانتظار، بمعنى أنهم لا ينظرون ليعتذروا. أو من النظر، بمعنى أن الله لا ينظر إليهم نظر رحمة. فائدة: قال ابن كثير: لا خلاف في جواز لعن الكفار. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره. فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن. لأنا لا ندري بما يختم الله له. واستدل بعضهم بالآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين، واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف. واستدل غيره بقوله عليه الصلاة والسلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده. فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن). كلمة في السياق: 1 - مجئ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... بعد الكلام عن الصفا والمروة، الذي هو استمرار للكلام عن البيت الذي وقف من التوجه إليه أهل الكتاب تلك الوقفة، يشعر بأن أهل الكتاب على علم بتفصيلات كثيرة في شأن هذه الأمة، ولكنهم يكتمونها. ومجئ هذه الآية في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ... وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ ... يشعر بأنه لا ينجو من آفة الكتمان. إلا من استعان بالصبر والصلاة. ووطن نفسه على كل امتحان.
الفقرة الثانية من المقطع السادس
كما أن مجئ آية الكتمان في مقطعها، ومجئ مقطعها بعد قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ يشعر بأن كتمان ما أنزل الله فيه معنى الكفر. أو هو موصل للكفر والعياذ بالله. 2 - في الكلام عن مقطع بني إسرائيل قلنا: إن مدخل المقطع المؤلف من أوامر ونواه هو بمجموعه العلاج الشامل الناجع للنفسية اليهودية. وكانت خاتمة الأوامر والنواهي في ذلك المدخل هي: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ* أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ* وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. وقد رأينا أثناء عرض مقطع بني إسرائيل كيف أن المقطع في فصليه، كان وكأنه في بعض مقاصده يعلل لتوجيه الأوامر والنواهي التي سبقت هذه الآيات التي ذكرناها آنفا وانصب الكلام على الإيمان وكان الأمر على الشكل التالي: إذا لم يؤمن بنو إسرائيل فلا فائدة من مناقشة ما بعد قضية الإيمان من التزامات. ومن ثم فإن الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة والتحذير من الكتمان، يتوجه لهذه الأمة التي هي وحدها المستفيدة من مثل هذا التوجيه، وإن كان التحذير يشمل بني إسرائيل. ومن قبل قلنا إن الحوار مع بني إسرائيل لا زال مستمرا في السورة. ولننتقل إلى الفقرة الثانية في المقطع. الفقرة الثانية من المقطع السادس تأتي هذه الفقرة وفيها إعلان للتوحيد والرحمة الربانية، وتدليل على هذا التوحيد والرحمة، وذكر للمنحرفين عن هذا التوحيد بعد كل هذه الدلائل. وإذ كان المقطع كله قد جاء بعد قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. فإن هذه الفقرة تفصيل في قضية الشكر. وتعليل لوجوب الذكر والشكر. فلنرها. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يخبر تعالى في هذه الآية عن تفرده بالإلهية. وأنه لا شريك له ولا عديل له. بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو. وأنه الرحمن الرحيم. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. أي فرد في
كلمة في السياق
ألوهيته. لا شريك له فيها. ولا يصح أن يسمى غيره إلها. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: هذا تقرير للوحدانية بنفي غيره أن يكون إلها. وإثبات إلهيته جل جلاله. الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: أي المولي لجميع النعم أصولها وفروعها. ولا شئ سواه بهذه الصفة. فما سواه، إما نعمة، وإما منعم عليه. وكل ذلك من آثار رحمته العامة والخاصة. كلمة في السياق: جاءت هذه الآية في بداية فقرة، وبعد فقرة في سياق مقطع. فلنلاحظ محلها في السياق: بدأ المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .... وتأتي هذه الآية لتعلن أن الله وحده هو الإله. فإذا كان الأمر كذلك فكيف لا يصبر الإنسان على أمره؟ وإذا كان رحمانا رحيما. فكيف لا يسلم الإنسان له؟ وجاءت هذه الآية بعد ذكر الكتمان والتحذير من الكفر، فكانت تذكيرا بالله. وكما قلنا فإن هذا المقطع كله جاء بمثابة تفصيل لقضايا من الذكر والشكر بعد قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فكانت هذه الآية بداية فقرة جديدة تستخرج الذكر والشكر. ففيها تذكير بوحدانية الله ورحمته بين يدي ما يكون بمثابة الدليل على الوحدانية والرحمة. فوائد: 1 - قال ابن كثير: وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ». 2 - في التقديم للفقرة التي بين أيدينا. وللآية الأولى فيها يقول صاحب الظلال: «إن وحدة الألوهية، هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني. فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله- تختلف التصورات حول ذاته، وحول صفاته، وحول علاقاته بالخلق. ولكنها لا تنفي وجوده- ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة. حقيقة وجود إله. إلا في هذه الأيام الأخيرة. حين نبتت نبتة منقطعة
عن أصل الحياة، منقطعة عن أصل الفطرة، تنكر وجود الله. وهي نبتة شاذة لا جذور لها في أصل الوجود. ومن ثم فمصيرها حتما إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود. هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور. ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التوكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة، وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك، ويتوحد المصدر الذي يتلقى الخلق منه أصول الشرائع والقوانين، ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق». 3 - وفي الصلة بين آية وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وما قبلها، وما بعدها يقول القرطبي: «لما حذر تعالى من كتمان الحق، بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه: أمر التوحيد. ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شئ». إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. هذه الآية جسر بين ما قبلها وما بعدها. فما قبلها وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وهذا دليل وحدانيته ورحمته. وما بعدها وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وهذه الآية دليل على أنه وحده الحري بالمحبة، إذ هو المنعم الوحيد. وإذ كانت هذه آياته فهو حري ألا يكفر، وألا يكتم هداه، وأن يطاع أمره في كل شئ، وأن يسلم له في قضائه وقدره، وأن يستعان به. فهذه الآية هنا بعد ما سبق من توجيهات، تفيدنا زيادة يقين وتمسك وطاعة والتزام. والآية كما أنها تقرير، فهي أمر بالتفكر في هذا الكون. فهي واحدة من توجيهات هذا المقطع: استعينوا ... اسعوا ... لا تكتموا ... لا تكفروا ... تفكروا ... ثم في المجموعة القادمة: أحبوا الله. وقد ذكر النسفي بمناسبة هذه الآية حديثا هو: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي: لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. في كتابنا «الله جل جلاله» تحدثنا عن تسع ظواهر في هذه الكون. كل منها يدل على الله
التفسير الحرفي
بما لا يقبل جدلا: ظاهرة حدوث الكون، وظاهرة الإرادة فيه، وظاهرة الحكمة، وظاهرة الهداية، وظاهرة الإبداع، وظاهرة الاستجابة، وظاهرة العناية، وظاهرة الوحدة. وفي هذه الآية حديث عن مجموع هذه الظواهر تقريبا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ظاهرة الحدوث. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ظاهرة الإرادة والحكمة والهداية والعناية. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ظاهرة الحياة والإبداع وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ظاهرة حكمة وعناية وهداية وإرادة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يدرك هذه الآيات أصحاب العقول، أما الذين يعطلون قوانين العقل كبرا أو عنادا فهؤلاء لا يدركون هذه الآيات. ولعل كتابنا «الله جل جلاله» فيه تفصيل لهذه المعاني كلها فليراجع. وفي كتابنا هذا ذكرنا: كيف أن التناسق في الكون والتكامل فيه يدلان على وحدة الخالق ووحدانيته. وقد جاءت هذه الآية هنا بعد قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .. إشارة إلى أن كل هذه الآيات دليل على الوحدة والوحدانية. ومجئ قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ ... بعد هذه الآية إشارة إلى أن هذه الآيات في هذا الكون والتي تدل على ظاهرة العناية تستدعي أن يحب الإنسان الله. فكيف ينحرف الإنسان؟. روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟. فأنزل الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ .... وعن أبي الضحى قال: لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية. فأنزل الله عزّ وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلى قوله يَعْقِلُونَ. التفسير الحرفي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تلك بما فيها من كواكب ومجرات وغير ذلك، وهذه الأرض بما فيها من جبال وبحار وقفار ووهاد وغير ذلك وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
فوائد
وَالنَّهارِ ... تارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، وهذا يجئ ثم يعقبه الآخر، ضمن نظام دقيق عجيب. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الفلك: السفن. وتطلق على المفرد والجمع. أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء، وما عند أولئك إلى هؤلاء. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: وما أنزل الله من السحاب من مطر فأحيا بالماء الأرض من بعد يبسها. وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي: وفرق فيها من الدواب من كل الأنواع والأصناف، مختلفة الأشكال والألوان والمنافع والصغر والكبر. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ضمن نظام دقيق عجيب. وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ المسخر: المذلل المنقاد لمشيئة الله. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: لدلالات بينة على وحدانية الله لمن ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها. فوائد: 1 - عند قوله تعالى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ قال القرطبي: «هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا، لتجارة كان أو عبادة كالحج والجهاد» وبعد أن ذكر بعض النصوص التي تفيد ذلك قال: «ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء. وإذا جاز ركوبه للجهاد، فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب». ثم بعد مناقشات قال: (قلت: فدل الكتاب والسنة على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، وفيهما الحجة، وفيهما الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم. فرب راكب سهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد المفرط الميد. حتى لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض: فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه ويمنع منه، ولا خلاف بين أهل العلم .... أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه، ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة. وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن، السلامة فيه الأغلب. فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم. والذين يهلكون فيه محصورون).
أقول: كلامه الأخير ينبغي تقييده بأن الحكم كذلك في الأحوال العادية لمريد سياحة، أو لمريد تجارة، وغلب على الظن الهلاك. أما إذا كانت هناك ضرورات عسكرية إسلامية أو غيرها من الضرورات، فالفتوى البصيرة هي التي تقدر الحكم. 2 - في تعليق صاحب الظلال على قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يقول: «نعم لو ألغى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوره بالإيمان. ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة، تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر. إن هذا هو ما يصنعه الإيمان ... ». فيرى العقل في كل شيء آية. ومن كلمات صاحب الظلال في الآية: «وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها- كما يوحي القرآن للقلب المؤمن- بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها .. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء .. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية .. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة ... ! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها .. ؟ مصدرها الأول ... ؟. إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة .. لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات. وحاولوا طويلا أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة- بلا حاجة إلى إله- ثم أخيرا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر. ينتهون إلى نفض أيديهم أو الإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة: وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل، راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال. ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود .. إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب إن السر الأعمق، هو سر هذه الأسباب .. سر خلق الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب، وبهذه الأوضاع التي تسمح بنشأة الحياة ونموها، وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة .. سر هذه
الشرح الكلي
الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلفت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة!!». ثم تأتي المجموعة الأخيرة في الفقرة لتبين لنا أنه مع كل هذه الدلائل على الوحدانية فهناك ناس يشركون وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. الشرح الكلي: يذكر تعالى أن مآل المشركين به في النار وحالهم في الدار الآخرة، لأنهم جعلوا لله أمثالا ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه. وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه. ولكن الذين آمنوا ليسوا كذلك، فهم لا يشركون به شيئا، ويعبدونه وحده، ولتمام معرفتهم به فإن حبهم له لا يعدله حب. وبعد أن بين الله عزّ وجل هذا توعد المشركين الظالمين لأنفسهم بذلك، فأعملهم أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وسلطانه، وإذ يعاينون العذاب فسيعلمون ذلك تماما بأن القوة كلها لله. فلو أن الكافرين والمشركين يعلمون ما يعاينونه يوم القيامة، وما يحل بهم من الأمر الفظيع الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر تعالى عن كفرهم بأوثانهم وشركائهم وزعمائهم وآلهتهم، وكيف تبرأ المتبوعون من التابعين. وكيف يتمنى التابعون أن لو تتاح لهم فرصة ليبرءوا من المتبوعين. التفسير الحرفي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: أي أمثالا ونظراء. يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ: أي يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له ومحبته. أو أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من الكافرين والمشركين والملحدين لمن أعطوهم صفات الألوهية وخصائصها. لأن المؤمنين لا يعدلون عن الله إلى غيره بحال وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: أي الذين اتخذوا من دون الله أندادا. دل
[سورة البقرة (2): آية 166]
ذلك على أن الشرك والكفر ظلم للنفس أي ظلم. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ يوم القيامة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ أي: عذابه شديد. فصار المعنى: لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شئ من الثواب والعقاب دون أندادهم. ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة- والجواب المقدر- لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أي الرؤساء المتبوعون مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي الأتباع. وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ أي الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد، أو مذهب واحد، أو اتجاه واحد، ومن الأنساب والمحاب وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي قال الأتباع: لو أن لنا عودة ورجعة إلى الدار الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أي: حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم واتباعهم وطاعتهم كما تبرءوا منا. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ أي ندامات. والمعنى: أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات. فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم. وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ بل هم فيها دائمون. فوائد: 1 - الصلة المباشرة بين هذه المجموعة والآية التي قبلها مباشرة واضحة، إذ إن الآية تدلل على وحدانية الله من خلال آياته في الكون. فكأن السياق يقول ومع هذا البرهان النير على توحيد الله، فإن من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. فماذا يستحق هؤلاء من عذاب؟. وإذن فمن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .. إلى نهاية هذا المقطع إنما هو أمر بالتوحيد الخالص المبني على الدليل الذي من آثاره المحبة الخالصة. فصارت التوجيهات العامة في هذا المقطع السادس: أن على المسلم أن يستعين بالصبر والصلاة، وألا يقول بموت الشهيد، وأن يسترجع حال المصيبة، وأن يسعى بين الصفا والمروة إذا حج أعتمر، وأن يبين حكم الله فلا يكتمه وألا يكفر، وأن يوحد التوحيد الخالص بالمحبة الخالصة. وارتباط هذه المعاني بالسياق الكبير واضح. فهذه الأمة لا تتلقى إلا عن الله بواسطة رسوله، ولا تهتدي إلا بهداه في شعائرها وشرائعها. ومما يساعدها على ذلك،
الاستعانة بالصبر والصلاة والاسترجاع. وفي معرض ذلك ذكر من الشعائر السعي. فهو وضع قديم أقر فأخذ قوة من الإقرار لا من العمل السابق. وإذا أقره الله، أخذ محله في عمل المسلم، والهدى يحتاج إلى توضيح وتبيان، لا إلى كفر وكتمان. ومرجع كل هذا إلى التوحيد الذي تنبثق عنه الشرائع والشعائر والمشاعر والعواطف. 2 - لو في اللغة العربية إذا جاءت فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما توصل بجواب، ليذهب القلب في جوابها كل مذهب. وكذلك هي في هذا المقطع: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ الجواب ما ذكرناه أي لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة. 3 - لو، وإذ: تدخلان على الماضي في الأصل. ولكنهما في المقطع دخلتا على المستقبل لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضي. 4 - في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». 5 - دل قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أن من مقتضيات الإيمان الواضحة الكبيرة محبة الله. ومحبة الله تكون أثرا عن الشعور بنعمه. قال عليه السلام: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه .. ». ولكن القلب لا يحس بها إلا إذا تحرر من أمراضه. كالحسد والكبر والنفاق. ومن ثم كانت ذروة السير إلى الله، محبة الله. وطريق ذلك الإقبال على الله بالفرائض والنوافل: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه». فإذا أحبه الله أعطاه بما يشعره بالمحبة: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». وعندئذ يفيض القلب بالمحبة لله بما لا يعرفه إلا أهله. 6 - دلت الآيات الأخيرة على أن الاتباع في غير طريق الله شرك يعقب ندامة يوم القيامة. فلينظر الإنسان من يتبع؟ وعلى ماذا؟ وبماذا؟ وإلا فإنه سيكون من النادمين. فإذا قال الله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً (سورة التوبة) لمن تابعوا رجال دينهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال!! فكيف بمن يتبع من لا يعترف بحلال وحرام أصلا؟.
كلمة في الفقرة الثانية
نقل القرطبي عن ابن عباس والسدي في تفسير الأنداد في آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً قولهما: (المراد بالأنداد: الرؤساء المتبعون. يطيعونهم في معاصي الله). 7 - عند قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ قال الألوسي: «واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقال الألوسي عند قوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ: ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين». 8 - يفهم من المجموعة أن التوحيد بدايته اعتقاد الوحدانية لله، ثم البناء على ذلك. فمن لم يعط الله الخضوع والاستسلام، ويعرف له حقه في العبادة والطاعة فليس موحدا. أما من عرف ذلك ولم يأت بناقض للشهادتين فإنه يكون موحدا ولو ارتكب بعض المعاصي مما لا يعتبر نقضا للشهادتين، ولكنه يكون فاسقا. مثل هذا لا يخلد في النار- إن دخلها ولم يعف الله عنه- أما الكافرون فليس لهم خروج من النار بنص الآية وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. فضلا عن أن يكون لهم دخول في الجنة: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (سورة الأعراف). كلمة في الفقرة الثانية: 1 - بعد أن بين الله جل جلاله في نهاية الفقرة الأولى ما يستحقه الكافرون من عذاب خالد دائم، بين أنه واحد ورحمن ورحيم. وفي ذلك رد وبيان: رد على من يظن أن ذلك العذاب ينافي الرحمة الإلهية. كيف وهم أهل لذلك؟! ومن الرحمة العدل، ومن العدل ألا يكون الكافرون والمؤمنون سواء، ثم هي بيان في هذا كله. وتأتي الآية اللاحقة لتقيم الحجة على أحديته وعلى رحمته، من خلال ظواهر الخلق والعناية والحكمة وغير ذلك. ثم تأتي المجموعة الأخيرة لتبين كيف أن بعض الناس مع ذلك يشركون!!؟ 2 - كررنا كثيرا أن هذه الفقرة هي نهاية القسم الأول من أقسام سورة البقرة. ومن جملة أدلتنا على ذلك التشابه بين بداية هذا القسم، وهذه الفقرة. فلنلاحظ ذلك من خلال الأسطر التالية: بدأ القسم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ويقابلها في الفقرة الآية الأولى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. وقد جاء بعد الآية الأولى في بداية القسم قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ. ويقابلها في الفقرة الآية الثانية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وقد ختمت الآية الثانية في بداية هذا القسم بقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .... إن هذا يقابله في الفقرة قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ .... إن هذا التشابه الكبير بين بداية القسم وهذه الفقرة، توحي بأن السياق قد بدأ بشيء واستقر عليه. خاصة وأنت ترى أن ما بين بداية القسم وخاتمته، كانت آيات كثيرة وفقرات ومقاطع كلها خدمت السياق. ولكن لم يظهر فيها مثل هذا التشابه، حتى إن هذا التشابه وحده يكاد يشكل نقطة علام على سياق السورة وأقسامها.
كلمة أخيرة في المقطع السادس والقسم كله
كلمة أخيرة في المقطع السادس والقسم كله: إن هذا المقطع كما أنه خاتمة قسم، فهو مقدمة مباشرة للقسم اللاحق. وإن القسم الأول والقسم اللاحق يتعانقان حتى ليكادان يشكلان قسما واحدا. فهما يبنيان مع المقدمة قضية التقوى ليأتي القسم الثالث ليبني على ذلك الإسلام كله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. فالقسم الثالث في السورة يبني على القسمين السابقين، والقسم الثاني في السورة يبني على القسم الأول الذي جاء بعد المقدمة. فمثلا: القسم الأول بدأ بالدعوة إلى العبادة والتوحيد. وختم بذلك. وفي بدايات القسم الثاني يأتي قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وكل ذلك سنراه تفصيلا. لقد جاءت المقدمة لتبين التقوى وتصف أهلها، كما بينت الكفر والنفاق ووصفت أهل ذلك. وجاء القسم الأول ليدلنا على طريق التقوى وطريق الكفر والنفاق، وحدد بداية الطريق للتقوى، أنه العبادة والتوحيد. وسيأتي القسم الثاني ليكمل معاني ويبني على معان، ويفصل بناء على ما مر في قضية التقوى، وليدلنا على طرق أخرى للتقوى. والمقطع السادس والأخير في القسم الأول هو بمثابة المقدمة للقسم الثاني. فكما سبق القسم الأول بمقدمة، فقد جاء المقطع الأخير من القسم بمثابة مقدمة للقسم الثاني. ومن ثم كان هناك تشابه بين مقدمة سورة البقرة وهذا المقطع. في مقدمة سورة البقرة: كلام عن المتقين الذين من صفاتهم اهتداؤهم بالقرآن، وإيمانهم وإقامتهم الصلاة. وقد ختم الكلام عنهم بقوله تعالي: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لاحظ قوله تعالي: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ. وجاء المقطع السادس وفي بدايته أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة. وختمت مجموعة الصبر بقوله تعالى. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. ثم جاءت بعد ذلك آية فيها هداية قرآنية في شأن الصفا والمروة، ثم آية في التحذير من كتمان شئ من كتاب الله. وكل ذلك له صلة ما بالكلام عن المتقين
وصفاتهم في مقدمة سورة البقرة. ثم جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وجاء بعد آية الكتمان في المقطع قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. ثم جاءت آيتان تضمنتا بيانا في التوحيد والرحمة، هو بمثابة رد على زاعمين. وفي مقدمة سورة البقرة يأتي الكلام عن المنافقين ويبدأ بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ .... وآخر مجموعة في المقطع تأتي حديثا عن المشركين، وأولها قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ. فكان المقطع السادس خاتمة قسم، ولكنه بمثابة المقدمة لقسم آخر. ولذلك- وكما تتعانق المعاني بين القسم الأول والثاني من سورة البقرة، فإن المعاني تتعانق بين المقطع السادس والأخير من القسم الأول، وبين المقطع الأول من القسم الثاني، ومن مظاهر هذا العناق أن المقطع السادس فيه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى .... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ .... وأن المقطع الأول من القسم الثاني فيه: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً .... إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. وقد آن الأوان لنقول كلمة عما مر معنا من سورة البقرة: جاءت مقدمة سورة البقرة لتبين أن هناك تقوى وضلالا، ثم جاء المقطع الأول مقطع الطريقين ليبين طريق التقوى؛ وطريق الكفر والنفاق. وأن طريق التقوى: هو العبادة والتوحيد والإيمان والعمل الصالح. وأن طريق الضلال: هو نقض الميثاق وقطع
ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض. وجاءت المقاطع الخمسة اللاحقة لتعمق هذا كله. فمن خلال مقطع آدم عليه السلام اتضحت أمور، ومن خلال مقطع بني إسرائيل اتضحت أمور، ومن خلال مقطع إبراهيم اتضحت أمور، ومن خلال مقطع القبلة اتضحت أمور، ومن خلال مقطع الذكر والصبر والشكر وترك الكفران اتضحت أمور. وكلها تعمق قضايا مرتبطة في المقطع الأول، وفي المقدمة، وتمهد لمرحلة قادمة نراها في القسم الثاني من أكل الحلال في الأرض إلى الحج. ولئن دل القسم الأول على الطريقين. فإن القسم الثاني في أغلبيته، سيكمل الدلالة على طريق المتقين. ولأمر ما، فإن المقطع الأول من القسم الثاني ينتهي بآية البر، التي هي تلخيص لكل ما سبقها في شأن التقوى- مما عمق السياق الطويل لسورة البقرة ليكون ذلك قبل جولة جديدة تتحدث عن القصاص كطريق للتقوى. وعن الصيام كطريق للتقوى. وإذا كانت مقدمة سورة البقرة واضحة الصلة مع الفاتحة من خلال كلمة الهداية: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. وإذا كان القسم الأول من سورة البقرة واضح الصلة بالفاتحة من خلال كلمة العبادة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. فإن القسم الثاني واضح الصلة بالفاتحة من خلال كلمة الشكر: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وهكذا يأتي سياق سورة البقرة مفصلا لشئون وردت في سورة الفاتحة. ومبينا، حكمة تسلسل ورود المعاني فى سورة الفاتحة على نظامها المعروف. ولعل ما ذكرناه في هذه الكلمة يصلح في الوقت نفسه تمهيدا للبدء في الكلام عن القسم الثاني من أقسام سورة البقرة فلننتقل إليه: مر معنا فيما مضى تفسير مقدمة سورة البقرة والقسم الأول منها، وقد رأينا أن المقدمة
تحدثت عن أصناف الناس فجعلتهم ثلاثة أصناف: متقين وكافرين ومنافقين، ثم جاء القسم الأول فدعا الناس إلى سلوك الطريق الذي يتحررون به من الكفر وانفاق، ويكونون به من المتقين فعم وخص في الدعوة، وكان المضمون الرئيسي الذي بينه القسم الأول: أن التوحيد والعبادة والإيمان والعمل الصالح هي الطريق إلى التقوى، وأن نقض العهد وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض هو الطريق إلى الكفر والنفاق، وأن بداية ذلك كله الكبر والحسد والمعصية، وأن أهل الكتاب الأول عليهم أن يعقلوا معاني كثيرة إذا أرادوا أن يحققوا تقواهم ويتحرروا من أمراضهم، وقد أرانا الله عزّ وجل في القسم الأول النموذج الكامل للتقي، وعرفنا على محل القبلة في الصلاة، وذلك في سياق الأمر بالعبادة التي هي طريق التقوى، وطالبنا بالاستعانة بالصبر والصلاة، ودلنا على معالم العبادة والتوحيد اللذين هما طريق التقوى، وكانت خاتمة القسم المجموعة التي أعلنت التوحيد وأدلته، واستحقاق أهل الشرك العقوبة، وبعد ذلك كله وغيره يأتي القسم الثاني من أقسام سورة البقرة، التي تتألف من: مقدمة وأقسام ثلاثة وخاتمة. وهذا أوان الكلام عن القسم الثاني، ونرجو من القارئ ألا ينفد صبره وهو يرانا نعيد الكرة مرة بعد مرة في توضيح قضية السياق فإن الأمر يحتاج لذلك.
القسم الثاني من أقسام سورة البقرة
القسم الثاني من أقسام سورة البقرة ويمتد من الآية (168 - 207)
بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثاني من أقسام سورة البقرة ويمتد من الآية (168 - 207) كلمة في هذا القسم: يبدأ هذا القسم بالآية (168). يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وينتهي بنهاية الآية (207): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. وكما أن القسم الأول في سورة البقرة بدئ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ... فإن هذا القسم بدئ بالنداء نفسه: يا أَيُّهَا النَّاسُ. وهما النداءان الوحيدان اللذان وردا بهذه الصيغة في سورة البقرة. وكما أن القسم الأول سبق بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ. فهذا القسم مسبوق بمجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ. وكما ختمت مقدمة سورة البقرة بفقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ...
وختم القسم الأول بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً .. فإن هذا القسم يختم بمجموعة تتحدث عن صنفين من الناس: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ .... وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. ولقد رأينا أن القسم الأول في مقاطعه قد عرض لمعان. وهاهنا نلاحظ أن تلك المقاطع قد وطأت للمعاني التي سترد معنا في القسم الثاني. حتى لنكاد نرى توطئة على تسلسل معين لمعان على نفس التسلسل نجدها في القسم الثاني: فمثلا نجد المقطع الأول في القسم الأول يختم بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... ويأتي بعده مقطع آدم. وفيه كلام عن طريق الشيطان. ويبدأ القسم الثاني بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وفي مقطع بني إسرائيل كلام عن كتمان ما أنزل الله، وعن البر. ويأتي في المقطع الأول من القسم الثاني كلام عن الكتمان والبر. وفي مقطع بني إسرائيل كلام عن قتل ظالم. ويأتي في القسم الثاني بعد آية البر كلام عن القصاص. وفي مقطع بني إسرائيل أشياء أخرى سنرى صلتها بأشياء في القسم الثاني. ثم في القسم الأول مقطع إبراهيم، وفيه كلام عن المناسك. وفي أواخر القسم الثاني كلام عن الحج والعمرة. وفي موضوع توطئة القسم الأول لمعاني القسم الثاني سنجد تفصيلات أثناء عرضه. ونكتفي هنا بهذه الإشارة. ولقد دلنا القسم الأول على الطريق إلى التقوى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وسنرى أن القسم الثاني يكمل الدلالة على التقوى، ويفصل فيما يدخل فيها. ويبين لنا تفصيلات في طريق إقامتها والوصول إليها: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ .... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ .... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
وجاءت في هذا القسم آية البر، وفيها تعريف مفصل للمتقين. ولذلك ختمت بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. ثم جاء بعدها آيات القصاص كطريق مساعد لإقامة التقوى في المجتمع. ثم جاءت آيات الوصية لتدل على حق على المتقين. ولذلك ختمت بقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. ثم جاءت آيات الصيام لتدل على طريقين للتقوى. ثم تأتي آية فيها المنع عن الرشوة، وذلك من التقوى. ثم تأتي آية السؤال عن الأهلة، ودخول البيوت من غير أبوابها؛ وفيها: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى .. وَاتَّقُوا اللَّهَ ... ثم آيات في القتال والإنفاق وفيها: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ثم تأتي آيات في الحج والعمرة وفيها: وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ. وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ. ثم تأتي مجموعة الختام وفيها: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. إن القسم الثاني يكمل القسم الأول. ويكمل مقدمة سورة البقرة في الدلالة على التقوى أركانا وطريقا واستقامة. ومن خلال القسم الأول والثاني، نعرف محل أركان الإسلام الخمسة في قضية التقوى. فالملاحظ أن مقدمة سورة البقرة ذكرت من أركان الإسلام: الإيمان والصلاة والإنفاق. أي الشهادتين والصلاة والزكاة. وذكر القسم الثاني من أركان الإسلام: الصوم والحج. وكان الحج آخر ما ذكر في القسم الثاني من الأركان وبعد ذلك يأتي القسم الثالث الذي يأمر بالدخول في الإسلام كله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وفي ذلك كله مظهر من مظاهر وحدة السورة وتكامل معانيها، وارتباط بعضها ببعض. ومظاهر الإعجاز في ذلك لا تخفى. والملاحظ أن بداية القسم الأول كان فيها أمر ونهي: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. وأن بداية القسم الثاني فيها أمر ونهي: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ومن ورود كلمة: يا أَيُّهَا النَّاسُ* مرتين فقط في سورة البقرة: ندرك أن الإسلام يخاطب الناس كل الناس بأوليات محددة. حتى إذا استجابوا خوطبوا بتفصيلات أخرى. من هذه الأوليات: العبادة، والتوحيد، وأكل الحلال، وعدم اتباع خطوات الشيطان وهذا
المقطع الأول في القسم الثاني
شئ نجد مظاهره في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثلا عند ما أرسل معاذا إلى اليمن، أمره أن يدعوهم إلى التوحيد. فإن استجابوا، فليأمرهم بالصلاة. فإن استجابوا، فليأمرهم بالزكاة. وهذه قضية ينبغي أن يفطن لها الدعاة. والملاحظ أن هذا القسم بدأ بقوله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً .... وانتهى بمجموعة فيها: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ... فقد وردت كلمة الْأَرْضِ في البداية والنهاية. وسنرى صلة ذلك بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. فالبشرية على هذه الأرض كافرة كلها إذا لم تدخل في الإسلام. وإذا دخلت في الإسلام، فما لم تخط الخطوة التالية في السير إلى التقوى والاستقامة. فإنها تكون مفرطة. وقد ختم القسم الثاني بمجموعة فيها حديث عن صنفين من الناس، وختم القسم الأول بحديث عن صنف من الناس، وختمت المقدمة بالحديث عن صنف من الناس، وكل ذلك باستعمال كلمتي: وَمِنَ النَّاسِ التي لا تأتي بعد ذلك في سورة البقرة مرة أخرى. وكأنه سبحانه وتعالى بذلك قد عرفنا أصناف الناس حقا وعدلا وحكما فصلا، ولنبدأ عرض مقاطع هذا القسم. المقطع الأول في القسم الثاني: يمتد هذا المقطع من الآية (168) إلى نهاية الآية (177) ويتألف من فقرتين وهذا هو: الفقرة الأولى [سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 173] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
الفقرة الثانية
الفقرة الثانية
كلمة في هذا المقطع وسياقه
كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - بدأ المقطع بالأمر بأكل الحلال وعدم اتباع خطوات الشيطان، ثم علل للنهي عن اتباع خطوات الشيطان، ثم عاب على من يتبع خطوات الآباء على ضلالهم وكفرهم، ثم مثل للكافرين فضرب لهم مثلا يعرف على حقيقة حالهم بما لا يصح معه اتباعهم. فاستقر بذلك أن الكتاب ينبغي أن يتبع، وأن الحلال الذي أحله الله هو الذي ينبغي أن يؤكل. وعندئذ يتوجه الخطاب إلى أهل الإيمان بأكل الطيبات والشكر، وبتبيان المحرمات من الأطعمة، وفي هذا السياق يذكر الله لنا نموذجين: نموذجا من الناس يكتم ما أنزل الله. ونموذجا استكمل صفات المتقين وخصائص التقوى. فكان مجئ ذكر هذين النموذجين هنا ارتقاء بالنفس إلى التسليم المطلق للحق وإعلانه والتحقق به. 2 - جاء هذا المقطع بداية للقسم الثاني. وسبق بخاتمة القسم الأول. وقد قلنا عن خاتمة القسم الأول إنها كالمقدمة للقسم الثاني فنلاحظ الآن ما يلي: سبق هذا المقطع بشكل مباشر بالآيات: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ... إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا .... لاحظ قوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إنه في هذا السياق يأتي المقطع وفي آيته الأولى نهي عن اتباع خطوات الشيطان، وفي آيته الثالثة: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. فالصلة إذن على أشدها بين الآيات الأولى من المقطع وما سبقها مباشرة. وفي المقطع السابق على هذا المقطع ترد آية في موضوع كتمان الكتاب. وفي هذا المقطع ترد آيات في هذا الموضوع تفصل فيه. وفي المقطع السابق آيات الصبر. وتأتي في هذا المقطع آية البر التي فيها حديث عن الصبر: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فالصلة بين المقطع الأول من القسم الثاني والمقطع الأخير من القسم الأول واضحة جدا.
3 - وفي نظرة متأملة لسورة البقرة، نجد كأن هذا المقطع يبني على المقاطع الثلاثة الأولى في القسم الأول، وعلى مقدمة سورة البقرة. وكأن ما جاء قبله بعد ذلك في السورة اقتضاه السياق، ثم عاد السياق مرة ثانية إلى مجرى معين. ولإدراك هذا المعنى نقول: أ- بدأت سورة البقرة بوصف المتقين والكافرين والمنافقين. وجاء مقطعهما الأول ليعمق الإدراك للطريق: طريق التقوى، وطريق الكفر والنفاق. وسار القسم الأول في السورة في هذا المجرى. ومن خلال ذلك كله عرفنا خصائص التقوى وصفات تفصيلية أكثر للمتقين. ومن ثم تأتي آية البر في نهاية هذا المقطع لتعرف لنا المتقين تعريفا يلخص كل ما قدمه لنا السياق من تفصيلات توضح التعريف الذي مر معنا في أول السورة. ب- في المقطع الأول من القسم الأول ورد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ... ثم جاء مقطع آدم عليه السلام. وفيه عرفنا على عداء إبليس ومظاهر خطواته. وعرفنا كيف أن آدم عليه السلام حرم عليه شئ فخالف، فعوقب. ويأتي هذا المقطع وكأنه يبني على ذلك كله: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ .... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ .. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ .... وأوضح ما يظهر فيه البناء على المقطع الأول من القسم الأول: أن المقطع الأول من القسم الأول بدايته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... والآية التي سبقت آية التحريم هنا ختمت بقوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وبعد قصة آدم في القسم الأول يأتي مدخل مقطع بني إسرائيل وفيه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ* أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وقد جاءت الفقرة الثانية في هذا المقطع وفيها: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ....
تفسير الفقرة الأولى
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ .... فالفقرة تعرف البر، وتبين عقوبة الكتمان وبيع الآخرة بالدنيا. وبذلك فإن مقطع بني إسرائيل يكون قد غطي تغطية كاملة في السورة، وجاءت التغطية النهائية بآية البر، وبذلك أقفل الحوار مع بني إسرائيل. إذ كانت آية البر فيها إشارة إلى قضية القبلة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وهكذا نجد أن هذا المقطع قد بني على المقطع الأول والمقطع الثاني، وعلى مقطع بني إسرائيل خاصة. وفيه بناء قليل على ما جاء بعد ذلك. إنه من خلال هذه النظرة الشاملة إلى السورة، التي رأينا من خلالها نموذجا على ترابط معاني هذه السورة، نستطيع أن نسجل ملاحظة حول السياق القرآني. هذه الملاحظة هي: إنه بدون نظرة شاملة إلى الآيات في السورة وإلى مجموع القرآن، فإن الإنسان قد لا يفطن للصلات بين الآيات والسور. فكما أن الوحدة الكلية لهذا الكون تحتاج إلى نظرة شاملة حتى تدرك. فكذلك الوحدة القرآنية، والسياق القرآني. وهذا موضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا. يتألف المقطع من فقرتين: الفقرة الأولى موضوعها الرئيسي أكل الحلال. والفقرة الثانية موضوعها كتمان ما أنزل الله، وتعريف البر. وإنما جعلنا آيات الكتمان وآية البر فقرة واحدة للصلة التي رأيناها بين ما ورد هنا وبين مقطع بني إسرائيل، حيث اجتمع هناك الكلام عن الكتمان مع الكلام عن البر. ولملحظ كنا ذكرناه من قبل، وهو أنه بعد الكلام عن أكل الحلال وتبيان المحرمات من الأطعمة يذكر الله عزّ وجل نموذجين من الناس. وبالتالي فإن الكلام عن النموذجين يشكل كلا متكاملا ولذلك اعتبرنا الحديث عنهما فقرة واحدة. تفسير الفقرة الأولى: يقول صاحب الظلال: «لما بين الله- سبحانه- أنه الإله الواحد، وأنه الخالق الواحد- في الفقرات
[سورة البقرة (2): آية 169]
السابقة- وأن الذين يتخذون من دون الله أندادا سينالهم ما ينالهم .. شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام .. وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا. فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع، فتحرم وتحلل. وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك ... ». (وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض- إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصا- يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون، وفطرة الناس. فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالا، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتداء والقصد. ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق .. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق. لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة. لا يأمرهم إلا بالسوء والفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والافتراء عليه، دون تثبت ولا يقين). يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً: الأمر هنا للإباحة، والحلال الطيب هو الطاهر من كل شبهة. ولم يحرم الله علينا إلا ما كان ضارا بالأبدان أو العقول أو الأنفس أو بها كلها، ومن ثم فالحلال وحده هو المستطاب. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: طرقه التي يدعوكم إليها. يقال: اتبع خطواته، إذا اقتدى به، واستن بسنته. وخطوات تزيين الحرام واتباع الشهوات ... إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. أي ظاهر العداوة. لا خفاء في عداوته. ولكن الأمر ملبس على أولياء الشيطان، فإنه يريهم في الظاهر الموالاة، ويزين لهم أعمالهم، فيأتيهم من حيث يشتهون، وإنما يريد بذلك هلاكهم في الباطن. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ أي بالقبيح، أو ما لا حد فيه من الذنوب وَالْفَحْشاءِ أي ما يتجاوز الحد في القبح من العظائم، أو ما فيه حد من الذنوب. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ هو قولهم: هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه. فصار المعنى العام: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وبما هو أغلظ منها: الفاحشة، كالزنا ونحوه. وبما هو أغلظ من ذلك، وهو: القول على الله بلا علم. فيدخل في هذا كل كفر وكل ابتداع. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ: الضمير للناس، والمقصود به بعضهم من أهل الكفر والشرك والنفاق. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أي
[سورة البقرة (2): آية 171]
ما وجدنا عليه آباءنا. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الذين يتبعونهم ويقتدون بهم ويقتفون أثرهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أي ليس لهم فهم وَلا يَهْتَدُونَ أي ليس لهم هداية إلى صواب. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي: يصيح بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً هي الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها. بل إذا نعق بها راعيها؛ أي دعاها، لا تفقه ما يقول، ولا تفهم محتواه، بل إنما تسمع صوته فقط: والنداء ما يسمع. والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع. شبه الكافرين بالبهائم من حيث إن الكافر إذا دعي للإيمان لا يسمع من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار. وكذلك الحيوانات لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه. ولا تفقه شيئا آخر صُمٌّ عن سماع الحق بُكْمٌ لا يتفوهون به عُمْيٌ عن رؤية طرقه ومسالكه فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يفهمون موعظة فيعقلونها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من مستلذاته المشروعة، أو حلالاته وَاشْكُرُوا لِلَّهِ الذي رزقكموها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن صح إنكم تختصونه بالعبادة، وتقرون أنه معطي النعم. ثم بين المحرم فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وهي كل ما فارق الروح من غير ذكاة شرعية مما يذبح. وقد خصصت الأحاديث من ذلك: السمك والجراد. وَالدَّمَ يعني السائل لقوله تعالى في موضع آخر: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً (سورة الأنعام) وخصصت الأحاديث من الدم: الكبد والطحال. واستثنى الفقهاء ما يبقى في العروق بعد الذبح للضرورة. وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ يعني الخنزير بجميع أجزائه، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل، ولأن الشحم وغيره يدخل مع اللحم تغليبا. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أصل الإهلال رفع الصوت، والمراد به هنا ما ذبح على غير اسم الله، أي رفع به الصوت للأصنام وغيرها من الآلهة المزعومة أو الأشياء المعظمة. فَمَنِ اضْطُرَّ أي فمن ألجئ فأكل غَيْرَ باغٍ أي غير ظالم بأن لم يأكل للذة وشهوة وَلا عادٍ: أي غير متعد مقدار الحاجة: أي غير متجاوز الحد المباح له، وهو قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع، لأن الإباحة للاضطرار. فتقدر بمقدار ما تندفع به الضرورة. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي في الأكل. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب الكبائر، فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار رَحِيمٌ ومن رحمته أنه رخص. فوائد: 1 - عند قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً يقول الألوسي: (والأمر
للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية. وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف. وللإباحة فيما عدا ذلك). قال القرطبي: (وسمي الحلال حلالا، لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم). وقال أبو عبد الله الساجي- واسمه سعيد بن يزيد-: (خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عزّ وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال. فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا، والحرام، والسحت، والغلول، والمكروه، والشبهة). 2 - ذكرنا في المثل الذي ضربه الله للكافرين الاتجاه الذي يقول: إن المراد به أن هؤلاء الكافرين إذا دعوا إلى الحق لا يفهمون ولا يستجيبون، لأنهم كالأنعام لا تسمع إلا صيحة الراعي، ولا تفهم معناها. وهناك اتجاه آخر في تفسير المثل نقل فيه القرطبي من جملة ما نقل كلام ابن زيد في شرحه فقال: (وقال ابن زيد: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل. فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع). 3 - إنما: في اللغة العربية تفيد الحصر. فعند ما ذكر الله عزّ وجل المحرمات الثلاثة: الميتة والخنزير وما أهل به لغير الله بعد (إنما) فهم بعضهم من ذلك أن المحرمات من المأكولات هذه الثلاثة حصرا، وقد ناقش بعضهم في الحصر وهو موضوع سيأتي فيما بعد. وإنما ذكرنا هذا هنا للإشارة إلى أن الأمر محل بحث عند العلماء. 4 - ذكرنا أثناء التفسير أن معنى قوله تعالى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما ذبح على غير اسم الله، وعلى هذا الاتجاه فإن ما ذبح على اسم المسيح مثلا، لا يجوز أكله ولو كان الذابح نصرانيا. وهناك اتجاه في تفسير الآية أن المراد بها ما ذبح لغير الله، من صنم وغيره. ويبنون على ذلك أن ما ذبح على غير اسم الله إذا كان ذابحه نصرانيا يجوز أكله. من هؤلاء: عطاء ومكحول، والشعبي، والحسن، وسعيد بن المسيب. قال الألوسي عن هؤلاء: (وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح) (وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم). أقول: هذا إذا تأكدنا أن الذابح ذكر اسم المسيح، وعلى كل الأحوال فالأمر ليس محل اتفاق كما رأينا.
5 - في قصة آدم رأينا أن الخطوة الأولى للشيطان كانت معصية الأمر في السجود لآدم وكان سبب ذلك: الكبر. ورأينا أن أبانا آدم نهي عن أكل الشجرة، فأكل هو وزوجته عليهما السلام، فعوقبا. وكان ما وقعا فيه أثرا عن وسوسة الشيطان. فخطوات الشيطان مخالفة للأمر، أو دعوة لمخالفة نهى. وبداية البدايات في اتباع خطوات الشيطان هي: الكبر. والكبر فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه «غمط الناس وبطر الحق». ومجئ ذكر المحرمات من الأطعمة في سياق النهي عن اتباع خطوات الشيطان فيه تذكير لنا بألا نقع في مخالفة النهي. فإن أبانا آدم قد عوقب على ذلك. 6 - في غير شريعتنا عوقبت بعض الأمم بتحريم بعض الطيبات عليها. قال تعالى (في سورة النساء): فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أما في شريعتنا فقد أحلت لنا الطيبات كلها. قال تعالى عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فى سورة الأعراف: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ومن هنا ندرك أنه لم يحرم على هذه الأمة شئ إلا وهو من باب الخبائث التي تستقذرها النفس المستقيمة الفطرة. إنه كما أن البول والغائط نجسان ومستقذران وتستخبثهما كل نفس، فكذلك الخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح. ولو أن نفسا لم تستقذر البول والغائط وأقبلت عليهما في الأحوال العادية فإنها لا تدلل إلا على فساد فطرتها. فكذلك من يقبل على أكل الخنزير أو الدم المسفوح أو الميتة، إنما يدلل على فساد فطرته، فضلا عن مجاوزته حدود الله الذي له حق التحريم والتحليل، لأنه المالك. فإذا حرم مع كثرة العطاء، فما على الإنسان إلا أن يلتزم. 7 - الحكمة الأولى فى تحريم الدم المسفوح أو الميتة أو ما أهل به لغير الله. أو الخنزير هي النجاسة. أولا: فقد حكم الله على هذه الأشياء بالنجاسة. وأمر النجاسة والطهارة في الأصل أمر تعبدي. تعبدنا به الله خالقنا ورازقنا ومالك كل شئ. وما علينا إلا التسليم. - ولا مانع بعد التسليم أن يفتش الإنسان عن حكمة التحليل والتحريم. فإن فعل الله وتشريعه لا ينفكان عن الحكمة، فالله تعالى حكيم. وعلينا أن لا نفهم الحكمة على أنها الضرر الجسمي وحده. فإنه من حيث الظاهر لا فارق بين ذبيحة المجوسي أو الملحد، وبين ذبيحة المسلم، فالحكمة ينبغي أن ينظر إليها بمنظار أوسع. فمثلا: قد يكون السر في تحريم الخنزير أن من يأكله يصبح تركيبه النفسي غير مستقيم مع الفطرة. فمن
المعروف أن للتغذية تأثيرها على تركيب نفس الإنسان. فهذا دواء يجعل الإنسان مستريح الأعصاب. وهذا دواء يجعل عند الإنسان استعدادا للغضب، ومن المشهور أن أكل لحم الخنزير يوجد عند صاحبه بلادة في شأن العرض، ولذلك فإن البلدان التي يكثر أهلها من أكل لحم الخنزير لا تهتم كثيرا بقضية الأعراض. - إن تحريم بعض الأمور قد تكون الحكمة فيه إبقاء التركيب الفطري للإنسان على سلامته. إن الحيوان يشترك مع الإنسان في أن له حياة، فلماذا يزهق الإنسان روح الحيوان؟. إن الله الذي خلق الحياة أجاز للإنسان أن يذبح بعض الحيوانات وأن يأكلها. وشرط لذلك شروطا. من جملتها أن يكون الذبح على اسمه، وأن يكون الذابح ذا اعتقاد خاص. وأن يكون الذبح على طريقة معينة. فإذا لم تتوفر مثل هذه الشروط فإن الله الذي خلق الحياة لا يبيح لك أن تأكل، فإذا أكلت أكلت بدون إذن صاحب الحق. وتأثير ذلك على التركيب النفسي للإنسان واضح. وإذن فمن خلال نظرة شاملة يتم البحث عن الحكمة. فقد تكون حكمة التحريم الضرر الجسمي فقط كتحريم السم الضار، وقد تكون حكمة التحريم الضرر الجسمي والعقلي والنفسي، كما هو الشأن في الخمر، فعلينا أن نتنبه لذلك. - في موضوع الميتة والدم واضح أن هناك ضررا جسميا زيادة على أنهما نجسان ومستقذران لدى النفس المستقيمة، وفي موضوع الخنزير: تذكر الدودة الشريطية. وهي تختلف عن الدودة نفسها في البقر بأكثر من عشرة فروق تجعلها أكثر خطرا، وتذكر أنواع من الديدان أخرى تسبب إصابات للإنسان كنت ذكرتها في الفصل الرابع من كتاب (الإسلام)، ولكن السر في التحريم أوسع من مثل هذا. إنه يكمن في نجاسة الخنزير، وقذارته. ويكمن في تأثيرات لحمه على التركيب الكلي للإنسان. وللبحث تتمة. وإن الإنسان لا زال يكتشف. وفي كل ما كشفه الإنسان حجة لهذا الإسلام. 8 - يجئ قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ... بعد قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بيانا لوجوب الانتهاء عن اتباعه، ولظهور عدواته. فكأنه تعالى قال: لا تتبعوا خطوات الشيطان لأنه يأمركم بالسوء والفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. قال قتادة والسدي في قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ: (كل
معصية لله فهي من خطوات الشيطان). وقال عكرمة: (هي نزعات الشيطان). وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال .. وإني خلقت عبادي حنفاء. فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم). دل الحديث على أن من مظاهر الضلال الكبيرة؛ تحريم الحلال وتحليل الحرام. وذلك كفر وهو من خطوات الشيطان وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً. فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: يا سعد. أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه أربعين يوما. وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به). - قال الشعبي: (نذر رجل أن ينحر ابنه. فأفتاه مسروق بذبح كبش وقال: هذا- أي نذره- من خطوات الشيطان). - (وأتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح. فجعل يأكل. فاعتزل رجل من القوم. فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال أصائم أنت؟ قال: لا، قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان. فأطعم وكفر عن يمينك). وعن أبي رافع قال: (غضبت يوما علي امرأتي. فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك، فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان). (وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة. وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة. وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك). وعن ابن عباس قال: (ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين). 9 - العقلية المؤمنة عقلية متبعة للهدي المنزل، أما العقلية الكافرة فعقلية مقلدة. العقلية المؤمنة تزن الرجال بالحق. والعقلية الكافرة تزن ما تؤمن به بالرجال ولو كانوا على غير علم وعقل وفهم. فشتان بين العقليتين. 10 - روى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحل
لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال». 11 - سئل الحسن البصري عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت جزورا. فقال: (لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم). أورد القرطبي عن عائشة: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين؟ فقالت: (ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه وكلوا من أشجارهم). 12 - ذكر ابن كثير مسألة قال: (إذا وجد المضطر ميتة، وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف، وإذا أكله، والحالة هذه- هل يضمنه أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك). 13 - عن مسروق أنه قال: (من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار). وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة كالإفطار للمريض. 14 - قال الحنفية: يرخص شرب الخمر للعطشان، وأكل الميتة في الجماعة إذا تحقق الهلاك. 15 - قال الحنفية: ويحرم الذبح لمخلوق ولو ذكر اسم الله تعالى، لأنه أهل به لغير الله تعالى، أما لو نوى إكرامه فإنه يحل، ويظهر ذلك فيما لو ضافه أمير مثلا فذبح عند قدومه شاة فإن قصد التعظيم فلا تحل- وإن أضافه بها. وإن قصد الإكرام فتحل. اه. (الهداية العلائية 326). 16 - قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. دلت هذه الآية على أن أكل الحلال وشكر الله أثر من آثار العبادة. ومن هنا نعلم لماذا تأخر هذا الأمر في السورة هذا التأخر، ولماذا استغرق موضوع تعميق معنى العبادة القسم الأول كله. فإذا عرفنا أن الله لا يقبل العبادة إذا لم يرافقها أكل جلال، أدركنا الارتباط الكامل بين ما وصلنا إليه وبين ما سبق. والدليل على ارتباط قبول العبادة بأكل الحلال؛ الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ .. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب
فصول شتى
يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك».؟ فإذا تذكرنا أن الدعاء مخ العبادة. وتذكرنا الحديث الذي ذكرناه قريبا أنه لا يقبل العمل أربعين يوما بسبب لقمة حرام، أدركنا الصلة بين العبادة وأكل الحلال. وإنما ذكرنا هذا الموضوع مع الفوائد مع أن له صلة بالسياق من أجل الفائدة التي تضمنها الحديث فصول شتى: فصل في التقليد: يثار بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا موضوع التقليد للغير بدون معرفة دليله. هل يجوز ذلك أو لا يجوز؟. وهذه نقول توضح حدود هذه المسألة: عند قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يقول الألوسي: (وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا؛ لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا. ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص، فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟. وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع. وكل حكم يجب العمل به قطعا علم بأنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا. فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا. وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله، ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما، وانقلب الظن علما. فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شئ). وقال القرطبي بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ... (تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية، وهذا في الباطل صحيح. أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي. وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح). ثم بعد كلام قال القرطبي:
فصل: في نقول لها صلة بآية المحرمات من الأطعمة
(فرض على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته، فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه، أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه. لقوله تعالى فى سورة النحل: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من أكثر الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، أو أراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره. وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين). أقول: هذا في التقليد في الفروع. أما في الأصول فقد قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وقد نازعه في ادعاء الإجماع علماء، خاصة إذا كان التقليد للمعصوم أو كان التقليد في حق، وكان صاحبه جازما به. حتى لو رجع الأول لبقي الثاني متمسكا بالحق. ولكن حتى من نازعوا في الإجماع فإنهم لا يخالفون في أنه: من يستطيع أن ينظر في الدليل المؤدي للأصل ثم لا ينظر فإنه آثم. فالإجماع منعقد على إثم المقلد في الأصول إذا كان قادرا على النظر، ومع حملة الشيخ القرطبي على أنواع من المتكلمين فإنه يختم كلامه بالدفاع عن المتكلمين الذين يدرسون ما يستطيعون به أن يقيموا الحجة على أعداء الله من خلال اللغة التي يفهمونها فيقول: (ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين؟!. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم. وأما المخاصمة والجدل بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن). وقد قال الألوسي في قضية التقليد: (وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد التعلم بدليل فإنه محض اتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى، وليس من التقليد المذموم في شئ، وقد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ سورة الأنبياء. فصل: في نقول لها صلة بآية المحرمات من الأطعمة:
فصل في الاضطرار المبيح
قال القرطبي: (واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات؟ واختلف عن مالك في ذلك أيضا .. ). (فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه) أقول: لا يجيز فقهاء الحنفية أكل الجنين إلا إذا خرج حيا وذبح ذبحا شرعيا) (واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة، هل يطهر بالدباغ أم لا؟ فروي عنه أنه لا يطهر وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر لقوله عليه الصلاة والسلام (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر. اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويزمنداد: (وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه ... «وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره». لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة والإصر والمشقة في الدين موضوع). (ولا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر. فإنه يجوز الخزازة به). أقول لأنه لا ينوب غيره منابه. فإباحة استعماله ضرورة للخرازين. (ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره، والوثني لوثنه لا يؤكل ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما؛ وإن لم يذبحا لناره ووثنه كذلك وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبحا لمسلم بأمره). أقول: بعض الفقهاء يعتبرون فعل المأمور بأمر الآمر فعلا للآمر ومن ثم أجازوا أن يستلم وزارة التنفيذ ذمي. لأن أمره على المسلم هو أمر الخليفة وليس أمرا له على الحقيقة. فصل في الاضطرار المبيح: قال القرطبي: (الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم، أو بجوع في مخمصة، والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث، (وهو الجوع) إلى ذلك؛ وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه
المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه. كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير، وغيره من معصية الله تعالى. ألا إن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه). (وأما المخصمة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة (¬1) الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه). وذلك لأن حفظ مهجة المسلم واجب إسلامي عام يلزم من استطاعه:- قال القرطبي: (قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره، قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية. وكان الممنوع منه له في ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا، أو جماعة، أو عددا، كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشئ على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون. وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشئ اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه، وفيه البلغة). (وإن كان الثاني- أي المخمصة العارضة- وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما- أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها، قال معناه مالك في موطئه وبه قال الشافعي وكثير من العلماء). (وقالت طائفة: يأكل بقدر سد الرمق، وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب. وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر، فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود، فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها). (فإن اضطر إلى خمر، فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف. وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية. قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا، وهو قول ¬
كلمة في الفقرة
الشافعي: فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن الله تعالى قال في الخنزير فَإِنَّهُ رِجْسٌ ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها رِجْسٌ فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة. وترد الجوع ولو مدة). (فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا؟. فقيل: لا، مخافة أن يدعى ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة) قال ابن العربي: (أما الغاص بلقمة، فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا يخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها؛ فيصدق إذا ظن ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا). (سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما؟. فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله؟ يأكل من أي ذلك وجد، ما يرد جوعه، ولا يحمل منه شيئا؛ وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة). (قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا. وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقا بالسفر. بل هو من نتائج الضرورة، سفرا كان أو حضرا). أقول: وفي هذا الأخير خلاف. فمن الفقهاء من لم يعتبر أن سفر المعصية يصلح رخصة للمضطر قبل توبته. كلمة في الفقرة: 1 - جاءت هذه الفقرة بعد آيات عن الشرك والمشركين، وعن اتباع القادة بالباطل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً .... إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا. وجاءت هذه الآيات وفيها مناقشة للمتبعين غيرهم على الباطل. وفيها دعوة إلى أكل الحلال وترك اتباع خطوات الشيطان. وفيها تبيان للمحرمات من الأطعمة. ومجئ هذا بعد الكلام عن الشرك يشعر بأن ذلك كله: من استحلال أكل الحرام، واتباع خطوات الشيطان، ومتابعة الآباء في الباطل، من
تفسير الفقرة الثانية
مظاهر الشرك. 2 - ابتدأت الفقرة بدعوة الناس جميعا إلى الحلال وترك اتباع خطوات الشيطان. وإذ كانت هناك أفكار متراكمة خلال العصور حول موضوع الحلال، فقد ناقشت الفقرة اتباع الآباء على عمى. ثم بينت حال الكافرين أصلا، الذين يتابعون على الباطل: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وإذ كان المستجيبون لدعوة القرآن هم الذين يستفيدون من الخطاب، توجه الخطاب إلى أهل الإيمان للأكل من الطيبات، ثم طولبوا بالشكر على ذلك، ثم بينت لهم المحرمات ليجتنبوها فلا يتابعون خطوات الشيطان إذ أمر فرفض الأمر. 3 - يأتي بعد هذه الفقرة مباشرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ .... وتباشر هذه الآية آية المحرمات من الأطعمة. والحالات الاستثنائية في ذلك. وفيه ما يشعرنا بأهمية البيان في هذه الشئون فلننتقل إلى الفقرة الثانية في المقطع: تفسير الفقرة الثانية: مقدمة: تتألف هذه الفقرة من آيات الكتمان وآية البر. فلتكن هذه المقدمة حديثا عن كل من هذه وهذه، لنعرض بعد ذلك تفسير الفقرة عرضا واحدا. 1 - قبل ثلاث عشرة آية من آيات الكتمان هنا جاءت آيتان في الموضوع نفسه؛ هناك تذكر الآيتان أن في هذا الكتاب معجزات وهدى، ومن كتم هذه المعجزات والهدى استحق اللعنة، إلا إذا تاب وأصلح وبين. أما هذه الآيات فإنها تذكر أن من كتم الكتاب واشترى به ثمنا قليلا فجزاؤه النار، والبعد والإبعاد والذم. ومن عقوبتهم الدنيوية الشقاق والاختلاف، فالآيات هنا فيها زيادات وتوكيد وتلك من حكمة التكرار، ويمكن أن نفهم من خلال أسلوب القرآن أن ما بين آيتي الكتمان هناك وآيات الكتمان هنا معان يمكن أن يقع فيها الكتمان. ومجمل هذه المعاني التي وقعت بين النصين: الكفر والتوحيد، والعلم الكوني الذي يخدم العقيدة، وقضايا الشرك، والاتباع على باطل وبباطل، وموضوع الحلال والحرام. وتتبع الآن مواضع الفتنة في الفتوى والتأليف. فإنك تجد أن هذه أمهاتها خذ مثلا قضية الاتباع على الباطل. كم من العلماء يجرؤ أن يضع النقاط على الحروف
فيها؟ وما أضر بقلب الإنسان المعاصر شئ كالتأليف المجرد عن الإيمان في العلوم الكونية .. !! (وقد ذهب بعض المفسرين أن آيات الكتمان الأولى فيها خطاب لأمتنا، وأن هذه الآيات خطاب لبني إسرائيل أخذا من أن الخطاب في أول آية البر متوجه لبني إسرائيل، والخطاب عام في كلتا الآيتين. ويدخل فيه الجميع. ولعل الكاتمين من هذه الأمة أكثر إثما، لأن حجة قرآننا علينا، وعلى الناس أظهر.) وقد جاءت آية الكتمان في هذا المقطع بعد الفقرة الأولى التي تحدثت عن أكل الحلال، وعدم اتباع خطوات الشيطان، ووجوب اتباع ما أنزل الله؛ والتحذير عن متابعة الآباء؛ فضلا عن غيرهم، ثم تبيان حقيقة الكفر، والأمر بأكل الطيبات والشكر، وبيان المحرمات؛ وهذه كلها يجتمع فيها شيئان: أن لها تفصيلات دقيقة. وأنه يقع فيها تهيب. ومهمة العلماء أن يفصلوا، وألا يتهيبوا بأن يبينوا. وعلماء بني إسرائيل هم الشهود الكاتمون. فناسب أن يذكر هنا خطر الكتمان، خاصة والسياق قارب أن يغلق الحوار معهم في هذه السورة فاستوعبت آيات الكتمان الحديث عن كتمان أهل الكتاب، وكتمان أهل القرآن. وبعد آيات الكتمان جاءت آية البر. 2 - فكانت تلخيصا لكل ما مر مما له علاقة في قضية التقوى ليكون ذلك كالمقدمة لكلام جديد تذكر فيه طرائق جديدة لتحقيق التقوى في نفس الإنسان أو في المجتمع الإنساني. إن آية البر تلخيص لما مر معنا في شأن التقوى، وهي في الوقت نفسه تفصيل لبعض ما مر، لقد تحددت معنا فيما مضى قضية التقوى، والطريق إليها، وما يتنافى معها، وما يساعد عليها. فالتقوى إيمان بغيب وصلاة وإنفاق واتباع كتاب. والطريق إليها العبادة. ومما ينافيها نقض العهود: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... ومما يساعد عليها الصبر والصلاة. وجماع ذلك طاعة الله دون قيد أو شرط في أي شئ؛ في القبلة وغيرها. وإنك لترى مجموع هذه المعاني في هذه الآية. فمن أخذها وفهمها وعمل بها فكأنه أخذ بالأمر كله. وهذا معنى قولنا إنها تلخيص لما مر. وأما أنها توضيح لبعض ما مر فذلك لأنه مر معنا الإيمان مجملا: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ومر معنا الإنفاق مجملا: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ومر معنا الصبر مجملا: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ* فجاءت هذه الآية لتوضح المجمل فتذكر في تفصيل الإيمان: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
1 - آيات الكتمان
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. وتذكر محال الصدقات: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ. وتذكر مواطن الصبر: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. فكانت هذه الآية تلخيصا لما مر في شأن التقوى. وتوضيحا لبعض ما مر لينطلق السياق- كما قلنا- موضحا طرائق أخرى للتقوى، ومبينا حقائق أخرى تدخل في التقوى. ولنبدأ عرض تفسير الفقرة مع ذكر شئ من الفوائد ولنا عودة على السياق: 1 - آيات الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ: المراد به إما كل كتاب لله، أو التوراة أو القرآن، والأرجح الأول. وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: الثمن القليل هو الدنيا كلها إذا قيست بقيمة الحق أو بالآخرة. فصار المعنى: ويشترون بهذا الكتمان، الدنيا أو جزءا منها. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كلاما يسرهم ولكن بنحو قوله تعالى في سورة (المؤمنون): اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. وَلا يُزَكِّيهِمْ: أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم، أو لا يثني عليهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي شديد مؤلم وذلك لأنهم كتموا، وقد علموا فاستحقوا الغضب. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي: اعتاضوا عن الهدى بالضلالة بهذا الكتمان فأصبحوا ضلالا. وكان بوسعهم أن يكونوا مهتدين. وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب بتعاطيهم أسباب العذاب. وكان بوسعهم أن يتعاطوا أسباب المغفرة بإظهار الحق عملا وسلوكا. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل. يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك. أو المعنى: فأي شئ أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار. وعلى هذا، فالاستفهام توبيخي. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل. وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره. فخالفوه وكذبوه. فأي شهود هؤلاء؟. وأي شهادة ضيعوها؟. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فقالوا في بعض كتب الله إنها حق، وفي بعضها إنها باطل. أو
فوائد
قالوا عن بعض الكتاب إنه حق وعن بعضه إنه باطل. أو اختلفوا في فهمه، فكتموا الفهم الصحيح حسدا وبغيا. وأظهروا الفهوم الباطلة، جزاء هؤلاء لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ: أي لفي اختلاف بعيد عن الحق والهدى. فوائد: 1 - لقد اختلفت أمتنا اليوم في الكتاب: فمن كافر به، ومن مؤمن ببعضه وكافر ببعض سلوكا وعملا إن لم يكن اعتقادا. فكان من آثار ذلك ما نراه مما أخبر عنه القرآن من الشقاق البعيد المتمثل في الحروب الداخلية والفتن والاختلافات في الآراء والأهواء. نسأل الله عزّ وجل أن نكون من الفئة الظاهرة على الحق الناجية التي لا يضرها من خذلها أو خالفها. 2 - عند ما نظهر الحق قد نخسر في الظاهر قليلا، والدنيا كلها قليل. ولكن هذه الخسارة الظاهرة ربح في الدنيا والآخرة. فهؤلاء اليهود في عصر النبوة أول من تنطبق عليهم الآيات وأول من انطبقت عليهم. كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم. فخشوا- لعنهم الله- إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير. فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعل معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات. فصدقه الذين كانوا يخافون عليهم أن يتبعوه، وصاروا عونا له على قتالهم وباءوا بغضب على غضب، وفي الآخرة رأينا ما هو عذابهم بما خالفوا هذا الرسول الخاتم وكذبوه، وجحدوا وكتموا صفته. 3 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة حديثا يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا آخرين يستحقون عذاب هؤلاء الكاتمين. يقول عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر». وفي الصحيح حديث يذكر كذلك عذاب نوع من الناس يشبه عذاب هؤلاء
2 - آية البر
الكاتمين هو «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». 4 - يلاحظ أن الكلام في آية الكتمان الأولى قد انصب على كتمان البينات والهدى في الكتاب. وفي آية الكتمان الثانية انصب على كتمان كتاب كله. نفهم من ذلك أن نشر المعجزات الموجودة في الكتاب مقصد من مقاصد الشارع. كما أن نشر الهدى الموجود في الكتاب وهو أحكام الله في كل شأن مقصد آخر من مقاصد الشارع. وكما أن كتمان حكم الله حرام، فكتمان المعجزات والدلائل حرام. ويدخل في ذلك الكثير. ففي هذا القرآن معجزات يعرفها علماء الفلك، أو علماء الحياة. فمن كتم حيث ينبغي أن يوضح فذلك يدخله في هذا الوعيد. وفي هذا القرآن هدى لكل جوانب الحياة الإنسانية. في السياسة بفروعها جميعا من الولاء، إلى التجمع، إلى مواضيع الأمة والقوم والإنسانية، إلى قضايا الشورى، إلى قضايا الرئاسة المتمثلة بالخلافة إلى غير ذلك وفى الاقتصاد من التملك إلى غيره. وفي السلم والحرب. من الجهاد إلى الإعداد. وفي الاجتماع من قضايا الأسرة إلى غيرها. وفي الأخلاق والتعليم وغير ذلك. وقد دأب الكثير على المخاتلة وعدم البيان مراعاة للسلطان وغيره، رغبة في الجاه أو رهبة من موقف الحق. وكل ذلك داخل في الوعيد، إلا إذا كان للإنسان رخصة شرعية فذلك مستثنى. وللخروج من الكتمان لا بد من إشاعة حلقات العلم والفقه والتلاوة والتفسير وغيرها. 2 - آية البر: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ: لما أمر الله المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة. كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في هذا الأمر. فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو: أن المراد إنما هو طاعة الله عزّ وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع. فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه. وَلكِنَّ الْبِرَّ هو ما سيأتي في الآية. «قال الثوري بعد ما تلا الآية: هذه أنواع البر كلها» قال ابن كثير- وصدق رحمه الله-: فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله. وذلك أن البر اسم لكل فعل مرضي، ولا بر إلا بما ذكر الله عزّ وجل في هذه الآية مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ بوجوده، وصفاته، وأسمائه، وتوحيده، وربوبيته، وألوهيته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي يوم البعث. وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ أي: جنس الملائكة، وجنس كتب الله أو القرآن، وَالنَّبِيِّينَ جميعا بلا استثناء. فهذا أول البر وأساسه. وبدونه لا يكون بر. إذ من لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن البر لا يصدر منه وإذا صدر فإنه لا يكون دائما. ويكون معلولا بعلة ينتهي البر بانتهائها. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي: أخرجه وهو محب له راغب فيه. ذَوِي الْقُرْبى أي: الأقرباء. وَالْيَتامى: هم الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب. وَالْمَساكِينَ: هم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسد به حاجاتهم وخلتهم. وإنما سمي مسكينا لأنه دائم السكون إلى الناس، لأنه لا شئ له. وَابْنَ السَّبِيلِ. وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته. قال ابن كثير: (وكذا الذي يريد سفرا في طاعة. فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه. ويدخل في ذلك الضيف) ثم روي عن ابن عباس أنه قال: (ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين). وَالسَّائِلِينَ: هم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات. أو هم المستطعمون. وَفِي الرِّقابِ هم المكاتبون. يعانون حتى يفكوا رقابهم. أو هم الأسارى. يعانون لفك رقابهم أو الرقيق مطلقا يعتق ويحرر وَأَقامَ الصَّلاةَ المكتوبة فأتم أفعالها في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي. وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا الله أو الناس فهم لا ينكثون مع الله أو مع الناس. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ: في حال الفقر والشدة وَالضَّرَّاءِ أي: في حال المرض والأسقام والزمانة. وَحِينَ الْبَأْسِ: أي في حال القتال والتقاء الأعداء. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم. لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال. فهؤلاء هم الذين صدقوا. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لأنهم حققوا التقوى حالا وعملا وسلوكا، فاتقوا المحارم، وفعلوا الطاعات. إن هذا هو البر، لا ما يتمسك به أهل الأديان من عصبيات نسخها الله، أو لم ينزل بها سلطانا في الأصل.
فوائد
فوائد: 1 - تبين من الآية أن البر: 1 - إيمان 2 - وإنفاق مما يحب 3 - وإقام صلاة 4 - وإيتاء زكاة 5 - ووفاء عهد 6 - وصبر على كل حال وفي كل حال. فمن اجتمعت له هذه الأمور فقد حصل البر والصدق والتقوى والإيمان. ومن أخل بشيء من هذا فهو إخلال بالبر والتقوى والصدق والإيمان. 2 - روى مجاهد عن أبي ذر- مع أنه لم يدركه فالحديث منقطع- (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟. فتلا عليه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ .. الآية. قال: ثم سأله أيضا. فتلاها عليه. ثم سأله؟ فقال: إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك). فالآية إذن ميزان للإيمان، كما أنها ميزان للبر والتقوى والصدق. وأعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ميزانا دقيقا نعرف به إيمان قلوبنا من خلال محبتنا للطاعة، وكراهيتنا للمعصية. 3 - في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر» نذكر هذا بمناسبة قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ فإذا رأيت نفسك شحت بشيء حبا له، من لقمة، إلى طعام، إلى مال، إلى غير ذلك، واستطعت أن تحملها على الإنفاق، فأنت من أهل هذا المقام. ومن عصته نفسه بالكثير فليحملها على القليل. 4 - أخرج عبد الرزاق عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يتم بعد حلم». فاليتيم هو من لم يبلغ. 5 - في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان. لكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه». في هذا الحديث يلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى أنواع من الناس، ينبغي أن نتذكرهم. 6 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: للسائل حق ولو جاء على فرس». في هذا الحديث أدب عال. هو أن نعامل الإنسان كما يحاول أن يظهر لنا، على شرط هو: أنني لو عاملته بذلك لا يضرني، ولا يضر المسلمين. بل ينفعني عند الله كما في هذه الصورة التي أمامنا. قال عمر رضي الله
عنه: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني). 7 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «في المال حق سوى الزكاة». ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ .... 8 - في الحديث الصحيح: «الصدقة على المساكين صدقة. وعلى ذوي الرحم اثنتان: صدقة وصلة. فهم أولى الناس ببرك وإعطائك». - يلاحظ أن قوله تعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ. قد جاء بعد قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ. فلم كانت الصابرين منصوبة، وما قبلها مرفوع؟ وما العامل في النصب؟. يقول النحويون: إن العامل في النصب هو الاختصاص. وحكمة ذلك الإشعار بمدح الصبر وأهله في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، ولإظهار فضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. 9 - يلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما حدد أركان الإيمان في الحديث الصحيح، ذكر ستة «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر». بينما الآية هنا ذكرت خمسا: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. فما السبب؟. السبب والله والله أعلم أن الإيمان بالقدر هو فرع الإيمان بالله. فالقدر: هو علم الله بالأشياء أزلا، وإرادة ما شاء أن يكون، وإبراز ذلك بقدرته. فمن عرف علم الله، وإرادته، وقدرته، آمن بالقدر. ومن ثم لم يذكر هنا- والله أعلم- ولكنه ذكر في مكان آخر بشكل مستقل. وإنما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث تبيانا لأهميته، وتأكيدا لضرورته. 10 - بمناسبة قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا. قال الألوسي بعد كلام: (وعلى هذا، فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا من العهود الجارية بين الناس. والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق، وحقوق الخلق). أقول: تستغل قضية الوفاء بالعهود عند المسلم في عصرنا استغلالا سيئا. فبعض الناس يأخذون العهود والمواثيق على الناس لأشخاصهم. ويعتبرون ذلك ملزما لمعطي العهد، وكأنه أعطاه للخليفة الشرعي للمسلمين في وجوب الطاعة والالتزام لهذا الشخص. وذلك لا أصل له. ولا ترتب عليه أي أحكام. وأحيانا يكون العهد مرتبطا بطاعة شرعية، فهذا قد
كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الثاني
يكون له أحكام النذر أو اليمين. وأحيانا تكون العهود بين حكومة ودولة كافرة، فإذا لم تكن المعاهدة ابتداء فيها مصلحة للمسلمين فإنها لا تسري عليهم. 11 - قلنا إن الفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الثاني قد ذكرت نموذجين من الناس. نموذج الكاتمين، ونموذج الأبرار. وفي الكلام عن الكاتمين قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى. وإذن فكتمان ما أنزل الله جزء من صراط الضالين. والكلام عن الأبرار جزء من صراط الذين أنعم الله عليهم. ولعل هذا يذكر بما ندعو الله عزّ وجل به كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ولعله يذكرنا بالمسرى العام لسورة البقرة، وصلته بما قبله من سورة الفاتحة، ولعله يوجد من يلومنا على هذه الاستقصاءات. ونظنه مخطئا. وسيتضح له خطؤه كلما سار في هذا التفسير، فرأى من الصلات والروابط ما تندفع به أوهام كثيرة لا بد من دفعها. كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الثاني: 1 - لعل القارئ لاحظ من خلال عرضنا لهذا المقطع تشابك الصلات بينه وبين المقطع الذي قبله مباشرة، وبينه وبين كل ما سبق من السورة. وهذا يري كيف أن كل آية لاحقة تكمل ما قبلها، وتوصل إلى ما بعدها في خطاب مستوعب للنفس البشرية من أين ينبغي أن يبدأ معها؟ وإلى أين ينبغي أن يسار فيها؟ ولقد رأينا كيف أن المقطع استقر على آية ختم بها الحوار مع بني إسرائيل، ولخصت قضية التقوى ليكون ذلك مقدمة للكلام عن مجموعة أمور تحمي التقوى، أو تحقق بها، أو تعمقها، أو هي جزء منها. وذلك كله مما تضمنته بقية القسم الثاني. وإذا كان ما بقي من القسم الثاني يشكل جولة جديدة في قضية التقوى، فقد يكون من المناسب أن نقدم لذلك بتلخيص لما مر معنا ليكون ذلك بمثابة مقدمة أولى للكلام عن الثلاثين آية القادمة. والتي هي تتمة القسم الثاني: مر معنا من قبل: مقدمة سورة البقرة: وفيها حديث عن المتقين، والكافرين، والمنافقين. ثم جاء القسم الأول وفيه مقاطع، وكله في توضيح معالم الطريق إلى التقوى سلبا أو إيجابا: المقطع الأول في تبيان الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الضلال.
كلمة في الثلاثين آية القادمة
ثم جاء مقطع آدم. فعمق في الطريقين. ثم جاء مقطعا بني إسرائيل وإبراهيم كنموذجين على انحراف عن أمر الله، وإقامة لأمر الله. ثم جاء مقطع القبلة، ومحلها في العبادة- التي هي طريق- التقوى، لا يخفى. ثم جاء مقطع الصبر والذكر والشكر. ومحل ذلك في التقوى طريقا، وفي العبادة لا يخفى. وهكذا جاء القسم الأول ليبين الطريق إلى التقوى، ويحرر من الطريق إلى الكفر والنفاق والفسوق. ثم جاء القسم الثاني: يأمر بالأكل من الحلال الذي هو شرط قبول العبادة، وليحرر من السبب الأول في الانحراف عن أمر الله: وهو كتمان ما أنزل الله. وجاءت آية البر لتلخص ما مر معنا من حقيقة التقوى. والآن يأتي مقطع جديد يتحدث عن القصاص، وعن الوصية: القصاص كطريق يحقق التقوى الاجتماعية، والوصية كحق من حقوق التقوى. ثم يأتي كلام عن الصوم. وهو عبادة وطريق يحقق التقوى الفردية والاجتماعية. ثم يسير السياق. كلمة في الثلاثين آية القادمة: في الثلاثين آية القادمة من الآية (177) إلى الآية (207) مجموعة من الأحكام والأوامر، والنواهي، والتقريرات، وغير ذلك. وقد سبقت كما رأينا بآية البر التي تشبه الآيات الأولى في مقدمة سورة البقرة. إذ في كل تعريف للمتقين. فلنتذكر الآن أن من صفات المتقين أن القرآن فيه هداهم: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولنتذكر أن المقطع الأول من القسم الثاني ورد فيه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. وورد فيه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ .. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
ثم جاءت آية البر لتذكر الصادقين المتقين: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. ثم تأتي هذه الآيات الثلاثون لتعرض علينا جزءا من هداية الله للمتقين في كتابه. وهكذا فإن فى الثلاثين آية القادمة تفصيلا في الركن الرابع للتقوى: وهو الاهتداء بكتاب الله، وهكذا. يأتي دور عرض بعض القضايا العملية، بعد تمهيدات طويلة توجد استعدادا للأخذ والتلقي والطاعة. ولذلك نجد كلمة كُتِبَ التى تعني فرض، تتكرر في هذه الثلاثين آية. كما تتكرر صيغ الأمر والنهي. وكل ذلك يأتي بعد المقطع الأول من القسم الثاني الذي هو التمهيد المباشر لذلك. تشكل الثلاثون آية مقطعين، مقطعا قصيرا، ومقطعا طويلا. وكل من المقطعين يبدأ بنداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .... وكل من المقطعين يبدأ بذكر طريق من الطرق الموصلة إلى تحقيق التقوى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فلأول مرة بعد قوله تعالى في بداية القسم الأول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تحدثنا سورة البقرة بشكل مباشر عما يوصل إلى التقوى بمثل هذه الصيغة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وإذا كان القسم الأول دلنا على طريق تقوى الفرد. فإن هذا القسم يحدثنا عما تتحقق به تقوى الفرد والمجتمع، وإن كان كل من الأمرين لا ينفصل عن الآخر. ولكن الكلام عما هو أظهر. وإذا كانت الثلاثون آية القادمة تتألف من مقطعين. وقد مر معنا مقطع من القسم الثاني، فإن القسم الثاني على هذا يتألف من ثلاثة مقاطع. يشكل المقطع القادم؛ المقطع الثاني فيه. كنا من قبل تحدثنا كيف أن القسم الأول من السورة قد وطأ للقسم الثاني؛ فوطأ مقطع الطريقين، ومقطع آدم، والمدخل لمقطع بني إسرائيل، للمقطع الأول في القسم الثاني. وفي مقطع بني إسرائيل يأتي كلام عن قتل رجل، وعن أكل أموال الناس، وعن ظلم الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. ويذكر أن هؤلاء ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ. ثم ....
وفي هذه الجولة يأتي كلام عن القصاص، ثم عن الصيام كطريقين للتقوى. ثم عن القتال الذي به يخاف أعداء الله، ثم عن الحج والعمرة إلى كعبة إبراهيم. وقد جاءت آية البر قبل هذه الجولة وفيها حض على الصبر، والصوم مران على الصبر. وفيها حض على الصبر حين البأس، أي في القتال، وفي الجولة كلام عن القتال وفي آية البر كلام عن الإنفاق. وفي الجولة كلام عن الإنفاق. وإذن فقد سبقت هذه الجولة في مقطعيها بكل المقدمات الضرورية لها. فلنبدأ عرض مقطعها الأول الذي هو المقطع الثاني في القسم الثاني.
المقطع الثاني من القسم الثاني: مقطع القصاص والوصية.
المقطع الثاني من القسم الثاني: مقطع القصاص والوصية. يمتد هذا المقطع من الآية (178) إلى نهاية الآية (182). وهذا هو. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) الفقرة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - يتضمن هذا المقطع فقرتين: الفقرة الأولى في شأن القصاص، والفقرة الثانية في الوصية. القصاص كطريق مساعد لتحقيق التقوى في المجتمع الإسلامي وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. والوصية كحق من الحقوق على المتقين: كُتِبَ عَلَيْكُمْ .. الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فالمقطع إذن يأخذ في بناء التقوى على مستوى الفرد والأمة. 2 - والملاحظ أن كلا من الفقرتين صدرت بقوله تعالى: كُتِبَ* يا أَيُّهَا
الفقرة الأولى
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... ففي المقطع إذن فريضتان من فرائض الله على هذه الأمة. فبعد أن تحددت صفات المتقين التي من جملتها الإيمان، والصلاة، والإنفاق، والصبر، والوفاء بالعهود، والاهتداء بالقرآن. يأتي هذا المقطع ليبين فريضتين من فرائض الله، فهما إذن داخلتان في السياق الكبير في باب الاهتداء بكتاب الله. 3 - قلنا إن القسم الأول من سورة البقرة وطأ لمعاني القسم الثاني. ولو أنك رجعت إلى ما بعد قصة آدم ومقدمة مقطع بني إسرائيل. لوجدت من جملة ما تجد في نهاية الفصل الأول قصة البقرة، وقتل النفس. وهاهنا تجد كلاما عن القصاص في الفقرة الأولى، ثم إنك تجد في بداية الفصل الثاني تأنيبا لبني إسرائيل على تحريفهم كتاب الله. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وفي الفقرة الثانية فرض الوصية والتهديد لمن يبدل فيها: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. والصلة بين المعنيين غير مباشرة ولكنها صلة. الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ* وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. المعنى العام: يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم. بأنثاكم، وفي شرع القصاص لكم- وهو قتل القاتل- حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها. لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. ولا يسقط القصاص في القتل العمد إلا في حالة العفو وقبول الدية. فإذا حدث العفو فلا يحل للقاتل أن يماطل في الدية. ولا يحل لأهل القتيل أن يثأروا.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ: أي فرض. والقصاص عبارة عن المساواة. وأصله: من قص أثره، إذا تبعه. ومنه القاص، لأنه يتتبع الآثار والأخبار. فِي الْقَتْلى: جمع قتيل. فصار المعنى: فرض عليكم المماثلة والمساواة بين القتلى. الْحُرُّ بِالْحُرِّ أي: الحر مأخوذ بالحر، أو مقتول بالحر. وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ أي: والعبد مقتول بالعبد وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. أي: والأنثى مقتولة بالأنثى. والكلام كله في القتل العمد. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي: فمن ترك له من أخيه. وذلك بالعفو عن القتل، وقبول الدية، ف (من) ترجع إلى القاتل. والأخ هنا، ولي المقتول. والعفو ضد العقوبة. وعبر بكلمة شئ ليفيد سقوط القتل، وقبول الدية. وذكر الأخوة في هذا المقام بعث لأهل القتيل على العطف على القاتل لما بينهما من الجنسية والإسلام. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: فليتبع الطالب القاتل بالمعروف، بأن يطالبه مطالبة جميلة. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي: وليؤد القاتل بدل الدم، أداء بإحسان، بألا يمطله ولا يبخسه. فالولي إذا أعطي له شئ من مال أخيه- يعني القاتل- بطريقة الصلح، فليأخذه بمعروف من غير تعنيف. وليؤده القاتل إليه من دون تسويف. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أي: هذا المذكور، من العفو وأخذ الدية، تخفيف من الله ورحمة عليكم، ورحمة بكم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي: من قتل، وثأر، بعد أخذ الدية أو قبولها. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: موجع شديد في الآخرة. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص، حياة عظيمة، وأي حياة؟. وذلك مما يؤدي إليه- القصاص بالقتل- من الردع عن القتل. فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل من القتل. فكان في شرع القصاص سبب حياة النفسين على الأقل. فإذا أضفنا قضايا الثأر غير المعقول من قتل غير القاتل ثأرا كما هي عادتهم في الجاهلية عرفناكم في القصاص من حياة يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: يا أولي العقول والأفهام. دل ذلك على أن غير أولي العقول هم الذين لا يرون القصاص، وتالله إنهم لكذلك، وما أكثرهم في عصرنا، وما أكثرهم في بلادنا. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: أي: لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، ومنها القتل. قال القرطبي: (والمراد هنا- أي بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- القتل، فتسلمون من القصاص. ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك. فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة).
فوائد
أقول: في الآية إشارة إلى أن القصاص يحقق تقوى الأفراد، ويحقق تقوى الأمة. فوائد: 1 - قال القرطبي: (روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية. فقال الله لهذه الأمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى. الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. فالعفو أن يقبل الدية في العمد. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ. مما كتب على من كان قبلكم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ: قتل بعد قبول الدية». هذا لفظ البخاري .. وقال الشعبي في قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. قال: «أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا. فقالوا: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان» ونحوه عن قتادة .. أقول: وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فعلى هذا فالآيات تحرم قتل غير القاتل وتوجب القصاص إلا إذا كان صلح فالدية هي البديل. 2 - دلت هذه الآيات على أن مرتكب الكبيرة- حتى ولو كانت القتل العمد- مؤمن، للوصف بالإيمان بعد وجود القتل، ولبقاء الأخوة الثابتة بالإيمان، ولاستحقاق التخفيف والرحمة. وفي القتل ثلاثة حقوق: حق الله الذي انتهك بالاعتداء على خلقه، وحق القتيل الذي اعتدي على حياته، وحق أهل القتيل الذين فجعوا بقتيلهم. والدية أو القتل إنما هما في مقابل حق أهل القتيل، ويبقى حق الله، وحق القتيل. فمن تاب توبة نصوحا فإن الله مرجو أن يعفو عنه، وأن يرضي عنه قاتله، ويدخله الجنة. 3 - في قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ إن أرجعنا ذلِكَ إلى العفو وقبول الدية، كان المعنى ما ذكرنا. ولكن إذا أرجعناه إلى ما قبل ذلك كله، أصبح معنى العدوان أوسع. فدخل في ذلك من قتل غير القاتل. إذن الحكم قتل القاتل، أو العفو عنه، فمن تجاوز هذا وهذا فقد اعتدى. 4 - في تعريف القصاص، وتنكير الحياة، بلاغة بينة. وأعظم من عبر عن بلاغة هذا المقام، مصطفى صادق الرافعي في كتابه الرائع: (تحت راية القرآن) إذ بين أن في هذا المقام من البلاغة ما يفوق أبلغ كلمة قالتها العرب في هذا الباب. وهي قولهم: «القتل
مسائل.
أنفى للقتل». من وجوه عدة، ذكرها فليراجع. فما أعظم هذا القرآن الذي لا يحيط بعظمته إلا من أنزله. 5 - نلاحظ أن القصاص مفروض إقامته على المسلمين. ولما كان القصاص لا تستطيعه إلا دولة وحكومة، فقد وجب على المسلمين إذن إقامة الحكومة الإسلامية التي تؤمن بالإسلام وتحكم به. إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا الواجب من أهم الواجبات الإسلامية التي غفل عنها المسلمون في عصرنا، فتعطلت أحكام الله عزّ وجل وتعطلت شريعته. 6 - دلت آية: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ على أن التقوى لا تتم إلا بسلطان وحكم وعقوبة. ومن ثم قال عثمان رضي الله عنه: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» فلا تقوى على الكمال والتمام إلا بوجود الحكومة الإسلامية، التي تطبق أحكام الله 7 - روى الإمام أحمد عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أخيه، فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها». وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية». قال ابن كثير في تفسيره: (يعني لا أقبل منه الدية بل أقتله). 8 - هناك اتجاه عالمي في منع القصاص بالقتل. يحاول كثير من الكتاب أن يثيروا الشفقة على القاتل. ويدعوا إلى رفع عقوبة الإعدام، ومن الآية نفهم أن أمثال هؤلاء لا عقول لهم، ولو كان لهم عقول، لرأوا من خلال التجربة كيف أن أكثر البلاد أجهزة أمن؛ كأمريكا، هي أكثرها جريمة؟! لعدم وجود العقوبات العادلة. وكيف أن أقل البلاد أجهزة أمن عند ما تقام بها شريعة الإسلام هي أقلها جريمة؟! مسائل. 1 - فرضت الآيات القصاص وذكرت أن الحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. وهنا تثور أسئلة: هل يقتل الحر بالعبد؟ هل يقتل الرجل بالمرأة؟ هل يقتل المسلم بالكافر؟. ذهب أبو حنيفة: إلى أن الحر يقتل بالعبد، والرجل بالمرأة، والمسلم بالذمي لعموم آية المائدة: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، وأن المسلم لا يقتل بالكافر لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري: «لا يقتل مسلم بكافر». وقد حمل الحنفية هذا النص على الكافر الحربي. فإنه لا يقتل به مسلم ولا ذمي. وقال الحسن وعطاء: (لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية). وخالفهم الجمهور لآية المائدة، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم». وقال الليث: (إذا قتل الرجل امرأته، لا يقتل بها خاصة). وقد خولف في ذلك. 2 - قال مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل. وقال الباقون: له أن يعفو عليها، وإن لم يرض القاتل، وعليه الدية. 3 - مذهب الأئمة الأربعة، والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد. قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ، وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت. ثم قال ابن المنذر: (وهذا أصح. ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه. وإذا اختلف الصحابة، فسبيله النظر). 4 - عند ما يكون للقتيل أولياء، فإن أيا ممن له الولاية المباشرة يحق له أن يعفو. وبالتالي يسقط القصاص، وتجب الدية وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو. منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي. وخالفهم الباقون. 5 - مما يشهد لمن ذهب أن الحر يقتل بالعبد، ولو كان سيدا له. الحديث: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه». 6 - هل تعتبر آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. من باب المنسوخ، نسختها آية: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ؟. ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء. والموضوع متعلق بتعريف النسخ، وما يدخل ضمنه، إذ إن آية المائدة لم تلغ ما دخل في هذه الآية بل وضحته، أو زادت عليه. فهذه الآية خصصت الحكم بنوع، وتخصيصها
شبهة
بنوع لا ينفيه عن نوع آخر. بل يبقى الحكم موقوفا على ورود دليل آخر. وقد جاء الدليل في سورة المائدة. شبهة: يحاول بعض الخبثاء؛ وبعض الجاهلين أن ينسفوا التشريع الإسلامي بحجة كثرة الأقوال والمذاهب في بعض المسائل. والجواب: 1 - ما اختلف فيه لا يكون علة لنسف ما لم يختلف فيه. فمثلا في مسألتنا لم يختلف في قتل المسلم بالمسلم، أو في قتل الكافر بالمسلم. فالاختلاف في شئ لا يعني الاختلاف في كل شئ. فإذا كانوا صادقين بأنهم مؤمنون مسلمون، فليسلموا بما لا خلاف فيه، وليطبقوه. على أن ما اختلف فيه، سبيله النظر، الترجيح بطرق الترجيح التي يعتمدها أهل الحل والعقد في هذه الأمة. 2 - إن ما اختلف فيه لا ينبغي أن يكون سببا لترك الشريعة. إذ هو حجة للشريعة إذ إن الأقوال الكثيرة في المسألة الواحدة، تجعلنا أمام خيار واسع، نختار منها ما يصلح لزماننا، وقطرنا، وحالنا. على شرط أن يكون الاختيار من أهله، ومراعى فيه الدليل، ومتحققة فيه المصلحة. 3 - في الشريعة الإسلامية أعطي الإمام أو نائبه حق الترجيح والاختيار لما اختلف فيه من آراء. وفي ذلك ضمان لوحدة التشريع والقانون. فالاختلافات المذهبية إذن لا تعني عدم وحدة القانون المطبق على الأمة، أو على قطر من أقطارها. فكم من ميزة لهذا الإسلام ينكرونها ليجعلوها مأخذا. محل هذه الفقرة من السياق: رأينا أن سورة البقرة بدأت بوصف المتقين في مقدمتها. ثم جاء السياق ب يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ليدعو الناس أن يكونوا من المتقين بسلوك طريق ذلك. وطريق ذلك: العبادة لله وحده بمفهومها الواسع الذي بينه السياق حتى نهاية آية البر. ثم جاء هذا المقطع ليذكر لنا طريقا مساعدا للتقوى، وهو القصاص وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
توضيح هام
فلا تقوى إلا بقصاص، ولا قصاص إلا بدولة وحكومة، ولا نكون من المتقين المهتدين بهدي كتاب الله- وهي الصفة الأولى من صفات المتقين- حتى نقيم القصاص بإقامة الدولة التي تقيمه، ورقابتها، ومحاسبتها. فليعلم ذلك الذين يظنون أن التقوى مجرد صلاة، وليعلم ذلك الذين لا يبذلون أدنى جهد صحيح لإقامة حكم الله في الأرض. فالسياق إذن ماض على نسق واحد هو الدعوة إلى التقوى، بتبيانها، وتبيان طريقها، وتعميق مفاهيمها. توضيح هام: التقوى: هي تنفيد ما يطالب به كل إنسان من كتاب الله، وسنة رسوله. والمحاسبة تكون على التقصير ضمن الوسع. فمثلا أنا كمسلم لا أستطيع أن أطبق حكم القصاص بمفردي. ولكي أبرئ ذمتي عند الله علي أن أبذل جهدا من أجل الوصول إلى تطبيق حكم القصاص والعمل ضمن وسعي، إما بالسعي نحو إقامة الحكومة الإسلامية حال فقدها، أو بتذكيرها حال وجودها، أو بالسعي نحو العفو في كل حال. الفقرة الثانية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اتجاهات المفسرين في هذه الفقرة: هل الآية الأولى في هذه الفقرة منسوخة بآية المواريث الموجودة في سورة النساء؟ أو أن آية المواريث مفسرة لها؟ أو أن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصية؟. ثلاثة أقوال في الآية، الذي عليه عامة الفقهاء هو الأول. والذي نقله الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني هو الثاني ثم قال أي الرازي: (وهو قول أكثر المفسرين، والمعتبرين من الفقهاء). والقول الثالث ذهب إليه الكثير، منهم ابن عباس، والحسن، ومسروق، وطاوس، والضحاك، ومسلم بن يسار، والعلاء بن زياد، وغيرهم. وسنرى أنه من الناحية العملية لا يترتب على هذا الخلاف كبير أمر في موضوع التطبيق. وإنما الموضوع مرتبط بذوقية تذوق القرآن، وبانسجام الفهم للنص مع مجموعة النصوص. وسنشرح الآية شرحا حرفيا وكليا على ضوء القول الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.
شرح الآية على القول الأول
شرح الآية على القول الأول: اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبا قبل نزول آية المواريث. فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي. فإذا اتضح هذا، صار المعنى الحرفي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: أي فرض عليكم إذا دنا الموت من أحدكم فظهرت عليه أماراته. إِنْ تَرَكَ خَيْراً: أي ترك ما لا كثيرا. وحدده ابن عباس بستين دينارا فما فوق الْوَصِيَّةُ أي فرضت الوصية قضاء لحق القرابة والوالدين. لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالرفق والإحسان. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ: أي واجبا على الذين يتقون الله. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي فمن بدل الوصية وحرفها، فغير حكمها، وزاد فيها، أو نقص- ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى- فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ: أي إثم التبديل على المبدل دون غيره من الموصي والموصى له. لأنهما بريئان من الحيف. وللميت الأجر. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: أي قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك، وبما بدله المبدلون. فهو سميع لقول الموصي، عليم بجور المبدل فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ: أي من علم منه. جَنَفاً أَوْ إِثْماً. الجنف: هو الميل عن الحق بالخطإ، والإثم: هو الميل المتعمد عن الحق هنا. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: أي بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون، بأن يعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء وأشبهها بالحق والعدل. فهذا الإصلاح والتوفيق ليسا من التبديل في شئ. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ: في هذا التبديل. لأن تبديله تبديل باطل إلى حق. وقيل هذا في حال حياة الموصي. أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح، فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولا. أو فلا إثم على هذا الناصح. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: يغفر لمن أصلح ويرحمه. أو يغفر لمن وقع في الخطأ ثم تراجع عنه، ويرحمه. هذا شرح الآيتين على القول بأنهما منسوختان. نسختهما آيات المواريث. وأما شرح الآيتين على القول الثاني فهو: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ: أي فرض عليكم
شرح الفقرة على القول الثالث
أيها المسلمون إذا مات أحدكم وترك مالا أن تنفذوا ما وصاكم الله به في صلة الوالدين والأقربين. والتي حددها الله في هذه الحالة بآيات الميراث فيما بعد. بِالْمَعْرُوفِ: أي بالعدل وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، كما حدده الله تعالى. قال عليه الصلاة والسلام بعد أن أنزلت آيات الميراث: «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه. فلا وصية لوارث». حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ: إن تطبيق هذه الوصية وإعطاء الوارثين حقوقهم أمر واجب على المتقين. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ: فمن بدل حكم الله في قضايا الإرث بعد ما سمعه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ: فإنما إثم التبديل على من فعله. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً: أي فمن خاف من مورث أوصى جنفا: أي خطأ بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة كما لو أوصى ببيعه الشئ الفلاني محاباة، أو أوصى لابن بنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل. إما مخطئا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدا آثما. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: بأن أرجع الأمور إلى نصابها في تطبيق حكم الله في قضايا الإرث. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، بل هو مأجور لإقامة أمر الله. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعلى هذا الاتجاه فهذه الفقرة مقدمة لآيات الميراث وبإطلاقها تطبق على مرحلة ما قبل نزول آيات الميراث، فهي تمهيد لما بعدها وحل مؤقت لبعض الأمور. شرح الفقرة على القول الثالث: القول الثالث: أن هذه الآية ثابتة فيمن لا يرث، منسوخة فيمن يرث. فالأقربون أعم ممن يرث أو من لا يرث. فرفع حكم من يرث بما عين له. وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى. وهذا الاتجاه لا يصح إلا إذا اعتبرنا أن الوصية في الأصل كانت ندبا، وبقيت مندوبة. وعلى هذا ف كُتِبَ في الآية، المراد بها على رأي هؤلاء، ندب. وهذا يخالف ظاهر الآية وسياقها. إلا إذا اعتبرنا قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ في الآية تخصيصا. بمعنى أن هذا على من اتقى كالفريضة. إذ التقي يأخذ بالعزيمة من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. فعلى هذا فإن في آية الميراث في سورة النساء حكما مستقلا، لأهل الفروض والعصبات رفع به حكم هذه الآية بالنسبة لهم بالكلية. وبقي الأقارب الذين لا ميراث لهم. يستحب للمسلم أن يوصي لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية، وشمولها. وللأحاديث الواردة في ذلك. فلنذكرها أولا. ثم نشرح الآية على ضوء ذلك.
1 - في الصحيحين أن سعدا قال يا رسول الله: «إن لي مالا، ولا يرثني إلا ابنة لي. أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فبالشطر؟. قال لا. قال: فالثلث؟. قال: الثلث. والثلث كثير، إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس». وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث. والثلث كثير». 2 - في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. 3 - في مسند عبد بن حميد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «يا ابن آدم. ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك به، وأزكيك. وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك». أي إن الله من علينا بما شرع لنا من الوصية التي تنفعنا بعد موتنا كما من علينا بقبوله دعوات المؤمنين لأمواتهم. فإذا اتضح هذا، صار معنى الآية على هذا الاتجاه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ: أي يستحب لكم أن توصوا لمن لا يرث من الأقربين بشيء من أموالكم في حدود الثلث. أما الوارثون، فإرثهم- ضمن ما حدد الله في سورة النساء- واجب. بِالْمَعْرُوفِ: أي في حدود الثلث بعد ما نزلت آية المواريث. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ: من الأوصياء والشهود. فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ: فما إثم التبديل إلا على مبدله. والأجر كامل للموصي. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً. بأن زاد على الثلث في الوصية، أو أوصى لوارث خطأ أو عمدا. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بإجراء الأمور على طريق الشرع. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هذا شرح لهذه الفقرة كما رأينا على كل الاتجاهات الرئيسية لفهمها ومنه نعلم أنه لا يترتب على الخلاف في فهمها كبير أمر فالإجماع منعقد على ألا وصية لوارث والإجماع منعقد على استحباب الوصية.
فوائد
فوائد: 1 - مر معنا حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». وقد حمل العلماء هذا على من عليه دين، أو عنده مال لقوم، أو كانت له حقوق على الناس يخاف تلفها على الورثة. فعندئذ تكون الوصية في حقه واجبة. أما عن سوى ذلك. فالوصية في حقه مندوبة، أن يوصي أهله بتقوى الله، والاستمرار على الإسلام وألا يفعلوا منكرا في جنازته. ثم إذا ترك مالا، فالمستحب في حقه أن يوصي لغير الوارثين من الأقربين، والأرحام، والفقراء، وأوجه الخير. 2 - هناك اتجاه يرى أن الوصية للوالدين والأقربين من غير الوارثين واجب، كما إذا كان الوالدان كافرين. وبناء على هذا الاتجاه، فقد اعتمد قانون الأحوال الشخصية في بعض الأقطار الإسلامية وجوب الوصية لابن الابن إذا توفي أبوه في حياة جده. 3 - قال القرطبي في قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ (الخطاب .. لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية، وعدولا إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته، لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم. فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح والإصلاح فرض على الكفاية. فإذا قام أحدهم به سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل) أي ممن يعلم. 4 - أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة. فإذا أوصى، حاف في وصيته فيختم له بشر عمله. فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة». قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها. الآية وقد وصف ابن كثير هذا الحديث بأنه أحسن ما ورد في هذا الباب. 5 - قال النسفي في الآية: (وقيل غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر. لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام. يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه. والإسلام قطع الإرث. فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندبا.
محل هذه الفقرة في السياق
وعلى هذا لا يراد ب كُتِبَ فرض). اه. وهذا القول يمشي على الاتجاه الثالث. محل هذه الفقرة في السياق: في الفقرة السابقة ذكر أن القصاص عامل من عوامل التقوى في المجتمع الإسلامي، وفي هذه الفقرة ذكر أن تطبيق حكم الله في موضوع الوصية والميراث حق على المتقين. فدل ذلك على أن من صفات المتقين، الاهتداء بهدى الله في موضوع الوصية والميراث. محل هذا المقطع في السياق: رأينا أن هذا المقطع يتألف من فقرتين، وفيه فريضتان: فريضة لها علاقة بالتشريع الجنائي. وفريضة لها علاقة بالأموال. وقد ربطت كل من القضيتين بقضية التقوى، التي هي عنوان التربية القرآنية عامة، ومضمون السياق الرئيسي في سورة البقرة حتى نهاية هذا القسم خاصة. وهذا المقطع جزء من هذا السياق. فهو يبين أن من التقوى اتباع الكتاب في موضوع الأنفس وفي موضوع الأموال.
المقطع الثالث من القسم الثاني
المقطع الثالث من القسم الثاني: يمتد هذا المقطع من الآية (183) إلى نهاية القسم الثاني. أي إلى نهاية الآية (207). ونكتفي بذكر فقراته فقرة فقرة عند تفسيرها بدلا من ذكره كله هاهنا. كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - يتألف هذا المقطع من ست فقرات: فقرة حول الصوم كطريق إلى التقوى. وفقرة حول بعض الأحكام المالية. وفقرة حول تصحيح مفهوم خاطئ في شأن الدخول إلى البيوت. وفقرة حول القتال والإنفاق. وفقرة حول الحج والعمرة. وفقرة حول صنفين من الناس. وكل هذه الفقرات صلتها بالتقوى موجودة. إذ لا زال الكلام عنها يشكل السياق الرئيسي في السورة. ففي هذا المقطع يوجد في شأن التقوى إما دلالة على طريق يوصل إليها، وإما تصحيح مفهوم حولها، أو تذكير بخلق من أخلاقها. 2 - نلاحظ أن هذا القسم بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. وفي المقطع الأول يبين الله عزّ وجل ما حرم علينا من الخبائث الطعامية: من دم، وميتة، ولحم خنزير، إلا في حالة الاضطرار. وفي المقطع الثاني رأينا قضية القصاص والدية. ورأينا قضية الوصية. والدية والوصية لهما صلة بقضية المال الحلال من وجه. وفي هذا المقطع يأتي الأمر بالصوم. وإذن فالأمر بإباحة الأكل الحلال، مقيد بألا يكون في وقت الصوم من رمضان. ثم يأتي قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ .... ولذلك صلة في موضوع الحلال، وترك اتباع خطوات الشيطان. ثم يأتي سؤال له صلة في الحج، ثم كلام عن قتال له صلة في المسجد الحرام. ثم يأتي كلام عن الحج. وفي ذلك كله تعميق لقضية عدم اتباع خطوات الشيطان. فالصوم عامل مساعد على عدم اتباع خطوات الشيطان، وأكل الحلال كذلك. ثم إن إتيان البيوت من ظهورها، وفتنة أهل الله عن دينهم، وترك القتال في سبيل الله، وترك الإنفاق، وترك إقامة المناسك كل ذلك من اتباع خطوات الشيطان. ثم يعرض علينا المقطع نموذجين من الناس. نموذجا خالصا لله. ونموذجا خالصا للسير في طريق الشيطان. فصلة المقطع الثالث بفقراته كلها بالمقطع الأول ذات مظاهر متعددة أشرنا إلى بعضها من قبل. وهذه بعض مظاهرها هنا.
3 - قلنا من قبل إن القسم الأول وطأ للقسم الثاني. وجاءت هذه التوطئة على تسلسل معين، بحيث إن ما يرد في القسم الثاني تتسلسل معانيه بحيث تتوافق مع تسلسل المعاني في القسم الأول. فمعاني المقطع الأول والثاني والثالث من القسم الأول وطأت لمعاني المقطع الأول في هذا القسم. وهكذا. ولو أنك تأملت قضية الصوم في هذا المقطع، وصلتها بتزكية النفس، وورود آية الدعاء في وسط ذلك. ثم لو رأيت مجموعة ما ورد بعد ذلك من معان تصحيحية أو أوامر مربية، أو موجهة، أو معان لها صلة بالمناسك. وتذكرت قوله تعالى في مقطع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا، لو أنك تأملت هذا كله لرأيت مظهرا جديدا من مظاهر التوطئة التي قدم لها القسم الأول للقسم الثاني. 4 - جاءت آية الإنفاق في المقطع بين آيات القتال، وآيات الحج. لأن القتال والحج يحتاجان إلى مال وإنفاق. وذلك كله جاء بعد الأمر بإتيان البيوت من أبوابها. والقتال والحج يحتاجان إلى أن يسلك الإنسان الطريق المؤدي إلى إنجاحهما. وذلك كله جاء بعد النهي عن أكل أموال الناس بالباطل والرشى، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل لا يضحي بنفسه، ولا ينفق، ولا يحج إلا على مرض يقل فيه الإخلاص أو ينعدم. وذلك كله مسبوق بالكلام عن الصوم مما يشير إلى أهمية الصوم في تحقيق أمر الله في هذه الأمور كلها. فالحج والقتال يحتاجان إلى صبر، والصوم صبر. وترك أكل أموال الناس بالباطل يحتاج إلى ضبط نفس، والصوم ضبط نفس. والإنفاق يحتاج إلى دوافع. وفي شهر الصوم يكثر الإنفاق ويعتاده الإنسان. ولهذا وغيره من الحكم تقدم الكلام عن الصوم فقرات هذا المقطع. 5 - ولقد قلنا أكثر من مرة: إن الإسلام أركان وبناء، الأركان هي الشهادتان والصلاة، والزكاة، والصوم والحج. أخذا من الحديث: «إن الإسلام بني على خمس». وأما البناء فهو أحكام الله في كل شئ. فالإسلام مجموع أحكام الله في العقائد والعبادات ومناهج الحياة وغير ذلك. وسورة البقرة عرضت حتى نهاية هذا القسم- في جملة ما عرضت- للأركان الخمسة فذكرت الإيمان الذي رمزه العملي الشهادتان، وذكرت الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكان ذلك مقدمة للقسم الثالث الذي سيدعو إلى الدخول في الإسلام كله. وخلال عرضها لقضية الأركان ذكرت أمورا كثيرة مما يشير إلى عدم انفصال الأركان عن
الفقرة الأولى
البناء ومما يشير إلى الأسس النظرية والعملية لهذه الأركان، ومما يدل على أن الوضع السليم أن ينبثق عن الإيمان عمل، وأن العمل الصالح بعضه مرتبط ببعض، وكل ذلك مرتبط بصلاح النفس لصلاح الحياة بالله ولله. وسنعرض فقرات هذا المقطع حتى ينتهي. ثم نعقب بكلمة عنه، وعن القسم كله. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 185] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
كلمة في الفقرة
كلمة في الفقرة: يلاحظ أن الفقرة مبدوءة بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وانتهت بقوله تعالى كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. نلاحظ كلمة التقوى في الآية الأولى وفي الآية الأخيرة. فهذه الفقرة إذن تشرح طريقا جديدا من طرق التقوى. فعبادة الله طريق إلى التقوى، والقصاص عامل من عوامل التقوى، والصيام طريق من طرق التقوى. ولأهمية الصيام جعل ركنا من أركان الإسلام، كالشهادتين والصلاة والزكاة. وبهذا المقطع تتأكد التقوى في الأنفس ويصبح عند المسلم استعداد عملي كامل لاتباع كتاب الله في كل شأن. ومن ثم تأتي أوامر، ونواه، وتقريرات مباشرة، بلا أي نداء مباشر حتى آخر هذا المقطع ليأتي بعد ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وسنشرح هذه الفقرة آية آية، شرحا حرفيا. وإذا كان من فائدة لها علاقة بآية نأتي بها مباشرة بعد الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي: فرض عليكم الصيام. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: كما فرض على الأمم من قبلكم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الله باجتناب معاصيه. لأن الصيام أضبط للنفس، وأردع لها عن مواقعة السوء. أو لعلكم تنتظمون في زمرة
فوائد
المتقين. إذ الصوم شعارهم. والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع والمفطرات، من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، بنية الصوم لله عزّ وجل. خاطب الله عزّ وجل المؤمنين من هذه الأمة آمرا لهم بالصيام، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرذيلة. وذكر أنه إن أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم. فلهم فيهم أسوة. والحكمة من الصوم، تحصيل التقوى، لما في الصوم من تزكية للبدن، وتضييق مسالك الشيطان. ولهذا ثبت في الصحيحين: «يا معشر الشباب. من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». فوائد: 1 - في كتاب الأركان الأربعة لأبي الحسن الندوي عرض للصوم كما هو الآن في الأديان العالمية الكبيرة، كالنصرانية، واليهودية، والهندوسية .. مما يثبت أن الصوم لم تخل منه ديانة. وهذا الذي ذكره القرآن هنا. ولكن أهل الأديان حرفوا، وبدلوا، وزادوا، ونقصوا كما هي عادتهم في كل شئ وسننقل كلام الأستاذ الندوي في نهاية الحديث عن الصوم. 2 - إن الحكمة من فرض الصوم علينا هي الوصول إلى التقوى. فمن صام رمضان ثم لم يحصل التقوى فقد فرط، إن الإيمان بالغيب وإن التوحيد هما البذرة التي تتفرع عنهما شجرة الإسلام لتؤتي ثمارها، والصلاة هي الغذاء اليومي لهذه الثمرة، والإنفاق هو الذي يجتث الحشائش الضارة من أرض القلب، كالشح والبخل والحرص. ويأتي الصوم ليضبط الاندفاعات النفسية الخاطئة في أخطر مظاهرها، شهوة الفرج، وشهوة البطن، إذ يعود المسلم على ضبط ذلك، ثم يأتي الحج ليسقي بذرة الإيمان تسليما. فبقدر ما يعطي المسلم لكل ركن من أركان الإسلام مداه في نفسه ومن نفسه فإنه يكمل بذلك وتكمل بذلك تقواه. إن الصوم تعويد للناس على ضبط شهواتها، كما أنه تخل لله عن شهوات النفس طاعة لله، وإن آثار ذلك لمن فعله إيمانا واحتسابا هي أن يكرم الله الصائم بتحقيقه بالتقوى التي فيها جماع خيرى الدنيا والآخرة، تلك هي الحكمة الرئيسية في الصوم وهي التي نصت عليها الآية الأولى من فقرة الصوم. فإذا
[سورة البقرة (2): آية 184]
صام الإنسان وأقام فرائض شهر الصوم، وسننه، فإنه يخرج بزاد من التقوى يحمله سنة. فالصلاة في أوقاتها، والصوم في وقته، والحج إذا أدي، والإنفاق إذا كان، كل ذلك زاد القلب المتكامل الذي من آثاره القيام بأمر الله في كل شئ والذي من ثمراته الاستقامة على أمر الله. ولنعد إلى التفسير: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي: كتب عليكم أن تصوموا أياما مؤقتات بعدد معلوم. وهذا يفيد القلة فكأنه إشعار بسهولة ما كلفنا به فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي: فمن كان منكم يخاف من الصوم زيادة المرض، أو بطء البرء، أو يخاف المرض بسبب الصوم بغلبة الظن، إما بإمارة، أو تجربة، ولو كانت من غير المريض عند اتحاد المرض، أو بإخبار طبيب حاذق مسلم عدل، أو مجهول الحال، لم يظهر له فسق ولا عدالة. أو كان مسافرا سفرا شرعيا، بأن يكون قاصدا موضعا يبعد عن بلده مسافة واحد وثمانين كيلومترا- على اجتهاد بعضهم- بشرط أن يكون قد أنشأ السفر قبل الفجر، ليصح له أن يفطر اليوم الأول وذلك يقتضي أن يكون متلبسا بالسفر عند الفجر- على الرأي الأحوط- فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره. والعدة بمعنى: المعدوم. أي: أمر أن يصوم أياما معدودة بدل أيام مرضه وسفره. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ في هذا النص اتجاهان رئيسيان، الاتجاه الأول: أنه قبل: يُطِيقُونَهُ توجد (لا) مقدرة فصار المعنى: وعلى الذين لا يستطيعونه، كالشيخ الفاني الذي فنيت قوته، وعجز عن الأداء وهو في تناقص إلى أن يموت، والعاجز عن الصوم عجزا مستمرا، والمريض اليائس من الصحة، فهؤلاء يفطرون وعليهم فدية وجوبا إطعام مسكين يوما عن كل يوم. أو أن يدفع إليه نصف صاع من بر، أو صاعا من غيره عن كل يوم، أو ثمنه. والصاع حوالي أربعة كيلوغرام في أول تقدير الحنفية. في أول الشهر أو أوسطه أو آخره، أو بعد ذلك. وعلى هذا الاتجاه، فهذا النص غير منسوخ. وأما الاتجاه الثاني في فهمه، فكما قال معاذ: كان هذا في ابتداء الأمر. من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا. قال النسفي: وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية. ثم نسخ التخيير بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. ولهذا كرر قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ لأنه لما كان مذكورا مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم. قال ابن كثير: فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
فوائد
بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. وأما الشيخ الفاني الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه .. ولكن هل يجب علية إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة. فيه قولان .. والثانى هو الصحيح، وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على مقدار الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فالتطوع او الخير خير له وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كان عندكم علم. وهذا يتمشى مع الاتجاه الثاني في فهم النص. أي على اعتبار أن هذه الآية منسوخة أما على الاتجاه الأول الذي لا يفيد النسخ فإن المعنى يكون: وصيامكم في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم إن كان عندكم علم. وهل المقصود بالعلم، العلم بالآخرة؟ أم العلم بما يضر وينفع للروح والجسد في الحياة الدنيا؟. العموم يشمل الجميع. فالصوم خير كله. فوائد: 1 - أكثر العلماء على أن هذا النص منسوخ بالآية بعده. ولعدم النسخ وجه تؤيده قراءة حفصة رضي الله عنها: (وعلى الذين لا يطيقونه) ومثل هذه القراءة الشاذة لا تثبت قرآنا ولكنها تفيد تفسيرا. 2 - المرضع والحامل إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما نسبا كان أو رضاعا، فإنه يباح لهما الفطر يوم العذر. وكذلك للمريض. أما المسافر فقد رأينا أنه لا يباح له الفطر يوم السفر، إلا إذا كان سفره قبل الفجر في رأي من ذهب إلى ذلك من العلماء كما سنرى. 3 - ضعف أنس عن الصوم. فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم. 4 - في قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. بيان أن العلم فيه بيان لخيرية الصوم. وأنه كلما ازدادت معارف الإنسان الدينية أو الدنيوية يتأكد هذا المعنى. فكم للصوم من آثار طيبة في شفاء أمراض الجسد. وكم من آثار طيبة في شفاء النفس، وقد كتبت في هذا الموضوع الكتب ودبجت المقالات بأقلام أطباء ومجربين مرضى فلله الحمد. شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: يمتدح الله تعالى شهر رمضان، وتخصيصه بفريضة الصوم من بين الشهور. بإنزال القرآن فيه إما بابتداء إنزاله فيه- وكان
فوائد
ذلك في ليلة القدر-. أو بإنزاله فيه إلى السماء الدنيا، أو بالاثنين معا. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ: هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به، وصدقه، واتبعه، ودلائل وحججا بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى والرشاد، المنافي للضلال، والمخالف للغي، ومفرقا بين الحق والباطل، والحلال والحرام، فالفرقان: هو ما يفرق بين الحق والباطل، والبينات: الواضحات المكشوفات. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي فمن كان شاهدا، أي حاضرا مقيما غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر. ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي. ولما حتم الصيام. أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء كما مر. ليعلم أن هذا مما لم ينسخ فقال: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: وجمهور السلف والخلف على أنه لا يجب التتابع في القضاء. بل إن شاء فرق، وإن شاء تابع. لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: حيث أباح الفطر في السفر والمرض. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: أي إنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ: أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم معظمين إياه على نعمة هدايتكم إلى صراطه المستقيم في كل شئ، وفي أمر الصوم. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده. فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك. فوائد: 1 - قال الحنفية: صوم المسافر أفضل من فطره إذا لم يضره، ولم تكن عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة. فإن كانوا مشتركين أو مفطرين ولو أكثرهم فالأفضل فطره، موافقة للجماعة. وقال الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار .. وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل أخذا بالرخصة. وقالت طائفة: هما سواء. وقيل إن شق الصيام فالإفطار أفضل. قال ابن كثير: فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الإفطار ويحرم عليه الصيام والحالة هذه. 2 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن خير دينكم أيسره. إن خير دينكم أيسره». وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام قال: «يسروا ولا تعسروا
وسكنوا ولا تنفروا». وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا». وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة». 3 - استدل قوم بقوله تعالى هنا: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ: على مشروعية التكبير في عيد الفطر. حتى ذهب داود الظاهري إلى وجوبه. وقال الحنفية: يكبر في طريقه إلى المصلى سرا بحيث يسمع نفسه. وعامة العلماء على استحبابه يوم الفطر. 4 - روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان. وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان. وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان». وأخرج ابن مردويه من حديث جابر وفيه: «أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم». قال ابن كثير: وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة. وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا. وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه .. ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ: قال ابن كثير: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر كما رواه الإمام أبو داود .. عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة». فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى- ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد». قال عبيد الله بن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمر يقول إذا أفطر: «اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ أن تغفر لي» وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح
أسباب النزول
لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين». اه. أسباب النزول: أخرج ابن أبي حاتم: .. : أن أعرابيا قال: يا رسول الله- صلى الله عليك وسلم- أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي .. الآية إذا أمرتهم أن يدعوني، فدعوني استجبت. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله عزّ وجل: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ .... وقال ابن جريج عن عطاء أنه بلغه لما نزلت: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو؟. فنزلت: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي .... المعنى الحرفي: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ: هذا وعد صدق من الله لا خلف فيه، غير أن إجابة الدعوة لا تعني بالضرورة قضاء الحاجة، فإجابة الدعوة أن يقول العبد: يا رب، فيقول الله: لبيك عبدي. وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن، وقضاء الحاجة: إعطاء المراد. وذا قد يكون ناجزا، وقد يكون بعد مدة، وقد يكون في الآخرة، وقد يكون الخيرة له في غيره. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي: إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي: بوجودي وأسمائي الحسنى، وصفاتي العليا، وقربي، وإجابتي. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ: أي ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد، وهو ضد الغي. أحاديث وآثار: 1 - روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو الله عزّ وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذن نكثر. قال: «الله أكثر». 2 - روى البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم. واحدة لك، وواحدة لي، وواحدة فيما بيني وبينك.
فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئا. وأما التي لك: فما عملت من شئ، أو عمل، وفيتكه. وأما الذي بيني وبينك: فمنك الدعاء، وعلي الإجابة». 3 - أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القلوب أوعية. وبعضها أوعى من بعض. فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة. فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل». 4 - أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول: دعوت فلم يستجب لي». 5 - قالت عائشة رضي الله عنها: «ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا، أو تؤخر له في الآخرة إذا لم يعجل، أو يقنط. قال عروة: قلت: يا أماه. كيف عجلته وقنوطه؟. قالت: يقول: سألت فلم أعط، ودعوت فلم أجب». 6 - أخرج الإمام أحمد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين». 7 - وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني». 8 - في الصحيحين وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة. فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلو شرفا، ولا نهبط واديا، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: «يا أيها الناس: أربعوا على أنفسكم. فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إنما تدعون سميعا بصيرا. إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. يا عبد الله بن قيس: ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله». أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
المعاني العامة
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. المعاني العامة: في هذه الآية رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام. فإنه كان إذا أفطر أحدهم، إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك. فمتى نام أو صلى العشاء، حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة. فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة. فأنزل الله في هذه الآية رخصة. وفي هذه الآية بيان لمكان الزوج من زوجته، ومكان الزوجة من زوجها. كما أن فيها تحديد وقت الصوم، وتحديد وقت الفطر، وإباحة ما أبيح بين الوقتين. كما أن فيها إشارة إلى الاعتكاف. وما يحظر فيه. وختمت الآية بالتحذير من مجاوزة حدود الله. وتبيان فضل الله على هذه الأمة، إذ بين لها طريق النجاة في الدنيا والآخرة. من أسباب النزول: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام فى شهر رمضان بعد العشاء- منهم عمر بن الخطاب- فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ. المعنى الحرفي للآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ: الرفث هنا الجماع. والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. فصار المعنى: أبيح لكم إتيانكم نساءكم في ليلة صومكم. والدليل أن الجماع يدخل في كلمة الرفث هنا، استعمال كلمة إِلى. فدل على أن ما قبلها قد تضمن معنى الإفضاء. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: هذا استئناف، وهو كالبيان لسبب الإحلال. وهو إنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن. وصعب عليكم اجتنابهن. فلذا رخص لكم في مباشرتهن. شبهت الزوجة باللباس لزوجها، وشبه الزوج باللباس لزوجته، بجامع المخالطة والمماسة والمضاجعة، فناسب هذا الترخيص بالجامعة في ليل رمضان. لئلا
يشق عليهم ويحرجوا. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ: أي تظلمونها بالجماع والأكل والشرب بعد العشاء، أو بعد النوم فتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة. كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة. فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ: أي ما فعلتموه قبل الرخصة، وذلك من كمال رحمته جل جلاله، ولعلم الله من قلوبهم الندم على المخالفة إذا واقعوها. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ: أي جامعوهن في ليالي الصوم. وهو أمر إباحة. وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: أي واطلبوا ما قسم الله لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة. وفي ذلك لفت نظر إلى أن المباشرة ليست لقضاء الشهوة وحدها. ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل. ويحتمل أن يكون المعنى: واطلبوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله، وهو الفرج، دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم، كالدبر وكالفرج حال الحيض والنفاس وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ: كما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام، فقد رخص لهم الأكل والشرب. وحدد نهاية الوقت المبيح، وهو نهاية الليل، وهو طلوع الفجر. والخيط الأبيض هو أول ما يبدو من الفجر المعترض المستطير. والخيط الأسود هو ما يمتد من سواد الليل. شبها بخيطين: أبيض وأسود لامتدادهما. وقوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ: بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره. واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر. قال ابن كثير: (وكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود: فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما. فأنزل الله: مِنَ الْفَجْرِ. فعلموا أنما يعني الليل والنهار) وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ: فيه بيان أن إباحة الأكل والجماع والشرب يستمر حتى يتبين الفجر. فإذا ما تبين دخول الفجر ارتفعت الإباحة. وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب، واستحباب تأخيره. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ: أي ثم استمروا بالكف عن هذه الأشياء إلى دخول الليل. وعلامة ذلك، غروب الشمس. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ: أي وأنتم معتكفون فيها. بين أن الجماع يحل في ليالي رمضان، لكن لغير المعتكف. وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد. وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد. ومن المتفق عليه بين العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في
أحاديث وآثار
مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يمكث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط، أو الأكل، وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه. ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ولا يعود المريض. ولكن يسأل عنه وهو مار في طريقه. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ: أي الأحكام التي ذكرت أحكامه المحدودة. فَلا تَقْرَبُوها: بالمخالفة والتغيير. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ: أي شرائعه. فكما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: أي لعلهم يعرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون، وكيف يجتنبون المحارم. أحاديث وآثار: 1 - أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال: فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس. ثم إن الله عزّ وجل أنزل عليه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها الآية. فوجهه الله إلى مكة. هذا حال. قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون. ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم، ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت، إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران. فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، مثنى حتى فرغ من الأذان. ثم أمهل ساعة، ثم قال مثل الذي قال، غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة- مرتين-. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علمها بلالا فليؤذن بها». فكان بلال أول من أذن بها. قال: وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله. قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنه سبقني. فهذان حالان. قال: وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها. فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى؟ فيقول: واحدة، أو اثنين. فيصليهما. ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها. قال: فثبت معه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد سن لكم معاذ
فهكذا فاصنعوا». فهذه ثلاثة أحوال. وأما أحوال الصيام: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام. وصام عاشوراء. ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عزّ وجل أنزل الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر. وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. فهذان حالان. قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا. فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة. كان يعمل صائما حتى أمسى، فجاء أهله فصلى العشاء ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح. فأصبح فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا. فقال: «ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال: يا رسول الله. إني عملت أمس، فجئت حين جئت، فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائما. قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك. فأنزل الله عزّ وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. 2 - أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». 3 - أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: «لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: عمدت إلى عقالين. أحدهما أسود، والآخر أبيض. قال: فجعلتهما تحت وسادتي قال: فجعلت انظر إليهما. فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت. فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: إن وسادك إذا لعريض. إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل». وجاء في بعض الألفاظ في بعض الروايات: «إنك لعريض القفا». ففسره بعضهم بالبلادة. وهذا تفسير غير مقبول. وإنما معناه كما ورد في بعض الروايات: «إن
فوائد ومسائل
وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأسود والأبيض تحت وسادتك». فمن كان الليل والنهار تحت رأسه ينبغي أن يكون رأسه كبيرا جدا. 4 - في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة». وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور». وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السحور أكلة بركة، فلا تدعوه، ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين». 5 - في الصحيحين عن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: «قدر خمسين آية». وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور». 6 - في الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم». وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر». وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب عبادي إلى، أعجلهم فطرا». فوائد ومسائل: 1 - رأينا أن قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: قد جاء في معرض البيان لحكمة إباحة حل الجماع في ليلة الصوم. وهي رفع الحرج في هذه القضية. فمن خلال السياق عرفنا المراد الرئيسي من النص. وإذا نظرنا إلى النص مجردا رأينا في النص تشبيها بليغا. هذا التشبيه نفهم منه أشياء. فكون المرأة لباسا للرجل، وكون الرجل لباسا للمرأة، يقتضي هذا من كل منهما أن تتوافر فيه شروط اللباس، من كونه ساترا لا يكشف عورة، ومن كونه طاهرا ليس فيه دنس، ومن كونه خاصا بصاحبه، ومن كونه متناسبا مع مكانة الإنسان .. فانظركم في هذا القرآن من معان من خلال النص، ومن خلال السياق الجزئي. ومن خلال السياق الكلي في السورة. وسنرى كذلك أنه من خلال السياق القرآني كله نفهم معاني. وبذلك نجد في هذا القرآن معاني متولدة من بعضها لا تنتهي.
2 - فهم العلماء من قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: أن صوم الوصال منفي. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن صوم الوصال. وهو أن يصل يوما بيوم آخر، أو أكثر. ولا يأكل بينهما شيئا. قالت السيدة عائشة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم. فقالوا: إنك تواصل. قال: «إني لست كهيئتكم. إني يطعمني ربي ويسقيني». وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا. قالوا: يا رسول الله إنك تواصل. قال فإني لست مثلكم. إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. قال: فلم ينتهوا عن الوصال. فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين. ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم». كالمنكل لهم. وثبت أن صوم الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وأنه كان يقوى على ذلك، ويعان. والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي. وصوم الوصال عند الحنفية مكروه تنزيها وقد ذكر ابن كثير تحقيقا لطيفا في موضوع صوم الوصال قال: (وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر، فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا. فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ... » أخرجاه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر. وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة. وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة. والله أعلم. ويحتمل أنهم يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة كما في حديث عائشة «رحمة لهم». فكان ابن الزبير وابنه عامر، ومن سلك سبيلهم، يتجشمون ذلك ويفعلونه، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه. وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر. لئلا تتمزق الأمعاء بالطعام أولا. وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم. وقال أبو العالية: إنما فرض الله الصيام بالنهار. فإذا جاء الليل، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل» 3 - في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام، إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام، أو في آخر شهر الصيام كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، حتى توفاه الله عزّ وجل. ثم اعتكف أزواجه من بعده».
4 - قال الحنفية: (والاعتكاف ثلاثة أقسام. أولا: واجب، وهو الاعتكاف المنذور ثانيا: سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان. وهو سنة كفاية. إذا قام به البعض سقط العتاب عن الباقين. ثالثا: مستحب في غيره من الأزمنة) ويبطل الاعتكاف المنذور بالوطء ولو خارج المسجد. ويبطل بالإنزال بدواعيه عامدا أو ناسيا. ثم المراد بالمباشرة المنهي عنها في الآية للمعتكف ما قاله ابن كثير: «إنما هو الجماع ودواعيه، من تقبيل، ومعانقة، ونحو ذلك. فأما معاطاة الشئ ونحوه فلا بأس به. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلى رأسه فأرجله، وأنا حائض. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان». 5 - قال ابن كثير: ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب أي في قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لمن أراد الصيام. يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل، وليتم صومه، ولا حرج عليه. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفا وخلفا. لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم» وفي حديث أم سلمة عندهما «ثم لا يفطر ولا يقضي». 6 - وقع بعض المؤلفين، وبعض العلماء السابقين في خطأ كبير: إذ أجازوا الأكل بعد طلوع الفجر. إما بفهم خاطئ للتبين في الآية، وإما بحمل بعض الآثار على غير محملها، وإما بسبب عدم النظر الدقيق إلى عامة النصوص، وإما بفهم خاطئ للنصوص. ومهما كان الأمر، فالذي عليه إجماع العلماء خلال العصور المتطاولة هو عدم حل الأكل بعد الفجر. ومن الأسباب التي دعت بعضهم للوقوع في الخطأ ورود لفظ الفجر المستطيل والمستطير في الأفق. فظنوا أن المستطير هو ما بعد الفجر المعروف. والحقيقة أن الفجر المستطيل هو الفجر الكاذب. وهو الذي يكون عادة قبل الفجر المعروف بحوالي خمس عشرة دقيقة، وهو ليس فجرا أصلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفجر فجران. فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا. وإنما المستطير الذي يأخذ الأفق. فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام». قال ابن كثير: وهذا مرسل جيد. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل. ولكنه الفجر المستطير في الأفق». وقد ورد في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعكم أذان بلال من سحوركم، فإنه ينادي بليل. فكلوا
فتاوى
واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم. فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر». فتاوى: 1 - قال النووي في المجموع: إذا سافر المقيم فهل له الفطر في ذلك اليوم؟ له أربعة أحوال: - أن يبدأ السفر في ليل، ويفارق عمران البلد قبل الفجر، فله الفطر بلا خلاف. - ألا يفارق العمران إلا بعد الفجر: مذهب الشافعي المعروف من نصوصه، وبه قال مالك وأبو حنيفة ليس له الفطر في ذلك اليوم. وقال المزني: له الفطر. وهو مذهب أحمد وإسحاق. وهو وجه ضعيف، حكاه أصحابنا عن غير المزني من أصحابنا أيضا. والمذهب الأول ... - أن ينوي الصيام من الليل ثم يسافر، ولا يعلم هل سافر قبل الفجر أو بعده؟ قال الصيمري والماوردي وصاحب البيان وغيرهم: ليس له الفطر لأنه يشك في مبيح الفطر. ولا يباح بالشك. - أن يسافر من بعد الفجر. ولم يكن نوى الصيام. فهذا ليس بصائم لإخلاله بالنية من الليل. فعليه قضاؤه. ويلزمه الإمساك هذا اليوم ... أقول: تصح نية صوم رمضان بعد الفجر إلى ما قبيل منتصف النهار الشرعي في مذهب أبي حنيفة. فمن نوى في هذا الوقت، صح صومه عند أبي حنيفة، والحنيفة لا يجيزون الإفطار يوم السفر لمن لم يتلبس بالسفر قبل الفجر. 2 - يبدأ الصوم بتبين الفجر المستطير، وهو الفجر الصادق الذي يكون بعد الفجر المستطيل- وهو الفجر الكاذب- بخمس عشرة دقيقة. والفجر الصادق هو الذي يمسك عنده الناس الآن، خاصة وقد أصبح للناس ما يستطيعون به التبين بدقة في ثانيته الأولى. قال ابن قدامة في كتابه (المغني) بعد ما ذكر قول الأعمش في جواز الأكل بعد تبين الفجر: (دلنا قول الله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ: يعني بياض النهار من الليل. وهذا يحصل بطلوع الفجر) قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل. فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم». دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح. وأن السحور لا يكون إلا قبل
الفجر. وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده. فشذ ولم يعرج أحد على قوله. والنهار الذي يجب صيامه: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين. 3 - في السفر الذي يصح فيه قصر الصلاة وفطر المسافر استقرت الفتوى في المذاهب الأربعة على أنه السفر الذي هو في حدود (ثمانين كيلو مترا ونصف، ومائة وأربعين مترا). ولا يضر نقصان المسافة عن المقدار المبين بشيء قليل كميل أو ميلين باتفاق الحنفية والحنابلة، أما المالكية فقالوا: إن نقصت المسافة عن القدر المبين بثمانية أميال وقصر الصلاة، صحت صلاته، ولا إعادة عليه على المشهور، ويستثنى من اشتراط المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمحصب إذا خرجوا في موسم الحج للوقوف بعرفة، فإنه يسمح لهم بالقصر في حال ذهابهم. وكذا في حال إيابهم إذا بقي عليهم عمل من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا أتموا. وأما الشافعية فقد قالوا: يضر نقصان المسافة عن القدر المبين. فإذا نقصت ولو بشيء يسير فإن القصر لا يجوز. على أنهم اكتفوا في تقدير المسافة بالظن الراجح. ولم يشترطوا اليقين. هذا ما استقرت عليه فتوى المذاهب الأربعة في شأن السفر المبيح للفطر وللقصر. 4 - والفتوى في المذاهب الأربعة على أن الاستمناء باليد في نهار رمضان مفطر، وصاحبه آثم، وعليه القضاء. 5 - ذكرنا أثناء الشرح تعريفا للمرض الذي يجوز معه الإفطار. وهو يتمشى مع مذهب الحنفية. وننقل هاهنا ما ذكره القرطبي لتعرف الاتجاهات الفقهية في هذا الشأن: قال القرطبي: للمريض حالتان: إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال. فعليه الفطر واجبا. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة. فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف تزايده، صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك، وبه يناظرون. وأما لفظ مالك: فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به.
فصل في الصوم عند الأمم
وقال ابن خويزمنداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر. فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه، والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه. وهو مقتضى الظاهر. لأنه لم يخص مرضا من مرض. فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع، والحمى، والمرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما، أفطر. وقال النخعي: وقالت فرقة لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى. قلت (القائل القرطبي): قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان. فعادني إسحاق ابن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان. كما قال الله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً. قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم، إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا، أو حماه شدة، أفطر. فصل في الصوم عند الأمم: رأينا أن الله عزّ وجل قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. فالصوم شريعة الله عزّ وجل لكل الأمم في الماضي. لأن كل الأمم قد أرسل لها رسل عليهم الصلاة والسلام ولكن الأمم حرفت، وبدلت، ونسيت وتناست. فأرسل الله عزّ وجل محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الذي فيه كل الكتب، والذي صحح الإرث كله لمن عقل. ومما يدلنا على أن الله أرسل رسلا لكل الأمم قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ثم إنك تجد في إرث كل أمة بقايا، أو شذرات، تدلك على الوحي. من ذلك أنك تجد بقايا فكرة الصوم موجودة في الديانات القديمة المشهورة. وقد عقد الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه (الأركان الأربعة) فصلا عن الصوم في الديانات القديمة، استقاه من كتاب (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) لسليمان الندوي، الذي استقاه من دائرة المعارف البريطانية. وعقد فصلا عن الصوم عند اليهود، استقاه من دائرة المعارف اليهودية. وعقد فصلا عن الصوم عند النصارى، استقاه من دائرة معارف الأديان والأخلاق. وهذه هي الفصول الثلاثة:
الصوم في الديانات القديمة
الصوم في الديانات القديمة: « .. لذلك اشتملت جميع الأديان، والشرائع المعروفة في التاريخ على الصوم، وطالبت به جميع من كان يدين بها. فمن أقدم الديانات التي لا يزال عدد كبير من الناس يدين بها، الديانة الهندية البرهمية. ويحدث عنها الأستاذ T.M.P.Mahadevan رئيس قسم الفلسفة في جامعة مدارس الهند، وهو يشرح الصوم ومكانته في الشريعة الهندوكية، والمجتمع الهندي: ومن الأعياد، والأيام المحتفل بها في السنة، ما خصصت للصوم الذي تقصد به تزكية النفس. إن كل طائفة من الطوائف الهندكية تخصص لنفسها أياما تقضيها في الدعاء والعبادة، ويصومها أكثر أفرادها كذلك. فيكفون عن الطعام، ويسهرون الليل كله، ويبيتون يتلون الكتب المقدسة، ويراقبون الله. ومن أعم هذا الصيام، وأكثرها انتشارا في الطوائف المختلفة (ويكنته إيكاوشى) الذي ينسب إلى (وشنو) فلا يصوم ذلك اليوم أتباع (وشنو) فحسب، بل يصومه أكثر الناس. فيصومون نهاره ويسهرون ليله. ومن الأيام ما يصومها النساء فقط، ويدعون الإلهة (مظهر صفات الله النسوية) في مختلف مظاهرها. وتسمى هذه الأيام لأهميتها الخاصة ب (برت)، أو العهد. وقد خصصت لتزكية الروح. وغايتها تغذية الروح بالغذاء الروحاني. ولا يزال البراهمة يصومون في اليوم الحادي عشر، من كل شهر هندي. وهكذا يبلغ عدد الأيام التي تصام عند البراهمة (24) يوما في كل سنة، إذا حافظوا عليها وتقيدوا بها. وقد قامت الديانة الجينية في الهند بالتشدد في شرائط الصوم وأحكامه. فأتباعها يواصلون أربعين يوما بالصوم. ... ويظهر الصوم عند المصريين القدماء بجوار أعيادهم الدينية. وكان صوم اليوم الثالث من شهر (تهسمو فيريا) اليوناني خاصا بالنساء عند اليونان. ولا تخلو الصحف المجوسية عن الأمر بالصوم، والحث عليه، ولو لطبقة خاصة. وتدل كلمة وردت في بعض كتبهم المقدسة على أن صوم خمسة أعوام كان فريضة على الرؤساء الدينيين. الصوم عند اليهود: أما اليهود، فقد كان الصوم يعتبر رمزا للحداد والحزن عندهم في العهد البابلي.
وكان يلجأ إليه، إذا هدد خطر، أو إذا كان كاهن أو (ملهم) يعد نفسه لإلهام، أو (نبوة)، وكان اليهود يصومون مؤقتا إذا اعتقدوا أن الله ساخط عليهم، غير راض عنهم. أو إذا حلت بالبلاد نكبة عظيمة، أو خطب كبير أو إذا أصيبت البلاد بوباء فاتك، أو بجدب عام، وفي بعض الأحيان، عند ما يعزم الملوك على مشروع جديد. أيام الصيام المحددة الدائمة، قديمة، ومحدودة في التقويم اليهودي، علاوة على يوم الكفارة: يوم الصوم المقرر الوحيد في الديانة الموسوية. وكانت هنالك أيام معينة للصوم الدائم، وهي ذكرى حوادث أليمة، وقعت لليهود في أيام الأسر في (بابل)، وهي تقع في الشهر العاشر (تبت، (tebet) (ويرى بعض ربيي (التلمود) أن صيام هذه الأيام إجباري، عند ما يعيش الشعب الإسرائيلي تحت قسوة الحكومات الأجنبية، وفي اضطهاد. ولا تلزم عند ما يتمتع الإسرائيليون بأمن ورخاء. وزيدت إلى أيام الصيام هذه أيام أخرى، تصام تذكارا لكوارث ومآسي، نزلت باليهود وأضيفت إلى الأولى على مر الأيام. وهي لا تعتبر إلزامية، ولم تنل الحظوة الكافية عند الجمهور. ومع اختلاف يسير يبلغ عددها إلى خمسة وعشرين يوما. وهنالك أيام صيام شعبية، محلية، تختلف باختلاف الأقاليم والمناطق التي يسكنها اليهود منذ زمن بعيد. وهي تذكار كذلك لكوارث وخطوب، أصيبت بها هذه الشعوب في أوقات مختلفة، واضطهاد، وقسوة تعرضوا لها من بعض الحكومات، وأيام صيام تصومها بعض الطبقات دون بعض في ذكرى وقائع ومحن في تاريخ اليهود، وفي ذكرى مآتم وأفراح في حياتهم الشخصية. وصوم أول يوم من السنة شائع في كثير من الطبقات. وهنالك أيام صيام تشرع، ويأمر بها الربيون، إذا تعرض الشعب لخطر، أو تأخر المطر، أو أصيبت البلاد بالمجاعة، أو صدرت مراسيم قاسية، أو قوانين غليظة. وأيام الصيام الشخصية المختارة، التي يفضلها بعض الأفراد دون بعض، شائعة في تاريخ اليهود منذ زمن مبكر. وهي أيام صوم تذكارية لبعض الحوادث الفردية، أو ككفارة عن بعض المعاصي والآثام، أو لجلب رحمة الله وعفوه عند خطر داهم، أو بلاء نازل. وصوم تلك الأيام لا يشجعها الربيون، ولا يوافقون عليها إذا كان الصائم رجلا علميا، أو أستاذا معلما، حتى لا يشوش ذلك خاطره، أو يضعف صحته. وهنالك صوم يصام على إثر رؤية مفزعة. ولما كانت الشريعة اليهودية لا تسمح بالصوم في أيام الأعياد، (فالتلمود) يبيح هذا الصوم في هذه الأيام، بشرط أن يكفر عنه بصوم آخر في أيام عادية ..
الصوم عند المسيحيين
والصوم عند اليهود يبتدئ من الشروق عند ظهور أول نجوم الليل، إلا صوم يوم الكفارة، واليوم التاسع من شهر (آب) فإنه يستمر من المساء إلى المساء وليس هنالك أحكام وتقاليد للصيام العادية. وقد رغب في الصدقة وإطعام المساكين، وخصوصا توزيع العشاء المعتاد التقليدي. إن الأيام التسعة الأولى من شهر (آب) وبعض أيام بين اليوم السابع عشر من شهر (تموز) وبين اليوم العاشر من شهر (آب) تعتبر أيام صوم جزئي فيحرم فيها تناول اللحوم، وتعاطي الخمور فقط. الصوم عند المسيحيين: أما الصوم عند المسيحيين فيطول شرحه وتفصيله، لأن الديانة المسيحية هي أقل الديانات تشريعا فقهيا. وأحكامها كلية، تشمل أدوار التاريخ، والمجتمعات المسيحية، والطوائف الدينية كلها، وأكثرها تطورا مع الزمن والعوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية أحيانا. ولذلك يصعب أن يطلق عليها اسم شريعة إلهية. وقد حاولنا أن نقدم صورة موجزة عن الصوم عند المسيحيين، وما مر به من أدوار، وأطوار. المسيح صام أربعين يوما قبل أن يبدأ رسالته، ومن المرجح أنه كان يصوم يوم الكفارة، الذي كان الصوم المفروض في الشريعة الموسوية. ككل يهودي مخلص إنه لم يشرع أحكاما للصوم، إنه خلف المبادئ، وترك كنيسة تقنن قوانين لتطبيقها، وليس لأحد أن يزعم أنه أصدر قوانين عن الصوم رأسا. إننا نقرأ في المصادر المسيحية حديثا عن صوم (بولس) والمسيحيين الأولين، إن المسيحيين الذين كانوا من السلالة الإسرائيلية، ظلوا يصومون يوم الكفارة. وينوه به الراهب ليوك، LuKe كيوم يحتفل به. ولكن المسيحيين الذين ينتمون إلى أصول أخرى، لم يلحوا على ذلك. وبانتهاء القرن المسيحي الأول، ونصف قرن بعد وفاة القديس (بولس) نواجه رغبة ملحة في تقنين القوانين للصوم. وقد كان ذلك موكولا إلى تقوى الصائم. نرى الرهبان، وبعض رجال الكنيسة يقترحون صياما ليقاوم به المسيحيون الإغراءات (المادية والجنسية). وكان يسود في ذلك العصر شعور بالواجب، وتحذير عن أن يظل الصوم عملا خارجيا لا يؤثر في نفس الصائم. ويتحدث القديس (إيرينيس) عن أنواع من الصيام، منها ما يستغرق اليوم. ومنها ما يستغرق يومين، أو بضعة أيام. ومنها ما يستغرق أربعين ساعة
متوالية. وقد استمر هذا الوضع مدة طويلة. وكان صوم (جمعة الآلام، أو الصلبوت) صوما شعبيا عاما. وكان صوم يوم الأربعاء، ويوم الجمعة في كل أسبوع شائعا في بعض الأقطار في القرن الثاني المسيحي. وكان الذين ينتظرون الاصطباغ (التعميد)، يصومون يوما أو يومين. وكان يشترك فيه الذين يأخذون الاصطباغ والذي يتولى ذلك. وهنالك خلافات جزئية في مناهج الصوم، وأحكامه في الطوائف المسيحية. وقد نال الصوم قسطا كبيرا من التنظيم، والتقنين في فترة بين القرن الثاني، والقرن الخامس المسيحيين. فقد أصدرت الكنيسة قائمة أحكام وتوجيهات عن الموضوع. وقد اتسم الصوم بصلابة وشدة في القرن الرابع، فقد انتقل من طور الرقة والتوسع والمرونة، إلى طور الصلابة، والغلظة، والتدقيق. وقد حدد اليومان اللذان يسبقان (عيد الفصح) بالصوم في هذا العصر. وكان الصوم في هذين اليومين ينتهي في نصف الليل. والمرضى الذين لا يستطيعون أن يصوموا في هذين اليومين، كان يسمح لهم أن يصوموا يوم (السبت). وقد سجلت في تاريخ المسيحية، والمسيحيين في القرن الثالث أيام الصوم، وكان هنالك اختلاف في نهاية الصوم. فكان بعضهم ينهي ويفطر عند صوت الديك. وبعضهم إذا أرخى الليل سدوله. أما صوم أربعين يوما، فلا يوجد له أثر إلى القرن الرابع الميلادي. وكانت هنالك عادات وأوضاع للصوم تختلف باختلاف البلاد التي يسكنها المسيحيون. فكان في (روما) صيام يختلف عن الصيام في (لانان) و (الإسكندرية). وكان بعضهم يمسك عن تناول الحيوانات، خلافا لغيره. وبعضهم يجتزئ بالسمك والطيور، وبعضهم يضرب عن البيض والفواكه، وبعضهم يجتزئ بالخبز اليابس، وبعضهم يكف عن كل ذلك، وبتاريخ المسيحية، أنواع من الصوم يطول عدها، منها ما كان يستغرق ثلاث ساعات، وأربعا، يمسك فيها الصائم عن الأكل والشرب. وقد حددت أيام مختلفة في القرون الوسطى للصوم في العالم المسيحي، تطورت مع تقدم الزمن، وهي تختلف باختلاف الأقاليم والبلاد، التي تحكم عليها الكنيسة المسيحية. وبعد الإصلاح، حددت الكنيسة الإنجليزية أيام الصوم. ولم تقنن قوانين وحدودا للصائمين. تاركة ذلك لضمير الفرد، وشعوره بالمسئولية. ولكن قوانين البرلمان الإنجليزي في عهد (إدوارد السادس) و (جيمس الأول) و (مرسوم اليزابيت): فرض الإمساك عن اللحوم في أيام الصوم، وبرر ذلك بقوله: (إن صيد السمك،
كلمة في السياق
والتجارة البحرية، يجب أن تشجع وتربح). ا. هـ. من كتاب الأركان الأربعة لأبي الحسن الندوي من ص 187 - 193 أقول: هذا عرض للموجود من الصوم حسب روايات أهل النحل نفسها. وهي بمجموعها، لا يصلح أن نعتمد عليها في ورد أو صدر، لأن كل الشواهد تدل على ضياع الأصول والحقيقة، إما بتعمد من عصبية، أو بسبب من أوضاع تاريخية. ولكن هذا يدلنا بشكل عام على وحي قد نزل على الأمم هذه بقاياه. والإسلام جاء ليدل الإنسان على الطريق المستقيم. كلمة في السياق: مرت معنا الفقرة الأولى من المقطع الثالث من القسم الثاني في سورة البقرة. وهي فقرة الصوم. وهي الفقرة الوحيدة في هذا المقطع، المبدوءة بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. مما يشير إلى استمرارية التوجيهات وصلتها بالفقرة الأولى. من حيث تأثيرات عبادة الصوم على مجموع التكاليف، والتكليف الأول الذي يأتي بعد آيات الصوم هو ما تضمنته الفقرة الثانية من تحريم أكل أموال الناس بالباطل، ومن تحريم الرشوة. وهو التوجيه الأول بعد آيات الصيام التي دلت على أكثر من طريق يحقق بالتقوى: الصوم، وتبيان الآيات. وهذا يشير إلى أن مظهر التقوى الأول، استقامة الإنسان على أمر الله في موضوع حقوق الناس، وفي موضوع الأموال. والملاحظ أن بداية هذا القسم كانت: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وقد جاء في هذا المقطع كلام عن الصوم الذي يساعد على تربية النفس، ثم نهي عما هو من قبيل الحرام واتباع خطوات الشيطان فلننتقل إلى عرض الفقرة الثانية من المقطع الثالث من القسم الثاني من سورة البقرة. الفقرة الثانية: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) المعنى الحرفي للآية: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ: أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه
فوائد
الذي لم يبحه الله ولم يشرعه من مثل السرقة، والغضب، وغير ذلك. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لها تفسيران، الأول: لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام. كأن يكون على رجل مال وليس عليه بينة. فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم، آكل حرام. يخاصم وهو يعلم أنه ظالم. والتفسير الثاني: وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ: أي لتأكلوا بواسطة التحاكم طائفة من أموال الناس بِالْإِثْمِ: أي بطريق الإثم. إما بشهادة الزور، أو بالأيمان الكاذبة، أو بالصلح مع العلم بأن المقضي له ظلم. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: أنكم على الباطل. وارتكاب المعصية مع العلم أقبح، وصاحبها بالتوبيخ أحق. فوائد: 1 - الحاكم لا يكون آثما إذا قضى حسب الظاهر. ولم يكن مرتشيا. والإثم في هذه الحالة على المبطل. ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنما أنا بشر. وإنما يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها». قال ابن كثير: «فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشئ في نفس الأمر فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام. ولا يحرم حلالا هو حلال. وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الأمر فذاك. وإلا فللحاكم أجره، وعلى المحتال وزره». 2 - عند قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قال القرطبي: (الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه. كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان الخمور، والخنازير، وغير ذلك). وقال قوم: المراد بالآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي في الملاهي، والقيان، والشرب، والبطالة. فيجئ على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين. 3 - في الآية نهيان: إذ وَتُدْلُوا بِها معطوفة على وَلا تَأْكُلُوا. فهي
الفقرة الثالثة
مجزومة. النهي الأول: عن أكل الأموال بالباطل. والنهي الثاني: عن أكل الأموال بالباطل عن طريق الحكام. إما باستغلال ظاهر، أو برشوة قاض. وكل ذلك حرام. ولا تظهر التقوى بشيء كما تظهر بالتورع عن أكل الحرام. لأن النفس بطبيعتها تحب المال كثيرا. فإذا خالف الإنسان هواه في ذات الله، فذلك علامة التقوى. الفقرة الثالثة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) أسباب النزول: 1 - قال معاذ بن جبل: يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ. ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس. فنزل: يَسْئَلُونَكَ. 2 - عن جابر قال: «كانت قريش تدعي الحمس. وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام. وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ... ». وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا منازلهم من ظهورها. ويرون أن ذلك أدنى إلى البر. فقال الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا .... وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من بابه. ولكن يتسوره من قبل ظهره. فقال الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ .... المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ: عن أسباب انتقالها من حال إلى حال. وهذه قضية
المعنى العام
كونية، تعرف من خلال دراسة الكون العلمية. والدين لم يأت ليعلم الناس قوانين الظواهر الكونية. بل ليعلم الناس عقائدهم وعبادتهم، ومناهج حياتهم .. ولذلك كان الجواب بما ينسجم مع طبيعة الرسالة، ومهمة الرسول، وتعليم القرآن. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ: أي هي معالم. يؤقت بها الناس صومهم، وعدة نسائهم، وأيام حيضهن، ومدة حملهن، ومحال ديونهم، وغير ذلك. كما أنها معالم للحج، يعرف بها وقته. وربط العبادات الإسلامية بمظاهر كونية كالشمس والقمر أدعى إلى المعرفة السهلة وأبعد عن التلاعب من أي مصدر كان وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أي وليس البر بتحرجكم من دخول الباب في بعض أحوالكم، إذ هذه قضية غير معقولة المعنى، وأعمال البر كلها معقولة المعنى. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى: ما حرم الله. فهل حرم الله عليكم دخول البيوت من أبوابها. فإذا لم يفعل فليس ما تفعلونه برا. وهذه هنا من تمام تصفية التصرفات كلها حتى تكون أثرا عن اتباع كتاب الله وهداه. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها: معناها ظاهر. ولكنها في سياقها تفيد ما قاله النسفي أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا. وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما أمركم به، ونهاكم عنه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: أي لتفوزوا في أمر دنياكم وأخراكم. المعنى العام: في الآية موضوعان: موضوع الأهلة. وموضوع دخول البيوت من أبوابها. والصلة بينهما من وجهين رئيسيين: أولا: لما سألوا عن الأهلة كان الجواب كأنه ما يلي: معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا لحكمة. فدعوا السؤال عن السبب. وانظروا في الحكمة، ثم انظروا فيما هو أليق بكم كهذه الخصلة التي تفعلونها مما ليس من البر في شئ، وأنتم تحسبونها برا. ثانيا: لقد سألتم عن أسباب انتقال القمر من حال إلى حال. ولم ينزل الدين من أجل هذا. إذ سبيل هذا العلم بظواهر الكون من خلال التأمل والتجربة ومعرفة الأسباب. ففعلكم هذا يشبه إتيانكم البيوت من ظهورها. فكما أنكم أخطأتم هذا الموضوع بتصوركم. فقد أخطأتم في سؤالكم. وكما أن الصواب أن تأتوا البيوت من أبوابها، فكذلك الصواب فى هذا الموضوع أن تأتوا الأمور من وجوهها فتتعرفوا على ظواهر هذا الكون.
فوائد
فالتقوى في هذا الموضوع ذات شقين: أن تعرفوا حكمة الأشياء. وهذا سبيله الدين. وأن تعرفوا حقيقة الأشياء الحسية عن طريق ذلك. ووجهه وبابه الدراسة والتأمل والعلم الكوني. فوائد: 1 - أفادت الآية أن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب. فعلينا الاعتقاد بذلك من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك. 2 - أخرج الحاكم في مستدركه وصححه قوله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس. فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما». 3 - بمناسبة قوله تعالى عن الأهلة: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب، أو إلى أيام معروفة العدد، أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس، أو إلى العطاء وشبه ذلك. فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف. وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة: ذلك غير جائز، لأن الله تعالى وقت المواقيت، وجعلها علما لآجالهم في بيعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها قال القرطبي: في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة، ولا ندب إليه، لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويزمنداد: (إذا أشكل ما هو بر وقربة، بما ليس هو بر ولا قربة أن ينظر في ذلك العمل. فإن كان له نظير في الفرائض والسنن، فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم في
محل الآية في السياق العام
الشمس. فسأل عنه فقالوا: هو أبو إسرائيل. نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه». فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته. وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن). محل الآية في السياق العام: رأينا أن السياق العام كله إما في شرح التقوى، أو في بيان الطرق المؤدية إليها، أو في تبيان آثارها. وهذه الآية تصحح مفهومين خاطئين، يمكن أن يقع فيهما الناس. والتقوى خلافهما: المفهوم الأول: الخلط بين معرفة الحكمة، ومعرفة القانون الكوني. والخلط بين مهمة الدين، ومهمة العلم التجريبي والتأملي. فجاءت الآية لتبين أن معرفة الحكمة من خلق الأشياء جزء من الدين. وأما معرفة الأشياء الحسية، فطريقها شئ آخر. فالدين يبين الحكمة والحكم. وقد أعطاك الله أيها الإنسان ما تستطيع به أن تعرف الأشياء، وتسخرها. فاسلك لذلك طريقه ضمن هداية الله إياك، وتوجيهه، وتنفيذ أوامره. المفهوم الثاني: التصرف المعقد غير المعقول المعنى. يظنه بعض الناس دينا. والدين ما نص عليه الشارع، وما كلف به الإنسان، لا ما اخترعه لنفسه، سواء شدد على نفسه به أو رخص. فالآية في محلها إذن تصفية لقضية التقوى من التطلعات الخاطئة، أو التصرفات الغالية. فائدة في صلة هذه الآية بما بعدها من المقطع: قال صاحب الظلال: والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة، وأنها مواقيت للناس والحج، والحديث عن القتال في الأشهر الحرم، وعن المسجد الحرام، والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما. كلمة في السياق: تأتى الآن فقرة تتحدث عن القتال، والإنفاق. وتأخذ هذه الفقرة محلها في تصحيح
"مقدمة في القتال"
التصورات عن التقوى. فكما حدث قديما فسيحدث في هذه الأمة تصورات خاطئة عن التقوى. ومن نظر إلى مفاهيم الناس عن التقوى في عصرنا، أدرك بعض أسرار هذا السياق فما أكثر الذين يفهمون أن التقوى لا صلة لها بقتال، أو إنفاق، أو علم، أو جمع مال. ومن ثم فمجيء آيات القتال والإنفاق في سياق بناء التقوى. تقوى الأفراد والمجتمع واضح الملامح. لاحظ الآن أن الأمر: وَقاتِلُوا. وبعده الأمر: وَأَنْفِقُوا وبعده الأمر وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ومن قبل وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها. ومن قبل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. هذه الأوامر والنواهي جاءت بعد ثلاث مرات ذكرت فيها الكلمة: كُتِبَ.* ومن بعد ثلاث مرات ذكرت فيها قضية التقوى كهدف: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.* مما يشير إلى أن الأوامر والنواهي في هذا السياق لها صلة ببناء التقوى. تقوى الفرد وتقوى الأمة. والملاحظ أنه يأتي هاهنا أمر بالقتال. وفي القسم الثالث فيما بعد ستذكر فريضة القتال. فما السر في ذلك؟. السر أن هذه آتية في سياق. وتلك في سياق. فتلك آتية في سياق إقامة الإسلام كله. فالإسلام لا يقوم بلا جهاد لتكون كلمة الله هي العليا، سواء قاتلنا الناس أو لم يقاتلونا. أما هذه فآتية في سياق بناء التقوى. فلا تقوى لأحد بلا جهاد وإنفاق. ثم هذه خصت من يقاتلوننا بالذكر. فالأمر هنا لتحقيق فريضة عينية. وهناك لتحقيق فريضة كفائية. وليس الأمر كما فهمه بعضهم من أن القتال المشروع في الإسلام هو القتال الدفاعي. بل هو أحد أنواع القتال المفروضة. «مقدمة في القتال» كثيرون من الناس لا يفهمون النصوص، ولا يمتلكون القدرة على فهمها. فتراهم يفهمون النصوص فهما مبتسرا، أو فهما خاطئا، فيعطلون العمل بنص غير منسوخ ويفهمون نصا آخر فهما غير صحيح. ومن أكثر ما حدث في هذا الشأن، ما حدث في فهم آيات القتال، وآيات السلام. فمثلا هناك قتال مفروض فرض عين، وقتال مفروض فرض كفاية. وهناك حالات يجوز فيها السلام والعهد. وحالات لا يجوز. ويأتي أصحاب الفهوم الخاطئة ليلغوا
الفقرة الرابعة
القتال المفروض فرض كفاية بحجة الآيات التي تذكر القتال المفروض فرض عين. ويحملون الآيات التي تجيز السلام على حالات لا يجوز فيها السلام. فالقتال ابتداء من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا فرض كفاية. والقتال إذا هو جمنا فرض عين. ثم إنه حيثما كنا قادرين على قهر خصمنا، فلا نقبل منه إلا الحرب أو الجزية، أو الإسلام. فإذا تساوت القوتان، جاز السلام، فإذا رجحت قوتهم جاز السلام كذلك على أن تكون النظرات التي تحكمنا نظرات إسلامية، وسنرى ذلك كله تفصيلا وإنما ذكرنا ذلك لأن الآيات التي بين أيدينا تحدثنا عما ينبغي فعله- إذا قوتلنا من قتال وسهر ومتابعة للعدو حتى نخرجه من حيث أخرجنا، وأن ننهي شوكته ليكون السلطان لله. وأنه يحق لنا أن نستعمل مع خصمنا الوسائل التي يستعملها معنا. فإن اعتدى بضرب القنابل على المدن الآمنة، كان لنا أن نفعل ذلك معه، هذا مع تبيان الأحكام الخاصة في القتال في الحرم والأشهر الحرام. والآيات تبين أنه حيث أخذت أرضنا فلا قرار. وحيث قوتلنا فمرحبا بالقتال. فالآيات هنا إذن تبين وضعا من الأوضاع التي يمكن أن يواجهها المسلمون. وتبين لهم كيف ينبغي أن يواجهوها. وهناك آيات أخرى تبين أوضاعا أخرى. ومهمة طالب العلم أن يحمل كل نص على الحالة التي ينطبق عليه النص. فلنر الفقرة الرابعة على ضوء المقدمة. الفقرة الرابعة [سورة البقرة (2): الآيات 190 الى 195] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: بين الكلام عن القتال والإنفاق صلة. لاحتياج القتال إلى مال. وقد جاءت آية الإنفاق بين آيات القتال، وآيات الحج. والحج نوع جهاد، ويحتاج إلى مال. وقد جاءت آيات القتال، وآية الإنفاق لتصفي قضية التقوى من التصورات الخاطئة- كما فعلت الآية السابقة على هذه الفقرة- ولتعطي المسلم التصورات الصحيحة عن التقوى، ولتوجهه إلى التقوى في كل حال. في سلمه وحربه. إن هناك تصورات كثيرة خاطئة تصححها هذه الآيات. منها: أن يظن الإنسان أن من التقوى ألا يقاتل، وألا يقدم إلا السلام للآخرين في كل حال. ومنها: أن يظن الإنسان أن التقوى لا يرافقها غلبة، ولا نصر، ولا ظهور. ومنها: أن يركن الإنسان إلى السلام، والعمل، والأمن، والحين حين جهاد. إن آيات هذه الفقرة جاءت لتصحيح ذلك كله، وتصحيح غيره. كما أنها تعطينا بيانا وهداية في شئون كثيرة. المعنى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ: أي قاتلوا الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ، والصبيان، والرهبان، والنساء، وليكن قتالكم في سبيل الله، لا في سبيل غيره. ومن سبيل الله في القتال، أن يكون القتال لتكون كلمة الله هي العليا فقط. وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: أي لا تعتدوا في قتالكم، بارتكاب ما نهيتم عنه في القتال، من المثلة، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ، الذين لا رأي لهم، ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب
أحاديث
الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة، والغلول. فكل ذلك تجاوز لأمر الله في القتال، واعتداء. والله لا يحب المعتدين، الذين يتجاوزون حدوده. هذا الاتجاه في تفسير الآية هو الذي رجحه ابن كثير، ورد الاتجاه الذي يقول إن هذه الآية منسوخة. ذكر ابن كثير: (عن أبي العالية في قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ: قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة. فلما نزلت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله. ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، حتى قال- أي الرازي- هذه منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. (سورة التوبة) وفي هذا نظر. لأن قوله تعالى: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ: إنما هو تهييج، وإغراء بالأعداء الذين همهم قتال الإسلام وأهله. أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم). ثم استشهد ابن كثير بالآية التالية للآية الأولى على صحة ما ذهب إليه بعدم النسخ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ. فهي تشبه الآية التي قيل عنها إنها ناسخة، وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. يبقى أن يقال: إن هذه الآية قد يفهم منها معنى زائد على آية براءة. وهو أن الذين يناجزوننا القتال، يقدم قتالهم على غير المناجزين، مع حل قتال الجميع وإذ يقاتل المسلمون الكفرة غير المعاهدين، فلا اعتداء. والآية على هذا الفهم فيها أمر بقتال كل كافر غير معاهد. لأن كل كافر إنما هو مقاتل لنا إن استطاع. وعلى كل فإن قتال من يقاتلنا فريضة والآية نص في ذلك وهي ليست منسوخة. أحاديث: 1 - روى الإمام مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع». 2 - في الصحيحين عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة. فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان». 3 - قال صلى الله عليه وسلم: «إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة. قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم. فعمدوا إلى عدوهم، فاستعملوهم، وسلطوهم
[سورة البقرة (2): آية 191]
فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة» رواه الإمام أحمد. قال ابن كثير: هذا حديث حسن الإسناد. ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتدوا عليهم، واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء. اه. كلام ابن كثير. لكني أفهم من الحديث أن الكافر إذا ظهرت عليه فلا تسلمه مقاليد الأمور، ولا تستعمله على المسلمين. فإذا فعلت فإنك تستحق سخط الله. وهاهنا أسئلة: إذا كان الراهب، أو المرأة، أو الشيخ، أو الصبي يشارك في المعركة برأيه، أو بفعله، فما حكم قتله؟ الفتوى على جواز القتل. بعض العمليات الفدائية المعاصرة قد يقتل فيها النساء، والشيوخ والأطفال تبعا بسبب أنها تكون عن طريق التسلل والخفاء، لعدم التكافؤ بين المسلمين وعدوهم. فما حكم ذلك؟. الفتوى على الجواز إذا تعين ذلك طريقا للصراع مع الكفر وأهله. في الحرب الحديثة نرمي العدو من بعد. فنرمي مدنه، ومستعمراته، وقراه. فما حكم ذلك؟. الفتوى على الجواز إن كان هو يفعل بنا ذلك أو يستحله ويعمل له. وهناك أسئلة كثيرة أخرى يمكن أن تثار بمناسبة الحديث عن القتال في عصرنا. وأدبنا في هذا التفسير ألا نستقصي المسائل حرصا على الاختصار. ولأن هذا التفسير جزء من سلسلة الأساس في المنهج التي منها (الأساس في السنة وفقهها) وهناك معنا أجوبة على الكثير من المسائل. فللتنويه بذلك أشرنا هذه الإشارة. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ: أي حيث وجدتموهم. والثقف: الوجود على وجه الأخذ والغلبة. وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ: أخرجوكم من مكة، فأخرجوهم منها. وأخرج اليهود فى عصرنا المسلمين من فلسطين. فليخرجوهم منها. قال ابن كثير: (أي لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما همتهم منبعثة على قتالكم. وعلى إخراجهم من بلادكم التي أخرجوكم منها قصاصا). يفهم من هذا أن المسلم لا يستكين. فإذا أراد عدو الله أن يؤذيه، أو أراد به شرا من أجل أن يميت فيه روح الإسلام فإنه يقابل ذلك بما يكافئه. ولما كان ما أمر الله به في هذه الآية فيه إزهاق النفوس، وقتل الرجال. نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه
[سورة البقرة (2): آية 192]
من الكفر بالله والشرك به، والصد عن سبيله والعمل على تكفير أهل الإيمان وفتنتهم عن دينهم أبلغ وأشد، وأعظم، وأطم من القتل. فمن استعظم أن يقتل أعداء الله الذين يكفرون المسلمين وذراريهم فإنه لم يعرف دين الله. لذلك قال تعالى بعد ما تقدم: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: أي وإقامتهم على شركهم وكفرهم، وإنزالهم المحنة والبلاء بأهل الإيمان لإيمانهم، أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ: أي لا تبدءوا بقتالهم في الحرم حتى يبدءوا. وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن المسجد الحرام يقع على الحرم كله. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ: فإن بدءوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم، وقتلهم. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ: القتل. نفهم من ذلك أن الكفر جريمة. بل هو أعظم الجرائم على الإطلاق. ومن ثم جاز لنا أن نقاتل الكافرين ابتداء لارتكابهم أكبر جريمة على الإطلاق، وهي الكفر. كما جاز لنا قتلهم ابتداء إلا أن يسلموا، أو يخضعوا بدفع الجزية، إلا وثنيي العرب. فإنهم لا يقبل منهم إلا الإسلام، أو القتل. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أي فإن انتهوا عن الشرك والقتال، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله تعالى. فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، إلا ما استثناه من الشرك. فهو غفور لما سلف من طغيانهم، رحيم بقبول توبتهم وإيمانهم. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ: أي شرك وكفر غالبان، ظاهران، عاليان. بحيث يقدران على فتنة المسلم عن دينه. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان. فبالله هل نحن مسلمون حقا، والكفر والشرك، والفتنة هم الأعلون. والإسلام وأهله هم الأضعفون. ولا قتال، ولا جهاد؟. فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قال عكرمة وقتادة: الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله. فصار معنى الآية: فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين. ولم يبقوا ظالمين بعد أن أسلموا. سمى جزاء الظالمين عدوانا للمشاكلة، من باب فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. وفي قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أكبر رد على من فهم أن قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا في أول هذه الآيات أن المراد بها تبدءوا غيركم بالقتال. ثم فهم الآيات كلها بأن المراد منها، القتال الدفاعي فقط.
فائدة
في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله». وهذا في مشركي العرب خاصة. أما غير مشركي العرب، فالقتال، أو الإسلام، أو الجزية كما سنرى في محله. ولا شك أن المراد بالسياق من خلال أسباب النزول قريش أولا ولكن كما هو معلوم فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فائدة: من تطبيقاته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ما حدث يوم الحديبية، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقاتل ولم ينو القتال حتى بلغه إشاعة مقتل عثمان، فعندئذ بايع أصحابه على القتال تحت الشجرة، خاصة بعد أن اتضح تألب قريش، ومن والاهم على قتاله. ثم تم صلح الحديبية. وتبين أن عثمان لم يقتل ولم يكن قتال. حديث: جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. ولم يحل إلا ساعة من نهار. وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم». فمن فهم هذا الحديث، وعرف أن المشركين هم الذين بدءوا بالقتال في المسجد الحرام إذ قتلوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني خزاعة. عرف كيف يطبق هذه الآيات على الوضع الخاص في زمنه صلى الله عليه وسلم. وكيف يجمع بين قوله تعالى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وبين وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ. فالحرم له أحكامه الخاصة ولرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصياته. والأمر: أَخْرِجُوهُمْ عام. ويدخل فيه الحرم بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام استثني منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ: أراد المشركون القتال قبيل صلح الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو العقدة. ثم تم الصلح. وكان من جملة بنوده، أن يرجع المسلمون عامهم ذاك ويعتمروا في عام لاحق. فلما خرج المسلمون لعمرة القضاء. وكان ذلك في ذى القعدة أيضا. وقريش هي قريش. أنزل الله هذه الآية مبينا فيها أن
فوائد
هذا الشهر بذلك الشهر وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: أي وهتكه بهتكه. يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم إذ كل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك حرمة، أي حرمة كانت، اقتص منه بأن تهتك له حرمة. فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك. ولا تبالوا. وهذا كله مع الالتزام بالعهود، والوعود، والاستقامة على أمر الله. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. أي فعاقبوه بعقوبة مماثلة لعدوانه، بعدوان مثل عدوانه. وَاتَّقُوا اللَّهَ: في كل حال. وفي حال كونكم منتصرين على من اعتدى عليكم. فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: بالنصر، والتأييد في الدنيا والآخرة. فوائد: 1 - اتجه بعضهم إلى أن قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ نزل بمكة. وأنه منسوخ بآية القتال. وقد رد هذا القول ابن جرير. وقال: بل الآية مدنية بعد عمرة القضاء. وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله. 2 - أخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام، إلا أن يغزى، وتغزوا. فإذا حضره أقام حتى ينسلخ». قال ابن كثير. هذا إسناد صحيح. والذي يبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا مراعاة لأعراف سائدة بما لا يعطل قضية الجهاد. وبما لا تتضرر منه مصلحة المسلمين. 3 - نفهم من قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: أنه إذا خالف غير المسلمين عرفا عاما فإن المسلمين في هذه الحالة يستطيعون أن يردوا بالمثل. ونتساءل الآن في عصرنا بعد أن أصبح صاحب الضربة الأولى هو المنتصر هل ينتظر المسلمون الضربة الظالمة إذا تأكدوا من وجودها؟ وهل تكفير أبنائنا الذي هو أشد من القتل يبيح لنا قتل أبناء الذين يكفرونهم إذا كانوا غير بالغين كنوع من أنواع الضغط على الكافرين ليراجعوا خططهم وطريقهم؟ الجواب على السؤالين: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: التهلكة والهلاك والهلك واحد. وفي هذا النص أمر ونهي. أمر بالإنفاق في سبيل الله فدخل في ذلك التصدق
للجهاد وغيره. وأما النهي عن إهلاك النفس. فإذا نظرنا إلى النص مجردا كان له معنى. وإذا نظرنا إليه من خلال الآية التي هو فيها، أعطانا معنى آخر. وإذا انظرنا إليه أنه جزء من السياق أعطانا معنى جديدا. وكل هذه المعاني مرادة. وكلها قد ذكرها أئمة التفسير عند شرح هذه الآية. فإذا نظرنا إلى النص مجردا فهمنا منه أنه نهي عن قتلنا أنفسنا. أي لا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده. إذا تسبب لهلاكها. وهل يدخل في ذلك لو أن الإنسان أمر المسلمين بمعروف، أو نهاهم عن منكر فقتلوه؟. الجواب: لا. بل هو مأجور. نص على ذلك فقهاء الحنفية. وهل يدخل في إلقاء النفس إلى التهلكة لو أن إنسانا هجم على الكافرين ملقيا نفسه عليهم فقتلوه؟. قال الحنفية: إن كان بعمله هذا ينكي فيهم، ويلقي الرعب في قلوبهم فهو مأجور. ولا يدخل في النهي. وإن كان لا ينكي فيهم بل يزيد من جرأتهم على المسلمين فلا يحل له ذلك. ويدخل في النهي. وإذا نظرنا إلى هذا النهي ووروده بعد الأمر بالإنفاق، فهمنا منه أنه نهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله. لأنه سبب للهلاك. ذهب إلى ذلك كثير. أخرج البخاري عن حذيفة في الآية قال: «نزلت في النفقة». وقال ابن عباس في الآية: «قال ليس ذلك في القتال. إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا تلقي بيدك إلى التهلكة». وعن الضحاك بن أبي جبير قال: «كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله، فنزلت: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ وقال الحسن البصري: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: قال: «هو البخل». وإذا نظرنا إلى هذا النهي من خلال وروده بعد آيات القتال، فهمنا منه أنه نهي عن ترك الجهاد. وأن ترك الجهاد هو الهلاك. وهكذا فسرها أبو أيوب الأنصاري. روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه. ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية. إنما نزلت فينا. صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه. فلما فشا الإسلام، وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا. فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه حتى فشا الإسلام وكثر أهله. وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال، والأولاد. وقد
المعنى العام للآية
وضعت الحرب أوزارها. فنرجع إلى أهلينا، وأولادنا فنقيم فيهما. فنزل فينا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد). وقد لاحظنا أن هذه الاتجاهات الثلاثة الرئيسية في فهم هذا النص، سببها ملاحظة النص مجردا، أو السياق القريب، أو السياق العام. وهذا قد يكون أبرز مثال من خلال كلام أئمة التفسير لما حاولنا إبرازه سابقا من أن هذا القرآن معانيه لا تتناهى. فمن خلال المعنى المجرد للنص، ومن خلال السياق القريب، والسياق العام، والوحدة القرآنية، ومن خلال عبارة النص، ومن خلال إشارة النص، تتولد معاني لا تتناهى. وكل يأخذ من كتاب الله على قدر ما قسمه الله له وهذه المعاني كلها حق. فما أكثر جناية من كفر بهذا القرآن. وهناك اتجاهان آخران في فهم قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: اتجاه يفهم من خلال النص المجرد واتجاه من خلال السياق القريب. الاتجاه الأول: تفسير الهلاك بالهلاك الأخروي. وذلك بالذنب، والاستمرار عليه. وهو تفسير النعمان بن بشير رضي الله عنه. قال: «إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له. فيلقي بيده إلى التهلكة. أي يستكثر من الذنوب فيهلك». وكذلك فسرها البراء قال: «ولكن التهلكة، أن يذنب الرجل الذنب. فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب». والاتجاه الثاني: ذكره النسفي من جملة الأقوال في تفسير النهي في الآية. فقال: والمعنى: النهي ... عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه، ويضيع عياله. وكأنه أخذه من السياق. وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، والإحسان فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك». والإحسان فعل الحسن والأحسن. فالأمر بالإحسان هنا يقتضي أن ننفق، وأن نجاهد، وأن يكون ذلك بإتقان وإحسان مع الإخلاص لله والمراقبة. المعنى العام للآية: أمر الله عزّ وجل المؤمنين في هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه
فوائد
القربات، ووجوه الطاعات. وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم. ونهاهم عن البخل وترك الجهاد. إذ بذلك هلاكهم وقوة عدوهم عليهم. ثم عطف الأمر بالإحسان. وهو من أعلى مقامات الطاعة. وبذلك انتهت هذه الفقرة. لتبدأ فقرة جديدة مضمونها الحج والعمرة. وقد تحدثنا في ابتداء هذه الفقرة، عن محل هذه الفقرة في السياق العام. وأنه تصحيح لمفاهيم خاطئة عن التقوى. وقد رأينا ذلك من خلال الشرح. ونقول هنا: إن هذه الفقرة جزء من الهدى الذي أنزله الله فى كتابه لهداية المؤمنين، في شئونهم كلها. ومن صفات المتقين أنهم يهتدون بهذا القرآن. فلا تقوى إلا بقتال، وإنفاق، وعمل مكافئ لعمل أعداء الله ضدنا، وانتقام من أعداء الله، وبذل جهد لنصرة دين الله، ومن لم يفهم التقوى كذلك لم يفهم كتاب الله. فوائد: 1 - في تعامل المسلمين مع بعضهم، هناك مقامان. مقام العدل، ومقام الفضل. فمن ضربك من المسلمين، جاز لك أن تقتص منه. والأولى أن تعفو رحمة وفضلا. إلا إذا أصبحت الإساءة خلقا لصاحبها، فالأولى الانتصار منه. كما نص على ذلك ابن العربي. وأما في تعاملنا كأمة مع أعداء الله، إذا كنا نمتلك القدرة، فمقام واحد، الرد بالمثل: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. وهذا حيث لا نستطيع الإخضاع ابتداء من خلال الجهاد. 2 - ستتضح لنا قضية القتال في الإسلام من خلال النصوص شيئا فشيئا. وسنرى كيف يحمل كل نص على ما يدخل فيه. وهاهنا نقول كلمة باختصار: لقد كلفت هذه الأمة أن تبذل جهدا متواصلا لإقامة دين الله في العالم كله. وهذا من الفرائض بحسب الاستطاعة. وقد توجد ظروف غير مكافئة، يكون المسلمون فيها ضعفاء، فلهم في هذه الحالة ألا يقاتلوا. ولكن إذا هوجمت أراضيهم، فلا بد من القتال. وتختلف شدة الفرضية فيما إذا كان وراءهم أحد، أم لا؟ فالحالة الثانية أشد في الفرضية. فلا بد في هذه الحالة من القتال. ويصبح القتال في هذه الحالة فرض عين على كل قادر رجلا كان أو امرأة. وفي هذه الحالة لا يشترط التكافؤ ولا غيره، ولا يصح للإنسان الفرار، ولو كان أعداء الإسلام أضعاف أضعافه، على خلاف حالة الهجوم، وحالة ما إذا كان
وراءنا من نتحيز له. والأمر دقيق سنراه في محله. والتضحيات في هذه الحالة لا تضيع. لأن مثل هذا يعطي الكافرين دروسا في ألا يدخلوا مع المسلمين في تجربة. 3 - عند قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يقول صاحب الظلال: (إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة. القتال في سبيل الله. لا في سبيل الأمجاد، والاستعلاء فى الأرض، ولا فى سبيل المغانم والمكاسب، ولا فى سبيل الأسواق والخامات، ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة، أو جنس على جنس. إنما هو القتال لتلك الأهداف التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام. القتال لإعداء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو أن يجرفهم الضلال والفساد. وما عدا هذه، فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لمن يخوضها أجر عند الله، ولا مقام). 4 - رأينا أنه من المستثنين من الأمر بالقتال، الذين لا يقاتلون. فدخل فى ذلك أصناف من الناس. وفي هؤلاء الأصناف يقول القرطبي: (والقتال لا يكون في النساء، ولا في الصبيان، ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى، والشيوخ، والأجراء، فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد ابن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام. إلا أن يكون لهؤلاء إذاية. أخرجه مالك وغيره. وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء. إن قاتلن، قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها. لعموم قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. وللمرأة آثار عظيمة في القتال. منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال. وقد يخرجن ناشرات شعورهن، نادبات مثيرات معيرات بالفرار. وذلك يبيح قتلهن. غير أنهن إذا حصلن فى الأسر، فالاسترقاق، أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن. وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال. الثانية: الصبيان. فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل. الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون. بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم.
يقول القرطبي
وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر. لقول أبي بكر ليزيد. (وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله. فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له). فإن كانوا مع الكفار في الكنائس، قتلوا. ولو ترهبت المرأة، فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: فذرهم وما حبسوا أنفسهم له. الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم. فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة، وصاروا حالا على حالهم وحشوة. الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا، هرما، لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي، ولا مدافعة، فإنه لا يقتل. وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما، مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول. لقول أبي بكر ليزيد ولا مخالف له. فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل، ولا يعين العدو. فلا يجوز قتله كالمرأة. وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي، أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل، أو المن، أو الفداء، أو الاسترقاق، أو عقد الذمة على أداء الجزية. السادسة: العسفاء. وهم الأجراء والفلاحون. فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون، والأجراء، والشيوخ، والكبار، إلا أن يسلموا، أو يؤدوا الجزية. والأول أصح. لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رباح بن الربيع: «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلن ذرية، ولا عسيفا». وقال عمر بن الخطاب: «اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب». وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثا. ذكره ابن المنذر. وحتى لا يدخل أحد أصنافا يجب قتلهم في هؤلاء الذين منعنا من قتلهم. يقول القرطبي: (فأما المرتدون، فليس إلا القتل أو التوبة. وكذلك أهل الزيغ والضلال. ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل، ثم ظهر فهو كالزنديق، يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل، فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق)
5 - في قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ: يقال: إن هذه الآية تنطبق على حالة مضت وانقضت. وهي حالة كون مكة دار حرب في أول الإسلام. أما الآن، فالإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال لأقاتلنكم وأمنعكم من الحج، ولا أبرح من مكة. فقد وجب قتاله، وإن لم يبدأ بالقتال. 6 - عند قوله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: قال الألوسي: (واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد، أو خنق، أو حرق، أو تجويع، أو تغريق، حتى لو ألقاه في ماء عذب، لم يلق في ماء ملح. واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا يلزمه رد مثله. ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة، كما في ذوات الأمثال. وقد يكون من طريق المعنى، كالقيمة فيما لا مثل له). وبمناسبة هذه الآية ذكر القرطبي مسألة ما إذا كان لإنسان حق عند آخر والآخر يجحده. فهل يحق لصاحب الحق إذا وقع بيده مال للآخر، سواء كان من جنس ماله، أو من غير جنسه، أن يأخذ صاحب الحق حقه دون علم الآخر، حتى ولو كان المال أمانة عنده؟. ذكر القرطبي الأقوال في ذلك وذكر من جملة من جوز الأخذ، الشافعي. أقول: والفتوى عند الحنفية على ذلك. 7 - عند قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. قال القرطبي: (وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية في العدو. فإن لم يكن كذلك فهو مكروه. لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه، فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية (سورة التوبة). إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء. قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَ
الفقرة الخامسة
ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (سورة لقمان). وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب. ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله». 8 - عند قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. قال الألوسي: (واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه، أو على المسلمين). الفقرة الخامسة: [سورة البقرة (2): الآيات 196 الى 203] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
كلمة في الفقرة والسياق
كلمة في الفقرة والسياق: 1 - بهذه الفقرة المعدودة الآيات عرض علينا القرآن موضوع المناسك وقد مر معنا من قبل كيف أن إبراهيم وإسماعيل دعوا الله عزّ وجل: وَأَرِنا مَناسِكَنا. وهذا ربنا يتفضل على ذرية إبراهيم وإسماعيل وعلى العالم كله فيريهم مناسك الحج والعمرة. ويدلهم مع ذلك على أحكام، ويهديهم إلى آداب، ويبين لهم حكما كثيرة ويذكرهم. وكل ذلك في آيات معدودات تسع ما لا يخطر على بال بشر. وبشكل معجز لا يتطاول إليه أحد من البشر- إلا إذا كان مجنونا أو كالمجنون. 2 - في الآيات أمر بإتمام الحج والعمرة. وإذن فهناك أمور واضحة، متى ذكر الحج والعمرة فهي معروفة. ومن ثم فالآية تأمر بالإتمام. وهذا يوحي بأن المعاني الآتية، لها صلة بهذا الإتمام، ومن الإتمام إيقاع الحج في أشهر الحج. ومن الإتمام الوقوف بالمزدلفة بعد الإفاضة من عرفات، ومن الإتمام أن تكون الإفاضة من عرفات بعد الوقوف بها. لا كما كانت قريش تفعل، ومن الإتمام ألا يرافق الحج رفث، أو جدال، أو فسوق، ومن الإتمام الاستغفار والدعاء فى أمر الدنيا والآخرة، وكثرة الذكر، ومن الإتمام إقامة أيام منى بأداء حق الله فيهن وفي منى.
3 - ومن الآيات عرفنا أشياء كثيرة. كجواز التمتع، وماذا يفعل المحصر، وماذا يفعل المتمتع، ولمن يجوز التمتع. وعرفنا جواز التجارة في الحج. وبعض عادات الجاهلية، وجواز التعجل فى النفر من منى. وعرفنا كثيرا من الآداب والأخلاق. وكل ذلك بعض ما في هذه الفقرة التى تشرح بعض معالم الرحلة إلى كعبة إبراهيم، وتبين كثيرا من معالم الحكمة في شريعة الحج، حيث يتجمع المسلمون في عرفات، لينطلقوا منها في أعظم مظاهرة لتعظيم بيت الله. معلنين الحرب قبل ذلك على الشر في رجمهم المكان الذي وسوس فيه الشيطان لأبينا إبراهيم عليه السلام. 4 - وإذا كنا ذكرنا من قبل أن مقاطع القسم الأول مهدت لمعاني القسم الثاني. فإن باستطاعتنا هنا أن نذكر أن مقطع إبراهيم عليه السلام، ومقطع القبلة، والمقطع الذي جاء فيه ذكر الصفا والمروة. كل ذلك قد وطأ لهذه الفقرة التى كانت بدايتها: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. وإن البداية لتشعرنا وكأنها استمرار لحديث سابق. 5 - والمناسبة بين هذه الفقرة وما قبلها واضحة كوضوح المناسبة بين الحج والقتال. فالقتال يحتاج إلى بذل جهد ومال. والحج بذل جهد ومال. وتجد الصلة بين الحج والجهاد في كثير من النصوص من مثل: «ولكن أفضل الجهاد حج مبرور». أما محل هذه الفقرة في السياق الكبير فدقيقة جدا. من المعلوم أن الإسلام أركان وبناء. فالأركان: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج. والبناء أحكام الإسلام. وتفصيل ذلك في أول كتابنا (الإسلام). وقد بدأت سورة البقرة بذكر أركان ثلاثة. الإيمان بالغيب، والصلاة، والإنفاق. وذكرت أن القرآن هو الهدى للمتقين. فذكرت من الأركان، وذكرت الأصل في البناء. وسارت السورة لتعمق هذا وهذا. وذكرت الصوم في بداية هذا المقطع كطريق للتقوى. فزادت ركنا رابعا. وبنت عليه بعد ذلك قضايا في الأموال، والتصورات، والسلوك، والجهاد. ليأتي الركن الخامس في نفس القسم الذي ذكر فيه الصوم. ففي
المعنى الحرفي لآيات الفقرة
جولة من السورة، ذكرت ثلاثة أركان، وبناء. وفي جولة أخرى ذكر ركنان، وبناء. ليتضح الإسلام كله شيئا فشيئا، ولتتضح التقوى شيئا فشيئا بطريق مدهش متشابك لا يشبه طرق البشر في الشرح والعرض؛ وبطريق مرب، لا يشبه طرق البشر في التربية. وذلك أن هذا الإسلام مشروح في الكتاب والسنة، وهو واسع كبير لم يترك شاردة ولا واردة إلا وقد بين حكم الله فيها. وما يطالب به كل مسلم من هذا الإسلام يختلف باختلاف استعداده ومسئولياته. والذي يطالب به كل مسلم هو أن يكون تقيا باطنا وظاهرا، حقيقة وسلوكا. وإذا كان من أهداف القرآن البيان، فمن أهدافه إيصال المؤمن إلى التقوى. وهذه الطريقة التي رأيناها في سورة البقرة تجمع بين البيان والعرض. وبين التربية التي تخلص من الشوائب. فإذا جاءت الآية فإنها تأتي بعد أن يكون ما قبلها مهد لها نفسيا وعقليا. ويأتي ما بعدها يغذيها ويقويها. إن أرض نفسك تفلحها آية، وتبذر بها آية، وتسقيها آية. فإذا كانت أرض نفسك صالحة، ظهر الثمر. إن هذا القرآن عجيب، مدهش، لا يشبهه شئ من كتب البشر. ومع ذلك يكفر به كثيرون مما يدل على أن العلة في الإنسان. ومن مظاهر ارتباط هذه الفقرة بالسياق العام، ما نلاحظ من أن الجولة الأولى من السياق ابتدأت بالأركان الثلاثة التي تلازم الإنسان كالإيمان، والصلاة، والإنفاق، ثم جاء الصوم وهو طريق سنوي لتحقيق التقوى، ثم جاء الحج، وهو ركن العمر، ولا شك أنه طريق من طرق التقوى. فكما أن في الصوم يعتاد الإنسان على التقوى من حيث إن بالصوم يكف الإنسان في فترة معينة عن أعتى شهواته. وبالتالي يعتاد على ضبطها. فكذلك بالحج يعتاد على الاستسلام لله في كل أمر. ويعتاد على تعظيم الله. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (سورة الحج:) وبالصلاة اليومية، وبالإنفاق اليومي والسنوي، وبالصوم السنوي، والنافلة، وبالحج العمري، وبالاتباع الكامل لكتاب الله، وبالعبادة، وبالجهد الفردي، وبعمل الدولة المسلمة تقوم التقوى في المجتمع الإسلامي على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، وعلى مستوى الدولة. المعنى الحرفي لآيات الفقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: أي وأدوهما تامين شرائطهما، وفرائضهما لوجه
الله تعالى بلا توان، ولا نقصان. هذا الاتجاه الأول فى تفسير هذا النص. الاتجاه الثاني: أي: إذا شرعتم في الحج أو العمرة فأتموهما. فهو دليل على أن من شرع فيهما ألزمه إتمامهما قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع فى الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما قولان للعلماء. وفسر علي رضي الله عنه الإتمام فقال: «أن تحرم من دويرة أهلك». وفسره سفيان الثوري: «أن تحرم (أي تنوي) من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة. وتهل من الميقات (أي تلبي وتنشئ الإحرام) ليس أن تخرج (أي ابتداء) لتجارة، ولا لحاجة. حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت لو حججت، أو اعتمرت وذلك يجزئ، ولكن الإتمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره ومرجع هذا القول إلى القول الأول. أي الإتمام بمعنى: الأداء الكامل. ويدخل في ذلك أن تكون النفقة حلالا. ويقتضي المقام أن نعرف الحج والعمرة. الحج لغة: القصد إلى معظم. وشرعا: زيارة مكان مخصوص، في زمن مخصوص، بفعل مخصوص. وهو فرض في العمر مرة على من استطاع الزاد والراحلة، فائضة عن حاجات أهله. أما العمرة ففيها خلاف: هل هي واجبة، أو مستحبة. وهي إحرام وطواف وسعي بين الصفا والمروة، ثم تحلل. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: قال النسفي: يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف، أو مرض، أو عجز، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي. وعند الحنفية، الإحصار يثبت بكل منع، من عدو، أو مرض، أو غيرهما. ويشهد لهم الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عنه صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو وجع، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى». وعند الشافعي: الإحصار بالعدو وحده. وهذان الاتجاهان في تفسير الإحصار عليهما مدار الاختلاف بين العلماء، قال النسفي: وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضا. لأنه ذكر عقبهما. فإذا أحصر الإنسان بعد تلبسه بالإحرام، فماذا يفعل؟. قال تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. أي فما تيسر من الهدي. والهدي. جمع هدية. وهدية البيت، بعير، أو بقرة، أو شاة من المعز والضأن. فصار المعنى العام: فإن منعتم من المضي إلى
البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة، فعليكم إذا أردتم التحلل أن تهدوا إلى البيت ما تيسر من بعير أو بقرة أو شاة. والمناسبة بين ذكر الإحصار وما قبله واضحة. فبعد أن أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر ما يمكن أن يعرض دون هذا الإتمام. وما هو الحل لو حدث هذا العارض. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. هل هذا الخطاب مرتبط بما قبله مباشرة فيكون خطابا للمحصرين، أو هو معطوف على وَأَتِمُّوا فيكون خطابا للحجاج والمعتمرين؟ فإن كان الخطاب للمحصرين، وهو الذي رجحه ابن جرير، وهو مذهب الحنفية، كان المعنى: لا تحلوا من إحرامكم بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه، وهو الحرم. إذ عند الحنفية لا يذبح دم الإحصار إلا في الحرم. وعلى الاتجاه الثاني يكون المعنى: ولا يجوز لكم أن تحلقوا رءوسكم بعد إحرامكم حتى تنحروا هديكم يوم النحر. وذلك يكون بعد الإفاضة من عرفات ثم مزدلفة. وبعد رمي جمرة العقبة في يوم النحر. والمحصر على من فهم النص هذا الفهم كالشافعية ينحر حيث أحصر. ولكن لا إحصار عندهم إلا من عدو. واستدلوا لمذهبهم بنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية خارج الحرم. والقضية خلافية. والربط بين هذا النص والذي قبله على الاتجاه الأول قد رأيناه. وأما على الاتجاه الثاني، فإن السياق يكون قد اتجه بعد الأمر بالإتمام إلى التفصيل في الأحكام. وقد فهمنا من النص السابق أن التحلل من الإحرام إنما يكون بالحلق. وهذا يعني أنه لا حلق أثناء الإحرام. فإذا وجدت الضرورة فما العمل؟. قال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أي: فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق، أو به أذى من رأسه كالقمل، والجراحة التى تحوج إلى الحلق، فعليه إذا حلق فدية. هذه الفدية إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر أي: ما يعدل كيلوين حنطة، أو يذبح شاة. وهو المراد بالنسك. ومذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء. أي ذلك فعل أجزأه. وإذا كان النص في معرض بيان الرخصة، فقد جاء بالأسهل فالأسهل. أخرج الإمام أحمد عن كعب بن عجرة قال: أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أو قد تحت قدر. والقمل يتناثر على وجهي، أو قال حاجبي فقال: «يؤذيك هوام رأسك»؟ قلت: نعم. قال: «فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو
انسك نسيكة». قال أيوب:- أحد رواة الحديث- لا أدري بأيتهن بدأ. وبعض الروايات الصحيحة تعين البداءة بالنسيكة، ثم بالإطعام، ثم بالصوم. ولذلك قال ابن كثير: ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل فقال: «انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام». فكل حسن في مقامه. وهذه الذبيحة لا يشترط لها مكان معين. ولكن يجب التصدق بها للفقراء. أمرتنا الآية التي ندرسها، أولا بإتمام الحج والعمرة. وبينت لنا ماذا نفعل في حالة الإحصار. ثم بينت لنا كيف أن التحلل من الإحرام إنما يكون بالحلق. فلا حلق مع الإحرام. فإذا وجدت ضرورة للحلق، فقد بينت الحكم. والآن ينتقل السياق إلى موضوع جديد. وذلك أنه في الأحوال العادية، المسلم مخير بين أن يحج مفردا بالحج، أو يقرن الحج بعمرة. فيعتمر أولا، ثم يبقى محرما. فيقوم بأعمال الحج ثم يتحلل من الجميع، أو أن يعتمر أولا ثم يتحلل من عمرته. ثم يحرم من الحرم بحج. هذه أشكال ثلاثة للحج. فجاء السياق بنص له علاقة بهذا الموضوع. قال تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ولكي نفهم النص لا بد من لفت النظر إلى مسألة. وهي أنه في زمن النبوة لم يكن يفرق بين حج القران، وحج التمتع. بل يطلق اسم التمتع والقران كل منهما على الآخر. لأن المعنى اللغوي يسعهما. ولكنه بعد ذلك أخذ كل من الاسمين معناه الاصطلاحي. فصار للقران مضمون غير مضمون التمتع. فالتمتع: أن يتحلل الإنسان بين عمرته وحجه. فيتمتع أياما بين عمرته وحجه بإحلاله. والقران: ألا يتمتع بين عمرته وحجه، بل يجمع بينهما. ولكن هذا التفريق بهذه الدقة لم يكن موجودا زمن النبوة. ولذلك فإن قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. يشمل في هذه الحالة القران والتمتع بالاصطلاح المعروف حاليا. فإذا اتضح هذا صار بالإمكان أن نفهم كلام ابن كثير في شرح الآية: أي: فإذا تمكنتم من أداء المناسك. فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا. فلما فرغ منها أحرم بالحج ... فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة. وقد ذكر ابن كثير الدليل على أنه لم يكن يفرق بين القران والتمتع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فإن من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر يقول: قرن. ولا خلاف أنه ساق هديا). أي كان قارنا. وقد كان
عمر ينهى عن التمتع. وتعليل ابن كثير لذلك هو: لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها، محرما لها. إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين معتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه. في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: لما نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري: يقال إنه عمر. والقران عند الحنفية أفضل. لأنه أشق. والتمتع عند الحنابلة أفضل للحض عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المالكية: إن الإفراد أفضل. والإجماع منعقد على جواز كل من التمتع أو القرآن، أو الإفراد. وهل دم التمتع، أو القران، دم شكر، أو جزاء؟. وإذا كان هذا أو هذا، فماذا يترتب على ذلك من جواز ذبحه قبل يوم النحر، أو فيه؟. ومن حل أكل صاحبه منه أولا؟. الجواب: الحنفية يقولون: إن هدي المتعة نسك، يؤكل منه. ويذبح يوم النحر والشافعية قالوا: يذبح قبل يوم النحر. ولا يجوز الأكل منه. وسمي الجمع بين العمرة والحج في أشهره- سواء فصل بين ذلك بإحلال أو لا- تمتعا لانتفاع المسلم بالتقرب بالعمرة إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج. وخص الفقهاء اسم التمتع بمن أحل من إحرامه بعد العمرة بسبب ما ينتفع به الحاج من استباحة ما كان محرما عليه إلى أن يحرم بالحج. فهمنا من النص أن التمتع أو القارن عليه أن يذبح. فإذا لم يجد فماذا يفعل؟. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ أي: فمن لم يجد الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين إحرام العمرة ويوم النحر، وسبعة إذا فرغ من أفعال الحج. فصار مجموع الصيام البديل عن الهدي عشرة كاملة وذكره كامِلَةٌ بعد عشرة، إما إشارة إلى وقوعها بدلا كاملا عن الهدي في الثواب، أو لرفع أي إيهام يمكن أن يتصور في أنها أقل من عشرة. أو هي للتأكيد. وفي وقت الأيام الثلاثة خلاف كثير. فبعضهم جوز صيامها من أول شوال إذا كان الإنسان متلبسا بالعمرة. ومنهم من جوز صيامها بعد يوم النحر في ثلاثة أيام التشريق. والمفتى به عند علماء الشافعية والحنفية أنه إذا لم يصم الثلاثة أيام حتى يوم النحر، فإنه لا يجزئه إلا الهدي. ولا شك أن صيام الثلاثة أيام قبل التلبس بإحرام العمرة مردود. بقي إذن الوقت المحدد لصيام الثلاثة أيام ما بين التلبس بإحرام العمرة إلى يوم النحر. قال ابن عباس: «إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة. فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه. وسبعة إذا رجع إلى أهله».
ولنرجع إلى السياق
وأما السبعة أيام، فليس شرطا أن تصام بعد العودة إلى الوطن. بل بمجرد فراغه من أفعال الحج يستطيع البدء بها. على أن لا تكون يوم النحر لأنه لم يفرغ من أفعال الحج. ويحرم فيه الصوم. ولا في أيام التشريق لعدم جواز صومها عند الشافعية، أو لكراهة صومها تحريما عند الحنفية. روى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجل». ولنرجع إلى السياق: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: هذه الرخصة في التمتع هي للآفاقي الذي هو خارج المواقيت. أما من كان داخل المواقيت، فلا يحل له القران أو التمتع، هذا مذهب الحنفية. وقال الشافعي: إنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة. لأن من كان كذلك، يعد حاضرا لا مسافرا فهؤلاء عند الشافعي لا يحل لهم التمتع. وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة لا متعة لكم. أحلت لأهل الآفاق، وحرمت عليكم. إنما يقطع أحدكم واديا، أو يجعل بينه وبين الحرم واديا. ثم يهل بعمرة. وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما أمركم به، ونهاكم عنه في الحج وغيره. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي: لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجره. فائدة: في آيات القتال قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: وهاهنا قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. فهذان أمران أمرنا بهما في حق معرفة الله. كما أمرنا أن نعلم أنه لا إله إلا الله. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (سورة محمد) فمن لم يحقق في قلبه العلم بهذا كله لا يكون عارفا بالله. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي: وقت الحج أشهر معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وهي شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة. وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئا من أفعال الحج، لا يصح إلا فيها. وكذا الإحرام عند الشافعي رحمه الله، وعند الحنفية ينعقد قبلها، لكنه مكروه. قال ابن عباس: من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهره. قال ابن جرير: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث كما تقول العرب: رأيته العام، ورأيته اليوم. وإنما وقع ذلك في العام، واليوم. وذهب الإمام مالك إلى أن ذا الحجة كله من أشهر الحج. وبناء عليه فقد كره العمرة في بقية ذي الحجة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من
الفرض هاهنا، الإيجاب والإلزام. وقال ابن عباس في تفسيره: «من أحرم بحج أو عمرة» فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي: من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث، وهو الجماع ودواعيه، من المباشرة، والتقبيل، ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء. ويدخل فيه الكلام الفاحش. وليتجنب الفسوق: وهو المعاصي عامة. ويدخل في ذلك السباب. لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». ومن الفسوق التنابز بالألقاب لقوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ (سورة الحجرات). واختار ابن جرير أن الفسوق هنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظافر، ونحو ذلك. وهي داخلة فيما ذكرنا. فائدة: في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه». وكما يجتنب الرفث والفسوق، فإنه يجتنب الجدال. والجدال هو المراء مع الرفقاء والخدم، والسائقين. وإنما أمرنا باجتناب الرفث والفسوق والجدال- وهو واجب الاجتناب في كل حال- لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن. روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى نسكه، وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه». وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ: لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا، وفعلا. وحثهم على فعل الجميل. وأخبرهم أنه عالم به. وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. ففي هذا النص إخبار منه تعالى بعلمه الجزئيات والكليات ومن السياق يفهم أن في النص حثا على الخير، عقيب النهي عن الشر. فكأنه أمرهم أن يستعملوا مكان القبيح من الكلام، الحسن. ومكان الفسوق، البر والتقوى. ومكان الجدال، الوفاق والأخلاق الجميلة. ثم أمرهم بالتزود إذا سافروا لحجهم. قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا. في البخاري عن ابن عباس قال: «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون. ويقولون: نحن المتوكلون. فأنزل الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى». وكان ابن عمر يقول: «إن من كرم الرجل، طيب زاده في السفر». فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا. أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى
[سورة البقرة (2): آية 198]
إليها. فكأن معنى قوله تعالى في هذا المقام: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: تزودوا، واتقوا الاستطعام، وإبرام الناس، والتثقيل عليهم. وتزودوا للمعاد، باتقاء المحظورات. فإن خير زاد الآخرة اتقاؤها. قال مقاتل بن حيان: لما نزلت هذه الآية: وَتَزَوَّدُوا. قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله. ما نجد ما نتزوده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزود ما تكف به وجهك عن الناس. وخير ما تزودتم التقوى». رواه ابن أبي حاتم. وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: واتقوا عقابي ونكالي، وعذابي لمن خالفني، ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والأفهام. فهم من النص أن قضية اللب الذي هو العقل، تقوى الله. ومن لم يتقه فكأنه لا لب له. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي: ليس عليكم إثم في أن تبتغوا في مواسم الحج عطاء وتفضلا. وهو النفع والربح بالتجارة والكراء، روى البخاري عن ابن عباس فى سبب نزول هذه الآية قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية. فتأثموا أن يتجروا في الموسم. فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكرى. فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رءوسكم؟ قال: قلنا بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبرائيل بهذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح مولى عمر. قال: قلت يا أمير المؤمنين: كنتم تتجرون في الحج؟. قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟!! .. وقال النسفي من أئمة الحنفية عند هذه الآية: ونزل في قوم زعموا أن لا حج لحمال، وتاجر. وقالوا: هؤلاء، الداج وليسوا بالحاج لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ .... لكن قال الحنفية في كتبهم: (من نوى الحج والتجارة لا ثواب له إن كانت نية التجارة غالبة أو مساوية). والظاهر أنه لا ثواب كاملا. وإلا فلا يقول قائل: إن من تاجر ولم يشارك في أفعال الحج، كمن تاجر وشارك في أفعاله. وهذا من باب الحض على تغليب نية الآخرة على عمل الدنيا. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: دل قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ على وجوب الوقوف في عرفات. والإفاضة من عرفات
إنما تكون لمزدلفة. فدل ذلك على أن الوقوف بمزدلفة من شعائر الحج. ونلاحظ أن في الفقرة تسلسلا في أفعال الحج. فقد رأينا أن في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ما يشير إلى الإحرام الذي هو الركن الأول من أركان الحج. ويأتي بعد ذلك الوقوف بعرفات. وهو الركن الثاني من أركان الحج، ثم الإفاضة إلى المزدلفة، وهو النسك الذي يلي الوقوف بعرفات. وقبل أن نشرح الآية شرحا حرفيا فلنقرأ هذه النقول: قال علي بن أبي طالب: (بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فحج به حتى إذا أتى عرفة، قال: عرفت. وكان قد أتاها مرة قبل ذلك. فلذلك سميت عرفة). وقال عطاء: «إنما سميت عرفة، أن جبريل كان يري إبراهيم المناسك، فيقول: عرفت، عرفت. فسميت عرفات» .. وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي مجلز. وعرفة موضع الوقوف في الحج. وهي عمدة أفعال الحج. ولهذا روى الإمام أحمد وأصحاب السنن، بإسناد صحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحج عرفات- ثلاثا- فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة. فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه. ومن تأخر فلا إثم عليه». ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة، إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال: «لتأخذوا عني مناسككم». وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة، مستدلا بقوله عليه السلام: «من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع- وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا- فقد تم حجه، وقضى تفثه». رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وصححه الترمذي. وأما المشعر الحرام، فإنه المزدلفة. قال ابن عمر: (المشعر الحرام: المزدلفة كلها) قال ابن كثير: (والمشاعر: هي المعالم الظاهرة. وإنما سميت المزدلفة: المشعر الحرام؛ لأنها داخل الحرم. وهل الوقوف بها ركن في الحج، لا يصح إلا به، كما ذهب إليه طائفة من السلف، وبعض أصحاب الشافعي؟ .. أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم؟ .. أو مستحب؛ لا يجب بتركه شئ كما هو القول الآخر في ذلك. ثلاثة أقوال للعلماء). اه.
المعنى الحرفي للنص
قال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟. قال: (إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة. ولكن مفضاهما قال: فقف بينهما إن شئت. قال: وأحب أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس). وسمي المشعر الحرام: مزدلفة، لأن الناس يزدلفون فيها إلى بيت الله. ويتقربون إليه بذلك. وسمي جمعا لأن الناس يجمعون فيها بين الصلاتين. صلاة المغرب والعشاء. المعنى الحرفي للنص: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: أي دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات. فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء، والدعوات. أو بصلاة المغرب والعشاء. عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: عند جبل قزح في المزدلفة. ولا يعني هذا أنه لا يصح الوقوف إلا عند الجبل. بل المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. ولكن خير الموقف ما كان عند قزح. والدفع من عرفات إنما يكون بعد الغروب. والوقوف الواجب في مزدلفة عند الحنفية بعد الفجر. والدفع من مزدلفة إلى منى قبل شروق الشمس. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوائد: 1 - ذكر حتى الآن في هذه الآية من مناسك الحج: الإحرام، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمزدلفة. والإحرام الركن عند الحنفية هو نية الحج والتلبية. أما لبس غير المخيط، وكونه من الميقات، فواجبان. والوقوف- الركن- بعرفات عند الحنفية، الكون في عرفات ولو لحظة ما بين الزوال والفجر نائما، أو مستيقظا ولو مارا إذا كان ناويا الحج. وأن يكون جزء منه بالليل، وجزء منه في النهار؛ فهذا واجب. ويجب عندهم تأخير المغرب إلى العشاء، وصلاتهما في المزدلفة. والوقوف في مزدلفة عندهم واجب. والوقوف الواجب: هو الكون في المزدلفة بعد الفجر، وقبل الشمس، ولو لحظة واحدة. 2 - روى الحاكم في مستدركه، وابن مردويه عن المسور بن مخرمة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أما بعد- وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد- فإن هذا اليوم الحج الأكبر. ألا وإن أهل الشرك والأوثان
كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس. وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها. وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدي أهل الشرك». هذا لفظ ابن مردويه. وفي صحيح مسلم عن جابر في وصف حجته صلى الله عليه وسلم: «فلم يزل واقفا- يعني بعرفة- حتى غربت الشمس. وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرخى للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس: السكينة، السكينة» كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد. حتى أتى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبح بينهما شيئا (أي لم يتنفل). ثم اضطجع حتى طلع الفجر. فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة. فدعا الله، وكبره، وهلله، ووحده. فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا. فدفع قبل أن تطلع الشمس». هذان الحديثان يفسران لنا النص الذي بين أيدينا. الدفع من عرفات، وذكر الله عند المشعر الحرام على الكمال والتمام. وبمناسبة الكلام عن الحج نحب أن نتحدث عن ضرورة الفقه، فنحن نلاحظ في هذه السورة حديثا عن الحج. ولكن ليس حديثا عن كل ما له علاقة به. بل هناك حديث عنه في (سورة آل عمران) وحديث عما له علاقة به في (سورة المائدة)، وكلام في (سورة براءة)، وكلام في (سورة الحج)،. فالكلام عن الحج متفرق في القرآن. ومنه ما له علاقة في الأحكام، ومنه ما له علاقة بنواح أخرى من العظة والتذكير. والكلام في كتب السنة عن الحج متفرق فيها. وهو يشمل الأحكام وغيرها. وفي كتب السنة لا تذكر الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع مع شرحها. فاقتضى ذلك وجود الكتب التي تتحدث عن الأحكام المتعلقة بالحج، المأخوذة من الكتاب، ومن السنة عامة جامعة الشئ إلى نظيره، ضمن تبويب، وتأليف. وهذا هو الفقه. وهذا هو سبب وجوده، وسبب وجود كتبه. وسيختلف حتما الفقهاء في الفهم لكتاب الله، أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه توجد نصوص يختلف الناس في بعض تفسيراتها، أو في بعض تطبيقاتها. ويختلفون في بعض طرق الاعتماد للسنة؛ لأسباب
ولنعد إلى السياق
متعددة. وتجد مسائل ليس فيها نص صريح في الكتاب والسنة تتعلق بهذه الأبواب لا بد من ذكرها في مواطنها ليسهل الرجوع إليها لمن يريد. هذا كله يمثل الضرورة لوجود الفقه، ولوجود المدارس الفقهية. فمن غلا في الكتاب، فألغى السنة ضل. ومن غلا، فضلل الأمة بسبب المدارس الفقهية فقد ضل. ومن ألغى دراسة الكتاب والسنة بحجة الفقه، فقد جعل الفرع أصلا، فلا بد من دراسة الكتاب، ولا بد من دراسة السنة، ولا بد من دراسة للفقه. ولنعد إلى السياق وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة. أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، ولا تعدلوا عنه. هذا تنبيه لنا على ما أنعم الله به علينا من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج وغيرها. ولا يعرف مقدار هذه الهداية إلا من قارن بين ما كان عليه الناس في الجاهلية وما جاء به الإسلام، وإلا من قارن بين الإسلام وغيره من الأديان. وسنعرض لهذا الموضوع شيئا فشيئا في هذا التفسير. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ: الضمير في (قبله) يعود على الهدى، على القول الراجح. وقيل يعود إلى القرآن. وقيل يعود إلى الرسول. والكل متقارب ومتلازم وصحيح. إنه بدون هذا الهدى، كنا ضالين عن مشاعر إبراهيم ودينه. وكنا ضالين عن طريق الله. وعما يقربنا إليه. وكنا ضالين عن السلوك الصحيح في شئون الحياة. وكنا ضالين عن المعرفة الحق لله، والغيب، والإنسان ... قال النسفي: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ «أي: الجاهلين. لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه». ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أخرج البخاري عن عائشة قالت: كانت قريش، ومن دان دينها؛ يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس. وسائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، يفيض منها. فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم. واختاره ابن جرير. وحكى عليه الإجماع. والآن نتساءل، لماذا جاءت: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ هنا مع أنه
المعنى الحرفي
عزّ وجل قد تحدث من قبل عن الوقوف بعرفات. ففصل في الحديث عن عرفات، بالوقوف في مزدلفة؟. الجواب- والله أعلم- يكمن في ترتيب هذا القول على ما قبله مباشرة: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. فمن نماذج ضلالهم التي هداهم الله عزّ وجل إلى تركها هذا الوضع الشاذ الذي كانت عليه قريش بأن تميز نفسها عن الناس، فلا تقف بعرفات مع أهمية الوقوف فيها وفي ذلك ما فيه من تميز باطل وفي ذلك ما فيه من الإخلال بالحكمة في وقوف الناس عامة في عرفات لينطلقوا بأعظم مظاهرة تعرفها البشرية، معظمة الله وشعائره، وبيته. ومهينة عدو الله، إبليس. وإذن فهذه الآية أمر من ناحية. وفي هذا الأمر نموذج على الهداية من الضلال المذكور سابقا. بقي أن نعرف أن (ثم) التي هي حرف عطف، تعطف هذه الآية على ماذا؟ الظاهر أنها تعطفها على قوله تعالى: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فيكون الترتيب من حيث المعنى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ .. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. المعنى الحرفي: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي: ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس من عرفات. فهذا أمر لقريش خاصة بسبب الوضع الشاذ الذي كان لها، ولكل إنسان عامة. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: واستغفروا الله من مخالفتكم في الموقف، ونحو ذلك من جاهليتكم، أو من التقصير في أعمال الحج إن الله غفور لكم إذا استغفر تموه، رحيم بكم، يعلم ضعفكم. فوائد: 1 - من مظاهر الحج في الجاهلية أن المرأة من غير أهل الحرم كانت تطوف عارية عريا تاما إلا إذا كستها امرأة من أهل الحرم، ومن مظاهر الحج عندهم أن قريشا كانت تميز نفسها عن بقية الناس فلا تقف مع الناس في عرفات، وأن السعي بين الصفا والمروة كان سعيا بين صنمين إساف ونائلة، وأن البيت كان محفوفا بالأصنام من فوقه ومن حوله، قارن ذلك كله بالحج في الإسلام، لترى فضل الله على الإنسان في هدايته إلى معالم العبادة الصحيحة، وسنرى، في سورة الحج موضوع الحج عند الأمم لندرك الفارق الكبير بين عبادة تربي وتهذب، وتكمل وتحقق بالكمالات في كل حركة
وشعيرة، وبين عبادة ينتكس فيها الإنسان ويرتكس. ورأينا فيما نقلنا عن الصوم عند الأمم كيف أن نوعا من الناس يدعون في صيامهم ما يزعمون أنه مظهر صفات الله النسوية في مختلف مظاهرها فأي جهل وجاهلية يكون عليها الإنسان بلا إسلام؟ 2 - يلاحظ أنه ما من عبادة أمرنا الله عزّ وجل بها إلا وقد أمرنا الله بذكره عقبها رأينا ذلك في آيات الصوم ونراه في آيات الصلاة بمجموعها. ونراه هنا في بحث الحج، وما ذلك إلا ليبقى العبد في عبادة دائمة، ولنلاحظ أنه هنا في آيات الحج أمرنا بالاستغفار مع الأمر بالإفاضة من عرفات. فكأن المراد من ذلك أن يستشعر العبد قصوره في هذه المواطن كيلا يستشعر عجبا بعد أداء العبادة. وبمناسبة الأمر بالاستغفار نذكر ثلاثة أحاديث في الاستغفار وهي الفائدة الثالثة. ا- قال صلى الله عليه وسلم: «من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب». ب- قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة. ومن قالها في يومه، فمات دخل الجنة». أخرجاه في الصحيحين ج- في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن أبا بكر قال: «يا رسول الله؛ علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا. ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني. إنك أنت الغفور الرحيم». فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ: بعد الإفاضة من مزدلفة إلى منى، يرمي الحجيج عادة جمرة العقبة. فإذا رموها، ذبحوا هديهم، ثم حلقوا، وقد حل لهم كل شئ إلا النساء. ثم يطوفون طواف الإفاضة، وقد حل لهم كل شئ حتى النساء. ولم يبق عليهم إلا المبيت في منى، ورمي
المعنى الحرفي
الجمرات وطواف الوداع وأن يذكروا الله، وألا يشتغلوا بعادة من عادات الجاهلية. وإذ كان التحلل من الإحرام قد تعقبه غفلة؛ فقد نبه في الآيات على الذكر الكثير، ونبه على خلق خطر، وهو حصر الدعوات في هذه الأيام بطلب الدنيا، ونبه على أفضل دعوة يدعى بها في تلك الأيام. وهل المراد بقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ المراد به قضاء المناسك كلها، فيكون هذا توجيها لما ينبغي أن يكون عليه الوضع عند القفول؟. أو المراد به قضاء المناسك يوم النحر بما في ذلك طواف الإفاضة؟. أو المراد به قضاء المناسك يوم النحر دون طواف الإفاضة؟. يدل على الأخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في طوافه: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». فإذا اعتبرنا هذا تطبيقا للآية كان المراد بقضاء المناسك؛ الذبح يوم النحر. ويمكن أن يراد بالآية قضاء المناسك بما في ذلك الطواف. ويدل عليه ما ذكره النسفي: «كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى، وبين الجبل، فيعدون فضائل آبائهم، ويذكرون محاسن أيامهم». وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم. فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات. ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. لكن الأرجح عندنا أن الآيات لها علاقة بما بعد قضاء مناسك يوم النحر، ما عدا الطواف، وعلى هذا فيكون ذكر المناسك هنا من باب ذكر الكل وإرادة الجزء. المعنى الحرفي: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً: فإذا قضيتم مناسك يوم النحر فاذكروا الله ذكرا مثل ذكركم آباءكم. والمعنى: فأكثروا من ذكر الله، وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم. ومفاخرهم وأيامهم أو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه. و (أو) في النص أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لتحقيق المماثلة في المخبر عنه أو أزيد منه. ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة، وذم من
[سورة البقرة (2): آية 201]
لا يسأله إلا في أمر دنياه، وهو معرض عن أخراه. وذلك أن قوما من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا. فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي: من الذين يشهدون الحج من لا يسأل الله إلا حظوظ الدنيا كالجاه والدنيا وغير ذلك. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي: من نصيب لأن همه مقصور على الدنيا، لكفره بالآخرة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي: ومن الذين يشهدون الحج من يقول: ربنا آتنا في الدنيا نعمة، وعافية، وعلما، وعبادة، ونحو ذلك، وفي الآخرة عفوا، ومغفرة، وجنة، ونحو ذلك. واحفظنا من عذاب جهنم. فصار المعنى العام: أكثروا ذكر الله ودعاءه. لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين. فكونوا من المكثرين الذكر، الطالبين خيري الدنيا والآخرة. أُولئِكَ أي: الداعون بالحسنتين. لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا أي: من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ: وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وكثرة أعمالهم، ليدل على كمال قدرته، ووجوب الحذر من نقمته. فوائد: 1 - روى الحاكم في مستدركه عن سعيد بن جبير قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني آجرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم. أفيجزي ذلك ذلك. فقال: أنت من الذين قال الله: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ». 2 - أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا يقول: آمين. فإذا مررتم عليه فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». 3 - قال ابن كثير: (فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر. فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحيبة وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين. ولا منافاة بينهما. فإنها كلها مندرجة في
الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة؛ فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة. وأما النجاة من النار؛ فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا؛ من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام، وقال القاسم أبو عبد الرحمن: «من أعطي قلبا شاكرا، وجسدا صابرا فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار». 4 - وإذا كانت هذه الدعوة رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ... قد علمنا أن نقولها في أشرف المواطن، وفي أنقى الأحوال، وأحسنها. فإنه من المناسب أن ندعو الله بها دائما، وفي كل أحوالنا. وبهذا وردت السنة: روى البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وفي مسند الإمام أحمد سأل قتادة أنسا: أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم؟. قال: يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وفي صحيح مسلم: (وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة، دعا بها. وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه). أخرج ابن أبي حاتم عن أبي طالوت قال: «كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام قال: يا أبا حمزة إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم. فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور. إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار؛ فقد آتاكم الخير كله» وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟. قال: نعم؛ كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله. لا تطيقه- أو لا تستطيعه- فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله فشفاه» ورواه مسلم. روى الإمام الشافعي عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح، والركن الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
ولنعد إلى السياق
ولنعد إلى السياق: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في النص السابق على هذه الآية رأينا أمرا بالذكر بعد قضاء مناسك يوم النحر، وبعد يوم النحر تأتي أيام التشريق الثلاثة، والنسك الذي يتم بها هو رمي الجمار الثلاثة يوميا فيها، ورمي الجمار نفسه ذكر. لأنه طاعة لله. ويرافقه ذكر ودعاء. والدعاء ذكر. جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: «إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله عزّ وجل». فإذا اتضح هذا عرفنا أن المراد بالأمر بالذكر في الأيام المعدودات- والله أعلم- إقامة نسك هذه الأيام، وهو رمي الجمار وما يرافقه، بدليل قوله تعالى بعد الأمر بالذكر: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ مما يشير إلى أن الأمر له علاقة بالمبيت بمنى، وما يرافق ذلك. المعنى الحرفي: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ: قال ابن عباس: (الأيام المعدودات: أيام التشريق). وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. بدليل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام. وهي أيام أكل وشرب». فدل أن أيام التشريق بعد يوم النحر. وذكر التعجل في يومين دليل على أنها ثلاثة. وذكر الله فيها رمي الجمار، والذكر أثناء الرمي. والدعاء بعده فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ: من هذه الأيام الثلاثة، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث فيذكر الله بالرمي فيه واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي: فلا يأثم بهذا التعجل. وَمَنْ تَأَخَّرَ حتى رمى في اليوم الثالث. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى أي: لا يأثم بهذا التأخير. فالمؤمن مخير في التعجل والتأخر. وإن كان التأخر أفضل، فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل. ثم ختم الله عزّ وجل آيات المناسك بأمرين: التقوى، والعلم بالحشر فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع الأمور والأحوال، خاصة وأنتم قد أديتم حجكم الذي به ترجعون كيوم ولدتكم أمهاتكم.
فوائد ومسائل وآثار
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تجمعون إليه حين تبعثون من قبوركم، فاعلموا هذا خاصة وقد رأيتم نموذجا من الحشر الدنيوي الاختياري في موافقكم بعرفات وغيرها مما يذكركم بالحشر الأخروي الإجباري. فوائد ومسائل وآثار: 1 - .. مر معنا في هذا القسم قوله تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وفي كل من الأمرين نلحظ إرادة وجه الله عزّ وجل، والعمل له بما شرع، وهذا مفرق الطريق بين الإسلام وغيره، فلم يزل الناس ولا يزالون يقاتلون ويحجون، ولكن أن يكون القتال لله وفي سبيله، وأن يكون الحج لله وفي شريعة الحق، فذلك هو ميزة المسلم فكل أعماله لله وبأمره وضمن شريعته وفي ذلك كمال الإنسان. 2 - في مقطع إبراهيم عليه السلام رأينا الحكمة في بناء الكعبة: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فهذا البيت بني للطواف والعكوف، والركوع والسجود، وجاء بعد مقطع إبراهيم عليه السلام مقطع القبلة لنرى أول مظهر من مظاهر القيام بحقوق البيت، وفي هذا القسم يأتي الأمر بالحج والعمرة ليستكمل المسلم إقامة أمر الله في شأن البيت، ونلاحظ أنه قد جاء الأمر بالحج والعمرة متأخرا كثيرا عن مقطع إبراهيم، وذلك ليأتي بعد كل المقدمات اللازمة له، ففي الحج تعظيم البيت، وفيه رمي الجمار، حيث وسوس إبليس، والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فمحله بعد الصوم، وحتى لا تغلب قدسية الحج واجب القتال في الحرم إذا اقتضى الأمر جاء الأمر بالحج مسبوقا بمقطع إبراهيم، ومقطع القبلة، ومقطع الصفا والمروة، ومقطع النهي عن متابعة خطوات الشيطان، وسبق في مقطعه بموضوع الصوم وحكمة وجود الأهلة، وموضوع القتال والإنفاق. 3 - ومن خلال الحج ندرك مظهرا من مظاهر جعل الله إبراهيم إماما قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فالسعي بين الصفا والمروة إحياء لفعل أمنا هاجر سرية إبراهيم عليه السلام، ورمي الجمار إحياء لفعل إبراهيم إذ رجم إبليس عند ما وسوس أثناء إقامة إبراهيم أمر الله في شأن الذبح. والطواف بالبيت فيه تحقيق الحكمة من بناء البيت. 4 - واضح أن المقصد الأعظم في الحج هو الطواف بالبيت، وإنما بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم أهمية الوقوف بعرفات حتى لا يظن أنها ركن ثانوي في الحج ولكن الوقوف في عرفات نفسه إنما هو لتعظيم البيت إذ ذلك الوقوف هو مركز التجمع للانطلاق نحو البيت. 5 - مما مر معنا ندرك بعض أسرار هذه الرحلة الربانية التي تبدأ بالنية، والتجرد عن لبس المخيط، والتلبية وتنتهي بطواف الوداع والذكر. فالتجرد من اللباس تجرد من الدنيا، والوقوف في عرفات استعداد للانطلاق نحو البيت بلا ذنب، ورمي جمرة العقبة قبل الطواف، ثم رمي الجمار بعده إشارة إلى الصراع المستمر ضد الشيطان، وأن يكون طواف الإفاضة بعد الحلق والذبح والتحلل الجزئي بالعودة إلى اللباس العادي ليكون الطواف على أكمل الحالات ظاهرا وباطنا والحج كله تربية للتسليم الذي هو طابع الإسلام لله رب العالمين. 6 - الأيام الخمسة. يوم عرفات، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة لها أحكام خاصة. منها ما هو مشترك بين الحجاج وغيرهم. ومنها ما هو خاص بالحجاج. ومنها ما هو خاص بغيرهم. فما تختص به، وهو مشترك بين الحجاج وغيرهم، تكبير التشريق بعد الصلوات المكتوبات. وأشهر أقوال العلماء فيه أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وهو آخر النفر الآخر. قال فقهاء الحنفية: يجب تكبير التشريق من بعد صلاة فجر عرفة، إلى ما بعد عصر رابع أيام العيد فور كل صلاة، سواء كان إماما، أو مقتديا، أو منفردا، ذكرا كان أو أنثى- ولكن المرأة لا تجهر به- مسافرا كان أو قرويا. والتكبير عندهم أن يقول مرة واحدة: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. ومن خصوصيات يوم عرفة لغير الحاج استحباب صيامه. أما الحاج فلا يستحب له. ليقوى على الوقوف. ومن خصوصيات يوم النحر وأيام التشريق عدم جواز صيامها لأحد، ومن خصوصيات يوم النحر لغير الحاج، الأضحية. أما الحاج فلأنه مسافر لا تجب عليه. ولكن من خصوصياته ذبح الهدي في ذلك اليوم. ومن خصوصيات يوم النحر لغير الحاج صلاة العيد. أما الحاج فلأنه مسافر، ولأن
كلمة بين يدي الفقرة السادسة
منى ليست مصرا فلا تجب عليه. ومن خصوصيات يوم النحر، وأيام التشريق؛ التكبير الجهري المطلق فيه للحجاج وغيرهم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في قبته، فيكبر أهل السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيرا. ومن خصوصيات يوم عرفات للحاج أنه يوم أداء ركن الوقوف. ومن خصوصيات ليلة النحر، أنها ليلة الإفاضة من عرفات، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة، ومن خصوصيات يوم النحر أنه يوم الوقوف بمزدلفة ما بين الفجر والشمس، ويوم الإفاضة إلى منى، ورمي جمرة العقبة فيه. وهو يوم الذبح ... ويوم الحلق ... ويوم طواف الإفاضة. ومن خصائص أيام التشريق للحاج. أن فيها المبيت بمنى، ورمي الجمرات. وبانتهاء الكلام عن مناسك الحج يبدأ السياق موضوعا جديدا، هو الموضوع الختامي للقسم الثاني في سورة البقرة. وهو موضوع الفقرة السادسة. كلمة بين يدي الفقرة السادسة: بعد آية البر خوطب المؤمنون مرتين بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* ودلوا في كل مرة على طريق مؤد إلى التقوى. وبعد الخطاب الأول ذكر شئ له علاقة بالتقوى كثمرة من ثمارها. وبعد الخطاب الثاني ذكرت أشياء لها علاقة بالتقوى كثمرة من ثمارها، أو أثر من آثارها. ثم جاء الكلام عن الحج، وهو طريق من طرق الوصول إلى التقوى. وقد ختمت آياته بالأمر بالتقوى كما رأينا. وبالكلام عن الحج تكون سورة البقرة قد تحدثت عن أركان الإسلام الخمسة. الثلاثة الأولى في آياتها الأول. وفي القسم الثاني تحدثت عن الصيام والحج، كما تحدثت عن اتباع الهدى المتمثل بالكتاب الذي هو الثمرة المباشرة للتقوى. وعن مجموعة أمور مرتبطة بهذا الموضوع. والمفروض بعد هذا البيان المتسلسل العجيب أن يصفو الإنسان لله خالصا. ولا نقصد بالإنسان هنا. الكافر الخالص، لأن ذلك انتهى أمره كما رأينا في مقدمة سورة البقرة بل المراد هو الإنسان المنتسب للإسلام ولكن الواقع أن الناس يبقون صنفين. فصنف يبقى منافقا مع كل هذا البيان. وصنف يخلص لله خلوصا تاما. والحديث عن هذين الصنفين هو الذي يختم به القسم الثاني وهو مضمون الفقرة السادسة.
الفقرة السادسة
الفقرة السادسة: [سورة البقرة (2): الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) هذه الآيات عامة في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم. هذا قول قتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس، وغير واحد. قال ابن كثير: وهو الصحيح. المعنى الحرفي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ أي: يروقك، ويعظم في قلبك. ومنه الشئ العجيب الذي يعظم في النفس. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: يعجبك حلو كلامه في أمر الدنيا، أو في كل ما هو من معنى الدنيا. ودخل في ذلك علومها، وأمورها .. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي: يحلف ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من الإسلام، ومحبة الله والرسول. ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق. قال ابن عباس: معناه: إذا أظهر للناس الإسلام، حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ: وهو شديد العداوة للمسلمين. هذا إذا فسرنا الخصام بالمخاصمة. أما إذا اعتبرنا الخصام جمع خصم. فيكون المعنى: وهو أشد الخصوم خصومة. والألد في اللغة: الأعوج. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويزور على الحق، ولا يستقيم معه، بل يفتري، ويفجر. روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم». وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ: ذاك قوله،
[سورة البقرة (2): آية 206]
وهذا فعله. فهو أعوج المقال؛ كاذبه، سيئ الفعال، كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. وَإِذا تَوَلَّى ... أي: إذا كان له سلطان. فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. أو أنه يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر، فيهلك الحرث والنسل. والمهم أن المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث: وهو محل نماء الزرع والثمار، والنسل: وهو نتاج الحيوانات؛ إهلاك للناس لأنه لاقوام للناس إلا بهما. وسعى في الآية بمعنى قصد. وما أصدق هذا في منافقي عصرنا. يحلفون أنهم مسلمون، وأنهم لا يريدون إلا الخير، وهم شديدو الخصومة للإسلام والمسلمين. وإذا كانت لهم سلطة لم يكن لهم هم إلا في الإفساد بالخروج عن الشريعة، وإهلاك الحرث والنسل بسبب الظلم تحت شعاراتهم الخبيثة ولقد رأينا من آثار حكمهم هلاك الحرث وهلاك النسل. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ: ولا أهله فهو لا يحب من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك، وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع، وأبى، وأخذته الحمية، والغضب بالإثم. أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام. أو أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه، وهو الكفر، أو حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ: أي هي كافيته عقوبة. وَلَبِئْسَ الْمِهادُ: أي ولبئس الفراش جهنم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: لما أخبر عزّ وجل عن المنافقين بصفاتهم الذميمة. ذكر صفات المؤمنين الحميدة. من أسباب النزول: قال ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة، وجماعة: «نزلت في صهيب بن سنان الرومي. وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله. وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله. فأنزل الله هذه الآية. فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم. وما ذاك. فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية».
المعنى الحرفي للآية الأخيرة
قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم. فاتبعه نفر من قريش. فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش: قد علمتم أني من أرماكم رجلا. وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شئ، ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة، وخليتم سبيلي. قالوا: نعم. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ربح البيع». قال: ونزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي .... وفي رواية ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك. وتخرج أنت ومالك. والله لا يكون ذلك أبدا. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟. قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني. فخرجت حتى قدمت المدينة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب- مرتين-». وبهذه المناسبة نقول: ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في صهيب، وذكروا كذلك أن آية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... : نزلت في الأخنس بن شريق. والقاعدة: أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالعبرة لعموم اللفظ، وما يمكن أن يدخل تحته من أفراد. ويكون سبب النزول فردا من هذه الأفراد. وفي موضوعنا هذا نستطيع أن نقول: إن الأخنس بن شريق كان نموذجا على ذاك النوع المنافق من الناس. وكان صهيب يمثل نموذج المؤمن الذي تنطبق عليه هذه الآية. ولكن العبرة للعموم. ولذلك قال ابن كثير في هذه الآية: وأما الأكثرون، فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله. واستشهد على ذلك أنه لما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليهم بعض الناس فرد عليه عمر ابن الخطاب، وأبو هريرة، وغيرهما، وتلوا هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي .... قال النسفي بمناسبة الكلام عن هذه الآية: نزلت في صهيب ... أو فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حتى يقتل. المعنى الحرفي للآية الأخيرة:
[سورة البقرة (2): آية 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ. أي يبيعها. ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي: مبتغيا في ذلك رضوان الله. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: إذ ييسرهم لهذا المقام، ويلطف بهم ليتحققوا به، ويثيبهم على ذلك. فائدة: أخرج ابن جرير عن نوف البكالي- وكان ممن يقرأ الكتب، قال: «إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين. ألسنتهم أحلى من العسل. وقلوبهم أمر من الصبر. يلبسون للناس مسوك (أي جلود) الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى: فعلي يجترءون، وبي يغترون حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران» قال القرطبي: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون. فوجدتها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا .... وبهذه الآيات ينتهي القسم الثاني من أقسام سورة البقرة. ونلاحظ تشابها بينها وبين نهاية مقدمة السورة. ونهاية القسم الأول. ونلاحظ أنه ذكر في الفقرة الأخيرة صنفان من الناس، منافق ومؤمن. وفي مقدمة سورة البقرة ذكر: مؤمن، وكافر، ومنافق. فإذا تذكرنا المجموعة الأخيرة في القسم الثاني: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: وهي في الكافرين. أدركنا مظهرا من مظاهر التكامل والتناسق في السورة إذ ذكرت هذه الفقرة منافقا ومؤمنا فقط وبانتهاء القسم الثاني نصل إلى القسم الثالث الذي يبدأ بالأمر بالدخول في الإسلام كله، بعد أن وضعت السورة كل الأسس التي يحتاجها بناء الإسلام. كلمة في القسم الثاني وما سبقه من السورة: لقد أكمل القسم الثاني معاني القسم الأول، ومعاني مقدمة سورة البقرة فتكاملت المعاني في المقدمة والقسمين لتوصلنا إلى القسم الثالث، ومن مظاهر هذا التكامل أنه بانتهاء القسم الثاني مرت معنا أركان الإسلام الخمسة وهي في العقائد والعبادات، وإذ كانت العبادات لا تقبل بلا أكل الحلال فقد مر معنا شئ عن أكل الحلال، وإذ كانت العقائد والعبادات هي أساس الاستقامة وإذ كان الشيطان بالمرصاد لسالك طريق الاستقامة؛ فقد جاء التعريف بخطوات الشيطان والنهي عنها، وإذ كان يخشى على هذه
الأمة أن تقع فيما وقعت فيه أمم أخرى؛ فقد نبهت على ذلك؛ وإذ كانت هناك أمم ستسعى لإضلال هذه الأمة؛ فقد نبهت هذه الأمة على نماذج من وسائل هؤلاء وأقاويلهم وكل ذلك يأتي سابقا للقسم الثالث الذي يبدأ بالدعوة إلى الدخول في الإسلام كله، وذلك بعد أن ذكرت كل المقدمات اللازمة لهذه الدعوة وقبول تفصيلاتها. لقد بدأت السورة في تصنيف الناس إلى متقين، وكافرين، ومنافقين، ثم دعت الناس جميعا للسير في طريق العبادة لله ليكونوا من المتقين وسار السياق موضحا، وقاصا، وواعظا، ولافتا النظر، ومناقشا للآخرين، ومؤكدا معاني، وذاكرا نماذج، وداعيا إلى تفصيلات حتى استقر السياق على آية البر التي حددت المواصفات الرئيسية للمتقين، من إيمان، لصلاة، لزكاة، لإنفاق، لصبر، لوفاء عهد. ثم نادى السياق المؤمنين مرتين: مرة في شأن القصاص، ومرة في شأن الصيام. وبين أن القصاص طريق للتقوى. وأن الصيام طريق للتقوى، وذكرت الوصية بين النداءين، ثم ذكر الصيام والحج. وهما الركنان الرابع والخامس في الإسلام. وبدونهما لا يكون الإنسان تقيا، ومعهما تتأكد التقوى. وما بين الكلام عن الصيام والحج ذكرت قضايا تصحح مفاهيم عن التقوى. فذكر القتال، والإنفاق في سبيل الله. وذكر غير ذلك. والصلة بين القتال والإنفاق، وبين الصوم والحج واضحة. فالصوم صبر. قال صلى الله عليه وسلم: «الصوم نصف الصبر». والقتال يحتاج إلى صبر. والحج بذل جهد ومال. وإنفاق المال في الجهاد من هذا النوع. ثم بعد الحج ذكر السياق صنفين من الناس ليعلم أن التقي هو من باع نفسه كلها لله، وأن المنافق شأنه غير ذلك. فالسياق تدرج في تربيتنا حتى نصل إلى مقام بيع النفس في سبيل الله. وقبل ذلك حذرنا أن نكون من نوع آخر، ظاهره مسلم، وباطنه منافق خبيث حتى إذا وصلنا إلى مقام بيع النفس لله فصفت النفس خالصة لله، يبدأ قسم جديد بأمر جديد، بخطاب جديد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: في الإسلام كله.
القسم الثالث من أقسام سورة البقرة
القسم الثالث من أقسام سورة البقرة ويمتد من الآية (208 - 284)
القسم الثالث من أقسام سورة البقرة يبدأ هذا القسم بالآية (208) وينتهي بنهاية الآية (284) حيث تأتي بعده مباشرة خاتمة السورة. يبدأ القسم بآية هي مفتاح سياقه كله وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... فهذه الآية دعوة إلى الدخول في الإسلام كله. والإسلام: عقائد، وعبادات، وشعائر، ومناهج حياة وغير ذلك. فإذا صفت النفس وخلصت كما رأينا في السياق وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ .. فقد أصبح عندها استعداد لأن تلتزم بأحكام الإسلام كلها، وأن تفهم هذه الأحكام، وأن تستسلم لله فيها. فجاء هذا القسم دعوة للدخول في الإسلام كله، ونهيا عن متابعة خطوات الشيطان، وعرضا لكثير من أحكام الإسلام. فبعد مقدمة واعظة يذكر القسم أحكاما في الإنفاق. ويقرر فريضة القتال، ويعرض لأحكام في الخمر والميسر، وفي شأن اليتامى، وفي شأن الزواج، وفي شأن الحيض، وفي شأن الأيمان. ويفصل في أحكام كثيرة، لها صلة بالطلاق، وأحكام الوفاة، وكثير من الأمور الزوجية، وبعض أحكام الصلاة، ويذكر القسم أمورا لها صلة بالسياسة، والحرب، والاقتصاد. إن من أعظم مشكلات العالم المعاصر: قضايا الأسرة، والاجتماع، والأحوال الشخصية وقضايا السلم والحرب، وقضايا الاقتصاد، والقسم حديث عن هذا كله وعن غيره، وكل ذلك يأتي في سياق الأمر بالدخول في الإسلام جميعا. وفي ذلك درس، أي درس للواهمين بأن الإسلام يقبل شريكا في تغطيته لشئون الحياة. يتألف القسم من مقطعين كبيرين: الأول منهما يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وينتهي بالآية (253): تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.
المقطع الأول
والمقطع الثاني يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وينتهي بآخر آية في القسم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. والذي دلنا على بداية القسم ونهايته، المعاني أولا، ثم بعض العلامات. فمثلا سبق هذا القسم بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ ... كما سبق القسم الأول والثاني. فتلك علامة. ولقد ذكر في الآية الأولى منه؛ النهي الذي ورد في بداية القسم الثاني: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. فكان ذلك علامة ثانية. ودلنا على المقطع الأول، عرض المعاني فيه. فإنه لم يرد فيه ما يدل على فصل بين فقراته، ودلنا على المقطع الثاني فيه، أنه كله في شأن المال، أو فيما يخدم أمرا مرتبطا بذلك فلنر المقطع الأول. المقطع الأول: يمتد هذا المقطع من الآية (208) وينتهي بنهاية الآية (253) وفيه مواضيع متعددة، وفقرات كثيرة. وسنعرضه فقرة .. فقرة. الفقرة الأولى: تمتد هذه الفقرة من الآية (208) إلى نهاية الآية (220). وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 220] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: تبدأ هذه الفقرة بمقدمة آمرة، ناهية، واعظة. هي بمثابة المقدمة للقسم كله وللمقطع الذي هي فيه. ثم تأتي آيتان هما بمثابة التمهيد لفريضة القتال، ثم تأتي فريضة القتال، ثم سؤال عن أحكام في القتال، ثم قاعدة، ثم أسئلة وأجوبتها. تبدأ الفقرة بالأمر بالدخول في الإسلام كله. والنهي عن اتباع خطوات الشيطان. ودواء الزلل إن حدث، ثم تذكر بيوم القيامة، وبعض ما يكون فيه، ثم تحذر من
كفران نعمة الوحي، والبينات والمعجزات، وتحذر من سلوك طريق الكافرين في أمر تزيين الدنيا، وكل ذلك مقدمة لتفصيلات الأحكام الإسلامية في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، ثم تأتي آية فيها تبيان لحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتذكير بمنة الله على من يشاء هدايته، وصلة ذلك بتفصيل الأحكام الإسلامية في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله لا تخفى. وبعد هذا تأتي آيتان بين يدي الآية التي تذكر فريضة القتال، آية تصحح مفهوما خاطئا هو أن يتصور متصور أنه لا ابتلاء، ولا شدة. وآية حول الإنفاق، وصلته بالقتال لا تخفى. وتأتي الآية التي تفرض القتال، ثم آية في تفصيل الجواب حول موضوع مرتبط بالقتال، وفيها ما هو كالتعليل لفريضة القتال. وفي هذا السياق تأتي آية لتصحيح مفهوم الرجاء الذي يغلط فيه أكثر الخلق، فتبين أن الذين يرجون رحمة الله هم من اجتمع لهم إيمان؛ وهجرة؛ وجهاد، حيث تكون الهجرة والجهاد واجبين، ثم تأتي أجوبة على ثلاثة أسئلة: سؤال حول الخمر والميسر، وهما داء العسكريين في العالم كله. وسؤال حول الإنفاق، وهو لا بد منه للقتال. وسؤال عن اليتامى. والحرب تخلف يتامى كثيرين. وبهذا تنتهي الفقرة، وتبدأ فقرة جديدة. لاحظ الآن أن آخر آية في المقطع الأول من هذا القسم فيها: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. لاحظ هذه الآية، ولاحظ أن هذه الفقرة التي هي مقدمة المقطع، ومقدمة القسم فيها كلام عن البينات، وعن الاختلاف، وعن القتال. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ. وهذا يؤكد أن ما ذكرناه هو بمجموعه فقرة مترابطة. وأن تحديدنا لبداية المقطع ونهايته، كان صحيحا. ولنبدأ عرض آيات الفقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
المعنى العام
المعنى العام: يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام، وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك زواجره ما استطاعوا من ذلك، وأن يجتنبوا ما يأمر الشيطان به. ثم خاطبهم جل جلاله محذرا بأنهم إن عدلوا عن الحق بعد ما قامت عليهم الحجج، فليعلموا أن الله عزيز في انتقامه، ولا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب. ينتصر ممن كفر به. حكيم في أحكامه، ونقضه وإبرامه. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً: أي في الإسلام جميعا. قاله ابن عباس وأبو العالية، والربيع بن أنس. وهو الذي رجحه ابن كثير. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ: بالاقتداء به، والائتمار بأمره، والاتباع لوساوسه. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: أي ظاهر العداوة. قال مطرف: (أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان). وما أوضح عداوته لمن تأمل ما يدعو إليه!!. وأي عدو أعدى ممن يدعوك إلى النار، ويوصلك إليها؟. فَإِنْ زَلَلْتُمْ: أي ملتم عن الدخول في السلم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ: أي الحجج الواضحة، والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: أي غالب لا يمنعه شئ من عذابكم. حَكِيمٌ: في أمره وحجته، لا يعذب إلا بحق. فائدة: قرأ قارئ الآية الأخيرة، وختمها ب غَفُورٌ رَحِيمٌ. فقال أعرابي منكرا على القارئ: (الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان، لأنه إغراء عليه). فانظر ما أدق هذا الفهم، وما أعظم هذا القرآن الذي لا يكون شئ فيه إلا على غاية الحكمة، والعلو. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. هذا الخطاب فيه تهديد للكافرين، وللذين يتبعون خطوات الشيطان، وللذين يزلون عن طريق الله. هذا تهديد لهم بيوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين. فيجزي كل عامل بعمله. إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فالصلة بين الآية وما قبلها واضحة.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: هَلْ يَنْظُرُونَ: أي ما ينتظرون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ الظلل: جمع ظلة، وهي ما أظلك. مِنَ الْغَمامِ أي: السحاب وَالْمَلائِكَةُ: معطوف على لفظ الجلالة، أي وتأتي الملائكة. وَقُضِيَ الْأَمْرُ: أي وتم أمر إهلاك من يستأهل الهلاك بالحكم عليه بالعذاب. وفرغ منه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: فهو مرجعها كلها. إذ هي كلها بعلمه، وإرادته، وقدرته. وإذ ملك العباد بعض الأمور في الدنيا، فإنها يوم القيامة إليه جميعا. فوائد: 1 - ذكر ابن جرير بهذه المناسبة حديثا طويلا لبعضه علاقة بالآية وهذه فقرة منه: «أن الناس إذ اهتموا لموقفهم في العرصات، تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا، واحدا، من آدم فمن بعده. فكلهم يحيد عنها، حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها، أنا لها. فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا، وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة إلى السابعة. وينزل حملة العرش، والكروبيون وقال: وينزل الجبار عزّ وجل في ظلل من الغمام، والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت. سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، سبوح قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه سبحانه أبدا أبدا». 2 - يدور صراع كبير بين اتجاهين حول هذه الآية عند قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ: اتجاه يحارب أي تقدير في فهم الآية. والاتجاه الثاني يقدر محذوفا هنا أخذا من آية النحل إذ يقول تعالى هناك: أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فيقولون هذه الآية شبيهة بالآية تلك. فتلك من باب البيان لها. وعلى هذا فالتقدير هنا: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله بفصل القضاء، وبالتعذيب وبالبأس، في ظلل من الغمام، وتأتي الملائكة؟ والجميع متفقون على تنزيه الله عن صفات الحوادث. وأنه ليس كمثله شئ في ذاته، وصفاته، وأفعاله. ولنا عودة على هذا الموضوع.
المعنى العام
3 - إن مجئ هذه الآية هنا بعد الأمر بالدخول في الإسلام كله، وعدم اتباع خطوات الشيطان، يشير إلى أن الإنسان ما لم يتذكر موقفه بين يدي الله يوم القيامة، فإنه لا يقيم أمر الله ونهيه. وإن لفت النظر إلى هذا الموضوع بعد تلك الآية يدل على أن علينا أن نرقي مشاعر الإنسان في تذكر اليوم الآخر، حتى يمكن أن يكون وقافا عند حدود الله، وما لم يستطع المسلم أن يرتقي بقلبه إلى مثل هذه التصورات، يكون بعيدا، ولا تظهر قدرة المربين كقدرتهم على نقل الإنسان إلى هذه الأحوال. قال حنظلة: (نكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار فكأنا رأي عين)، أخرجه مسلم. 4 - إن من مصادر الخطأ في باب المعرفة، أن نتجاوز قدرنا في باب التصورات والقوانين فنخضع الذات الإلهية، وصفاتها لتصورات مقيسة على الخلق. إذ كل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك. أو نخضع عالم الآخرة، لقوانين الحياة الدنيا. فللآخرة قوانينها الخاصة التي قد تتفق مع قوانين الحياة الدنيا أو لا تتفق. سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ما الرابط بين هذه الآية وما قبلها؟ جاء قبلها أمر بالدخول في الإسلام كله. ونهي عن اتباع خطوات الشيطان، وتهديد لنا في حالة الزلل مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ. وهل يكون مع الحجج الواضحة زلل؟. نعم يكون. وهل تستبدل أمة النعمة بالكفران؟. نعم تستبدل. وهل يعاقب الله أمة أنعم عليها بأن هداها، وبعث لها رسلا؟. نعم يعاقب. فهؤلاء بنو إسرائيل، سلهم كم أنزل عليهم من آية بينة. ومع ذلك بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم. فكيف كان الأمر؟. كان العقاب. لأن جلال الله عظيم. فيا هذه الأمة: إياك وقد جاءتك البينات أن تستبدلي نعمة الله، فقومي بحق الله بتنفيذ أمره واجتناب نهيه. ولا تتبدلي نعمة الله عليك كفرا، فتحرفي، وتبدلي، وتفسقي أو تكفري. فإن فعلت فإن الله سيعاقبك كما عاقب بني إسرائيل. المعنى العام: يذكر تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، كم شاهدوا مع موسى من آية بينة، أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به. كاليد، والعصا، وفلقه البحر وضربه الحجر، وما كان
المعنى الحرفي
من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات البينات، الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه. ومع هذا أعرض كثير منهم عنها. وبدلوا نعمة الله كفرا. فاستبدلوا بالإيمان بها، الكفر بها والإعراض عنها. فاستحقوا بذلك عقوبة الله في الدنيا، وعقوبته في الآخرة. المعنى الحرفي: سَلْ: أي اسأل، وهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ: على أيدي أنبيائهم. وهي معجزاتهم. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ: وتبديلهم إياها، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم. فاختاروا الضلال بدل الهدى. وأعظم نعم الله: آياته وشريعته. فآياته سبب الهدى، والنجاة من الضلالة. وشريعته سبب الهدى في كل شأن. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ: أي من بعد ما عرفها، وصحت عنده فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ: أي لمن استحق عقابه. فائدة: يدخل في تبديل نعمة الله: أن نستبدل بقانون إسلامي قانونا غير إسلامي، وبدستور الإسلام دستورا غير إسلامي، وبنظام الله نظام البشر، وبالأخلاق الإسلامية الأخلاق الجاهلية، وبمفاهيم الإسلام مفاهيم الجاهلية. وقد فعلت أمتنا هذا كله. فهل تستغرب بعد ذلك عقابا ينزله الله بنا؟! اللهم إنا نسألك رحمتك. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. قد يتساءل متسائل: ما أسباب الزلل؟. وما أسباب استبدال نعمة الله بغيرها؟ في هذه الآية الجواب. فإذا أدركنا هذا، عرفنا الرابطة بين هذه الآية وما قبلها في الفقرة. إن سبب الزلل، واستبدال نعمة الله كفرا، إنما هو الحياة الدنيا، وزينتها، وشهواتها، والكبر الموجود في قلوب الكافرين مما يجعلهم يحتقرون أهل الإيمان، ويزدرونهم، فيستكبرون بالتالي عن متابعتهم، أو الكون منهم. وذلك أول خطوة من خطوات الشيطان. ولئن فات أهل الإيمان شئ من الدنيا وحظها بسبب الالتزام بشرع
المعنى العام
الله، فإن الله يعوضهم عن ذلك الآخرة. وقد يعطي الله عباده المؤمنين، الدنيا والآخرة. المعنى العام: يخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين، الذين رضوا بها، واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال، ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم. وسخروا من الذين آمنوا، الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوه ابتغاء وجه الله. فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم. فكانوا فوق أولئك في محشرهم، ومنشرهم، ومستقرهم، ومأواهم. فاستقروا في الدرجات، في أعلى عليين. وخلد أولئك في الدركات، في أسفل سافلين. ومن شأنه جل جلاله أن يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاء كثيرا، جزيلا بلا حصر، ولا تعداد في الدنيا والآخرة. المعنى الحرفي: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا: المزين على الحقيقة؛ هو الله الخالق لكل شئ. وقد زين الحياة الدنيا للكافرين عقوبة لهم، بأن جعل عندهم استعدادا للاستغراق في شهواتها، وبأن سلط عليهم الشيطان، يحسنها في أعينهم، ويحببها إليهم بوساوسه. فيصبحون، ولا يريدون غيرها. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا: أي وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها. أو ممن يطلب غيرها، وهم أهل الإيمان. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا: أي تحققوا بالتقوى حالا وعملا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: لأن المتقين في جنة عالية. وهم في نار هاوية. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ: أي بغير تقتير. فمن شأنه جل جلاله أن يوسع على من أراد التوسعة عليهم في الدنيا وفي الآخرة. وإذا وسع على أحد في الدنيا، فإنما ذلك ابتلاء ليستخرج شكر المؤمن ويستدرج الكافر، وإذا ضيق على أحد في الدنيا، فإن كان كافرا فلعله يرجع، وإن كان مؤمنا فليصبر، وليعلم عباده أن التوسعة في الدنيا ليست ملازمة للكرامة. فوائد: 1 - الفارق الرئيسي بين أهل الكفر، وأهل الإيمان في الهدف أن الكافر ليس له هدف إلا في الدنيا: مال، شهوات، جاه ... أما المؤمن، فليس له هدف إلا وجه
المعنى العام
الله، ونيل رضوانه في الآخرة، والدنيا بالنسبة له طريق ومعبر وممر. 2 - في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا دار من لا دار له. ومال من لا مال له. ولها يجمع من لا عقل له». كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. المعنى العام: كان الناس على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم الرسل، وتتابع إرسال الرسل بالتبشير والإنذار. وأنزل مع الرسل الكتاب المرجع للناس في شئونهم كلها، وجعل الكتاب من الوضوح والحجة بحيث لا يمترى فيه، ومع ذلك اختلف الناس بعد ما قامت الحجج عليهم. وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض. أما أهل الإيمان فإن الله عزّ وجل تولى هدايتهم إلى الحق عند الاختلاف، فكانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف. فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف. وكانوا بذلك شهداء على الناس في كل عصر، وحجة على الخلق. وذلك شأن الله. يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم عدلا، وفضلا. المعنى الحرفي: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً: أي متفقين جماعة واحدة على الإسلام الخالص من بعد آدم. ثم حدث الخلاف. ويدل على ذلك ما جاء في الآية بعد لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. ويدل على ذلك القول الأصح عن ابن عباس قال: «كان بين نوح وآدم، عشرة قرون. كلهم على شريعة الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين». فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. أي فأرسل الرسل عليهم السلام مبشرين بالثواب للمؤمنين، ومنذرين بالعقاب للكافرين. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: قال النسفي: (أي أنزل مع كل واحد منهم كتابه بتبيان الحق) لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: أي ليحكم الكتاب بين الناس في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق، فيرجعون إلى الإسلام، ويبقون عليه. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ: أي في الحق. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ: أي إلا الذين أوتوا هذا
فوائد
الحق المتمثل بكتاب الله وهدي الرسل. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ: من بعد ما قامت الحجج عليهم على صدقه. بَغْياً بَيْنَهُمْ: هذا سبب خلافهم: حسدا بينهم، وظلما لحرصهم على الدنيا، وقلة إنصاف منهم. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف بإذنه وقال ابن جرير: (أي بعلمه بهم، وبما هداهم له). وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ: من خلقه. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: لا عوج فيه ظاهرا وباطنا، عقائد وعبادات، ومناهج حياة، شعائر وشرائع ومشاعر. فوائد 1 - قال أبو العالية: (في هذه الآية: المخرج من الشبهات، والضلالات، والفتن). وذلك أن هذه الآية بينت أن سبب الاختلاف هو الحسد. فمن أراد الحق فعليه أن يتحرر من الحسد. ومن أراد الحق، فليحقق الإيمان في نفسه. فإن الله- عزّ وجل- يهدي أهل الإيمان إلى الحق في قضايا الاختلاف، رحمة بهم. 2 - بمناسبة هذه الآية يروي عبد الرزاق حديثا يرويه أبو هريرة تفسيرا لقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ: قال عليه الصلاة والسلام: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة. نحن أول الناس دخولا الجنة. بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وأوتيناه من بعدهم. فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه. فهدانا الله له. فالناس لنا فيه تبع. فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى». يفهم من الحديث أنه ما من قضية اختلف فيها الناس من أمر الدين، إلا وفي كتابنا بيان الحق فيها. 3 - في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وفي الدعاء المأثور: «اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه. وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل. واجعلنا للمتقين إماما». 4 - قال تعالى في الآية: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. يقول المفسرون:
«المقصود هنا جنس الكتاب». فهل يفهم من ذلك أن كل رسول أنزل معه ما يمكن أن يسمى كتابا، إما حقيقة وإما مجازا؟. فإذا كان الأمر كذلك، وعلمنا أنه ما من أمة، إلا وأرسل لها رسول، كما نص القرآن. عرفنا سر وجود كتب فيها معان إسلامية عند أمم كالفرس، والهنود، وغيرهم. غير التوراة، والإنجيل، والزبور. ولكنها خولطت، وغيرت، وبدلت، كما حدث للتوراة، والإنجيل، والزبور. 5 - الصلة ما بين هذه الآية وما قبلها واضح. فالمقطع دعوة إلى الدخول في الإسلام كله. وعدم اتباع خطوات الشيطان. وهذه الآية تزيد هذا المعنى وضوحا. إذ الدخول في الإسلام كله هو الوضع الصحيح للبشرية والدخول في الإسلام كله، اتباع للكتاب كله، وتحكيم له في كل شئ، والدخول في الإسلام كله يقتضي أن تكون صورة الإسلام المبينة في الكتاب واضحة، وترك اتباع خطوات الشيطان يقتضي عدم الاختلاف في الكتاب. ويقتضي ترك الحسد والبغي، والدخول في الإسلام كله يحتاج إلى هداية خاصة من الله. وهذه يعطيها الله لأهل الإيمان. فلنؤمن. فالارتباط بين هذه الآية، وما قبلها على غاية الوضوح. وتأتي الآن آيتان فيهما تصحيح مفهوم، وإجابة على سؤال. وهما بمثابة التمهيد لفرضية القتال. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ* يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. ارتباط الآيتين بما قبلهما واضح. وذلك أن الدخول في الإسلام كله يقتضي صراعا. ويستتبع تضحيات، ومواقف. ويقابل من أعداء الله بمجابهة، ويترتب على ذلك ما يترتب. وإذا كان كثيرون من الناس قد يتوهمون أن حمل دين الله يقتضي أن يعيش الإنسان في منتهى الراحة، والدعة، والأمن. فإن الآية الأولى جاءت لتصحيح هذا المفهوم. ثم تأتي الآية التالية لتبين جانبا من دين الله كرد على سؤال له علاقة في الإنفاق. وارتباط هذا بما بعده واضح، فالارتباط بين الصبر والتحمل، والرغبة بالنصر والإنفاق، وبين القتال، الذي هو موضوع المجموعة التالية لا يحتاج إلى مزيد تأمل. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ
المعنى العام
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. المعنى العام: ينكر الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتصوروا أن دخول الجنة يكون دون ابتلاء، أو اختبار، أو احتمال. ويبين جل جلاله أن الابتلاء هو سنة الله في الذين قبلنا من الأمم. وابتلاء الله إنما يكون بالأمراض، والأسقام، والآلام والمصائب، والخوف من الأعداء، والفتنة عن الدين. وبين الله عزّ وجل أن من سنة الله أن يستمر هذا الابتلاء حتى يصل الضيق والشدة إلى منتهاه. ويكاد يفرغ صبر أهل الإيمان ويتساءلون: متى يكون النصر. عندئذ ينزل الله نصره، ويبعث فرجه. المعنى الحرفي: أَمْ حَسِبْتُمْ: أم هنا بمعنى: بل. والتقدير: (بل حسبتم). والهمزة فيها للتقرير، وإنكار الحسبان، واستبعاده. والحسبان: الظن. بدأت الآية بإنكار مثل هذا التصور. أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ: أي أن تستأهلوا دخول الجنة. وَلَمَّا يَأْتِكُمْ: أي ولم يأتكم. وفي (لما) هنا معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر. مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ: أي حال الذين مضوا من قبلكم من النبيين والمؤمنين. والتي هي مثل في الشدة. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا: هذا بيان للمثل. وهو استئناف. كأن قائلا قال: كيف ذلك المثل؟. فقيل: مستهم .. والبأساء: الفقر. والضراء: السقم. ومعنى زلزلوا: حركوا بأنواع البلايا، وأزعجوا إزعاجا شبيها بالزلزلة؛ بالفزع والخوف. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟: أي بلغ بهم الضجر إلى الغاية التي قالوا بها: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟. لم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه: طلب النصر، وتمنيه، واستطالة زمان الشدة. والجواب: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. فوائد: 1 - في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: «قلنا يا رسول الله: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا. فقال: إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما بين
عظمه ولحمه، لا يصرفه ذلك عن دينه». ثم قال: «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم قوم تستعجلون». 2 - في حديث أبي رزين: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه. فينظر إليهم قانطين، فيظل يضحك. يعلم أن فرجهم قريب». 3 - عندنا صورة تاريخية كاملة عن سنة الله هذه، من خلال سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد قص علينا القرآن الكثير عمن قبلنا. ولكن تبقى سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه (رضي الله عنهم) هي النموذج العملي، الكامل التفاصيل على هذه السنة. ففي سورة الأحزاب وصف الله حالهم يوم الأحزاب: وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وفي سورة الحشر، وصف الله المهاجرين فقال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ .... 4 - مما سأل عنه هرقل أبا سفيان من أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا السؤال قال: هل قاتلتموه؟. قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟. قال: سجالا. يدال علينا، وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. يلاحظ أنه في هذا المقطع قد ذكر القرآن ستة أسئلة وجهت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر السياق جوابها، وهذا أولها. ومجئ الأسئلة ضمن هذا السياق غير مستغرب، فما دامت بداية السياق لها علاقة في الدخول بكل شرائع الإسلام، وعدم اتباع خطوات الشيطان فشئ عادي أن يأتي في السياق أسئلة عن بعض شرائع الإسلام، والأجوبة عليها. وفي هذه الآية سؤال عن كيفية الإنفاق، ومحاله، والأفضلية فيه؟ فجاء الجواب مبينا ذلك، ومبينا ترتيب الأفضلية بما ينسجم مع الفطرة حيث يقدم الأقرب، كما جاء في الحديث: «أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك .. أدناك». والأحوج: اليتيم أولا، ثم المسكين، ثم ابن السبيل. وليس من داع يدعو إلى القول بأن هذه الآية منسوخة، لأنها في نفقة التطوع. لذلك علق ابن كثير على قول السدي بأن الآية منسوخة بآية الزكاة قال: (وفيه نظر). وصاحب السؤال في هذه
المعنى الحرفي
الآية: عمرو بن الجموح رضي الله عنه وكان له مال عظيم. فسأل ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟. فكان الجواب هذه الآية!! .. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟: هذا هو السؤال؛ وظاهر السؤال أنه ماذا يكون الإنفاق؟. فجاء الجواب متضمنا هذا، ومتضمنا بيان المصرف. قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ: هذا بيان لما ينفقونه. وهو كل خير. والخير في كثير من آيات القرآن يأتي بمعنى المال. وهو هنا كذلك- والله أعلم- فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ: هذا بيان المصرف. تلا ميمون بن مهران هذه الآية ثم قال: «هذه مواضع النفقة؛ ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا، ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان». فكأنه يشير بهذا إلى قوم ينفقون الكثير على الزينة لمسجد ولغيره، يتقربون فيه إلى الله، مع وجود من يحتاج. فهو ينكر مثل هذا- والله أعلم- وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: أي مهما صدر منكم من فعل معروف فإن الله يعلمه، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة. ثم تأتي في السياق مجموعة جديدة بعد أن سبقت معانيها بتمهيد. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. في هذا المجموعة، فريضة، وسؤال له علاقة بهذه الفريضة. وقاعدة عامة مرتبطة بهذه الفريضة. والفريضة، فريضة القتال. وهذه الفريضة تأتي بالأهمية بعد الأركان الخمسة مباشرة لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد سهم، وقد خاب من لا سهم له». وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) بينا أن بين الجهاد، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعا من
المعنى العام
الترادف، والتلازم. فالجهاد أمر بمعروف خارج حدود أرض الإسلام. والأمر بالمعروف جهاد على الأرض الإسلامية، ونلاحظ أنه في السياق العام في سورة البقرة قد جاءت هذه الفريضة بعد ما ذكر الحج. فالإيمان بالغيب ذكر أولا. ثم الصلاة، ثم الإنفاق الذي منه الزكاة ثم الصوم، ثم الحج وهاهنا تذكر فريضة القتال. ويلاحظ أن هذه الفريضة قد ذكرت في سياق الأمر بالدخول بشرائع الإسلام عامة، وسنرى أنه بدونها لا يبقى إسلام. ومن ثم نفهم حكمة ذكرها في هذا السياق. وإذ تكون أول فريضة منصوص عليها في السياق الجديد يفهم من ذلك أهميتها في موضوع الدخول في الإسلام كله فمن أراد أن يحقق أمر الله في الدخول في الإسلام كله فعليه أن يقاتل أو ينوي القتال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. المعنى العام: هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، مع علمه تعالى بشدة هذه الفريضة عليهم، وكثرة مشقتها لما يترتب عليها من قتل، أو جرح. ولما يكون فيها من مشقة سفر وتنقل، ومجالدة عدو. ولكن الله عزّ وجل لا يفرض ما يفرض مراعاة لما يحب عباده أو يكرهون. بل مراعاة لما هو المصلحة لهم في دنياهم وأخراهم. إذ قد يكره العبد شيئا، وفيه الخير. وقد يحب شيئا وفيه الشر. والله وحده هو الذي يعلم، وغيره لا يعلم. فمن ثم هو الذي يشرع. ولا حق لغيره أن يشرع. وفي موضوعنا: ترك القتال، يعقبه استيلاء الكفرة على البلاد والحكم. ويترتب عليه تعطيل أحكام الله. ويترتب عليه اغتيال العقيدة، والشريعة. وفي القتال تكون كلمة الله هي العليا. وفي ذلك الخير كل الخير. المعنى الحرفي: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ: أي فرض وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي: وهو مكروه لكم. ووضع المصدر محل اسم المفعول لتبيان فرط الكراهية. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: ككراهة للقتال، مع أن فيه إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ: كحبنا
فوائد
للقعود عن القتال مع ما فيه من الذل، والفقر، واستئصال الحق، وحرمان الغنيمة والأجر. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ: أي هو أعلم بما هو خير لكم. وهو أعلم بعواقب الأمور منكم. والأعلم بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم. فاستجيبوا له وانقادوا لأمره. فوائد: 1 - قال الزهري: (الجهاد واجب على كل أحد غزا، أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين، أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث. وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه، قعد). قال ابن كثير: ولهذا ثبت في الصحيح: «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات ميتة جاهلية». وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح. ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا». 2 - من أقوال الفقهاء في الجهاد: «الجهاد فرض كفاية ابتداء وإن لم يبدأنا الكفار بالقتال». «وإياك أن تتوهم أن فرضيته تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلا، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عينا». «والكلام كله في القتال ابتداء ولو لم يهاجمنا الكفار فآية: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً. (سورة التوبة) تدل على أن الجهاد فرض على كل من يلي الكفار من المسلمين على الكفاية فلا يسقط بقتال الروم ممن يليهم عن أهل الهند مثلا». «ويكون القتال فرض عين إن هجم العدو فيخرج الكل من ذكر وامرأة ومديون وغيرهم، ولو بلا إذن زوج أو أب أو صاحب دين، ويأثم الزوج والأب ونحوهما من المنع». «ويجب أن لا يأثم من عزم على الخروج وقعوده لعدم خروج الناس وتكاسلهم أو قعود السلطان أو منعه». (راجع حاشية ابن عابدين). 3 - تحدث الفقهاء عن صورة ما إذا كنا عاجزين عن مكافأة العدو فذكروا أنه يفترض علينا في هذه الحالة أن نعد العدة ونأخذ بالأسباب الموصلة إلى مكافأتهم وسيأتي معنا في هذا التفسير مزيد بيان في شأن القتال. 4 - إن القاعدة العامة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإذا كان قتال الكافرين حتى تكون كلمة الله هي العليا في العالم فريضة. فإن كل المقدمات اللازمة
سبب النزول
لذلك تكون من باب الفرائض، من التكوين الجهادي إلى التنظيم المناسب الذي يقيم دولة الإسلام في كل قطر إسلامي، إلى وحدة الأقطار الإسلامية إلى التصنيع والتخطيط إلى التعبئة الشاملة. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله: أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيده بن الجراح. فلما ذهب ينطلق، بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسه فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا. وقال: «لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك». فلما قرأ الكتاب، استرجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله. فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب. فرجع رجلان وبقي بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه. ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام. فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... المعنى العام: لما أكثر المشركون في تعيير المسلمين بالقتل في الشهر الحرام، وإذ اشتد ذلك على المسلمين. وخاصة على من شاركوا في القتل، أنزل الله عزّ وجل مبينا أن الصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، وأن الكفر بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام. وأن فتنة المسلم عن دينه حتى يرد إلى الكفر أكبر من القتل. فليكف المشركون عن استغلال هذه الحادثة، وليطمئن المسلمون. ثم بين الله عزّ وجل حقيقة: وهي أن أهل الكفر مقيمون على أخبث الكيد، وأعظمه لأهل الإسلام. وهم مستمرون في قتال أهل الإسلام حتى يرتدوا عن الإسلام. وفي هذا كله بيان لحكمة القتال إذ بدون قتال تكون الفتنة عن دين الله، ويكون استحلال كل
المعنى الحرفي
شعيرة، وتكون الردة الشاملة عن دين الله. ثم بين الله عزّ وجل عقوبة من يرتد عن دينه، إذ جزاؤه حبوط العمل، والخلود في النار. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ: السائل- كما قال عروة بن الزبير- هم وفد من مشركي قريش بعد الحادثة التي ذكرناها كسبب نزول. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟. فالسؤال إذن عن القتال في الشهر الحرام. والجواب: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: أي فيه إثم كبير. قال النسفي: وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وسواء كان النسخ، أو لم يكن. فإنه يفهم من الآية أن المسلمين يحل لهم الجهاد في كل وقت. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أي منع عن صراط الله. وَكُفْرٌ بِهِ: أي وكفر بالله. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ: أي وصد عن المسجد الحرام فالمسجد الحرام معطوف على سبيل الله. وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ: أي وإخراج أهل المسجد الحرام، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من المسجد الحرام. أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ: هذا خبر لكل ما سبق. فصار المعنى: أن الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، والكفر بالله، أكبر عند الله من القتل في الشهر الحرام. فهم من هذا أن ما فعلته السرية أقل مما فعله المشركون فما فعلته السرية إذن عدل، وليس ظلما. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: أي تعذيب الكفار للمسلمين ليفتنوهم عن دينهم أشد قبحا، وأعظم من القتل في الشهر الحرام. بله غيره. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ: إلى الكفر. و (حتى) هنا معناها التعليل. أي يقاتلونكم ليردوكم. وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين. وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم إِنِ اسْتَطاعُوا أي: إن استطاعوا أن يردوكم عن دينكم فلن يقصروا. والتعبير يشعر بعدم استطاعتهم بفضل الله. وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ: أي ومن يرجع منكم عن الإسلام. فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ: أي فيمت مرتدا. فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب، وحسن المآب. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ خلودا أبديا. لأنهم ماتوا على الكفر. والكافر لا يخرج من النار أبدا.
فائدة
فائدة: 1 - فهم من هذه الآية حكمة فرض القتال، وسبب وجوب قتال الكافرين. وذلك أنهم يصدون عن سبيل الله، ويكفرون به، ويفتنون المسلمين عن دينهم ويحرصون على تكفير المسلمين، واستئصال الإسلام؛ فمن ثم فرض الله علينا قتالهم. 2 - احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها صاحبها. وقال الحنفية: إن الردة تحبط العمل مباشرة، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. (سورة المائدة) وسبب الخلاف يرجع إلى خلاف أصولي فعند الشافعي: المطلق يحمل على المقيد. وعند الحنفية أن المطلق لا يحمل على المقيد. ويتفرع على الخلاف في الحبوط المباشر للعمل، أو عدمه ما يلي قال الشافعي: (إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله، ولا حجه الذي فرغ منه. بل إن مات على الردة، فحينئذ تحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردة. ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم. فقال مالك: يلزمه الحج. لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه. لأن عمله باق). ا. هـ من القرطبي. وقال الحنفية: بمجرد الردة ينفسخ عقد نكاحه. وإذا عاد إلى الإسلام يلزمه عقد جديد على من كانت زوجته. وقال الشافعي: لا يلزمه عقد جديد إن عاد إلى الإسلام. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات الثلاثة أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هذه هي القاعدة التي ختم الله بها هذه المجموعة. وهي تبين أن من اجتمع له الإيمان والهجرة- حيث تجب الهجرة- والجهاد في سبيل الله. فهذا الذي يستأهل رحمة الله، ويرجوها. وفي ذلك من الحض على الجهاد، ومن التخويف من تركه الكثير، وأكثر الناس عن هذه الآية غافلون. فهم يرجون رحمة الله- وهذا طيب- ولكن لا يفكرون في الجهاد ولا يهاجرون إذا وجبت الهجرة. سبب نزول الآية: إن المحنة التي مرت بها السرية إذ بقوا فترة وهم في حيرة وقلق قبل نزول الآية السابقة من أن يكونوا قد أثموا، إذ قتلوا في الشهر الحرام- جعلتهم يتطلعون إلى غزوة أخرى
فوائد
يكون لهم أجر فيها لا نزاع فيه. فأنزل الله فيهم هذه الآية، فوضعهم على أعظم الرجاء. لا فيما يأتي فقط. بل فيما مضى، كذلك قال ابن إسحاق: (فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان؛ حين نزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا .... فوضع الله منهم ذلك على أعظم الرجاء). فوائد: 1 - إن مجئ هذه الآية في نهاية هذه المجموعة، وفي سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. يصحح مفهوما خاطئا يمكن أن يقع فيه المسلمون، وهو الرجاء بلا هجرة ولا جهاد. وفيه تهديد لمن ترك بعض شرائع الإسلام ولو أدى بعضا. 2 - كانت الهجرة في أول الدعوة الإسلامية مفروضة إلى المدينة. وبعد فتح مكة قال صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». أي لا هجرة بعد فتح مكة منها. لأنها أصبحت دار إسلام. ولكن ما حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام؟. ومن دار البدعة إلى دار السنة؟ قال الحنفية: إنها واجبة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، وقال الشافعية: حيثما استطعت أن تعلن بالإسلام وتجهر به فأقم. فوجودك يجعل مكانك دار إسلام. ولكن حيث لا يستطيع الإنسان أن يجهر بدينه، أو حيث يخشى على نفسه، أو أهله الفتنة هل تجب عليه الهجرة أو لا؟. الظاهر إن كان يستطيع الهجرة إلى حيث يأمن فإنه يجب عليه. ونعود إلى السياق: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. هاهنا ثلاثة أسئلة وأجوبتها. سؤال حول الخمر والميسر. وسؤال ثان حول الإنفاق. وسؤال ثالث حول اليتامى. والأسئلة الثلاثة جاءت في سياق الأمر بالدخول
المعنى الحرفي
في شرائع الإسلام كلها. وهذه أسئلة عن أحكام الإسلام في أمور ثلاثة وأجوبتها. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. روى الإمام أحمد عن عمر أنه قال: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا». فنزلت هذه الآية التي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر. فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر فقرئت عليه. فلما بلغ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: قال عمر: انتهينا، انتهينا. وفي رواية ابن أبي حاتم بعد قوله انتهينا: إنها تذهب المال، وتذهب العقل». قال النسفي: (نزل في الخمر أربع آيات. نزل بمكة: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ... (سورة النحل) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله! أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ... فشربها قوم، وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة، فشربوا، وسكروا. فأم بعضهم فقرأ: «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون .. ». فنزل: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. فقل من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك جماعة، فلما سكروا منها، تخاصموا، وتضاربوا. فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. فقال عمر: انتهينا يا رب. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: عن تعاطيهما، وعن حكم الله فيهما. والخمر: مصدر خمره خمرا إذا ستره. وسميت بذلك، لسترها العقل. والميسر: القمار، مصدر من يسر كالموعد من وعد. يقال: يسرته، إذا قمرته. واشتقاقه من اليسر، لأنه أخذ من مال الرجل بيسر، وسهولة: بلا كد، ولا تعب. أو من اليسار. لأنه سلب اليسار. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ: أي يحتويان آثاما عظيمة بسبب التخاصم والتشاتم، وقول الفحش والزور. ولما في الخمر من زوال العقل وفقدان
فوائد
الاتزان. ولما يترتب على شربها من أخطاء وجرائم. ولما يترتب على شربها من نقصان أوقات الصحو للعبادة ولإقامة الدنيا. ولما في الميسر من خراب البيوت، وتحطيم الأعصاب، ووجود العداوة. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ومنافع الخمر من حيث إن فيها أحيانا بعض النفع للجسد في بعض حالاته، وفيها لذة لمن اعتادها، وفيها مصالح اقتصادية في الزرع والتسويق والتجارة. ومنافع الميسر مثل ارتفاق الفقراء، ونيل المال بلا تعب، وقيام كثير من المؤسسات عليها وقد يستفيد من ذلك خلق كثير. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فإذا قورنت المنافع بالمضار الآثمة فإن المضار أكثر. والذي يقول هذا هو الله المحيط علما بكل شئ والذي وحده يملك الحكم الخالي من كل نقص، أو جهل. وهكذا ينتهي الجواب عند هذا الحد. فكانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر والميسر على البتات. ولم تكن مصرحة بل معرضة. ولكنه التعريض الكافي لرفع الهمم إلى تركها، ولإشعار المسلم بالمكان الأردأ لهاتين القضيتين. إذ ذكر الإثم مشعر بالخطإ ولكن بما يترتب عليهما، وبما تحتويانه. فأصحاب الشرب والقمار، يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. ومن ثم يأثم متعاطيهما قبل التحريم القطعي. فمن الذي يستطيع أن يشرب الخمر، ويلعب الميسر، ولا يفعل أثرا محرما من آثارهما؟! فوائد: [1 - ان الميسر نقل للملكية غير معقول] 1 - إن الميسر نقل للملكية غير معقول. فإن تنتقل الملكية بضربة نرد، أو باستقرار رقم، أو ما أشبه ذلك. فذلك كله غير معقول في نقل الملك. لأنه لم يرافقه مقابل. ثم إن الميسر يتساقط حوله، وحول مؤسساته آلاف من الناس، يربحون دون أن يقدموا إنتاجا حقيقيا للأمة. 2 - صفة الميسر في الجاهلية: قال النسفي: (كانت لهم عشرة أقداح: سبعة منها عليها خطوط، وهي: الفذ وله سهم. والتوأم: وله سهمان. والرقيب: وله ثلاثة، والحلس: وله أربعة. والنافس: وله خمسة، والمسبل: وله ستة، والمعلى: وله سبعة وثلاثة أغفال لا نصيب لها. وهي: المنيح، والسفيح، والوغد. فيجعلون الأقداح في خريطة، ويضعونها على يد عدل. ثم يجلجلها، ويدخل يده، ويخرج باسم رجل، قدحا قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح. ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك
الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك. ويذمون من لم يدخل فيه). فأنت تلاحظ من صفة الميسر هذه أن ما يسمى باليانصيب اليوم الذي قد يكون قسم منه للفقراء، والقسم الكبير منه يذهب إلى المؤسسات، وإلى من يربح من أصحاب بعض الأرقام. هو من الميسر المحرم. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ: الْعَفْوَ. أخرج ابن أبي حاتم أن معاذ بن جبل، وثعلبة (رضي الله عنهما) أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول صلى الله عليه وسلم، إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا. فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ: الْعَفْوَ. والسؤال هنا- والله أعلم- عن مقدار ما ينفقون، وما يتركونه لأنفسهم. فكان الجواب أن ينفقوا ما فضل عن مقدار حاجة أنفسهم وأهليهم. فلا ينفق الإنسان ما يجهده، أو يجهد أهله، ثم يقعد يسأل الناس. روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: (قال رجل يا رسول الله! عندي دينار. قال: «أنفقه على نفسك». قال: عندي آخر. قال: «أنفقه على أهلك». قال: عندي آخر. قال: «أنفقه على ولدك». قال: عندي آخر. قال: «فأنت أبصر»). وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. واليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول». وهل الأمر بإنفاق العفو كان فرضا في أول الإسلام ثم نسخت الفريضة بآية الزكاة، وبقي إنفاق العفو على الندب؟. قاله ابن عباس، ولم يذكر النسفي غيره. أو أن الأمر بإنفاق العفو كان مندوبا في الأصل، وبقي على الندب ثم جاءت آية الزكاة لتحدد المفروض؟. أو أن الأمر بإنفاق العفو كان فرضا، وجاءت آية الزكاة لتحدد هذا العفو الواجب، فآية الزكاة إذن مبينة؟. قاله مجاهد وغيره. قال ابن كثير: وهو أوجه، وعلى كل حال، فالزكاة هي فريضة المال، وفي المال واجبات أخرى. ويبقى إنفاق ما زاد عن الحاجة نافلة. وفي الحديث: «ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك. ولا تلام على كفاف». كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: أي مثل هذا التبيين المار بينه الله لكم لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين. فتأخذون بما هو أصلح لكم، أو تتفكرون في الدارين، فتؤثرون أبقاهما، وأكثرهما منافع. فصار المعنى العام: كما فصل لكم هذه الأحكام، وبينها، وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في شأن الدنيا، وفنائها. وأنها دار بلاء، ثم دار فناء. وإقبال الآخرة، وبقائها. وأنها دار جزاء، ثم دار بقاء فتعلمون
المعنى الحرفي
فضل الآخرة على الدنيا، وتؤثرون الآخرة عليها. نفهم من هذا أن من حكم نزول القرآن العظيم بآياته كلها، إثارة تفكير الإنسان. فمن لم يستثر القرآن تفكيره في أمر الدنيا والآخرة، فإنه لا يكون قد حقق الحكمة من هذا البيان الواضح في القرآن. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة الأنعام) وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (سورة النساء) انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ... رواه أبو داود والنسائي. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... أي: عن مخالطتهم في الطعام والشراب، بجعل الطعام والشراب مشتركا بين اليتيم ووصيه، وأمثال ذلك. والجواب قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ: أي مداخلتهم على وجه الإصلاح خير لهم ولأموالهم وخير من مجانبتهم ويحتمل أن يكون المراد بالإصلاح عزل طعامهم وشرابهم على حدة. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ: أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم، لأنهم إخوانكم في الدين. قالت عائشة: «إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي». وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ: لأموالهم. مِنَ الْمُصْلِحِ: لها. أي: يعلم من قصده ونيته الإفساد، أو الإصلاح، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ: العنت هو المشقة، والحرج. أي: لو شاء الله لضيق عليكم، وأحرجكم. ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل، لمن أيسر، أو مجانا، كما سيأتي بيانه في سورة النساء. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ. أي: غالب. يقدر أن يعنت عباده ويحرجهم إن شاء ويعاقبهم إن خالفوا في الدنيا وفي الآخرة. حَكِيمٌ: لا يكلف عباده إلا وسعهم.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: ما الصلة بين الأسئلة الثلاثة، والآيات التي قبلها مباشرة؟. إن المجموعة التي سبقت هذه الأسئلة كان موضوعها الرئيسي هو القتال. وآخر آية منها تحدثت عن الهجرة والجهاد. ادرس ظواهر الهجرة في العالم، تجد أنها تنتشر بسببها عادتا شرب الخمر، والميسر، ثم هي تحتاج إلى أعلى درجات الإنفاق. وتجد كثرة اليتامى أثناءها. وادرس حياة الجند، وقضايا القتال تجد أن القتال يحتاج إلى أعلى درجات الإنفاق. وأن اليتامى يكثرون بسبب القتال، وأن أكثر جنود العالم يسكرون ويقامرون فإن تأتي هذه الأسئلة، ويجاب عليها في هذا السياق، فلذلك أسبابه الكثيرة. وكنا ذكرنا من قبل، أن الموضوع الرئيسي للقسم الثالث كله في مقطعيه هو الدخول في الإسلام كله. ومن ثم نعرف سر ذكر الأسئلة في هذا السياق، والإجابة عليها. فإذا جاءت فريضة القتال في هذا السياق، أو جاء التمهيد لتحريم الخمر. أو جاءت الإباحة لمخالطة اليتامى. فكل ذلك جامعه أنه من الإسلام الذي يأمر السياق بالدخول فيه كله. فصول شتى: فصل في أن الإسلام هو السلام: يلاحظ أن قوله جل جلاله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً قد فسر في أنه أمر بالدخول في الإسلام. وسنرى أنه في أكثر من مكان في القرآن يعبر عن الإسلام؛ بالسلام. كقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (سورة النساء) أي: لا تقولوا لمن قال لكم لا إله إلا الله، لست مؤمنا. وفي ذلك دليل على أنه لا سلام إلا بهذا الإسلام. صحيح أن الإسلام فرض القتال على المسلمين، وأن الجهاد في الإسلام هو بذل الجهد في القتال من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا. ولكن ذلك كله من أجل أن يعم السلام العالم. فعند ما تكون كلمة الله هي العليا في العالم كله. عندئذ يتحقق السلام على هذه الأرض في صوره كلها. السلام في محيط الأسرة، والسلام في نفس الفرد، والسلام بين المسلمين وغير المسلمين ممن يعيشون في ظل الدولة المسلمة، والسلام بين العامل ورب العمل، والسلام بين الحاكم والمحكوم، وذلك لا يكون إلا إذا كانت كلمة الله هي الحاكمة. وكلمة الله حق وعدل. فالله عزّ وجل كلف كل إنسان أن يدخل في الإسلام ليحقق السلام في ذاته، وكلف المسلمين أن يخضعوا العالم لكلمة الله ليتم السلام بانتصار الإسلام.
فصل في الحذر من الدراسات الموجهة في شأن الأديان
فصل في الحذر من الدراسات الموجهة في شأن الأديان: رأينا قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ورأينا اتجاهات المفسرين فيها. وبهذه المناسبة نحب أن نشير إلى نقطة مهمة هي: إن الغالبية العظمى من الدارسين في الآثار، والباحثين عن الديانات، والمشتغلين بالمقارنة بين الأديان، ينطلقون من نظرة مسبقة. وعلى ضوء ذلك يبحثون، ويحللون، ويعللون. وأسوأ هؤلاء أصحاب الفكر الشيوعي. فهؤلاء ينطلقون من نظريتهم في التطور التاريخي ليضعوا الأحداث في بوتقتها. فليست المكتشفات، ولا الآثار، ولا الروايات هي التي توجه النظرية، أو المقارنة بل كل شئ يكتشف هو لصالح هذه النظرية. ومن ثم فإن علينا أن نكون حذرين جدا ونحن نقرأ كل دراسة للتاريخ القديم، وكل دراسة مقارنة للأديان. الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الثالث: تتألف هذه الفقرة من خمس آيات. من الآية (221) إلى نهاية الآية (225) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 221 الى 225] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
كلمة في الفقرة
كلمة في الفقرة: رأينا أن قسما من الفقرة السابقة كان بمثابة المقدمة للقسم كله. وكان قسم منها فيه تكليف عليه طابع الفعل بينما هذه الفقرة عليها طابع الترك في التكليف. فهي تنهى عن نكاح المشركين، والمشركات. وتنهى عن جماع الزوجة في الحيض. وتنهى عن إتيان المرأة في دبرها. وتنهى أن تكون الأيمان حائلا دون البر والإصلاح. فإذا كانت الفقرة الأولى فى أجواء: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فهذه الفقرة في أجواء: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ولو أنك فتشت عن نهي يسبق قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا .. يمكن أن تربط به هذا النهي فإنك تجد أول نهي على نفس الوزن هو: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ولكن حتى قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ جاء بعد الأمر بالدخول في شرائع الإسلام كلها. ولذلك، فإن هذه الفقرة تعرض علينا مجموعة من شرائع الإسلام في موضوع النكاح، والحياة الزوجية، والأيمان. وفيها نهيان، وسؤال وجوابه، وقاعدة. أما النهيان: فلهما صلة بموضوع تحريم الزواج بأهل الشرك، وبموضوع اتخاذ الأيمان حائلا دون البر والإصلاح. وأما السؤال: فحول علاقة الرجل بزوجته في فترة الحيض. وأما القاعدة: فحول الوظيفة الحياتية بين الرجال والنساء. والصلة بين آيات الفقرة سنراها. والصلة بين النهي الأول، وقضايا القتال، من حيث إن القتال قد يوجد تطلعات عند أصحابه للزواج بالمشركات، أو لتزويج المشركين. وعلى كل فكما قلنا فإن الفقرة آتية في سياق الدخول في شرائع الإسلام كلها فهي تفصيل لبعض هذه الشرائع. ولنبدأ تفسير الفقرة. وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
المعنى الحرفي
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. هذا تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات، أو يزوجوا المشركين. والحكمة في ذلك، أن معاشرة أهل الشرك ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة. والله يريد بشرعه، وبما أمر ونهى أن يسير المؤمنون في طريق الجنة، والمغفرة. فعلى المؤمن أن يكون متذكرا يقظا. إذ لم تنزل الآيات وتبين إلا لهذا. المعنى الحرفي: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ أي: لا تتزوجوهن. حَتَّى يُؤْمِنَّ أي: إلا إذا آمن وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي: لعبدة رقيقة مؤمنة. خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ: أي: أحسن من حرة مشركة، ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم، وتحبونها. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي: ولا تزوجوا المشركين بمسلمة حَتَّى يُؤْمِنُوا أي: حتى يدخلوا في الإسلام وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أي: ولرجل مؤمن ولو كان عبدا رقيقا خير من مشرك، وإن كان رئيسا، سريا. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ هذه حكمة التحريم. والإشارة في أُولئِكَ إلى المشركين والمشركات. والمعنى أن أهل الشرك يدعون إلى الكفر والدنيا فقط. وذلك عمل أهل النار. فحقهم ألا يوالوا، وألا يصاهروا. أما المؤمنون، وهم أولياء الله. فإنهم دعاة إلى الجنة، والمغفرة، وما يوصل إليها. فهم الذين تجب موالاتهم، ومصاهرتهم. إذ إنهم هم الذين يدعون إلى ما يدعو الله له من الجنة، والمغفرة بأمر الله، وبعلمه. وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: يتعظون. فوائد: 1 - غير المسلم، مشرك. النصارى أشركوا، واليهود أشركوا، والمجوس مشركون والبراهمة والبوذيون، وكل أصحاب دين غير الإسلام. وكذلك الملحدون، وشرك الملحدين من باب أنهم أعطوا المادة والطبيعة، صفات الله. فهي عندهم الخالقة، والرازقة، والمحيية، والمميتة، وهكذا. وقد حرم الله عزّ وجل على المسلمين نكاح المشركات جميعا إلا يهودية، أو نصرانية بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. (سورة المائدة) ولكنه حرم على المسلمة أن تتزوج إلا من
مسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نتزوج نساء أهل الكتاب، ولا يتزوجون نساءنا». قال ابن جرير: (وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فالقول به، لإجماع الجميع من الأمة عليه). وقد حكى ابن جرير أن الإجماع منعقد على إباحة تزوج الكتابيات وقال: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس بالمسلمات. وروي عن شقيق قال: (تزوج حذيفة يهودية. فكتب إليه عمر: خل سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟. فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعافوا المؤمنات منهن). قال ابن جرير: وهذا إسناد صحيح. فإذا اتضح هذا. فهل ذكر المشركين والمشركات في الآيات هنا خاص بغير أهل الكتاب؟ أو أنه يدخل فيه أهل الكتاب، ثم أخرج منهم أهل الكتاب بآية المائدة؟ قولان للعلماء. ولا يترتب على هذا الخلاف عمل. والحكمة- والله أعلم- في تحريم الزواج بالمشركة، وحله بالكتابية، أن الكتابية تؤمن بالله، واليوم الآخر، نوع إيمان على خلاف المشركة. والحكمة في تحريم غير المسلم على المسلمة، أن الزواج نوع سيادة. ولا سيادة لكافر على مسلم، أو مسلمة. 2 - فى الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك». وفي صحيح مسلم، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع؛ وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة». 3 - لا يجوز نكاح المرتدة عن الإسلام. ولا يجوز تزويج المرتد. وهذه قضية دقيقة في عصرنا. فلا بد لراغب الزواج، أو التزويج أن يتأكد من عدم وجود نوع من أنواع الردة. 4 - ذكر السدي سببا لنزول قوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. قال: نزلت في عبد الله بن رواحة. كانت له أمة سوداء. فغضب عليها، فلطمها. ثم فزع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها. فقال له: «ما هي». قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال: «يا أبا عبد الله هذه مؤمنة». فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها. ففعل. فطعن عليه ناس من المسلمين. وقالوا: نكح أمته. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم. فأنزل الله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ.
المعنى الحرفي
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، قُلْ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ. فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ: روى الإمام أحمد عن أنس: أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت (أي لا يجتمعون بها أصلا) فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ .. الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصنعوا كل شئ إلا النكاح». المعنى الحرفي: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ أي: عن الأحكام التي تترتب على الحيض. وتعريف الحيض في كتب الحنفية: «دم يخرج من رحم آدمية تم لها من العمر تسع سنين فأكثر، ولا داء بها، ولا حبل، ولم تبلغ خمسا وخمسين سنة. وأقله ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره عشرة أيام بلياليها. والناقص عن أقله، والزائد عن أكثره، أو على العادة، وجاوز أكثره: استحاضة». والجواب: قُلْ: هُوَ أَذىً أي: شئ يستقذر ويؤذي من يقرب صاحبته، ويؤذيها اقترابه. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي: فاجتنبوا مجامعتهن وَلا تَقْرَبُوهُنَّ: مجامعين، أو ولا تقربوا مجامعتهن حَتَّى يَطْهُرْنَ: أي: حتى ينقطع الحيض وتغتسل، أو تتيمم من عذر. قال ابن كثير: (وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء، أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول: فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض- وهو عشرة أيام عنده- إنها تحل بمجرد الانقطاع. ولا تفتقر إلى غسل) اه. ونضيف أنه عند الحنفية إذا انقطع لأقل من عشرة، لا يجوز وطؤها حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت صلاة بعد الطهر ولم تغتسل. فَإِذا تَطَهَّرْنَ: أي بالماء، أو بما ينوب منابه فَأْتُوهُنَّ: أي فجامعوهن. والأمر هنا للندب. وهو إرشاد إلى غشيانهن بعد الطهر. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. أي: في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره. وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أي: من الذنب، وإن تكرر غشيانه. فالتواب هو الذي يتوب مرة، فمرة، فمرة، كلما تكرر ذنب، أحدث له توبة. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ المتنزهين عن الأقذار، والأذى، أو المتطهرين بالماء، أو المتنزهين من أدبار النساء. أو من الجماع في الحيض. أو من الفواحش، أو من هذا كله.
فوائد
فوائد: 1 - يخطئ بعض الناس، فيظن أن الطهر من الحيض هو انقطاع الدم، وعدم ظهوره في الخارج. والواقع أنه قد لا يظهر الدم في الخارج، ولا يكون طهر. فالعبرة هي في الانقطاع الفعلي من الداخل. وعلامة ذلك أن تدخل المرأة القطن في داخل فرجها. فإذا خرج عليه الطهر الخالص، أو لم يظهر عليه شئ أصلا عندئذ تكون قد طهرت. 2 - قال ابن كثير: (ثم ذهب كثير من العلماء، أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج). قال النسفي: (ثم عند أبي حنيفة، وأبي يوسف: يجتنب ما اشتمل عليه الإزار. ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج). روى أبو داود عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد قالت: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. دخل فمضى إلى مسجده- قال أبو داود: تعني مسجد بيتها- فما انصرف حتى غلبتني عيني. فأوجعه البرد. فقال: «ادني مني». فقلت: إني حائض. فقال: «اكشفي عن فخذيك. فكشفت فخذي. فوضع خده وصدره على فخذي. وحنيت عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم». وعن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟. قالت: كل شئ إلا الجماع. والذين ذهبوا إلى أنه لا يحل إلا ما فوق الإزار أدلة، مأخذهم أنه حريم الفرج، فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله، الذي أجمع العلماء على تحريمه. وهو المباشرة في الفرج. ومن أدلتهم ما ورد في الصحيحين عن ميمونة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه، أمرها فأتزرت وهي حائض»، هذا لفظ البخاري. 3 - من أتى امرأته وهي حائض، فقد أثم. وعليه التوبة، والاستغفار. وهل يلزمه مع ذلك كفارة أو لا؟. فيه قولان، أحدهما: نعم، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار، أو نصف دينار. وفي لفظ للترمذي: «إذا كان دما أحمر فدينار. وإن كان دما أصفر فنصف دينار». وللإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض نصاب دينار. فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار. والقول الثاني- وهو الصحيح- من
المعنى الحرفي
مذهب الشافعي. وقول الجمهور: أنه لا شئ فى ذلك. بل يستغفر الله عزّ وجل. لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث. فإنه قد روي مرفوعا كما تقدم، وموقوفا، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث. 4 - ويحل مضاجعتها، ومواكلتها بلا خلاف. قالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه، وأنا حائض. وكان يتكئ في حجري وأنا حائض. فيقرأ القرآن). وفي الصحيح: (كنت أتعرق العرق «العرق هو العظم إذا كان عليه لحم»، وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه. وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه). وقالت: (كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد، وأنا حائض، طامث. فإن أصابه مني شئ غسل مكانه. لم يعده «أي لم يتجاوزه»، وصلى فيه). وأما ما رواه أبو داود عن عائشة أنها قالت: (كنت إذا حضت، نزلت عن المثال «الفراش» على الحصير. فلم تقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تدن منه حتى تطهر). فهو محمول على التنزه، والاحتياط. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. هذا بيان وتوضيح لقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي: إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث، تنبيها على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب الأولاد، لا قضاء الشهوة فحسب. فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي نيط به هذا المطلوب. المعنى الحرفي: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي: نساؤكم مواضع حرث لكم. وهذا مجاز، شبهه بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي فيها النسل- بالبذور والولد بالنبات. فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي: جامعوهن متى شئتم، أو كيف شئتم، باركة، أو مستلقية، أو مضطجعة بعد أن يكون المأتى واحدا. وهو موضع الحرث. وهو تمثيل. أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم. لا يحظر عليكم جهة دون جهة. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يجب تقديمه من الأعمال
سبب نزول هذه الآية
الصالحة، وما هو خلاف ما نهيتم عنه، أو هو طلب الولد، أو التسمية على الوطء، أو القبلة والمداعبة قبل الجماع. وَاتَّقُوا اللَّهَ: بعدم اجترائكم على مناهيه. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي: صائرون إليه، فمحاسبكم على أعمالكم جميعا، فاستعدوا للقائه. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: أي بما أعد الله لهم في الآخرة. سبب نزول هذه الآية: عن جابر بن عبد الله قال: إن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول. فأنزل الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مقبلة ومدبرة، إذا كان ذلك في الفرج». أخرجه ابن أبي حاتم. وعن ابن عباس: (كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب- وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم. فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف. وذلك أستر ما تكون المرأة. فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا. ويتلذذون بهن مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار. فذهب يصنع بها ذلك. فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني. فسرى أمرهما، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ .. أي: مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات. يعنى بذلك موضع الولد). قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، ويشهد له بالصحة ما تقدم من الأحاديث. ولا سيما رواية أم سلمة. فإنها مشابهة لهذا السياق. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: (جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: هلكت. قال: «ما الذي أهلكك؟» قال: حولت رحلي البارحة. قال: فلم يرد عليه شيئا. قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ .... أقبل، وأدبر، واتق الدبر والحيضة). ورواه الترمذي من طريق آخر وقال: حسن غريب. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ في أناس من الأنصار، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ائتها على كل حال إذا كان في الفرج».
فوائد
فوائد: 1 - عن حفصة أم المؤمنين: أن امرأة أتتها فقالت: إن زوجي يأتيني مجبية ومستلقية، فكرهته. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا بأس إذا كان في صمام واحد». عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا. إن الله لا يستحيي من الحق. لا يحل أن تأتوا النساء فى حشوشهن». روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون من أتى امرأته في دبرها». وإتيان النساء في أدبارهن حرام. أجمع على ذلك الأئمة الأربعة بالنقول الثابتة عنهم. وما عدا ذلك فمردود. 2 - إن ما بين قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. وما بين الآية قبلها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... وما بين النص قبله ارتباط واضح. فوقت الحيض ليس أوان بذار. والمشركة ليست أرضا صالحة للبذرة الصالحة. 3 - ورد معنا في تفسير الآية الأخيرة أنه مما فسر به قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ: التسمية قبل الجماع. وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله. اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدا». 4 - ورد في هذه الفقرة قوله تعالى عن الحيض: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ ... وقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. وقوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. وهذا كله من الكنايات اللطيفة، والتعريضات المستحسنة عما لا ينبغي التصريح به إلا في حالة الضرورة. فعلى كل مسلم أن يتأدب بها. ويتكلف مثلها في المحاورات، والمكاتبات.
ولنعد إلى السياق
5 - يلاحظ في هذا السياق المبدوء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. أنه قد جاء حتى الآن- ولا يوجد بعدها غيرها- ستة مرات، يسألونك. ثلاث مرات بلا واو. ثم مع الواو ثلاثا. قال النسفي في تعليل ذلك: (لأن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة. فلم يؤت بحرف العطف. لأن كل واحد من السؤالات، سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد. فجيء بحرف الجمع لذلك. 6 - أيهما أشد حرمة: إتيان الرجل زوجته في فرجها وهي حائض أو نفساء؟. أو إتيانها في دبرها؟ المسألة خلافية. والقائلون بأن إتيان الحائض في الفرج أشد حرمة قالوا: لو أن رجلا ازداد شبقه، ولم يجد سبيلا إلى صرف شهوته لا بتبطين، ولا تفخيذ، فإنه يأتي زوجته في دبرها، ولا يأتيها في فرجها أثناء حيضها، أو نفاسها. والحرمة واقعة، والاستغفار واجب. ولنعد إلى السياق: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. هذا معنى جديد في سياق الأمر بالدخول في شرائع الإسلام كافة. وهو بيان لجزء من شرائع الله في موضوع الأيمان. ومجيئه بين الكلام عن النكاح، والطلاق واضح الحكمة، لأن الطلاق نوع يمين، ولأن حلف الإنسان في حياته الأسرية كثير. المعنى العام: يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها. ثم بين الله عزّ وجل أنه لا يعاقبنا، ولا يلزمنا بما صدر منا من الأيمان اللاغية، ولكن يؤاخذنا على ما تعمدنا من الإثم في الأيمان. المعنى الحرفي: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ: العرضة فعلة، بمعنى مفعول. وهي اسم ما تعرضه دون الشئ. فيتعرض دونه، ويصير حاجزا، ومانعا منه. تقول: فلان
[سورة البقرة (2): آية 225]
عرضة دون الخير. كان الرجل يحلف ألا يفعل بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات البين، أو إحسان إلى أحد، ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البر، إرادة أن يبر في يمينه. فقيل لهم: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي حاجزا لما حلفتم عليه. والمقصود باليمين في الآية المحلوف عليه. وإنما سمي يمينا لتلبسه باليمين. كقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين- أي على محلوف عليه- فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه». فصار المعنى: ولا تجعلوا اسم الله مانعا لكم عن ما حلفتم عليه من أن تفعلوا البر، أو تتقوا .. أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ: هذا بيان للأمور المحلوف عليها. والتي لا ينبغي أن يبر الإنسان بيمينه إذا حلف ألا يفعلها: البر، والتقوى والإصلاح بين الناس. ويدخل في البر والتقوى كل شرائع الإسلام. ويدخل في الإصلاح بين الناس كل بذل جهد يؤلف بين القلوب على الحق. وذهب بعضهم إلى أن اللام لِأَيْمانِكُمْ للتعليل وعلى هذا يكون معنى الآية: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به مانعا لأن تبروا، وتتقوا، وتصلحوا بين الناس. إذ فعلكم هذا قلب لما ينبغي. فالله عزّ وجل يريد ممن آمن به أن يندفع في البر والتقوى، والإصلاح بين الناس وهذه هي ثمرة الإيمان بالله. فإذا فعلتم غير هذا، قلبتم الحقائق. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم. عَلِيمٌ: بنياتكم. لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو: هو ما لا يعتد به من كلام، وغيره. ولغو اليمين: هو الذي لا يعتد به في باب الأيمان. وتعريفه عند الحنفية: أن يحلف الرجل على شئ يظنه على ما حلف. والأمر بخلافه. وعند الشافعية: هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف. نحو: لا والله، وبلى والله. ومعنى النص: لا يعاقبكم الله بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي: ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب في اليمين. وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله، وهو اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في النار. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ: حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم. وحيث يقبل التوبة النصوح عن أي ذنب. فوائد: 1 - قال الحنفية: الأيمان ثلاثة: غموس، ومنعقدة، ولغو، فالغموس أن يحلف كاذبا عمدا. ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار. واللغو: أن يحلف على أمر يظنه كذلك، وليس كذلك. والمنعقدة: أن يحلف على مستقبل آت. وهذا القسم فيه الكفارة إن حنث فيه: فاللغو لا إثم فيها، ولا كفارة. ولكن الأدب أن لا يحلف. قال
الشافعي: ما حلفت بالله كاذبا ولا صادقا. والمنعقدة فيها الكفارة كما سنرى في سورة المائدة إن شاء الله. والغموس فيها الإثم. والواجب فيها: التوبة فقط عند الحنفية، والتوبة والكفارة عند الشافعي. تعلق الإمام الشافعي بوجوب الكفارة بالآية المارة آنفا. لأن كسب القلب: العزم، والقصد. والمؤاخذة غير مبينة هنا. وبينت في المائدة. فكان السياق ثمة بيانا هنا. ورد الحنفية: بأن المؤاخذة هنا مطلقة، وهي في دار الجزاء. والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء، فلا يصح حمل البعض على البعض. 2 - في الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه: باللات، والعزى. فليقل: لا إله إلا الله». قال ابن كثير: (فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا، وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد. فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد، لتكون هذه بهذه). 3 - رأينا أن ليمين اللغو تعريفا عند الشافعية وآخر عند الحنفية. ومدار التعريفين على كلام عائشة، (رضي الله عنه) ومن وافقها. قالت عائشة في إحدى الروايات عنها في تعريف اللغو: هو الشئ يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه. وفي رواية أخرى: هو قوله: والله، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك. 4 - وفي حديث مرسل عن الحسن، إسناده حسن. قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون- يعني يرمون- ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه. فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله؟ قال: «كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة». 5 - أخرج أبو داود عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة. فقال: إن عدت تسألني عن القسمة مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية من مالك. كفر عن يمينك، وكلم أخاك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عزّ وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك». 6 - روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لأن يلج أحدكم بيمينه في
كلمة في الفقرة الثانية وسياقها
أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه». وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها». وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها من غير مسألة، أعنت عليها. وإن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك». وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير». كلمة في الفقرة الثانية وسياقها: منعت هذه الفقرة من نكاح المشركات والمشركين. وحضت على نكاح المؤمنين والمؤمنات. وبالنكاح يوجد وضع ما بين الزوجين. ومن ثم تحدثت الفقرة عن حرمة الوطء في الحيض، وحله بعد الطهر والتطهر حقيقة، أو حكما. وبينت الفقرة أنه متى اجتنب الإنسان الحيض والدبر، فإن أي وضعية من وضعيات الجماع، تحل له. وفي هذا السياق الذي فيه كلام عن أنواع الطهارة، والذي يتحدث عن أمور هي من مكامن الضعف البشري. جاء قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وفي الحياة الزوجية، والعائلية، تكثر الأيمان. والحياة الزوجية معرضة للفساد ومن ثم جاءت آيتان في الأيمان. ثم تأتي فقرة لاحقة، تبدأ بكلام عن نوع من الأيمان، يؤثر على الحياة الزوجية، وهو ما يسمى بالإيلاء كما سنرى إن شاء الله. ثم ينتقل السياق إلى الكلام عن الطلاق، وصلة ذلك ببعضه لا تخفى: فصول شتى: فصل في الأسرة: رأينا في الفقرة السابقة بعضا مما له علاقة في موضوع الأسرة في الإسلام. والفقرة السابقة واللاحقة تشكلان بعضا من دستور الأسرة في الإسلام. وفي هذا المقام، عن موضوع الأسرة يقول صاحب الظلال. والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تلتقي
مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة وتفسر الحياة وتتعامل مع الحياة. والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة. تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته. ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة. ودوره في الأرض هو أضخم دور .. امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل .. ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة. وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم، الذي جعله الله للإنسان. أو التي اضطرت بعض الدول الأوروبية اضطرارا لإقامتها، بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة، التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني، والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام، أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشئوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل، تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان. هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظلل الأسرة، لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي، فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات .. وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية، وهو هو هذا النظام الملعون، الذي يضحي بالصحة النفسية لأعلى ذخيرة على وجه الأرض .. الأطفال .. رصيد المستقبل البشري .. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل زيادة في دخل الأسرة. أو في مقابل إعالة الأم، التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل، بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه الأرض. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم، وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل ... يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها
فصل في نكاح غير المسلمات
من العناية ما يتفق مع دورها الخطير .. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام. وهذه السورة واحدة منها. فصل في نكاح غير المسلمات: عند قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ، ذكر القرطبي الاتجاهات الفقهية في مجموعة مسائل لها صلة في نكاح غير المسلمات. فبالنص أن المشركة لا يجوز نكاحها وكذلك المشرك، وبالنص في سورة المائدة أبيح لنا نكاح الكتابيات فتعينت حرمة نكاح المسلمة من مشرك وجاز نكاح المسلم من الكتابية. قال القرطبي بعد أن نقل قول ابن عمر في عدم جواز نكاح الكتابية: قال النحاس: (وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال: بتحليل نكاح أهل الكتاب من الصحابة، والتابعين جماعة، منهم: عثمان، وطلحة، وابن عباس، وجابر، وحذيفة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، والشعبي، والضحاك؛ وفقهاء الأمصار عليه). قال القرطبي: (واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب. فقال مالك: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ... وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز نكاح إماء أهل الكتاب). قال القرطبي: (واختلفوا في نكاح نساء المجوس. فمنع مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وإسحاق من ذلك. وقال ابن حنبل: لا يعجبني .. وقال ابن القصار: قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين، أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم). وقال القرطبي: (وروى ابن وهب عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين. وكذلك الوثنيات، وغيرهن من الكافرات. وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات؟. فقالا: لا بأس بذلك .. ) وأطال القرطبي برد هذا القول. ومما مر ندرك أن الإجماع منعقد على حرمة تزويج المسلمة بكافر، وندرك دليلة: وهو أن النص حرم زواج المسلمة بالمشرك ولم يأت مخصص ولا ناسخ. فصل في النكاح بولي: من المعارك الفقهية، معركة هل يجوز للمرأة البالغة أن تزوج نفسها بغير ولي. ومن
فصل في النكاح عند الحنفية
حجج القائلين بالمنع قوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. فقد أسند النكاح إلى الأولياء. ومن حجج المجيزين أن هناك آيات أسندت النكاح إلى المرأة: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ. وكل من الطرفين وجه حجج الآخر. وهو موضوع سيمر معنا تفصيلا في كتاب (الأساس في السنة وفقهها) إن شاء الله. وممن ذهب إلى الجواز: أبو حنيفة. قال القرطبي: (وكذلك كان أبو حنيفة يقول: «إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا، بشاهدين، فذلك نكاح جائز». وهو قول زفر. وإن زوجت نفسها غير كفء، فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما). فصل في النكاح عند الحنفية: الزواج عند الحنفية أفضل من التفرغ للعبادة. وهو واجب عندهم متى تاقت نفس الإنسان للجماع. وفريضة إن تيقن الإنسان أنه سيقع في الزنا إن لم يتزوج. وسنة حال الاعتدال. ومكروه لخوف الجور. وحرام إن تيقن من نفسه الجور. ويتم بإيجاب، وقبول بالألفاظ المعتمدة لذلك، بحضور شاهدين، حرين. أو حر، وحرتين، مكلفين، سامعين قولهما معا، فاهمين أنه نكاح مسلم لنكاح مسلمة كما صح نكاح مسلم ذمية عند ذميين، ولو مخالفين لدينها. فلو قال مسلم بالغ عاقل لمسلمة بالغة عاقلة: زوجيني نفسك على مهر قدره كذا. فقالت: زوجتك. وكان الشاهدان حاضرين، وسمعا كلام الطرفين، انعقد العقد. فصل في سبب الحيض ومدته: الحيض عند المرأة سببه عدم تلقيح البويضة عند الأنثى. فالبويضة إذا لم تأتها النطفة تنفجر. ويتسبب عن ذلك خروج هذا الدم المعروف. وواضح أن المرأة خلال فترة حيضها ليست جاهزة للحمل. بل لا تحمل المرأة إلا في الطهر. ومن ثم ربط جواز وطئها فيه، على أن المنع من الوطء حال الحيض له أكثر من حكمة. أولها عدم نظافة المحل. وهذا بعض ما حمل عليه المفسرون كلمة الأذى في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. قُلْ: هُوَ أَذىً. فالأذى على هذا الاتجاه نفسي، عملي. ولكن الأمر فيما يبدو أوسع من ذلك. فالنساء اللواتي يأتيهن أزواجهن في الحيض يشتكين من آلام، وأوجاع كثيرة. فالأذى حاصل للزوج. وحاصل للمرأة على اختلاف في نوع الأذى، ودرجته، وطبيعته عند كل من الرجل والمرأة. وأقل الحيض عند الشافعية والحنابلة يوم. وأكثره خمسة عشر يوما. فما نقص عن يوم، أو زاد عن خمسة عشر
الفقرة الثالثة في المقطع الاول من القسم الثالث
يوما فهو استحاضة عندهم. وقال الحنفية: أقله ثلاثة أيام. وأكثره عشرة أيام. فما نقص عن الثلاثة أيام فليس حيضا. وما زاد عن عشرة فهو استحاضة. وإذا كان لها عادة فاستمر معها الدم حتى جاوز العشرة. فما زاد عن عادتها فهو استحاضة أما إذا لم يتجاوز العشرة فكله حيض. وعند المالكية تفصيلات يرجع إليها في كتبهم. الفقرة الثالثة في المقطع الاول من القسم الثالث: وتمتد هذه الفقرة من الآية (226) إلى نهاية الآية (242) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 226 الى 242] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
كلمة في هذه الفقرة وسياقها
كلمة في هذه الفقرة وسياقها: من الكلام عن الأيمان إلى الحديث عن الإيلاء: وهو يمين في قضية خاصة هو: أن يحلف الإنسان ألا يقرب زوجته أربعة أشهر، أو أكثر على خلاف في ذلك، إلى الكلام عن الطلاق، إلى الكلام عن الوفاة وهما الصورتان الرئيسيتان لتصفية الحياة الزوجية ثم العودة إلى ذكر صور في الطلاق، ثم كلام عن الصلاة، ثم عودة إلى حديث الوفاة والطلاق. ثم تأتي خاتمة الفقرة. وبهذه الفقرة، والفقرة السابقة يستكمل الحديث عما له علاقة في شئون الأسرة. نكاح، فحياة زوجية، فاستقرار، ففراق بطلاق أو موت. فإن كان طلاق فكيف تصفى الحياة الزوجية؟ .. وإن كان موت فما العمل؟ .. وهناك صور يتم فيها الطلاق قبل الدخول أصلا .. فما العمل؟. وفي هذا السياق يأتي أمر بالصلاة حال الأمن والخوف. مما تستشعر به أن أحكام الإسلام لا تقوم، ولا تقام إلا بصلاة. ثم تختتم الفقرة بعودة إلى قضية الوفاة والطلاق. فتذكير بنعمة الله علينا بالبيان. تبدأ الفقرة بقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... ثم بعد سياق طويل يأتي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... ثم بعد سياق طويل يتأتي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... فكأن الآيتين معطوفتان على قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ... مما يشعر أن السياق واحد، وأن الحديث عن الطلاق والوفاة سياقه واحد، وفقرته واحدة. وفيما بين قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ .... وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ.* الأولى يأتي قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ .. ثم بعد سياق طويل يأتي قوله تعالى: وَالْوالِداتُ ... فتصفية الحياة الزوجية لا تقتصر على إنهاء الزواج. وإنما تبين الآيات كيف يكون حال الأولاد الرضع. وفي الفقرة كلام عن الخلع، وعن العودة إلى الزوج الأول، وشروطها وعن زواج المرأة من آخر إذا توفى زوجها، وغير ذلك من المواضيع التي تفصل في أمور الحياة الزوجية وتصفيتها، وغير ذلك من شئون سنراها تفصيلا. فلنبدأ تفسير الفقرة: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ*
الإيلاء
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. هاتان الآيتان تأتيان بعد آيتي الأيمان، وقبل الآيات التي تفصل أحكام الطلاق، وصلتهما بما قبلهما واضحة. فما قبلهما كلام عن الأيمان. وهاهنا حديث عن نوع خاص من الأيمان: وهو حلف الرجل ألا يقرب زوجته مدة ما. والكلام عن هذا النوع من الأيمان يوصل إلى الكلام عن الطلاق الذي ستفصل أحكامه بعد هاتين الآيتين. وهذا كله يأتي ضمن السياق الذي يدعو إلى الدخول في شرائع الإسلام كلها. وعدم اتباع خطوات الشيطان في أي أمر. الإيلاء: الإيلاء: الحلف. فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها؟ فإن كانت أقل، فله أن ينتظر انقضاء المدة، ثم يجامع امرأته. وعليها أن تصبر. وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة. ومن آيتي الأيمان السابقة ندرك أنه يستحب له أن يكفر عن يمينه ويفيء فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر، فهل تقع بمضي الأربعة أشهر تطليقة بائنة؟ أو تطليقة رجعية؟ أو لا يقع طلاق، وللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفئ- أي يجامع- وإما أن يطلق. فيجبره الحاكم على هذا، أو هذا. لئلا يضر بها؟. ثلاثة أقوال للعلماء. ذهب الشافعي إلى الأخير. وعلى هذا كثير من الصحابة، والتابعين. وذهب إلى الأول أبو حنيفة. وعلى هذا كثير من الصحابة، والسلف. وذهب إلى أنه تطليقة رجعية بعض التابعين. وعلى قول الشافعية تكون الطلقة رجعية، سواء طلقها هو، أو طلقها عليه الحاكم. وله رجعتها في العدة. المعنى الحرفي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أي: للذين يحلفون على ترك الجماع من نسائهم. تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: ترقب أربعة أشهر. فَإِنْ فاؤُ: للعلماء قولان فيها، الأول قول الشافعية: فإن رجعوا إلى ما كانوا عليه من الجماع بعد الأربعة أشهر كان بها. وإلا فإن عليه أن يطلق، أو يطلق عليه الحاكم. والقول الثاني، قول الحنفية: فإن رجعوا إلى الوطء خلال الأربعة أشهر، ولم يصروا على ترك الوطء كان بها، وإلا فإذا استمروا على الترك أربعة أشهر فإن يمينهم يعتبر طلاقا بائنا. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ:
فوائد
قال الحنفية: بأن استمروا على ترك الوطء، ولم يفيئوا خلال الأربعة أشهر. وقال الشافعي: بعد مضي الأربعة أشهر فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سميع للإيلاء، عليم بالنيات. وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة. وفي مجيء آيتي اليمين قبل هذا، عظة لمن يؤلي من زوجته أن يراجع نفسه .. فوائد: 1 - في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا. فنزل لتسع وعشرين، وقال: «الشهر تسع وعشرون» وهذه عملية تأديبية منه عليه الصلاة والسلام اقتصر فيها على ما يحتاجه التأديب. 2 - في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ. دليل على أن الإيلاء يختص بالزوجات، دون الإماء، كما هو مذهب الجمهور فإذا آلى من أمته فلا يترتب عليه أن تطالبه إذا انقضت مدة ما بحقوق وإذا فاء فعليه الكفارة. 3 - على الحالف المولي إذا فاء خلال الأربعة أشهر، الكفارة. وإذا فاء بعد الأربعة أشهر على مذهب الشافعية، التكفير، لعموم وجوب التكفير على كل حالف. وهو مذهب الجمهور. وهذا إذا كان يمينه على التأبيد. أما إذا كان مؤقتا بالأربعة أشهر فلا كفارة عليه. 4 - جعل الأربعة أشهر هي الحد في الإيلاء، دليل على أن الأربعة أشهر هي الحد بين الضرار بالمرأة بترك الجماع، وعدمه. وبهذه المناسبة يروي الفقهاء الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله فى الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه … وأرقني أن لا خليل ألاعبه فو الله لولا الله أني أراقبه … لحرك من هذا السرير جوانبه فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر، أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك. 5 - فهم الشافعي أن الفاء بقوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ للتعقيب. ومن ثم قال: الطلاق بعد مضي المدة. أما الحنفية فقالوا: إن الفاء للتفصيل، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر. فإن أحمدتكم أقمت عندكم.
ولنعد إلى السياق
ولنعد إلى السياق: توصل هاتان الآيتان إلى مجموعة تبدأ بالآية (228): وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ .... إلى نهاية الآية (233) أي إلى نهاية آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ... وفي هذه المجموعة كلام عن الطلاق. وعدة المطلقة، وغير ذلك. وكل ذلك يأتي ضمن السياق الذي يدعو إلى الدخول بشرائع الإسلام عامة. وقد رأينا الصلة المباشرة بين هذه المجموعة، وما قبلها مباشرة. ولنبدأ بشرح المجموعة وتفسيرها شيئا فشيئا: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. المعنى العام: هذا أمر من الله سبحانه للمطلقات المدخول بهن من ذوي الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. أي تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج إن شاءت. وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم، الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم قرءين لأنها على النصف من الحرة. والقرء لا يتبعض، فكمل لها قرءان. ولما كانت الثلاثة قروء متعلقة بالحيض، ولا يعرف إلا من جهتها، ولما كانت من جملة الحكم في القروء، استبراء الرحم من الحمل، ولا يعرف إلا من جهتها فقد حرم الله على المرأة أن تكتم الحق في أمر الحيض والحبل استعجالا منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد. فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان: ثم بين الله عزّ وجل أن زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مرادا- بردها- الإصلاح والخير. وهذا في الرجعيات. وأما المطلقات البوائن فسيأتي حكمهن بعد. ثم بين الله عزّ وجل أن للنساء من الحق على الرجال مثل ما للرجال عليهن. فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. ولكن للرجال عليهن درجة زائدة في الفضيلة في الخلق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح. ويفسر هذه الدرجة قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. ثم بين الله أنه عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره، وشرعه، وقدره.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ: المراد بالمطلقات هنا المدخول بهن أما غير المدخول بهن فسيأتي حكمهن في سورة الأحزاب. والمراد بهن كذلك ذوات الأقراء على الخلاف في القرء. هل هو الطهر، أو الحيض؟. أما غير ذوات الأقراء ممن لا يحضن، فسيأتي حكمهن في سورة الطلاق. وقوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ. خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: ولتتربص المطلقات. وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله. فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه وجودا. وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص الذي هو الترقب، وزيادة بعث. لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعنها، ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص. والقروء جمع قرء. وهو من ألفاظ الأضداد. يستعمل للحيض، ويستعمل للطهر وقد اختلف السلف والخلف، والأئمة في المراد بالأقراء على قولين. أحدهما أن المراد بها الأطهار. وهو مذهب مالك، والشافعي وكثير. والقول الثاني أن المراد بالأقراء، الحيض. وهو مذهب أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الإمام أحمد، ومذهب كثيرين غيرهم. ويؤيد هذا ما رواه أبو داود، والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك». وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد، أو دم الحيض وذلك إذا أرادت فراق زوجها، فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع. ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها. أو كتمت حيضها فقالت وهي حائض قد طهرت، استعجالا للطلاق. فكل هذا محرم عليهن. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. لأن من آمن بالله واليوم الآخر، لا يجترئ على ارتكاب الحرام. ففي هذا تهديد لهن على خلاف الحق. ودل هذا، وما قبله على أن المرجع في هذا إليهن. لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهنّ. ويتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك. فرد الأمر إليهن. وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ أي: وأزواجهن أولى برجعتهن في مدة ذلك التربص. أي في العدة. دل هذا على أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، حيث سماه زوجا بعد الطلاق. ودل على أن الرجل إن أراد الرجعة، وأبتها المرأة، وجب إيثار قوله على قولها. وكان هو أحق بها. ولا يفهم من النص أن لها حقا في الرجعة. فالرجعة حق خالص للرجل. إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً: أي إن أراد الأزواج بالرجعة إصلاحا لما بينهم، وبينهن، وإحسانا إليهن، ولم يريدوا مضارتهن. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: ويجب لهن من الحق على
فوائد
الرجال من المهر، والنفقة، وحسن العشرة، وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي بالوجه الذي لا ينكر في الشرع، وعادات الناس. فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له. والمراد بالمماثلة، مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة. لا في جنس الفعل. فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه، أو طبخت له، أن يفعل نحو ذلك. ولكن يقابله بما يليق بالرجال. قال ابن عباس: (إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي المرأة. لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ: زيادة في الحق، وزيادة في الفضيلة، بسبب القوامة عليها، وبسبب الإنفاق، وملك النكاح، وإن اشتركا في اللذة، والاستمتاع وَاللَّهُ عَزِيزٌ: لا يعترض عليه في أموره حَكِيمٌ: لا يأمر إلا بما هو صواب، وحسن. فوائد: 1 - الطلاق ثلاثة أنواع: حسن، وأحسن، وبدعي. فالأحسن أن يطلقها طلقة رجعية فقط في طهر لم يجامعها فيه ثم يتركها حتى تمضي عدتها، وهو أحسن بالنسبة لما بعده، وأما الحسن فهو أن يطلقها ثلاث تطليقات في ثلاثة أطهار لا وطء فيها، أو في ثلاثة أشهر فيمن لا تحيض، كل طلقة في شهر ولو رافقه وطء، لأن كراهة الطلاق مع الوطء فيمن تحيض لتوهم الحبل، وهو مفقود هنا عند الآيسة أو الصغيرة أو الحامل. وأما البدعي الذي يأثم فيه صاحبها فهو ما خالف الحسن والأحسن كأن يطلقها ثلاثا أو اثنتين دفعة واحدة، أو يطلقها في طهر جامعها فيه، أو طلقها وهي حائض، فتجب رجعتها لو طلقها وهي حائض، رفعا للمعصية. فإذا طهرت طلقها. 2 - الطلاق قسمان: رجعي وبائن. والبائن قسمان: بينونة كبرى وبينونة صغرى. فالطلاق الرجعي: تبقى فيه المرأة على عصمة الرجل حتى تنقضي عدتها فيستطيع أن يراجعها في العدة بلا عقد جديد، فالطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، وللزوج مراجعتها في العدة بغير رضاها. وتثبت الرجعة بقوله: راجعتك ورجعتك ورددتك وأمسكتك، وبكل فعل تثبت فيه حرمة المصاهرة من الجانبين، ويستحب أن يشهد على الرجعة. وأما البينونة الصغرى بحيث لا تحل له إلا بعقد جديد، فذلك كأن يطلقها قبل أن يدخل بها، أو يطلقها طلاقا رجعيا حتى انقضت عدتها أو ما استعملت فيه ألفاظ الكنايات بنية الطلاق كقوله لزوجته: هي علي حرام.
وأما البينونة الكبرى: فهي التي لا تحل له إلا بعد أن تتزوج زوجا غيره ثم يطلقها فتنقضي عدتها ثم يعقد عليها عقدا جديدا، وذلك كأن طلقها ثلاثا. وسيأتي في هذا التفسير مزيد بيان في شأن الطلاق وكذلك في قسم السنة من هذه السلسلة وأما الصور الكثيرة لقضايا الطلاق فمحلها في كتب الفقه. 3 - رأينا أن القرء هو الطهر على مذهب الشافعية. فإذا طلقها زوجها في طهر، فهل يعتبر هذا الطهر من الثلاثة أطهار عنده؟. الجواب: نعم. وعلى هذا فمتى دخلت في الحيضة الثالثة، تبين من زوجها عنده. قال ابن كثير: (وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها، اثنان وثلاثون يوما، ولحظتان). وهذا على القول بأن المراد بالقرء، الطهر. ورأينا أن القرء هو الحيض على مذهب الحنفية. فإذا طلقها زوجها وهي حائض، فهل يعتد بهذه الحيضة من الأقراء عندهم؟ الجواب: لا. فلا بد من ثلاث حيضات كاملات حتى تطهر. وعلى هذا القول، فأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة. وعلى القول بأن المراد بالقرء الحيض، فهل تبين بمجرد الطهر؟ أو حتى تطهر، ويمضي وقت تستطيع أن تغتسل فيه؟ الجواب: إن وقت الاغتسال متمم للطهر. فلو حدث أنه قد جاءها زوجها لحظة طهرها، وقبل أن يمر وقت تستطيع أن تغتسل فيه، فإنها لا زالت زوجته. ويستطيع مراجعتها. عن علقمة قال: (كنا عند عمر رضي الله عنه. فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة، أو اثنتين، فجاءني وقد نزعت ثيابي، وأغلقت بابي- (أي لتغتسل) - فقال عمر لعبد الله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال وأنا أرى ذلك). 4 - عند قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: نقل ابن كثير حديثين يذكران بعض أوجه التقابل في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء هما: أ- في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: «فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن رزقهن، وكسوتهن بالمعروف».
المعنى العام
ب- وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا؟. قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». [سورة البقرة (2): الآيات 229 الى 232] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) المعنى العام: الآية الأولى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ .. : رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة. فلما كان
هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاثة طلقات. وأباح الرجعة في المرة والثنتين. وأبانها بالكلية في الثالثة. وبين تعالى في الآية أنه لا يحل للأزواج أن يضاجروهن، ويضيقوا عليهن ليفتدين منهم بما أعطوهن من الأصدقة، أو ببعضه. ثم بين فيها أنه إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل، وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها. ولا حرج عليها في بذله له. ولا حرج عليه في قبول ذلك منها. ثم بين الله عزّ وجل أن هذه الشرائع التي شرعها لنا هي حدوده، فلا يصح تجاوزها ومن تعداها فإنه هو الظالم. والظالم عند الله له ما له من العذاب. ثم بين الله عزّ وجل في الآية الثانية أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره. أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح. فلو وطئها واطئ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج. وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول. فإذا طلقها الزوج الثاني بعد الدخول بها فإنها تحل لزوجها الأول بعد انقضاء العدة. فإذا شاءا أن يعودا إلى الحياة الزوجية فلهما ذلك بعقد جديد. ثم بين الله عزّ وجل في الآية، أن شرائعه، وحدوده بينها لقوم يتصفون بالعلم. أما الجاهليون، فإنهم جهلة. لا يعرفون حراما، ولا حلالا. ثم بين تعالى في الآية الثالثة للرجال أنه إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا، له فيه رجعتها. فإما أن يمسكها. أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بالمعروف وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف. أو يسرحها. أي يتركها حتى تنقضي عدتها. ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن. من غير شقاق ولا مخاصمة، ولا تقابح. ثم نهى الله عزّ وجل عن الإمساك بقصد الإضرار. وذلك أن الرجل كان يطلق المرأة. فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، فتقعد فإذا شارفت على انقضاء العدة، طلق، لتطول عليها العدة. ثم نهى الله عزّ وجل عن التلاعب، واللعب بآيات الله بأن لا تؤخذ آيات الله وأحكامه بمنتهى الجد. ثم أمرنا تعالى أن نتذكر نعمته علينا بإرسال رسوله بالهدى والبينات وإنزاله الكتاب، والسنة يأمرنا فيهما، وينهانا، ويتوعدنا على ارتكاب المحارم. ثم أمرنا بالتقوى فيما نأتي، وفيما نذر. ثم أمرنا أن نعلم أن علم الله محيط بكل شئ. فلا يخفى عليه شئ من أمورنا السرية، والجهرية. وسيحاسبنا على ذلك. ثم يبين الله عزّ وجل في الآية الرابعة حكم الرجل يطلق امرأته طلقة، أو طلقتين. فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها. وتريد المرأة ذلك، فيمنعهم أولياؤها من ذلك. فنهى الله أن يمنعوها. ثم بين
المعنى الحرفي للآيات
الله عزّ وجل فيها، أن هذا الأمر الذي نهاهم عنه. من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن، إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به، ويتعظ به، وينفعل له الذي يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله، وعذابه في الدار الآخرة، وما فيها من الجزاء. ثم بين تعالى أن اتباع شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى للأنفس، وأطهر للقلوب. ثم بين الله تعالى أنه يعلم من المصالح فيما يأمر به، وينهى عنه. ونحن لا نعلم الخير فيما نأتي وما نذر، إلا بتعليم الله إيانا. المعنى الحرفي للآيات: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ: روى الإمام أحمد: قال رجل: يا رسول الله: أرأيت قول الله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟. قال: «التسريح بالإحسان». والطلاق بمعنى التطليق. كالسلام، بمعنى التسليم، وقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي: التطليق الشرعي، تطليقة بعد تطليقة، على التفريق، دون الجمع والإرسال دفعة واحدة. ولم يرد بالمرتين، التثنية. ولكن التكرير كقوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ. (سورة الملك) أي كرة بعد كرة. وهو دليل على أن الجمع بين الطلقتين والثلاث في طهر واحد بدعة لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق فإنه وإن كان ظاهر النص الخبر، فمعناه الأمر. فصار المعنى: الطلاق مرة، فمرة. ثم إما أن يراجعها، ويمسكها بمعروف. وإما أن يطلقها الثالثة. فإذا طلقها الثالثة، بانت منه بينونة كبرى. فلا تحل له كما سنرى إلا بعد أن تتزوج من غيره، ويدخل بها، ثم يطلقها، وتنقضي عدتها. سبب النزول: في الأثر الصحيح: «كان الرجل أحق برجعة امرأته، وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة. وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك، ولا أفارقك، قالت: وكيف ذلك؟. قال: أطلقك. فإذا دنا أجلك، راجعتك. ثم أطلقك. فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عزّ وجل: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق. ومن لم يكن طلق». رواه عبد بن حميد في تفسيره، والترمذي، والحاكم، وابن مردويه. قال ابن عباس: (إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في ذلك- أي في الثالثة- فإما أن يمسكها بمعروف. فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان. فلا يظلمها من حقها
سبب النزول
شيئا). وقد مر معنا من قبل أحسن الطلاق، والطلاق الحسن، والطلاق البدعي. ومر معنا الطلاق الرجعي، والبائن بينونة صغرى، وكبرى فلا نعيده. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي: ولا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما أعطيتموهن من المهور شيئا إلا في حالة واحدة: وهي أن يعلم الزوجان عدم استطاعتهما إقامة حدود الله فيهما يلزمهما من واجب الزوجية بسبب من الزوجة. فعندئذ رخص الله لها أن تفتدي نفسها بدل ما أوتيت من مهر مقابل أن يخلعها. ورخص للرجل أن يأخذ. والضمير بقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعود إلى الجماعة المسلمة المتمثلة بقضاتها، وحكامها، وأهل الرأي فيها. ودل قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ على أن طلب المرأة الخلع من غير موجب حرام عليها. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة». وقد احتج كثير من الأئمة بقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ على أن الخلع لم يشرع إلا في هذه الحالة. حتى قال الأوزاعي ومالك: لو أخذ منها شيئا، وهو مضار لها، وجب رده إليها. وكان الطلاق رجعيا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق، وعند الاتفاق، بطريق الأولى والأحرى. وهذا قول جميع أصحابه قاطبة. سبب النزول: ذكر ابن جرير أن هذا النص نزل في شأن ثابت بن قيس بن شماس، وامرأته. وهو أول خلع في الإسلام. ولنذكر روايتين عن هذه الحادثة الواردة بأسانيد كثيرة. عن ابن عباس (أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين، ولا خلق. ولكني أكره الكفر في الإسلام. لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «تردين عليه حديقته؟.» قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بستانه، ولا يزداد). رواه ابن ماجه بإسناد جيد مستقيم. وروى ابن جرير عن عكرمة، عن ابن عباس: (إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي. أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: لا يجمع رأسي ورأسه شئ أبدا. إني
فوائد
رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة. فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها. فقال زوجها: يا رسول الله! إني أعطيتها أفضل مالي. حديقة لي. فإن ردت علي حديقتي. قال: «ما تقولين؟». قالت: نعم. وإن شاء زدته. قال: ففرق بينهما). تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها: الإشارة في تِلْكَ إلى ما حد الله من أحكام سابقة في النكاح، واليمين، والإيلاء، والطلاق. ومعنى فلا تعتدوها. أي: لا تجاوزوها بالمخالفة. أي: قفوا عندها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ: أي يتجاوزها بعدم الوقوف عندها فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: الذين يظلمون أنفسهم فيضرونها في الدنيا والآخرة. فوائد: 1 - من حوادث الخلع في زمن عمر ما رواه ابن جرير «أن عمر أتي بامرأة ناشز. فأمر بها إلى بيت كثير الزبل (أي حبسها به) ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟. فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها» وفي رواية «فحبسها فيه ثلاثة أيام» ومن حوادث الخلع زمن عثمان ما حدثت به الربيع بنت معوذ قالت: «كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني. قالت: فكانت مني زلة يوما فقلت له: أختلع منك بكل شئ أملكه؟. قال: نعم، قالت: ففعلت. قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان، فأجاز الخلع. وأمره أن يأخذ عقاص رأسي، فما دونه» أو قالت: «ما دون عقاص رأسي» 2 - هل يجوز في الخلع أن يأخذ الرجل أكثر مما أعطاها؟ قال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الإضرار من قبلها، جاز أن يأخذ منها ما أعطاها. ولا يجوز الزيادة عليه. فإن ازداد جاز في القضاء. وإن كان الإضرار من جهته، لم يجز أن يأخذ منها شيئا. فإن أخذ جاز في القضاء. وقال الإمام أحمد: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال الأوزاعي: القضاة يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها. ومذهب مالك، والشافعي أنه يجوز له أن يأخذ كل ما يتفقان عليه من كثير، أو قليل. ولو كان ما بيدها. حتى لا يترك لها سوى عقاص شعرها.
[سورة البقرة (2): آية 230]
3 - هل يعتبر الخلع طلاقا؟. قال الحنفية: إن الخلع تطليقة بائنة. وهو مذهب مالك، والشافعي في الجديد. ومذهب أحمد والشافعي في القديم: أن الخلع فسخ، وليس بطلاق. وعلى هذا، فمن طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، يجوز له أن يتزوجها. 4 - وليس للخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة. واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة. 5 - روى النسائي في سننه عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا. فقام غضبان، ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم». حتى قام رجل فقال: يا رسول الله: ألا أقتله؟، قال ابن كثير فيه انقطاع. ولنعد إلى الآيات: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ: أي فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين، فلا تحل له من بعد التطليقة الثالثة حتى تتزوج غيره. والحكمة في ذلك، أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصا لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع من ارتكابه. ولا بد في هذا الزواج من أن يجامعها الزوج الثاني. إن هذه الإصابة شرطت بحديث العسيلة الذي سنذكره بعد قليل إن شاء الله. وقد استدل الحنفية على مذهبهم بعدم اشتراط الولي في نكاح الكبيرة بإسناد النكاح للمرأة بهذا النص حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الوطء فلا إثم عليهما أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه الأول بالزواج متى انقضت عدتها من الثاني إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل إن علما أن يقيما. لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: أي وتلك شرائع الله، وأحكامه. يوضحها لقوم يفهمون ما يبين لهم. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن عائشة، قالت: «دخلت امرأة رفاعة القرظي، وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني البتة. وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني. وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها. وخالد بن سعيد بن
[سورة البقرة (2): آية 231]
العاص بالباب لم يؤذن له. فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك». وكون ذوق العسيلة شرطا لصحة العودة إلى الأول مذكور في أحاديث صحيحة، وحسنة كثيرة. وليس المراد بالعسيلة المني. لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن العسيلة الجماع». 2 - وينبغي أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة، قاصدا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج. فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول. فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه. ومتى صرح بمقصوده في العقد، بطل النكاح عند جمهور الأئمة. روى الإمام أحمد، والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال: (آكل الربا، وموكله، وشاهداه، وكاتبه إذا علموا به. والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصدقة، والمتعدي فيها، والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته، والمحلل، والمحلل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة). والأحاديث الصحيحة، والحسنة في ذم المحلل، والمحلل له كثيرة. وقد اشتد بعض الصحابة في هذا الموضوع، حتى إنهم لم يرتبوا على زواج المحلل أي أثر. وإن كان بدون تآمر بين الزوج الأول والمحلل. حتى إنهم رووا عن عثمان أنه فرق بين المحلل والزوجة. والفتوى في هذا الموضوع على مذهب الحنفية أنه إذا لم يشترط التحليل في العقد ودخل بها المحلل ثم طلقها فانقضت عدتها حلت لزوجها الأول بعقد جديد. 3 - اختلف الأئمة- رحمهم الله- فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة، أو طلقتين، وتركها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر. فدخل بها، ثم طلقها. فانقضت عدتها. ثم تزوجها الأول. هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق. فإن عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه رحمهم الله. وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: أي إذا طلقتم النساء طلاقا رجعيا، فبلغن آخر عدتهن، وشارفن منتهاها، إذ الأجل يقع على المدة كلها، وعلى آخرها. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ:
فائدة
أي: إما أن تراجعوهن من غير رغبة ضرار بالمراجعة، أو تخلوهن حتى تنقضي عدتهن. فيبن من غير ضرار. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا: أي ولا تمسكوهن مضارين بأن تراجعوهن لا عن حاجة، ولكن لتطولوا العدة عليهن لتظلموهن، أو لتلجئوهن إلى الافتداء. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ: أي ومن يمسكهن ضرارا فقد ظلم نفسه بتعريضها لعقاب الله. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً: أي جدوا بالأخذ بها، والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها. وإلا فقد اتخذتموها هزوا. يقال لمن لم يجد في الأمر، إنما أنت لاعب، وهازئ. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: بالإسلام، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ أي: اذكروا ما أنزل الله عليكم من القرآن والسنة يذكركم به، ويخوفكم. وتذكر ذلك إنما يكون بالشكر، وبالقيام بالحق. وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما امتحنكم به. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: من ذكركم، وتقواكم، واتعاظكم، وغير ذلك. وهو أبلغ وعد، ووعيد. فائدة: قال مسروق في قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً: (هو الذي يطلق في غير كنهه. ويضار امرأته بطلاقها، وارتجاعها لتطول عليها العدة). وقد فهم مسروق هذا من السياق. وقال الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع، ومقاتل في تفسيرها: (هو الرجل يطلق ويقول كنت لاعبا، أو يعتق، أو ينكح ويقول: كنت لاعبا. فأنزل الله: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فألزم الله بذلك). وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد. النكاح، والطلاق، والرجعة». قال الترمذي: حسن غريب. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: أي وإذا طلقتم النساء فانقضت عدتهن وإذا سأل سائل: لماذا فسرنا قوله تعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ في الآية السابقة بمقاربة انتهاء العدة. وهاهنا بانقضاء العدة؟. نقول: دل السياق على افتراق البلوغين. فههنا أعقب النص النكاح. وهذا يكون بعد العدة. وهناك أعقب النص الرجعة. وهذا يكون في العدة. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ: العضل: هو المنع، والتضييق. والخطاب للأولياء الذين لا يتركون مولياتهم يتزوجن من أزواجهن الأول. وسموا أزواجا باعتبار ما كان. فصار المعنى: فلا تمنعوهن أن يتزوجن أزواجهن الأول اللائي يرغبن فيهم، ويصلحون لهن إذا تراضى
فوائد
الخطاب والنساء، ضمن حدود المعروف، والمعروف هنا هو ما يحسن في الدين. والمروءة من شرائط ذلك. ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: لأن الموعظة تنجح فيهم فقط ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: ترك العضل والضرار أفضل، وأطيب، وأزكى لأنفسكم، وأطهر لها من أدناس الآثام. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ومن ثم فهو الذي يحكم، ويأمر، وينهى، ويشرع. وليس لكم شئ من ذلك فما أجهل من نازع الله حق التشريع، وحق الأمر والنهي، وحق الحكم. فوائد: 1 - استشهد كل من الشافعية والحنفية بهذه الآية على مذهبيهما المتعارضين في موضوع جواز تزويج البالغة نفسها بدون ولي، كما هو مذهب الحنفية. أو عدم جواز ذلك إلا بولي كما هو مذهب الشافعية. استشهد الحنفية بقوله تعالى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ. فقالوا: أسند النكاح إليها. فدل على انعقاد النكاح بعبارة النساء. وقال الشافعية: نزلت هذه الآية في الرجل، يطلق امرأته طلقة، أو طلقتين. فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها. وتريد المرأة ذلك. فيمنعها أولياؤها من ذلك. فنهى الله أن يمنعوها. فدل ذلك عندهم على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها. وأنه لا بد في النكاح من ولي. وفي الحديث: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها. فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» وفي الأثر الآخر: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل». وبسط هذا الموضوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب (الأساس في السنة وفقهها). 2 - نزلت هذه الآية في معقل بن يسار المزني وأخته. وذلك أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة، لم يراجعها حتى انقضت عدتها. فهويها، وهويته. ثم خطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع ابن لكع. أكرمتك بها، وزوجتكها فطلقتها. والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إلى قوله وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة. ثم دعاه فقال: «أزوجك، وأكرمك». رواه الترمذي، وصححه. وزاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.
المعنى العام
3 - فسر فقهاء الحنفية المعروف في قوله تعالى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ: أنه مهر المثل، والكفء. لأنه عند عدم كفاءة الرجل فللأولياء أن يعترضوا. وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. المعنى العام: في هذه الآية إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان. ثم بين عزّ وجل على والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف. أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، أو توسطه، أو إقتاره. لأن القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية التكليف بقدر الوسع. ثم بين الله عزّ وجل أنه لا يجوز للمرأة أن تدفع الولد عنها، لتضر أباه بتربيته. كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار بها. وكما أن عدم الضرار واجب على الوالد، فكذلك الوارث، يجب عليه عدم الضرار بزوجة المتوفى. ثم يبين الله عزّ وجل أنه إذا اتفق والدا الطفل على فطامه، قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك. ثم بين الله عزّ وجل أنه إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها، أو لعذر له، فلا جناح عليها في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن. واسترضع لولده غيرها ثم أمرنا الله عزّ وجل أن نتقيه في جميع أحوالنا، وأن نعلم أنه لا يخفى عليه شئ من أحوالنا وأقوالنا. المعنى الحرفي: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ: هذا خبر في معنى الأمر. أي وليرضع الوالدات أولادهن حولين كاملين. وهذا الأمر على وجه الندب، أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه. أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزا عن
الاستئجار. ومعنى كاملين: تامين. ويمكن أن يراد بالوالدات هنا، الوالدات المطلقات. وإيجاب النفقة، والكسوة، لأجل الرضاع. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ: هذا بيان لمن توجه إليه الحكم. أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة. قال النسفي: والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم. وعليه أن يتخذ له ظئرا، إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه. وهي مندوبة إلى ذلك. ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة، أو معتدة. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ: أي وعلى الذي يولد له وهو الوالد، رزقهن وكسوتهن بلا إسراف ولا تقتير. وتفسيره ما يعقبه. وهو لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه. ولا يتضاران. وإنما قيل على المولود له، دون الوالد، ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن. فكان عليهم أن يرزقوهن، ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظآر. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها التكليف: إلزام ما يؤثر فيه الكلفة. والوسع هو، الوجد، أو قدر الإمكان. أي لا يلزم الله نفسا إلا بقدر وجدها وإمكانها. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها لا: هنا، ناهية. أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها. وهو أن تعنف به، وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئرا. وما أشبه ذلك. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ: أي: ولا يضار مولود له، امرأته بسبب ولده. بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذه منها، وهي تريد إرضاعه. ويمكن أن يفهم النص لا تُضَارَّ .. فهما آخر، إذا فهمنا لا تضار، بمعنى تضر. فيكون المعنى على هذا: لا تضر والدة ولدها. فلا تسئ غذاءه، وتعهده. ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضر الوالد به، بأن ينتزعه من يدها، أو يقصر في حقها، فتقصر هي في حق الولد. وإنما قيل: بولدها، وبولده: لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة، أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه، وكذلك الوالد. وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أي: وعلى وارث الصبي عند عدم وجود الأب، مثل الذي كان على أبيه في حياته، من الرزق والكسوة. ووارث الصبي في الأصل هو كل من يرثه لو مات. ولذلك كان مذهب ابن أبي ليلى أن نفقة الصبي على كل من يرثه. وعند الحنفية الرحم المحرم أولى به، فعليه النفقة. وعند الشافعية: النفقة على من بينه وبين الصبي ولاد إذ لا نفقة إلا بهذا عنده. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما: أي: فإن أراد الأبوان فطاما صادرا عن تراض بينهما
فوائد
وتشاور بينهما فلا إثم عليهما في ذلك، زادا على الحولين، أو نقصا. وهذه توسعة بعد التحديد، والتشاور استخراج الرأي. وذكر التشاور في الآية، ليكون التراضي عن تفكر. فلا يضر الرضيع. واعتبر اتفاقهما. لأن للأب التبعة والولاية. وللأم الشفقة، والعناية. ويؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي. ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر. وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره. وهو من رحمة الله بعباده. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ: أي وإن أردتم حين عجز الأم، أو إبائها أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فلا إثم عليكم إذا سلمتم هذه المراضع ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة بالمعروف الذي هو هنا طيب النفس، والسرور، وتسليم الأجرة للمرضع ابتداء مندوب، وليس شرط جواز. أو إذا سلمتم الأمهات أجورهن على ما مضى بالمعروف. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: فلا تخفى عليه أعمالكم، وهو مجازيكم بها. وهاهنا أمران. أمر بالتقوى وأمر بمعرفة الله. وهما متلازمان. فوائد: 1 - جاءت هذه الآية في سياق آيات الطلاق. فإذا فهمناها من خلال السياق. فإن الآية تكون حديثا عن موضوع لا بد من حله، وهو موضوع الولد من حيث رضاعه، وتربيته: إن الأم المطلقة من شأنها أن ترضع ولدها حولين كاملين. وفي مقابل ذلك لها النفقة. وهذه النفقة تجب لها إذا كانت زوجة، أو معتدة بحكم الزوجية. أما بعد انفصام الزوجية، فبحكم قيامها على تربية الطفل، وانحباسها من أجل مصلحته. والشورى، والرغبة الصالحة في الإحسان هما الأصل في العلاقة من أجل الطفل. وإذا مات الأب، تنتقل النفقة على من تجب نفقة الطفل عليه. وإذا حدث ما يمنع الأم من الاستمرار في الرضاع، يسلم الطفل إلى مرضع أخرى. وفي مقابل ذلك، فعلى الأب أجرة الإرضاع للمرضع الجديد. 2 - رأينا أن التشاور بين الأب والأم في شأن الطفل واجب لتحصيل ما هو مصلحة للطفل. ونفهم من ذلك، أدبا عاما، هو أن كل ما فيه مصلحة لأكثر من إنسان، ينبغي أن تقام فيه الشورى. وتجتمع فيه الآراء. فكيف إذا كان ذلك مصلحة الإسلام، والمسلمين ومن ثم فإننا نعتبر هذه الآية أصلا في موضوع كثير من الأمور في
المعنى العام
سير الحركة الإسلامية. 3 - رأينا أن الرضاعة الكاملة سنتان. وقد رأى علقمة امرأة ترضع بعد الحولين. فقال: لا ترضعيه. وكأنه يرى أن ما زاد على السنتين ربما أضر بالولد، إما بنفسه، أو بعقله، أو بجسمه هذا مع كون الرضاع بعد السنتين مباحا. والاتجاه الغالب عند الفقهاء أن الرضاعة بعد السنتين لا يترتب عليها حكم من ناحية الحل والحرمة في شأن الزواج. 4 - قال فقهاء الحنفية في شأن الحضانة والنفقة: «ونفقة الأولاد الصغار على الأب إذا كانوا فقراء، وليس على الأم إرضاع الصبي إلا إذا تعينت، فيجب عليها. ويستأجر الأب من ترضعه عندها فإن استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز، أما بعد انقضاء العدة فهي أولى من الأجنبية، إلا أن تطلب زيادة أجر». «وإذا اختصم الزوجان في الولد قبل الفرقة أو بعدها فالأم أحق بحضانته ثم أمها ... ومن لها الحضانة إذا تزوجت بأجنبي سقط حقها فإن فارقته عاد حقها .. ويكون الغلام عندهن حتى يستغني عن الخدمة وتكون الجارية عند الأم والجدة حتى تحيض .. ». وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. المعنى العام: في الآية أمر الله النساء اللائي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر، وعشرة أيام. وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن، وغير المدخول بهن بالإجماع. ومستند الإجماع هذه الآية، وحديث ابن مسعود الذي سنذكره بعد. ولم يخرج عن هذا الحكم إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل. فقد اختلف في عدتها. هل عدتها وضع حملها، لآية سورة الطلاق؟. أو أبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشرا؟.
المعنى الحرفي
وسنرى ذلك إن شاء الله. ويستفاد من الآية وجوب الإحداد على الزوجة المتوفى عنها زوجها مدة عدتها كما سنرى. فإذا انتهت عدتها، فلا عليها أن تتزين، وتتصنع، وتتعرض للزواج الحلال الطيب. وفي الآية الثانية يبيح الله لنا التعريض بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. كما يبيح لنا إضمار الخطبة لهن في أنفسنا دون الاتفاق السري، ومن باب أولى الجهري على التزوج بعد العدة. وإباحة الله لنا هذا لعلمه جل جلاله بأنفسنا، وتطلعاتها. كما حرم الله في الآية عقد النكاح علنا حتى تنقضي العدة. وختم الله الآية بأن توعدنا على ما يقع في ضمائرنا من أمور النساء. وأرشدنا إلى الخير دون الشر. مع عدم اليأس من رحمته، والتقنيط من عائدته جل جلاله. المعنى الحرفي: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي تستوفى أرواحهم. وَيَذَرُونَ أَزْواجاً أي: ويتركون زوجات. يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أي: وزوجات الذين يتوفون منكم يعتددن بعدهم بأنفسهن أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: فإذا انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ: أيتها الأمة أو أيتها الجماعة المتمثلة بأئمتها، وقضاتها. يفهم من ذلك أن الأمة بمجموعها مكلفة بإقامة أحكام الله، ومن مثل هذا النص عرف موضوع فرض الكفاية وفرض العين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: من التعرض للخطاب بالوجه الذي لا ينكره الشرع. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: يعلم بواطن الأمور كما يعلم ظاهرها. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ: الخطبة طلب النكاح. والتعريض: أن تقول: إنك لجميلة، أو صالحة، من غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح. فلا يقول: إني أريد أن أتزوجك. والفرق بين الكناية والتعريض: أن الكناية أن تذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له. والتعريض: أن تذكر شيئا تدل به على شئ لم تذكره. فكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي: لا إثم عليكم فيما سترتم، وأضمرتم في قلوبكم. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي: علم الله أنكم ستذكرونهن لا محالة. ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن. ولكن لا تواعدوهن سرا. أي: لا تأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيرك. لا تقل لها إني عاشق،
فوائد
فعاهديني أن لا تتزوجي غيري. لا تحدثها عن الجماع، وقدرتك عليه لتثير شهوتها. فتأخذ منها وعدا. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: لا تواعدوهن مواعدة قط، إلا معروفة غير منكرة، كأن يقول لوليها: لا تسبقني بها. يعني: لا تزوجها حتى تعلمني. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ: العزم هو القطع. وذكر العزم هنا مبالغة في النهي عن عقد النكاح. لأن العزم على الفعل يتقدمه. فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. والمراد بالكتاب هنا: العدة. وسميت العدة كتابا، لأنها فرضت بالكتاب. فصار المعنى: ولا تعزموا عقدة النكاح حتى تنقضي عدتها، بأن يبلغ التربص المكتوب عليها أجله. أي: غايته وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من: العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ: أن تعزموا على ما حرم عليكم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ: لا يعاجل في العقوبة، يمهل، ولا يهمل، ويتوب على من تاب، ويعفو عن كثير. فوائد: 1 - التعريض بالخطبة في العدة للمتوفى عنها زوجها، وللمطلقة البائنة أما المطلقة طلاقا رجعيا، فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها أثناء العدة. والدليل على جواز التعريض للمطلقة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمر بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وقال لها: «فإذا حللت، فآذنيني». فلما حلت، خطب عليها أسامة ابن زيد مولاه. فزوجها إياه. 2 - من تزوج امرأة في عدتها، فدخل بها، فإنه يفرق بينهما. وهل تحرم عليه أبدا؟. قولان: الجمهور على أنها تحرم عليه على التأبيد. وما هي عقوبتهما في هذه الحالة؟. لكون العقد يورث شبهة. فإنه لا يقام عليها حد الرجم. ولكن تعزر، والتعزير مفوض لرأي القاضي، وكذلك الرجل يعزر ولا يحد ولكن قد يصل التعزير على رأي بعض العلماء إلى القتل. 3 - قلنا: إن الإجماع منعقد على وجوب العدة على من توفي عنها زوجها، سواء كانت مدخولا بها، أو لا. والدليل على أن غير المدخول بها هذا حكمها ما رواه أهل السنن، والإمام أحمد وصححه، والترمذي: (أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج
امرأة فمات عنها ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟. فترددوا إليه مرارا في ذلك. فقال: أقول فيها برأيي. فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. لها الصداق كاملا- وفي لفظ- لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شطط. وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا). 4 - ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية، وغيرهما: أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، هي احتمال اشتمال الرحم على حمل. فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح». فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه. وقال قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشرة؟. قال: فيه ينفخ الروح! .. 5 - كان ابن عباس يرى أن الحامل إذا توفي عنها زوجها أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشرا، للجمع بين الآية التي مرت معنا، وقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. ولكن روى أبو عمرو بن عبد البر: أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وحديث سبيعة مخرج في الصحيحين من غير وجه وهو: «أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حامل. فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته. وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال. فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب. فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك. فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟. فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي. وأمرني بالتزويج إن بدا لي». 6 - الزوجة إذا كانت أمة، وتوفي عنها زوجها، فالجمهور على أن عدتها شهران وخمسة أيام. 7 - أما عدة أم الولد: إذا توفي عنها سيدها فمذهب أحمد في رواية عنه أن عدتها
أربعة أشهر وعشر. وفي رواية أخرى لأحمد وهو مذهب كثير أن عدتها نصف عدة الحرة. وقال أبو حنيفة وغيره: تعتد بثلاث حيض. وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة. وقال الليث: ولو مات، وهي حائض، أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض، فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر، وثلاثة أحب. 8 - قالت زينب بنت أم سلمة في وصف إحداد المرأة الجاهلية: (كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها. ثم تؤتى بدابة حمار، أو شاة، أو طير، فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات). أي من نتنها. والافتضاض مسح الفرج به. والظاهر أن الحيوانات التي تموت من الافتضاض هي ما كانت من نوع الطيور والحيوانات الصغيرة. 9 - الإحداد: هو ترك الزينة من الطيب، ومن لبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب، وحلي، وغير ذلك. وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا. ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا. بل يستحب لها أن تتزين. وهل يجب الإحداد في عدة البائن؟ فيه قولان. في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة، وزينب بنت جحش أم المؤمنين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرا». وفي الصحيحين عن أم سلمة أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟. فقال: «لا»، كل ذلك يقول: لا مرتين أو ثلاثا، ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشرا. وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة». وهذا منع من التكحل الذي هو مظنة الزينة، لا من التداوي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على كافرة، ولا على صغيرة، لعدم التكليف، ولا على أمة مسلمة لنقصها. 10 - رأينا أن الخطاب في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: إنما هو لمجموع الأمة، وقد رأينا أن الضمير في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: يرجع إلى الأمة المسلمة ممثلة بقضاتها وحكامها وأهل الرأي فيها، وسنرى مثل ذلك في القرآن كثيرا وهذا يدل على أن الأمة بمجموعها مكلفة بإقامة
ولنعد إلى السياق
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومكلفة بإقامة أحكام الله عزّ وجل. فإذا حدث تفلت في هذا فعلى جماعة المسلمين العمل من أجل إرجاع الأمور إلى نصابها، فمن أوائل الشروط لإعطاء تجمع ما صفة جماعة المسلمين أن يعمل من أجل ذلك بطريقه. وإذ كان حسن البنا رحمه الله قد بدأ هذا الطريق وسار فيه وأقام جماعة تتوافر فيها جميع شروط الجماعة فإنه في حدود علمنا تكون جماعته- إن أحسنت- هي أقرب الجماعات الموجودة حاليا لأن تكون جماعة المسلمين. ولنعد إلى السياق: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ* وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. المعنى العام: أباح الله تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها، وقبل الدخول بها. وقبل الفرض لها إن كانت مفوضة. وإذ كان في هذا انكسار لقلبها فقد أمر تعالى بإمتاعها: وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره. وفي الآية الثانية أوجب الله نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول إلا أن تعفو المرأة فلا تأخذ شيئا، أو يعفو الزوج فيدفع المهر كاملا. ثم ندب الله الجميع، رجالا ونساء للعفو. ونهاهم عن نسيان الإحسان، وذكرهم أن الله لا يخفى عليه شئ من أمورهم، وأحوالهم. وسيجزي كل عامل بعمله. المعنى الحرفي: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً: المس: هو الجماع. وفرض الفريضة: تسمية المهر. هذه الآية فيمن طلق امرأته، ولم يكن سمى لها مهرا، ولا جامعها. فإنه لا إثم عليه. ولكن أمره الله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ الموسع: هو الغني الذي له سعة. والمقتر:
[سورة البقرة (2): آية 237]
هو الضيق الحال. والمتعة عند الحنفية: درع وملحفة وخمار. أي جلباب وثوب وخمار، وهي عند الحنفية وجمهور العلماء واجبة. قال النسفي: (ولا تجب المتعة عندنا إلا لهذه. وتستحب لسائر المطلقات). ومعنى قَدَرُهُ في الآية: مقداره الذي يطيقه. مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ: أي تمتيعا بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة. حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي: واجبا على المسلمين، إذ هم المحسنون. وليس ذكر الإحسان هنا علامة على التبرع. إذ دل على وجوب المتعة أكثر من شئ في الآية. ثم بين حكم التي سمي لها مهر في الطلاق قبل المس، قال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي: من قبل أن تجامعوهن. وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي: والحال أنكم قد سميتم لهن مهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي: فعليكم أن تدفعوا لهن نصف المهر. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي: إلا إذا عفون لكم عن حقوقهن. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. فيدفع في هذا الحال المهر كاملا. فصار المعنى: أن الواجب شرعا: هو النصف؛ إلا أن تسقط هي الكل، أو يعطي هو الكل تفضلا. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى: هذا خطاب للجميع. أي: عفو الزوج بإعطاء المهر خير له، وعفو المرأة بإسقاطه كله خير لها، فالعفو أقرب للتقوى تحصيلا، وتحقيقا، وحالا. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي: ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كل عامل بعمله. فوائد: 1 - قال ابن عباس: (متعة الطلاق، أعلاه: الخادم. ودون ذلك: الورق، ودون ذلك الكسوة. وقال: إن كان موسرا، أمتعها بخادم، أو نحو ذلك. وإن كان معسرا: أمتعها بثلاثة أثواب). وقال الشعبي: (أوسط ذلك: درع، وحمار، وملحفة، وجلباب). وكان شريح يمتع بخمسمائة. ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف. وقال الشافعي في الجديد: (لا يجبر الزوج على قدر معلوم، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة. وأحب ذلك أن يكون أقل ما يجزئ في الصلاة). وقال في القديم: (لا أعرف في المتعة قدرا إلا أنني أستحسن ثلاثين درهما كما روي عن ابن عمر). 2 - المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض لها. فإن كان قد دخل
بها، وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة. وإن كان قد فرض لها، وطلقها قبل الدخول: وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع. 3 - رأينا أن المطلقة إذا سمي لها صداق ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمي من الصداق. وهذا أمر مجمع عليه. وعند الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد أن الخلوة بها حكمها حكم الجماع، ولو لم يحدث جماع. فيجب عندهم جميع الصداق إذا خلا بها الزوج، وإن لم يدخل بها. وهو مذهب الشافعي في القديم، وبه حكم الخلفاء الراشدون. ولكن الشافعي ذهب في الجديد إلى مذهب ابن عباس الذي يقول: في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها، ولا يمسها، ثم يطلقها، ليس لها إلا نصف الصداق. قال الشافعي بهذا أقول: وهو ظاهر الكتاب. 4 - أخرج ابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولي عقدة النكاح الزوج» وأخرج عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح؟ فقلت له: هو ولي المرأة. فقال علي: بل هو الزوج. ومن حجج الحنفية على من قال: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي كمالك: أن الولي لا يملك التبرع بحق الصغيرة. فكيف يجوز حمل الآية عليه، وهو لا يملك العفو. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ذكر ابن كثير كلاما أخرجه ابن مردويه عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان عضوض، يعض المؤمن على ما في يديه، وينسى الفضل. وقد قال تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. شرار يبايعون كل مضطر». وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر. فإن كان عندك خير، فعد على أخيك، ولا تزده هلاكا إلى هلاكه. فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه، ولا يحرمه». وذكر ابن كثير كلاما لعون ابن عبد الله. آخره له علاقة بقوله تعالى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. هو: عن أبي هارون قال: (رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي. فكان عون يحدثنا، ولحيته ترش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء. فكنت من أكثرهم هما حين رأيتهم أحسن ثيابا، وأطيب ريحا، وأحسن مركبا. وجالست الفقراء، فاسترحت بهم. وقال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إذا أتاه السائل، وليس عنده شئ فليدع له).
المعنى العام
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ: هاتان الآيتان في شأن الصلاة. وردتا بعد آيات في الطلاق فما الحكمة في ذلك؟. أولا: جاءت هذه الآيات في حيز الأمر بالدخول في الإسلام كله. وإذا سار السياق في أحكام حياتية كثيرة فقد ناسب التذكير بالصلاة في هذا المقام، ليعلم أن الصلاة هي الابتداء، وهي الوسط، وهي الانتهاء. وأنها ضرورية. ومحلها في الإسلام لا يصح أن ينسى. ثانيا: إنه بلا معرفة بالله لا يدخل الإنسان في الإسلام كله. وبلا صلاة لا تكون معرفة بالله، ولا دخول في الإسلام كله. قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. (سورة طه) وقال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ (سورة العنكبوت) فلا دخول في الإسلام كله إلا بصلاة ومن ثم ذكرت الصلاة في هذا السياق. ثالثا: إن مجئ الأمر بالصلاة بين أحكام الطلاق وغيرها من شئون النساء، يشعر أن هذه الأحكام تحتاج إلى صلاة في كل حال، في السلم والحرب، حتى تقوم. وأن المسلم الذي لا يقيم الصلاة في كل حال، لا يقيم أحكام الله الأخرى. رابعا: مجئ هاتين الآيتين هنا توطئة لما بعد آيات الطلاق. وربط لما بعد آيات الطلاق، بما قبل آيات الطلاق والنكاح. فبعض الأسئلة التي ذكرت في الآيات السابقة على آيات النكاح ذكرت فريضة القتال. وما بعد آيات الطلاق كلام عن القتال. وفي هاتين الآيتين أمر بالصلاة وإقامتها حتى في القتال. وهكذا الإسلام؛ كل متكامل. يتغذى كل جزء منه من الآخر، ويخدم كل جزء منه الآخر. وقيامه جميعا مرتبط بعدم نسيان جزء منه. ولا إسلام إلا بصلاة، هذا ما اتضح لي من الحكمة في مجئ هاتين الآيتين في هذا المقام، والله أعلم. المعنى العام: - في الآية الأولى، أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها، وأدائها في أوقاتها. وأمر بالقيام لله فيها خاشعين، ذليلين، مستكينين بين يديه. ولما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر
المعنى الحرفي
بتأكيدها. وذكر في الآية الثانية: الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل: وهي حال القتال، والتحام الحرب. فأمر في هذا الحال أن نصلي بقدر الوسع، على أي حال قدرنا عليها، راجلين، أو راكبين. مستقبلين القبلة، أو غير مستقبليها. إيماء إن لم نستطع غير ذلك. فإذا انتهت تلك الحال، فعلينا أن نقيم الصلاة كما أمرنا، بركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، وخشوعها، وهجودها. وذلك هو الشكر الذي يقابل نعمة الله علينا، أن علمنا وهدانا، بعد إذ كنا ضلالا جاهلين. المعنى الحرفي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي: داوموا عليها بمواقيتها، وأركانها، وشرائطها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي: صلاة العصر. وهي وسطى لأنها بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار. وخصصت بالذكر لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم. أو استرواحهم في وقتها للراحة بعد تعب. وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي: قوموا في صلاتكم لله خاشعين ذاكرين. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً أي: فإن كان بكم خوف من عدو، أو غيره، فصلوا راجلين، أو راكبين، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. فَإِذا أَمِنْتُمْ أي: إذا زال خوفكم. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أي: فصلوا صلاة مثل ما علمكم ما لم تكونوا تعلمونه من صلاة الأمن ويحتمل المعنى الذي ذكرناه في المعنى العام. فوائد: 1 - اختلف المفسرون كثيرا في تفسير الصلاة الوسطى في الآية. فقيل: المغرب، وقيل: العشاء، وقيل: مجموع الصلوات الخمس، وقيل: الفجر، وقيل: بل صلاة الجماعة. وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: صلاة الخوف، وقيل: صلاة عيد الفطر، وقيل: صلاة عيد الأضحى، وقيل: الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: بل هي مبهمة، كما أبهمت ليلة القدر في الحول، أو الشهر، أو العشر ليحفظوا الكل. قال سعيد بن المسيب: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا- وشبك بين أصابعه-). قال ابن كثير: (وكل هذه الأقوال فيها ضعف ... وإنما المدار، ومعترك النزاع، في الصبح، والعصر. وقد ثبتت السنة بأنها العصر. فتعين
المصير إليها). ومن الأدلة على أنها صلاة العصر، ما رواه الإمام أحمد عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر. ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا». ثم صلاها بين العشاءين: المغرب والعشاء. وروى مثله البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي .. وروى مسلم عن البراء بن عازب قال: نزلت: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله. ثم نسخها الله عزّ وجل، فأنزل: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. فقال له زاهر- رجل كان مع شقيق-: أفهي العصر؟. قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله عزّ وجل). وفي ذكر الوسطى هنا معنى بليغ جدا. إذ هو أكبر رد على بعض طوائف الباطنية، التي تزعم أنه لم يفرض علينا إلا صلاتين. فإذا اعتبرنا أن الواو تقتضي المغايرة. فقد ثبتت الصلوات الخمس بهذا النص. إذ أقل عدد فرد، يكون له وسط. والطرفان جمع هو الخمس. وقد وردت آثار تؤكد الأمر بالمحافظة على العصر. ففي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله» وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بكروا بالصلاة في يوم الغيم. فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله». وفي الحديث الصحيح: «إن هذه الصلاة عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها. ألا من صلاها، ضعف له أجره مرتين. ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد». 2 - روى الإمام أحمد، وغيره- والحديث صحيح- عن زيد بن أرقم قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ: فأمرنا بالسكوت. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة، فيرد علينا. فلما قدمنا، سلمت عليه، فلم يرد علي. فأخذني ما قرب، وما بعد. فلما سلم قال: «إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن ما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة». وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس. إنما هي التسبيح، والتكبير، وذكر الله». فهذه الأحاديث كلها تفسر قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. 3 - فصل الله صلاة الخوف في سورة النساء. ولكن تلك الصلاة إذا لم يكن
التحام، أما في حالة الالتحام، فأمام المسلمين سعة أن يصلوا- كما نصت الآية هنا- كيف قدروا. أو يؤخروا الصلاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. وكما فعل المسلمون يوم فتح (تستر) في عهد عمر. وهذه نقول حول هذا وهذا: (قال مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها- (أي كما وردت في سورة النساء) - ثم قال: (فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلى القبلة، أو غير مستقبليها). قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري. وهذا لفظ مسلم. ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال: (فإن كان خوف أشد من ذلك، فصل راكبا، أو قائما، تومئ إيماء). وقال جابر بن عبد الله: (إذا كانت المسايفة، فليومئ برأسه إيماء حيث كان وجهه. فذلك قوله تعالى: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً). قال مالك بن أنس: (حضرت مناهضة حصن «تستر» عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال. فلم يقدروا على الصلاة. فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار. فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها). هذا لفظ البخاري، وقد أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق إلى ما بعد غيبوبة الشمس. 4 - هل للزحف، والهجوم حكم المسايفة؟. يمكن أن يستدل على أن له نفس الحكم إذا اقتضى الزحف أو الهجوم الاستعجال بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما وجههم إلى بني قريظة: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة». فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق، فصلوا، وقالوا لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير. ومنهم من أدركته فلم يصل إلا في بني قريظة فلم يعنف واحدا من الفريقين. 5 - قال الأوزاعي: (إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه. فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا. فيصلوا ركعتين- أي إن كانت صلاة الفجر، أو كانوا مسافرين ... - فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين. فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا). وكلام الأوزاعي أنهم يصلون ركعة واحدة في سجدتين اتجاه لكثير من السلف، أن صلاة الخوف في بعض حالات الشدة ركعة واحدة. ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة). قال ابن كثير: (وبه قال الحسن البصري، وقتادة، والضحاك، وغيرهم).
المعنى العام
6 - روى أحمد وأبو داود بإسناد جيد، عن عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله، وكان نحو عرفة، أو عرفات. فلما واجهه، حانت صلاة العصر. قال: فخشيت أن تفوتني، فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء. 7 - في بعض البلدان يشتد الأمر على المسلمين، لدرجة أنه لا يستطيع أحد أن يجهر بصلاته. حتى لو جهر قتل، كما حدث في أسبانيا، وفي بعض البلدان لو جهر حيل بينه وبين العمل، أو سرح من عمله إن كان له عمل وإن لم يسرح مباشرة سرح فيما بعد إما تحقيقا، أو بغلبة الظن فما الحكم في هذه الأحوال؟. وهل يصح لمسلم ينوي خدمة الإسلام في مثل هذه الظروف أن يجمع الصلوات كلها؟ وإذا خاف على نفسه أن يكشف أمره فهل يصح أن يومئ إيماء وهو سائر أو ماش أو متكئ؟ جواب هذه القضايا يحتاج إلى تفصيلات فمحلها في القسم الثاني من هذه السلسلة (الأساس في السنة وفقهها). وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هذه الآيات خاتمة الكلام في الأحكام حول موضوع الطلاق، وموضوع الوفاة بالنسبة للزوجة. وهذا كله يأتي في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. المعنى العام: في الآية الأولى اتجاهان للمفسرين: الأول يقول بأنها منسوخة. والذين قالوا بالنسخ منهم من قال إنها منسوخة بالآية المارة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ومنهم من قال: نسختها آية الميراث. والاتجاه الثاني أنها غير منسوخة، وإنما فيها معنى جديد: وهو أنه يستحب للمتوفى أن يوصي لزوجته بالسكنى في بيته إلى نهاية السنة. فيكون إبقاء المرأة في بيتها أربعة أشهر وعشرا، فرضا. ويكون السماح لها في البقاء إلى نهاية السنة مندوبا. وروى البخاري عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
المعنى الحرفي
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً: قال: (كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها واجب. فأنزل الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ .. قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر؛ وعشرين، وصية إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت. وهو قول الله: غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. فالعدة أربعة أشهر وعشر واجب عليها، وهذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما قال الجمهور، حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة أشهر وعشر. وإنما دلت على أن ذلك من باب الوصاية بالزوجات أن يمكن من السكن في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك. ولهذا قال: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ: ولا يمنعن من ذلك لقوله: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ. قال ابن كثير: (وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له. وقد اختاره جماعة منهم أبو العباس بن تيمية. ورده آخرون منهم الشيخ أبو عمرو بن عبد البر. والجميع متفقون على أن العدة الواجبة أربعة أشهر وعشر، أو وضع الحمل. والجميع متفقون على أنه لا يجب عليها أن تعتد سنة. يبقى الخلاف هل يندب لزوجها أن يوصي لها بالبقاء في بيت الزوجية تتمة السنة؟ فعلى القول بأنها منسوخة، لا يندب له. ولكنه لو أوصى، وأجازت الورثة فلها حق البقاء تتمة السنة. وعلى القول بأنها غير منسوخة يندب له ولها حق البقاء تتمة السنة. والذي نذهب إليه هو مذهب الجمهور في أن الآية منسوخة. لأنه إذا لم نقل بالنسخ، نعطي وارثا من الورثة؛ وصية زائدة على حقه الشرعي. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا وصية لوارث». ولكنا في الوقت نفسه نقول: لو لاحظت الورثة ذلك فإنه يكون حسنا. - وفي الآية الثانية توكيد لوجوب المتعة الذي مر معنا من قبل. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت. وإن شئت لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وفي الآية الثالثة من الله عزّ وجل علينا بتبيان آياته في إحلاله، وتحريمه. وفروضه، وحدوده فيما أمرنا به، ونهانا عنه. فبينه، ووضحه، وفسره، ولم يتركه مجملا في وقت احتياجنا إليه. وبين أن ذلك كله من أجل أن نعقل، فلا عقل، ولا فهم، ولا تدبر إلا إذا فهم الإنسان آيات الله. المعنى الحرفي:
[سورة البقرة (2): آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ أي: والذين تقبض أرواحهم منكم، ويتركون أزواجا. فليوصوا لأزواجهم وصية، أن يمتعن تمتيعا بالبقاء في بيوتهن، والنفقة عليهن سنة كاملة. غَيْرَ إِخْراجٍ أي: لا يخرجن خلالها. والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا، بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا. أي ينفق عليهن من تركته، ولا يخرجن من مساكنهن. وكان ذلك مشروعا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. والناسخ متقدم عليه تلاوة، ومتأخر نزولا. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ: من التزين والتعرض للخطاب والزواج، فالمعروف: هو كل ما ليس بمنكر شرعا. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: يحكم بما شاء وحكمه كله حكم. وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ: إن أريد بها المطلقات الرجعيات؛ يكون المعنى واجبا على أهل التقوى نفقتهن في عدتهن. وإن أريد بالمطلقات ممن لم يسم لهن مهر، ولم يدخل بهن، يكون المعنى: هذه المتعة واجبة على أهل التقوى. وإن أريد بهن متعة المطلقات مما سوى ذلك، فيكون المعنى حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ بإيجابهم ذلك على أنفسهم. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: كمثل هذا البيان، يوضح الله لكم آياته من أجل أن تعقلوا، فتفهموا، وتعملوا. فوائد: 1 - قال ابن كثير عن الآية الأولى: (قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. قال البخاري: (قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وقد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟. قال: يا ابن أخي: لا أغير شيئا من مكانه). ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة أشهر، فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها. وبقاء رسمها بعد التي نسختها، يوهم بقاء حكمها؟. فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي. وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها كما وجدتها. 2 - على القول بأن الآية الأولى في هذا النص منسوخة بآية الميراث، يثور سؤال: ما دامت المرأة من أصحاب الفروض. فهل يحق لها أن تقضي عدتها في بيت
كلمة أخيرة في الفقرة
زوجها؟. أو يكون ذلك زائدا على ما فرض الله لها؟. هذه القضية محل خلاف بين العلماء، وللشافعي قولان في هذا الموضوع- موضوع وجوب السكنى في منزل الزوج للمتوفى عنها زوجها- والذين يذهبون إلى وجوب السكنى في منزل الزوج للمتوفى عنها زوجها، يعتبرون ذلك من جملة الحقوق. وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه أن الفريعة بنت مالك بن سنان- وهي أخت أبي سعيد الخدري- رضي الله عنهما أخبرتها- أي لزينب بنت كعب- أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة. فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له. فقال: «كيف قلت»؟. فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك. فأخبرته، فاتبعه، وقضى به). قال الترمذي عن هذا الحديث: حسن صحيح. كلمة أخيرة في الفقرة: بدأت الفقرة في الكلام عن الإيلاء الذي قد يصل في بعض حالاته إلى الطلاق. ومنه وصلت الفقرة للكلام عن الطلاق الرجعي. ثم تحدثت عن الطلاق البائن بينونة كبرى، وعن الخلع، وعن شرط العودة إلى الزوج الأول بعد البينونة الكبرى. ثم يعود إلى الحديث عن الطلاق الرجعي، والأدب فيه. وإلى الطلاق البائن بينونة صغرى، والعودة إلى الزوج بعقد جديد إذا رغب الزوج والزوجة البائنان عن بعضهما بالعودة إلى الزوجية. ثم تعرض السياق لحالة وجود الولد إذا تم طلاق، وكيف ينبغي أن يفعل الزوجان البائنان في شأنه.
الفقرة الرابعة والأخيرة من المقطع الأول من القسم الثالث
وبهذا انتهت المجموعة الأولى في الفقرة لتأتي مجموعة ثانية، تتحدث عن تصفية الحياة الزوجية إذا حدثت وفاة بعد أن تحدثت المجموعة الأولى عن طريق تصفية الحياة الزوجية بالطلاق. وقد تحدثت المجموعة الثانية عن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها، وعما يجوز، وما لا يجوز أثناء العدة، وعن حقها في الزواج بعد انتهاء العدة. ثم يعود السياق للحديث عن الطلاق. فيذكر مسألتين. مسألة ما إذا تم الطلاق قبل المس وقبل فرض المهر. ومسألة ما إذا تم الطلاق قبل المس وبعد فرض المهر. ويذكر حكم هاتين المسألتين ثم تأتي آيتان في المحافظة على الصلوات، والصلاة حال الخوف. ثم يعود السياق لذكر حكم منسوخ. وليؤكد حكما قائما. وليمن علينا بنعمة البيان. وفي ذكر الحكم المنسوخ في نهاية السياق، تسجيل للعناية في شأن المرأة في ابتداء الإسلام حتى أوصلها إلى الأحكام النهائية التي هي الأرفق بها. وفي توكيد حق المطلقة في خاتمة السياق تسجيل للعناية في المرأة في كل حال. وفي ذكر الصلاة في هذا السياق تسجيل بأن الأحكام لا تقوم بلا صلاة. وفي ذكر صلاة القتال في هذا السياق تذكير بوحدة المقطع خاصة وأن فقرة جديدة لها صلة بالقتال ستأتي. فكأن الآية تشعرنا بأن الكلام الذي بدأ عن القتال في الفقرة الأولى لا زال مستمرا. وإذا كان المقطع لا يزال مستمرا فلننتقل إلى فقرة جديدة. الفقرة الرابعة والأخيرة من المقطع الأول من القسم الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (242) إلى نهاية الآية (253). [سورة البقرة (2): الآيات 243 الى 253] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: تبدأ الفقرة بمجموعة لها صلة بالإنفاق والقتال. وهكذا نجد أن كل الأحكام التي مرت معنا في هذا المقطع آتية بين كلامين عن الإنفاق والقتال. فبدون ذلك لا تقوم أحكام الإسلام، ولا يكون دخول في الإسلام كله. ثم تأتي مجموعة أخرى، تعرض علينا صفحة من صفحات العبرة في تاريخ بني إسرائيل، وهي كذلك في موضوع القتال، وشروط إقامته. إنه حتى يقاتل شعب فإن نقطة البداية في ذلك هو وجود القيادة المتوافرة فيها الشروط المناسبة. إن المجموعة الثانية في هذه الفقرة فيها حديث عن ذلك، وعن غيره. وتأتي الآية الأخيرة وفيها كلام عن القتال. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ. وبهذا ينتهي المقطع، وتنتهي هذه الفقرة. فقد بدأ المقطع بعد المقدمة، والتمهيد بالقتال. وانتهى بالقتال. وإن دروس هذه الفقرة لأمتنا في هذه المرحلة لكثيرة. إذ ضعفت عند هذه الأمة إرادة القتال في سبيل الله. وفقدت القيادة الرشيدة التي تقودها في طريق القتال. وإن دروس هذه الفقرة في كل زمان ومكان لكثيرة. فلنأخذ ما استطعنا من دروس ذلك كله. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ* وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. المعنى العام: في الآية الأولى يقص الله علينا قصة تجري مجرى المثل في التعجب. وفي القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر. وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه. فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الموت، وطلبا لطول الحياة. فعوملوا بنقيض قصدهم. وجاءهم الموت سريعا في آن واحد. ثم أحياهم بعد موتهم. وكان في إحيائهم عبرة، ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ودليل على أن الموت والحياة بيد الله. وعقب الله على القصة بتذكير الناس بفضله عليهم فيما يريهم من الآيات الباهرات، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغات. ثم بين أنه مع هذا كله، فإن أكثر الناس لا يقومون بشكر ما
المعنى الحرفي
أنعم الله به عليهم، في دينهم، ودنياهم. وفي الآية الثانية أمر بالقتال، وأمر بمعرفة الله. وبين معرفة الله والجهاد في سبيله تلازم. وبين الآية الأولى والثانية اتصال. فكما أن الحذر لا يغني عن القدر، كذلك الفرار من الجهاد، وتجنبه لا يقرب أجلا، ولا يبعده. بل الأجل المحتوم، والرزق المقسوم مقدر، مقنن، لا يزاد فيه، ولا ينقص. وفي الآية الثالثة، حث على الإنفاق في سبيل الله. وبين الجهاد بالنفس والمال تلازم، وفي الآية بيان لما أعد الله- عزّ وجل- من مكافئات مضاعفة على الإنفاق. وبيان أن علينا أن ننفق، ولا نبالي. فالله هو الرزاق، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين. له الحكمة في ذلك، وإليه المرجع يوم القيامة فيجازي كلا بعمله .. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ: هذا استفهام تقريري لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب أو سمع بأخبار الأولين، التي فيها هذا الخبر، وهو في الوقت نفسه تعجيب من شأنهم، وخوطب به من لم ير ولم يسمع، لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل. فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا: أي فأماتهم الله. وإنما جئ به على هذه العبارة، للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد، بأمر الله، ومشيئته. وتلك ميتة خارجة عن العادة. ثُمَّ أَحْياهُمْ: ليعتبروا، ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه. وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد، وأن الموت إذا لم يكن منه بد، ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل الله. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثا على الجهاد، ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله. فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ: حيث أحيا أولئك ليعتبروا، وليعتبر من سمع بقصتهم. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي: لا يقوم أكثر الناس بشكر ما أنعم الله عليهم. وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: هذا الأمر لنا معشر هذه الأمة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: واعلموا أن الله يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون، عليم بما يضمره الجميع. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله نفقة طيبة، بنفس طيبة. سمى ما ينفق في سبيل الله قرضا، لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد، سمي به لأن المقرض يقطعه
فوائد
من ماله، فيدفعه إليه ليأخذه منه بعد، ففي استعمال القرض تنبيه على أن ذلك لا يضيع عنده، وأنه يجزيهم عليه لا محالة. ويدخل في هذا القرض، النفقة في الجهاد. لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله- ويحتاج فيه إلى المال- حث على الصدقة لتتهيأ أسباب الجهاد فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً: لا يعلم كنهها إلا الله. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي: يقتر الرزق على عباده، ويوسعه عليهم. فكأنه يقول: فلا تبخلوا عليه، بما وسع عليكم، لا يبدلكم الضيق بالسعة. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: فيجازيكم على ما قدمتم. فوائد: 1 - بمناسبة هذه الآيات يذكر ابن كثير قول خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو في سياق الموت: (لقد شهدت كذا موقفا. وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية، أو طعنة، أو ضربة. وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير. فلا نامت أعين الجبناء). 2 - في هرب هؤلاء من الموت، اتجاهان للمفسرين. الاتجاه الأول: أنهم فروا من الجهاد. والاتجاه الثاني: أنهم فروا من الطاعون، فعوقبوا بما منه فروا. ثم من الله عليهم بالحياة، لتكون عبرة. وبمناسبة القول أنهم فروا من الطاعون يذكر ابن كثير الحديث الصحيح الذي فيه أدب المسلم في حالة انتشار وباء الطاعون وهذه هي رواية الإمام أحمد: «عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان (بسرغ) لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه. فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام- فذكر الحديث- فجاءه عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه». فحمد الله عمر ثم انصرف. وفي رواية: «إن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا» ولعل في هذا النص أول تأسيس لفكرة الحجر الصحي في تاريخ العالم. 3 - أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله: وإن الله عزّ وجل ليريد منا القرض؟. قال: «نعم يا أبا الدحداح». قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي عزّ وجل حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه، وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم
الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجل). 4 - أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: لما نزلت مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ ... إلى آخرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رب زد أمتي». فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً .... قال: «رب زد أمتي». فنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. (سورة الزمر) وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: (والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة». وأخرج مثله الإمام أحمد عن أبي هريرة. 5 - إن مجئ هذه الآيات، والتي بعدها في موضوعها في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، دليل على أن الإسلام لا يقوم بلا قتال وبذل مال. وكل من يتصور غير ذلك يكون واهما ومخطئا. 6 - ذكر ابن كثير مجموعة أقوال المفسرين في الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم، وليس في واحد منها نص يمكن أن يركن إليه بحيث يعتبر تفسيرا قطعيا للآية، ومن جملة ما ذكره أن هذه القصة حدثت في زمن نبي من بني إسرائيل، اسمه حزقيال وبالرجوع إلى الترجمة العربية الحديثة لسفر حزقيال من أسفار العهد القديم نجد في الإصحاح السابع والثلاثين على لسان حزقيال ما يلي: «وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما، وأمرني عليها من حولها، وإذا هي كثيرة جدا على وجه البقعة، وإذ هي يابسة جدا، فقال لي: يا ابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت يا سيد الرب أنت تعلم، فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب، هكذا قال الرب لهذه العظام ها أنا ذا أدخل فيكم روحا فتحيون، وأضع عليكم عصبا، وأكسيكم لحما، وأبسط عليكم جلدا، وأجعل فيكم روحا فتحيون، وتعلمون أني أنا الرب. فتنبأت كما أمرت، وبينما أنا أتنبأ كان صوت، وإذا رعش، فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه، ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها، وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح، فقال لي: تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم وقل للروح هكذا، قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربعة، وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جدا جدا» يقول صاحب الظلال: «لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت من هم؟ وفي
أي أرض كانوا وفي أي زمان خرجوا؟ فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين كما يجئ القصص المحدد في القرآن، إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ... إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة ... يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي، وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلا ولا يردان قضاء ... ». قضاء ... ». [سورة البقرة (2): الآيات 246 الى 251] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)
المعنى العام
المعنى العام: بعد المجموعة السابقة التي بين الله جل جلاله فيها أن الحذر لا يغني من القدر، وأن الموت والحياة بيد الله، وبعد الأمر بالقتال والإنفاق في سبيل الله، تأتي هذه المجموعة التي تبين أن الفئة القليلة المؤمنة تتغلب على الفئة الكثيرة الكافرة. وأنه لا بد من جهاد، وإلا لعم الفساد. في الآية الأولى بيان لحال وصل إليها بنو إسرائيل، من ذهاب بلادهم، وسبي أولادهم. فطلبوا نتيجة لذلك من نبي لهم أن ينصب عليهم ملكا يقاتلون تحت إمرته. وبفراسة النبي سألهم عما يتوقعه منهم، أنهم لو فرض عليهم القتال فسينكصون. ولكنهم أصروا. وكان واقع الحال ما توقعه منهم، أن الأكثرية منهم نكصوا عن القتال. - وفي الآية الثانية تم التعيين نزولا عند رغبتهم في أن يكون لهم ملك. وكان التعيين بناء على الخصائص المناسبة للحال. فهم يحتاجون إلى ملك يجتمع له العلم بالشريعة، وفن القتال، والقوة الجسدية كي يقوم بأعباء القيادة. وكان طالوت ذلك الرجل. ولكنهم اعترضوا تعنتا، وكان الأولى بهم التسليم والطاعة لو كانوا مؤمنين حقا. وسبب اعتراضهم أنهم يتصورون أن الملك لا يستحقه أحد إلا بنسب أو مال. فبين لهم أن هذا اصطفاء الله واختياره، وتلك مشيئته، وهو واسع الفضل. يختص برحمته من يشاء. عليم بمن يستحق الملك، ممن لا يستحقه. - وفي الآية الثالثة يبين الله عزّ وجل أنه قد أعطاهم معجزة. هي مجئ التابوت، تحمله الملائكة، كآية تزيد طمأنينتهم، ليزدادوا إيمانا بنبيهم، وليطمئنوا إلى
إمرة طالوت. وفي التابوت ما يتباركون به. وهو آثار من موسى وهارون. ومجئ المعجزة في هذه الحال لا تبقي شكا لمؤمن أن الله هو الذي اصطفى طالوت وأن نبيهم صادق، وأن طالوت يستأهل ما أقامه الله فيه. فالمفروض بعد هذا أن يكونوا على منتهى الطاعة والاندفاع في القتال. - وفي الآية الرابعة يبين الله عزّ وجل الظرف الذي وضع فيه طالوت قومه. عند ما خرج بهم للقتال، فالقتال يحتاج إلى انضباط. وفي فن الحرب يستحيل أن يكسب جيش لا انضباط فيه معركة. فكانت أول عملية قام بها طالوت- بأمر الله- هو اختبار انضباط هذا الجيش، بقضية تخالف الأهواء. وهي أنه كلفهم حين مرورهم على نهر الشريعة- الذي يسمى الآن نهر الأردن- ألا يشربوا منه إلا في حدود الغرفة الواحدة، فلم يلتزم بهذا الأمر إلا القليل. هذا القليل هو وحده الذي سمح له طالوت بتجاوز النهر. إذ هم المؤمنون حقا. والمطيعون حقا، والراغبون في الجهاد حقا. فلما جاوزوا النهر، رأوا قلتهم، فلما رأوا قلتهم ظهرت فيهم الظاهرتان الموجودتان دائما في هذه الأحوال، حتى عند أهل الإيمان. ظاهرة الذين يعطون الأسباب أكثر من حجمها، فهؤلاء قالوا بأنهم لا يستطيعون أن يربحوا المعركة ضد جالوت وجنده، والظاهرة الثانية ظاهرة المؤمنين المتوكلين، الذين لا يغفلون الأسباب. ولكن يعطونها حجمها، مع الثقة الكاملة بالله، فهؤلاء قالوا بأن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة إذا وجدت مشيئة الله. وقد وعد الله الصابرين بأن يكون معهم. فإذا صبرنا فنحن الغالبون. - وفي الآية الخامسة، يصف الله عزّ وجل التقاء الجمعين. وحال أهل الإيمان بالافتقار إلى الله في تلك الساعة الحاسمة، ودعائهم الله عزّ وجل أن يصبرهم ويثبت أقدامهم وينصرهم. وهذا منتهى الافتقار لله. حيث طلبوا منه الصبر، والتثبيت، والنصر. فلم يقولوا لله: علينا كذا، وعليك كذا. بل طلبوا منه أن يعينهم على ما كلفهم، وأن يعطيهم ثمرة ذلك. - وفي الآية السادسة بيان النتيجة. وهي النصر، وقتل جالوت على يد داود الذي جمع الله له النسب والعلم، والقوة الجسدية، وآتاه الملك، والحكمة بعد طالوت، ثم ختمت الآية بالقاعدة التي تبين حكمة مشروعية القتال في الإسلام، وهي أنه لولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بذلك فسادا، لغلب المفسدون وفسدت
المعنى الحرفي
الأرض، وهلك الحرث والنسل. فلولا أن أهل الإيمان يقاتلون أهل الكفر، ولولا أن أهل الإيمان يوقفون أهل الفساد عند حدهم، لفسدت البلاد والعباد. المعنى الحرفي أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى الملأ: هم الأشراف لأنهم يملئون القلوب جلالة، والعيون مهابة. ومِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد موته إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: حين قالوا لنبي لهم أنهض للقتال معنا أميرا نصدر في تدبير الحرب عن رأيه، وننتهي إلى أمره قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي: هل قاربتم إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا. أي: هل الأمر كما أتوقعه، أنكم لا تقاتلون وتجبنون، فأدخل (هل) الاستفهامية التي تفيد التقرير، والتثبيت للإشعار بما هو متوقع عنده قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي: ردوا على نبيهم بقولهم: وأي داع لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه، والحال أنه أخذت منا البلاد، وسبيت الأولاد. يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي: فلما أجيبوا إلى ملتمسهم بفرض القتال عليهم، أعرضوا عنه إلا القليل. أي لم يفوا بما وعدوا. بل نكل عن الجهاد أكثرهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: هذا وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا منهم، عين لهم طالوت، وأفهمهم أن هذا الأمر ليس باجتهاد من عنده، بل باصطفاء من الله. فهو أمرني به لما طلبتم مني ذلك. قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ. وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ أي قالوا معترضين على هذا التعيين: كيف ومن أين يمتلك علينا. والحال إنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير، ولا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن الملك كان في سبط يهوذا، كما قال المفسرون. وهذا اعتراض منهم على نبيهم، وتعنت. وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف. فأجابهم نبيهم قائلا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ: أي إن الله اختاره عليكم. وهو أعلم بالصالح منكم. ولا اعتراض على
[سورة البقرة (2): آية 248]
حكمه. ثم ذكر مصلحتين، هما أنفع مما ذكروا من النسب، والمال. وهما العلم المبسوط. قالوا: كان أعلم بني إسرائيل بالحرب، والديانات في وقته. وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه. والبسطة: السعة والامتداد. قال النسفي: والملك لا بد أن يكون من أهل العلم. فإن الجاهل ذليل مزدرى، غير منتفع به. وأن يكون جسيما، لأنه أعظم في النفوس، وأهيب في القلوب». وقال ابن كثير: «أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل، وأشكل منكم، وأشد قوة، وجدا في الحرب، ومعرفة بها. أي أتم علما، وقامة منكم. ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم، وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه» وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي: واسع الفضل والعطاء. يوسع على من ليس له سعة من المال، ويغنيه بعد الفقر. وهو عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه، فيصطفي من شاء. وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أي: قال لهم نبيهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم، أن يرد عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي: في التابوت سكون، وطمأنينة لكم من ربكم، وفيه بقية مما تركه موسى، وهارون. وذكر الآل للتفخيم. وفسر النسفي هذه البقية بأنها رضاض الألواح، وعصا موسى، وثيابه، وشئ من التوراة، ونعلا موسى، وعمامة هارون عليهما السلام، ونقول ابن كثير عن المفسرين تجمع ما قاله النسفي. دل ذلك على التبرك بآثار الأنبياء. إذ ذلك من تعظيم حرمات الله، وإتيان التابوت كان بواسطة الملائكة. قال ابن عباس: (جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين بالله، واليوم الآخر، والرسل. قال النسفي عن التابوت: وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه. فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل، ولا يفرون.
[سورة البقرة (2): آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي: حين خرج من بلده إلى جهاد العدو بجنده. قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي: مختبركم. أي: يعاملكم معاملة المختبر بتميز المحق في الجهاد، من المدعي. قال ابن عباس: وهو نهر بين الأردن وفلسطين. يعني نهر الشريعة المشهور. ثم جاء بيان الاختبار: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي: فمن شرب كرعا، فليس من أتباعي، وأشياعي. فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ أي: ومن لم يذقه فإنه مني. ثم رخص لهم في اغتراف الغرفة باليد دون الكرع. والغرفة، هي المغروف. فصارت الرخصة، أنه من اغترف بيده فشرب فلا بأس عليه. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي: فشربوا كرعا إلا القليل. فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي: فلما جاوز طالوت النهر هو ومن آمن معه ممن نجحوا في الاختبار. روى البخاري، وابن جرير عن البراء بن عازب قال: (كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة، وبضعة عشر، على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر. وما جازه معه إلا مؤمن). قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي: لا قوة لنا على جالوت وجنوده. استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم، لكثرته، وقوته. وقلتهم، وضعفهم. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي: قال الذين يوقنون بالشهادة- وهم العالمون حقا- تشجيعا، وتثبيتا كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إن النصر من عند الله، ليس عن كثرة عدد، ولا عدد فكثيرة هي الحالات التي انتصرت بها فئة قليلة على فئة كثيرة بنصر الله. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: ينصرهم، ويعينهم، ويوفقهم. شجعوهم، وطالبوهم بالصبر. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي: لما واجه حزب الإيمان، وهم قليل من أصحاب طالوت، لعدوهم أصحاب جالوت، وهم عدد كثير. قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: أنزل، واصبب علينا صبرا على القتال من عندك. وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: في لقاء العدو. جنبنا الفرار، والعجز، بتقوية قلوبنا، وإلقاء الرعب في صدور عدونا. وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي: أعنا عليهم، واهزمهم. دل ذلك على أن أدب المؤمنين في المعركة، الافتقار إلى الله، ودعاؤه بما يقتضيه الحال من التثبيت، والنصر. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ: أي فهزم طالوت والمؤمنون معه،
فوائد
جالوت وجنده بقضاء الله ونصره. فغلبوهم وقهروهم. وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ أي: آتى الله داود الملك في مشارق الأرض المقدسة، ومغاربها حتى إنه لم تجتمع بنو إسرائيل على ملك كما اجتمعت على داود. وآتاه مع الملك، الحكمة. أي: النبوة. وعلمه زيادة على ذلك ما شاء الله أن يخصه به من العلوم، من مثل صنعة الدروع، وغير ذلك. وفي ذكر ما أكرم الله به داود بعد ذكر قتله لجالوت، إشارة إلى أن البلاء في الجهاد يستحق به صاحبه الخير الكثير عند الله. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي: ولولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض، فيدفع الكافرين بالمؤمنين، وينصر المؤمنين على الكافرين، فكيف بذلك فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض بغلبة الكفار، وقتل الأبرار، وتخريب البلاد، وتعذيب العباد. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ أي: ذو من عليهم، ورحمة بهم. يدفع عنهم ببعضهم بعضا فساد العالم. وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه، في جميع أفعاله وأقواله. وإن فضله كما هو كائن على البشر بذلك. فإن فضله عام على عوالمه كلها، وخلقه جميعا. فوائد: 1 - دلت الآيات على أنه لا يحمي حمى الإسلام والمسلمين إلا جهاد وقتال. وأن الجهاد والقتال يحتاجان إلى إمرة، وطاعة، وانضباط، وإيمان، وافتقار إلى الله. كما دلت الآيات على أن الهجوم هو الطريق للنصر. 2 - مجئ هذه المجموعة في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، وانتهاء المجموعة بقاعدة وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يدل على أن الإسلام كله لا يقوم إلا بقتال، وإن طريق الإسلام والمسلمين دائما هو هذا الذي قصه الله علينا في قصة طالوت: إمرة، وجهاد. والإمرة التى لا تجاهد، لا تحقق ما ينبغي منها. وإن الإمرة تختار على أساس الخصائص المناسبة للوضع القائم لا على أساس آخر. 3 - لا تنطبق هذه الآيات على واقعة، كما تنطبق على مسلمي فلسطين. فقد أخرجوا من ديارهم، وأموالهم. وإن طريقهم لهذا: إمرة، وجهاد. أمير مؤمن، وصف مؤمن. وغير ذلك ليس طريقا. فصل في بعض الروايات الكتابية لقصة طالوت وجالوت:
ذكرنا في كتابنا (من أجل خطوة إلى الأمام) مجموعة ملاحظات حول نصوص أسفار العهد القديم، والجديد تنفي الثقة بثبوت ما في هذه الأسفار، سواء في ذلك الملاحظات العلمية، أو الملاحظات في الدلالة على أن هذه النصوص كتبت بعد آجال طويلة بلا سند معروف متصل إلى غير ذلك، وهذا وأمثاله يبين لنا أنه قد حدث التحريف والتبديل بسبب الغفلة والنسيان، فضلا عن التحريف والتبديل المتعمدين في هذه الأسفار، ولذلك فالنقل عنهما ليس لإثبات حجة بل إما لنقض الخطأ أو للاستئناس. ومن الأخطاء التي وقع فيها نساخ هذه الأسفار أن حادثة امتحان طالوت لجنده أثناء عبور النهر تنسب في هذه الأسفار إلى جدعون ولا يروونها عن طالوت فإما أن الحادثة تكررت وإما أن هناك خطا في النسبة: في سفر القضاء «وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل، وأما باقي الشعب جميعا فجثوا على ركبهم لشرب الماء، فقال الرب لجدعون: بالثلاث مائة الرجل الذين ولغوا أخلصكم .... وأمسك الثلاث مائة رجل» إن هذه الحادثة إما أنها تكررت في حياة بني إسرائيل مرة في زمن جدعون ومرة في زمن طالوت، أو أن النساخ غلطوا لتقادم العهد بين الحوادث والنسخ. إن قصة طالوت وجالوت مذكورة في سفري صموئيل الأول والثاني من أسفار العهد القديم، ولا نطمع أن نجد في السفرين كثيرا من الصواب، ولكن فيهما من الصواب ما دلنا عليه القرآن، وفيهما من الخطأ ما دلنا عليه القرآن، وفيهما ما سوى ذلك مما يسعنا السكوت عنه. ومما في هذين السفرين: «وكان تابوت الله في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر». «وكان من يوم جلوس التابوت في قرية يعاريم أن المدة طالت وكانت عشرين سنة». «فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة وقالوا له: ..... اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب». «وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن .... وكان له ابن اسمه شاؤل شاب حسن ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب». «فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق، فقال صموئيل
لجميع الشعب: أرأيتم الذي اختاره الرب إنه ليس مثله في جميع الشعب». «وأما بنو بليعال فقالوا كيف يخلصنا هذا فاحتقروه ولم يقدموا له هدية». «وتجمع الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل. ثلاثون ألف مركبة وستة آلاف فارس وشعب كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة». «فقال شاؤل لأخيا قدم تابوت الله كان في ذلك اليوم مع بني إسرائيل». وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب ... واجتمع شاؤل ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين». «فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جت، طوله ستة أذرع وشبر، وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابسا درعا حرشفيا، ووزن الدرع خمسة آلاف مثاقل نحاس، وجرموقا نحاس على رجليه، ومزارق نحاس بين كتفيه، وقناة رمحه كنول النساجين وسنان رمحه ستمائة مثاقل ... فوقف ونادى ... اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إلي ... وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحا ومساء أربعين يوما». «فقال داود لشاؤل لا يسقط قلب أحد بسببه عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني، فقال شاؤل لداود لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام ... ». ومد داود يده إلى الكف وأخذ منه حجرا ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته فارتز الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض، فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله ولم يكن سيف بيد داود، فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده، وقتله وقطع به رأسه فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا». أقول: يرى القارئ في سفري صموئيل من المبالغات، والأخطاء، وما يتنافى مع العقل أو العلم. إن اليهود أمة لم تحفظ إرث أنبيائها، ولعل من أهم العبر التي نأخذها من قصة طالوت وداود هنا: أن القيادة في الأزمات ينبغي أن تكون بحسب الخصائص التي تناسب المرحلة ولنعد إلى سياق المقطع:
المعنى العام
فبعد المجموعتين الأوليين من الفقرة الرابعة يأتي في هذا السياق، سياق الأمر بالدخول في شرائع الإسلام كلها: آيتان تشكلان خاتمة الفقرة الرابعة وخاتمة المقطع الأول من القسم الثالث في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ. المعنى العام: في الآية الأولى إشارة إلى الآيات التي مرت معنا، من إماتته الألوف، وإحيائهم. ومجئ التابوت تحمله الملائكة، وانتصار القلة المؤمنة المستضعفة، على الكثرة الكافرة. وأن هذه الآيات يقصها الله على رسوله بالحق. أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما حدث، وفي ذلك إشعار أن ما بأيدي أهل الكتاب مخلوط، وفي الآية كذلك خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى تأكيد رسالته، وتقريرها. كيف ومثل هذه الآيات تشهد على رسالته، حيث يخبر بها من غير أن يقرأ كتابا، أو يسمع من أهل الكتاب. وفي الآية الثانية: إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة، من آدم إلى داود، والتي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله عزّ وجل فضل بعض الرسل على بعض، وخص بعضهم بخصائص. فمنهم من كلمه، كموسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رفعه درجات على غيره. كأولي العزم من الرسل مثلا. ومن هذه الخصوصيات، ومن هذا الرفع، ما آتاه عيسى من الحجج، والدلائل القاطعات على صحة ما جاء به بني إسرائيل، تأييده بجبريل عليهما السلام. ثم يبين الله عزّ وجل أن الاقتتال الكائن بين البشر بمشيئته. وكذلك اختلافهم بمشيئته. وهذا لا ينفي الاختيار. فالحجة قائمة على من ظلم، وكفر، ولكن مشيئة الله، وإرادته محيطتان بكل شئ لا يخرج شئ عن مشيئته وإرادته، لأنه لا خالق سواه. وإذا كان الاختلاف قد وصل إلى درجة الكفر، فلا بد من قتال. هكذا شاء الله. وهو يفعل ما يريد. والحكمة في ذلك ما مر، أنه لولا القتال لفسدت الأرض، وإذن فيا أهل الإيمان قاتلوا من كفر. وهاهنا لا بد من توضيح قضيتين: الأولى أن الذين جاءتهم البينات من أمم الأنبياء
كلمة في السياق
انقسموا قسمين بعد أنبيائهم، فمنهم من كفر، ومنهم من آمن. فكان لا بد من قتال. وإن الأمة الإسلامية بعد رسولها، قد وقع لها ما وقع لغيرها. فلا بد من قتال. إنه يوجد الآن على الأرض الإسلامية مؤمنون، وكافرون. والكافرون من أبناء المسلمين أنفسهم. فلا بد إذن من قتال لهؤلاء. والقضية الثانية: أن هذه الآية هي التي ختم بها المقطع الأول في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. فكأنها تشير إلى أن المسلمين الذين أمروا بالدخول في الإسلام كله سينقسمون قسمين. قسما يبقى على إيمانه وإسلامه. وقسما سيكفر. وسيكون قتال من أجل ألا يعم الفساد. تلك مشيئة الله. وقد أمر أهل الإيمان أن يفعلوا وقتال المرتدين مقدم على أي قتال آخر. وحفظ رأس المال مقدم على التفكير في الربح. كلمة في السياق: إن الآية قبل الأخيرة جاءت تعليقا على المجموعتين الأوليين في الفقرة. فكلا المجموعتين السابقتين، كان فيها خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَلَمْ تَرَ. لتأتي هذه الآية مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤكدة أن ما أنزل عليه حق، ومؤكدة رسالته بمناسبة ذكر هاتين القصتين المجهولتين، إلا عند أهل الكتاب. وإذا كانت المجموعتان السابقتان مرتبطين بالسياق العام كما رأينا فهذه الآية كذلك لها علاقة بالسياق العام من حيث إنه ما دام ما ينزله الله حقا، وما دام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من الدخول في دينه كله، الإسلام جميعا. وإذ ذكرت الآية الأولى أن محمدا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، تأتي الآية الثانية لتبين مقامات الرسل، وخصوصيات بعضهم. وأن الجميع جاءوا بالبينات. وأن الأتباع منهم من آمن، ومنهم من كفر، ومن ثم كان القتال. ومن ثم كان هذا القتال بمشيئة الله، ومن ثم نعلم حكمة فرضية القتال علينا. فإذ أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وجاء بالبينات، فعلى الخلق جميعا متابعته، ومن لم يتابع فقد استحق أن يقاتل، فإما أن يسلم، وإما أن يخضع بدفع الجزية. ومن أسلم وارتد فجزاؤه القتل، وإذا سيطر المرتدون. فعلى من يستطيع قتالهم أن يقاتلهم. المعنى الحرفي: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ: الإشارة في (تلك) إلى ما سبق هذه
[سورة البقرة (2): آية 253]
الآية في المجموعتين السابقتين. بدليل أن كلا من المجموعتين بدئ بتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ وهذه الآية يتوجه الخطاب فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن في كل من المجموعتين ذكرت خارقة للعادة. ومعنى نتلوها: نقصها. والحق: هو الأمر المطابق للواقع. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ: بدليل ما تخبر به من الحق الذي ما كنت لتعرفه، لولا أنك رسول من عند الله، وأن الله يوحي إليك تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى المرسلين الذين منهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ: بالخصائص، وراء الرسالة. فهم يستوون في الرسالة، ويتفاوتون بالفضل كالمؤمنين. يستوون في صفة الإيمان، ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أي: منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير، كموسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك آدم، ورد في تكليم الله إياه حديث في صحيح ابن حبان عن أبي ذر. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء. فكان بعد تفاوتهم في الفضل، أفضل منهم بدرجات كثيرة. وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ إنه مفضل على كافة الرسل، بإرساله إلى الخلق عامة. وبأنه خاتم النبيين، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة، المتزايدة على الدهر. وفي إبهامه، وعدم ذكره صراحة، تفخيم، وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد. والمتميز الذي لا يلتبس صلى الله عليه وسلم. وقد يكون المراد تفاوت منازلهم عند الله. وقد يكون المراد اختلاف منازلهم الآن، كما ورد في حديث الإسراء. حيث إن بعضهم في السماء الدنيا، وبعضهم في الثانية، وهكذا. والله أعلم. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي: الحجج، والدلائل القاطعات. كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وغير ذلك. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي: قويناه بجبريل. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: ولو شاء الله ما اختلف الذين من بعد الرسل، فاقتتلوا. والقتال سببه الاختلاف. فذكر في الآية المسبب. فدخل السبب ضمنا. ولذلك فسرنا اقتتلوا باختلفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي: من بعد ما جاءتهم المعجزات، والآيات الواضحات كان المفروض ألا يختلفوا. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ كان المفروض ألا يختلفوا لوضوح الحق، ولكنهم اختلفوا. ثم بين الاختلاف بأن آمن بعضهم، وكفر الآخر. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي: لو شئت ألا يقتتلوا لم يقتتلوا. إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي. ثم أثبت- سبحانه- الإرادة لنفسه. وأثبت أن إرادته- تعالى- مطلقة.
فوائد
فوائد: 1 - أثبت الله عزّ وجل في الآية الأخيرة تفاضل الأنبياء. فما الجمع بين هذه الآية والحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: «استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده، فلطم بها وجه اليهودي فقال: أي خبيث. وعلى محمد صلى الله عليه وسلم. فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى على المسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش. فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور؟. فلا تفضلوني على الأنبياء». وفي رواية: «لا تفاضلوا بين الأنبياء». قال ابن كثير: (فالجواب من وجوه. أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. وفي هذا نظر .. الثاني: أن هذا ما قاله من باب الهضم والتواضع. الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم. وإنما هو إلى الله عزّ وجل. وعليكم الانقياد، والتسليم له، والإيمان به). 2 - إن أوسع المخلوقات مشيئة هو الإنسان. ومع ذلك فإن مشيئته مقيدة بعالم الأسباب، فهو لا يستطيع ألا يتنفس؛ وهو مقيد بقوانين هذا العالم؛ ومشيئته لا تنفذ إلا ضمن استطاعته التي أعطاه الله إياها، ومشيئته يمكن أن تعاكسها مشيئات الآخرين. والذات الإلهية منزهة عن هذا كله، مشيئته تعالى غير مقيدة، ومشيئته نافذة. ومشيئته لا يمكن أن تعاكسها مشيئات الآخرين، وإن من يتصور غير هذا يكون قد شبه مشيئة الله بمشيئة خلقه. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أنه لا شئ إلا بمشيئة الله. وهذه الآية تشهد بما لا يقبل جدلا على صحة هذا المذهب، ولكن كيف نجمع بين كون كل شئ بمشيئة الله وبين اختيار الإنسان. بين كون أفعال الإنسان بمشيئة الله، ومع ذلك فالله يحاسبه عليها؟. والجواب أن عموم المشيئة لا يتعارض مع الاختيار فالقاعدة أن مشيئة الله على وفق علمه، مع اعتقادنا أزلية العلم والمشيئة. والعلم كاشف، لا مجبر. فالله عزّ وجل علم، وأراد، والعلم كاشف لا مجبر فكون الله عزّ وجل علم ما سيفعله فلان بمحض اختياره، وأراده، وأبرزه بقدرته، فذلك شأنه، ولا يسأل عما يفعل. ولا يعني هذا أنه أجبر. فالإنسان مختار، يشهد على ذلك إرادته،
كلمة في الفقرة والمقطع
وعقله. وإرسال الله له الرسل، وهو يحاسب على هذا الاختيار. وهذا الكلام في مثل هذا المقام يكفي. ومن أوسع أبواب الضلال، قياس شأن الخالق، على حال المخلوق والحمد لله رب العالمين. كلمة في الفقرة والمقطع: كنا ذكرنا من قبل أن القسم الثالث في سورة البقرة يتألف من مقطعين. وقد انتهى معنا عرض المقطع الأول، وقد رأينا أن المقطع الأول يتألف من أربع فقرات، ورأينا أن التكليف التفصيلي الأول فيه كان في شأن القتال، وكان في آخر آية في المقطع ذكر لسبب من أسباب القتال. فاجتمع في المقطع في بدايته، ووسطه، ونهايته كلام عن القتال، وأسبابه، وبعض أحكامه. وقد حدثنا المقطع بعد مقدمته الواعظة عن أحكام كثيرة، ونبهنا إلى أشياء كثيرة. وكلها جاءت في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان. فعرفنا أحكاما في شأن الخمر، والميسر، واليتامى، والإنفاق، والزواج، والحياة الزوجية، والإيمان، والإيلاء، والطلاق، والخلع، وواجبات الزوجة المتوفى عنها زوجها، ووجوب المحافظة على الصلوات الخمس، والصلاة حال القتال. وعرفنا أن الطريق للخروج من الضياع، والقهر، والغلبة هو الإمرة المؤمنة ذات الخصائص المناسبة، والقتال. وكما أن للقتال محله في إقامة الإسلام، فإن للإنفاق محله في هذا الشأن. ولذلك رأينا ذكرا للإنفاق في مقدمة السورة، وذكرا له في المقطع الأول من القسم الثاني. وكذلك في المقطع الثالث. ورأينا ذكرا له في المقطع الأول من القسم الثالث ورأينا تلازم الحديث عن القتال مع الحديث عن الإنفاق في كثير من المواطن، فاتضح لنا محل الإنفاق في التقوى، ومحله في إقامة الإسلام كله. وهذا يقتضي تفصيلا في شأنه. ومن ثم فإن الفقرة الأولى في المقطع الثاني من هذا القسم كانت حديثا عن الإنفاق في سبيل الله وحديثا عن مرتكزاته من إيمان بالله، واليوم الآخر. إن المقطع القادم، وهو المقطع الثاني من القسم الثالث يتحدث عن قضايا مالية في فقرات ثلاث. والفقرة الأولى منه في الإنفاق بعد أن قدمت السورة لذلك بأن عرفتنا على محل الإنفاق في دين الله. إن في قضية التقوى، أو في قضية إقامة الإسلام كله وترك اتباع خطوات الشيطان. فإلى المقطع الثاني من القسم الثالث.
المقطع الثاني من القسم الثالث
المقطع الثاني من القسم الثالث: يمتد هذا المقطع من الآية (254) إلى نهاية الآية (284). حيث تأتي بعده مباشرة خاتمة السورة. ويتحدث هذا المقطع عن ملامح النظام المالي في الإسلام. فالنظام المالي في الإسلام نظام زكوي، غير ربوي. ذو معاملات منضبطة بقيود الشرع. والفقرة الأولى في هذا المقطع تتحدث عن الإنفاق، والفقرة الثانية تتحدث عن الربا، والفقرة الثالثة تتحدث عن الدين، ويختم المقطع بآية تعلن أن المالكية لله، وأن الله سيحاسب. وبين آيات الإنفاق يأتي حديث عن الإيمان بالله، واليوم الآخر. فهو يبدأ بالأمر بالإنفاق، ثم يتحدث عن الإيمان بالله، واليوم الآخر، ثم يرجع الحديث إلى الإنفاق. وهكذا حتى تتم الفقرة الأولى. فيأتي حديث عن الربا، ثم تأتي آية الدين، فآية أخرى، فالآية الأخيرة. الآية الأولى في المقطع: أمر بالإنفاق مما رزق الله، والآية الأخيرة فيها إعلان المالكية لله؛ فبين الآية الأولى والأخيرة صلة واضحة وفي سياق الكلام عن الله، واليوم الآخر، يأتي كلام عن الحرية الدينية، وبذلك فإن هذا المقطع، والذي قبله يحدثنا عن أهم الأمور في حياة الإنسان: قضايا الأسرة، والقتال، والسياسة، والاقتصاد، والحياة العامة. وكل ذلك يأتي في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. الفقرة الأولى من المقطع تمتد هذه الفقرة من الآية (254) إلى نهاية الآية (274) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 254 الى 274] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: تبدأ الفقرة بالأمر بالإنفاق، ثم يأتي كلام عن الله تعالى، هو أروع كلام عن الله عرفته البشرية. وكأنه بمثل هذه الروعة في الحديث عن الله تقوم الحجة على كل إنسان، ومن ثم يأتي النهي عن الإكراه على الدين؛ لأن الحجة قد قامت على الإنسان. ثم يأتي كلام عن الله، وكلام عما تقوم به الحجة في شأن اليوم الآخر، ثم يعود الكلام إلى الحديث عن الإنفاق. ومجئ الكلام عن الله، والتدليل على اليوم الآخر، مرتبط بطرفي الفقرة. أي بالإنفاق. وذلك واضح. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «والصدقة برهان». برهان على ماذا؟. برهان على الإيمان بالله واليوم الآخر، فالمال حبيب للنفس، وهو عديل الروح
المعنى العام
كما يقولون. فما لم يعرف الإنسان الله فيحبه. وما لم يؤمن باليوم الآخر فيحب العمل من أجل الثواب فيه، فإنه يصعب عليه أن ينفق. ومن ثم كان الحديث عن الله في هذه الفقرة أعظم منه في أي مكان آخر من كتاب الله. أليس فيه آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله. إن من يقرأ هذه الفقرة ملاحظا البداية والنهاية والوسط سيجد نفسه مندفعا للإنفاق. ولقد رأينا أولى آيات سورة البقرة هي: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وفيما مر من السورة، مرت تفصيلات كثيرة حول الصلاة. وهاهنا تأتي تفصيلات كثيرة حول الإنفاق وقد أخر الكلام عن الإنفاق ليكون بجانب ما يقابله من أكل الربا، وليكونا بجانب الحديث عن ضرورة الضبط في المعاملات، ومجئ ذلك كله في أواخر السورة يشعر بالاحتياجات التربوية الكثيرة للنفس البشرية، لتستقيم على أمر الله في شأن المال. ومجئ ذلك كله في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله يشعر بأنه ما لم يقم أمر المال على شرع الله فإن الناس لا يكونون قد دخلوا في الإسلام كله. وفي مثل هذا وغيره، تظهر دقائق من أسرار الإعجاز لمن عقل. ولنبدأ عرض الفقرة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ المعنى العام: يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله، سبيل الخير، ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم، ومليكهم. وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا من قبل أن يأتي يوم القيامة، يوم لا يباع أحد من نفسه، ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبا. ولا تنفعه صداقة أحد، أو نسابته، أو شفاعته؛ إن كان كافرا. ثم يقرر الله أنه لا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ: هذا أمر عام بالإنفاق في الجهاد،
كلمة في السياق
والإنفاق الواجب كالزكاة، وصدقة الفطر، والنفقة على من تجب إعالتهم، وعلى من عرفت حاجتهم، وغير ذلك من النفقات الواجبة ودخل في ذلك الإنفاق النافلة. لأن الأمر كان بالإنفاق مما رزقنا الله، وليس كل ما رزقنا الله إياه أوجب فيه نفقة مفروضة. ومن هنا نفهم حكمة تأخير هذه الفقرة. إذ جاءت بعد أن عرضت علينا السورة صورا من الإنفاق الواجب والمندوب. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ الخلة: الصداقة. والشفاعة للمؤمنين ثابتة بنصوص كثيرة. فالشفاعة المنفية في هذا اليوم إنما هي الشفاعة للكافرين، أو أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي لم يأذن بها. فصار المعنى: أنفقوا من قبل أن يأتي يوم القيامة. يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق. لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه. ولأنه لا صداقة بين كافر وكافر. فالجميع يتبرءون من بعضهم، والجميع لا مقام لهم عند الله، فينتفعون من صداقتهم، ولأنه لا شفاعة يومئذ تنفع عنده إلا بإذنه. ولم يأذن أن يشفع لكافر. فإذا كان الأمر كذلك فأنفقوا لله، وفي سبيله، وفي محال الإنفاق، لا تراعوا في ذلك إلا أن يكون ذلك لوجه الله خالصا فهذا وحده ينفعكم. وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: والكافر هو الظالم نفسه، بتركه التقديم ليوم حاجته. حصر الله عزّ وجل الظلم بأهل الكفر، لأنه لا أظلم منهم في موافقهم من ربهم، ودينه، ورسله، وأهله. ولا أظلم منهم لأنفسهم، إذ أوردوها النار. وأي شئ أفظع من النار: السجن الأبدي للكافرين. وإن في هذه الآية لدواء لمن مرض قلبه بالإعجاب بالكافرين وبعدالتهم فالكافر هو الظالم مهما ظهر على يده من بعض حيثيات العدل قال عطاء بن دينار: (الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون. ولم يقل والظالمون هم الكافرون). لأنه لا يوجد من لا يظلم نفسه نوع ظلم إلا من عصم الله. كلمة في السياق: 1 - تذكرنا هذه الآية أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ بقوله تعالى في أول سورة البقرة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فإذا كانت هذه الفقرة لها علاقة بالإنفاق، فإننا ندرك سرا من أسرار السياق. إذ نجد في هذه الفقرة تفصيلا لما أجمل في بدايات سورة البقرة. 2 - نحب أن نذكر بمعنى طرقناه أكثر من مرة. هو أننا إذا نظرنا إلى بعض الآيات من خلال السياق العام، فإنها تدلنا على معان، وإذا نظرنا إليها منفردة تدلنا على معان، وإذا نظرنا إلى كلمة منها على انفراد نأخذ معان، وهكذا جعل الله كتابه، لا تنتهي
حديث وتعليق
معانيه. نقول هذا بمناسبة أننا قلنا إن الكلام عن الله، وأدلة اليوم الآخر، قد جاء بين الأمر بالإنفاق قبله، والحض على الإنفاق بعده. لأن موضوع الإنفاق في سبيل الله مرتبط بالإيمان بالله، واليوم الآخر. فغير المؤمن بالله واليوم الآخر لا ينفق إلا إذا عاد عليه الإنفاق بمنفعة ما. أما المؤمن، فإنه ينفق لأن الله أمر. ولأن الله سيثيبه في الدنيا والآخرة على ما أنفق. إننا عند ما ننظر إلى الآيات الواردة بين آيات الإنفاق، نجد في كل آية على انفراد معاني في موضوعها، ذات دلالات زائدة على ما نفهم من محلها في السياق. وإن كانت تخدم غرضه فلنلاحظ هذا كله فيما يأتي. ولنلاحظ كيف تخدم الآية السياق القريب، والسياق العام. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ من كان هذا شأنه ألا ينفق الإنسان في سبيله، ومن كان هذا شأنه كيف لا يدخل الإنسان في دينه. إذا فهمنا هذه العبارة، أدركنا حكمة مجئ هذه الآية بين قوله تعالى: أَنْفِقُوا. وبين قوله تعالى بعدها: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وإذا أدركنا مجيئها في سياق الدخول في الإسلام كله فالذين لا يعرفون الله، هم الذين يظنون أنه لا دخل لله في شئون عباده، أو أن تشريعه ليس هو الأكمل. كيف وهو القيوم، المحيط علما. حديث وتعليق: روى مسلم والإمام أحمد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أي آية في كتاب الله أعظم»؟. قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارا، ثم قال: آية الكرسي. قال صلى الله عليه وسلم: «ليهنك العلم أبا المنذر». وعند أحمد زيادة: «والذي نفسي بيده، إن لها لسانا وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش». وإنما كانت أعظم آية في كتاب الله لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه، وتمجيده، وصفاته العظمى، بما لم يجتمع في آية أخرى. ولا مذكور أعظم من رب العزة. فما كان ذكرا له، كان أفضل من سائر الأذكار. ومن ثم نعلم أن أشرف العلوم، علم التوحيد. وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة، فيها خمسة معان رئيسية. وإنما
المعنى الحرفي
ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف، لأنها وردت على سبيل البيان. القسم الأول منها بيان لتوحيده وقيامه بتدبير خلقه، وكونه مهيمنا عليه، غير ساه عنه والثاني: بيان لكونه مالكا لما يدبره. والثالث: بيان لكبرياء شأنه. والرابع: بيان لإحاطته بأحوال خلقه. والخامس: بيان لسعة علمه، وتعلقه بالمعلومات كلها، وتعريف على جلاله، وعظم قدره. المعنى الحرفي: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: هذا إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق. الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبدا، الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء. والدائم القيام بتدبير خلقه، وحفظه. فهو قائم بنفسه، غير مفتقر لغيره. وأما غيره فقائم به، مفتقر إليه. فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها. ولا قوام لها بدون أمره. وجودها مفتقر إليه، وصفاتها مفتقرة إليه، واستمرارها مفتقر إليه. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة: هي النعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور، ومعنى لا تأخذه أي لا تغلبه، والنوم أقوى من النعاس، وقد نفى هذا، وهذا وذلك توكيد للقيوم لأن من جاز عليه النعاس، والنوم، استحال أن يكون قيوما. فهو جل جلاله لا يعتريه نقص، ولا غفلة، ولا ذهول عما خلقه. بل هو قائم على كل نفس بما كسبت. شهيد على كل شئ، لا يغيب عنه شئ، ولا تخفى عليه خافية، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: هذا إخبار بأن الجميع ملكه، وملكه. فالجميع عبيده، وتحت قهره وسلطانه. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ: أي ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه. وهذا من عظمته، وجلاله، وكبريائه. فلا يتجاسر أحد أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش فأخر له ساجدا. فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع. قال: فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة». يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي: يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم. والضمير لما في السموات والأرض. ولم يقل: أيديها، وخلفها، لأن فيهما العقلاء. وفي هذا التعبير بيان لإحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها. ما من حركة إلا وهو يعلم ما قبلها، وما بعدها. ولا شئ إلا ويعلم ما قبله وما بعده. فسبحانه سبحانه. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ: المراد بالعلم هنا، المعلوم. فصار المعنى: لا يطلع أحد من
فوائد
علم الله على شئ إلا بمشيئة الله، وتعليمه. فما عرفه الإنسان من عالم الغيب، وما عرفه الإنسان من عالم الشهادة، وقوانين هذا الكون، وكيفية تسخيره، إلا بمشيئة الله، وتعليمه. فهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم. وهو الذي علم كل شئ ما علم. وهناك وجه آخر. قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شئ من علم ذاته وصفاته، إلا بما أطلعهم الله عليه. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: للعلماء في تفسير الكرسي هنا أقوال. منهم من فسره بالعلم، ومنهم من فسره بالعرش، ومنهم من فسره بمخلوق عظيم محيط دون العرش، ومنهم من فسره بالقدرة، ومنهم من فسره بالملك. وقد قدم ابن كثير ذكر تفسير الكرسي هنا بالعلم، نقلا عن ابن عباس. ومن عادته في هذه الحالة، أن يقدم الأرجح عنده. ثم نقل قول ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب مثله. ونستطيع أن نقول: إن أجود ما يفسر به الكرسي، إن أخرجناه عن لفظه هذا التفسير. وإما إذا لم نخرجه عن لفظه، فأجود ما يقال فيه، ما قاله ابن كثير، والصحيح، أن الكرسي غير العرش. والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وإذن صار معنى النص على القول الأول: أحاط علمه السموات والأرض. وعلى القول الثاني: إن كرسيه الذي هو دون العرش، محيط بالسماوات، والأرض. ومن كان مثل هذا خلقه، ما أعظمه. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي: لا يثقله، ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض، ومن فيهما، وما بينهما. بل ذلك سهل عليه، يسير لديه. وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شئ، ولا يغيب عنه شئ. والأشياء كلها متواضعة، ذليلة بين يديه، صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة، فقيرة. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ العلي في ملكه وسلطانه، العظيم في عزه وجلاله. أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به. العظيم المتصف بالصفات التي تليق به. فهما جامعان لكمال التوحيد. قال ابن كثير: (فقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ كقوله: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح، الأجود فيها طريقة السلف الصالح. أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه). فوائد: 1 - روى الحافظ أبو يعلى وغيره عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة. قال: فعظم
الرب تبارك وتعالى، وقال: «إن كرسيه وسع السموات والأرض. وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله» وقال ابن كثير: عبد الله بن خليفة ليس بذاك المشهور. وفي سماعه عن عمر نظر. وقال كذلك عن هذا الحديث: (وعندي في صحته نظر). نقلنا هذا الحديث، وتعليقات ابن كثير عليه، لئلا يظن ظان، أن هذا الحديث صحيح لاعتماده من قبل بعض المفسرين. 2 - أخرج ابن مردويه، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده. ما السموات السبع، والأرضون السبع عند الكرسي. إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة». 3 - عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة، آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت». رواه النسائي وابن حبان، قال ابن كثير عن إسناد ابن حبان: فهو إسناد على شرط البخاري. وخطأ من زعم أن الحديث موضوع. 4 - روى الإمام أحمد، والترمذي- وقال حسن صحيح-، وأبو داود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: في هاتين الآيتين: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «إن فيهما اسم الله الأعظم». 5 - نقل ابن كثير، بمناسبة آية الكرسي، ثلاث وقائع متشابهة. وقعت لأبي أيوب، ولأبي بن كعب، ولأبي هريرة. نكتفي بنقل واقعة أبي هريرة التي ذكرها البخاري، تعليقا بصيغة الجزم. ورواها النسائي: قال أبو هريرة: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان. فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك البارحة؟». قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته وخليت سبيله. قال: «أما إنه كذبك، وسيعود». فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. «أنه سيعود» فرصدته، فجاء يحثو من الطعام. فأخذته، فقلت:
لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني، فإني محتاج، وعلي عيال، فرحمته، وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله فقال: «أما إنه كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات، تزعم أنك لا تعود، ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية. فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شئ على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاثة يا أبا هريرة؟.» قلت: لا. «قال ذاك شيطان»). 6 - روى الإمام أحمد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته، فقال: «أي فلان: هل تزوجت؟ قال: لا. وليس عندي ما أتزوج به. قال: «أوليس معك قل هو الله أحد؟». قال بلى. قال: «ربع القرآن. قال: أليس معك إذا زلزلت؟ قال: بلى. قال: «ربع القرآن. قال أليس معك إذا جاء نصر الله؟» قال: بلي. قال: «ربع القرآن». 7 - روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست، فقال: «يا أبا ذر: هل صليت؟. قلت: لا. قال: «قم فصل». قال: فقمت، فصليت، ثم جلست. فقال: «يا أبا ذر: تعوذ بالله من شر شياطين الإنس، والجن». قال: قلت يا رسول الله: أو للإنس شياطين؟. قال: «نعم». قال: قلت يا رسول الله: الصلاة؟. قال: «خير موضوع. من شاء أقل، ومن شاء أكثر». قال: قلت يا رسول الله! فالصوم؟. قال: «فرض مجزي وعند الله مزيد». قلت: يا رسول الله! فالصدقة؟. قال: «أضعاف مضاعفة» قلت: يا رسول الله! فأيها أفضل؟. قال: «جهد من مقل. أو سر إلى فقير». قلت: يا رسول الله: أي الأنبياء كان أول؟. قال: «آدم». قلت: يا رسول الله: ونبي كان؟. قال: «نعم نبي مكلم». قلت: يا رسول الله: كم المرسلون؟ قال: «ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا- وقال مرة: وخمسة عشر-». قلت: يا رسول الله: أي ما أنزل عليك أعظم؟. قال: آية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ورواه النسائي.
سبب النزول
8 - ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ الحديث الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: «إن الله لا ينام. ولا ينبغي عليه أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار. حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». ثم ذكر ابن كثير روايات إسرائيلية، نبه عليها. وبعضها منسوب كذبا لرسولنا صلى الله عليه وسلم. من هذه الروايات ما فيه سؤال من موسى للملائكة: (هل ينام الله)؟. قال ابن كثير: وهو من أخبار بني إسرائيل. وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عزّ وجل. فإنه منزه عنه. والذي نقوله بهذه المناسبة: إن الروايات عن بني إسرائيل فيها من سوء الأدب مع الله ورسله الكثير، وفيها من الجهل بالله ورسله الكثير. فإذا ما أردنا أن ننقل، فلننقل مع البيان الناصع، والرد القاطع، أو فلننقل ما يتفق مع الحق، مع عزوه إلى مصادره، دون أن نحمل أنفسنا مسئوليته. وأجود ما نقله ابن كثير في هذا الموضوع مما لا يتنافى مع عصمة الأنبياء ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟. قال: اتقوا الله. فناداه ربه عزّ وجل: يا موسى: سألوك هل ينام ربك. فخذ زجاجتين في يديك. فقم الليلة. ففعل موسى. فلما ذهب من الليل ثلث، نعس. فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما. حتى إذا كان آخر الليل، نعس، فسقطت الزجاجتان، فانكسرتا. فقال: يا موسى: لو كنت أنام، لسقطت السموات والأرض، فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك». قال ابن عباس: فأنزل الله عزّ وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي. أي لكي لا يسأل جاهل عن مثل هذا الموضوع. لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كأنه من خلال آية الكرسي قامت الحجة على كل إنسان بهذا الدين. إذ من يستطيع أن يصف الله بهذا الوصف، وبمثل هذا الكمال إلا الله. فجاءت هذه الآية. سبب النزول: روى ابن جرير، وأبو داود، والنسائي عن ابن عباس قال:
المعنى العام
كانت المرأة تكون مقلاة، فتجعل على نفسها، إن عاش لها ولد، أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار. فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عزّ وجل: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. المعنى العام: يقول تعالى: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام. فإنه بين واضح. جلية دلائله وبراهينه. لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة. ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه، وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. ثم بين الله عزّ وجل أنه من خلع الأنداد، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله. ووحد الله فعبده وحده. وشهد أن لا إله إلا هو فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريقة المثلى، والصراط المستقيم، واستمسك من الدين بأقوى سبب، لا ينفصم أبدا. ثم وصف الله ذاته بالسمع والعلم. فهو سميع يسمع كل شئ فيسمع من آمن ولمن آمن عليم باعتقاد الجميع. المعنى الحرفي: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أي: لا إجبار على الدين الحق، وهو دين الإسلام. فليس الإكراه على دين الله من دين الله. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي: تميز الهدي من الضلال. قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ: الطاغوت: من الطغيان. وهو كل ما جاوز الحد. والشيطان هو وراء كل تجاوز للحد. فالكفر به، كفر بكل شر عليه البشر من شرك بالله، أو احتكام لغير الله، أو استنصار بغير الله. والكفر بالطاغوت: رفضه، واحتقاره، وازدراؤه، وعدم طاعته، وإهانته. وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويصدق به حق التصديق. بإعطاء ذلك لوازمه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الوثقى: تأنيث الأوثق. والأوثق: هو الأشد. واستمسك، بمعنى: تمسك. والعروة: هي المعتصم، والمتعلق. وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد
فوائد
المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده. والمعنى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد عقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا، لا تحله شبهة. لَا انْفِصامَ لَها أي: لا انقطاع لهذه العروة التي تمسك بها من آمن بالله، وكفر بالطاغوت شبه من آمن بالله، وكفر بالطاغوت، بالمستمسك بالعروة القوية التي لا تنفصم. لأنها في نفسها محكمة مبرمة، قوية. وربطها قوي شديد. ودخل في الإيمان بالله، الإيمان برسوله، وكتابه، ودينه. لأن ذلك كله من لوازم الإيمان. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: يسمع كل شئ، ويعلم كل شئ. فأسمعوه من أنفسكم خيرا، وأحكموا أمر الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت. فوائد: 1 - لاحظنا أن الاستمساك بالعروة الوثقى، كفر بالطاغوت، وإيمان بالله. وقد ذكر في الآية، الكفر بالطاغوت مقدما على الإيمان بالله، لغموض هذا الجانب في حياة الناس. وهكذا قال المربون الإسلاميون: التخلية، ثم التحلية. وبقدر ما تتخلى، تتحلى. بقدر ما يكون الكفر بالطاغوت قويا، يكون الإيمان قويا. 2 - من المعلوم أن هناك اتفاقا بين الفقهاء، أن العربي الوثني لا يقبل منه إلا الإسلام، أو القتل. وأما الذمي العربي، فيجوز أن تؤخذ منه الجزية. ولكنه لا يقر في جزيرة العرب. أما غير العرب، فإنه يعرض عليهم الإسلام، أو الجزية، أو القتال. على خلاف حول غير اليهود والنصارى. والشئ الذي تم عليه العمل خلال العصور، هو ما ذكرناه. ونتيجة لهذه الأحكام، وجد من يقول إن آية: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ منسوخة. والمسألة مرتبطة بموضوع تخصيص العام هل يعتبر نسخا أو بيانا. ومن الناحية العملية، لا يترتب على هذا الاختلاف شئ. فالقتال شئ، والإكراه على الدخول في الإسلام شئ آخر. أمرنا أن نقاتل الكافرين، وحرم علينا إكراههم، إلا عربيا وثنيا. فهذا ليس أمامه إلا الإسلام أو القتل لأن الحجة في حقه أظهر. 3 - قال عمر رضي الله عنه «إن الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان. وإن الشجاعة والجبن غرائز، تكون في الرجال. يقاتل الشجاع عمن لا يعرف. ويفر الجبان من أمه. وإن كرم الرجل دينه، وحسبه، وخلقه، وإن كان فارسيا، أو نبطيا» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
4 - في الحديث الصحيح: «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل». وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أسلم». قال: إني أجدني كارها. قال: «وإن كنت كارها». قد يفهم فاهم أن هذين الحديثين يتنافيان مع قوله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وليس هذا صحيحا. فالحديث الأول في الأسارى الذين يقدم بهم إلى بلاد الإسلام في الوثاق، والأغلال، والقيود، والأكبال. ثم بعد ذلك يسلمون، وتصلح أعمالهم، وسرائرهم. فيكونون من أهل الجنة. وليس في الحديث ما يدل على الإكراه. وأما الحديث الثاني فليس فيه ما يدل على الإكراه. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام. فأخبره بأن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له: أسلم وإن كنت كارها فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص. 5 - عن عبد الله بن سلام: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء. قال ابن عون: فذكر خضرتها، وسعتها- وفي وسطها عمود حديد. أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء. في أعلاه عروة. فقيل لي: اصعد عليه. فقلت: لا أستطيع. فجاءني منصف- قال ابن عون: هو الوصيف- فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة. فقال: استمسك بالعروة فاستيقظت، وإنها لفي يدي. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما الروضة، فروضة الإسلام. وأما العمود، فعمود الإسلام. وأما العروة، فهي العروة الوثقى. أنت على الإسلام حتى تموت». أخرجاه في الصحيحين. ومن ثم كان الصحابة يقولون عن عبد الله بن سلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. 6 - كنا ذكرنا قبل تفسير آية الكرسي شيئا عن الصلة بين آية الكرسي، وهذه الآية فبعد أن ذكر الله في آية الكرسي صفاته العليا بهذا البيان، ناسب أن يبين أن الإيمان به، والكفر بالطاغوت هو المقام الصحيح. وأن هذا ينبغي أن يكون على طواعية. لأن الأمر أوضح من أن يكون ملتبسا .. فالله غني عن خلقه، لا يريد استكراههم، وهو سيحاسبهم. 7 - في كتابنا (الله جل جلاله) رأينا كيف أن ظواهر الكون تدلنا على الله وصفاته بمحض التفكر. ورأينا أن ما دلتنا عليه ظواهر الكون عقلا، هو الذي يتفق مع ما ورد في الإسلام نقلا في هذا الموضوع. فالكلام عن الله عزّ وجل في الكتاب الكريم بمثل هذا
المعنى العام
الكمال هذا وحده دليل على أن هذا الدين، دين الله. وأن هذا القرآن، كتابه. ونلاحظ هنا ما يلي: بعد أن جاءت آية الكرسي التي هي أجمع آية في كتاب الله لصفاته. وكان فيها هذا البيان الرفيع لشأن الله العظيم. بمثل هذا الإعجاز البالغ جاء قوله تعالى بعدها لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فقوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ بعد آية الكرسي، فيه إشارة عظيمة لما ذكرناه من أن الكلام عن الله بمثل هذا البيان، والكمال، دليل وحده، وحجة كاملة في أن هذا الكتاب كتابه، وأن هذا الدين دينه. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. المعنى العام: يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر، والشك، والريب، والشهوة، إلى نور الحق، الواضح، الجلي، المبين، السهل، النير. وأن الكافرين، إنما وليهم الشيطان، يزين لهم ما هم فيه من الجهالات، والضلالات، واتباع الشهوات. ويخرجهم، ويحيد بهم عن طريق الحق، إلى الكفر، والإفك. فجزاؤهم على ذلك: الخلود الأبدي في النار. والملاحظ أنه وحد النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة. المعنى الحرفي: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: الله يتولى أمور مريدي الإيمان، يوفقهم ويرعاهم، وينصرهم. ومن ذلك: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: يخرجهم من كل ظلمة إلى نور الإيمان والهداية. وجمعت الظلمات، لأنها كثيرة: ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الشهوة، وظلمة البدعة. وهذه بشارة لمريدي الإيمان بأن الله يخرجهم من الشبه إن وقعت لهم بما يهديهم، ويوفقهم له من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي: ومريدو الكفر، والمصممون عليه، يتولى أمورهم الشياطين. وكون الطاغوت خبرا لجمع، فإنه يدل على جمع. فما أكثر شياطين الإنس والجن الذين شأنهم مع هؤلاء المصممين للكفر، والمريدين له ما أخبر تعالى: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
فوائد
الظُّلُماتِ أي: يخرجونهم من نور الفطرة، والعقل، والإسلام، إلى ظلمات الشك، والشبهة، والشهوة. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: خلودا أبديا. فوائد: 1 - في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) ذكرنا أن الخروج من الظلمات إلى النور، لا يكون إلا بالله، أخذا من هذه الآية. وذلك بصلاة الله وملائكته علينا، أخذا من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (سورة الأحزاب) وقلنا هناك: إن علينا أن نعمل ما يستدعي صلاة الله وملائكته علينا من الأعمال التي وردت في الكتاب، أو السنة بأنها تستدعي ذلك. كالصبر، والاسترجاع، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس النفس بعد الصلاة، والإنفاق في سبيل الله. 2 - قلنا إن الفقرة الأولى من هذا المقطع مبدوءة بالأمر بالإنفاق، ومنتهية بالحض على الإنفاق. ويتوسط فيها كلام عن الله، وأدلة اليوم الآخر، لصلة ذلك بالإنفاق. وقد رأينا آية الكرسي تحدثنا عن الله، وهي مبدوءة بكلمة: (الله) وكذلك هذه الآية وبين ذلك آية لا إكراه. فماذا نستطيع أن نضيف هنا حول السياق؟. ا- إن الآية السابقة نهتنا عن الإكراه، وحضتنا على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وهذه الآية تبشرنا أن إرادة ذلك توصلنا إلى الهدى. وإذ كان الهدى متوقفا على الإرادة، فذلك حكمة النهي عن الإكراه على الإسلام. ب- رأينا أن الكمال في الكلام عن الله، وصفاته العليا في آية الكرسي، دليل على أن هذا الكتاب حق من عند الله، فهو دليل إذن على الله أصلا. والآية هذه تدلنا على الله من خلال توفيقه مريدي الإيمان إلى الإيمان، وتسليطه الشياطين على مريدي الكفر، فيضلونهم. ج- وإذا كان الله ولي الذين آمنوا .. أفلا ينبغي أن يبذل هؤلاء المؤمنون أموالهم في سبيله جل جلاله. وإذا كان ربنا كذلك .. أفلا ينبغي أن ندخل في الإسلام كله، ونقيم شرائعه كلها.
المعنى العام
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. المعنى العام: ألم تر يا محمد إلى الذي يجادل إبراهيم في وجود ربه، وربوبيته وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره. وما حمله على هذا الطغيان، والكفر الغليظ، والمعاندة الشديدة، إلا تجبره، وطول مدته في الملك. وكان طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه. فقال إبراهيم: إنما الدليل على وجوده، وربوبيته، ظاهرة الإحياء والإماتة. فظاهرة الإحياء والإماتة تدل على الله بما لا يقبل جدلا، إذ كيف تعلل ظاهرة الحياة، والإماتة بدون الله. وقد تحدثنا في كتابنا (الله جل جلاله) عن ظاهرة الإحياء. وكيف أنها تدل على الله بما لا يقبل جدلا، فليراجع البحث هناك، وقد استدل إبراهيم بهذه الظاهرة على وجود ربه، وربوبيته، لأنها أقرب الظواهر البديهية على وجود ربنا عزّ وجل، فعند ذلك قال المحاج: أنا أحيي وأميت. قال قتادة، ومحمد بن إسحاق، والسدي، وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين، قد استحقا القتل. فآمر بقتل أحدهما، فيقتل. وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل. وليس هذا جوابا لما قال إبراهيم، ولا في معناه، لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت. ولهذا قال إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أي إذا كنت تدعي أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته. فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق. فإن كنت إلها كما ادعيت، فأت بها من المغرب؟. فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام، بهت. أي: أخرس فلا يتكلم. وتلك سنة الله تعالى أنه لا يلهم الظالمين حجة، ولا برهانا. بل حجتهم داحضة عند ربهم، ومن ثم فإن أبسط المؤمنين يقيم الحجة على أكثر الكافرين عنادا. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالرؤية هنا: الرؤية القلبية والعلمية. والمحاجة: هي المجادلة، والمخاصمة، ومجادلته كانت في
فوائد
وجود ربه، وربوبيته التي تقتضي الطاعة والعبودية والخضوع. والاستفهام فيه معنى التعجيب. وأي عجب أكبر من أن يبطر الإنسان النعمة. فبدلا من أن يشكر المنعم، يكفر. وذلك أن سبب محاجة هذا الإنسان، إبراهيم: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي: لأن الله آتاه الملك. أي: إن إيتاءه الملك أبطره، وأورثه الكبر، فحاج إبراهيم. إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ: هذا مضمون الحوار الذي تم بين إبراهيم، ونمرود. فكأن نمرود قال: من ربك؟. فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت قالَ نمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ: يريد- عليه اللعنة- أنه يعفو عن القتل، ويقتل. وجوابه هذا دليل على انقطاعه عن الخصومة، وعجزه عن الجواب. فلما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد، وقتل آخر. كلمه من وجه لا يعاند- وكانوا أهل تنجيم- فقال: إن مقتضى الربوبية: السيطرة، والهيمنة على هذا الكون، بتسخير أجرامه. فإن كنت ربا، فغير حركة الشمس. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ: كلمه بحركة الشمس كما تبدو للناظر فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي: تحير، ودهش. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: لا يوفقهم ولا يلهمهم حجة في مناقشة أهل الحق. فوائد: 1 - دلت الآية على إباحة الكلام في علم التوحيد، والمناظرة فيه. لأنه قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ... والمحاجة تكون بين اثنين. فدل على أن إبراهيم حاجه أيضا ولو لم يكن مباحا، لما باشرها إبراهيم عليه السلام. لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام. ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده. وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل. وذا لا يكون إلا بعد المناظرة. فمعرفة الأدلة على وجود الله، ومعرفة الأدلة على بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الأدلة على صحة دين الإسلام، وإقامة الحجة بذلك على الكافرين. كل ذلك مطلوب محمود. وقد جمعنا في ذلك سلسلة الأصول الثلاثة: (الله جل جلاله) و (الرسول صلى الله عليه وسلم) و (الإسلام) من أجل هذا. 2 - محل هذه الآية في السياق واضح. ففي الآيات السابقة حديث عن الله. وفي هذه الآية عرض مناقشة بين رسول وكافر، حول وجود الله، وربوبيته، وقيام الحجة
فصل في عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام والكلام على ما أبهمه القرآن
على الكافر بهذا، وبيان أن الكافر لا حجة له، والكافرون جميعا لا حجة لهم. وخلال ذلك ذكرت ظاهرتان تدلان على الله: ظاهرة الحياة، وظاهرة الهيمنة والتسخير. وكلاهما يدل على الله بما لا يقبل جدلا من عاقل. فالسياق كما نرى، سائر في طريق التعريف بالله، والتدليل على وجوده ضمن سياق الأمر بالإنفاق في سبيله. وبعد الحديث عن الله بشكل مباشر، يأتي حديث عن الله بما يخدم قضية الإيمان باليوم الآخر. فصل في عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام والكلام على ما أبهمه القرآن: لم يقدم لنا علم الآثار شيئا يمكن من خلاله أن نحدد زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والنصوص الإسلامية ساكتة عن هذا الموضوع، والروايات الكتابية لا يمكن الاعتماد عليها في هذا الشأن أو غيره، وقد نقل عباس محمود العقاد في كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء) كل ما توافر أمامه من معلومات حول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن جملة ما نقله كلام كثير من الشراح الذين حاولوا أن يستفيدوا من علم الآثار، مضافا إلى ما ورد في كتب العهد القديم ليلقوا ضوءا على عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فذكر كيف أن بعضهم اعتبر عام (3000) قبل الميلاد هو الزمن الذي وجد فيه إبراهيم. بينما اعتبر بعضهم أن عام (2000) قبل الميلاد كان عصر إبراهيم، وبعضهم اعتبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أحدث عهدا من ذلك، وبعضهم اعتبر أن حمورابي هو الملك الذي دخل في حوار وصراع مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحدد عصره بأنه القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وليس في ذلك كله ما تقوم به الحجة، ويتحدث العقاد عن الكتب المعتمدة عند اليهود، وهي أسفار موسى الخمسة التي يسميها بعضهم التوراة وهي حصيلة دمج ثلاث نسخ، بعضها كتب في أيام المملكة الإسرائيلية، وبعضها كتب في المنفى بين النهرين، وبعضها كتب قبل الميلاد بثلاثة قرون، ومن الكتب المعتمدة عند اليهود ما يسمى بالمشنا، والذي منه التلمود، ويقول العقاد: وقد حصر المشنا في القرن الثاني للميلاد ودونت بعد الاعتماد على الرواية أو التعليقات المتفرقة» و «وزيدت على المشنا في العصور الحديثة كتب من قبيلها تسمى بالتصافوت ... ومعناها الإضافات ... وانتهى تمحيص المشنا القديمة إلى اختيار طائفة من الأحكام المتفق عليها تسمى الجمارة أي التكملة. ومن مرويات المشنا والجمارة تجتمع كتب التلمود ... وتعرف بعض المأثورات الإسرائيلية باسم «المدراش» أو الدراسات».
ولنعد إلى التفسير
ومن كتب المدراش ينقل العقاد بعض قصة إبراهيم، وبعض ما جرى بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام والنمرود، وبعض ما نقله يتفق إلى حد كبير مع ما ذكره القرآن، ولذلك فقد شكك بعضهم أن تكون هذه مترجمة عن العربية، وأيا ما كان الأمر فلا هذه الروايات ثابتة نقلا، ولا هي صالحة حتى للاستئناس لنعرف شيئا ما عن تفصيلات عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو لنعرف شيئا عن الملك الذي حاجه إبراهيم. ومن عدم ذكر القرآن الكريم لتفصيلات هذه الشئون تدرك أن العبرة المرادة من النص لا تحتاج إلى مثلها. وهذا الكلام ينطبق على النص اللاحق وغيره من أمثاله، فالله عزّ وجل الذي جعل كتابه معجزا جعله بذلك حجة على كل شئ، ولئن حاول المفسرون أن يقدموا بيانا لكثير مما أبهمه القرآن فإنهم في كثير من الأحيان لم يستندوا على ما تقوم به حجة فمثلا سنرى في تفسير الآية اللاحقة كيف أن بعض المفسرين قال عن الرجل الذي أماته الله ثم أحياه أنه حزقيال، وبعضهم قال: إنه أرميا، وبعضهم قال: إنه عزير. وعن القرية قالوا: إنها بيت المقدس بعد تخريبها من بختنصر، والأمر كله مرجعه إلى استقراءات لنصوص كتابية، هذه النصوص نفسها لا تقوم بها حجة، فكيف إذا بنيت الأقوال على استقراءات منها. إن من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل الحجة على صدق كتابه قائمة في نفس كتابه، فلا ينبغي لأحد يفسر كتاب الله ألا يحتاط في شأن التفسير فيجعل للذين في قلوبهم مرض مدخلا يلجون منه للاعتراض على المسلمين. إن كثيرين من المسلمين ولعوا في البحث عن المبهمات؛ حتى أصبح الكلام عنها مقصودا، والسؤال عنها عادة مع أن كثيرا مما أبهمه القرآن إنما أبهم لأن الفائدة فيما فصل، فتركت الاستفادة من الأصل، وصار الناس يبحثون عما لا فائدة فيه. إن العبرة في القصة الآتية عن الرجل الذي أحياه الله بعد ما أماته هي في معرفة قدرة الله على البعث، لتأكيد الإيمان باليوم الآخر، فإذا غفل القلب عن هذا، وبحث عن اسم الرجل، ولون حماره، فإنه يكون قد ترك ما من أجله خوطب إلى ما ليس مكلفا به. ولنعد إلى التفسير: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها. قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. قالَ كَمْ لَبِثْتَ. قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ
المعنى العام
بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. المعنى العام: هذه الآية معطوفة على التي قبلها. ففي الآية الأولى تعجيب من أن يجادل إنسان في ربوبية الله، وبيان لانقطاع حجته أمام دلائل الفطرة. وفي هذه الآية تعجيب أن يستبعد إنسان قدرة الله على تقليب الأحوال فيحيي قرية خربة، ليجعلها عامرة. وإذا قطعت فى الآية السابقة الحجة الجدال، فههنا قطع الاستبعاد- فعل الله بهذا الإنسان، إذ أماته مائة عام ثم أحياه، ليرى أن ما استبعده قد حدث. فعلم من خلال المشاهدة لفعل الله في تغيير الأشياء من حال إلى حال، قدرة الله على كل شئ، وهذا الذي شاهده صاحب القصة يشاهده كل منا خلال التاريخ برؤيته تقلب الأحوال أحيانا على حسب التوقعات، وأحيانا على خلاف التوقعات ضمن سنن الله. فمن لم ير قدرة الله من خلال مشاهداته لتصريف أمور خلقه، تكون رؤيته كليلة. وصاحب القصة إما (عزير) على القول المشهور الراجح، وإما (أرميا) على قول. وإما (الخضر) على قول، وإما (حزقيل)، وإما أنه رجل من بني إسرائيل. وأما القرية .. قال ابن كثير: فالمشهور أنها بيت المقدس. مر عليها بعد تخريب بختنصر لها، وقتل أهلها. ولم يذكر الله في كتابه، ولا رسوله في سنته اسم الرجل أو القرية. لأن العبرة في المضمون. المعنى الحرفي: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ أي: أو أرأيت مثل الذي مر على قرية. فهو مثل معطوف على المثل السابق. وفيه تعجيب، كما في المثل السابق تعجيب. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها: أي: وهي ساقطة مع سقوفها، أو سقطت عليها الحيطان، وكل مرتفع عرش. سقطت السقوف ثم سقطت الجدران، أو هي خالية. ليس فيها أحد، وسقوفها وجدرانها ساقطة على عرصاتها. فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: وذلك، لما رأى من دثورها، وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه. وهل سؤاله من باب الاستبعاد. فيكون ذلك كفرا.
فائدة
وصاحبه كافرا في الأصل- ولا يكون عزيرا المشهور باستقامته؟ أو أنه من باب الاعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي؟ أو أراد أن يعاين إحياء الموتى، ليزداد بصيرة؟ أو أنه سؤال عن سنة الله في إحياء أمثال هذه؟ وفي هذه الحالات، يكون المتسائل مؤمنا وهو الأرجح. فيكون المعنى: كيف يحيي الله هذه القرية بعد هذا الموت فيها لا ساكن، ولا سكن. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي: أحياه. قالَ كَمْ لَبِثْتَ: القائل هنا ملك، عن الله. قال: كم مكثت؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ: قال ذلك مجتهدا. ويبدو أنه مات ضحى، وبعث قبل غيبوبة الشمس. فقال يوما، أو بعض يوم. إذ رأى الشمس باقية. فظنها أنها شمس ذلك اليوم. قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. بعد هذا القول، أراه عجيبين: طعامه لم يتغير، بينما حماره تفرقت عظامه ونخرت. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أي: لم يتغير. وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ: كيف تفرقت عظامه ونخرت. وكيف يحييه الله وأنت تنظر. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي: دليلا على المعاد، ودليلا على قدرة الله وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها أي كيف نحركها، ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي: ثم نكسو العظام لحما. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أي: فلما تبينت له قدرة الله، قال: أعلم علم يقين ورؤية، أن الله على كل شئ قدير، فلا يعجز الله شئ. فائدة: نلاحظ أن السياق قد استمر في الكلام عن الله، بالكلام عن قدرته على إحياء الموتى. فالكلام عن إحياء الموتى يأتي في سياق الكلام عن الله عزّ وجل في هذه الآية والتي تليها، وفي هذا كله تذكير بالله، واليوم الآخر، لتأتي بعد ذلك آيات الإنفاق. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. المعنى العام: يقول تعالى: واذكروا إذ سأل إبراهيم ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى. وقال العلماء: إن
المعنى الحرفي
إبراهيم لم يسأل ذلك شكا، أو تعنتا، وإنما سأله؛ ليترقى بذلك من علم اليقين، إلى عين اليقين. وأن يرى ذلك مشاهدة بعد أن رآه إيمانا ويقينا. فسأله لله عزّ وجل- وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا-: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ: فأجابه بالإيجاب. وبين إبراهيم سبب السؤال- والله أعلم به- أنه يسأل ذلك ليزداد سكونا، وطمأنينة، فأمره الله عزّ وجل أن يأتى بأربعة طيور، فيقطعها، ويجزئها. وأن يجعل على كل جبل جزءا. قال ابن عباس: وأخذ رءوسهن بيده. ثم أمره الله عزّ وجل أن يدعوهن، كما أمره الله عزّ وجل. فجعل ينظر إلى الريش من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا، ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها. وجعل كل طائر يجئ ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم له رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته. ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: عزيز لا يغلبه شئ ولا يمتنع منه شئ. وما شاء كان بلا ممانع، لأنه القاهر لكل شئ. وحكيم في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره. المعنى الحرفي: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي: أي: سألت ذلك إرادة زيادة طمأنينة القلب. وذلك أن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة. وإذا ما اجتمع علم الضرورة أي البديهة مع علم الاستدلال، حصل عين اليقين. قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قال ابن كثير: اختلف المفسرون في هذه الأربعة، ما هي. وإن كان لا طائل تحت تعيينها. إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي: أملهن، واضممهن إليك، وقطعهن. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي: ثم جزئهن. وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك، وفي أرضك. ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي: قل لهن تعالين بإذن الله. يَأْتِينَكَ سَعْياً أي: يأتينك ساعيات مسرعات في طيرانهن، أو مشيهن على أرجلهن. وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها، وهيآتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يمتنع عليه ما يريده. حَكِيمٌ فيما يدبر. لا يفعل إلا ما فيه الحكمة. فوائد: 1 - روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من
ثم عاد السياق إلى الإنفاق
إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» قال ابن كثير: فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف. قال الخطابي: ليس في قوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم. لكن فيه نفي الشك عنهما. يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك. قال ذلك على سبيل التواضع، والهضم للنفس. 2 - روى الحاكم وغيره: «التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص. فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك: قال عبد الله بن عمرو: قول الله عزّ وجل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا ... الآية. (سورة الزمر) فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله عزّ وجل: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى. فرضي من إبراهيم قوله بلى. قال: فهذا لما يعترض في النفوس، ويوسوس به الشيطان» قال الحاكم صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ثم عاد السياق إلى الإنفاق: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. بهذه الآيات يعود السياق إلى الإنفاق، وقد جاءت هذه الآيات بعد آية تحدثت عن قدرة الله على الإحياء؛ وهذا يذكر بإحيائه الموتى يوم القيامة. ومن قبل رأينا أن الآيات السابقة كانت حديثا عن الله وصفاته، ورعايته عباده. ثم قبل ذلك كان الأمر بالإنفاق. فكان تسلسل الآيات أمرا بالإنفاق في سبيل الله من قبل أن يأتي يوم القيامة. ثم كان حديثا عن الله وقدرته التي لا يعجزها أن تقيم القيامة. والآن يأتي بيان جزاء الإنفاق في هذه الآيات، ومن ذا الذي يستحق هذا الجزاء، مع توجيهات في هذا الشأن.
المعنى العام
المعنى العام: - في الآية الأولى، مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله، وأن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف. وصيغ هذا المعنى بصيغة مثل: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. ليكون أبلغ في النفوس. فإن في هذا إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزّ وجل لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، ثم بين الله عزّ وجل أنه يضاعف الحسنات لمن يشاء بحسب إخلاصه بعمله، وأن فضله واسع كثير. وأنه عليم بمن يستحق، ومن لا يستحق. - وفي الآية الثانية، يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوا في الخيرات، والصدقات منا على من أعطوه. فلا يمنون به على أحد، لا بقول، ولا بفعل. ولا يؤذونه، بأن يفعلوا مع من أحسنوا إليه مكروها. وبين أن من كان كذلك، فله الجزاء الجزيل؛ الذي عبر عنه تعالى بقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: أي ثوابهم على الله، لا على سواه. ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها. لا يأسفون عليها؛ لأنهم صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك. وهذه العبارة تستعمل في القرآن عادة، في معرض مكافأة أولياء الله، فدل ذلك على أن من أنفق فلم يمن ولم يؤذ؛ كان من أولياء الله. فهذا المقام إذن، مقام ولاية. - وفي الآية الثالثة بين الله عزّ وجل أن القول المعروف، كالكلمة الطيبة، للمسلم. وأن العفو عن أخيك، إذا ظلمك ظلما قوليا، أو فعليا، خير في ميزان الله، من الصدقة المتبوعة بالأذى، ثم وصف الله عزّ وجل ذاته بأنه غني عن عباده؛ فلم يأمرهم بالنفاق افتقارا. فهو يخلف على من أنفق من خزائنه الملأى، وأنه حليم يحلم عنهم ويغفر ويصفح، ويتجاوز عن عباده إن شاء. المعنى الحرفي:
[سورة البقرة (2): آية 261]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. أي: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أخرجت ساقا، يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة ... وهذا التمثيل تصوير للأضعاف، كأنها ماثلة بين عيني الناظر. والتمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض والتقدير. وقيد بعضهم سبيل الله الذي تضاعف فيه الصدقة بأنها الجهاد والحج. والنصوص تشهد على أن المضاعفة للإنفاق كله، كما سنرى. فسبيل الله هنا، أوسع من أن يكون جهادا وحجا فقط. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي: يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق. لتفاوت أحوال المنفقين. ويمكن أن تفهم بمعنى: أو يزيد على سبعمائة ضعف لمن يشاء. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي: واسع الفضل، والجود. عليم بنيات المنفقين. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً المن: هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطفاه، وأوجب عليه حقا له. ولذلك كان آدابهم: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. والأذى هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: أي ثواب إنفاقهم. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: من بخس الأجر، أو فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، أو من العذاب. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: على ما خلفوه، أو على فوت أجر، أو على فوت ثواب. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي: رد جميل، أو كلمة طيبة. وَمَغْفِرَةٌ أي: عفو عن السائل إذا أثقل. أو مغفرة من الله بسبب الرد الجميل المذكور سابقا. خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً كالتطاول، والكلام المسئ. وَاللَّهُ غَنِيٌّ: لا حاجة له إلى منفق يمن، ويؤذي. حَلِيمٌ: عن معاجلة من يمن ويؤذي بالعقوبة. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة». وروى مثله النسائي، ومسلم. 2 - روى مسلم، والإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل
المعنى العام
عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله. يقول الله: إلا الصوم. فإنه لي، وأنا أجزي به. يدع طعامه، وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة، الصوم جنة». هذا لفظ أحمد. ولنلاحظ في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله». لندرك أن عند الله المزيد. وهذا يرجح أنه يدخل في تفسير قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ الزيادة على السبعمائة. ثم يأتي في موضوع الإنفاق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. المعنى العام: - في الآية الأولى، نهي لنا أن نبطل صدقاتنا بالمن والأذى، كما يفعل ذلك المرائي الذي لا يؤمن بالله، واليوم الآخر. ويظهر أنه يريد وجه الله. وإنما قصده مدح الناس له. أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله، وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه. ثم ضرب الله مثلا لذلك المرائي ومشابهته في بطلان الصدقة، بذاك الذي يتبع نفقته منا أو أذى، فمثله كمثل صخر أملس عليه تراب، فأصاب الصخر مطر شديد. فترك المطر الشديد هذا الصخر أملس يابسا، لا شئ عليه من ذلك التراب. بل قد ذهب كله. أي وكذلك أعمال المرائين وأمثالهم، تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب. ولكنهم لا يجدون ثواب شئ مما أنفقوه عند الله. ثم بين الله عزّ
المعنى الحرفي
وجل أن من شأنه ألا يهدي الكافر، ما دام مختارا لطريق الكفر، ومصمما عليه. - وفي الآية الثانية، ضرب الله مثلا للمؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله عنهم في ذلك. ومن أجل أن يثبتوا أنفسهم على طريق الإيمان بالله واليوم الآخر، بفعل ما يقربهم إلى الله. فمثل هؤلاء، كمثل بستان في مكان مرتفع من الأرض. أصابها مطر شديد، فآتت ثمرتها ضعفين بالنسبة إلى غيرها من الجنان. فإن لم يصبها مطر شديد، أصابها رذاذ، وهو اللين من المطر. فشأن هذه الجنة، أنها لا تمحل أبدا لأنها إن لم يصبها المطر الشديد، فالرذاذ. وأيا ما كان فهو كفايتها. وكذلك عمل المؤمن، لا يبور أبدا. بل يتقبله الله، ويكثره، وينميه، لكل عامل بحسبه. ثم بين الله عزّ وجل بأن الله لا يخفى عليه من أعمال عباده شئ. - وفي الآية الثالثة، ينكر الله عزّ وجل أن يكون المؤمن من ذلك الطراز الذي يفعل الحسن، ثم يغرقه بالسيئات فيبطله. فإذا ما احتاج إليه في أضيق الأحوال، لم يحصل منه شئ، وخانه أحوج ما كان إليه. والمثل الذي ضربه لذلك مثل رجل تكون له جنة من نخيل وأعناب، وأصابه الكبر، وأولاده وذريته ضعاف، عند آخر عمره. فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه. فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه. وكذلك الكافر ومن يعمل ما يحبط عمله يكون يوم القيامة، إذا رد إلى الله عزّ وجل، ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه. ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه. كما لم يغن عن هذا ولده. وحرم أجره غدا أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند ما كان أفقر ما كان إليها عند كبره، وضعف ذريته. وهذا من أصعب الأحوال. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني، وانقضاء عمري» رواه الحاكم. ثم بين الله عزّ وجل في نهاية الآية أنه يبين لنا آياته من أجل أن نتفكر فنعتبر، ونفهم الأمثال، والمعاني، وننزلها على المراد منها. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: معنى رئاء الناس. أي: من أجل أن يراه الناس. صار المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى إبطالا مثل إبطال
[سورة البقرة (2): آية 265]
المنافق الذي لا أجر له على إنفاقه؛ لأنه ينفق ماله رئاء الناس، ولا يريد بإنفاقه رضا الله، ولا ثواب الآخرة. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ أي: مثل هذا المرائي، وأشباهه ممن يبطلون ثواب أعمالهم، ومثل نفقتهم التي لا ينتفعون بها البتة، كمثل حجر أملس، عليه تراب. فالصفوان: هو الحجر الأسود. قيل بأنه جمع صفوانة. وقيل إنه مفرد. فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً: الوابل هو المطر العظيم القطر. والصلد: هو الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه. لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي: لا يجدون ثواب شئ مما أنفقوا. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ما داموا مختارين للكفر. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ هذا مثل لمن ينفقون جامعين بين ابتغاء مرضاة الله، وتثبيت أنفسهم. ومعنى: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ: ينفقون تثبيتا من أنفسهم لأنفسهم. فهو مصدق بالإسلام، متحقق به، موقن به. ومن أجل أن تثبت نفسه ذاتها على ما هي عليه من الحق. فإنها تعمل الأعمال الصالحة، وتنفق في سبيل الله. فالمعنى دقيق. وعبارات المفسرين في شرح (تثبيتا) تدور حول حيثية من الحيثيات المذكورة. فقالوا في تفسيرها: تصديقا للإسلام، وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم. لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه. وهذا يعني أنهم يثبتون إيمانهم بفعلهم هذا أمام الله من تلقاء أنفسهم. ومنهم من فسر التثبيت بالتثبت. فهم متثبتون، ومتحققون أن الله سيجزيهم على ذلك وافر الجزاء، من باب الحديث الصحيح المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا ... » أي يؤمن أن الله شرعه. ويحتسب عند الله ثوابه. وقالوا غير ذلك. وإنما قدمنا المعنى الأول لأنه من باب: «والصدقة برهان». فهؤلاء يبرهنون على إيمانهم بالله بإنفاقهم المال الذي هو عزيز، وحبيب للنفس في سبيل الله، دون أي غرض آخر. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ: الجنة: البستان. والربوة: المكان المرتفع. والبستان في المكان المرتفع، أزكى شجرا وأحسن ثمرا. والوابل: المطر الشديد، العظيم القطر. والطل: المطر الصغير القطر. وهو يكفي هذه البستان، لعلوها وكرم منبتها. وقد مثل الله عزّ وجل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله بمثل هذه الجنة. إما أنها تؤتي أكلها ضعفين، بسبب الوابل. أو تؤتي أكلها العادي، بسبب الطل. أو أنه جل جلاله مثل حالهم عند الله، بالجنة على الربوة. ونفقتهم
[سورة البقرة (2): آية 266]
الكثيرة والقليلة، بالوابل والطل. وكما أن كل واحد من المطرين، يضعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم، كانت كثيرة، أو قليلة، بعد أن يطلب بها رضى الله تعالى، زاكية عند الله، زائدة في زلفاهم، وحسن حالهم عنده. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: يرى أعمالكم على إكثار وإقلال، ويعلم نياتكم وما فيها من رياء وإخلاص. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: أيريد أحدكم أن تكون له بستان من نخيل وأعناب. تجري من تحت هذه البستان الأنهار، ولصاحب الجنة، في هذه الجنة من كل الثمرات، وخص النخيل والأعناب بالذكر، لأنهما أكرم الشجر، وأكثر منافع، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليبا لهما على غيرهما. ثم أردفهما بذكر كل الثمرات. وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ أي: أيريد أن تكون له جنة. والحال أنه قد أصابه الكبر، وأولاده صغار. فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ الإعصار في اللغة: ريح تستدير في الأرض، ثم تسطع نحو السماء كالعمود. والمراد هنا وضع مركب يجتمع فيه الإعصار مع النار. أي: فأصاب هذه البستان إعصار ناري فأحرقها. الجواب: إنه لا أحد يريد ذلك. فإذا كنا لا نريد ذلك. فلا نحبط أعمالنا الصالحة، برياء، أو من، أو أذى، حتى لا نتحسر مثل هذه الحسرة يوم القيامة. إذ نكون أحوج ما نكون إلى الحسنات، ولا حسنات. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: كهذا البيان الذي مر فيما تقدم، يبين الله الآيات في التوحيد والدين، لعلكم تتفكرون فتنتبهون، قبل أن لا ينفع الانتباه .. فوائد: 1 - في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى. والمسبل إزاره. والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر». وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه ولا منان». 2 - روى البخاري عن عبيد الله بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيمن ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ؟. قالوا: الله أعلم. فغضب عمر. فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي. قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عباس: لرجل غني يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله». وبعد أن حررنا الله في المجموعة السابقة من أن يكون في صدقاتنا دخل، أو يرافقها دخل يفسدها .. تأتي مجموعة جديدة، تحدثنا عن نوعية ما ينبغي إنفاقه، وعن صدقة السر، وصدقة العلانية، وعن الذين تنبغي الصدقة لهم. ثم تختم آيات الإنفاق بقاعدة فيها بشارة. ويأتي خلال ذلك كلام عن نواح أخرى، مرتبطة بالموضوع. وهذه هي المجموعة. [سورة البقرة (2): الآيات 267 الى 274] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
المعنى العام
المعنى العام: في الآية الأولى يأمر الله عباده المؤمنين بالإنفاق من أطيب المال، وأجوده وأنفسه. ونهاهم عن التصدق برذالة المال، ودنيئه، وخبيثه. فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وذلك أن الإنسان نفسه لو أعطي دنئ المال لم يأخذه، إلا إذا تغاضى فيه، وتساهل. فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون. ثم أمرهم الله عزّ وجل بأن يعلموا بأن الله غني عن جميع خلقه. وجميع خلقه فقراء إليه. وهو واسع الفضل، لا ينفد ما لديه. فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليعلم أن الله غني، واسع العطاء، كريم، جواد. وسيجزيه بها، ويضاعفها له أضعافا كثيرة. وأن يعلموا أنه الحميد. أي: المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وفي الآية الثانية يبين الله عزّ وجل أن الشيطان يخوفنا الفقر لنمسك ما بأيدينا فلا ننفقه في مرضاة الله. ومع نهيه إيانا عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمرنا بالمعاصي، والمآثم، والمحارم، ومخالفة الخلاق. وفي مقابلة ما يأمرنا به الشيطان من الفحشاء. الله يعدنا مغفرة منه. وفي مقابلة ما يخوفنا الشيطان من الفقر، الله يعدنا فضله. ثم بين الله عزّ وجل أنه الواسع الذي يوسع على من يشاء، العليم بالأفعال، والنيات. ومن سعة فضله، ما ذكره في الآية الثالثة من أنه يؤتي من يشاء الحكمة. وذلك أثر عن علمه المحيط إذ لا يوفق الإنسان إلى فعل الأحكم في كل شئ؛ إلا المحيط علما بكل شئ. ومن ثم بينت الآية الثالثة أنه هو الذي يعطي الحكمة من شاء من عباده، فما هي الحكمة؟. وما هي قيمتها؟. الحكمة: وضع الأمور في مواضعها، وهذا لا يكون إلا بفقه في دين
الله، وتوفيق من الله بألا يقول الإنسان كلمة إلا في محلها، ولا يعمل عملا إلا في محله، فيلهم الحكيم وضع الأمور في مواضعها في إطار تعامله مع زوجته، وأولاده، وأهله، وأرحامه، وجيرانه، وعمله، ومسئولياته، سواء كانت على مستوى ضيق، أو واسع. وإن الإنسان ليتصرف التصرف الأخرق في إطار الأسرة، فتخرب بيوت. ويتصرف تصرفا على مستوى دولة إن كان مسئولا، فتخرب أوطان. ومن ثم كانت قيمة الحكمة عظيمة جدا، ولذلك قال تعالى في هذه الآية: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. ثم ذيل الله تعالى هذه الآية بتبيان أنه لا ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب، وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام. وفي الآية الرابعة يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات، والمنذورات. وفي ذلك إشعار بمجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين، ابتغاء وجهه، ورجاء موعوده. وفيها وعيد لمن لا يعمل بطاعته، بأن خالف أمره، وكذب خبره، وعبد معه غيره بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته. وفي الآية الخامسة، ثناء على صدقة السر، وصدقة الجهر. وأشعر أن صدقة السر أفضل. لأنها أبعد عن الرياء، وأبعد عن كسر القلوب. وبين أن من موجبات تكفير السيئات، بذل الصدقات. وختم الآية بتذكيرنا أنه لا يخفي عليه سرنا، وجهرنا. وأنه سيجزينا عليه. وفي الآية السادسة بيان لعدم ربط الصدقات بموضوع الهداية. فلنتصدق ولو لم يترتب على ذلك هداية من نتصدق عليهم، ولو لم يكونوا مهتدين. وهذا في غير الزكاة، وصدقة الفطر؛ إذ لا تجوزان إلا للمسلمين. أو أن مقدمة الآية تشير إلى أن الرسول عليه البلاغ. ومن اهتدى فلنفسه والذي يخلق الهداية، ويوفق إليها، هو الله. ثم حصر الله عزّ وجل، فجعل الذي ينتفع بالإنفاق صاحبه. ثم بين أن المسلم ينفق في سبيل الله، وليس عليه بعد ذلك ما يكون من عمل المتصدق عليه، سواء كان برا، أو فاجرا. مستحقا، أو غيره. فهو مثاب على قصده. فإن الله عزّ وجل وعد من أنفق خيرا أن يوفيه له كاملا، وبذلك ختمت الآية. وفي الآية السابعة بين الله عزّ وجل أن أحق الخلق بالصدقات هم المهاجرون الذين انقطعوا إلى الله، وإلى رسوله. وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم. ولا
المعنى الحرفي
يستطيعون سفرا للتسبب في طلب المعاش. وهم مع هذا متعففون، يظنهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم وفعالهم. إلا أن سيماهم تدل ذوي الألباب على حاجتهم. ومن صفاتهم أنهم لا يلحون في المسألة، ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ثم ختم الله عزّ وجل الآية بقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي: لا يخفى عليه شئ منه. وسيجزي عليه أوفر الجزاء، وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون الإنسان إليه. وفي الآية الثامنة يثني الله عزّ وجل على الذين ينفقون في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقاف، من ليل أو نهار. وفي جميع الأحوال من سر وجهر، وبين ما لهم عند الله في مقابل ذلك. وأن لهم أجرا، وأمنا، وفرحا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي: أنفقوا من جياد مكسوباتكم. وفيه دليل على وجوب الزكاة في أموال التجارة. وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي من الحب، والثمر، والمعادن. والتقدير: من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض. وهذه الآية من أدلة الحنفية على وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض قليلا أو كثيرا، مخزونا أو غير مخزون. وفي كل مكان يدور فيه الخلاف حول الواجب، أو عدمه. يبقى الندب قائما. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ: المراد بالتيمم: هو القصد. أي: ولا تقصدوا المال الردئ تخصونه بالإنفاق منه. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ. أي: وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، إلا أن تتسامحوا في أخذه، وتترخصوا فيه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: واعرفوا أن الله غني عن صدقاتكم، مستحق للحمد لكمالاته، ولإنعامه. فوائد: 1 - روي الحاكم وغيره في سبب نزول الآية عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر، فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف (أي ردئ التمر) فيدخله مع أقناء
[سورة البقرة (2): آية 268]
البسر، يظن أن ذلك جائز. فأنزل الله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. 2 - فهم بعضهم قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ: أن المراد به الأمر بالإنفاق من الكسب الحلال. ولا شك أن الإنفاق من الحلال نحن مطالبون به شرعا. ولكن الآية معناها، ما ذكرناه بدليل سبب النزول. ولذلك قال عبد الله بن مغفل في هذه الآية وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ... : (كسب المسلم لا يكون خبيثا. ولكن لا يتصدق بالحشف، والدرهم الزيف، وما لا خير فيه). وبهذه المناسبة ننقل حديثا، وفتوى، حول الإنفاق من الحرام. أما الحديث فما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم. وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. ولا يعطي الدين إلا لمن أحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه. ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟. قال: غشه، وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه. ولا يتصدق به، فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. إن الخبيث لا يمحو الخبيث». وأما الفتوى: يقول فقهاء الحنفية: من تصدق بدرهم حرام ينوي به القربة لله، يكفر. وإذا علم به الفقير، فدعا له، يكفر. ومن أمن على دعائهما يكفر. فمن كان عنده مال حرام فلينفقه بنية التخلص منه لا بنية الصدقة. الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ: في الإنفاق. أي: يقول لكم: إن عاقبة إنفاقكم، أن تفتقروا. والوعد يستعمل للخير، وللشر. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي: يغريكم على البخل، ومنع الصدقات، إغراء الآمر بالمأمور. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا أي: والله يعدكم مغفرة لذنوبكم، وكفارة لها. وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم في الدنيا والآخرة. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ: يوسع على من يشاء، عليم بالأفعال، والنيات.
فائدة
فائدة: روى النسائي والترمذي، وابن حبان، وابن أبي حاتم، وابن مردويه- وهو حديث حسن- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة. فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله. ومن وجد الأخرى، فليتعوذ من الشيطان. ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ الحكمة: علم الكتاب والسنة، والعمل بهما. ووضع الأمور في مواضعها. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أي: ومن يعطه الله الحكمة، فقد أعطاه من الخير أعظمه. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي: وما يتعظ بمواعظ الله، إلا ذوو العقول السليمة. فوائد: 1 - الصلة بين هذه الآية وما قبلها أنها ندب إلى أن نضع الإنفاق في محله. 2 - للمفسرين عبارات كثيرة في شرح الحكمة. ومرجعها إلى ما ذكرناه. قال ابن عباس: (الحكمة: القرآن). يعني تفسيره- أما مجرد القراءة والحفظ- فإنه قد قرأه البر، والفاجر. وقال مجاهد في تفسيرها: (العلم، والفقه، والقرآن). وقال أبو مالك: (الحكمة: السنة). ويشهد لهذا كله الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين. رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها». رواه البخاري ومسلم، وغيرهما. فهذا الحديث يشهد على أن الحكمة يدخل فيها الفقه في الكتاب والسنة، والدين عامة، ويشهد على أن الحكمة: العلم بكتاب الله، وصف الله عزّ وجل كتابه بأنه حكيم: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (سورة يس) ويشهد على أن المراد بالحكمة السنة قوله تعالى:
[سورة البقرة (2): آية 270]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (سورة الأحزاب) وما كن يسمعن في بيوتهن مع القرآن، إلا السنة. وقال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله. وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. ومما يبين ذلك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا. إذا نظر فيها. وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه، عالما بأمر دينه، بصيرا به، يؤتيه الله إياه، ويحرمه هذا. فالحكمة: الفقه في دين الله. وقال مجاهد: الحكمة: الإصابة في القول. وقال أبو العالية: الحكمة: خشية الله. فإن خشية الله رأس كل حكمة. والأمر الجامع لهذا كله، هو ما فسرنا به الحكمة، أنها العلم بالكتاب والسنة والعمل بهما، ووضع الأمور في مواضعها. فمن اجتمع له هذا فقد اجتمعت له الحكمة. 3 - قال السدي: (الحكمة: النبوة). ولا شك أن أحكم الحكماء هم الأنبياء، ولكن كما قال ابن كثير: والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور، لا تختص بالنبوة. بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة. والرسالة أخص. ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث: «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه، غير أنه لا يوحى إليه». ونختم هذه الفائدة بتفسير ابن عباس للحكمة في الآية. قال: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ: في سبيل الله، أو في سبيل الشيطان. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ: في طاعة الله، أو في معصيته. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي: لا يخفى عليه. وهو مجازيكم عليه. وَما لِلظَّالِمِينَ: الذين يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو ينذرون في المعاصي، أو لا يفون في النذور. مِنْ أَنْصارٍ أي: ليس لهم من ينصرهم من الله، ويمنعهم من عقابه.
فائدة
فائدة: لا يجب الوفاء بالنذر عند الحنفية، إلا إذا كان المنذور من جنسه واجب، ولا شك أن الإنفاق من جنسه واجب، وهو الزكاة، وصدقة الفطر، فمن نذر أن يتصدق، فقد وجب عليه أن يتصدق. وسنبحث مسائل النذر عند قوله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ في سورة الحج، إن شاء الله. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي: إن تظهروا الصدقات فنعم شئ إظهارها. وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. أي: وإن تسروا بها، مع إصابة مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم. قالوا: المراد بهذه الخيرية في صدقة السر، صدقات التطوع. والجهر في الفرائض أفضل، لنفي التهمة. حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار، كان إخفاؤه أفضل. والمتطوع إن أراد أن يقتدي به الناس، كان إظهاره أفضل. وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ: في حالتي الإسرار والجهر بالصدقة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: عالم بما تبدون وما تخفون. فوائد: 1 - قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: جعل الله صدقة السر في التطوع، تفضل علانيتها؛ يقال بسبعين ضعفا. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها؛ يقال بخمسة وعشرين ضعفا. 2 - ومما ورد في صدقة السر: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض، جعلت تميد، فخلق
[سورة البقرة (2): آية 272]
الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت. فتعجبت الملائكة من خلق الجبال. فقالت: يا رب: هل في خلقك شئ أشد من الجبال؟ قال: نعم. الحديد. قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد؟. قال: نعم. النار: قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار؟. قال: نعم. الماء. قالت: يا رب. فهل من خلقك شئ أشد من الماء؟. قال: نعم. الريح. قالت: يا رب. فهل من خلقك شئ أشد من الريح؟. قال: نعم. ابن آدم يتصدق بيمينه، فيخفيها من شماله». وقد مر معنا عند الكلام عن آية الكرسي حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله. أي الصدقة أفضل؟. قال: «سر إلى فقير، أو جهد من مقل». 3 - قال الشعبي في هذه الآية: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ... : أنزلت في أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. أما عمر، فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر»؟ قال: خلفت لهم نصف مالي. وأما أبو بكر. فجاء بماله كله، يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر»؟. فقال: عدة الله، وعدة رسوله. فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر. والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي: لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، وإنما عليك أن تبلغهم النواهي فحسب. فالتوفيق إلى الهدى أو خلقه لله تعالى. وما مناسبة هذا النص لآيات الإنفاق؟ يبين هذا سبب النزول. روى النسائي عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا، فرخص لهم. فنزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ .... وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ... فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وإنما تصح الصدقة على غير المسلمين إذا كانت صدقة تطوع. وإذا صحت الصدقة على غير المسلم. فمن باب أولى على الفاسق
فائدة
المسلم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ الخير هنا: المال. أي: وما تنفقوا من مال فهو لأنفسكم. لا ينتفع به غيركم. فلا تلاحظوا إلا الله في إنفاقكم. ولا تروا لأنفسكم على الناس فضلا بإنفاقكم عليهم. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي: وليست نفقتكم إلا من أجل رضوان الله، وطلب ما عنده. فإذا كان الأمر كذلك، فأعطوه حقه من هضم نفس، وعدم من أو أذى. وقال بعض المفسرين: هذا نفي، معناه النهي وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ وما تنفقوا من مال يوفكم الله ثوابه أضعافا مضاعفة، دون أن تنقصوا منه شيئا فلا عذر لكم أن ترغبوا عن الإنفاق، ولا عذر لكم ألا يكون على أحسن الوجوه، وأجملها. فائدة: قال عطاء الخراساني: إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله. ويؤيد هذا، ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة. فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية. فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية. فقال: اللهم لك الحمد، على زانية؟ لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني. قال: اللهم لك الحمد، على غني؟ لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: إن صدقتك قد قبلت. وأما الزانية، فلعلها أن تستعفف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته». ولكن لا ينبغي أن يغيب عنا، أنه لئن رخص الله لنا أن ننفق على كل خلق الله، فلقد ندبنا أن نخص بها الأقرب، والأتقى، والأورع. مر معنا مثل هذا من قبل. وفي الآية التالية بيان. لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ ... أي: هذه الصدقات، الأولى أن تدفعوها للفقراء الذين اتصفوا بالصفات التالية: الإحصار في سبيل الله، والعجز عن الكسب، والتعفف،
فوائد
والسيما الدالة، وعدم الإلحاح في المسألة. فإذا اجتمعت هذه الصفات، فأصحابها أولى الناس بالصدقات. فإذا اجتمعت أربع صفات منها، يكون أصحابها في الدرجة الثانية. فثلاثة، فدرجة ثالثة. فاثنتان، فدرجة رابعة. فواحدة مع الفقر، فصاحبها أولى. ثم الفقراء فيما بعد. فإذا اتضح هذا، فلنشرح الآية: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: الذين أحصرهم الجهاد، فمنعهم من التصرف. لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ. أي: لا يستطيعون سفرا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض: هو السفر. وسبب احتباسهم، إما انقطاع للعلم، أو عدم حيلة، أو تفرغ لأمر من أمور المسلمين. يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي: يحسبهم الجاهل بحالهم، مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة. تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ. أي: بصفاتهم التي تدل على حالهم، من صفرة الوجوه، ورثاثة الحال. لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي: إلحاحا. والإلحاح: هو لزوم المسئول وعدم مفارقته إلا بشيء يعطاه. قيل في تفسير هذه الصفة: إنهم لا يسألون أصلا. وقيل إنهم إن سألوا، سألوا بتلطف. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي: وما تنفقوا من مال، فإن الله يعلمه، ولا يضيع عنده. فوائد: 1 - قلنا من اجتمعت له هذه الصفات، فهو أولى الناس بالصدقات. ثم الأقل فالأقل. ولذلك نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفت النظر إلى من اتصف ببعض هذه الصفات، كي نخصه. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة، والتمرتان، واللقمة، واللقمتان، والأكلة، والأكلتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا». 2 - وهناك مظهر من مظاهر الإلحاف، لا يعتبر من باب الإلحاف اللغوي ولكنه إلحاف شرعي. وذلك أن الإلحاح أثر من آثار الطمع. ولذلك أدخل الشارع في باب الإلحاف ما كان أثرا عن الطمع. وذلك أن يسأل الإنسان، وله ما يملك. ومما ورد في
[سورة البقرة (2): آية 274]
ذلك: روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأله. فأتيته، فقعدت. قال فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية. فرجعت فلم أسأله. وروى ابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف، وهو مثل سف الملة» يعني الرمل. ورواه النسائي كذلك. 3 - ويحرم على الإنسان أن يسأل أصلا إذا كان له ما يكفيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا، أو كدوحا في وجهه» قالوا: يا رسول الله: وما غناه؟ قال: «خمسون درهما، أو حسابها من الذهب». رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: الذين ينفقون أموالهم في كل الأحوال، والأوقات، لحرصهم على الخير، مسرين ومعلنين، في ليل أو نهار. فكلما نزلت بهم حاجة محتاج، عجلوا قضاءها ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقت، ولا حال. فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. وقد مر معناها من قبل. والملاحظ أن الجواب هنا مسبوق بالفاء. وذلك لتضمن ما قبله معنى الشرط. فكأننا نفهم من ذلك أن الذين لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، هم من تحققوا بهذه الصفة، من كونهم منفقين في كل حال. روى ابن مردويه عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب كان له أربعة دراهم. فأنفق درهما ليلا، ودرهما نهارا، ودرهما سرا، ودرهما علانية. وبهذا ننتهي من الكلام عن الفقرة الأولى في المقطع الثاني، لتأتي معنا فقرة نتحدث عن الربا، والصلة بين هاتين الفقرتين واضحة جدا. فالجانب المقابل للإنفاق في سبيل الله، هو الربا. فبقدر ما يدل الإنفاق في سبيل الله على النفس الخيرة، يدل الربا على النفس الشريرة الجشعة المستغلة. فإذ حض الله على الإنفاق، كان من المناسب أن يحذر عما يقابله. ولذلك تلاحظ أنه لم يفصل بين نهاية الفقرة السابقة، وبداية الفقرة
الفقرة الثانية من المقطع الثاني من القسم الثالث
اللاحقة بفاصل من نداء وغيره. بل تظهر الفقرة التالية، وكأنها استمرار لما قبلها، فلننتقل للحديث عن الفقرة الثانية. الفقرة الثانية من المقطع الثاني من القسم الثالث تمتد هذه الفقرة من الآية (275) إلى نهاية الآية (281). وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: قلنا إن الملامح الرئيسية للنظام المالي في الإسلام قد تحدث عنها هذا المقطع وأن هذه الملامح هي: أن الإسلام نظام زكوي، لا ربوي. وأنه ذو معاملات منضبطة. وإذا كان هذا المقطع يعطينا هذا بشكل عام، فإنه يعرض ما يعرضه على تسلسل معين. إن الإنفاق يدلل على نفسية مؤمنة بالله، واليوم الآخر. فهو علم على نفسية مؤثرة. بينما يقف في الصف المقابل لذلك المرابون الذين لا يعطون أموالهم إلا بمقابل من الربح دون أن يتحملوا حتى احتمال الخسارة. فهم مصاصو دماء ومستغلون. وفي وسط آيات الربا، يذكر الله الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، لينتشل المرابي من حمأة ما هو فيه. وينتهي الحديث عن الربا بالتذكير باليوم الآخر. ومن عادة المدافعين عن الربا، أنهم دائما يتساءلون عن البديل. ومن ثم تأتي آية الدين، وهي آية السلم لتدل على البديل كما سنرى. وكل ذلك يأتي في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان. ولنقدم لتفسير آيات الربا بكلام لصاحب الظلال: «الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي .. الوجه الكالح الطالح هو الربا!
الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل .. والربا شح وقذارة ودنس، وأثرة وفردية .. والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد. والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده، ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا .. ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة .. الوجه الكالح الطالح، لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب، السمح، الطاهر، الجميل، الودود! عرضه عرضا منفرا، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد. ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى. ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله، وعظمة هذا الدين، وكمال هذا المنهج، ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة. وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتؤكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي، في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها .. وتتلقى- حقا- حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب .. أفرادا وجماعات، وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق!. وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه،
ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة .. في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم. إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي. والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور! ولا يتفقان في أساس؛ ولا يتوافقان في نتيجة .. إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة. وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف .. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب!. إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود. يقيمه على أساس أن الله سبحانه هو خالق هذا الكون. فهو خالق هذه الأرض وهو خالق هذا الإنسان .. هو الذي وهب كل موجود وجوده .. وأن الله- سبحانه- وهو مالك كل موجود- بما أنه هو موجده- قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء. وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة. استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود، وأعمال، ومعاملات، وأخلاق، وعبادات، وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل. فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض- كما هي في الكون كله- لله وحده. والناس- حاكمهم ومحكومهم- إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم- في جملتهم- أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق. من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل- لا على قاعدة
الشيوع المطلق كما تقول الماركسية. ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة- فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه. مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله- فلا يكون أحدهم كلا على أخيه، أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل. وجعل الزكاة فريضة في المال محددة. والصدقة تطوعا غير محددة. وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات محدودة بحدود الاعتدال. وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة. وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره. وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق «كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم» ... وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها. وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض. ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا، ونظام يقوم على تصور آخر. تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى. ومن ثم لا رعاية فيه للمبادئ والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها. إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين الله وحياة البشر. فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء، وهو غير مقيد بعهد من الله، وغير ملزم باتباع أوامر الله!! ثم إن الفرد حر فى وسائل حصوله على المال، وفى طرق تنميته، كما هو حر فى التمتع به. غير ملتزم في شئ من هذا بعهد من الله أو شرط، وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته. وقد
تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحد من حريته هذه- جزئيا- في تحديد سعر الفائدة مثلا، وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب والغش والضرر. ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم، لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية! كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد. هو أن الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال- بأية وسيلة- واستمتاعه به على النحو الذي يهوى! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به، ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين!! ثم ينشئ في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا، لمصلحة حفنة من المرابين، ويحطمها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا، ويحدث الخلل في دورة المال، ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا .. وينتهي- كما انتهى في العصر الحديث- إلى تركيز السلطة الحقيقة والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله، وأشدهم شرا، وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة .. وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا، كما يداينون الحكومات والشعوب- في داخل بلادهم وفي خارجها- وترجع إليهم الحصيلة لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا. وهم لا يملكون المال وحده .. إنما يملكون النفوذ .. ولما لم تكن لهم مبادئ، ولا أخلاق، ولا تصور ديني وأخلاقي على الإطلاق، بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان، والأخلاق، والمثل والمبادئ، فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكون في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم .. وأقرب الوسائل هي تحطيم الأخلاق البشرية، وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد، وإلى انحراف
الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المراءين، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية!. والكارثة التي تمت في العصر الحديث- ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية- هي أن هؤلاء المراءين- الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية- قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها .. سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها .. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودمائهم في ظل النظام الربوي .. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي، وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب. وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين- غير العمليين- وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع، وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه. الذي تضطره عصابات المراءين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي. ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف على أن يكون نافعا للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة. إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة- وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم، وهم قد نشئوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق. وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة «دكتور شاخت» الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا. وقد كان مما قاله في
محاضرة له في دمشق 1953 أنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة. ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد بالحساب الرياضي- أن يصير إلى الذي يربح دائما! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل. فإن معظم مال الأرض الآن يملكه- ملكا حقيقيا- بضعة ألوف! أما جميع الملاك، وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف. وليس هذا وحده كل ما للربا من جريرة. فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة. فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة. ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شئ .. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين، وتضيق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء. وعند ما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا. فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء .. وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية. ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة.! ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين. فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية. أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية
كذلك. إذ إن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها. وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف .. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ويكون الاستعمار هو نهاية الديون .. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار! ونحن هنا- في ظل القرآن- لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل- فنكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت: الحقيقة الأولى: التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم أنه لا إسلام يبيح قيام نظام ربوي في مكان. وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع. فأساس التصور الإسلامي- كما بينا- يصطدم اصطداما مباشرا بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم. والحقيقة الثانية: أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية- لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب- بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية. وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخداع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام!. والحقيقة الثالثة: أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم في حياته، ومحاسب عليه في آخرته. فليس هناك نظام أخلاقي وحده، ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء. وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية. والحقيقة الرابعة: أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وأخلاقه،
وشعوره تجاه أخيه في الجماعة، وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشر، والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة. أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار. كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شئ للمستدين، ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة، والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيما .. والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ أنفع المشروعات للبشرية، بل همه أن ينشئ أكثرها ربحا. ولو كان الربح إنما يجئ من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول .. وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض. وسببه الأول هو التعامل الربوي!! .. والحقيقة الخامسة: أن الإسلام نظام متكامل. فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه، وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد. والحقيقة السادسة: أن الإسلام- حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص- لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي؛ إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم. ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه. ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة. وفى أول هذه المؤسسات والأجهزة: المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث. والحقيقة السابعة:- وهي الأهم- ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في نفس الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها .. فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها، وهو الآمر بتنميتها وترقيتها؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه. فهناك
استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شئ لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه. وأن يكون هناك شئ خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها .. وإنما هو سوء التصور، وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة: أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي. وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها .. ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين. وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر. وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان. كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه بما لهم من قدرة على التوجيه، وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة. والحقيقة الثامنة: أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غير الأساس الربوي .. ليست سوى خرافة، أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا! وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية- أو تعزم الأمم المسلمة- أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة، مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلا، ونمت الحياة في ظله فعلا، وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله، لو عقل الناس ورشدوا!!. وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله .. فحسبنا هذه الإشارات المجملة. وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية، وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديما حتى ردها الإسلام إليه، هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم.
المعنى العام للمجموعة الأولى في فقرة الربا
المعنى العام للمجموعة الأولى في فقرة الربا: لما ذكر الله تعالى، الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر، والصدقات لذوي الحاجات، والقرابات، في جميع الأحوال، والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا، وأموال الناس بالباطل. وأنواع الشبهات. فأخبر في الآية الأولى من هذه الفقرة كيف أن أكلة الربا لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم، ونشورهم، إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له. ذلك التخبط المعرف، المنكر. وإنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه. إذ اعترضوا على الله في تحريمه الربا، من أنه- في زعمهم- شبيه بالبيع. وهذا اعتراض منهم على شرع الله مع علمهم بتفريق الله بين هذا، وهذا. إذ هذا محرم، أفظع تحريم. وهذا مباح. والله هو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. وهو العالم بحقائق الأمور، ومصالحها. وما ينفع عباده فيبيحه لهم. وما يضرهم فينهاهم عنه. وهو أرحم بهم من الوالدة بطفلها. ثم بين الله عزّ وجل أنه من بلغه نهي الله عن الربا، فانتهى، فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم. أي: قبل نزول هذا النص. ومن فعل الربا بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، واستحق الخلود في النار. وفي الآية الثانية من هذا المقطع يخبر تعالى أنه يمحق الربا. أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله. فلا ينتفع به. بل يعدمه في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة. بينما هو جل جلاله، يبارك وينمي، ويكثر الصدقات، بأن يضاعف لأصحابها أجورهم. وإنما ذكر بركة الصدقة يوم القيامة، ولم يذكر تنمية الأموال المزكاة في الدنيا- مع أنه كائن- تبيانا لقصد أصحابها، وإشعارا بأن الدنيا هينة، وأن الآخرة هي الهدف. ثم ختم الله عزّ وجل هذه الآية بتبيان أنه لا يحب كل كفور القلب، أثيم القول والفعل. والمناسبة بين بداية الآية وخاتمتها، هي: أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة. فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
ثم جاءت الآية الثالثة التي أثنى بها الله على المؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه، المقيمين الصلاة، والمؤدين الزكاة، ثم أخبر عما أعدلهم من الكرامة. وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون. وقد ختمت الآية الثالثة بقوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ كما ختمت الفقرة السابقة، إشارة إلى أن هذه الفقرة امتداد لما قبلها. فالمقطع واحد. وقبل أن نتحدث عن المعنى الحرفي للآيات، نحب أن نعرف الربا، وحكمة تحريمه. الربا هو فضل مال، خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وأنواعه كثيرة. روى الحاكم عن ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها أن ينكح الرجل أمه. وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون جزءا. أيسرها أن ينكح الرجل أمه». ولا شك أنه يدخل في هذه الأنواع الكثيرة، أنواع من الربا معنوية. كالاستطالة في عرض المسلم. قال ابن كثير: وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا، ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا) يفهم من هذا أن هناك أبوابا من الربا تحتاج إلى فقه أهل الاجتهاد حتى تعرف على ضوء نصوص الكتاب والسنة. ولا ننسى أن ما أدى إلى الحرام، فهو محرم. وكما حرم الله الربا، حرم المسالك المفضية إليه، والوسائل الموصلة إليه. وتتفاوت أنظار المجتهدين بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم. فأدخل بعضهم في أبواب الربا، ما لم يدخله غيره. والذي يدل على أن الوسائل التي تفضي إلى الربا محرمة، ما رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا». قال: قيل له الناس كلهم؟. قال: «من لم يأكله منهم ناله من
غباره». ومن أبواب الربا: ربا الفضل. ومن أبوابه ربا النساء. ومن أبوابه بيع العينة. ومن أبوابه ما كان ظاهره بيعا، وحقيقته ربا. فالعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن أبوابه المخابرة. وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. والمزابنة. وهي: اشتراء الرطب في رءوس النخل، بالتمر على وجه الأرض. والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل، بالحب على وجه الأرض. وأدخل الحنفية في الربا، كل ما كان من أنواع البيوع الفاسدة. وأما البيع، فإنه معاوضة مال بمال. وله أنواع كثيرة. والفارق بينه، وبين الربا، واضح. فالربا أعلى مظاهر الاستغلال والجشع. والبيع ضرورة، لا بد منها للحياة الاقتصادية ولنضرب مثالين، لنرى نتائج الربا الخبيثة. والحكمة في تحريمه. المثال الأول: يستقرض المزارع بالربا، ليشتري بذرا، يبذره في أرضه البعل وقد يأتي ذلك العام، عام جدب. فيخسر البذر، ويخسر ثمنه، ويجب عليه وفاء الدين والربا. ولما كان لا يستطيع أن يدفع شيئا، فإن عليه أن يؤجل الدين مع ربا العام القادم. وعليه أن يستقرض للبذار من جديد، بربا كذلك. فإذا ما جاء عام جدب آخر تضاعف عليه، ربا السنة الأولى ثلاث مرات. وربا السنة الثانية مرتين، وعليه أن يستقرض بربا من أجل أن يبذر للسنة الثالثة. ويستغل المرابون احتياجه، فيرفعون سعر الربا فإلى أي حد- لو جاء موسم جيد- يستطيع أن يفي بما استقرض، وبرباه، وبنفقات عياله. إن ثمرات جهده، خلال السنين تذهب إلى صندوق المرابي دون مقابل من جهد شخصي، ودون أن يتحمل رأس المال في مقابل ربحه، أي شيء من الخسارة. والمثال الثاني: نفرض أن مرابيا واحدا كان موجودا ببلد، واحتاج الناس أن يستقرضوا من هذا المرابي بالربا. ولنفرض أنه يملك عشرين مليونا. وأقرض بالربا بأرخص الأسعار. وليكن بخمسة بالمائة. فإذا ما أقرض العشرين مليونا، فإن العشرين تصبح خلال سنة واحدا وعشرين مليونا، وفي سنة ثانية، وثالثة .. وكل ذلك وهو جالس. ورأس المال مضمون الربح. ولا يتحمل أي خسارة. والجميع يجهدون. فإذا استمر الأمر. فلا بد أن يأتي يوم، تصبح فيه كل رءوس الأموال في البلد في صندوق المرابي، والجميع مدينون له.
المعنى الحرفي للمجموعة الأولى
ولا يستطيعون وفاء. فإما أن يثوروا، ويقتلوه، وينهبوا ماله. وإما أن يصبحوا أجراء، عبيدا عنده. وفي كل حالة فإن المسألة، هكذا. المستدينون بالربا يكدحون، ويشقون، ليملئوا خزينة المرابي، فإذا ما طبقنا هذا على مستوى عالمي كبير، أو على مستوى صغير نجد أن مآل الربا خطير، عدا عن كونه يمثل تصرفا وحشيا من قبل المرابي إذ لا يستقرض الإنسان بالربا إلا وهو محتاج. وقد استغل المرابي احتياج هذا الإنسان بوحشية وجشع وطمع، بدلا من أن يرحمه فيساعده، أو يقرضه. أو على الأقل أن يتعامل معه بمنطق المضاربة، أو السلم كما سنرى. ومن ثم فقد حرم الربا في الإسلام تحريما قطعيا. وقد رأينا أن أدنى أبوابه، كأن يزني الرجل بأمه. وفي الحديث: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية». أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الكبير. المعنى الحرفي للمجموعة الأولى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إذا بعثوا من قبورهم. إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ: المس: الجنون. والخبط: هو الضرب على غير استواء، كخبط العشواء. والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مختلين كالمصروعين. تلك سيماهم، يعرفون بها عند أهل الموقف. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي: ذلك العقاب بسبب أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا. ولم يقل إنما الربا مثل البيع، مع أن الكلام في الربا لا في البيع، لأنه جئ به على طريقة المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا، أنهم جعلوه أصلا، وقانونا في البيع، حتى شبهوا به البيع. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبا: هذا إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فأنى يتماثلان. وفي هذا النص دليل على أن القياس يهدمه النص. لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم، إحلال الله وتحريمه. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أي: فمن بلغه وعظ من الله، وزجر بالنهي عن الربا، فتبع النهي وانتهى، فلا يؤاخذ بما مضى منه. لأنه أخذ قبل نزول التحريم. وأمره إلى الله، يحكم في شأنه يوم القيامة. وليس من أمره إليكم من شئ، فلا تطالبوه به. وفي هذا بعث لهمة هؤلاء كي ينفقوا. وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: ومن عاد إلى الربا
[سورة البقرة (2): آية 276]
مستحلا له، فأولئك أصحاب النار خالدون فيها لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين. لأن من أحل ما حرم الله عزّ وجل عليه فهو كافر. فلذا استحق الخلود. أما من لم يستحل، وتاب، فأرجع ما أخذه من ربا إلى أهله، أو أنفقه- لا بنية القربة- إن لم يعلم أصحابه. فالمرجو أن يتوب الله عليه. ومن لم يستحل، ولم يتب، فأمره إلى الله. إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي: يذهب ببركته، ويهلك المال الذي يدخل فيه. وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. أي: ينميها، ويزيدها. أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة، ويبارك فيه. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. أي: لا يحب كل عظيم الكفر، باستحلال الربا، متماد بالإثم بأكله. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ أي: إذا اجتمعت لهم هذه المعاني كلها. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. فوائد: 1 - روى البخاري عن ابن عباس قال: «آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا». وروى البخاري عن عائشة قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر». وما الصلة بين الربا، وتحريم التجارة في الخمر؟. قالوا: لما حرم الربا ووسائله، حرم الخمر وما يفضي إليه. 2 - قال عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين. وأول ربا أضع، ربا العباس». قال ابن كثير: ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حل الجاهلية بل عفا عما سلف. وبهذه المناسبة نتساءل: هل الحكم اللاحق، مسئول عن رد المظالم التي حدثت في عهد سابق، ومحاسبة من خالفوا أمر الله في عهد سابق؟. يبدو أن الدولة الإسلامية أمامها خيارات واسعة في هذا الشأن. 3 - روى الإمام أحمد، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الربا وإن كثر فإن عاقبته
المعنى العام
تصير إلى قل». 4 - روى مسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يصعد إلى الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد». ولننتقل إلى المجموعة الثانية في فقرة الربا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. المعنى العام: في الآية الأولى يأمر الله المؤمنين بتقواه، وينهاهم عما يقربهم من سخطه ويبعدهم عن رضاه، بأن يخافوه، ويراقبوه فيما يفعلون. وأن يتركوا ما لهم على الناس من زيادة على رءوس الأموال في حالة ابتلائهم بالربا، ومخالطتهم له إن كانوا مؤمنين بما شرع الله لهم من تحليل البيع وتحريم الربا، وغير ذلك. وفي الآية الثانية تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، بأن أعلن على أصحاب ذلك الحرب من الله ورسوله، والحرب من رسول الله، حرب عقوبة دنيوية، ولذلك قال ابن عباس: فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه. فإن نزع، وإلا ضرب عنقه. والحرب من الله، مظهرها العقوبة الربانية في الدنيا، والعقوبة الأخروية. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. ثم بين الله عزّ وجل أن من تاب فله رأس ماله فقط. لا يظلم بأخذ زيادة، ولا يظلم بأن ينقص من رأس ماله. وفي الآية الثالثة يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء. لا كما كان أهل الجاهلية يفعلون. يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي.
المعنى الحرفي
ثم ندب الله عزّ وجل إلى أكثر من ذلك. وهو أن يترك الدائن رأس المال بالكلية. ووعد على الوضع عنه، الخير والثواب الجزيل. وفي الآية الأخيرة في الفقرة، يعظ الله عباده ويذكرهم زوال الدنيا، وفناء ما فيها من الأموال، وغيرها. والمصير إلى الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي: يا أيها الذين آمنوا، خافوا الله، واتركوا بقايا الربا، ولا تطالبوا بها. فإذا كانت بقايا الربا قبل التحريم يجب أن تترك. فمن باب أولى أن تستأصل معاني الربا، وألا تستأنف أبدا. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: إن كنتم مؤمنين، كاملي الإيمان، فإن دليل كماله، امتثال المأمور به. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا. أي: فإن لم تتركوا بقايا الربا. فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أي: فاعملوا مستيقنين بحرب الله، ورسوله. وإنما قال بحرب من الله ورسوله، ولم يقل بحرب الله ورسوله، لأن الأول أبلغ. لأن المعنى: فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. وَإِنْ تُبْتُمْ: من ممارسة الربا. فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ المديونين بطلب الزيادة عليها. وَلا تُظْلَمُونَ: بالنقصان منها. فوائد: 1 - ذكر زيد بن أسلم أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير بن ثقيف، وبني المغيرة، من بني مخزوم. كان بينهم ربا في الجاهلية. فلما جاء الإسلام، ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم. فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام. فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا. وذكر هذا ابن جريج ومقاتل وابن حبان والسدي.
[سورة البقرة (2): آية 280]
2 - قال الحسن وابن سيرين: «والله إن هؤلاء الصيارفة، لأكلة الربا، وإنهم قد أوذنوا بحرب من الله ورسوله. ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم. فإن تابوا، وإلا وضع فيهم السلاح» أقول: اجعل هذا الكلام في عصرنا في أصحاب البنوك الربوية، والأنظمة التي تحميها. 3 - قال قتادة تعليقا على آية: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون. وجعلهم بهرجا أين ما كانوا، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا. فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه. فلا يلجئنكم إلى معصية فاقة. 4 - من روايات خطبة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله. لكم رءوس أموالكم، لا تظلمون، ولا تظلمون. وأول ربا موضوع، ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله». وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ذو العسرة أي: ذو الإعسار. أي: وإن وقع غريم من غرمائكم في الإعسار. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أي: فالحكم إنظاره إلى يساره. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي: وإن تتصدقوا برءوس أموالكم، أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم خير لكم يوم القيامة. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ للعلم هنا مدلول أوسع من مدلوله النظري. المراد به هنا: العلم الذي يرافقه العمل. فصار التقدير: وتصدقكم خير لكم إن كان عندكم علم بخيرية هذا عند الله، فتعملون به. فوائد: 1 - روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر، أو ليضع عنه». وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. 2 - روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان تاجر يداين الناس
[سورة البقرة (2): آية 281]
فإذا رأى معسرا، قال لفتيانه، تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا. فتجاوز الله عنه». 3 - روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر». 4 - روي الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انظر معسرا إلى ميسرته، أنظره الله بذنبه إلى توبته». ومن حديث رواه ابن عباس، وأخرجه الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «من انظر معسرا، أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم». 5 - روى الإمام أحمد عن بريدة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من انظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة». قال: ثم سمعته يقول: «من انظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة». قلت: سمعتك يا رسول الله تقول: من انظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة. ثم سمعتك تقول: من انظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة، قال له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين. فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة» وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. أي: توفى جزاء ما عملت. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أي: بنقصان الحسنات، وزيادة السيئات. فائدة: القول الراجح عند العلماء، أن هذه الآية آخر آية نزلت من كتاب الله. قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، ومات يوم الاثنين. وروي مثله عن سعيد بن جبير وفي رواية عن ابن عباس بعد أن ذكر أنها آخر ما نزل أن بين نزولها، وموت النبي صلى الله عليه وسلم واحدا وثلاثين يوما. فوائد من الظلال حول فقرة الربا: - 1 - إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة، وربا الفضل.
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة: «إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه». وقال مجاهد: «كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني. فيؤخر عنه». وقال أبو بكر الجصاص: «إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة. فكانت الزيادة بدلا من الأجل. فأبطله الله تعالى». وقال الإمام الرازي في تفسيره: «إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله. فإذا حل طالبه برأس ماله. فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل». وقد ورد في حديث أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ربا إلا في النسيئة» (رواه البخاري ومسلم). أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشئ بالشئ من نوعه مع زيادة. كبيع الذهب بالذهب. والدراهم بالدراهم. والقمح بالقمح. والشعير بالشعير .. وهكذا .. وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به؛ ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا .. وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة .. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح .. مثلا بمثل .. يدا بيد .. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ... (رواه الشيخان) وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «من أين هذا؟» قال: كان عندنا تمر ردئ فبعت منه صاعين بصاع. فقال: «أوه! عين الربا. عين الربا. لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به». (متفق عليه) فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية. وهي: الزيادة على أصل المال. والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة. وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا
في التعاقد. أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا .. وأما النوع الثاني، فمما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة. وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الردئ وأخذ صاعا من التمر الجيد .. ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية إذ يلد التمر التمر، فقد وصفه صلى الله عليه وسلم بالربا، ونهى عنه. وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد. ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا. إبعادا لشبح الربا من العملية تماما! .. وكذلك شرط القبض: «يدا بيد» .. كيلا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل، ولو من غير زيادة، فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره! إلى هذا بلغت حساسية الرسول صلى الله عليه وسلم بشبح الربا في أية عملية. وبلغت حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية. فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا- ربا النسيئة- بالاستناد إلى حديث أسامة رضي الله عنه، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية وأن يحلوا- دينيا- وباسم الإسلام! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية! ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية .. فالإسلام ليس نظام شكليات. إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل. فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة. إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره، ويحارب عقلية لا تتمشى مع (أحكامه). وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا. ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام. سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة. ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية، أو تتسم بسمة العقلية الربوية .. وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة. وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث. شعور الحصول على الربح بأية وسيلة! (2) وبمناسبة قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يقول
صاحب الظلال: «فهذه الحرب معلنة- كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة. وهي حرب على الأعصاب والقلوب. وحرب على البركة والرخاء. وحرب على السعادة والطمأنينة .. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة. حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف .. وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول. الحرب الساحقة الماحقة التي تنشأ من جرائم النظام الربوي المقيت. فالمرابون أصحاب رءوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات. ثم تقع فيها الشعوب والحكومات. ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب، أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع- إن لم يقع هذا كله- هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطيم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرهيبة. إنها الحرب المشبوبة دائما. وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا .. وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع .. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها- وهي تخرج من منبت الربا الملوث- لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقا، في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون! .. - 3 - فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة. لها وسيلة الجهد الفردي، ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة، ووسيلة الشركات التى تطرح أسهمها مباشرة في السوق- بدون سندات
تأسيس تستأثر بمعظم الربح- وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه، ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة- على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة- ولا تعطيها بالفائدة الثابتة- ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت .. وللمصارف أن تتناول قدرا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال .. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها .. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن.
الفقرة الثالثة من المقطع الثاني من القسم الثالث
الفقرة الثالثة من المقطع الثاني من القسم الثالث إذ حرم الله الربا، فقد فتح أبوابا، تحل محل الربا المحرم. من ذلك بيع السلم. ومن ذلك القرض المضمون بالرهن، أو بالكفيل، أو بذمة الدولة. ومن ذلك شركة المضاربة. والذين يفرضون الربا على هذه الأمة، المحاربون لله ورسوله هؤلاء- زيادة على كونهم يثبتون إثمهم، وحربهم لله ورسوله بذلك- فإنهم يثبتون عجزهم كذلك عن التفكير. فلو أن حكومة من الحكومات، انطلقت من خلال مصارف شركة المضاربة. ومن خلال مصارف السلم. ومن خلال مصارف القرض الحسن. ثم لو حاولت أن توجد صيغ التعامل مع العالم الخارجي على أسس إسلامية مستمدة من كل المدارس الفقهية لكان الوضع مختلفا. لكن العجز عن التفكير، والعجز عن التنفيذ، والجهل والتقليد، وأشياء أخرى، كلها حالت دون قيام ذلك. ونرجو أن يتم ذلك كله في المستقبل. تأتي هذه الفقرة بعد آيات الربا لتذكر البديل عن الربا من ناحية، ولتذكر نموذجا على المعاملات المنضبطة في النظام الإسلامي من ناحية. وهي تكمل موضوع الدخول في الإسلام كله من خلال تبيان أحكام الإسلام، والتربية على الالتزام. تتألف الفقرة من آيتين في الدين وآية فيها إعلان المالكية لله والمحاسبة. والآية الأخيرة بمثابة درس الختام للفقرة، وللمقطع، وللقسم. فهي خاتمة الفقرة من حيث إن الفقرة توجيه في أمر المال الذي هو ملك الله. ومن حيث إن الدين مظنة الهلاك. فالتذكير بمحاسبة الله، يناسب ذلك. وهي بمثابة درس الختام في المقطع. إذ إن المقطع بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ. فإن يختم المقطع بالتذكير بمالكية الله، فذلك هو المناسب. وهي بمثابة درس الختام في القسم الذي يدعو إلى الدخول في الإسلام كله، لتذكر بمالكية الله لنا وحسابه إيانا، فنقيم شرعه، ودينه كاملا.
الفقرة الثالثة: تمتد الفقرة بآياتها الثلاث من الآية (282) إلى نهاية (284). وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 282 الى 284] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
كلمة في هذه الفقرة
كلمة في هذه الفقرة: بهذه الآيات ينتهي القسم الأخير من سورة البقرة. ولم يبق إلا خاتمتها والصلة بين هذه الفقرة وما قبلها واضحة. هي صلة القضايا المالية ببعضها. فالفقرة الأولى في الإنفاق، والفقرة الثانية فيما يقابله وهو الربا. وهذه الفقرة في ضبط التعامل بين الناس في الديون والبيوع. ويختم هذا القسم بالإعلان أن الله هو مالك ما في السموات وما في الأرض. فيتصرف الإنسان في ملكه ضمن ما أمر. وليكون ظاهر الإنسان وباطنه مستقيما على أمر الله. لأن الله سيحاسبه على الظاهر والباطن. وقدرة الله محيطة بكل شئ المعنى العام: - الآية الأولى هي آية الدين وهي أطول آية في كتاب الله. وفي الآية إرشاد لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها، وأضبط للشاهد فيها. ومما يدخل في المعاملات المؤجلة بيع السلف، أو السلم المشهور. حتى إن ابن عباس اعتبر الآية فيه. والأمر بكتابة الدين أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم. وأمر أن يتولى الكتابة كاتب. وأمر لهذا الكاتب أن يكتب بالعدل. والقسط، والحق. ولا يجور في كتابته على أحد. ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. ثم أمر من يعرف الكتابة ألا يمتنع من الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس، إذا لم يترتب على ذلك ضرر يصيبه. فكما علمه الله ما لم يعلم، فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة. ثم أعطي حق الإملاء على الكاتب للمدين، وأمر المدين أن يذكر ما في ذمته من الدين كاملا فلا ينقص منه شيئا وليتق الله في ذلك. وفي الحالات التي يكون فيها المدين محجورا عليه، أو صغيرا، أو مجنونا، أو عيا، أو جاهلا لا يعرف الخطأ من الصواب، فقد أعطي حق الإملاء لوليه، وأمر وليه أن يملي
بالعدل والقسط. ثم أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثيق. وأمر أن يكون الشهود إما رجلين، أو رجلا وامرأتين. وهذا النوع من الشهود، إنما يكون في الأموال، وما يقصد به الأموال. وأقيمت المرأتان مقام الرجل في هذا الباب لاحتمال نسيان إحداهما، فتحتاج إلى أخرى من جنسها، تذكرها. إذ قد لا يتاح دائما للرجل أن يخلو بها. ليذكرها، لعدم كونه محرما، والمرأة أقدر على تذكير المرأة، ثم أمر الله أن يكون الشهود عدولا، وطالب المسلمين إذا دعوا لتحمل الشهادة أن يستجيبوا ومن ثم قال الجمهور إن تحمل الشهادة فرض كفاية. ومن شهد ودعي لأداء الشهادة، فقد فرض عليه أداؤها وتكون الشهادة فرض عين على إنسان إذا تعين لإثبات الحق. ثم أتم الله إرشاده بأن أمر بكتابة الحق صغيرا كان أو كبيرا إلى الأجل المحدد. ونهانا عن السآمة والملل في ذلك. ثم بين الحكمة من الأمر بالكتابة والإشهاد، وغير ذلك مما مر بأن هذا أعدل، وأثبت للشاهد. إذ إنه حين يرى خطة يتذكر فلا ينسى. وأن هذا أقرب إلى عدم الريبة. ثم إن الأمر بالكتابة لا يدخل فيه بيع الحاضر يدا بيد. فلا بأس بعدم الكتابة، لانتفاء المحذور في تركها. وفي هذا دليل على أن بيع السلم يدخل في الأمر بالكتابة. ثم أمر الله على سبيل الندب، والإرشاد بالإشهاد على كل بيع. وليست المسألة من باب الوجوب. ثم نهى الكاتب والشاهد أن يضرا أحدا. بأن يكتب الأول خلاف ما أملي عليه. وأن يشهد الثاني بخلاف ما سمع. أو يكتم الحق. أو أن المراد بالنهي، عدم الإضرار بالكاتب، والشهيد بأن يحملا على الكتابة، أو الشهادة في وقت، أو في حال يضر بهما. ثم بين تعالى أنه إن وقعنا في مخالفة ما أمرنا به، أو نهينا عنه، فإنه فسق كائن بنا، ولازم لنا، لا نحيد عنه، ولا ننفك عنه، ثم أمر بتقواه. وذلك بالخوف منه، ومراقبته، واتباع أوامره. ووعدنا على التقوى أن يعلمنا، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وعواقبها. فلا يخفى عليه شئ من الأشياء. بل علمه محيط بجميع الكائنات. فإذا تولى تعليمنا، فذلك الخير كل الخير لنا. وفي الآية الثانية. أرشدنا الله- عزّ وجل- إلى أنه في حالة كوننا مسافرين، وتداينا إلى أجل مسمى، ولم نجد كاتبا يكتب لنا، أو لم نجد أدوات الكتابة، فليكن بدل الكتابة، رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، ثم بين الله- عزّ وجل- حكما عاما، وهو أنه في حالة ائتمان بعضنا بعضا، فلا بأس ألا نكتب، وألا نشهد. ولكن على من اؤتمن، أن يؤدي الأمانة، وأن يخشى الله ويتقيه. ثم نهانا عزّ وجل أن نخفي الشهادة،
فائدة حول السياق في هذا المقطع
فلا نظهرها عند الاحتياج إليها، أو عند الطلب منا أن نؤديها. ثم بين أن من يكتم الشهادة فذلك دليل فجور قلبه، ثم هددنا بأن الله يعلم أعمالنا كلها. فلنحرر أعمالنا على مقتضى شرعه. ثم يختتم هذا القسم كله بالآية الثالثة. فيخبر الله تعالى فيها أن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وما بينهن. وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر، والضمائر، وإن دقت وخفيت. وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه، وما أخفوه في صدورهم فيعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء وأنه على هذا وغيره قادر. فإذا عرفنا أن هذه الآية ختام هذا المقطع، عرفنا صلتها بفقراته كلها. فما بين قوله تعالى في أول هذا المقطع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ... وبين قوله تعالى في هذه الآية: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ صلة واضحة. وما بين أمره تعالى بالإنفاق في سبيله، وعدم المن والأذى صلة واضحة مع: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ .... وما بين النهي عن الربا، وبين الآية صلة واضحة. فمالك السموات والأرض له أن يحرم، أو يحل. وما بين آية الدين، وما بعدها، وهذه الآية كذلك صلة واضحة. إذ كتمان الشهادة، أو مضارة الشهيد، وأمثال ذلك مرتبط بإبداء ما في الأنفس، أو إخفائه. فائدة حول السياق في هذا المقطع: نستطيع الآن، بعد ذكر المعنى العام لهذه الفقرة- وقبل ذكر المعنى الحرفي- أن نذكر مزيدا من الصلة بين فقرات هذا المقطع فنقول: 1 - إن هذا المقطع يمثل التوجيهات الربانية الرئيسية في موضوع الاقتصاد الإسلامي الذي يقوم على مبدأ الصدقات الإجبارية والطوعية، والذي يقوم على أساس غير ربوي، والذي يقوم على أسس ضبط التعامل بين الناس على مبادئ العدل والحق، والذي يقوم على أساس الاعتراف لله بمالكيته لكل شئ. هذا الاقتصاد الذي يقوم على أساس تربية الضمير والوجدان. 2 - إن ذكر فقرة عن الربا بين آيات الإنفاق وآية الدين ذو مغزى كبير إذ من هذا السياق ندرك البديل عن النظام الربوي. إن الله الذي حرم الربا، فتح للمسلمين طرق الخلاص منه. هذه الطرق إذا وجدت بشكل عفوي قضت على الربا،
المعنى الحرفي للفقرة
بشكل عفوي. وإذا كان للربا مؤسسات ووجد لها مؤسسات قضت على الربا: هذه الطرق هي: 1 - الزكوات والصدقات. 2 - القرض الحسن. 3 - بيع السلم، والبيع بالتقسيط. 4 - شركة المضاربة. ولقد جاءت آيات الربا بعد الأمر بالصدقات. وذيلت بإنظار المعسر. ففيها إشارة إلى القرض. وجاء بعدها آية الدين، التي فتحت باب السلم، وباب البيع بالتقسيط. المعنى الحرفي للفقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. أي: يا أيها الذين آمنوا إذا داين بعضكم بعضا إلى مدة معلومة، فاكتبوا الدين. وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق، وآمن من النسيان، وأبعد من الجحود. والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. والأمر للندب على قول الجمهور. ويدخل في ذلك بيع السلف. روى مجاهد عن ابن عباس في آية الدين قال: أنزلت في السلم إلى أجل معلوم. وروى البخاري عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه. ثم قرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. كما يدخل في ذلك البيع بالتقسيط والبيع إلى أجل. وقد ذكر ابن عباس الصلة بين هذه الآية، والتي قبلها فقال كما ذكره النسفي: لما حرم الله الربا، أباح السلف. واستدل الحنفية بهذه الآية على اشتراط الأجل في السلم لقوله تعالى فيها: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم». رواه البخاري ومسلم وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ: هل معنى الآية، وليكتب بالعدل كاتب، أو ليكتب كاتب عدل؟. قولان للمفسرين. وعلى القول الثاني يكون معنى النص: وليكتب بين المتداينين كاتب مأمون على ما يكتب. يكتب بالاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب، ولا ينقص. وفيه دليل على أن يكون الكاتب فقيها، عالما بالشروط، حتى يجئ مكتوبه معدلا بالشرع. وفي المعاملات الدولية المعاصرة، وفي المعاملات التجارية المالية، ينبغي أن تراعى في الكاتب شروط أخرى. وفي النص أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وألا يستكتبوا إلا فقيها دينا حتى يكتب ما هو متفق عليه. وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ: أي: ولا يمتنع واحد من الكتاب أن يكتب مثلما علمه الله كتابة الوثائق. لا يبدل، ولا يغير. فليكتب تلك الكتابة، لا يعدل عنها. وَلْيُمْلِلِ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. الإملال والإملاء بمعنى واحد. أي: ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق. لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته، وإقراره به. فيكون ذلك إقرارا على نفسه بلسانه. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ. أي: وليتق- الذي عليه الدين- الله. فلا يمتنع عن الإملاء. فيكون جحودا لحق الآخرين. وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً: أي: ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا في الإملاء، فيكون جحودا لبعض الحق فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ: السفيه هنا هو المجنون .. لأن السفه خفة في العقل، أو المحجور عليه، لتبذيره وجهله بالتصرف. والضعيف هنا هو الصغير. وغير المستطيع هنا هو العاجز عن الإملاء، إما لعي، أو خرس، أو جهل باللغة. فإن كان الذي عليه الحق واحدا من هؤلاء فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. أي: فليمل الذي يلى أمره، ويقوم به بالصدق والحق. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ. أي: واطلبوا أن يشهد لكم على الدين شهيدين من المسلمين، والحرية والبلوغ شرطان مع الإسلام. وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ. أي فإن لم يكن الشهيدان رجلين، فليشهد رجل وامرأتان. قال الحنفية: وشهادة الرجال مع النساء تقبل، فيما عدا الحدود، والقصاص. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ. أي: ممن تعرفون عدالتهم. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى: هذا بيان لحكمة كون المرأتين في باب الشهادة هنا برجل. والمعنى: وذلك من أجل أنه إذا نسيت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى: يقول صاحب الظلال: «أنه لا بد من شاهدين على العقد مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ والرضى يشمل معنيين: الأول: أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة. والثاني: أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد .. ولكن ظروفا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرا ميسورا. فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم؛ فأما حين
لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان .. ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى .. والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة. فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته. ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معها على تذكر ملابسات الموضوع كله. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية. فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما. تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء .. وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة .. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها- حين تكون امرأة سوية- بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الواقع بلا تأثر ولا إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى- إذا انحرفت مع أي انفعال- فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة». وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا أي: ولا يرفض الشهداء إذا دعوا لأداء الشهادة، أو لتحملها أن يفعلوا حتى لا تهلك الحقوق. وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ أي: ولا تملوا أن تكتبوا الدين، أو الحق على أي حال كان الحق، من صغر، أو كبر. قال الحنفية: وفيه دلالة جواز السلم في الثياب. لأن ما يكال أو يوزن، لا يقال فيه الصغير والكبير. وإنما يقال في الذرعي، إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا. أي: ذلك الكتب أعدل عند الله، وأعون على إقامة الشهادة، وأقرب من انتفاء الريب للشاهد، والحاكم، وصاحب الحق. فإنه يقع الشك في المقدار، والصفات. فإذا رجعوا إلى المكتوب زال الشك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها. أي: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا، يدا بيد. فلا بأس ألا تكتبوه. لأنه لا يتوهم فيه، ما يتوهم في التداين. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ: هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا، ناجزا كان، أو إلى أجل. لأنه أحوط، وأبعد من وقوع الاختلاف. والأمر للندب. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ: هذا نهي للكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما. وعن
[سورة البقرة (2): آية 283]
التحريف، والزيادة، والنقصان، أو أنه نهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، ويلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الأجرة في حالة الكتابة بأجر. أو يحمل مئونة مجيئه من بلد إلى آخر. وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ: أي: وإن تضاروا، فإن الضرار مأثم بكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ: في مخالفة أوامره. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ: شرائع دينه. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: لا يلحقه سهو، ولا قصور. وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي: وإن كنتم أيها المتداينون مسافرين، فاستوثقوا بالرهن، بدل الإشهاد والكتب. قال النسفي: لما كان السفر مظنة لإعواز الكتب، والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر، بأن يقيم التوثيق بالارتهان، مقام التوثيق بالكتب والإشهاد. لا أن السفر شرط تجويز الارتهان. وذكر القبض بجانب الرهن دليل على اشتراط القبض حتى يتم الرهن فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به، فلم يتوثق بالكتابة، والشهود، والرهن. فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. أي دينه وسمي الدين أمانة هنا، مع أنه مضمون على خلاف الأمانة، لائتمان الدائن المدين عليه، بترك الارتهان منه. وفي النص تهييج للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له. وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ: بأن لا ينكر حقا، وأن يفي بما عليه. ثم توجه الخطاب للشهود، بقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أسند الإثم إلى القلب، لأن كتمان الشهادة، أن يضمرها في القلب، ولا يتكلم بها. فلما كان إثما مقترفا، مكتسبا بالقلب، أسند إليه. وإذ جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من أعاظم الذنوب. لأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح. ألا ترى أن الإيمان، والكفر. والحسد، والكبر، كلها من أفعال القلب. وهي ما هي في شريعتنا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. من كتمان الشهادة، وإظهارها، وغير ذلك من أعمالكم. فائدة: علق صاحب الظلال على آية الدين بقوله: «وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها
[سورة البقرة (2): آية 284]
أو تؤخر. وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته. وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطا لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية. وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها. وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينهما وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما ... إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة الإيحاء والتوجيه. بل هو أوضح وأقوى. لأن الغرض دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ. ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد. ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون؟ .. اه لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا .. وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. أي: وإن تظهروا ما في أنفسكم، أو تسروه، يحاسبكم به الله فيكافئكم ويجازيكم. قال النسفي: (ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان. لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه. ولكن ما اعتقده، وعزم عليه. والحاصل أن عزم الكفر كفر، وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة. وعزم الذنوب إذا ندم عليه، ورجع عنه، واستغفر منه مغفور. فأما إذا هم بسيئة، وهو ثابت على ذلك، إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره، فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله. فبالعزم على الزنا- مثلا- لا يعاقب عقوبة الزنا فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: من المغفرة، والتعذيب، وغير ذلك. فوائد: 1 - في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد، وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار. فقال ائتني بشهداء، أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت، فدفعها إلى أجل مسمى. فخرج الرجل في البحر، فقضى
حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله. فلم يجد مركبا. فأخذ خشبة، فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة معها إلى صاحبها. ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار، فسألنى كفيلا. فقلت: كفى بالله كفيلا. وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا. فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبا. وإني استودعتكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده. فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا تجيئه بماله. فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا. فلما كسرها، وجد المال، والصحيفة. ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينار. وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟. قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت به. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت. به في الخشبة. فانصرف بألفك راشدا» 2 - قال ابن كثير: جاء في الحديث: «إن من الصدقة أن تعين صانعا، أو تصنع لأخرق». وفي الحديث الآخر: «من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». 3 - وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار. فإني رأيتكن أكثر أهل النار». فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟. قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن». قالت: يا رسول الله: ما نقصان العقل والدين قال: «أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ولا تصلي، وتفطر في رمضان. فهذا نقصان الدين». 4 - ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟. الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». فما الجمع بينه، وبين الحديث الآخر الصحيح: «ألا أخبركم بشر الشهداء؟. الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا». وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم، شهادتهم. وتسبق شهادتهم أيمانهم». وكذا قوله: «ثم يأتي قوم يشهدون، ولا
يستشهدون». الجواب: أن الأول في الشهادة الحق. وأن هذه في شهادة الزور. 5 - رأينا أن الجمهور حملوا الأمر بالإشهاد على البيع الناجز على الندب. ومما يشهد لذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي «أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه. فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم: فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته. فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: «أو ليس قد ابتعته منك». قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل قد ابتعته منك». فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأعرابي وهما يتراجعان. فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني بعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقا، حتى جاء خزيمة. فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة، فقال: «بم تشهد؟». فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة، بشهادة رجلين». 6 - في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. اتجاهان للمفسرين: الاتجاه الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. والقول الثاني: أنها غير منسوخة. وإنما قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بيان لما يكون عليه الحساب. وهو مما يدخل تحت الوسع، ويدخل تحت الكسب. والمهم أن نعرف أن المؤاخذة في العزم ثابتة. وأما الخطرة دون العزم، فالجمهور على أنها معفو عنها. فإذا اتضح هذا، فمسألة النسخ وعدمه، إنما هي مسألة اصطلاحية، تدور حول التخصيص، هل هو نسخ، أو بيان،. مع الملاحظة أن القاعدة الكلية هي أن النسخ يكون في الأحكام، لا في الأخبار. وقد أخذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أمر شديد، حتى فرج الله عنهم بأن أنزل الآيتين بعدها. ومما ورد في ذلك. ما رواه الإمام أحمد، وغيره عن أبي هريرة قال: لما نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... اشتد ذلك على أصحاب رسول الله: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، وقالوا يا رسول الله: كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم؛ سمعنا وعصينا؟. بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير». فلما أقر بها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: آمَنَ الرَّسُولُ ... إلى آخر الآيتين. فلما فعلوا ذلك نسخها الله. وكما قلنا سابقا، إن كلمة النسخ هنا كلمة اصطلاحية. تفيد البيان المقيد، لا أكثر. ولذلك نجد روايات عن ابن عباس تفيد النسخ، وروايات تفيد عدم النسخ. لأن الأمر كما ذكرنا. وممن روي عنه عدم النسخ: مجاهد، والضحاك، والحسن البصري. واختاره ابن جرير. واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة، المعاقبة. وأنه تعالى قد يحاسب؛ ويغفر. وقد يحاسب؛ ويعاقب: بالحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدنو المؤمن من ربه عزّ وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه. فيقول له: هل تعرف كذا؟. فيقول: رب أعرف، أعرف. حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا. وإني أغفرها لك اليوم قال: فيعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه. وأما الكفار، والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (سورة هود). 7 - من الأحاديث التي تدل على أن الله لا يحاسب على ما دون العزم ما رواه أصحاب الكتب الستة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل». وهذا في الخطرة الآثمة إذا رفضها القلب. أما إذا قبلها القلب، وعزم على فعلها، فالجمهور على أنه يأثم بذلك. ولكنه إن تركها لله، فإن الله يأجره على ذلك. روى مسلم عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات، والسيئات. ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده سيئة واحدة».
فصل في موضوع الأموال
والسؤال، لو أنه عزم على السيئة، وحاولها، ولم ينجح في الوصول إليها، الراجح أنه يأثم. ولكن دون إثم الفاعل. وبهذا ينتهي الكلام عن آخر قسم من أقسام سورة البقرة. وبقي الكلام عن خاتمتها. فصل في موضوع الأموال: رأينا أن النظام الإسلامي المالي من أركانه: الإنفاق. ومن معالمه، تحريم الربا. ومن معالمه، المعاملات المنضبطة. ويدخل في الإنفاق، الزكاة، وصدقة الفطر. ويدخل فيه الوقف. ويدخل فيه الإنفاق الواجب. وتدخل فيه التطوعات عامة. إن هذه المعاني عند ما تنطلق في الحياة البشرية، وتأخذ مداها، موجهة بالعلم، وحسن التطبيق. ووضع الأمور في مواضعها. فإن ما يمكن أن يترتب عليها من آثار، لا يمكن إحصاؤها في حل المشكلات، وإنقاذ الأوضاع، وإيجاد حياة اقتصادية نشيطة. فوجوب الإنفاق، وتحريم الربا يضطر أصحاب رءوس الأموال لتشغيلها في السلم، وشركات المضاربة، أو إقراضها القرض الحسن، مما يجعل رأس المال يتحرك، ويحرك في غير ما تأثير ضار على الحياة الاقتصادية، والاجتماعية. فإذا رافق هذا معاملات منضبطة، تضبطها قواعد العدل، والحق الإلهيين من خلال النصوص، ومن خلال الفتوى البصيرة فإن الوضع الاجتماعي، والاقتصادى للأمة، يكون على غاية المتانة. كلمة أخيرة في القسم الثالث: لقد رأينا في هذا القسم كلاما عن المرأة، وكلاما عن الرجل. ورأينا فيه كلاما في الحرب، والقتال، والسياسة. ورأينا كلاما عن شئون مالية، واقتصادية. ورأينا فيه كلاما عن الصلاة والإنفاق. ورأينا فيه كلاما عن الله، واليوم الآخر. وكل ذلك جاء في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. ومجئ ذلك في هذا السياق، يشعرنا أنه لا انفصال بين أركان الإسلام، وبقية الإسلام. وأنه لا انفصال بين التقوى، وبين ما ينبغي أن ينبثق عنها من التزام بالإسلام كله. وفي ذلك كله تصحيح لمفاهيم أكثر الخلق. إنه تصحيح لمفاهيم الذين يتصورون أن الدين الحق منفصل عن الدولة. وإنه تصحيح لمفاهيم الذين يتصورون أن الله- جل جلاله- لا دخل له في شئون هذا العالم. وأنه تصحيح لمفاهيم الذين يتصورون أن التقوى مجرد صلاة فقط، أو إقامة لأركان
خاتمة السورة،
الإسلام فقط. وإنه تصحيح لمفاهيم تضخمت بسببها معان، وضمرت معان، وفي ذلك من مظاهر الإعجاز الكثير. ولكن الإعجاز في هذا القرآن أوسع مدى. خاتمة السورة، وهي آيتان، هما: [سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) مما ورد في فضل هاتين الآيتين: 1 - أخرج مسلم، والنسائي عن ابن عباس- وهذا لفظ النسائي- قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضا فوقه. فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء، ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته». 2 - روى ابن مردويه عن معقل بن يسار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، والمفصل نافلة». 3 - روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ الآيتين من سورة البقرة، فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش».
المعنى
4 - وفي الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة، كفتاه». وقال علي رضي الله عنه: «لا أرى أحدا عقل الإسلام، ينام حتى يقرأ آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة. فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش»، رواه ابن مردويه. المعنى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي: صدق. روى الحاكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية، قال: «حق له أن يؤمن». وهذا إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وَالْمُؤْمِنُونَ: هذا معطوف. على الرسول صلى الله عليه وسلم. أي: والمؤمنون آمنوا. ثم أخبر عن الجميع، فقال: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد، أحد، فرد، صمد. لا إله غيره، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء، والرسل، والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي: يقولون هذا. فهم لا يفرقون بين رسول، ورسول. فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض. بل الجميع عندهم صادقون، بارون، راشدون، مهديون هادون إلى سبيل الخير. وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. أي: سمعنا قولك يا ربنا. وفهمنا. وأطعنا أمرك، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه. فجمعوا بهذا: الإيمان اللساني، والطاعة. والسمع يقتضي علما بما أنزل. والطاعة أثر عن الاستسلام لله ورسوله. وتتمة قولهم: سمعنا وأطعنا كما قصه الله علينا: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: اغفر لنا. يا ربنا، وإليك مرجعنا ومآبنا. فهم يطلبون بعد الإيمان، والعمل: المغفرة، والرحمة، واللطف. ويقرون بالبعث، والجزاء، إقرار المؤمن، الخائف، الوجل، المشفق. بهذه الآية وصف الله المؤمنين هذا الوصف الجامع كما رأينا. فهم مصدقون، سامعون، مطيعون، شاعرون بالتقصير، طالبون للمغفرة، مشفقون من المصير. لقد أحاطت هذه الآية بصفات المؤمنين إحاطة كاملة، شاملة. وذكر ابن جرير أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، قال جبريل: (إن الله قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك. فسل، تعطه ... ). وإذ وصف الله عزّ وجل المؤمنين في الآية السابقة هذا الوصف الجامع. فإنه في الآية
الثانية، وصف شأنه، وعدله. ثم علم المؤمنين أن يدعوه بما يناسب مقامهم، وجلاله. قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. أي: لا يكلف الله أحدا فوق طاقته. وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته بهم، وإحسانه إليهم. فتكليفه لا يكون إلا ضمن القدرة، والطاقة بما يتيسر على الإنسان فعله، دون مدى غاية الطاقة والمجهود وهذا النص هو المبين، أو الناسخ لقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. كما رأينا. أي: هو- جل جلاله- وإن حاسب، وسأل، ولكن- لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه. فأما ما لا يملك الإنسان دفعه من وسوسة النفس، والشيطان، وحديثهما، فهذا لا يكلف به الإنسان. ولكنه يكلف برد ذلك، وعدم قبوله، وكراهيته. وهذا ضمن وسعه. والصلة بين هذا النص، وما قبله، واضحة. فالمؤمنون قاموا بحق ربهم. وربهم لم يكلفهم إلا ضمن طاقتهم. فلم يقوموا بحق الله لولا لطفه بهم. ولو شاء لأعنتهم. ولكنه رحيم، لطيف. ثم بين الله عزّ وجل عدله في معاملة أنفس عباده، فقال: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي: لها ما كسبت من خير. وعليها ما اكتسبت من شر. وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف. وإذ بين الله عزّ وجل لطفه، وعدله، أرشد عباده إلى سؤاله. وتكفل لهم بالإجابة. فعلمهم أن يقولوا: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. أي: لا تؤاخذنا إن تركنا فرضا أو أمرا على جهة السهو أو النسيان. أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا، أو من غير قصد منا ووقعنا في محظور. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. الإصر: هو العبء يأصر صاحبه. أي: يحبسه في مكانه لثقله. فصار المعنى: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا، من الأغلال، والآصار التي كانت عليهم. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. أي: من التكاليف، والمصائب، والبلاء. لا تبتلنا بما لا قبل لنا به. وَاعْفُ عَنَّا. أي: امح سيئاتنا بيننا وبينك، ومما تعلمه من تقصيرنا وزللنا وَاغْفِرْ لَنا. أي: واستر ذنوبنا فيما بيننا وبين عبادك. فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة. وَارْحَمْنا. بأن توفقنا فيما يستقبل فلا توقعنا بذنب آخر. وارحمنا بأن تثقل ميزاننا مع إفلاسنا. ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم.
فوائد
وأن يعصمه، فلا يوقعه في نظيره. أَنْتَ مَوْلانا. أي: أنت ولينا، وناصرنا. وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وإذ كنت مولانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك. فانصرنا عليهم. واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة. وكان معاذ بن جبل إذا ختم البقرة قال: آمين فاللهم آمين. أي خاتمة أعظم من هذه الخاتمة! التي أحاطت بصفات أهل الإيمان، ووصفت الله بما يليق بذاته، من فضل وعدل. وعلمتنا العبودية لله بهذه الدعوات التي أحاطت بالخير كله. فلئن كانت الآيات الأولى في سورة البقرة، وصفت المتقين. فقد ختمت السورة بتبيان حال المؤمنين. فافطن للصلة بين البداية، والنهاية بين قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... في البداية وبين قوله تعالى في النهاية: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. بين قوله تعالى في البداية وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وبين قوله تعالى في النهاية آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. بين قوله تعالى في البداية: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وبين قوله في النهاية، واصفا المؤمنين: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وافطن للصلة بين سورة البقرة كلها، وقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. وافطن لهذه الدعوات في نهايتها بعد تلك التكليفات فيها. فوائد: 1 - قد استجاب الله لهذه الأمة، هذه الدعوات التي وردت في آخر سورة البقرة. وقد ورد في ذلك أكثر من حديث صحيح. منه ما يفيد أن الله عزّ وجل يقول بعد كل دعوة: (نعم). ومنه ما يفيد أن الله عزّ وجل يقول بعد كل دعوة: (قد فعلت). 2 - روى ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والطبراني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». 3 - قال ابن كثير: (وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
كلمة عن سورة البقرة
«بعثت بالحنفية السمحة». 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. ينقل ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم من قول مكحول فيما يدخل تحتها: (العزبة، والغلمة) أي العزوبة، وفرط الشهوة. وهذا يعني أن مكحولا يرى، أن أشد ما يمتحن به الانسان، فرط الشهوة، مع عدم تيسر الزواج. ولنتذكر في هذه الحالة، أن الصوم حل. يقي المسلم جموح الشهوات. كلمة عن سورة البقرة 1 - بعد أن انتهينا من استعراض سورة البقرة. يحسن أن نتحدث عنها باختصار. رأينا أن سورة البقرة تتألف من مقدمة، وثلاثة أقسام، وخاتمة. أما المقدمة: فهي الآيات العشرون الأولى. وفيها أقسام الناس حسب التقسيم الرباني الإسلامي: متقين، وكافرين، ومنافقين، وصفة كل منهم. وأما القسم الأول: فمن الآية (21) إلى نهاية الآية (167). وفيها دعوة عامة إلى الناس جميعا كي يسلكوا الطريق الموصل إلى تقوى الله. ويتركوا كل ما يتاني ذلك. وأما القسم الثاني: فمن الآية (168) إلى نهاية الآية (207). وهو استمرار للقسم الأول في كونه دلالة على التقوى، وتفصيلا في شأنها، وتبيانا لأركانها، وشروطها، وما يدخل فيها. وموقف الناس منها. وغير ذلك من معان. وأما القسم الثالث: فمن الآية (208) إلى نهاية الآية (284). وفيه دعوة إلى الدخول في الإسلام كله. وتبيان لكثير من شرائع الإسلام. وتبيان ما يلزم لإقامة الإسلام كله. وفيه التوجيهات الرئيسية في قضايا المال. وفيه الملامح الرئيسية لنظام الاقتصاد في الإسلام. النظام القائم على الصدقات. والنظام غير الربوي. والنظام القائم على التعامل المنضبط. مع تقديم المالكية لله. ثم تأتي الخاتمة التى يدخل فيها هذا كله. إذ مرجع هذا كله إلى الإيمان، والسمع والطاعة والتوبة من التقصير. وهذا الذي عرضته الآية الأولى في الخاتمة، ومرجع ما مر كله يعود إلى التكليف المستطاع للإنسان. وأن هذا التكليف بسببه يكون الجزاء،
والعقاب. وهذا الذي ذكرته الآية الثانية من الخاتمة. وهذا والذي قبله، لا يتأتى إلا بعبودية كاملة، وتوفيق من الله وهذا الذي علمتنا إياه الدعوات. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. لقد جمعت هذه الدعوات الخاتمة، كل التطلعات التي يتطلع إليها المؤمنون. وكان ذلك ختام السورة. 2 - ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة قوله: «إن كادت لتستحصي القرآن كله». وقد رأينا خلال استعراض السورة، أنها استوعبت من المعاني ما لا يحاط به. ولكن الأمر بالنسبة لسورة البقرة، أوسع مما عرضناه فقد رأينا أن هذا القرآن يتألف من أربعة أقسام: قسم الطوال. وقسم المئين. وقسم المثاني. وقسم المفصل، كما ورد في حديث حسن. وقد رأينا في أول هذا التفسير، كيف أن بقية قسم الطوال مرتبة على نسق معين، مرتبط بنفس الترتيب الموجود في سورة البقرة. فسورة آل عمران، تفصيل لمعان جاءت في أول البقرة. وسورة النساء، تفصيل لمعان جاءت بعد ذلك. وهكذا قل في المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة. وسنرى أن قسم المئين يتألف من ثلاث مجموعات. كل مجموعة تفصل في محاور من سورة البقرة على ترتيب وتسلسل موجودين في سورة البقرة. ثم يأتي قسم المثاني وهو يتألف من مجموعات كثيرة، كل منها يفصل في محاور من سورة البقرة على ترتيب وتسلسل موجودين في سورة البقرة. وكذلك قسم المفصل. وسنرى ذلك في هذا التفسير واضحا دون أن نتكلف في شأنه، أو نتعسف. وبهذا كله يظهر لنا كيف تستوعب سورة البقرة معاني القرآن. وبهذا كله يظهر نوع من أنواع الإعجاز في القرآن. وما أكثر أنواع الإعجاز، وما أكثر المعجزات في هذا القرآن. وسنرى بشكل واضح، كيف أن كل مجموعة سور، ستعرض معاني بتسلسل خاص ضمن قاعدة كلية. وسنرى كيف أن بعض المعاني نتيجة لذلك عرضت على أشكال كثيرة، وبطرق عرض متعددة. وسنرى أن لكل مجموعة خصائصها، مع اشتراك الجميع في خصائص واحدة، وكل ذلك سنراه في هذا التفسير بإذن الله. ونسأل الله أن يجعلنا كلنا لله. ذواتنا، وأعمالنا، وأقوالنا، وكل شئ فينا.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم
نحن نعتقد أن هذا التفسير انفرد بنظرية جديدة في فهم الوحدة القرآنية- في علمنا- فلقد كان المفسرون على اتجاهات متعددة في هذا الموضوع، بعضهم أهمله كلية، وبعضهم تكلم فيه ولكن في حدود وحدة السورة، وبعضهم تكلم فيه ولكن في حدود الوحدة الموضوعية الكلية للقرآن، بمعنى أن المعاني القرآنية تتكامل ولا تتعارض، وبعضهم تكلم فيه من حيث إن نهاية السورة السابقة لها صلة ببداية السورة اللاحقة، ونحن مع ملاحظتنا لهذا كله نرى أن هناك شيئا آخر قد غفل عنه المفسرون وحاولناه في هذا التفسير، ونعتقد أن هذه هي الميزة لهذا التفسير، إذ ما من شئ فيه إلا ويمكن أن يشاركنا فيه غيرنا، فإذا زاد في جانب فلربما نقص في جانب آخر، ولقد تحدثنا في مقدمة المجلد الأول عما استهدفناه في هذا التفسير بل في السلسلة كلها فلا نعيده. وفي سورة البقرة حاولنا قدر الإمكان أن نبرز وحدة السورة، ولكنا من سورة آل عمران سنحاول أن نبرز وحدة السورة مع إبرازنا لصلة هذه السورة في السياق القرآني العام، فلقد مر معنا من قبل أنه من خلال السنة، ومن خلال المعاني يتضح لنا أن هذا القرآن أربعة أقسام: قسم السبع الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل، وأن قسم السبع الطوال ينتهي بنهاية سورة براءة، فهذا القسم في الحقيقة ثمانية سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة. ومر معنا أن الأنفال وبراءة تشبهان أن تكونا سورة واحدة؛ ولذلك فإنه لم يفصل بينهما بالبسملة. وكنا ذكرنا كذلك من قبل، أن السور اللاحقة لسورة البقرة من قسم الطوال، تفصل في المعاني التي وردت في سورة البقرة. فمما ذكرناه هناك أن آل عمران. تقابل الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، وكما أن هذه الآيات مبدوءة ب الم، فإن «آل عمران» مبدوءة ب الم، وكما أن هذه الآيات مختومة بكلمة الفلاح: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فإن سورة آل عمران مختومة بكلمة الفلاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وعلى هذا، فسورة آل عمران تلقي أضواء التفصيل على الآيات الأولى من سورة البقرة. وسورة النساء تقابل بعد ذلك في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ونلاحظ أن سورة النساء مبدوءة ب
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. وليلاحظ الشبه بين آية البقرة وبداية سورة النساء. والمائدة بعد ذلك تقابل في سورة البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... ونلاحظ أن سورة المائدة مبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. والأنعام بعد ذلك تقابل في سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... ويلاحظ أن سورة الأنعام مبدوءة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ... والأعراف بعد ذلك تقابل في سورة البقرة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ويلاحظ أن سورة الأعراف مبدوءة بقوله تعالى: المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .... والأنفال وبراءة- وهما في موضوع واحد- يقابلان في سورة البقرة قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .... بعد آية فرضية القتال، ويلاحظ أن سورة الأنفال مبدوءة بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ .... ثم يكون مضمون سورتي الأنفال وبراءة في معاني القتال. فأنت تلاحظ ملاحظة أولية- ستتضح لك فيما بعد- أن هذه المجموعة تلقي أضواء على آيات في سورة البقرة بنفس الترتيب الموجود في سورة البقرة، ومن ثم ندرك بعضا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سورة البقرة: «إن كادت لتستحصي الدين كله» وندرك سرا من أسرار الإعجاز في هذا القرآن العظيم. وسيتضح لنا من خلال تفسير بقية السبع الطوال هذا المعنى بشكل أعمق. على أن هذا التفسير وإن كان يركز على موضوع الوحدة القرآنية، والسياق القرآني العام، فهو كذلك يركز على وحدة السورة، وعلى إبراز سياقها الخاص، بل إن هذه النظرية التي اعتمدناها في موضوع الوحدة القرآنية، أعطت السياق الخاص لكل سورة آفاقا جديدة. إن لهذا القرآن ملامح عامة مشتركة، وله وحدته وترتيبه، ثم إن لكل سورة من سوره ملامحها الخاصة بها، وسياقها الخاص بها، وقد عبر صاحب الظلال عن
الشخصية الخاصة لكل سورة آنق تعبير- وهو يتحدث عن إحدى السور- بقوله: «إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا .. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة، أن تتجمع الموضوعات في كل سورة، وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها، تبرز فيه ملامحها، وتتميز به شخصيتها كالكائن الحي المميز السمات والملامح، وهو- مع هذا- واحد من جنسه على العموم. ونحن نرى في هذه السورة- ونكاد نحس- أنها كائن حي، يستهدف غرضا معينا، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل .. والفقرات والكلمات في السورة، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها- كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن- إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي، المعروف السمات، المميز الملامح، صاحب القصد والوجهة، وصاحب الحياة والحركة، وصاحب الحس والشعور!» اهـ. وسنحاول في هذا التفسير، أن نبذل جهدا متوازنا، لإبراز الوحدة القرآنية والسياق العام، مع إبراز وحدة السورة وسياقها الخاص، مع محاولتنا تفهيم القرآن بالقدر المستطاع لنا، مع التركيز على قضايا بعينها، وعلى ضوء ذلك، نسير على بركة الله- عزّ وجل- وهذا أوان الشروع في السورة الثانية من قسم الطوال.
سورة آل عمران
سورة آل عمران وهي السورة الثالثة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من قسم الطوال وآياتها مائتان آية وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم
كلمة في سورة آل عمران
كلمة في سورة آل عمران: كنا لاحظنا ملاحظة مبدئية، أن الآيات الأولى في سورة البقرة، بدأت بقوله تعالى: الم. وأن تلك الآيات التي وصفت المتقين في سورة البقرة، انتهت بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وأن سورة آل عمران مبدوءة ب الم ومنتهية بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فآخر آية فيها هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وقلنا كذلك مبدئيا: إن سورة آل عمران تفصل في الآيات الأولى من سورة البقرة. فإذا كان الكلام عن المتقين في سورة البقرة، قد استتبع الكلام عن الكافرين والمنافقين، حتى جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ.* فإننا كذلك نفترض أن سورة آل عمران يستتبع الكلام فيها عن صفات المتقين أن يكون فيها تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة، أي لما ورد في العشرين آية الأولى. هذا كله ندعيه وعلينا أن نأتي بالبرهان. لنلاحظ الآن بعض الأمور: أول آيتين في البقرة هما: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. فههنا حديث عن الكتاب مباشرة وليس فيهما حديث عن منزل الكتاب، والملاحظ أن سورة آل عمران تبدأ بالحديث عن منزل الكتاب سبحانه: الم* اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. كما نلاحظ أنه بعد آيات يأتي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ .... وبعد الآيتين الأوليين من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. والملاحظ أن القسم المبدوء بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ .... من آل عمران يرد فيه قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. فكأنه فصل من فصول الإيمان بالغيب تفصل فيه سورة آل عمران، وبعد الآية الثالثة من البقرة يأتي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. والملاحظ أن الآية قبل الأخيرة في سورة آل عمران هي: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. ألا ترى أن هذه النقاط العلام الواضحة تدل على صحة ما ذهبنا إليه؟! ولكن الأمر سنرى براهينه
بشكل أوضح. والآن نريد أن نذكر لك شيئا جديدا حول الوحدة القرآنية لم نذكره من قبل: إن مقدمة سورة البقرة هي محور سورة آل عمران كما ذكرنا، ولكن مقدمة سورة البقرة لها امتداداتها في سورة البقرة نفسها، فمثلا في مقدمة السورة ورد قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. ومن امتدادات هذا المعنى قوله تعالى: ... وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. ومن امتداداته أيضا قوله تعالى: . وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ .... وفي مقدمة السورة ورد قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... ومن امتدادات هذا المعنى قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. وقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ .... وإذن ففي سورة البقرة نفسها آيات تفصل آيات. فإذا اتضح ذلك فلنقل كلمة أخرى سيأتي دليلها: إن سورة آل عمران محورها مقدمة سورة البقرة، ولكنها تفصل وتبني على المحور وامتداداته. ومن ثم فإن الحوار الذي جرى في سورة البقرة مع أهل الكتاب- في دعوتهم إلى الإيمان- نجد في موضوعه- قسما برأسه في آل عمران، ومبنيا على الحوار الذي تم في سورة البقرة. فمثلا: في سورة البقرة كلام عن النسخ. وفي سورة آل عمران ضرب مثل على نوع من النسخ حدث في حياة يهود: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ. وقال تعالى في سورة البقرة: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. وفي سورة آل عمران: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وهكذا نجد أن سورة آل عمران تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وامتداد معاني المقدمة في السورة كلها. فالأمر بالنسبة للوحدة القرآنية أوسع مما صورناه مبسطين في أول هذا التفسير، وهو شئ لا ينقضي منه العجب كما سنرى. وحتى الآن نعتبر أن كل ما قلناه دعوى وعلينا أن نقيم عليها البرهان، ونكمل دعوانا فنقول: إن سورة آل عمران تنقسم إلى خمسة أقسام، واضحة المعالم، وقد دلنا على ذلك: المعاني، وبعض المعالم. فالقسمان الأولان نهايتهما متشابهة، والقسم الثالث نهايته
مشابهة لبدايته، والقسمان الأخيران بدايتهما متشابهة: القسم الأول: يمتد من الآية الأولى إلى نهاية الآية (32) وخاتمته: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. القسم الثاني: ويمتد من الآية (33): إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ... وينتهي بنهاية الآية (63) التي خاتمتها: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. لاحظ التشابه بين نهايتي القسمين!. القسم الثالث: ويمتد من الآية (64) إلى نهاية الآية (99). بدايته قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ .... ونهايته قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. لاحظ أن البداية والنهاية فيها: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ.* القسم الرابع: ويمتد من الآية (100) إلى نهاية الآية (148) وبدايته. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. القسم الخامس: وبدايته من الآية (149): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وينتهي بنهاية السورة، لاحظ التشابه بين بدايتي القسمين!! وسيأتي البرهان والتفصيل فيما بعد. فلنبدأ- على بركة الله- تفسير السورة، وقد رأينا من قبل الأحاديث الواردة في فضلها مع سورة البقرة. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو- غيايتان- أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان عن أهلهما يوم القيامة». وكان سعيد بن جبير يروي عن عمر قوله: «من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان- أو كتب- من القانتين». وكان يزيد بن الأسود الجرشي يحدث: أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما في ليلة برئ من النفاق حتى يصبح. قال فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه.
القسم الأول من سورة آل عمران
القسم الأول من سورة آل عمران يمتد هذا القسم من الآية (الأولى) حتى نهاية الآية (32)، وهو يتألف من مقطعين: المقطع الأول: وهو ثمان عشرة آية بدايته: الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. ونهايته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ. لاحظ أن بداية المقطع حديث عن قيوميته- جل جلاله- وأن خاتمته حديث عن قيوميته كذلك. والمقطع الثاني: بدايته: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ .... ونهايته: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وبين المقطع الأول والثاني تلاحم عجيب سنراه، ومن ثم فإنهما يشكلان قسما واحدا. والقسم كله يفصل في مقدمة سورة البقرة- كما سنرى- فلنعرض مقطعيه: المقطع الأول بسم الله الرحمن الرحيم [سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
[سورة آل عمران (3): الآيات 7 الى 14] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
كلمة في المقطع
[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 18] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) كلمة في المقطع: (1) يتألف المقطع من ثلاث فقرات، فقرة تتحدث عن القرآن وإنزاله ومنزله ونوعي آياته، والموقف الصحيح منهما، وفقرة تتحدث عن الكافرين، وفقرة تتحدث عن تزيين الحياة الدنيا للناس، وتبيان أن الآخرة خير لمن كان تقيا. والمقطع يبدأ بالكلام عن وحدانية الله وقيوميته، وينتهي بهذا المعنى، وهذا الذي دلنا على البداية والنهاية، وكما تحدثت البداية والنهاية عن الوحدانية والقيومية، فقد تحدثت البداية والنهاية عن عزته- جل جلاله- وحكمته. ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته: إنزال الكتب، وامتحان الخلق بمعانيها ومحاسبتهم عليها، ومعاقبة الكافرين وإثابة المؤمنين. ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته: أن ينصر المؤمنين على الكافرين في الدنيا والآخرة، ويعذب الكافرين في الدنيا والآخرة. ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته: تزيين الحياة الدنيا للناس لتقوم هذه الحياة! وليبتلي بذلك خلقه وليمحص أهل التقوى من غيرهم!. (2) الفقرة الأولى ذكرت موقف أهل الإيمان من هديه المنزل، وتوعدت الكافرين، والفقرة الثانية ذكرت موقف الكافرين من هديه وما يستحقونه بسبب ذلك، وذكرت الفقرة الثالثة تزيين الحياة الدنيا، فكأن الفقرة الثالثة فيها تعليل لسبب كفر الكافرين، ومن ثم جاءت الآيات- بعد ذلك- لتنهض بهمة المؤمنين إلى الله. (3) قلنا: إن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، فلنلاحظ الآن ما يلي: في مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وفي الفقرة الأولى من المقطع الأول جاء كلام عن منزل القرآن، وأدب الاهتداء بالقرآن في اتباع المحكم، والتسليم للمتشابه، والدعاء لله- عزّ وجل- بالهداية. وفي مقدمة سورة البقرة جاء كلام عن الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وفي الفقرة الثانية- من المقطع الأول من سورة آل عمران- كلام عن الكافرين وما أعد الله لهم من العذاب، واستحقاقهم عذاب الدنيا؛ وأمر للمؤمنين في أنواع من الخطاب يخاطبون بها الكافرين. وفي مقدمة سورة البقرة تأتي فقرة عن المنافقين بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ. والفقرة الثالثة من هذا المقطع هي: زُيِّنَ لِلنَّاسِ .... وقد وصف المتقون في مقدمة سورة البقرة بالاهتداء بالقرآن، وبالإيمان بالغيب، وبإقام الصلاة، وبالإنفاق، وقد جاء في أواخر المقطع ما هو تفصيل لهذه الصفات: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. فالمقطع إذن فصل في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل. (4) قلنا: إن معاني مقدمة سورة البقرة لها امتدادات في سورة البقرة نفسها وهاهنا لنفصل قليلا: بعد المقدمة في سورة البقرة يأتي قوله تعالى في وصف النار: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وكأن هذا المعنى امتداد للحديث عن الكافرين في المقدمة. وهاهنا يقول الله- عزّ وجل- عن الكافرين في آل عمران: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وبعد المقدمة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. وذلك امتداد للكلام عن المتقين في أول السورة. وهاهنا يأتي تفصيل للإيمان والعمل الصالح والجزاء قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ. وفي سورة البقرة آية البر التي فصلت في وصف المتقين فكأنها امتداد لمقدمتها، فذكرت الصبر والصدق من صفات المتقين، وهاهنا يأتي تفصيل لذلك كله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
فصل في الحروف التي بدئت بها بعض السور القرآنية
خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. ومن السياق نفهم أن من لم تجتمع له مجموعة هذه الخصال لا يستطيع أن يتخلص من أسر شهوات الحياة الدنيا فيضبطها على أمر الله. ونحب قبل أن نبدأ عرض المعاني العامة للمقطع أن نعقد فصلا نتحدث فيه عن بعض أقوال المفسرين في الحروف التي بدئت بها بعض السور استكمالا لما كنا قد ذكرناه من قبل. فصل في الحروف التي بدئت بها بعض السور القرآنية: قلنا من قبل: إن مجموع ما ذكره المفسرون في شأن الحروف، لا يعدو أن يكون من باب تسجيل الملاحظات حولها دون أن يكون تفسيرا لها، ولم يزل المفسرون ولا يزالوا يسجلون ملاحظات. ومن أهم الملاحظات التي سجلت حول هذه البدايات ثلاث ملاحظات: الأولى: أن فيها إشارة إلى الإعجاز. والثانية: وهي امتداد لقضية الإعجاز أنها تشير إلى نسبة ورود الأحرف المبدوءة بها السورة بالنسبة لسور أخرى لم ترد في أوائلها هذه الأحرف. والثالثة: أن هذه الأحرف جزء من فواتح السور التي ندرك من خلالها، ومن خلال معان أخرى مفاتيح الوحدة القرآنية، مما سنراه في هذا التفسير. ونزيد هاهنا فنقول: إن بعضهم اعتبر كل حرف من هذه الأحرف، فيه إشارة إلى كلمات. فالألف مثلا تشير إلى آلاء الله، واللام تشير إلى لفظ الجلالة «الله» وهكذا. وذهب بعضهم إلى أنها أسماء للسور التى وردت فيها، وذهب بعضهم إلى أنها تشير إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل، وأول من حاول أن يبني على هذا الفهم، اليهود في زمن النبوة، إذ ظنوا أن في ذلك إشارة إلى مدة أجل الإسلام، كما سنرى الرواية في
ذلك، وقد بنى بعضهم على هذا الاتجاه واستخرج أمورا، ومن كلام الألوسي: «ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبد السلام: أن عليا رضي الله عنه استخرج وقعة معاوية من (حم عسق) واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره (فتح بيت المقدس) سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ. «وهناك أقوال كثيرة أخرى يذكرها المفسرون: من أنها لإيقاظ السامع أو التالي، أو للإشارة إلى ما في هذا القرآن من جديد غير معتاد. ولبعض الكفرة رأي في هذا الشأن، نسجله ليعرف ويتأمل، وهو أن هذه الأحرف تحدد جرس السورة، فهي بمثابة المفتاح لطريقة الأداء. وما من أحد يدعي أنه أصاب في شأنها مراد الله فيها، ولكن في كل ما قيل ويمكن أن يقال- مما يستطيع أصحابه أن يدللوا عليه- تظهر بعض أسرار هذه الحروف، ويظهر بذلك بعض أسرار الإعجاز. ومن كلام الألوسي فيها: «ومن عجائب هذه المفاتح أنها نصف حروف المعجم على قول، وهي موجودة في تسع وعشرين سورة، عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة». اهـ. وبعد أن عرض ابن كثير للأقوال الكثيرة في هذه الفواتح، رجح أن يكون المراد منها الإشارة إلى الإعجاز والتحدي، ثم ختم كلامه عنها برد كلام من زعم أنها دالة على معرفة المدد، فلننقل كلامه لأن فيه سردا لما نقل عن اليهود في هذا الشأن: قال ابن كثير: «وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن زياد قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فقال: أنت سمعته. قال: نعم فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك الم* ذلِكَ الْكِتابُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: «نعم». قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره؟ فقال نعم، قال ما ذاك قال المص قال هذا أثقل وأطول. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون (¬1) فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة: هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: ما ذاك؟ قال: الر. قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم» قال ماذا؟ قال: «المر» قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات أنزلت فيهم هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك- إن كان صحيحا- أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم!!!. أقول: إن حسبنا مجموع هذه الأحرف بحساب الجمل- على بعض اتجاهات أهله- فإن مجموعها يكون (2980) ألفان وتسعمائة وثمانين عاما. وعلى فرض صحة الحديث، فالحديث لا دليل فيه كما قال البيضاوي- معلقا على رواية أبي العالية-: والحديث لا دليل فيه لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجبا من جهلهم .. ¬
المعنى العام للمقطع
أقول: وسنرى كيف أن ابن كثير سينقل نقلا غريبا أيده الواقع عند تفسير (حم عسق) في سورة الشورى مما يجعلنا لا نغلق البحث في هذا الباب. ولننتقل إلى ذكر المعنى العام للمقطع الأول من القسم الأول من سورة آل عمران: المعنى العام للمقطع: - في الآية الثانية بعد الم يخبر الله- عزّ وجل- عن وحدانيته واتصافه بالحياة، والقيومية، فهو قائم بذاته، وغيره لا يقوم إلا به- تعالى- هو لا يفتقر لغيره، وغيره مفتقر إليه، فهو وحده الإله، ومن مقتضى ألوهيته وقيوميته ما ذكره في الآية الثالثة. - يخبر تعالى في الآيتين الثالثة والرابعة أنه أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن هذا الكتاب يصدق الكتب المنزلة قبله من السماء، وكما أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، أنزل التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى عليهما السلام، من قبل أن ينزل هذا القرآن، من أجل هداية الناس؛ وهذا من مقتضى قيوميته أن يهدي عباده ويبين لهم الطريق، وكما أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس من قبل، فقد أنزل هذا القرآن هاديا، فارقا بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما ذكر الله فيه من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، القاطعة، وبينه ووضحه وفسره ليهدي ويرشد وينبه، وإذا كان هذا مقتضى ألوهيته ووحدانيته وقيوميته؛ فقد وجب على الخلق أن يهتدوا ويؤمنوا ويعلموا؛ فمن لم يفعل فقد استحق العذاب. ومن ثم ذيلت الآية بتقرير استحقاق العذاب الشديد يوم القيامة للذين جحدوا بآيات الله، وأنكروها، وردوها- وما ردوها إلا بالباطل- ثم وصف الله- عزّ وجل- ذاته بالعزة، فهو منيع الجناب، عظيم السلطان، ووصف ذاته بالانتقام لمن كذب بآياته، وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام. - وفي الآية الخامسة يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض، لا يخفى عليه شئ من ذلك، وهذا مرتبط بموضوع الألوهية والقيومية، فالإله الحق لا بد أن يكون عليما بكل شئ، وبدون علم لا تكون القيومية. - ويدلل تعالى- في الآية السادسة- على إحاطة علمه، بتصويرنا في أرحام أمهاتنا كما يشاء، من حسن وقبح وصفات وخصائص تحير عقل المتأمل!! فأي علم عظيم
علمه جل جلاله؟!! وكما دل على إحاطة علمه في الآية الخامسة بتصويرنا في الأرحام دلل في الآية السادسة على إحاطة علمه بإنزاله هذا القرآن على ما هو عليه؛ إذ أخبر في الآية السابعة أنه أنزل هذا القرآن وجعل آياته نوعين. النوع الأول: الآيات المحكمات، أي: البينات الواضحات الدلالة التي لا تلتبس على أحد. والنوع الآخر: الآيات التي فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس- أو بعضهم- وذلك امتحان لعباده من أجل أن يردوا ما اشتبه إلى الواضح منه، ويحكموا محكمه في متشابهه. وذلك لأنه أودع في هذا الكتاب من الكمالات، والعلوم ما لا يحيط به إلا هو، فكانت عباراته على ما ذكر. وإذن ففي الآية تدليل على إحاطة علمه. وكما قلنا: فإن إحاطة العلم هي مقتضى الألوهية والقيومية فلنر كيف كان موقف الناس من كتابه؟: أما المنحرفون، الضالون، الزائغون، فهؤلاء يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه، تعمدا منهم، لأنهم يستطيعون أن يحرفوا المتشابه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه إليه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، وإنما يفعلون ذلك من أجل تضليل الناس، ومن أجل حمل القرآن على أهوائهم، فيفسرونه بالهوى لا بالعلم. وأما المهتدون فهم الراسخون في العلم، الذين يردون المتشابه إلى المحكم، ويقرون بأن المحكم والمتشابه من عند الله، والجميع حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس وحي الله بمختلف ولا بمتناقض، ثم ذيل الله- عزّ وجل- الآية بتبيان أن أصحاب العقول السليمة والفهوم المستقيمة هم الذين يفهمون، ويعقلون المعاني على وجهها، ويتدبرون ويقفون عند الحدود، فهؤلاء هم الذين أعطوا الألوهية حقها، وهؤلاء كما أقروا للقرآن- بما فيه من حق- فإنهم كذلك يقولون داعين الله- عزّ وجل- بدعوتين ذكرتهما الآيتان الثامنة والتاسعة في الدعوة الأولى يطلبون من الله أن لا يميل قلوبهم عن الهدى بعد إذ أقامها عليه، فيكونوا كالذين في قلوبهم زيغ يتبعون بسببه المتشابه، كما يطلبون من الله أن يهبهم رحمة تسعهم في دنياهم وأخراهم، مثنين على الله باسمه الوهاب. وإذ طلبوا من الله- عزّ وجل- رحمة في أحوج ما يكون الخلق إلى رحمة الله يوم القيامة، فإنهم في دعوتهم الثانية لم يقولوا سوى: يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم، وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلا بعمله، وما كان
عليه في الدنيا من خير وشر، أي يا ربنا نحن نعلم هذا ونقر به، لذلك استجب ما دعوناك به فى دعوتنا الأولى: أن لا تزغ قلوبنا وأن ترحمنا. فهذا حال الراسخين في العلم أصحاب العقول والأفهام، الذين يعرفون لله ألوهيته ووحدانيته وقيوميته وعزته وانتقامه وإحاطة علمه، هكذا يكون موقفهم من كتابه وهذا حالهم في الخوف منه. إن معرفة الله مرتبطة بمعرفة هديه- المتمثل بكتابه- مع الإيمان به والتسليم له، ومن لم تجتمع له هذه المعاني لا يكون عارفا بالله، إذ كيف يؤمن بالله وألوهيته وقيوميته وعلمه، وهو يتصور أن الله لا يتدخل في شئون خلقه ولا يهديهم، وهو ينكر ما أنزل الله ويكذبه؟!! ولذلك نلاحظ أنه بعد ما ذكر الموقف الصحيح لأهل الإيمان منه- جل جلاله- ومن كتابه، هدد الكافرين في الآيتين العاشرة والحادية عشرة، فأخبر عن الكفار بأنهم وقود النار، وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم عند الله، فتمنع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، بل يهلكون ويعذبون في الدنيا، ويعذبون يوم القيامة، كما جرى لآل فرعون، ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاءوا به؛ إذ إن من صفات الله أنه شديد العقاب، أي: شديد الأخذ، أليم العذاب، لا يمنع منه أحد، ولا يفوته شئ؛ بل هو الفعال لما يريد، الذي غلب كل شئ؛ لا إله غيره، ولا رب سواه، وإذ بين الله- عزّ وجل- أن الكافرين يستحقون عقوبته في الدنيا والآخرة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم- وهو أمر لنا- أن يقول للكافرين: أن عليهم الغلبة في الدنيا- وهذا بما استحقوا من عقوبة الله لهم في الدنيا- ولهم في الآخرة عذاب جهنم. وفي الآية الثالثة عشرة ذكر الله- عزّ وجل- دليلا على أن الكافرين مغلوبون بما حدث يوم بدر من آيات، كان من آثارها أن غلب المؤمنون- على قلتهم- الكافرين. وفي الآية الرابعة عشرة يخبر تعالى عما زين للناس من الملاذ من النساء والبنين، وبدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أشد، ثم ذكر ما زين للناس من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، والأراضي المتخذة للغراس والزراعة، ثم بين أن هذا إنما هو زهرة الحياة الدنيا، وزينتها الفانية الزائلة، وأن الله عنده حسن المرجع والثواب. هذا مضمون الآية الرابعة عشرة؛ فما الصلة بينها وبين المقطع عامة؟. رأينا أن المقطع يدور حول موضوع معين هو وحدانية الله وقيوميته، وأن من آثار ألوهية الله وقيوميته أنه أنزل الكتب. وهذه الآية مرتبطة بهذا المعني: فمن آثار قيومية الله أن زين للناس حب الشهوات؛ حتى تقوم هذه الحياة الدنيا؛ فلولا حب النساء ما كان زواج، ولو لم يكن زواج ما كانت الحياة الدنيا، ولولا حب البنين ما ربى أحد أولاده؛ وبالتالي
تضيع الذرية، ولولا حب الذهب والفضة، والأنعام والحرث، ما كان عمل، ولولا العمل ما قامت الحياة، ولكن هذه الشهوات تحتاج إلى أن توضع لها حدود حتى لا تطغى عن الحد الذي تحتاجه عمارة الدنيا؛ لأنها إذا طغت فلم تخضع لقيود أدت إلى عكس ما خلقت من أجله، ومن ثم أنزل الله كتبه لتقوم هذه الشئون ضمن الحدود السليمة الصحيحة. وللآية صلة أخرى في السياق سنراها. وفي الآيات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة يرفع الله همتنا إلى أن نكون طلاب آخرة، بتبيان ما أعده لأهل طاعته في جناته، كما بين متى نكون أهلا لذلك. يقول تعالى في هذه الآيات: قل يا محمد للناس أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها؟ جنات تخترق بين جوانبها وأرجائها الأنهار، من أنواع الأشربة من العسل، واللبن، والخمر، والماء، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أعدها للمتقين، وجعلها لهم ماكثين فيها أبد الآباد، لا يبغون عنها حولا، ولهم فيها أزواج مطهرة من الدنس، والخبث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ومع هذا فإن لهم أن يحل الله عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا. ومن شأن الله- سبحانه- أنه بصير بعباده، يعطي كلا بحسب ما يستحق من العطاء، وقد بين أن هؤلاء إنما استحقوا (¬1) هذا كله بسبب كونهم من المتقين، ثم وصف هؤلاء المتقين، بأنهم يدعون الله طالبين غفرانه، والعتق من النار، وأنهم متصفون بالصبر، والصدق، والطاعة، والخضوع، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار. وهذه الآيات الثلاث مرتبطة كذلك بموضوع المقطع، فكما أن عمارة الحياة الدنيا تحتاج إلى وحي من الله، فإن دخول الجنة والوصول إلى الآخرة يحتاج إلى وحي يبين للإنسان الطريق، فإذا اتضحت هذه المعاني، عرفنا الصلة بين هذا المقطع والآيات الأولى من سورة البقرة التي تصف المتقين، بأن القرآن هداهم، وأنهم يؤمنون بكل ما أنزل الله، ثم يختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بما بدأه به من إعلان وحدانيته وقيوميته، فيخبر الله- تعالى- في الآية الأخيرة أنه شهد، وكفى به شهيدا، وهو ¬
المعنى الحرفي للفقرة الاولى
أصدق الشاهدين وأعدلهم، وهو أصدق القائلين، بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، وأنهم فقراء إليه، وهو الغني عما سواه، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته- سبحانه- وهذه خصوصية عظيمة لأولي العلم في هذا المقام، أنهم يشهدون قيامه- تعالى- بالعدل في جميع الأحوال، ثم يؤكد- مرة أخرى- وحدانيته، واصفا ذاته بأنه العزيز الذي لا يرام جنابه، عظمة وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ويلاحظ تكرار صفة العزة والحكمة في هذا المقطع أكثر من مرة، فإذا ربطنا هذا بموضوع المقطع علمنا أنه لم ينزل ما أنزل- سبحانه- عن ذلة بل عن عزة وحكمة. المعنى الحرفي للفقرة الاولى الم* اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: القيوم: هو القائم بذاته فلا يحتاج إلى موجد، ولا إلى محل، ولا إلى ذات أخرى، والقيوم هو الذي يفتقر إليه غيره حتى يقوم. والمعنى: أنه لا معبود بحق في الوجود إلا هو، المتصف بالحياة التي ليس كمثلها شئ، المتصف بالقيومية، فهو قائم بنفسه، وغيره قائم به مفتقر إليه. فائدة: ورد- في الحديث- أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم* اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. أقول: سنرى نصوصا أخرى وآثارا تتحدث عن اسم الله الأعظم فتذكر غير ما ذكر هنا، وتكلم العلماء في ذلك محاولين الجمع بين النصوص، أو التحقيق، أو الربط بين حال الداعي وهو يدعو باسم بعينه، والذي ينشرح له صدري أن اسم الله الأعظم مركب من مجموع الأسماء التي وردت فيها نصوص نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي هو نزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حقا ثابتا لا شك فيه، ولا ريب ولا شبهة، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: أي مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ: أي وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل القرآن هداية للناس- والناس هنا إما قوم موسى وقوم عيسى عليهما السلام، وإما كل الناس من حيث إن ما يقوي الحق، ويؤيده، ويصدقه، ويدل عليه، ليس خاصا بالمكلفين به، بل هو لكل مستفيد منه- وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ: الفرقان هو الفارق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، وهل المراد به كل وحي أنزله الله؟ أو
[سورة آل عمران (3): آية 5]
المراد الزبور لأنه الوحيد من الكتب الذي لم يذكر في الآية؟، أو المراد به القرآن؟ وكرر ذكره بصفة خاصة تفخيما لشأنه، لأنه الفارق بين الحق والباطل بما لا مزيد عليه- أقوال أقواها الأخير- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ: المراد بآيات الله هنا كتبه المنزلة وغيرها. والمعنى: إن الذين جحدوا بها وأنكروها وردوها لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم القيامة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي منيع الجناب، عظيم السلطان، ذُو انْتِقامٍ أي ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد، ينتقم ممن كذب بآياته، وخالف رسله، وعصى أمره. فائدة: قال بعض العلماء: استعملت نَزَّلَ في الكلام عن القرآن، وأَنْزَلَ في الكلام عن التوراة والإنجيل، لأن القرآن نزل منجما، ونزل الكتابان جملة واحدة أقول: الأمر بالنسبة للتوراة يحتاج إلى تحقيق أوسع، فإذا كانت التوراة هي ما جاء في الألواح، فإنها تكون قد أنزلت جملة واحدة، وإلا فالأمر يحتمل مزيدا من البحث، ولنا عودة على هذا الموضوع في (سورة الأعراف) إن شاء الله. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا يخفى عليه شئ في هذا العالم كله والدليل على هذا هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ من الصور المختلفة: ذكورة أو أنوثة، حسنا أو قبحا، لونا أو آخر ... !!. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ العزيز في سلطانه، الحكيم في تدبيره. فائدة: لما كان قطاع كبير من هذه السورة- فيما بعد- له علاقة في مناقشة النصارى، الذين يزعمون أن المسيح ابن الله، فإن بعض العلماء فهم: أن هذه الآية تخدم هذا المراد فيما بعد، إذ فيها تعريض بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر، لأن الله صوره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلها، وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال؟!. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أي هو الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم القرآن، من هذا القرآن آيات أحكمت عباراتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، فهن واضحات الدلالة على المراد لا التباس فيهن هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله، أي هذه الآيات المحكمات هن أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها ويرجع إليها عند الاشتباه وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي متشابهات، محتملات، تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ
[سورة آل عمران (3): آية 8]
والتركيب، لا من حيث المراد فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق- وهم أهل البدع والأهواء- فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أي فيتعلقون بالمتشابه، الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم، فهم يأخذونه لأنهم يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولماذا يفعلون ذلك؟! بين الله- عزّ وجل- غرضهم الفاسد فقال: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ الفتنة هنا المراد بها: فتنة الناس عن دينهم، وإضلالهم وصدهم عن سبيل الله، والمراد بالتأويل: التفسير المنحرف الموافق للهوى، فهم إنما يتبعون المتشابه من أجل أن يضلوا المسلمين، ومن أجل أن يستشهدوا به على أهوائهم، فيفسروه بما يخالف المحكم وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هناك كلام كثير للعلماء حول الوقف في هذا النص هل هو على لفظ الجلالة، أو هو على كلمة العلم؟ فعلى القول الأول يكون المعنى أن التفسير الحق للمتشابه لا يعلمه إلا الله، وعلى القول الثاني يكون الراسخون في العلم كذلك يعلمون تأويله الحق، والراسخون في العلم هم الثابتون فيه المتمكنون منه، وجمهور المفسرين على القول الأول، وجمهور الأصوليين على القول الثاني، وما اختلفوا في الترجيح إلا لاختلافهم في فهم المحكم والمتشابه- كما سنرى في الفوائد- يَقُولُونَ أي: الراسخون في العلم، ويختلف الإعراب والمعنى والتقدير فيما إذا كان الوقف على لفظ الجلالة أو العلم، فعلى الوقف على لفظ الجلالة: الراسخون لا يعلمون ولكنهم يسلمون فيقولون. وعلى الاتجاه الثاني: الراسخون يعلمون ويقولون آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي: آمنا بالمتشابه- أو الضمير يعود على الكتاب كله- أي: آمنا بالكتاب كله، إذ كله- من المتشابه والمحكم- من عند الله الحكيم، الذي لا يتناقض كلامه وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي: وما يتعظ ويتذكر ويقف عند ما ينبغي الوقوف عنده- من إيمان وعمل- إلا أصحاب العقول، وفي هذا إشارة إلى أن الراسخين في العلم، هم أصحاب العقول، وهو مدح لهم باتقاد الذهن، وحسن التأمل، والقيام بالمقتضى رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي: إن الراسخين في العلم- أولي العقول- يقولون: ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق المنزل بعد إذ هديتنا إليه، بأن جعلتنا نعمل بالمحكم ونسلم للمتشابه وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي: وهب لنا من عندك نعمة
[سورة آل عمران (3): آية 9]
بالتوفيق، والتثبيت، والرعاية، ثم النجاة، والجنة إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أي: إنك الكثير الهبات، وهذا دعاء ثان لأن الثناء على الله دعاء له رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي يا ربنا إنك ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم، وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلا بعمله في يوم لا شك فيه إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي لا تخلف الموعد- وفي قولهم إنك لا تخلف الميعاد ثناء على الله، واعتراف له بالإلهية لأن الإلهية تنافي خلف الوعد. فوائد: 1 - فائدة إنزال المتشابه الابتلاء به، والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولقصور الكثير من الخلق عن كثير من المعاني، ولقصور كثير من العصور عن علوم لم يصلوا فيها إلى يقين؛ كان في هذا القرآن متشابه، ثم ليتعب العلماء قرائحهم في استخراج معانيه، ورده إلى المحكم، وليعلم فضل أهل الفضل، ولترتفع درجات من أراد الله أن يرفع درجاته بالعلم، وليعرف الخلق قصور أفهامهم عن الإحاطة بكتاب الله، وليبقى- دائما- في هذا القرآن ما ترتفع إليه الهمم. 2 - قال عليه السلام- بعد أن تلا آية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ... : «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم» رواه أحمد وفي رواية البخاري ومسلم وأبي داود: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». ويدخل في هؤلاء كل الفرق الضالة- وما أكثرها- قال عليه الصلاة والسلام «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: وما هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» رواه الحاكم. ولذلك فإن علينا أن نعرف عقائد أهل السنة والجماعة. وأن نتمسك بالكتاب والسنة فهما صحيحا، وعملا مستقيما. 3 - قال نافع بن يزيد واصفا سمت الراسخين في العلم قال: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف للراسخين في العلم هو: «من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم». ولنا عودة على هذا الموضوع.
4 - هناك خلاف كثير، وكلام كثير حول تفسير المتشابه وأمثلته، وحول كون الراسخين في العلم يعلمونه أو لا يعلمونه، وننقل مجموعة نقول تفيد في عمق الفهم: أ- روى ابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به». وروى أبو يعلى الموصلي عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر- قالها ثلاثا- ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه- جل جلاله-». قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة. في هذين النصين تعريف بالموقف السليم من كتاب الله، فما اتضح لك وضوح الشمس فاعمل به، وما اشتبه عليك فسلم لله فيه. روى الإمام أحمد: «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه». ب- روى مجاهد عن ابن عباس وعائشة وعروة وغيرهم: «التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله» ومن العلماء من قال: التأويل يطلق ويراد في القرآن على معنيين، أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. (سورة يوسف) وقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ (سورة الأعراف) أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فهذا لا يعلمه إلا الله، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر: وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشئ كقوله نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ (سورة يوسف) أي: بتفسيره، فهذا يعرفه الراسخون في العلم، لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، ويدل على ذلك أنه ما من شئ في كتاب الله إلا وفسره المفسرون أو قالوا فيه، كل على حسب ما أعطاه الله- عزّ وجل- من دقة الفهم وسعة العلم. ج- من أمثلة المتشابه في القرآن: الحروف المقطعة في أوائل السور- قاله مقاتل ابن حيان- ومن أمثلة ذلك بعض آيات الصفات- قاله بعض علماء التوحيد- وللمفسرين اتجاهات كثيرة في تفسير المحكم والمتشابه، وما ذكرناه فيه كاف لإدراك الموقف الحق في هذا الموضوع.
5 - رأينا أن من حال الراسخين في العلم، أنهم يدعون الله ألا يزيغ قلوبهم، وقد كان رسولنا عليه السلام يكثر في دعائه من مثل ذلك. روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». وفي رواية عنها: كان يكثر من دعائه: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قالت: قلت: يا رسول الله وإن القلب ليتقلب! قال: نعم: ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله- عزّ وجل- فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه». وروي نفس المعنى عن عائشة. وأصل الحديث في الصحيحين. وروى النسائي وابن حبان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ في الليل قال: «لا إله إلا أنت، سبحانك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب». هذا لفظ ابن مردويه. 6 - روى عبد الرزاق عن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب؛ فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل وقرأ في الركعة الثالثة: قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. 7 - ولا نجد أبلغ من الناحية العملية في معرفة الآيات المحكمات والآيات المتشابهات من الواقع الذي حدث خلال التاريخ، فما من فرقة ضالة من فرق الأمة الإسلامية إلا وتمسكت بنصوص فهمتها فهما خاطئا، وأولتها تأويلا فاسدا، ومن ثم فإننا نستطيع أن نقول: إن ما تمسكت به هذه الفرق كله من هذا الباب- باب الآيات المتشابهات- ثم إن هناك كثيرا من الدوائر الكافرة أرادت من خلال بعض النصوص أن تثبت اتجاهها الفاسد، في الوقت الذي تحارب الإسلام وتريد تكفير أهله، ولكنها تستر أمرها باعتماد نصوص وإخراجها عن معناها الصحيح وإهمال المحكم!!. فكذلك أمثال هذه النصوص يمكن اعتبارها من المتشابه. 8 - نستطيع الآن من خلال الآيات الثلاث التي بدأت بالكلام عن المتشابه أن نحدد صفات الفرقة الناجية والفرق الضالة: أما الفرقة الناجية فهي تتبع المحكم وتعمل به، وتؤمن بالمتشابه وتسلم لله فيه مع حملها له على المحكم، وفهمها له بما لا يتعارض مع المحكم، مع وجود مواصفات الربانية
المعنى الحرفي للفقرة الثانية
فيها، من إقبال على الله وإخبات له، وعبادة وافتقار له- وهم أهل السنة والجماعة- أما الفرق الضالة فأول مواصفاتها إهمال المحكم واتباع المتشابه. ولننتقل إلى المعنى الحرفي للفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الأول من السورة. المعنى الحرفي للفقرة الثانية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله، ولم ينتفعوا بوحيه المنزل على أنبيائه لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن تدفع عنهم الأولاد والأموال شيئا، إن أراد الله أن يعذبهم في الدنيا أو في الآخرة وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ أي حطبها الذي تسجر به وتوقد كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدأب هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، والأصل أنه آت من الدأب أي الكدح في العمل ثم نقل إلى الشأن والحال، والمعنى: دأب هؤلاء الكافرين في تكذيب الحق كدأب آل فرعون ومن قبلهم، فكما أن آل فرعون لم تغن عنهم أولادهم وأموالهم، فأخذوا في الدنيا وعذبوا في الآخرة فكذلك هؤلاء فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي فجازاهم الله بسبب ذنوبهم فأهلكهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ أي شديد عقابه أليم عذابه. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي قل لكل الكافرين، وسبب النزول وإن كان خاصا- كما سنرى- لكن اللفظ عام سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ أي ستغلبون في الدنيا وتحشرون يوم القيامة إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس المستقر جهنم قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا أي قد كان للكافرين دلالة على أن الله مقر دينه، وناصر رسوله ومظهر كلمته ومعل أمره، ومغلوب أعداؤه، في طائفتين التقتا للقتال يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المؤمنون وَأُخْرى كافِرَةٌ وهم المشركون يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ أي يرى المسلمون المشركين ضعفي عدد المسلمين، رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، ومع ذلك فقد غلب أولياؤه أعداءه وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ كما أيد أهل بدر إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي إن في ذلك لعظة لمن له بصيرة، وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري، بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
فوائد
فوائد: 1 - المشهور أن المشركين كانوا يوم بدر ما بين التسعمائة إلى الألف، وأن المسلمين كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر، فهم ثلاثة أمثال، بينما الآية تقول: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ فما التوفيق بين هذا وهذا؟ وجه ابن جرير ذلك بقوله: «هذا ... كما تقول: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليهما، وتكون محتاجا إلى ثلاثة آلاف، ويمكن أن يكون التوفيق بما ذكره الله- عزّ وجل-: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (سورة الأنفال) فقلل الله المشركين في أعين المسلمين من ثلاثة أضعاف إلى ضعفين!. ويؤيد هذا ما قاله ابن مسعود: «وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا». 2 - ذكر محمد بن إسحاق مما له علاقة بسبب نزول هذه الآية ما يلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا. فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله في ذلك من قولهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ .... ». ولننتقل إلى ذكر المعنى الحرفي للفقرة الثالثة في المقطع: المعنى الحرفي للفقرة الثالثة: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي زين الله للناس حب الأشياء المشتهاة مما سيذكره، وسمى الأشياء المشتهاة بأنها شهوات إشعارا بشدة اشتهائها، وأشعر. بتسميتها شهوات بأن المفروض أن يكون للإنسان منها موقف- والشهوة: توقان النفس إلى الشئ-، ثم بين هذه الأشياء المشتهاة فقال: مِنَ النِّساءِ بدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه عليه السلام قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». وَالْبَنِينَ جمع ابن وهم الأولاد ذكورا وإناثا، وذكر البنين يشعر بأن الذكور هم المشتهون بالطباع أولا: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
فائدة
وَالْفِضَّةِ القنطار هو المال الكثير، والمقنطرة المنضدة أو المدفونة، وسمي الذهب ذهبا- في أصل اللغة- لسرعة ذهابه بالإنفاق، وسميت الفضة فضة لأنها تتفرق، والفض: التفريق. وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ سميت الخيل خيلا لأنها تختال في مشيتها، والمسومة: المعلمة المطهمة، الحسان أو المرعية. وَالْأَنْعامِ أي الأزواج الثمانية: الإبل والبقر والغنم والماعز. وَالْحَرْثِ أي الأرض المتخذة للغراس والزراعة. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي هذا المذكور هو ما يتمتع به في الحياة الدنيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي حسن المرجع والثواب. فائدة: - زينت هذه الأشياء للإنسان من أجل أن تعمر الحياة الدنيا، فإذا استعملها الإنسان ضمن ما حدده الله- عزّ وجل- يكون قد حقق الحكمة من التزيين، وأرضى الله، وعمرت الحياة، ولم تفسد الأرض، وإذا تجاوز فيها ما حدده الله، فسدت الأرض، وأسخط الله. قال عليه السلام: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». وقال عليه السلام: «حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة». دل ذلك على أن حب النساء- ضمن ما شرع الله، وبقصد الإعفاف بهن، وكثرة الأولاد منهن مطلوب مرغوب فيه، مندوب إليه. وحب البنين إذا كان للتفاخر فهو مذموم، أما إذا كان لتكثير النسل وتكثير المسلمين فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث: «تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة». وحب المال إن كان للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهو مذموم، وإذا كان للإنفاق في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه الخير والطاعات فهذا محمود ممدوح شرعا. والخيل إن أعدها الإنسان في سبيل الله فهو مأجور، أو أعدها للولادة والاستفادة فهو مستور، وإن أعدها لمحاربة الإسلام فهو مأزور. وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير مال امرئ له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة». السكة: النخل
[سورة آل عمران (3): آية 15]
المصفف، والمأبورة: الملقحة. ذكرنا هذا ليعلم مما قدمناه: أن الحياة الدنيا لم تحرم علينا، إذا ما أخذناها ضمن ما حدده الله، واستعملناها فيما حدده الله، ولم ننس حق الله فيها، ولم ننس آخرته، ولم نطغ. ثم رفع الله- عزّ وجل- همتنا إلى الآخرة بعد أن بين لنا ما زينه لنا من مفردات الحياة الدنيا: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ أي قل يا محمد أأخبركم بخير من الذي تقدم للذين اتقوا عند ربهم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها أنهار العسل واللبن والخمر والماء. خالِدِينَ فِيها أي ماكثين فيها أبد الآبدين، لا يبغون عنها حولا. وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي يعطيهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي عالم بأعمالهم يجازيهم عليها. ثم وصف عباده المتقين، الذين أعد لهم ذلك الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا بك وبكتابك وبرسولك، فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا. أي: بإيماننا بك، وبما أنزلته. فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا في أمرنا بفضلك ورحمتك وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أي: احمنا منه الصَّابِرِينَ على الطاعات وترك المحرمات وعلى المصائب. وَالصَّادِقِينَ قولا بإخبار الحق، وفعلا بإحكام العمل، ونية بإمضاء العزم. وَالْقانِتِينَ. أي الطائعين الخاضعين. وَالْمُنْفِقِينَ. أي: المتصدقين من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات وسد الخلات ومواساة ذوي الحاجات. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي طالبي المغفرة في وقت السحر، إما بصلاتهم لله فيه، أو بقولهم: أستغفر الله فيه. والسحر: الوقت قبيل الفجر. فائدة: - ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من سائل فأعطيه؟. هل من مستغفر فأغفر له؟» وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله، وأوسطه، وآخره، فانتهى
[سورة آل عمران (3): آية 18]
وتره إلى السحر». وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: «يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح». وروى ابن جرير عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: «سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت، فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه». وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «كنا نؤمر إذا صلينا في الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة». وقال لقمان لابنه يا بني: «لا يكن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم». دلت الآية ودل هذا كله على فضيلة الاستغفار بالأسحار. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، أي: قال- وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم. وأصدق القائلين-: إنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، وفقراء إليه، وهو الغني عمن سواه. وَالْمَلائِكَةُ شهدوا بوحدانيته بما عاينوا من عظيم قدرته. وَأُولُوا الْعِلْمِ من الأنبياء والعلماء، شهدوا بما شهد الله به، بما عاينوا من آياته وآثاره. قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض، والعمل على السوية فيما بينهم فيما شرعه لهم. وهذا يؤكد ما ذكرناه أن من آثار قيوميته تعالى أن لا يترك عباده دون هداية، ودون وحي، ودون كتب. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ هذا تأكيد لوحدانيته. الْعَزِيزُ الذي لا يغالب ولا يرام جنابه. الْحَكِيمُ الذي لا يعدل عن الحق في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب.» أي ويقول بعد ذكره الآية ذلك. 2 - روى الطبراني، عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل، فمر بهذه الآية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
كلمة وسيطة بين المقطع الأول والمقطع الثاني وفوائد
ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قالها مرارا. قلت: لقد سمع فيها شيئا! فغدوت إليه، فودعته، ثم قلت: يا أبا محمد: إني سمعتك تردد هذه الآية! قال: أو ما بلغك ما فيها؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني!! قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة! فأقمت سنة، فأقمت على بابه؛ قلت يا أبا محمد: قد مضت السنة! قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله- عزّ وجل-: عبدي عهد إلي، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة». ولننتقل إلى المقطع الثاني من القسم الأول في السورة: كلمة وسيطة بين المقطع الأول والمقطع الثاني وفوائد: 1 - ختم المقطع الأول بقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وجاء بعدها قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. والهمزة في قراءة حفص من (شهد الله أنه) مفتوحة، والهمزة في (إن) من إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ مكسورة وقد ذكر البيضاوي: أن هناك قراءة تكسر همزة (إنه)، وهناك قراءة تفتح همزة (أن). فعلى قراءة أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وعلى قراءة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، فإن الفعل (شهد) يعمل في آية: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فيكون التقدير: شَهِدَ اللَّهُ .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، شَهِدَ اللَّهُ .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. فعلى هاتين القراءتين، فإن الله وملائكته، وأولي العلم، كما يشهدون، أن الله واحد وقائم بالقسط فإنهم يشهدون أن الدين عند الله الإسلام، وهذا يدلنا على استمرارية الكلام في المقطع الثاني. فإذا دلنا على نهاية المقطع الأول، ذكر القيام بالقسط، فإن مما يدلنا على أن المقطع الأول والثاني يشكلان قسما واحدا هو هذه الاستمرارية التي نراها بين أول آية في
المقطع الثاني من القسم الأول
المقطع الثاني، وآخر آية في المقطع الأول. واستطرادا نقول: على قراءة فتح الهمزة في إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، فإن هذه الجملة تعرب بدلا من جملة أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وهي إما بدل كل من كل، إذا فسر التوحيد بالإسلام، أو بدل اشتمال إذا فسر الإسلام بالشريعة. وأما على قراءة (إنه) وكسر همزة (إن) بآن واحد. فإما أن نجعل الفعل (شهد) ينصب على إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ويكون ما قبل ذلك جملة اعتراضية، أو نعتبر (شهد) بمعنى قال في الآية الأولى، وعلم في الآية الثانية، وكل ذلك له تأثيراته في المعني. فلو أننا تابعنا إعراب الآيتين بناء على هذه الأوجه الصحيحة، لرأينا معاني متعددة كلها صحيح. ولم نستطرد هذا الاستطراد لنتعب القارئ، ولكن ليفهم أن علوم اللغة العربية بحيثياتها الدقيقة لا بد منها لفهم القرآن، وأن الذين ينفرون من دقائق قواعد هذه اللغة ضائعون، ويريدون أن يضيعوا هذه الأمة، وأنه من مجموع القراءات تتولد معاني كثيرة، ولولا أننا نريد الاختصار في هذا التفسير ما اقتصرنا على تفسير قراءة حفص كأصل. كل ذلك أردنا أن نقوله من خلال هذا الاستطراد، ومن أجله استطردنا، ولننتقل إلى المقطع الثاني في القسم الأول من سورة آل عمران. المقطع الثاني من القسم الأول يمتد هذا المقطع من الآية (19) إلى نهاية الآية (32) وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 19 الى 20] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
كلمة في المقطع
[سورة آل عمران (3): الآيات 29 الى 32] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) كلمة في المقطع: يتألف المقطع من ثلاث فقرات: فقرة حول كون الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وأنه دين الله في كل العصور، وأن هذا الإسلام أنزله الله واضحا، وأنه لا اختلاف فيه إلا بسبب البغي، وأن هذا الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هذا شأنه، بل هو معجزات واضحات، وأن من يكفر به فإنه باغ ظالم غير مقبول، وأن الله سيحاسبه. فإذا كان هذا هو الشأن فكل مناقشة في الإسلام ظالمة، ومن ثم فإن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يعلنوا إسلامهم لله أمام أي حجاج وأن يدعوا غيرهم إلى الإسلام؛ ثم يقرر الله- عزّ وجل- أن الكافرين إن أسلموا فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فليس على الرسول من إثمهم شئ. إذا أدى الرسالة، والله مطلع عليهم، وعلى أعمالهم وأعمال عباده كلهم وسيجازيهم. هذه معاني الفقرة الأولى بإجمال. ولنتذكر ما ورد في الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وهاهنا يقول عزّ وجل: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. فالفقرة هنا تعلمنا كيف نهتدي بالقرآن، بالتسليم له والإيمان بآياته، وبعدم الاختلاف فيه، وتعلمنا كيف ندعو إلى هذا الإسلام، وكيف نقابل المحاجة فيه. والفقرة الثانية في هذا المقطع هي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ .... فالفقرة الثانية في هذا المقطع تحدثنا عن أخلاقية الكافرين الذين يكفرون بالآيات، ويقتلون الأنبياء والعلماء، وتحدثنا عن العذاب المعد لهم، وتحدثنا عن نموذج من الناس، وموقفهم الرافض من الإنذار وسبب هذا الموقف. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ .. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ .... وتنتهي الفقرة بآية واعظة لهؤلاء: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ. وهكذا نرى أنه في الفقرة الأولى والثانية في هذا المقطع نوع تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة وعلى نفس الترتيب. فالفقرة الأولى لها صلة بالمتقين، والفقرة الثانية في الكافرين، ولا نلاحظ كلاما عن المنافقين هنا، كما ورد في مقدمة سورة البقرة، لأن النفاق كفر، ولكنا نرى في الفقرة الثالثة قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. فههنا نهي عن السير في طريق النفاق. إن الفقرة الثالثة يتوجه فيها الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة (قل) أربع مرات. قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .... قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ .... قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ....
قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. فبعد التفصيل في أن الدين عند الله الإسلام، وبعد التفصيل في مواقف الكافرين، تأتي هذه الإعلانات الأربعة لتحدد لأهل الإيمان مواقفهم، ولتعلمهم صفحة من هداية الله لهم، في كتابه، يقابلون بها مواقف الكافرين، ويرتقون بها إلى مقامات المتقين. انتهى المقطع الأول بإعلان شهادة الله على أنه قائم بالقسط؛ ليأتي هذا المقطع معلنا أن الله القائم بالقسط لا يقبل دينا إلا الإسلام. فذلك هو العدل الخالص ثم يسير المقطع ليحدثنا عن الكافرين الذين يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط، ثم يسير المقطع ليأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن، وأن يعرف على أمور بدونها لا يكون إسلام. فالمقطع يرتبط مع المقطع السابق الذي يحدثنا عن وحدانية الله، وقيوميته، وعزته، وحكمته، بوشائج كثيرة، فهو استمرار له وتفصيل لما تقتضيه الوحدانية والقيومية والعزة والحكمة، من مظاهر العبودية له- جل جلاله- معرفة وتسليما ومحبة وطاعة، وكما أن المقطع الأول تحدث عن الكتاب، والاهتداء به في فقرته الأولى، ثم تحدث عن الكافرين في فقرته الثانية، ثم ذكر تزيين الحياة الدنيا وشهواتها، وهي القاطعة عن الطريق. فإن هذا المقطع تحدث عن الاهتداء بالقرآن، وذلك بالإسلام لله في فقرته الأولى، وتحدث عن الكافرين في فقرته الثانية، وتحدث في فقرته الثالثة عن معان تزيل الغشاوات عن الأعين، فترفع الهمة نحو السير في الإسلام، فلا شئ يحول دون السير في طريق الله، كحب الجاه، والحرص على الرزق: فتأتي الفقرة الثالثة وفيها: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ .... كما أن في الفقرة تحطيما للدعاوى، وتحديدا للطريق: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .... قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ....
ولقد رأينا في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وواضح أنه بنهاية هذا المقطع، ينتهي القسم الأول من السورة، لأنه يأتي بعد ذلك كلام عن زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، فنحن بذلك الكلام أمام قسم جديد، وكأن القسم الأول؛ مقدمة له بل هو مقدمة للسورة كلها، بدليل ما سنراه من ارتباط أقسام السورة كلها، بهذا القسم وختم السورة بمعان مرتبطة به. وفيما بين قوله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... وقوله تعالى: قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. يأتي قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين أثر عن الحرص على الحياة والرزق، فأعلن الله أن الحياة والرزق بيده، ولأن النفاق شئ قلبي، حذر الله أنه يعلم خفايا الأنفس، وهكذا جاء النهي بين تذكيرين، ومن هنا نعلم الحكمة في وجود هذا النهي في محله. إنه لم يأت مباشرة بعد الفقرة الأولى والثانية اللتين تحدثتا عن الإسلام والكفر، إنه لم يأت بعد ذلك مباشرة، بل جاء متأخرا بعد درس من التعريف على الله، ليأخذ محله في مشاعر المسلمين وقلوبهم وضمائرهم. قلنا من قبل: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معاني هذه المقدمة. فلنلاحظ الآن ما يلي: في مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ومن امتدادات هذا النص في سورة البقرة ما رأيناه من دعوة لبني إسرائيل فيها: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. وقد رفض بنو إسرائيل الدعوة إلا من رحم الله وجاء في سورة البقرة أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا وفي ذلك السياق جاء قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا .... ثم جاءت الآية اللاحقة: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ... كل ذلك جاء في سورة البقرة وهو امتداد لبعض ما جاء
الفقرة الأولى
في مقدمتها: وفي هذا المقطع من سورة آل عمران، يعجب الله من هؤلاء الذين يرفضون هذه الدعوة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. وهاهنا يعلل بأن سر هذا الموقف ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. فههنا تعليل مباشر لسر موقفهم من الدعوة وهو هذا الاعتقاد فبينما فهمنا في سورة البقرة من السياق بشكل غير مباشر أن سر مواقفهم هو اعتقادهم الباطل هذا فإننا هنا نفهمه بشكل مباشر. ولقد رأينا في سورة البقرة أن من أسباب تحريف أهل الكتاب لكلام الله حبهم الدنيا، وأخذهم إياها، ومن ثم نلاحظ في هذا المقطع أنه قد جاء قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .. تطهيرا للنفس البشرية، أن تطلب رزق الله في معصية الله، والكفر به. ولعل في هذا القدر كله كفاية في التعريف بالمقطع ومحله في سياق السورة، ومحله في السياق القرآني العام، ثم في التعريف على تسلسل معانيه، فلنعرض فقراته: الفقرة الأولى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ* فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. المعنى العام: في هذا النص إخبار من الله تعالى، بأن لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام. وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به، والاستسلام لله فيه قولا وعملا واعتقادا. ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول، إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم: سواء فيما بين أهل الكتاب الواحد منهم، أو بين أهل كتاب وكتاب بسبب بغي بعضهم على بعض. فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا. ثم بين الله عزّ وجل أن من جحد ما أنزل الله في كتابه فإن الله سيجازيه ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفة كتابه، وإذ تتقرر حقيقة
المعنى الحرفي
الإسلام وحقيقة الاختلاف فيه من قبل، فإن الله- عزّ وجل- يوجه رسوله أنه في حالة محاجة أهل الكتاب له في الإسلام المنزل عليه، وهو خاتم رسل الله المرسل إلى العالمين الذي ألزم الله كل الخلق باتباعه، فإن عليه أن يعلن أنه هو وأتباعه مسلمون وجوههم لله، مخلصون لله عبادتهم. هذا هو الرد الوحيد عليهم، إعلان الإسلام لله ثم دعوتهم إليه فقد أمر الله رسوله عليه السلام أن يدعو إلى طريقه ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين والأميين من المشركين، ثم بين تعالى أنهم إن أسلموا وتابعوا اهتدوا، وإن أصروا على ما هم عليه فليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم إثم في ذلك، إذ عليه البلاغ وقد قام به، وعلى الله حسابهم، وإليه مرجعهم ومآلهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وهو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة. وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية: وفي هذا النص بيان أن الإسلام هو الاستسلام لله فيما أنزل، وأن الاختلاف فيما ينزل سببه البغي. فكأن النص يأمر المسلمين أن يستسلموا لله في كتابه- ولرسوله في هديه- وألا يحملهم البغي فيما بينهم على الاختلاف فيه، كما يبين الموقف الأكمل من غير المسلمين إذا أصروا على الرفض واللجاج. وهكذا يكمل هذا النص أدب المسلم مع الكتاب: عمل بالمحكم، واستسلام لله في المتشابه، وعدم الاختلاف فيه بغيا. المعنى الحرفي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ: إن الدين المقبول عند الله هو الإسلام في كل زمان، وفي كل مكان. وهو الاستسلام لله فيما بعث به رسله من دين هو الإسلام الذي آخر نسخة منه هو الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله ناسخا وخاتما وكلف به العالمين. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى فيما بينهم، وفيما بين بعضهم بعضا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ الواضح المتضح الذي لا شبهة فيه ولا غموض. بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا بينهم، وطلبا منهم للرئاسة، وحظوظ الدنيا، واستتباع كل فريق ناسا. أي ما كان اختلافهم إلا أثرا عن ظلمهم بسبب هذه الأشياء، وإلا فالحق أوضح من أن يختلف فيه. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ أي بحججه ودلائله، فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع المجازاة. فَإِنْ
فائدة
حَاجُّوكَ أي فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام، أو جادلوك في صحة ما هم عليه، أو جادلوك ليحرفوك عما أنت عليه. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ فقل: أنا وأتباعي أخلصنا أنفسنا وجملتنا لله لم نجعل فيها لغيره شريكا. وهذا يفيد أن ما هو عليه، ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه. فما معنى المحاجة فيه؟! كما يفيد أن الإسلام هو هذا. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم. أَأَسْلَمْتُمْ هذا استفهام يراد به الأمر، أي أسلموا، فقد جاءكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام منكم. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا أي فإن دخلوا في الإسلام فقد أصابوا الرشد، حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى. وَإِنْ تَوَلَّوْا أي وإن رفضوا وأعرضوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ فما عليك إلا أن تبلغ الرسالة، وتنبه على طريق الهدى. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم. فائدة: - من الأحاديث الدالة على عموم بعثته عليه السلام لجميع الخلق، ما رواه الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- أي أمته أمة الدعوة، وهم جميع الخلق- يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار». وقال عليه السلام: «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة». الفقرة الثانية ونعرضها على مراحل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. المعنى العام: بعد أن بين الله- عزّ وجل- في المجموعة الأولى أن الدين عنده الإسلام وأن على
المعنى الحرفي
جميع الخلق الدخول فيه، وأن على أهله أن يثبتوا عليه. بين هنا ما أعده للرافضين الدخول في هذا الإسلام. الذين يقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق. وأمر رسوله عليه السلام أن يبشر هؤلاء بالعذاب الأليم، وبحبوط العمل في الدنيا والآخرة، وأنهم لا ناصر لهم. وأول ما ينطبق عليهم هذا، اليهود، فهم الذين اجتمعت لهم هذه الخصال على أقبح ما يكون، ويدخل في التهديد كل من كان كذلك. ويفهم من هذه الآيات أن الكفر بآيات الله يرافقه الجرأة على الأنبياء والعلماء ودعاة الحق. المعنى الحرفي إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بحججه ودلائله، وما خلق، وما أنزل من البينات وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ القسط: العدل، والعدل هو حكم الله لا غير فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي مؤلم: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي ضاعت فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. فاستحقوا اللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. ينصرونهم في الدنيا والآخرة من عذاب الله. فوائد: 1 - قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس أثر من آثار الكبر فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر في الحديث الصحيح فقال: «الكبر بطر الحق وغمط الناس». وهؤلاء رفضوا الحق وقتلوا أهله، وهذا منتهى الكبر و «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». 2 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح قال: «قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... الآية ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله عزّ وجل».
المعنى العام
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ* فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. المعنى العام: في هذا النص إنكار على اليهود والنصارى المتمسكين- فيما يزعمون- بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم وفضحهم بذكرهم بالمخالفة والعناد. ثم بين الله تعالى أنه إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار أياما قليلة، فهذا الذي يثبتهم على دينهم الباطل، وإنما هو افتراء افتروه، واختلاق لم ينزل الله به سلطانا، خدعوا به أنفسهم. ثم هددهم الله عزّ وجل، وتوعدهم بعد أن افتروا على الله، وكذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وقتلوا العلماء من قومهم الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر. بأنه سائلهم عن ذلك كله، وحاكم عليهم، ومجازيهم به إذا جمعهم ليوم لا شك في وقوعه، فيه توفى كل نفس كسبها دون أن تظلم شيئا. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي حظا من التوراة. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ أي التوراة. لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. وهذا التولي والإعراض عجيب منهم إذ علموا أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، ولكنهم قوم الإعراض حالهم وديدنهم. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل من دخولها، أربعين يوما، أو سبعة أيام وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي غرهم افتراؤهم على الله. يكذبون على الله، ثم يصدقون كذبهم. فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت يوم يجمعهم الله يوم القيامة وهو اليوم الذي لا شك فيه. وَوُفِّيَتْ
فائدة
كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي وجوزيت كل نفس جزاء ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة في سيئاتهم أو نقصان في حسناتهم. فائدة: أنكر الله- عزّ وجل- على من إذا دعي إلى كتاب الله تولى ورفض فههنا إذن تأديب من الله لنا، أن إذا دعينا إلى كتاب الله أن نقبل ونقبل ثم بين الله- عزّ وجل- علة الرفض، وهي التصور الخاطئ لموضوع العقاب، لموضوع اليوم الآخر. إذا أدركنا هذا، أدركنا الصلة بين هذه المجموعة من الآيات، وما قبلها، إذ الجميع مرتبط بالموقف الصحيح من كتاب الله. فإذا أنكر الله عزّ وجل على من يرفض الاحتكام إلى التوراة فكيف بمن يرفض الاحتكام إلى القرآن أعظم كتب الله. الفقرة الثالثة ونعرضها على مراحل: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المعنى العام: يقول تبارك وتعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون معظما لربه وشاكرا ومفوضا أمره إليه ومتوكلا عليه، ومعترفا له بأن الملك كله له يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، فهو المعطي وهو المانع والمتصرف في خلقه بما يشاء، والفعال لما يريد، بيده الخير كله، وهو القادر على كل شئ. ومن مظاهر قدرته إدخال الليل في النهار والنهار في الليل. فترى هذا يزيد، وهذا ينقص على منتهى الدقة والكمال. ومن مظاهر قدرته، رزق من شاء، كما شاء. ثم نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة، وبين جل جلاله أن من يرتكب نهي الله هذا فقد برئ من الله إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه وقلبه. ثم حذرنا الله نقمته في
المعنى الحرفي
مخالفته، وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه. ثم أن إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. المعنى الحرفي: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ. أي: قل يا الله، يا مالك الملك. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. أي: تعطي من تشاء ما قسمت له من الملك وتنزعه ممن تشاء وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بإعطائه الملك والجاه وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بنزع الملك والجاه منه. بِيَدِكَ الْخَيْرُ تؤتيه من تشاء، وتمنعه عمن تشاء إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ولا يقدر على شئ أحد غيرك إلا بإقدارك. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ الإيلاج: إدخال الشئ بالشئ، أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعا وصيفا، وخريفا وشتاء. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ. أي: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والحياة من الأرض، وتميت الأحياء. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. أي: تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه حتى لا يعرف عدده ومقداره. وإن كان معلوما عند الله تعالى. لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذا نهي للمؤمنين، أن يوالوا الكافرين لقرابة أو صداقة، أو منفعة، أو رغبة، أو رهبة. وأفاد قوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بأن للمؤمنين في موالاة بعضهم مندوحة عن موالاة الكافرين، فلا يؤثرون عليهم. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شئ، لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قال ابن كثير: أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: «إنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم» وقال البخاري، قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة. وقال النسفي في معنى الاستثناء: «إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان العداوة» وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يحذركم نقمته في مخالفته، وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه، وعادى أولياءه. وَإِلَى
فوائد
اللَّهِ الْمَصِيرُ. أي وإلى الله مصيركم ومرجعكم والعذاب معد لديه. فوائد: 1 - روى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. 2 - ما الصلة بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها؟ أ- بين الله- عزّ وجل- في الآيات السابقة على هذه الآيات كيف أن أهل الكتاب إذا دعوا إلى كتاب الله تولوا، وأعرضوا، وسبب التولي والإعراض عدم اعترافهم وتسليمهم لله بأنه المعز، المذل، المالك، القادر، المغني، فلو رأوا بقلوبهم لله هذا، وسلموا، لم يمنعهم حسد عن قبول الحق أنى كان. ومن ثم أمرنا نحن أن نقر لله بهذا. وكما أمرنا أن نقر لله بهذا، أمرنا ألا نوالي الكافرين الذين يستكبرون عن اتباع الحق وقبوله. ب- في الآيات السابقة على هذه الآيات، وضعنا الله- عزّ وجل- على طريق الاتباع الكامل، والتسليم الكامل لآيات الله، والمفاصلة الكاملة لأعداء الله، والإخبات لله، وهذا كله يقتضي معرفة كاملة بالله، بأنه مالك الملك، المعطي المانع، المعز المذل، حتى لا يحرفنا ملك، أو رزق، أو عز، أو ذل لنا أو لغيرنا عن الاستقامة على أمر الله، وقد نهينا عن موالاة الكافرين بعد ذلك في هذا السياق، طلبا لجاه، أو ملك، أو عز، أو خوفا من ذل أو فقر. لأن الله عزّ وجل هو الذي يعطي هذا كله. فعلينا أن نستقيم على أمره ونترك له- جل جلاله- أمر تدبير أمورنا. قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
المعنى العام
المعنى العام: يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات، وجميع الأوقات، وجميع ما في الأرض والسموات، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، وقدرته نافذة في جميع ذلك. وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، لئلا يرتكبوا ما نهى عنه، وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن انظر من انظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر. ثم ذكرنا الله عزّ وجل بيوم القيامة، يوم يحضر للعبد جميع أعماله من خير أو شر فما رأى المكلف من أعماله حسنا سره ذلك، وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغصه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينه وبينه أمد بعيد. ثم أخبرنا تعالى مؤكدا ومهددا، ومتوعدا أنه يخوفنا عقابة وانتقامه فلنحذر. ولئلا ييأس عباده، ويقنطوا من لطفه، فإنه ذكرهم برأفته بعباده ورحمته بخلقه قال الحسن البصرى: من رأفته بهم حذرهم نفسه. وقال غيره رحيم يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم، ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم. المعنى الحرفي: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ .. من ولاية الكفار أو غيرها، مما لا يرضي الله أَوْ تُبْدُوهُ أي أو تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي لم يخف عليه، وهو وعيد بليغ. وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لا يغيب عنه مثقال ذرة فيهما. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ومن ذلك عقوبتكم. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً. أي: يوم القيامة تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم، وأهواله، مسافة بعيدة. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرر الإنذار والتحذير، ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ فهو مع كونه محذورا لكمال قدرته، فإنه مرجو لسعة رحمته، ومن رأفته أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه. فائدة: هاتان الآيتان فيهما تطهير للنفس أن يكون فيها في الظاهر أو الباطن، ما يخالف أمر
المعنى العام
الله فإذا نظرنا إلى هذا المعنى على ضوء الآية الأولى في المقطع، وهي قوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ عرفنا أن هاتين الآيتين تطلبان منا أن تكون ظواهرنا وبواطننا مسلمة لله، ثم هما قد جاءتا بعد النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء، ففيهما تطهير للنفس من أي ولاء قلبي. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. المعنى العام: هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادعى محبة الله- وليس هو على الطريقة المحمدية- فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين الإسلامي في جميع أقواله، وأفعاله. ولذلك بين الله- عزّ وجل- في هذه الآية أن علامة محبة الله اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك كافأه الله عزّ وجل عليه بمحبته له، ومغفرته ذنوبه، ومن شأن الله- عزّ وجل- أن يغفر لمن يستحق المغفرة، ويرحم من يستحق الرحمة. المعنى الحرفي: قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ اهـ. ومحبة العبد لله إيثار طاعته على أي شئ آخر، ومحبة الله لعبد أن يرضى عنه، ويحمد فعله. وقد جعل الله عزّ وجل في هذه الآية علامة محبته اتباع رسوله في دينه، وأقواله، وأفعاله، وأحواله، إلا ما خص منها. فمن ادعى محبة الله ولم يكن مسلما، ومتابعا فهو كذاب، يكذبه كتاب الله. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي فهذه علامة محبة الله، ومغفرته .. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. غفور لمن تابع، رحيم بمن تابع. فائدة: - قال عليه السلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. المعنى العام:
المعنى الحرفي
هذا أمر لكل أحد من خاص وعام أن يطيع الله في كتابه، وأن يطيع رسول الله بمتابعته فمن خالف وأعرض، ورفض ولم يذعن، فإنه كافر، والله لا يحبه، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله، ويتقرب إليه، دل هذا على أن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريقة كفر، وأن متابعته عليه السلام هي الطريق، وأنه لو كان الأنبياء، والمرسلون في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته. المعنى الحرفي: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ بطاعة كتابه، وَالرَّسُولَ بطاعته في حياته وطاعة سنته بعد وفاته وبمتابعته في الأقوال والأفعال والأحوال. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قبول الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي فمن أعرض عن قبول الطاعة فإنه كافر والله لا يحبه. فوائد حول السياق: 1 - إن الصلة ما بين هاتين الآيتين الأخيرتين، والمقطع كله، واضحة. فالله عزّ وجل في بداية المقطع أعلن أن الدين المقبول عنده هو الإسلام، وهاهنا بين أن هذا الإسلام المقبول عنده هو المتابعة لرسوله، وطاعة كتابه، وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما سوى ذلك كفر، وليس بإسلام، وما سوى ذلك غير مقبول عنده. 2 - وما الصلة ما بين هذا المقطع والذي قبله؟. رأينا أن المقطع الأول يدور حول أن من آثار ألوهية الله تعالى وقيوميته، إنزال الكتب ليقوم العدل، ويقف الناس عند الحدود، ويهتدوا. وفي هذا المقطع يطالب الخلق بالإسلام له فيما أنزل، ومتابعة رسوله الذي أرسل، فهذا المقطع استمرار للمقطع الأول. ومما يشهد على الصلة بين المقطعين، ما ذكرناه من قبل. قراءة ابن عباس لبداية المقطع الثاني بفتح همزة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فيكون الربط على هذه القراءة ما بين هذا المقطع والذي قبله على أشده إذ يكون التقدير: (شهد الله أنه لا إله إلا هو .. شهد الله أن الدين عند الله الإسلام). 3 - كنا ذكرنا أن سورة آل عمران إنما هي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وكنا سجلنا ملاحظة، هي: كما أنه في مقدمة سورة البقرة عقبت صفات الكافرين صفات المتقين، فإن في سورة آل عمران في كل من المقطعين اللذين يشكلان القسم الأول من السورة قد عقب الكلام عن الكافرين الكلام عن المتقين.
كلمة في السياق
4 - لقد قلنا: إن هذين المقطعين من آل عمران يفصلان في مقدمة سورة البقرة، ففي هذين المقطعين أوضح الله- عزّ وجل- أن إنزال الكتب أثر عن ألوهيته وقيوميته، وأوضح بعض خصائص هذا القرآن، وكيف ينبغي أن يكون الموقف الصحيح منه، وأوضح أن على الإنسان أن يستسلم لله فيه، وأن يطيع، وأن يتابع، وعرض ما يقابل ذلك، وما يلازمه، وما يترتب عليه، والمواقف المقابلة، والمشاعر المساعدة، والأقوال التي ينبغي أن يقولها أهل الإيمان لغيرهم مما مر معنا. وإذا كان المقطعان السابقان اللذان يشكلان القسم الأول قد فصلا على الأخص في قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وما يقابل ذلك من الكفر، فإن القسم الثاني الذي سيأتي معنا يقدم لنا صفحة من صفحات الإيمان بالغيب المذكور في مقدمة سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وما يقابل ذلك من كفر الكافرين، أو ضلال الضالين، ومناقشة هؤلاء في ضلالهم. وكنا ذكرنا في تفسير مقدمة سورة البقرة أن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إنما هو تفصيل لبعض ما أجمل في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وهاهنا نجد مصداق ذلك. كلمة في السياق: صحح القسم الأول مفاهيم كثيرة، وأعطى تعليمات كثيرة، ووضع الأمور في نصابها في أمور كثيرة: وعرفنا على الله- جل جلاله، وصحح في هذا أخطاء وقع فيها العقل البشري، ومن أخطر ما وقع به العقل البشري من أخطاء، تصوره أن الله- عزّ وجل- لا يتدخل في شئون خلقه سلبا أو إيجابا، وهي الفكرة التي استقرت على الصيغة التي تعبر عن نفسها بمبدإ فصل الدين عن الدولة. إن معرفتنا بوحدانية الله وقيوميته تنسف هذه الفكرة وأمثالها من الأساس. لقد عرفنا الله أنه أنزل كتبا، وأنه هو الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه امتحن خلقه بأن جعل القرآن محكما ومتشابها، وذلك من مظاهر عزته وحكمته، وأن النجاح في هذا الامتحان يظهر باتباع المحكم، وبالتسليم لله بالمتشابه. وعرفنا القسم أن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وأن من عقيدة المسلم أن يعرف الله أنه مالك الملك، وأنه الرزاق، وأنه العليم، وأن محبته طريقها متابعة محمد صلى الله عليه وسلم وأن على
فصول ونقول
كل إنسان طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وخلال ذلك كان كلام عن الكفر والكافرين، ومواقفهم وأسبابها. وتم القسم بعد أن وضح أمورا كثيرة رأيناها. والآن يأتي قسم جديد، يضع الأمور في مواضعها في قضية المسيح ابن مريم وأمه، ليكون القسم الأول والثاني مقدمتين لفتح حوار شامل مع أهل الكتاب، وذلك مضمون القسم الثالث في السورة لتكون الأقسام الثلاثة في السورة بعد ذلك بمثابة مقدمة كبيرة لتوجيهات مباشرة لأهل الإيمان. إن القسم الأول فى السورة، وهو ما مر معنا كان بمثابة مقدمة للقسم الثاني كما سنرى، والقسم الأول والثاني هما بمثابة المقدمتين للقسم الثالث. والأقسام الثلاثة هي بمثابة التوطئة للقسمين الأخيرين في السورة وكل ذلك سنراه. وقد رأينا كيف أن القسم الأول فصل في مقدمة سورة البقرة وسنرى أن القسم الثاني سيفصل كذلك في مقدمة سورة البقرة. وكل الأقسام في السورة هذا شأنها. فمحور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، وسورة آل عمران تفصل في هذه المقدمة وامتداداتها، وكما أنها تفصل في ذلك فإن لها سياقها الخاص ووحدتها الكاملة. ولنختم الكلام عن القسم الأول من سورة آل عمران بفصول ونقول نكمل بها تفسير القسم. فصول ونقول: نقول: 1 - قال الألوسي عن وجه مناسبة سورة آل عمران لسورة البقرة: «ووجه مناسبتها لتلك السورة، أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة، وأن سورة البقرة، بمنزلة إقامة الحجة، وهذه بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب، من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله، والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ ... بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق
أولاده؛ وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم- والسورة التي هي فيها- جديرة بالتقديم. وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين السورتين، أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، ومما يقوي التناسب والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك، لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون، وختمت هذه بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وافتتحت الأولى بقوله سبحانه الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وختمت آل عمران بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ الآية: يا محمد افتقر ربك، يسأل عباده القرض فنزل: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الآية إلى غير ذلك. اهـ كلام الألوسي. 2 - وفي أسماء سورة آل عمران: قال الألوسي: « ... وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة- الزهراوين- وتسمى الأمان والكنز والمغنية والمجادلة وسورة الاستغفار». 3 - من تقديم صاحب الظلال لتفسير سورة آل عمران: «ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها، تتناثر
نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد ... ». «أول هذه الخطوط بيان معنى «الدين» ومعنى «الإسلام» .. فليس الدين- كما يحدده الله- سبحانه- ويريده ويرضاه- هو اعتقاد في الله فحسب .. إنما هو صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه- سبحانه- صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع: توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية. وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله، فلا يقوم شئ إلا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى. ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو «الإسلام» وهو في هذه الحالة: الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شئون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد .. الإسلام .. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل .. كل في زمانه .. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة، والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء ... فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق .. والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون منهجه في الحياة ... ». اهـ. 4 - عند قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يقول صاحب الظلال: «هكذا .. ليس من الله في شئ. لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية .. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما في كل شئ تكون فيه الصلات. ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات .. ولكنها تقية اللسان لا
ولاء القلب ولا ولاء العمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما «ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان» .. فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن والكافر- والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا- كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل الكفري أو الآثم في صورة باسم التقية. فما يجوز هذا الخداع على الله»؟. وفي الآية نفسها يقول الألوسي: «والمراد أن لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما، وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض. ومذهبنا- وعليه الجمهور- أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة. ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين بمشرك» فمنسوخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق، أما بدونهما فلا تجوز. وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول- وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز- على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز، وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما، ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى. ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره، وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة
فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة، لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفى» اهـ كلام الألوسي. أقول: هذه الأمور فيها خلاف كثير، ولا بد من التفريق بين الفتوى والورع، ولا بد من التفريق بين حال قوة المسلمين وضعفهم، ولا بد من معرفة أن هناك حدا أعلى طمح إليه الفقهاء، وأن هناك حدا أدنى من أقوال الفقهاء المعتمدين. هو الذي لا يصح الخروج عليه أو النزول عنه، وعلى ضوء ذلك ينبغي أن ننظر إلى ما نقرؤه في كتب الفقه أو في كتب التفسير أو كتب شروح السنة. والذي أراه في أحوالنا المعاصرة: أن الحركة الإسلامية في عصرنا ينبغي أن تكون دقيقة في تربيتها لعناصرها، وواسعة الأفق في موضوع الطروح السياسية، فتربي عناصرها على الوضع الأكمل والأورع وعلى ما هو الأصل في الأحكام، وتتبنى في مواقفها السياسية ما هو الأصلح والأنسب لعصرنا من مجموع أقوال العلماء أهل الفتوى البصيرة، بما يسع أوضاع عصرنا. لقد نص كثيرون ممن تكلموا في الأحكام السلطانية على أنه يجوز أن يتولى أهل الذمة وزارة التنفيذ لا التفويض. ولقد نص فقهاء الحنفية على أنه يجوز بدأ الذمي بالسلام إذا كانت لك إليه حاجة، كما نصوا على جواز القيام للذمي إذا ترتب على ترك القيام له ضرر، وأجازوا مخاطبة الناس بألقابهم الرسمية ما لم يترتب على ذلك إثم إذا كان ترك الخطاب باللقب يترتب عليه ضرر. وهكذا نجد مثل هذه التفريعات التي ألجأت إليها مسيرة التاريخ الإسلامي وأوضاع المسلمين. والذي أقوله: إن حق التربية يقتضي منا أن نربي على العزائم والورع، وحق المعركة يقتضي منا أن نختار من أقوال الأئمة ما تقتضيه ظروف معركتنا المعاصرة. والأمر دقيق وسيأتي في هذا التفسير ما يوضح مثل هذه الشئون وغيرها وأدلة ذلك. 5 - عند قوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال الألوسي:
فصل في المتشابه
وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له: «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه. إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل ... » 6 - عند قوله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... قال الألوسي: «وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال «شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دينا كان علي فقال: يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: قل قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدى عنك» وفي رواية للطبراني ذكر الآيتين بتمامهما. فصل في المتشابه: لعل القارئ لاحظ أنني مررت على موضوع الآيات المتشابهات مرورا سريعا لا يتفق مع جلالة هذا الموضوع الذي كتب فيه العلماء ولا زالوا يكتبون، فكان حصيلة ما كتبوا فيه عشرات الألوف من الصحائف، حتى لو قلنا إنه لم يحتدم النقاش في موضوع كما احتدم في هذا الموضوع لكنا صادقين فلماذا مررنا عليه مرورا سريعا؟! السر في ذلك هو اعتقادنا أن هذا موضوع لا تصلح فيه الكتابة المختصرة، ولذلك فعلى مريد تتبعه أن يرجع إلى الكتب المطولة التي ألفت فيه ليستطيع أن يستخلص لنفسه ما تطمئن به نفسه، على أننا أشرنا إلى نقطة نتمنى أن يتابعها بعض أهل العلم، هذه النقطة هي أن الواقع التاريخي للمسلمين أصبح بإمكانه أن يقدم لنا ترجيحا للكثير من الأمور التي احتدم فيها النقاش حول المحكم والمتشابه. فهناك فرق دلت النصوص على انحرافها، فمن خلال ما اعتمدته وما أولته يمكن أن يترجح لدينا بعض الأمور في شأن المتشابه والمحكم. وهناك قضايا أخذت طابع البديهية عند جماهير المسلمين بحيث أصبح بالإمكان من
خلالها أن نرجح بعض ما اختلف فيه في موضوع المتشابه والمحكم. على أنه إذا اعتبرنا أن واقع المسلمين الحالي يفرض علينا ألا نتوسع في موضوع الكلام عن المتشابه والمحكم، فإن واقع المسلمين الحالي والمستقبلي، يفرض علينا أن نقول كلمة حول الحدود التي يسع الدولة الإسلامية أن تتدخل فيها في أمور الاختلافات فترجح أو تعاقب. الذي يبدو لي من خلال دروس التاريخ، وبسبب من المآسي التي حدثت لعلماء أجلاء، أن على الحكومة الإسلامية في المستقبل أن تعطي حرية التحقيق العلمي لجميع المسلمين، وأن تعتمد التقنين في القضايا الفقهية وتفرض ما تراه مناسبا من مجموع آراء الأئمة على ضوء الشورى، وألا تعاقب على رأي إسلامي إلا إذا أجمع المعتمدون من أهل المذاهب الأربعة والمعتمدون من أهل الحديث على استحقاق صاحبه للعقوبة. وإنما اشترطت للعقوبة إجماع المعتمدين من أهل الفتوى من المذاهب الأربعة وأهل الحديث بآن واحد، لأنني وجدت أن أهل الحديث يتسرعون لو كان بيدهم سلطة في عقوبة المخالف، وكذلك أهل المذاهب، فمثلا لو أن إنسانا أول حديث النزول الذي ذكرناه أثناء التفسير، لكان مستحقا للعقوبة عند بعض أهل الحديث، مع أن رواية النسائي التي يقول عنها القرطبي بأنه قد صححها أبو محمد عبد الحق تقول «إن الله- عزّ وجل- يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى». إن هذه الرواية تصلح مستندا لأهل التأويل لحديث النزول فلا أقل من أن يرفع عنهم استحقاق العقوبة، وما جرى لابن تيمية لا يخفى. مما لا يصلح أن يتكرر مرة ثانية إنني أعتبر أن الوصول إلى قاعدة يتفق عليها الجميع، في شأن موقف الحكم الإسلامي من موضوع التحقيق العلمي، هو الأهم الآن بالنسبة لسير الحركة الإسلامية. وأن على القائمين على الحركة الإسلامية، أن يحتفظوا لأنفسهم بكثير من قناعاتهم العلمية لصالح معركة المسلمين مع خصومهم، وأن على جميع المسلمين أن يوفقوا بين حق المعركة، وحق الدعوة، وحق العلم، وحق التربية، وهو موضوع دقيق فصلنا فيه في غير هذا المكان. وما ذكرته في هذا الفصل لا يخرج عن كونه اقتراحا، وعلينا أن نصل في شأنه إلى
فصل في الرسوخ في العلم
قاعدة يرضاها الجميع. لقد رأيت ناسا مذهبيين يستحلون دم ابن تيمية، ورأيت ناسا من أهل الحديث يستحلون دم النووي، وسيبقى أمثال هؤلاء موجودين في الأمة وسواء وجدوا أو لم يوجدوا فإنني لا أرى للحكم الإسلامي أن يتورط في دم النووي، أو في دم ابن تيمية، ولا أرى له أن يتورط في عقوبة هذا أو هذا، وليبق باب التحقيق العلمي مفتوحا، وليبق النووي يناقش ابن تيمية والعكس. وضمير الأمة الإسلامية لن يعجزه التمييز مع وجود العلم الشامل الذي يجب أن يكون جزءا من سياسة الدولة. وأكرر أن ما قلته، اقتراح له صلة بقضايا الحكم والسياسة الإسلاميين، وليس له صلة برأي شخصي حول فهم موضوع المحكم والمتشابه. فصل في الرسوخ في العلم: مما مر معنا في سورة آل عمران، عرفنا بعض خصائص الراسخين في العلم من كونهم يعملون بالمحكم، ويحملون عليه المتشابه، أو يسلمون لله تعالى فيه، ولا يعارضون النصوص ببعضها، ومن أنهم أهل لب، ومن أنهم خاشعون لله كثيرو الدعاء له. وسيأتي في آخر سورة آل عمران تعريف لأولي الألباب، الذين اجتمع لهم الذكر والتفكر، والدعاء والعمل، والهجرة حال وجوبها وتحمل ترك البلاد في سبيل الله، وتحمل الإيذاء في سبيل الله، والمشاركة في القتال إذا كان واجبا، والاستعداد للاستشهاد. كل ذلك علامات نتعرف بها على الراسخين في العلم، الذين لكلامهم وزن في موضوع المتشابه والمحكم، ولكن هذه كلها علامات، هي أثر العلم الحقيقي، فإذا اجتمعت مع العلم الحقيقي الكامل الشامل، وجد الراسخ في العلم، وإذا أردنا أن نأخذ تصورا عن العلوم التي يحتاجها الفهم لكتاب الله، فلنقرأ تصور السيوطي للعلوم التي يحتاجها المفسر لنأخذ تصورا مبدئيا عن الرسوخ في العلم، فلننقل كلامه ثم نعلق عليه قال السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن: «ومنهم من قال، يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج إليها المفسر، وهي خمسة عشر علما. أحدها اللغة: لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع. الثاني: النحو: لأن المعنى يختلف باختلاف الإعراب.
الثالث: الصرف: لأن به تعرف الأبنية والصيغ. الرابع: الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين، اختلف باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح. الخامس والسادس والسابع: المعاني، والبيان، والبديع: لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادة المعنى، وبالثاني: خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث: وجوه تحسين الكلام. الثامن: علم القراءات، لأنه يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض. التاسع: أصول الدين: بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما يجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤول ذلك ويستدل على ما يستحيل، وما يجوز وما يجب. العاشر: أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط. الحادى عشر: أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه. الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ، ليعلم الحكم الملزم من غيره. الثالث عشر: الفقه. الرابع عشر: الأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل. الخامس عشر: علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم». أقول: ما ذكره السيوطي من علوم هي بعض من كل ليصلح إنسان لتفسير كتاب الله فمثلا الثقافة الكونية، والثقافة التاريخية، هما بعض لوازم المفسر المفترض فيه أن يكون راسخا. إن الرسوخ في العلم صفة لا تعطى لأحد إلا بشروط كثيرة جدا، وخاصة في عصرنا الذي حدث خلاله هذا الانفجار العلمي. ومع أن ما ذكره السيوطي هو بعض من كل إلا أننا من خلاله نستطيع أن نستأنس لمعرفة قيمة كلام الرجال الذين تكلموا خلال العصور في الشرح والتفسير لكتاب الله.
فصل في التقية
فإذا اجتمع هذا مع ما ذكرته النصوص فعندئذ يوجد الراسخ في العلم. ولعلنا بذلك نكون قد حددنا سمات من نستطيع أن نقبل كلامه في موضوع المحكم والمتشابه، فإذا ما اجتمع لنا مع ذلك معرفة تاريخية في أنواع من المتشابه، ضلت به الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية، أو يستعمله المنحرفون المعاصرون، فإن ذلك كله يساعد على توضيح قضية المحكم والمتشابه. فصل في التقية: بمناسبة قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً يتحدث عادة عن موضوع «التقية» الذي اشتهر عن الشيعة، والذي يشاركهم في بعض مضامينه أهل السنة، ويخالفونهم في مضامين أخرى كثيرة. وقد ذكرنا أثناء التفسير ما يوضح بعض النقاط. ولزيادة الإيضاح فإننا ننقل بعض كلام الألوسي في هذا المقام: يقول الألوسي: «وفي الآية دليل» على مشروعية التقية، وعرفوها بحفظ النفس. أو العرض. أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم [المبتدع]، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين، وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله تعالى واسعة، ثم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل. أو قتل الأولاد. أو الآباء. أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق. أو بحبس القوت. أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه. ولو كان التخويف بفوات المنفعة، أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت، والضرب القليل غير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد
قطعا؛ ومما يدل على أنها رخصة- ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه» وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب، لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (سورة البقرة) وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية، ولا يعود على من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة، وعدوه المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق إن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك حرمته بالإفراط، ولكن ليست عبادة وقربى حتى يترتب عليها الثواب، فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية. لا كذلك المهاجر لإصلاح الدين ليترتب عليه الثواب، وليس كل واجب يثاب عليه، لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة. بل كثير من الواجبات لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حالة الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم، والانبساط معهم، وإعطاؤهم لكف أذاهم، وقطع لسانهم، وصيانة العرض منهم، ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع. فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» وأخرج ابن عدي. وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا. قوا بأموالكم
أعراضكم، وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة- أو أخو العشيرة- ثم أذن فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا. وإبراهيم الحرمي بزيادة «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر. ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس. وهم الخوارج والشيعة: أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا، ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة. منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ على فرسه في صلاته كيلا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين؛ وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض، حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة، أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي. وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا عندهم وأسسوا عليه دينهم- وهو الشائع
فصل في أسباب النزول
الآن فيما بينهم- حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك» اهـ. ما أردنا نقله من كلام الألوسي: أقول: إن الألوسي لا يعتبر السجن مع القوت ومع الضرب القليل مجيزا للتقية كما رأينا. والذي نص عليه فقهاء الحنفية أن سجن الظلمة كالإكراه الملجئ أي كالقتل وإتلاف العضو وعلى هذا فكلام الألوسي- فيما يبدو- في سجن تحتمله النفس زمنا ومكانا وآلاما، أما إذا كان السجن أو الاعتقال آلامه كثيرة أو الزمن فيه مديد فإن الرخصة للمبتلى بذلك قائمة. فصل في أسباب النزول: في كلام المفسرين وأصحاب السير، اضطراب كثير في أسباب النزول لأجزاء كثيرة من أوائل سورة آل عمران فبينما نجد في كلام بعضهم ما يشير إلى أن بضعا وثمانين آية من صدر سورة آل عمران نزل بعد مناقشة مع وفد نجران، الذي جاء في السنة التاسعة للهجرة، نجد في كلام بعضهم أن آية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ قد نزلت بعد غزوة بدر كما نجد أن آيات كثيرة يذكر لها سبب نزول خاص كما سنرى. كما نجد أن آية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ .. قد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل والتي كانت سنة سبع للهجرة. كل ذلك يجعلنا نرجح أن رواية ابن إسحاق والزهري من أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزل في وفد نجران غير راجح وهو أحد الاتجاهات التي ذكرها ابن كثير. نعم هناك بضع آيات نزلت بمناسبة مجئ وفد نجران منها آية المباهلة كما سنرى ولكن ليست كل هذه الآيات. إلا إذا قلنا: إن بعض هذه الآيات نزلت من قبل ثم نزلت مع بقية الآيات مرة ثانية لأن معانيها متكاملة وهو اتجاه يحتمل مثله ابن كثير. وهناك رواية يذكرها البيهقي تذكر أن من قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ
اللَّهِ ... إلى نهاية آية المباهلة. نزلت بسبب الحوار مع وفد نجران. وهو اتجاه أميل إليه فيكون بعض صدر سورة آل عمران نزل بسبب وفد نجران وليس كلها. وعلى هذا فإننا نرجح أنه إن كان سبب نزول قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ حوارا قد جرى بين بعض أهل الكتاب ورسولنا عليه الصلاة والسلام، كما يذكر بعضهم، فإن هذا الحوار كان متقدما على الحوار مع وفد نجران بل كان متقدما جدا. فإذا اتضح هذا فإننا سننقل بعض ما ذكره العلماء من أسباب نزول لبعض الآيات الواردة في القسم الذي مضى معنا من السورة وكما سنرى فإن هذه النقول تدل على أسباب نزول متفرقه غير ما ذكره ابن إسحاق والزهري، إلا أن يقال- كما ذكرنا- إن بعض الآيات نزلت مرتين. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هناك اتجاها يقول: إن وفد نجران جاء قبل صلح الحديبية، لكن يعكر على هذا الاتجاه أشياء كثيرة فلم يبق إلا اتجاهان: القول بتعدد النزول، أو القول بأن حديث ابن إسحاق غير محفوظ. وهذه بعض الروايات في أسباب النزول لبعض الآيات التي مرت معنا في القسم الأول: أ- يذكر الطبري رواية عن محمد بن جعفر بن الزبير تقول: إن آية المتشابه نزلت بسبب الحوار مع وفد نجران، إذ احتجوا بقوله تعالى وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ على ما يزعمون من أن عيسى ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وهي جزء من الرواية التي فهمها بعضهم على أنها نزلت في عام الوفود سنة تسع للهجرة، وقد رأينا بعض ما يمكن أن يقال فيها. ب- رأينا أثناء التفسير ما ذكره ابن كثير عن ابن إسحاق عن عاصم من أن قوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ أنها نزلت بعد بدر إذ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم ما قال وردوا عليه ما ردوا فأنزل الله الآيتين. وبهذه المناسبة نقول: إن النص مع أنه عام، لكن سبب النزول يذكرنا بخصوص معين، هو أن النص موجه لليهود الذين كانوا في المدينة بشكل مباشر وفي ذلك معجزة قرآنية إذ إن الله عزّ وجل صدق وعده فغلبت يهود في الدنيا، فقهرت قينقاع وبنو النضير ويهود خيبر،
وقتلت قريظة فيما بعد، وسيحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. ج- في سبب نزول قوله تعالى قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ... ينقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال: قال عمر بن الخطاب لما نزلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ... الآية. د- في سبب نزول قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ ... قال الألوسي: «وقد أخرج ابن إسحاق وجماعة .. قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو. والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه. قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية. (وفي البحر) زنى رجل من اليهود بامرأة، ولم يكن بعد في ديننا الرجم، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أحكم بكتابكم، فأنكروا الرجم، فجئ بالتوراة، فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله، فأظهرها، فرجما، فغضبت اليهود فنزلت» .. هـ- وفي سبب نزول قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .... قال الألوسي: روى الواحدي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وعد أمته ملك فارس والروم. قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا، قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق
صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها، أو يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق، والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان، فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم. وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، فكبر المسلمون، ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك، فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقى فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا. فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال! فأنزل الله تعالى وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (سورة الأحزاب) وأنزل هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ الخ. و- وفي سبب نزول قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال الألوسي: قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو. وكهمس بن أبي الحقيق. وقيس بن زيد- والكل من اليهود- يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة
ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم، فأنزل الله هذه الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريا نقيبا، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى لا يَتَّخِذِ الخ. ز- وفي سبب نزول قوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... قال الألوسي: واختلف في سبب نزولها. فقال الحسن وابن جريج: «زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم يحبون الله تعالى. فقالوا يا محمد: إنا نحب ربنا. فأنزل الله تعالى هذه الآية» وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليه بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الخ» وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. أنزل هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها». وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «نزلت في نصارى نجران؛ وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى، وتعظيما له، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم» ويروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبي: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. ح- ونختم هذه النقول في أسباب النزول بالرواية التي تذكر أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزلت في وفد نجران. ورأينا كيف يكون التوفيق بينها وبين الروايات الأخرى في حال صحتها.
قال الألوسي: «أخرج ابن إسحاق. وابن جرير. وابن عبد المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران، وكانوا ستين راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب. عبد المسيح. والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو الله تعالى، ويقولون: هو ولد الله تعالى، ويقولون: هو ثالث ثلاثة- تعالى الله- كذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم: هو الله تعالى بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ويحتجون في قولهم بأنه ولد الله تعالى: يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وصنع ما لم يصنعه أحد غيره من ولد آدم قبله، ويحتجون في قولهم بأنه ثالث ثلاثة: إن الله تعالى يقول فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا يقولون: فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت، وأمرت، وخلقت، وقضيت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما- العاقب، والسيد- كما في رواية الكلبي والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا، وتوحيده إياه بالخلق والأمر لا شريك له فيه، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه الأنداد، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: ليس معه غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى عليه السلام في قولهم؛ (القيوم) القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى، وفي رواية جرير عن الربيع قال: «إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن
كلمة أخيرة في القسم الأول
الله تعالى لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. كلمة أخيرة في القسم الأول: نلاحظ بشكل واضح، أن موضوعا جديدا سيأتي معنا في القسم الثاني من السورة، يتحدث عن زكريا، ومريم وعيسى، عليهم السلام، وكنا قلنا من قبل: إن القسم الأول في سورة آل عمران، هو بمثابة المقدمة للقسم الثاني، والقسم الأول والثاني بمثابة المقدمة للقسم الثالث، والأقسام الأولى بمثابة المقدمات للقسمين الأخيرين من السورة: إن القسم الأول من السورة تحدث عن وحدانية الله، وقيوميته، وعزته، وحكمته، ومظاهر ذلك من إنزال الكتب، وإلزام الناس بها، وعدم قبوله- جل جلاله- إلا الإسلام دينا، وكيف أن الإسلام يتمثل بالمتابعة والطاعة. ويأتي الآن القسم الثاني وفيه تصحيح لمفاهيم أهل الكتاب عن عيسى عليه السلام، إذ هتك النصارى بمفاهيمهم المنحرفة عن عيسى عليه السلام، كل مقامات الألوهية ومقتضياتها، فجاء القسم الثاني ليصحح ذلك كله، وليعطينا تصورا عن هذا الموضوع، ينسجم مع المعاني التي قدمها لنا القسم الأول، ليكون القسمان بمثابة مقدمتين لفتح حوار شامل مع أهل الكتاب، ثم ليكون ذلك بمثابة الأساس الذي يبنى عليه القسمان الأخيران فى التوجيهات المباشرة للأمة الإسلامية. فلننتقل إذن إلى القسم الثاني في السورة بعد أن عرفنا محله في سياقها.
القسم الثاني من سورة آل عمران
القسم الثاني من سورة آل عمران يمتد هذا القسم من الآية (33) إلى نهاية الآية (63) وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 41] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
[سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 54] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
كلمة في هذا القسم
[سورة آل عمران (3): الآيات 55 الى 58] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 63] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) كلمة في هذا القسم: نلاحظ أن بداية هذا القسم قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ونهايته: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. والذي دلنا على أنه قسم كامل: المعاني من جهة، والخاتمة التي تشبه خاتمة القسم الأول من جهة أخرى. فخاتمة القسم الأول كما ذكرنا هي: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وهاهنا: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ والقسم هذا يقص علينا قصة زكريا، وقصة مريم، وقصة المسيح عليهم السلام. فيعرض الله علينا في قصة زكريا كيف رزقه الله على الكبر يحيى، وكانت زوجته عاقرا، وذلك كمقدمة للكلام عن خلق عيسى بلا أب. فالقدرة الصالحة لذلك صالحة لهذا، ومن ثم تأتي قصة مريم وحملها بعيسى عليهم السلام جميعا، ثم ما كان من شأن عيسى، ثم إقامة الحجة على أن ما قصه الله- عزّ وجل- علينا في شأنه هو الحق الخالص. وكما قلنا من قبل، فإن القسم الأول، والقسم الثاني يوطئان للقسم الثالث الذي يفتح الحوار الشامل مع أهل الكتاب. تحدث القسم الأول عن مظاهر وحدانية الله، وقيوميته، وعزته وحكمته بإنزاله الكتب، ومنها القرآن، وأنه لا يقبل إلا الإسلام دينا، وإيجابه متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم محمدا وإيجابه طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأتي بعد ذلك هذا القسم، فيتحدث في البداية، عن اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم- ومحمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم- كما يتحدث عن اصطفائه آل عمران، ثم يحدثنا عما تظهر به حكمة الاصطفاء. والاصطفاء أصلا من مظاهر عزته وحكمته- جل جلاله- ومن ثم جاء في أواخر القسم قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالكلام في القسم الثاني استمرار للكلام عن الوحدانية والقيومية والعزة والحكمة، خاصة وقد حدث خلل في شأن التوحيد من خلال نظرة الكثيرين إلى عيسى عليه السلام. كان في القسم الأول حديث مع أهل الكتاب وعنهم. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فمن أهم ما وقع فيه الخلاف بين أهل الكتاب موضوع عيسى عليه الصلاة والسلام، فاليهود كذبوه، والنصارى اختلفوا في شأنه ثم استقر الأمر عندهم على تأليهه. وجاء هذا القسم ليبين هذه الأمور. قلنا إن سورة آل عمران تفصيل لمحورها من سورة البقرة، ومحورها هو مقدمة سورة البقرة. وفي مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وفي هذا القسم نرى قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. فالقسم يقص علينا صفحة من صفحات الغيب الذي يجب أن نؤمن به. فصلة هذا القسم في تفصيل مقدمة سورة البقرة واضحة، ففي مقدمة سورة البقرة كلام عن الكافرين، وما أعد الله لهم من عذاب عظيم. وفي هذا القسم نرى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ .... وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فالقسم يفصل في قضية الإيمان بالغيب، ويفصل في قضية الكفر، وفي كل تفصيل لمقدمة سورة البقرة. قد يقول قائل: إن القرآن كله تفصيل لهاتين القضيتين فلماذا نربط ما ورد فيه من ألفاظ بعينها بمكان بعينه كربطنا هذا القسم بمقدمة سورة البقرة؟ ونقول: نحن الآن نسجل ملاحظات، فإذا اجتمع لنا من الملاحظات ما هو كاف لتأكيد وجهة نظرنا من أول القرآن إلى آخره، فلا لوم علينا. وحيثما رأى أحد أننا تكلفنا في هذه الملاحظات فعليه واجب الرد، وعلينا واجب التراجع. قلنا من قبل: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وفيما هو امتداد لمعاني مقدمة سورة البقرة في سورة البقرة نفسها، ومما جاء في سورة البقرة. وهو امتداد لمعاني مقدمتها- قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
الآيتان اللتان هما بمثابة"المدخل" إلى القسم الثاني
دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. لاحظ أنه في هذا القسم جاءت هذه الآية: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ* إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ .. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... لاحظ التشابه بين آيتي سورة البقرة، وهذه الآيات فالقسم كله تفصيل لبعض ذلك المقام في سورة البقرة. يتألف القسم من آيتين هما بمثابة المدخل للكلام عن القسم، ثم ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تبدأ بقوله تعالى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ .... الفقرة الثانية تبدأ بقوله تعالى وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ. الفقرة الثالثة تبدأ بقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ. والفقرات الثلاث تقص الحق وهي تصحح. ولنبدأ عرض القسم. الآيتان اللتان هما بمثابة «المدخل» إلى القسم الثاني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. المعنى العام: يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض. فاصطفى آدم عليه السلام: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شئ. وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة. واصطفى نوحا عليه السلام، وأرسله إلى قومه لما عبدوا الأوثان، وأشركوا بالله، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله ليدعو إليه. واصطفى آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وذرياتهما، ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، واصطفى آل عمران، والمراد بعمران هنا والد مريم بنت عمران أم عيسى، اصطفاهم على الناس أجمعين. وآل عمران وآل إبراهيم ذرية واحدة، متسلسل بعضها من بعض، ولم يصطفها الله عبثا بل اصطفاها بعلمه فيها، وسمعه لأقوالها، وما في أنفسها.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى: أي اختار آدَمَ أبا البشر وَنُوحاً شيخ المرسلين وَآلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل وإسحاق والصالحين من ذريتهما وَآلَ عِمْرانَ أم يحيى، وأم عيسى، ويحيى وعيسى وزكريا عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي إن الآلين آل إبراهيم، وآل عمران ذرية واحدة متسلسلة، بعضها متشعب من بعض نسبا ودينا. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع افتقار الحال والمقال فيصطفي؛ ويعلم من يصلح للاصطفاء. فائدة حول السياق: بعد إذ قرر الله بهاتين الآيتين اصطفاءه لمن ذكر، وأن هذا الاصطفاء قائم على علم، تأتي الآن فقرتان معطوفتان على بعضهما، الأولى مبدوءة ب (إذ) والثانية ب (وإذ)، وفي كل منهما يبين الله- عزّ وجل- ما يشعر بحكمة الاصطفاء، فإذا اصطفى اصطفى بعلم. تفسير الفقرة الأولى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ هي أم مريم، وجدة عيسى، وجدة يحيى رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، المحرر: هو المعتق المفرغ الخالص للعبادة، وخدمة الله بخدمة بيت المقدس هنا، نذرت ألا يكون لأحد يد عليه، ولا يستخدم لغرض خاص، وهذا النوع من النذر كان مشروعا عندهم. والمعنى: إنى أوجبت لك أن يكون ما في بطني خالصا لعبادتك، وخدمة بيتك فَتَقَبَّلْ مِنِّي التقبل: أخذ الشئ على الرضا به، أي فتقبل مني نذري. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: السميع لدعائي، العليم بنيتي فَلَمَّا وَضَعَتْها أي: فلما وضعت النسمة التي في بطنها فتبين لها أنها أنثى قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى قالت: هذا على وجه التحزن والتحسر، قال الله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي: والله أعلم بالشئ الذي وضعت، وما علق به من عزائم الأمور، وأتمت أم مريم قولها بالاعتذار والتحزن وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ قال النسفي: وإنما ذكرت حنة- أي أم مريم- تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى
فوائد
يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ الرجيم: الملعون. أي وإنني أجيرها بك وأولادها من الشيطان الملعون. فوائد: 1 - من هذا السياق نعلم لماذا استحق آل عمران الاصطفاء من الله: حرصهم على الخير، وعلى العبادة، وعلى الخدمة لله فيهم، وفي ذريتهم، وخوفهم من الله والتجائهم إليه أن لا يسيروا في طريق الشيطان، وغير ذلك مما تراه خلال السياق. 2 - في قوله تعالى على لسان أم مريم وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى قاعدة عظيمة: فالأنثى ليست كالذكر في تركيبها الجسمي، ولا في تركيبها النفسي، ومن ثم فلا بد أن تكون وظيفتها الحياتية تختلف عن وظيفة الذكر، ولا بد أن يترتب على ذلك اختلاف في المسئوليات، واختلاف في الحقوق والواجبات، ومن أراد المساواة المطلقة بين الرجال والنساء، فليسو بينهما في التركيب الجسمي والنفسى أولا ثم فليطالب. 3 - لقد أعاذت أم مريم بنتها وذريتها من الشيطان الرجيم، وقد استجاب الله لها ذلك وقد قال عليه السلام في الحديث الصحيح: «ما من مولود إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسه إياه، إلا مريم وابنها». 4 - عند قوله تعالى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ قال ابن كثير: فيه دليل على جواز التسمية بعد الولادة كما هو الظاهر من السياق، لأنه شرع من قبلنا. وقد حكي مقررا وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم» أخرجاه. وكذلك فيها أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه، وسماه عبد الله. وفي صحيح البخاري «أن رجلا قال: يا رسول الله، ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال: سم ابنك عبد الرحمن». وثبت في الصحيح أيضا أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه، فذهل عنه، فأمر به أبوه، فرد إلى منزلهم، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر. فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع ويسمى، ويحلق رأسه». فقد رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي، وروي (ويدمى) وهو أثبت وأحفظ،
[سورة آل عمران (3): آية 37]
والله أعلم» أقول: لكن نص الإمام مالك في موطئه على أنه لا يسن أن يدمى الطفل من دم العقيقة وعلى هذا فالسنة في يوم التسمية أوسع من أن تقيد باليوم الأول فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي: فتقبل الله مريم من أمها، ورضي بها في النذر مكان الذكر، وهذا هو القبول الحسن: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً. أي: جعلها شكلا مليحا، ومنظرا بهيجا، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي: جعله كافلا لها، وضامنا لمصالحها. وإنما قدر الله كون زكريا كافلا لها لتقتبس منه علما جما نافعا، وعملا صالحا. وإنما كان زوج أختها كما ورد في الصحيح «فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة»، وقيل زوج خالتها. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. المحراب هو أشرف المجالس لكونه مخصصا للعبادة، فيه يحارب الشيطان. أي كلما دخل عليها زكريا مكان عبادتها، وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً طعاما. كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. قال ابن كثير: وفيه دلالة على كرامات الأولياء وفي السنة لهذا نظائر قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي: من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وفى ذلك دليل على أنه خارق للعادة، فهو من باب الكرامات إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يحصيه العباد لكثرته، أو تفضلا منه بغير محاسبة ومجازاة على عمل، ويحتمل أن يكون هذا جزءا من كلامها، أو هو كلام مستأنف. فلما رأى زكريا حال مريم، وكرامتها على الله، ورأى فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع في الولد الصالح، وإن كان في غير أوانه لكبر سنه، ولكون زوجه عاقرا، ولذلك دعا الله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أي: في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، أو في ذلك الوقت دعا ربه قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي: ولدا صالحا، والذرية تطلق على المفرد والجمع إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ. أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابا أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته، ومجلس مناجاته أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات- وفيها إجابة الدعوات- وقضاء الحاجات، قال ابن عطاء: ما فتح الله على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ كلمة الله تحتمل هنا عيسى، لأن تكونه كان بكلمة: «كن» بلا أب. وتحتمل
[سورة آل عمران (3): آية 40]
كتاب الله. فالنص هنا يفيد إما أن يحيى يكون مؤمنا بعيسى، أو أنه مؤمن بكتاب ربه وكلماته. وَسَيِّداً السيادة: هي التفوق في الشرف، وسببها في الإسلام الحلم والعبادة، والعلم والتقوى، والخلق والدين. وقد اجتمع ليحيى هذا كله. وَحَصُوراً الحصور: هو الذي لا يقرب النساء، إما بحصره نفسه، أي بمنعه لها من الشهوات، أو بخلق الله إياه بلا شهوة. قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان حصورا ليس كما قاله بعضهم: أنه كان هيوبا، أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها، كأنه حصور عنها، وقيل مانعا نفسه من الشهوات. وقيل ليست له شهوة في النساء. وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، وإما بكفاية من الله- عزّ وجل- كيحيى. ثم هي في حق من قدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه، درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن، وإكسابه لهن، وهدايته إياهن ... وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ هذه بشارة بالنبوة، بعد البشارة بالولادة، وهي أعلى من الأولى، والمعنى: ونبيا ناشئا من الصالحين، لأنه من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين. فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، وهو تعجب من حيث العادة، واستعظام للقدرة. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي: أدركتني السن العالية وأضعفتني وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لم تلد. قالَ أي الملك كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الأفعال العجيبة. أي هكذا أمر الله، عظيم لا يعجزه شئ، ولا يتعاظمه أمر. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها الحبل؛ لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أي: علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس إلا إشارة بيد، أو رأس، أو عين، أو حاجب، مع أنك سوي صحيح. وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة. مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولهذا قال وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ. العشي في اللغة: من حين الزوال إلى الغروب، والمراد بها هنا أوسع من ذلك والله أعلم، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. أمره بالذكر والتسبيح في أيام عجزه عن تكليم الناس، ليخلص المدة
تفسير الفقرة الثانية
لذكر الله. فلا يشغل لسانه بغيره. تفسير الفقرة الثانية: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ هذا معطوف على بداية الفقرة الأولى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ... وهذا يؤكد أن الفقرة هذه قد جاءت في سياق التبيان لحكمة الله في الاصطفاء؛ بدليل العطف هنا، وذكر الاصطفاء صراحة. وفي الآية إخبار عما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك، أن الله قد اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وَطَهَّرَكِ مما يستقذر من الأفعال والأحوال والأقوال، والأكدار، والهواجس، والوساوس وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بما سيكرمها الله- عزّ وجل- به من رزقها عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. ثم إن الملائكة أمروها بكثرة العبادة، والخشوع والركوع والسجود، والدأب في العمل؛ لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره لها وقضاه، مما فيه محنة لها، ورفعة في الدارين؛ بما أظهره الله فيها من قدرته العظيمة حيث خلق منها ولدا من غير أب يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ القنوت: هو الطاعة في خشوع وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي: كوني منهم بفعل فعلهم. ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من قصة أم مريم، ومريم، وزكريا وزوجته مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي: من أخبار الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي، وذلك دليل على ما ذكرنا أن هذه الفقرات إنما هي صفحات من الغيوب التي يجب الإيمان بها، فهي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. نفهم من ذلك ما أجمل من قبل، فنعلم أن مريم لم تدخل في كفالة زكريا إلا بعد قرعة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. نفهم من ذلك أنه كان هناك نزاع حول كفالة مريم، والأقلام: هي الأقداح التي تمت فيها القرعة. فوائد: 1 - نلاحظ أن هذه الفقرة مترابطة مع ما قبلها بأكثر من رباط، ومن جملة ما نلاحظه، أن الفقرة الأولى أسست لهذه الفقرة، إذ إن هذه الفقرة ستقص علينا قصة الحمل بعيسى من غير أب، فمهدت الفقرة السابقة لذلك بقصها علينا قصة حمل أم
يحيى بيحيى، وهي عاقر، مع ذكرها قصة ولادة مريم، وابتهال أمها، ثم قصة صلاحها وطهارتها، وما أكرمها الله به. وكل ذلك يجعل الاستعداد كاملا لتلقي نبأ الحمل بعيسى من غير أب. فالأولى من الفقرات تقص علينا قصة حمل عاقر، والثانية تقص علينا قصة حمل من غير أب، والفقرة الثالثة تذكرنا بخلق بلا أب ولا أم، وتأتي قصة عيسى في الوسط. 2 - لاحظنا في هذه الفقرة خطاب الملائكة لمريم، ومريم- بنص القرآن- صديقة، فهي ليست نبية، ولا تكون النبوة إلا في الرجال كما سنرى، فدل ذلك على أنه يمكن لغير الأنبياء أن يخاطبوا من قبل الملائكة، أو يكشف لهم شئ من عالم الغيب من باب الكرامات، ويشهد لهذا كثير من النصوص الصحيحة، مما نتعرض له إذا جاءت مناسبته. وفي هذا النص دليل أيما دليل على صحة هذا. ومن أقبل على الله بالسنة، فتح الله عليه إن شاء. وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وحنظلة في الحديث الذى رواه مسلم: «لو تدومون على ما أنتم عليه عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة». 3 - في الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» المعنى: خير نساء بني إسرائيل مريم، وخير نساء هذه الأمة خديجة. وروى الترمذي وصححه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون» وأخرج الجماعة إلا أبا داود، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون». أي: من الأمم السابقة والله أعلم. ولفظ البخاري: «ويكمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». 4 - في قوله تعالى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نقصه عليك وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك؛ كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا
[سورة آل عمران (3): آية 45]
في شأن مريم، أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر. في هذا الموضوع مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، إذ حدثنا القرآن عن كثير من الأمور الماضية، مما لا يعرفها العرب إطلاقا، وعلى غاية من الدقة، بما لا يمكن أن يكون لو لم يكن هذا القرآن من عند الله المحيط علما بكل شئ. إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ مبشرة مريم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا اسمه الذي يعرفه به المؤمنون. وفي قوله ابن مريم إعلام لها بإنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وفي ذلك شرف لها وبشارة. واختلفوا لماذا سمي المسيح؟ فقيل: لأنه إذا مسح ذا عاهة برأ، وقيل: لكثرة سياحته فلا يستوطن مكانا، وقيل: معناه في العبرانية المبارك وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: ذا جاه وقدر في الدنيا بالنبوة والطاعة، وفي الآخرة بعلو الدرجة والشفاعة. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. في حال صغره معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، فهو يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يكمل فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي: في قوله وعمله، له علم صحيح، وعمل صحيح. فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله قالَتْ مناجية ربها: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تقول متعجبة متهيبة: كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغيا؟؟ فقال لها الملك عن الله- عزّ وجل- في جواب ذلك السؤال قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ، وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ وفي قصة زكريا يَفْعَلُ ما يَشاءُ صرح بلفظ الخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله إِذا قَضى أَمْراً أي إذا قدره فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: فلا يتأخر شئ أراد خلقه. والتعبير بلفظة كن، إخبار عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه، ثم أخبر عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليهما السلام وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يحتمل هنا الكتابة، أو كتب الله أو ما افترضه الله من المكتوبات على الخلق وَالْحِكْمَةَ أي: وضع الأمور في مواضعها على ضوء الحلال والحرام وَالتَّوْراةَ التي
[سورة آل عمران (3): آية 49]
أنزلت على موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ الذي سينزله الله عليه وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل فهو مرسل إليهم خاصة قائلا لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بعلامة خارقة، ودلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة وهي: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وكذلك يفعل، يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله- عزّ وجل- الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي: الذي ولد أعمى، يجعله بصيرا وَالْأَبْرَصَ أي: ويبرئ الأبرص وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كررت الكلمة بإذن الله على لسان عيسى لتعلم عبوديته، ولدفع أي توهم بربوبيته وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أي: وأخبركم بما أكل أحدكم الآن وما ادخر في بيته لغده. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ أي: على صدقي فيما جئتكم به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وأفعاله وآياته وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقررا لها ومثبتا. أي قد جئتكم بآية، وجئتكم مصدقا للتوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى، وفيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، وكرر للتأكيد. فَاتَّقُوا اللَّهَ في تكذيبي وخلافي وَأَطِيعُونِ في أمري. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أي: أنا وأنتم سواء في العبودية لله، والخضوع والاستكانة إليه. وهذا إعلان للعبودية، ونفي للربوبية عن نفسه، بخلاف ما يزعم النصارى. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: إعلان العبودية لله، وإعطاؤه الربوبية، وحسن عبادته، هذا هو الصراط المستقيم الذي يؤدي بصاحبه إلى النعيم المقيم. جاء هذا كله في معرض البشارة لمريم بعيسى، ثم نقلنا الله- عزّ وجل- إلى موقف قوم عيسى منه، وموقفه بسبب ذلك. فكأنه قال: هذا الذي بشرت به مريم، في شأن ابنها كان، فماذا حدث إذ كان؟ حدث أن قابل اليهود هذا كله بالكفر. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ فلما علم من اليهود كفرا، علما لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس، أو فلما استشعر منهم التصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ الأنصار جمع نصير وناصر، أي من ينصرني في الدعوة إلى الله؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ الحواري هو صفوة الرجل وخاصته، أي قال له صفوة أصحابه: نحن أعوان دين الله آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: صدقنا بالله ونطلب شهادتك على إسلامنا، وإنما طلبوا
[سورة آل عمران (3): آية 53]
شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم؛ لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم، وعليهم. والملاحظ أنهم أعلنوا الإيمان، وطلبوا الشهادة على الإسلام، فدل على أن الإيمان الكامل، والإسلام الكامل شئ واحد. وبعد أن قالوا هذا لعيسى، قالوا لله مقرين وداعين رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ أي بالإنجيل وما قبله وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي عيسى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية، أو مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى فعرفوا منه أنهم (أي أمة محمد) شهداء الله على الناس، فطلبوا أن يشاركوهم في هذا الشرف. والتفسير الأخير مروي بسند جيد عن ابن عباس. وَمَكَرُوا أي: كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حتى أرادوا قتله وصلبه وَمَكَرَ اللَّهُ أي: جازاهم على مكرهم؛ بأن رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل. ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء، لأنه مذموم عند الخلق، وعلى هذا الخداع والاستهزاء وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي: أقوى المجازين، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.
فوائد
فوائد: 1 - قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي بمعجزة تناسب أهل زمانه، وتقوم عليهم الحجة بها من خلال اهتماماتهم، وما يبرعون فيه. ومن ثم كانت معجزة عيسى إبراء الأكمه والأبرص ... وإحياء الموتى، لأن علم الطب، والطبيعة كانا مثار اهتمام في البلاد التي تسيطر عليها الدولة الرومانية، فجاءهم بما يسلم به الجميع من أن هذا رسول الله. 2 - في قوله تعالى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ دليل على أن النسخ قد وقع في شريعة عيسى لشئ من شريعة موسى. والنصارى في عصورنا المتأخرة أنكروا النسخ سواء كان نسخ شريعة نبي لنبي آخر، أو النسخ ضمن شريعة النبي الواحد من أجل أن يبطلوا شريعتنا، وقد رد عليهم أبلغ رد من كتبهم، وأقوال علمائهم: رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه (إظهار الحق) إذ أثبت من خلال كتبهم: أن نسخ شريعة نبي لشريعة نبي آخر، قائم، والنسخ ضمن الشريعة الواحدة قائم. فليراجع الكتاب. وبعد ما مر يبين الله- عزّ وجل- كيف فوت على الماكرين بعيسى مكرهم: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ الأكثرون من المفسرين على أن المراد بالوفاة هنا النوم، أي منيمك، ومنهم من قال: إني قابضك إلي. ومنهم من قال: المعنى: إني متوفيك وفاة وعاصمك من أن يقتلك الكفار، وهذه بشارة له بعدم القتل، وسيكون موته بعد نزوله من السماء وَرافِعُكَ إِلَيَّ، أي: إلى سمائي، ومقر ملائكتي؛ بدليل رؤيته من رسولنا عليه الصلاة والسلام يوم المعراج في السماء. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من سوء جوارهم، وخبث صحبتهم؛ برفعي إياك إلى السماء وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ أي: المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فوقهم بالحجة والبيان، وبالسيف في كثير من الأحوال. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ثم بين الله- عزّ وجل- ما هو الحكم الذي سيحكمه فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال، وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق. وَأَمَّا
[سورة آل عمران (3): آية 58]
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي في الدنيا والآخرة. في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ولذلك يعاقبهم في الدنيا والآخرة. وتختم هذه الفقرة بقوله تعالى ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى، ومبدأ ميلاده، وكيفية أمره، واصطفائه وأهله، وما أكرمه الله به من المعجزات التي لا شك فيها ولا شبهة ولا ريب، وذلك كله من الذكر الناطق بالحكمة وهو القرآن. فائدة: في قوله تعالى وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بشارة للمؤمنين إذ نحن المتبعون الحقيقيون لعيسى ولغيره من الأنبياء إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإن أحسنا فنحن فوق العالمين جميعا. وهل في النص إشارة إلى أن الأتباع الصوريين لعيسى سيعلون على الكافرين من غير اتباعه؟ يحتمل بعضهم ذلك. وقد أكرمنا الله خلال العصور بغلبة الكافرين من كل جنس ولون. ولقد أصابنا ما أصابنا في الفترة المتأخرة لإهمالنا ديننا، فإن عدنا عاد الله علينا بالنصر، ونحن موعودون بفتح روما، والمستقبل لهذا الدين، وهذا موضوع سيأتي. الفقرة الثالثة إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. المعنى العام: يبين الله- عزّ وجل- أن خلق عيسى من غير أب في قدرة الله، كخلق آدم من غير أم ولا أب، بل من تراب. فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى من غير أب بالطريق الأولى أو الأحرى. وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق
المعنى الحرفي
أن ذلك باطل، فدعواه في عيسى أشد بطلانا، وأظهر فسادا. ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى. ثم بين الله- عزّ وجل- أن هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه، ولا صحيح سواه وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم. أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان. أي أن يتلاعن مع من يدعي غير هذا في شأن عيسى، فيدعو كل على الكاذب في شأن عيسى أن تنزل به لعنة الله. ثم أكد الله- عزّ وجل- أن ما قصه علينا في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه، ولا محيد، وأن الله متصف بالوحدانية وأنه العزيز الحكيم. ثم بين أن الذي يتولى عن هذا إلى غيره. هو المفسد، والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شئ. المعنى الحرفي: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي: إن شأن عيسى وحاله الغريبة في قدرة الله، كشأن آدم عليه السلام خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي: قدره جسدا من طين ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أي: ثم أراده بشرا فكان. شبه عيسى بآدم مع أن وجود آدم بلا أب وأم أغرب وأكثر خرقا للعادة فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: هذا هو القول الحق من الله أيها السامع، أو أيها الرسول، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: من الشاكين. والنهي هنا من باب التهييج لزيادة الثبات، لأن الخطاب إن كان لرسول الله، فإنه معصوم عليه السلام من الامتراء، أو أن الخطاب هنا للأمة من خلال شخصه عليه السلام. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ، أي: فمن جادلك من النصارى في شأن عيسى، مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي: من بعد ما جاءك من البينات الموجبة للعلم، فَقُلْ تَعالَوْا أي
[سورة آل عمران (3): آية 62]
احزموا أمركم وهلموا. نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل بأن نقول: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة: اللعنة، وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وقد فسرت المباهلة في الآية: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ. أي: في شأن عيسى منا ومنكم. قال النسفي: وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه، لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، وأفلاذ كبده لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء. لأنهم أعز الأهل، وألصقهم بالقلوب. وقدمهم في الذكر على الأنفس، لينبه على قرب مكانهم، ومنزلتهم. وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يرو عن أحد من موافق أو مخالف، أنهم أجابوا لذلك. إِنَّ هذا أي الذي قص عليك من نبأ عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الذي لا مرية فيه. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ هذا التعبير يفيد الاستغراق في نفي الإلهية عمن سوى الله، وهو رد على النصارى في تثليثهم. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في الانتقام، الْحَكِيمُ في تدبير شئون الأنام، وإنزال الأحكام. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: فإن أعرضوا عن هذا، إلى غيره ولم يقبلوه. فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. هذا وصف لهم بالإفساد في الأرض، وتهديد لهم، ووعيد. وأي إفساد أعظم من نسبة الولد إلى الله!! والدعوة إلى ذلك؟! وأي ذنب أفظع؟ إلا ذنب إنكار وجود الله أصلا. فائدة: ذكر ابن إسحاق أن سورة آل عمران إلى بضع وثمانين منها، نزل بمناسبة مجئ وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقشته في شأن عيسى. وذكر القصة كلها، وفيها عرض المباهلة عليهم، ورفضهم لها، وقبولهم بالجزية، وإرسال أبي عبيدة بن الجراح معهم ليحكم بينهم بناء على طلبهم رجلا أمينا من هذه الأمة. وننقل هنا مجموعة روايات لها علاقة في بعض جوانب هذا الموضوع وقد مر معنا من قبل شئ له صلة بذلك: أ- روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا
كلمة في السياق
نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبيا فلا عناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين. فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمة». ب- وروى الحاكم قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي، وفاطمة، والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي بعثني بالحق لو قالا: لا لأمطر عليهم الوادي نارا. قال جابر: وفيهم نزلت نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ. قال جابر: أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب وأَبْناءَنا الحسن والحسين، وَنِساءَنا فاطمة». ج- روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس قال: قال أبو جهل- قبحه الله-: إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ عنقه قال: «فقال لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا». كلمة في السياق: مر معنا القسم الثاني بمدخله، وفقراته الثلاث، ومن قبل مر معنا القسم الأول من سورة آل عمران بمقطعيه، وقلنا إن القسم الأول والثاني هما مدخل لفتح حوار شامل مع أهل الكتاب، وذلك مضمون القسم الثالث، وقلنا: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها. والآن نسجل ملاحظة: جاءت آية الكرسي في سورة البقرة بعد آية الإنفاق، وجاءت الآيتان بعد قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وكان للتسلسل على هذه الشاكلة في سورة البقرة حكمته.
فصول ونقول
وهاهنا نلاحظ أن سورة آل عمران بدأت بقوله تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وهي بداية آية الكرسي، وبنت على ما يترتب على أن الله كذلك في قسمها الأول، ثم فصلت في المعاني التي سبقت آيتي الإنفاق والكرسي. فههنا تعرض المعاني عرضا جديدا على غير ترتيب عرضها في سورة البقرة لمقتضيات الحكمة والسياق. وإنما أشرنا هذه الإشارة لنؤكد أن لكل سورة سياقها، وأن لكل سورة محورها في سورة البقرة، وأن السورة كما تفصل في محورها من سورة البقرة، تفصل في امتدادات معاني هذا المحور في تلك السورة. والموضوع سيتكشف لنا شيئا فشيئا من خلال العرض الشامل للقرآن الكريم. وقبل أن ننتقل إلى عرض القسم الثالث من السورة نحب أن نعقد فصولا، وننقل نقولا لها صلة بالقسم الثاني فصول ونقول: فصل مؤجل: كيف حدثت هذه العملية الفظيعة: أن ينتقل أتباع المسيح عليه السلام من التوحيد إلى التثليث؟ موضوع سنفصل فيه إن شاء الله عند قوله تعالى في سورة براءة: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فلنؤجل الكلام فيه. فصل: في رفع عيسى عليه السلام وهو حي: الذي عليه أهل التحقيق، أن عيسى عليه السلام رفعه الله إليه وهو حي. والوفاة المذكورة في قوله تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ المراد بها النوم، أو أنه من باب المقدم والمؤخر والتقدير: إني رافعك إلى ومميتك بعد ذلك أي عند نزولك الأرض مرة ثانية، ففي ذلك بشارة له أنه سيموت موتا ولا يقتل قتلا، لا حالا ولا استقبالا. قال ابن كثير بعد مجموعة نقول: «قال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير توفيه: هو رفعه، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الآية (سورة الأنعام) وقال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها الآية: (سورة الزمر) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: «الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث، وقال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ
فصل في نبوة النساء
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ إلى قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً والضمير في قوله قبل موته عائد على عيسى عليه السلام أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه حدثنا الربيع بن أنس عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة». أقول: والذي دعا أهل التحقيق للجزم بهذا، هو النصوص المتواترة في نزول المسيح عليه الصلاة والسلام إلى الأرض قبيل قيام الساعة كما سنرى، وقد جرت سنة الله- عزّ وجل- أنه إذا أمات عبدا لا يرجعه إلى الدنيا إلا خرقا لعادة، وقد رد أبو بكر على عمر رضي الله عنهما عند ما ذهب عمر إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود إلى الحياة بعد وفاته، بأن الله- عزّ وجل- لا يجمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتتين، وقد يستأنس بعضهم لذلك بما ذكره إنجيل برنابا- والله أعلم بصحته- على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام لأمه: «صدقيني يا أماه لأني أقول لك بالحق، إني لم أمت قط لأن الله قد حفظني إلى قرب انقضاء العالم». فصل في نبوة النساء: لا خلاف في أن الله- عزّ وجل- لم يرسل رسولا من النساء لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا (سورة يوسف) ولكن هناك خلافا كبيرا في جواز استنباء النساء، فمنهم من ذهب إلى جوازه ووقوعه، واستدل على ذلك بتكليم الملائكة لمريم عليها السلام، وأعطاها صفة النبوة لذلك، ومنهم من منعه ولم يعتبر أن تكليم الملائكة دليل على النبوة، لأن هناك نصوصا مجمعا على أنها في حق غير الأنبياء جرى فيها تكليم من الملائكة للبشر، وقد وصف الله- عزّ وجل- مريم بأنها صديقة وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (سورة المائدة) والصديقية مقام والنبوة مقام آخر، وهذا الذي رجحناه أثناء عرضنا لتفسير القسم الثاني.
فصل في فضلى النساء بإطلاق
فصل في فضلى النساء بإطلاق: لا خلاف في أن مريم أفضل نساء زمانها لقوله تعالى وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ولكن الخلاف، هل هي فضلى نساء العالمين في سائر العصور؟ بعضهم ذهب إلى ذلك، وبعضهم قال: بل أفضل منها: فاطمة الزهراء رضي الله عنها. ويقول الألوسي بعد كلام طويل: «وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة، ثم أمها، ثم عائشة بل لو قال قائل: إن سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا، وعندي بين مريم وفاطمة توقف، نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل، ثم أمها، ثم عائشة- ووافقه في ذلك البلقيني-. فصل في ردود على أفكار خاطئة: - ذهب بعضهم إلى أن قول أم مريم وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى بأن مقصودها: إن الأنثى التي أعطيتني إياها خير لي من الذكر الذي رغبت فيه، وقد رد الألوسي على هؤلاء ردا طويلا فليراجع. - كما رد الألوسي ردا مطولا على من استدل من الشيعة بالنصوص الواردة بشأن المباهلة، على أن ذلك نص في قضية الإمامة والخلافة، أما أنها تدلل على فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك لا شك فيه. نقول: - «بمناسبة قوله تعالى يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ يقول صاحب الظلال: «وهنا تظهر عظمة هذا الدين، ويتبين مصدره عن يقين. فها هو ذا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب- ومنهم النصارى- ما يلقى من التكذيب، والعنت والجدل، والشبهات .. ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على «نساء العالمين» بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق. وهو في مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالدين الجديد!. أي صدق؟ وأية عظمة؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين، وصدق صاحبه الأمين!».
فصل: في مناقشة التطوريين
- من كلام في تفسير الكهل نقله القرطبي: «وإنما الكهل عند أهل اللغة: من جاوز الأربعين وقال بعضهم: يقال له حدث إلى ست، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين، ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين». فصل: في مناقشة التطوريين: من قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يتضح لنا أن آدم عليه الصلاة والسلام قد خلقه الله خلقا مباشرا، فهذه الآية تنفي أي احتمال يمكن أن يتمسك به أي متمسك في مسايرة أوهام وظنون الداروينيين وأمثالهم. لقد مرت فترات كانت فيها نظرية داروين وكأنها حقيقة علمية، ولقد انتهى هذا الزمن؛ لأن النظرية قد نقضتها علوم متعددة ودراسات كثيرة، ولعل كتاب أخينا الدكتور حسن زينو المختص في الجيولوجيا والتنقيب، والذي يعتبر من أجود المتتبعين وأقوى المختصين في دراسته، لعل كتابه «التطور والإنسان» قد وضع المسألة في إطارها النهائي، خاصة وقد ذكر في هذا الكتاب كل ما وصل إليه الإنسان في حفرياته وأبحاثه، وكل ما قدمته المستحسات وبرهن على أن ذلك كله لا يقوم به دليل على صحة أمثال هذه النظريات، ومن كلامه في هذا الكتاب: «أما التخيلات والأوهام التي يقول بها بعض من يدرسون الحيوانات والنباتات الحالية، ويقارنون أعضاءها ببعضها ليقولوا إنها نشأت من بعضها البعض فهي ظنون يرفضها العلم». «وبالاختصار فكل من يدعي أن شكلا من الأحياء، نشأ من شكل آخر، ينبغي أن يثبت ذلك بالأدلة المستحسة طبقة فطبقة وشكلا فشكلا، أو في بعض الأحيان النادرة كما في مثال الذباب، بطريقة علم الوراثة بإجراء تجارب موضوعية يقينية. ومن ثم يرفض العلم كل تخرصات الملحدين الذين تدور مقالاتهم كلها حول إثبات أصل الإنسان من أحياء منحطة صغيرة، وهدفهم من ذلك نفي وجود آدم عليه السلام، ومن ثم إنكار الديانات السماوية، وإنكار الخالق عزّ وجل. فالمسألة التي يدور حولها الحوار والنزاع هي في النهاية وفي البداية أيضا مسألة العقيدة والإيمان بالله، بخالق الكون والأحياء فيه. ولهذا لاقت قضية التطور والنشوء مجالا رحبا واسعا تخطى آفاق العلم اليقيني التجريبي إلى متاهات الشكوك والترهات والخرافات التي تزعمها الملحدون من جهة، والكهنوت من جهة أخرى». يقول الدكتور هذا الكلام ويثبته بدقائق وحقائق كثيرة فلا يبقي تكأة يتكئ عليها
فصل: في مسائل فقهية وعملية
الماديون إلا وبرهن أنها تخيلات وظنون. ولنا عودة على هذا الموضوع. فصل: في مسائل فقهية وعملية: 1 - عند قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ... يذكر القرطبي مجموعة مسائل ننقل منها الثالثة والرابعة قال: الثالثة- دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين قال الله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً .. (سورة الرعد) وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وأخرج ابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ (سورة الفرقان). وقد ترجم البخاري على هذا «باب طلب الولد». وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين مات ابنه: «وأ عرستم الليلة»؟ قال نعم. قال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما». قال: فحملت. وفي البخاري: قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن. وترجم أيضا «باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة» وساق حديث أنس بن مالك قال قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته». وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين». أخرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم». أخرجه أبو داود. والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه، لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث» فذكر «أو ولد صالح يدعو له». ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
الرابعة:- فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه ويدعو بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (سورة مريم) وقال: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وقال: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» أخرجه البخاري ومسلم وحسبك. 2 - عند قوله تعالى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. قال القرطبي: «استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة، ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. وقال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر: واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري فى آخر كتاب «الشهادات» (باب القرعة في المشكلات وقول الله- عزّ وجل- «إذ يلقون أقلامهم») وساق حديث النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها مثل قوم استهموا على سفينة» ... الحديث. وسيأتي في «الأنفال» إن شاء الله تعالى، وفي سورة «الزخرف» أيضا بحول الله سبحانه وتعالى، حديث أم العلاء، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين، الحديث. وحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذكر الحديث. وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك؛ فقال مرة: يقرع للحديث. وقال مرة: يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه
فصل في ذكر بعض ما حدث عقيب نزول آية المباهلة
لاستهموا». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال: إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي: «وهذا ضعيف، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح؛ فأما ما يخرجه التراضي [فيه] فباب آخر، ولا يصح لأحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به. وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية، فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم، ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها، ثم تجفف قليلا، ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك، ويغطى عليها ثوبه، ثم يدخل يده ويخرج، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه. 3 - هناك اتجاهان في موضوع المباهلة، هل هي جائزة لإظهار الحق أبدا، أو أنها خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والثاني هو الأقوى. قال الألوسي: «ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس ابن سعد أن ابن عباس رضي الله عنه كان بينه وبين آخر شئ فدعاه إلى المباهلة». فصل في ذكر بعض ما حدث عقيب نزول آية المباهلة: يقول الألوسي: أخرج البخاري ومسلم «أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة». وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء، والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى فَقُلْ تَعالَوْا الآية فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى بني قريظة والنضير وبني قينقاع؛ فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر، وألف في رجب ودراهم». وروى أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة، وثلاثا وثلاثين درعا، وثلاثة وثلاثين بعيرا، وأربعا وثلاثين فرسا».
وأخرج في الدلائل أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد- وهو الكبير- والعاقب- وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما، قالا: أسلمنا قال: ما أسلمتها. قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولدا، ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية. فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول: ونزل فَمَنْ حَاجَّكَ الآية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم». فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم. قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لا عنتموه إنه لاستئصالكم، وما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أنا دعوت فأمنوا أنتم، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية». وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو أتموا الملاعنة» وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا». وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا ومعه علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم قال: يا معشر النصارى! إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا تهلكوا». هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفس، الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب، وهو يختص به وبمن يباهله، لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو، وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل رسول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن» اهـ. أقول: نقلنا هذا النقل عن الألوسي مع أننا كنا نقلنا بعض رواياته من قبل لما في ذلك من استيعاب مفيد.
فصل في ذكر بعض أسباب النزول
فصل في ذكر بعض أسباب النزول رأينا أن بعضهم يعتبر أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزل بمناسبة الحوار مع وفد نجران، إلا أنه رأينا من يذكر أسباب نزول خاصة لبعض آيات صدر سورة آل عمران، وقلنا في تعليل ذلك: إما أن الرواية التي تذكر سبب نزول واحد لكل هذه الآيات ليست محفوظة، أو أن بعض الآيات نزلت مرتين، نزلت متفرقة ثم نزلت مجتمعة مع أخواتها في صدر سورة آل عمران. ومما ذكره الألوسي في أسباب نزول قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ما يلي: «روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، ونحن على دينهم فنزلت، وقيل: إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله- سبحانه- واتخذوه إلها، نزلت ردا عليهم، وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر، المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها». كلمة أخيرة في الصلة بين أقسام السورة: سنرى أن القسم الثالث من أقسام سورة آل عمران فيه حوار شامل مع أهل الكتاب، وقد كان ذلك بعد هذا القسم الذي وضع الأمور في مواضعها في شأن عيسى عليه السلام، وبعد القسم الأول الذي وضع الأمور في مواضعها بالنسبة للقرآن والإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته، فالأقسام الثلاثة تكمل بعضها لتكون كلها مدخلا للقسمين الأخيرين اللذين يوجهان الأمة المسلمة بشكل مباشر في شأن العلاقة مع أهل الكتاب ومع أهل الكفر. وفي وجه المناسبة بين القسم الأول والقسم الثاني والقسم الثالث وهو القسم الذي سيأتي معنا من سورة آل عمران- يقول الألوسي: «وقال شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- في وجه المناسبة: إنه سبحانه لما بين إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وأن اختلاف أهل الكتابين فيه؛ إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، شرع في تحقيق رسالته، وأنه من أهل بيت النبوة القديمة، فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه، وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان؛
تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما، ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعاءهم الانتماء إلى ملته، ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية، ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم؛ تحقيقا لوجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله- انتهى- وهو وجه وجيه». أقول: بعد أن تقرر في القسم الأول معاني التوحيد والقيومية، والعزة والحكمة، ومظاهر ذلك وآثاره، من إنزال الكتب وإرسال الرسل، ووجوب الإسلام، وبعد أن تقرر في القسم الثاني بيان حقيقة عيسى عليه الصلاة والسلام، يأتي القسم الثالث وفيه حوار شامل مع أهل الكتاب، ليدخلوا في الإسلام وليتحققوا بما دعت إليه السورة في قسميها السابقين.
القسم الثالث من أقسام سورة آل عمران
القسم الثالث من أقسام سورة آل عمران يمتد هذا القسم من الآية (64) إلى الآية (99) وهذا هو [سورة آل عمران (3): الآيات 64 الى 71] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
[سورة آل عمران (3): الآيات 72 الى 74] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 78] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ***
[سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 83] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 88] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
[سورة آل عمران (3): الآيات 89 الى 99] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) ***
كلمة في القسم
كلمة في القسم: يبدأ هذا القسم بقوله تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ وينتهي بقوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. نلاحظ أن نداء قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ* قد بدئ به القسم، وختم به القسم. وهذا واحد مما دلنا على بداية القسم ونهايته. كما أن المعاني السابقة على القسم، والمعاني الآتية بعده تحدد بدايته ونهايته. فقد سبق بالقسم الذي يتحدث عن عيسى عليه السلام. وجاء بعده قسم بدايته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... وهو أول نداء بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نراه في سورة آل عمران. قلنا إن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في السورة نفسها، فلنر هذا جليا في هذا القسم: جاء في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ومن امتداد هذا المعنى في سورة البقرة الدعوة التي وجهت لبني إسرائيل، والحوار الذي فتح معهم، والذي بدايته مدخل مقطع بني إسرائيل الذي فيه وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ والذي استمر في مقطع بني إسرائيل، ومقطع إبراهيم، ومقطع القبلة، وانتهى بآية من سورة البقرة. وفي هذا الحوار الطويل مع بني إسرائيل هناك ورد قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهاهنا في هذا القسم من سورة آل عمران نجد قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وفي ذلك الحوار مع بني إسرائيل في سورة البقرة ورد: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وهاهنا نجد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي ذلك الحوار الكبير ورد قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .... وهاهنا يرد قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ
الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وفي معرض الحوار مع بني إسرائيل في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ .. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وهاهنا يرد النص نفسه تقريبا: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. لاحظ صلة هاتين الآيتين بشكل مباشر بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وفي سورة البقرة جاء قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وهاهنا نجد قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. ورأينا في الحوار الطويل مع بني إسرائيل في سورة البقرة إقامة الحجة عليهم بالنسخ، وهاهنا يذكر الله- عزّ وجل- لنا نموذجا على نسخ وقع عندهم: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ .... ورأينا في الحوار الطويل مع بني إسرائيل مناقشتهم لقضية القبلة والتوجه في الصلاة إلى كعبة إبراهيم، وهاهنا يأتي كلام عن البيت، وفرضية حجه. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ وقبل هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وفي سورة البقرة: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. ونلاحظ أن الحوار مع بني إسرائيل في سورة البقرة كان منصبا في جملة مع اليهود، وهاهنا ينصب الحوار في جملته مع النصارى، حتى إنه يذكر في أسباب النزول، أن قسما كبيرا من هذه الآيات إن لم يكن كلها نزل بسبب الحوار مع وفد نجران النصراني. فالقسم تفصيل لمحوره في سورة البقرة، ولامتدادات هذا المحور في سورة البقرة نفسها. لقد جاء في مقدمة سورة البقرة: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
وقد جاء القسم الأول في سورة آل عمران يفصل تفصيلا أوليا في هذا النص. ثم بعد ذلك جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ونلاحظ أن القسم الثاني من سورة آل عمران فصل في بعض ذلك فأعطانا صفحة من صفحات الإيمان بالغيب. ثم جاء بعد هذا في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ويأتي هذا القسم ليحاور أهل الكتاب من أجل أن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في مقدمة سورة البقرة كلام عما يقابل التقوى والمتقين، وهو الكفر والكافرين إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وقد رأينا في القسمين السابقين كيف يتعاقب الكلام عن الإيمان والكفر، ونلاحظ أنه في هذا القسم قد جاء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وفي مقدمة سورة البقرة يأتي كلام عن المنافقين، وفي معرض الحوار مع أهل الكتاب هنا يأتي ذكر خطة من خطط اليهود: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ وهكذا نجد كيف أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في نفس السورة، ولكن مع ذاتية خاصة للسورة، وسياق خاص بها، وترابط خاص بين معانيها. فمن قبل هذا القسم الذي هو حوار شامل مع أهل الكتاب في شئون كثيرة، جاء القسم الأول والثاني ممهدين لهذا الحوار. القسم الأول: قرر وحدانية الله وقيوميته، وعزته، وحكمته، وأن الدين عنده الإسلام. والقسم الثاني: بين الحق في شأن عيسى عليه السلام، وهو أخطر انحراف وقع فيه أهل الكتاب. ثم يجئ القسم الثالث ليفتح الحوار الشامل مع أهل الكتاب على ضوء التمهيدين السابقين. فقبل أن يقول هذا القسم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ جاءت خاتمة القسم الثاني تقول: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. وجاءت خاتمة القسم الأول تقول: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وكما أن الصلة بين القسمين السابقين وهذا القسم واضحة بشكل عام، فالصلة بين الآيات السابقة على هذا القسم وبين بدايته كذلك واضحة، فبعد أن قرر الله- عزّ وجل- الحق في شأن عيسى الذي عبده النصارى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ جاء خطاب لأهل الكتاب بأن يعبدوا الله وحده: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ. لقد جاء القسم الأول دعوة إلى الدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وجاء القسم الثاني مبينا أن محمدا صلى الله عليه وسلم داخل في المصطفين؛ فهو من آل إبراهيم، وأن ما يدعوا إليه في شأن عيسى هو الحق، وجاء القسم الثالث ليدعو أهل الكتاب إلى هذا الحق ويحاورهم فيه وتتسلسل المعاني في هذا القسم على ذاتية خاصة به. فهو يبدأ بالدعوة إلى عبادة الله وحده، ثم في تأنيب أهل الكتاب على دعاواهم أن إبراهيم يهودي، أو نصراني، وتبيان أن أولى الناس بإبراهيم هو محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ثم يبين القسم رغبة أهل الكتاب في إضلال المسلمين، ويؤنب أهل الكتاب على الكفر، وخلط الحق بالباطل، وكتمانهم الحق. ثم يبين القسم بعض خططهم لإضلال المسلمين، وبعض اعتقاداتهم التي تجعل بعضهم يستبيح الخيانة، مع أن القاعدة الكلية المقبولة عند الله تعالى هي الوفاء بالعهود، ثم يقص الله علينا بعضا من أخلاقهم، ومواقفهم ويرد عليهم فيها ثم يدعوهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، ويؤنبهم على أن يتجهوا إلى غير ذلك. ثم يبين أن هؤلاء لا يستحقون الهداية، إذ إنهم كانوا مؤمنين فكفروا، إلا إذا اجتمع للواحد منهم التوبة والإصلاح. ثم يبين الله لهؤلاء الكافرين ما أعده لهم من عذاب إن أصروا على الكفر، وماتوا عليه. ثم يبين لهم، ولنا بعضا مما يدخل في ماهية البر، وأن النسخ قائم في شريعتهم، وذلك لأنهم بحجة عدم جواز النسخ يرفضون الدخول في الإسلام. وإذ كانت قضية القبلة من شبههم، فإن كلاما عن بيت الله الذي بناه إبراهيم عليه السلام يأتي وفيه تبيان لشرف
"الفقرة الأولى"
هذا البيت، وفرضية الله على الناس حجه، فضلا عن استقباله في الصلاة كما قررته سورة البقرة. ثم يختم القسم بنداء لأهل الكتاب، يؤنبهم فيه على الكفر بآيات الله، وبنداء آخر يؤنبهم فيه على صدهم عن سبيل الله، وابتغائهم العوج. ولنبدأ عرض فقرات القسم: «الفقرة الأولى» [سورة آل عمران (3): الآيات 64 الى 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) المعنى العام: في الآية الأولى: أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو دعوة عامة لجميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم إلى كلمة عدل ونصف، يستوي فيها المسلمون وغيرهم، ألا يعبد الجميع لا وثنا ولا صليبا، ولا صنما ولا طاغوتا، ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له وهي دعوة كل الرسل، وأن يفرد الجميع الله بالطاعة، فلا يطيع أحد أحدا في معصية الله، فإن تولوا عن هذه الدعوة وهذا النصف، فقد أمرنا الله تعالى أن نشهدهم على استمرارنا على الإسلام الذي
المعنى الحرفي
شرعه الله لنا. وإذا تذكرنا ما ورد في القسم الأول: أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا إذا تذكرنا ذلك أدركنا صلة الأقسام ببعضها. - في الآية الثانية: ينكر الله تبارك وتعالى على اليهود والنصارى ادعاء كل من الطائفتين أن إبراهيم كان منها. فكيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى. وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعده بزمن طويل. ولهذا ختم الآية بتأنيبهم فقال: أَفَلا تَعْقِلُونَ - وفي الآية الثالثة: إنكار على من يجادل فيما لا علم له به، فإن اليهود تحاجوا في إبراهيم بغير علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم من علم، مما يتعلق بأديانهم التي شرعت إلى حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم. وإذ تكلموا فيما لا يعلمون فقد أنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به، إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها، وجلياتها، لأنه هو الذي يعلم، وغيره لا يعلم. - وفي الآية الرابعة: نفى أن يكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، إنه كان متحنفا عن الشرك، قاصدا إلى الإيمان، وفي ذلك تعريض بشركهم الذي منه إبراهيم براء. وفي الآية الخامسة: بين أن أقرب الناس، وأخصهم بإبراهيم هم أتباعه ومحمد صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا: المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم بعدهم لأنهم هم الموحدون المسلمون. المعنى الحرفي: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يدخل في الخطاب اليهود والنصارى، ويدخل غيرهم من باب أولى. تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ أي: مستوية بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: العبادة لله وحده، والطاعة لله وحده، فلا يحلل ولا يحرم إلا هو. ولا إله إلا هو. قال ابن جريج في تفسير قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي عن التوحيد فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: فقد لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا، وتسلموا بأنا مسلمون دونكم فاعلموا ذلك.
[سورة آل عمران (3): آية 65]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي: لم تجادلون في شأنه، فيزعم بعضكم أنه يهودي، ويزعم بعضكم الآخر أنه نصراني وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فمن أين له اليهودية أو النصرانية، وكتابا الديانتين ما أنزلا إلا من بعده بكثير أَفَلا تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيان حماقتكم؛ وقلة عقولكم أنكم جادلتم بالباطل فيما لكم به علم فخالفتم علمكم، مما نطق به التوراة والإنجيل. قال القرطبي: يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل. فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ولا ذكر له في كتابكم قال القرطبي: «يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا». وَاللَّهُ يَعْلَمُ علم ما حاججتم فيه. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي وأنتم جاهلون به. ثم أعلمهم أن إبراهيم برئ مما نسبوه إليه فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين إلا دين الله. مُسْلِماً لله في شأنه كله وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وقد أشركتم أنتم وغيركم، فكيف يكون منكم!!! إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي أخصهم به، وأقربهم منه، وأحقهم بالانتساب إليه لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي أتباعه في زمانه وبعده. وَهذَا النَّبِيُّ أي محمد عليه السلام خص بالذكر لخصوصيته بالفضل. وَالَّذِينَ آمَنُوا من أمة محمد عليه السلام. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أي ناصرهم. فوائد: 1 - أخرج البخاري نص رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عن ابن عباس عن أبي سفيان في قصة حين دخل على قيصر فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن صفته ونعته، وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية. وكان ذلك بعد صلح الحديبية، وقبل الفتح، وكما هو مصرح به في الحديث وهذا نص الرسالة: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. وهذا يفيد أن آية «قل يا أهل الكتاب تعالوا ... » قد نزلت قبل مجئ وفد نجران في السنة التاسعة: وقد ذكر ابن كثير مجموعة وجوه للتوفيق بين قول ابن إسحاق إن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، نزل بمناسبة مجئ وفد نجران في السنة التاسعة وكون هذه الآية في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل في السنة السابعة ومن هذه الأوجه: «ويحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى هذه الآية، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق إلى بضع وثمانين آية ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان عليه». 2 - يقول صاحب الظلال تعليقا على آية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ: إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله .. يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في الديكتاتوريات سواء .. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين .. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس- في صورة من الصور- ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس- على أي وضع من الأوضاع- وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها، وقيمها وموازينها، وتصوراتها، هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله، ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا. فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله. وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة .. ويصبح حرا. حرا يتلقى التصورات، والنظم، والمناهج، والشرائع، والقوانين، والقيم والموازين، من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله. فهو وكل إنسان آخر على سواء. كلهم يقفون في مستوى واحد ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله. والإسلام- بهذا المعنى- هو الدين عند الله. وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله .. لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. ومن جور العباد إلى عدل الله .. فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله. مهما أول
المؤولون، وضلل المضللون .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ .. 3 - ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ... 4 - روى الترمذي والبزار عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عزّ وجل» ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ .... وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن حوشب قال: حدثني ابن غنم، أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، أدركهم عمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم، فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة، يريدون أن يحيلوا عليك ملكك، ويفسدوا عليك أرضك، ويشتموا ربك، فأرسل إليهم النجاشي، فلما أن أتوه قال: ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان- لعمرو بن العاص. وعمارة بن أبي معيط؟ - يزعمان أنما جئتم لتحيلوا علي ملكي، وتفسدوا علي أرضي، فقال عثمان بن مظعون وجعفر: إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي، فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم: رجل شاب لكم في ذلك عذر، فجمع النجاشي قسيسيه ورهابنته وتراجمته، ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه، هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا: نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه، وما قد سمع منه. ويأمر بالمعروف، ويأمر باليتيم، ويأمر بحسن المجاورة، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده، ولا يعبد معه إله آخر فقرأ عليه- سورة الروم، والعنكبوت، وأصحاب الكهف، ومريم، فلما أن ذكر عيسى في القرآن، أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال: والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه، قال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال يقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين، فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه، فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة- يعني بلسان
كلمة في السياق
الحبشة- اللوم أي لا لوم على حزب إبراهيم، قال عمرو بن العاص: ما حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم، فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية. كلمة في السياق: 1 - سبقت هذه الفقرة فقرة تضمنت تقرير حقيقة عيسى، وتحدي من يكذب ذلك، وجاءت هذه الفقرة لتعلمنا أن ندعو أهل الكتاب إلى التوحيد، وأن نناقشهم في زعمهم أن أبا التوحيد منهم، بل نحن منه وهو منا بدليل أننا على مذهبه. والآن تأتي فقرة أخرى تبين رغبة أهل الكتاب في إضلالنا، وبعض مخططاتهم للإضلال، وبعض وصاياهم لبعضهم والرد عليهم. 2 - تأتي الفقرة الثانية في هذا القسم وفيها تعليل وتمثيل: فقد ذكرت الفقرة الأولى جدال أهل الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وادعاءهم أن إبراهيم عليه السلام منهم، وتأتي هذه الفقرة معللة لجدالهم ودعاواهم، وأن مرادهم من ذلك إضلال أهل الإيمان، وفيها تأنيب لهم على رغبتهم في إضلال المؤمنين، وبعض طرائقهم في ذلك. 3 - بعد مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وسار السياق هناك فقص الله- عزّ وجل- قصة آدم، وقصة بني إسرائيل، وقصة إبراهيم عليه السلام. وهاهنا تأتي دعوة لأهل الكتاب: لإفراد الله بالعبادة والربوبية، وفي هذا السياق تناقش دعاوى أهل الكتاب في إبراهيم عليه السلام. من خلال ما ذكرناه ندرك: كيف أن سورة آل عمران تسير في سياقها الخاص في مسرى واحد ومجرى واحد، تتكامل مراحله فتتعانق البدايات والنهايات ضمن الأقسام والمقاطع والفقرات، ومع ذلك فهي تفصل فى محورها من سورة البقرة، وامتدادات هذا المحور هناك. فإذا كان محورها هو مقدمة سورة البقرة، فإن مقدمة سورة البقرة لها امتداداتها وارتباطها بمعاني بقية سورة البقرة، وهاهنا تأتي سورة آل عمران لتفصل في نقطة من
"الفقرة الثانية"
المقدمة، وتجذب إلى هذه النقطة بعض ما له صلة بها في سورة البقرة ثم تفصل: كان تفصيل القسم الأول في ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وكان تفصيل القسم الثاني في الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وينصب تفصيل القسم الثالث على وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وإذ كان لكل من هذه النصوص في المقدمة ارتباطاته ببقية سورة البقرة، فإن سورة آل عمران تلقي أضواء على هذه الامتدادات والارتباطات، فتجذب المعنى إلى المعنى مفصلة وملقية أضواء على سياق سورة البقرة، وهذا بعض الأمر. «الفقرة الثانية» [سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) المعنى العام: - يخبر تعالى في الآية الأولى: عن رغبة بعض أهل الكتاب في إضلال المسلمين؛ والراغبون ابتداء طائفة من اليهود. ولكنها عامة في أهل الكتاب إلى يوم القيامة. ثم أخبر
تعالى أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم. - وفي الآية الثانية: سؤال موجه لأهل الكتاب عن أسباب كفرهم بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقها، وتحققهم من أحقيتها. - وفي الآية الثالثة: سؤال آخر لهم عن أسباب خلطهم الحق بالباطل، وأسباب كتمانهم الحق الموجود في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم ذلك وتحققهم منه وإذن هم يعرفون أن المسلمين على حق ومع ذلك يرغبون في إضلالهم. - وفي الآية الرابعة: إخبار عن مكيدة أرادوها، ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم ائتمروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم؛ ليقول الجهلة من الناس، إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، فيرتد المسلمون عن دينهم. - وفي الآية الخامسة: أخبر تعالى عن تواصيهم فيما بينهم ألا يطمئنوا وألا يظهروا سرهم وما عندهم إلا لمن تبع دينهم، وألا يظهروا ما بأيديهم إلى المسلمين، فيحتج المسلمون عليهم. وإنما دفعهم إلى هذا شيئان: الرغبة بأن يكون لهم امتياز على المسلمين في العلم، والخوف من أن تقوم الحجة عليهم أمام الله. يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي: يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة، وتركبكم الحجة في الدنيا والآخرة. وقد رد الله عليهم في الآية مرتين: المرة الأولى بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي: هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. والمرة الثانية: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي الأمور كلها تحت تصرفه، وهو المعطي المانع، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء، فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة التامة والحكمة البالغة.
المعنى الحرفي
- وفي الآية السادسة: بين- عزّ وجل- مشيئته المطلقة في أنه يختص من يشاء برحمته، وأن فضله عظيم لا يحاط به، وفيه تنبيه للمؤمنين على ما خصهم به من الفضل بما لا يحد ولا يوصف، بما شرفنا الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه الشرف على سائر الأنبياء وهدانا به إلى أكمل الشرائع. المعنى الحرفي: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت الآية في حادثة، دعا فيها اليهود حذيفة، وعمارا، ومعاذا إلى اليهودية، والنص عام في اليهود وغيرهم، ويشهد لذلك قيام آلاف المؤسسات التبشيرية للتبشير على الأرض الإسلامية، بغية إضلال المسلمين، لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن الإسلام إلى غيره. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي: وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم. وَما يَشْعُرُونَ بأن وبال الإضلال عليهم. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الموجودة عندكم وفيها بشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي: تعترفون بأنها آيات الله، أو معنى الآية: لم تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنتم تشهدون نعته في الكتابين! أو لم تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون أنها حق: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ من نعت محمد عليه السلام وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن محمدا ودينه حق وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فيما بينهم لبعضهم آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا من المسلمين وَجْهَ النَّهارِ أي أوله وَاكْفُرُوا آخِرَهُ أي اكفروا آخر النهار بالإسلام، أي أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار، واكفروا به آخره لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بأن يقولوا: ما رجعوا- وهم أهل كتاب وعلم- إلا لأمر قد تبين لهم، فيرجعون برجوعكم. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي: لا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم، أي لا تطمئنوا إلا لبعضكم، فتكلموا فيما بينكم فقط بما تعرفون، حتى لا ينتفع أحد بالإسلام، أو تكون للمسلمين حجة من خلال كلامكم. هذه وصيتهم لبعضهم. قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي: من شاء الله هداه فأسلم ثبته على الإسلام ولا يضره كيدكم. ولكن لماذا تفعلون ذلك؟ من تخطيط للإضلال وتواص بالباطل: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي: قلتم هذا
[سورة آل عمران (3): آية 74]
ودبرتموه خشية أن يؤتي الله أحدا مثلما أوتيتم من الكتاب، أو خشية من محاجة المسلمين لكم عند ربكم بإقامة الحجة على كفركم كأنهم لحماقتهم يتصورون أن الحجة لا تقوم عليهم إذا كفروا المسلمين!. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي: الهداية والتوفيق والنبوة وغيرها بيد الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وَاللَّهُ واسِعٌ الرحمة عَلِيمٌ بالمصلحة. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي: يختص بالنبوة، واتباع الإسلام من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ففضله لا يحد. فائدة: نلاحظ أن هذه الآيات قد دلتنا على بعض مظاهر ودوافع التخطيط والتآمر والكيد لأهل الإسلام. وبسبب من القوة المادية الهائلة للكفر في عصرنا الحالي، فقد أخذت هذه الأمور مداها الواسع الآن، فلنتذكر- إذ يأمرنا الله- عزّ وجل- في القسم الرابع اللاحق بعدم طاعة أهل الكتاب- الأسباب- الموجبة لذلك مما قصه الله علينا هنا. كلمة في السياق: في سورة البقرة في مقطع بني إسرائيل ورد قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وورد قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. وورد قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وورد قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. وقلنا هناك: إن مقطع بني إسرائيل آت في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الفقرة الثالثة
وقلنا هناك: إن هذا القسم كله يدل على الطريق للتحقق بصفات المتقين التي من جملتها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وهاهنا نرى: أن كثيرا مما جاء هناك قد فصل هنا، وهو هنا مشدود بشكل مباشر إلى القسم المبدوء بدعوة أهل الكتاب إلى عبادة الله وحده، وترك الطاعة في معصية الله، مما يخدم قضية التقوى، وقضية الإيمان، مما يتضح لنا به شيئا فشيئا، كيف أن سورة آل عمران، تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات هذه المقدمة في تلك السورة، بحيث تساعدنا على فهم الروابط التي تربط بين آيات سورة البقرة من ناحية، وتساعدنا على فهم كثير من الحقائق التي وردت في تلك السورة، وتفصل لنا بعض ما أجمل في مقدمتها دون أن يخل ذلك بسياقها الخاص، ولا نخال أحدا حتى الآن يتهمنا بأننا نتكلف فيما نقوله، وما سيأتي فى هذا التفسير سيزيد ما اتجهنا إليه في موضوع الوحدة القرآنية وضوحا، فلننتقل إلى الفقرة الثالثة في القسم الثالث. الفقرة الثالثة [سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 78] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
المعنى العام
المعنى العام: في الآية الأولى، يخبر تعالى أن من أهل الكتاب الأمناء، ومنهم الخونة، فالأمين منهم مهما ائتمنته بمال كثير أداه، ومنهم من إن تأمنه بالمال القليل لا يؤده إليك إلا إذا كنت قائما على حقك بالمطالبة والملازمة، والإلحاح لتستخلص حقك، وقادرا على استخلاصه. وسبب خيانة هؤلاء تصورهم أنه ليس عليهم حرج في أكل أموال غير أبناء دينهم؛ إذ يزعمون أن الله أحلها لهم ولو كانت أمانات. وهذا كذب على الله واختلاق، فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها، وإنما هم قوم بهت. - وفي الآية الثانية، بين الله- عزّ وجل- أن دينه وشرعه، الوفاء بالعهود، والتقوى التي منها أداء الأمانة إلى أهلها، وأنه- عزّ وجل- يحب المتقين، ولا تقوى إلا باتباع ما أنزل الله. - وبمناسبة أن دين الله الوفاء بالعهود، وحفظ الأمانة، فإن الآية الثالثة، يبين الله- عزّ وجل- فيها، أن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه، وعن أيمانهم بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، أولئك لا نصيب لهم في الآخرة، ولا حظ لهم منها، ولا يكلمهم الله كلام لطف، ولا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يطهرهم من الذنوب، والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار، ولهم عذاب أليم. - وكما أخبر أن بعض أهل الكتاب خائن، ولا يفي بعهد أو يمين، فإنه يخبر في الآية الرابعة، أن منهم فريقا، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه من كتاب الله، وينسبونه إليه- عزّ وجل- وهو كذب على الله، وهم يعلمون أنهم قد كذبوا، وافتروا في ذلك كله، والآيات تنطبق أول ما تنطبق على اليهود. وهي عامة. المعنى الحرفي: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أي مال كثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ أي بمال قليل كالدينار أو أقل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً على رأسه، ملازما له ذلِكَ أي أن عدم أداء الأمانة سببه بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن تركهم الحقوق بسبب قولهم إنهم لا يتطرق عليهم إثم، وذم، في شأن الذين ليسوا على دينهم، ويفهم من هذا أنهم كانوا يستحلون ظلم
[سورة آل عمران (3): آية 76]
من خالفهم في دينهم وكانوا يقولون: لم يجعل لهم في كتابنا حرمة. ومن قرأ نصوص التلمود، رأى من هذا الكثير. والأميون في النص، يدخل فيهم العرب أولا، وكل من ليس له دين كتابي ثانيا، والنصارى وغيرهم بالنسبة لليهود. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي بادعائهم أن ذلك في كتابهم. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون. أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «كذب أعداء الله ما من شئ كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر». بَلى، هذا إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى هذه جملة مفسرة للجملة التي سدت بلى مسدها والمعنى، من أوفى بعهد الله واتقاه، أو من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي: فإن الله يحب من أوفى بعهده وترك الغدر، والخيانة. ويدخل في الوفاء، الوفاء بعهود الله، ومنها الوفاء بما عاهد الله عليه أهل الكتاب أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. ويدخل في التقوى، اتقاء المحارم، واتباع طاعة الله، وشريعته التي بعث بها خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أي: إن الذين يستبدلون بما عاهدوا الله عليه، من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم، وبما حلفوا به من قولهم: والله لنؤمنن به، ولننصرنه، متاع الدنيا، من الترأس والارتشاء، ونحو ذلك. أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم فيها. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بما يسرهم. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعين الرحمة. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يثني عليهم، أو لا يطهرهم من ذنوبهم، بأن يعفو عنهم، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أي لطائفة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ. أي: يفتلونها عن الصحيح إلى المحرف، والمراد باللي هنا التحريف. لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ. أي: لتظنوه من الكتاب. وقد يكون المعنى: يرطنون بألسنتهم بشبه الكتاب، لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب، والمراد بالكتاب هنا التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ. أي: وليس هو من الكتاب. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون.
فوائد
فوائد: 1 - أخرج عبد الرزاق «أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، إنهم إذا أدوا الجزية، لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم». ورواه الثوري كذلك. 2 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله- عزّ وجل- وهو عليه غضبان». قال راوي الحديث: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم. قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ قال: متبرئ من والديه راغب عنهما، ومتبرئ من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم، وتبرأ منهم». وروى البخاري «عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط، ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية. وروى الإمام أحمد والترمذي، بإسناد حسن صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل حلف على سلعة بعد العصر،- يعني كاذبا-، ورجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه، لم يف له». وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم». قلت يا رسول الله: من هم خسروا وخابوا؟ قال:- وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات- المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان». 3 - مما مر معنا، ندرك أن من أخلاق المسلمين أداء الأمانات إلى أهلها في كل الظروف، والوفاء بالعهد، والصدق في اليمين، ولقد تساهل بعضهم في هذه المعاني بسبب من ظروفنا الصعبة، وبسبب من عموميات فهموها. والذى نقوله:
كلمة في السياق
إن المسلم لا يصدر في كل عمل إلا عن فتوى بصيرة من أهلها، وحالات الضرورة والاضطرار تقدر بقدرها، وما يعتبر أمانة أو غير أمانة، وما يعتبر حقا للمسلم أو غير حق، وما يعتبر إكراها أو غير إكراه، وما هو ملزم من الأيمان وما ليس ملزما بسبب من الإكراه، إلى غير ذلك من أمور، كله تحكمه- كما قلنا- الفتوى البصيرة من أهلها. كلمة في السياق: بدأ هذا القسم بدعوة أهل الكتاب إلى عبادة الله وتوحيده، وترك الطاعة في معصيته، وناقشهم فيما يزعمونه من ولاية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم بين لأهل الإيمان رغبة أهل الكتاب في إضلالهم، وبعض طرائقهم في هذا الإضلال. وفي هذا السياق جاءت الفقرة الثالثة، تبين ما عليه بعض أهل الكتاب من خيانة للأمانة، إلى خيانة في العهود، ونكث للأيمان، وتحريف لكتاب الله- عزّ وجل- وبعد هذه الجولة من الحوار والبيان، يعود السياق في الفقرة الرابعة إلى ما بدأ به القسم من قضية التوحيد والربوبية كما سنرى: لاحظ بداية القسم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ولاحظ أن الفقرة القادمة تبدأ بقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. .. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. ثم لاحظ صلة ذلك بالقسم الثاني الذي تحدث عن المسيح عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من تحديد بداية القسم الثالث ونهايته، وصحة ما ذهبنا إليه في أن القسم الأول والثاني بمثابة المقدمة للقسم الثالث، وسيأتيك في هذا كله مزيد بيان. ومن استمرارية القسم الثالث من خلال ما رأيناه من صلة بين بدايته والفقرة الرابعة التي ستأتي معنا، ندرك أن ما مر معنا حتى الفقرة الرابعة له صلة بقضايا التوحيد،
الفقرة الرابعة
والطاعة في المعروف، وتثبيت أهل الإيمان، وهي القضايا التي تحدثت عنها الآية الأولى في هذا القسم، والتى ختمت بقوله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ الفقرة الرابعة [سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 83] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) يلاحظ كيف أن هذه الفقرة، تخدم سياق هذا القسم الذي يدعو إلى عدم اتخاذ الناس بعضهم بعضا أربابا، كما تلاحظ الصلة بين التوحيد والإسلام، كما يلاحظ كيف أن الفقرة قررت أن دين النبيين جميعا هو الإسلام، وسنرى أهمية هذه الملاحظات بالنسبة للسياق. المعنى العام: - في الآية الأولى، يبين الله- عزّ وجل- أنه ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب
والحكمة والنبوة، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أو اعبدوني مع الله. فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فهو حتما لا يصلح لغيرهم بطريق الأولى. وإنما يدعو الرسل الناس من أجل أن يكونوا علماء حكماء، حلماء، أتقياء، وذلك مقتضى تعلم الكتاب، وتعليمه. وفي الآية الثانية، يبين الله- عزّ وجل- أنه: كما لا ينبغي للأنبياء والرسل أن يدعوا الناس لعبادتهم، كذلك ما ينبغي لهم أن يأمروا أحدا بعبادة غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، لأنه لو فعل النبي هذا لكان داعيا للكفر، والأنبياء دعاة إلى الإيمان. ومن هاتين الآيتين، نفهم ارتباط هذه الآيات بالسياق، إذ بداية هذا السياق، كما قلنا: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً ... وفي الآية الثالثة، يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، أنه مهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول لله من بعده ليؤمنن به، ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده، ونصرته. فإذا ربطنا هذا بالسياق العام، وتذكرنا الآيتين اللتين جاءتا من قبل وهما قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ثم تذكرنا ما ورد في القسم الثاني في شأن المسيح عليه السلام. ندرك صلة هذا القسم بالقسم الأول وبالقسم الثاني. - وفي الآية الرابعة، يبين الله- عزّ وجل- أنه من تولى من الرسل- وحاشاهم- عن هذا العهد والميثاق- فإنه هو الفاسق. فإذا كان المرسلون هذا شأنهم إن تولوا فما بال غيرهم ممن لا يتبعون الرسول الخاتم. - وفي الآية الخامسة، يبين الله- عزّ وجل- أنه ما كان للرسل إلا أن يكونوا كذلك، لأن مقتضى الإسلام الاستسلام. فإذا كانت السموات والأرض مستسلمة، فما كان لأحد ألا يكون مسلما. والرسل سادة المسلمين، وهم أعرف الناس بالله، وأخوفهم منه، لأنهم عارفون أنهم إليه راجعون.
المعنى الحرفي
وإذا تذكرنا أن المقطع الثاني من القسم الأول مبدوء بقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ندرك كيف أن السياق في سورة آل عمران يمضي على نسق واحد. المعنى الحرفي: ما كانَ لِبَشَرٍ أي ما ينبغي لبشر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ. تحتمل كلمة (الحكم) ثلاثة معان: إما فصل القضاء، وإما الحكمة، وإما السنة المفسرة للكتاب. وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الحسن البصري: لا ينبغي لمؤمن أن يأمر الناس بعبادة غير الله. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ الرباني: منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون، وهو الشديد التمسك بدين الله، وطاعته، فصار المعنى: ولكن يقول- من آتاه الله النبوة للناس-: كونوا متمسكين بدين الله، وطاعته، وهذا يقتضي علما، وفقها، وحلما. ولذلك فسر ابن عباس الربانيين بأنهم: العلماء الحكماء الحلماء. وفسرها الحسن: بأهل العبادة، والتقوى. والجميع تقتضيه النسبة بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. أي: كونوا ربانيين بسبب كونكم معلمين دارسين، دل النص على أن الربانية التي هي: قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والتعليم، وكفى به دليلا على خيبة سعي من أجهد نفسه، وكد روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أي: أمن المعقول أن يدعوكم إلى الكفر، بأن يدعوكم إلى عبادة أحد مع الله، بعد إذ تستجيبون له بالإسلام لله رب العالمين. فوائد: 1 - سبب نزول الآيتين، ما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: «قال أبو رافع القرظي، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني- يقال له الرئيس-: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني. فأنزل الله في ذلك: ما كانَ
[سورة آل عمران (3): آية 81]
لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي. .. إلى قوله ... أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. 2 - فسر الرسول صلى الله عليه وسلم اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله: بأنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم كما سنرى في سورة براءة. فكل من تابع إنسانا أو حزبا في تحريم حلال أو تحليل حرام فقد اتخذه ربا 3 - دل قوله بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أن العلم والتعليم صفتان رئيسيتان من صفات الرباني، فلا بد إذن ليكون الإنسان ربانيا، أن يكون شديد التمسك بدين الله وشرعه، وطاعة ربه، وأن يجتمع له مع ذلك تعليمه الكتاب وتعلمه. ودل قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أن الشئ الرئيسي الذي يعلمه الربانيون هو الكتاب. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أي أخذ العهد عليهم لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ يحتمل معنيين الأول: لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول لتؤمنن به، ولتنصرنه. والثاني: أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول، ولتنصرنه لأجل أني آتيتكم الكتاب والحكمة، أي لأجل إيتائي إياكم الكتاب والحكمة، عليكم أن تؤمنوا بالرسول وتنصروه. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي الإصر: العهد الثقيل لأنه مما يؤصر، أي يشد ويعقد فصار المعنى: أأقررتم بذلك وقبلتم عهدي الثقيل على ذلك؟ دل ذلك على أن موضوع المتابعة بالحق والخير أمر شاق لا يستطيعه إلا من زكى الله نفسه. قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ على ذلك من إقراركم وتشاهدكم، وهذا توكيد عليهم، وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أي بعد هذا الميثاق فنقض العهد بعد قبوله، وأعرض عن الإيمان بالنبي الجديد. فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون الكفرة. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ أي لو أنهم لم يبايعوا من أرسل الله إليهم من الرسل الذين أخذ العهد عليهم بمتابعتهم، فإنهم في هذه الحالة لا يكونون على دين الله، ولا يكونون مسلمين مع أنه، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة، وَالْأَرْضِ من الإنس والجن وغيرهما. طَوْعاً وَكَرْهاً فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت
فوائد
التسخير والقهر والسلطان العظيم، الذي لا يخالف ولا يمانع وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. أي: يوم المعاد فيجازي كلا بعمله. فوائد: 1 - قال علي بن أبي طالب وابن عباس: «ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه». 2 - روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن ثابت قال: «جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي يهودي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت: قلت ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، قال: فسري عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين». 3 - روى أبو يعلى والبزار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني». قال ابن كثير: وفي بعض الأحاديث: «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي». كلمة في السياق: 1 - في القسم السابق على هذا القسم، يقرر الله بشرية المسيح عليه السلام، ثم يأتي هذا القسم، فيأمر الله رسوله أن يدعو أهل الكتاب إلى التوحيد، ونبذ ربوبية البشر، وفي حالة توليهم أن نشهد أننا مسلمون، وجاءت بعد ذلك فقرة، تقيم الحجة عليهم من خلال مناقشتهم في دين إبراهيم، وأننا نحن على دينه، وفقرة حول رغبات أهل الكتاب في إضلالنا، وتخطيطهم لذلك وأسبابه، وتواصيهم بالباطل فيما بينهم، والرد عليهم في هذه الاتجاهات التى تنافي التوحيد. ثم تأتي فقرة تبين بعضا من أخلاقهم التي تتنافى مع دين الله، مما يدلل على عدم توحيدهم الله في الألوهية والربوبية، ثم تأتي
الفقرة التي مرت معنا أخيرا لتبين: أن دعوة الرسل إنما هي التوحيد، وهذا ينافي اتخاذهم المسيح ربا. وتبين أن دعوة الرسول السابق، تكملها رسالة الرسول اللاحق، وعلى السابق أن يتابع اللاحق وأن هذا هو الإسلام. 2 - بعد أن عرفنا من السياق ماهية الإسلام، تأتي الفقرة الخامسة آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن إيمانه بالله، وبرسله، وبكل وحي، وأن يعلن إسلامه لله، ثم يمضي السياق كما سنرى، ليبين أن الله- عزّ وجل- لا يقبل إلا الإسلام دينا، فلنتذكر على ضوء ذلك ما مر معنا من قبل: في القسم الأول من سورة آل عمران أن الدين عند الله هو الإسلام. وإذا كان بعض أهل الكتاب يتمسكون بمعان باطلة فى شأن المسيح عليه الصلاة والسلام، تصرفهم عن الدخول في الإسلام فقد جاء القسم الثاني مبينا حقيقة شأن المسيح عليه السلام، ثم جاء القسم الثالث ليفتح حوارا شاملا مع أهل الكتاب ليدخلوا فى الإسلام، ومن ثم قلنا إن القسم الأول، والقسم الثاني جاءا بمثابة مدخلين للقسم الثالث. 3 - قلنا: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتداداتها في السورة، وقد رأينا أنه قد ورد في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ورأينا في سورة البقرة قوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ .... ونلاحظ أن الفقرة الخامسة من القسم الثالث، مبدوءة بقوله تعالى قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ... فإذا رفض بنو إسرائيل الأمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يقيمونه. وهكذا تمضي السورة في سياقها الخاص مفصلة لمحورها في سورة البقرة.
"الفقرة الخامسة"
«الفقرة الخامسة» [سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 91] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) ملاحظة حول السياق: لاحظنا أن سورة آل عمران، تقابل مقدمة سورة البقرة، ولاحظنا أن الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة تصف المتقين، ثم تأتي آيتان في وصف الكافرين. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
المعنى العام للآيات
ونلاحظ في سورة آل عمران، أنه كثيرا ما يعقب بعض الآيات آيات مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا .. أو إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ .. وفي نهاية هذه الفقرة نلاحظ ورود آيتين مبدوءتين بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا .... وفي القسم الأول من سورة آل عمران الذي يقابل في سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ورد في المقطع الأول منه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وورد في المقطع الثاني منه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ .... ثم لا نجد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا .. ترد إلا فى نهاية هذه الآيات التي ذكرناها، فإنها ترد مرتين فلنتذكر الآن ما يلي: إن هذا القسم الذي بين أيدينا، يقابل في مقدمة سورة البقرة الآية وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإذ تتحدث آيات هذا القسم عن الإيمان فلا عجب أن يرد حديث عما يقابله. المعنى العام للآيات: في الآية الأولى، يأمر الله- عزّ وجل- أفراد هذه الأمة بالأمر لرسولها، أن يؤمنوا بالله وبكل وحي أنزل، وبكل كتاب أنزل، وبكل نبي أرسل. فالمؤمنون من هذه الأمة يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله، لا يفرقون بين أحد منهم وهم في هذا كله مسلمون لله. - وفي الآية الثانية، يبين تعالى أنه لا يقبل إلا الإسلام دينا. هذا الإسلام الذي مظهره ما مر في الآيات السابقة. فمن سلك طريقا سوى ما شرعه الله تعالى فلن يقبل منه، وهو من الذين وقعوا في الخسران يوم القيامة. - وبعد أن أمر الله أفراد هذه الأمة بالإيمان والإسلام، هدد من يرتد منهم بعد إيمانه ومعرفته الحجج والبراهين. إن هؤلاء على مقتضى العدل لا يستحقون هداية الله بعد ما تلبسوا به من العمى. وبين أن جزاء هؤلاء اللعنة من الله والملائكة والناس. وأنهم خالدون في هذه
المعنى الحرفي
اللعنة، وأن العذاب لا يفتر عنهم ساعة واحدة، ثم فتح لهؤلاء باب الأمل على مقتضى الفضل بأنهم إذا تابوا بعد ردتهم وأصلحوا، فإن رحمة الله وغفرانه يصلان إليهم. ذكرت هذه المعاني في الآيات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. وفي الآية السابعة، أكد الله تهديده ووعيده لمن كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا واستمر عليه إلى الممات. أن هؤلاء لن تقبل توبتهم عند الممات. ثم وصفهم بأنهم الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي. وفي الآية الثامنة: عمم الله عزّ وجل مبينا استحقاق العذاب لكل كافر مات على الكفر، وأنه لا ينقذه من عذاب الله شئ، ولو كان قد أنفق ثقل الأرض ذهبا، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا، وليس لأحد منهم نصير ينقذهم من عذاب الله، ولا يجيرهم من أليم عقابه، وسنرى المذاهب في أنواع من الناس ماتوا على الكفر ولم تبلغهم دعوة الله عزّ وجل. المعنى الحرفي: قُلْ آمَنَّا هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان بما سيأتي في الآية، ولذا وحد الضمير في قل، وجمع في آمنا. وهو أمر لكل فرد من أمته. وقد خوطبت الأمة كلها بمثل هذا في سورة البقرة بلفظ الجمع قولوا. بِاللَّهِ بوجوده وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، وربوبيته، وألوهيته. وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا: يعني القرآن والسنة. وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي من الصحف والوحي وَالْأَسْباطِ أي أولاد يعقوب، وذرياتهم من الأنبياء وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل. وَالنَّبِيُّونَ جملة. مِنْ رَبِّهِمْ أي آمنا بما أنزل عليهم من عند ربهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى وغيرهم، بل نؤمن بجميعهم. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي ونحن لله موحدون مستسلمون، مخلصون له أنفسنا، لا نجعل له شريكا في عبادتنا وعبوديتنا، فهو إلهنا وربنا. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً أي: ومن يطلب دينا سوى الإسلام، المتمثل بإسلام الوجه لله، وبالتسليم له ولشرعه الذي بعث به رسله. والذي كانت صيغته الأخيرة ما أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ذلك. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم، وأعمالهم. ولعل هذه الآية، أوضح دليل على ما ذهبنا إليه في أن هذا القسم، يفصل في قوله تعالى. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من مقدمة سورة البقرة.
فائدة
فائدة: روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تجئ الأعمال يوم القيامة، فتجئ الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة فيقول: إنك على خير، وتجئ الصدقة. فتقول: يا رب أنا الصدقة فيقول: إنك على خير، ثم يجئ الصيام فيقول: يا رب أنا الصيام فيقول: إنك على خير. ثم تجئ الأعمال، كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجئ الإسلام فيقول يا رب: أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم أمنع وبك أعطي». كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ أي لا يهدي الله. قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أي: ارتدوا بعد دخولهم في الإسلام أو بعد أن كانوا مؤمنين. وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وشهدوا أن محمدا رسول الله حق. وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي: قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به رسول الله من الله ومن ذلك القرآن وسائر المعجزات. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: من شأن الله وجلاله أنه لا يهدي الظالمين المصرين على البقاء على طريق الكفر. أُولئِكَ أي الذين ارتدوا بعد إيمانهم، جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يفتر عنهم. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخرون عن العذاب ساعة واحدة. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد الكفر والارتداد وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكفرهم. رَحِيمٌ بهم. فائدة في سبب النزول: نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد، ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فنزلت فأرسل إليه فأسلم. رواه النسائي والحاكم وابن حبان. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أي ارتدوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بأن أصروا على الكفر، واستمروا عليه وطغوا وبغوا. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أي: إيمانهم عند الموت وهو إيمان اليأس. وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ أي: الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي.
فائدة في سبب النزول
فائدة في سبب النزول: ذكر البزار بإسناد جيد عن ابن عباس أن قوما أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي وماتوا كافرين. فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أي لن يقبل منهم فدية. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي معينين يرفعون عنهم العذاب. فائدة: روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شئ أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خير منزل فيقول: سل وتمن، فيقول ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما يرى من فضل الشهادة. ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شر منزل، فيقول له: أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول: أي رب نعم فيقول: كذبت، وقد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار». كلمة في السياق: 1 - أثناء الكلام عن سياق سورة البقرة، قلنا: إن الحوار مع بني إسرائيل ينتهي بآية البر مرورا بمقطع إبراهيم عليه السلام، ومقطع القبلة، ومقطع الصبر والصلاة والتوحيد، ثم بالمقطع الثاني من القسم الثاني من سورة البقرة، وهو المقطع الذي نهايته آية البر، ونلاحظ هنا أن الفقرة التي ستأتي وهي الفقرة الأخيرة في هذا القسم من سورة آل عمران، والتي سيغلق في نهايتها الحوار مع بني إسرائيل، تبدأ بالكلام عن البر، وتثني بالكلام عما أحله الله لبني إسرائيل، وتثلث بالكلام عن البيت، ثم تنتهي
بآيتين كل منهما مبدوءة بقوله تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ* وهي نفس البداية التي بدئت بها الآية الأولى من هذا القسم. 2 - قلنا أثناء الكلام عن سورة البقرة: إن آية البر لخصت كل ماله علاقة في التقوى مما سبق الحديث عنه، لتكون جسرا للكلام عن معان جديدة في التقوى، ثم جاء بعدها أمور منها الحج، ونلاحظ هنا أن آيات الحج تأتي في الفقرة المبدوءة بالكلام عن البر، وهكذا يدلنا السياق الخاص لسورة آل عمران على الروابط التي تربط بين آيات سورة البقرة. 3 - إنه كامتداد لقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ جاء الحوار في سورة البقرة مع بني إسرائيل، وكان من شبه بني إسرائيل قضية النسخ، وقضية القبلة، ويأتي في هذه الفقرة هنا ما يدل على أن النسخ كان موجودا من قبل، وأن البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام هو الأول. وهكذا نرى كيف أن سورة آل عمران تفصل من خلال سياقها الخاص فى مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معاني هذه المقدمة في سورة البقرة، وبالنسبة للسياق الخاص لسورة آل عمران نقول بين يدي الفقرة السادسة والأخيرة من القسم الثالث: 4 - إنه بعد الأمر بالإيمان، وتهديد من يرتد، وتبيان جزاء من يموت على الكفر تأتي فقرة فيها حض على الإنفاق، وارتباط الإنفاق بالإيمان واضح، وفيها حديث عن الحج وفرضيته، والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فالصلة بينه وبين الإنفاق واضحة، ويأتي بين الكلام عن الإنفاق والكلام عن الحج حديث حول ما أحل الله لبني إسرائيل في الأصل، من قبل أن يحرم يعقوب- عليه السلام- على نفسه ما حرم، وتلك هي شريعة إبراهيم عليه السلام التي جاءت هذه الشريعة موافقة لها مما يؤكد أننا أولى بإبراهيم عليه السلام.
"الفقرة السادسة والأخيرة من القسم الثالث"
«الفقرة السادسة والأخيرة من القسم الثالث» [سورة آل عمران (3): الآيات 92 الى 99] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
المعنى العام
المعنى العام: في الآية الأولى: بيان أن تحصيل حقيقة البر بأن يكون الإنسان برا لا يكون إلا بالإنفاق مما يحبه الإنسان ويؤثره، طعاما أو غيره، ثم بين الله- عزّ وجل- أن أي نفقة ننفقها فإن الله يعلم ذلك ويجازينا عليها. فالربانية وكمال العبودية في تحقق الإنسان بالبر، وهذا لا يكون إلا بالإنفاق مما يحبه الإنسان. وإذا كان مظهرا من مظاهر اتخاذ غير الله ربا تحريم الحلال وتحليل الحرام، فقد ذكر الله في هذا السياق موضوعا متعلقا بالحل والحرمة في أهم قضية يكون فيها التحليل والتحريم، قضية الطعام. فقد بين الله- عزّ وجل- أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من لحوم الإبل وألبانها، ثم نزلت التوراة فحرمت ما حرمت. وفي ذلك إشارة إلى موضوع النسخ الذي تنكره اليهود، وهو واقع في شريعتهم وعندهم، ثم تحداهم الله- عزّ وجل- أن يأتوا بالتوراة ليثبتوا خلاف ما يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، ثم بين الله- عزّ وجل- أنه من كذب على الله فإنه هو الظالم، وأي ظلم أكبر من الكذب على الله- عزّ وجل-. وفي الآية الرابعة يأمر الله- عزّ وجل- رسوله أن يقول: صدق الله فيما أخبر به، وفيما شرعه في القرآن، وبناء عليه فاتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق لا شك فيه، ولا مرية. وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها، ولا أبين ولا أوضح. ثم بين أن إبراهيم لم يكن من المشركين. وفي ذكر هذا هنا دليل على ارتباط هذه الآيات في أول القسم حيث ذكر إبراهيم. وإذ ذكر إبراهيم في هذا القسم كثيرا، وذكرت ملته، والحج إلى مكة مرتبط بإبراهيم وملته، يخبر تعالى أن أول بيت وضع لعموم الناس لعبادتهم، ونسكهم، يطوفون به، ويصلون إليه، ويعتكفون عنده، هو الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام، والذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه بأمر من الله، ودعا الناس إلى حجه، وقد جعله الله مباركا وهداية للعالمين. هذا البيت الذي فيه علامات واضحات، لا تلتبس على أحد أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمة وشرفه، من هذه الآيات مقام إبراهيم الذي قام عليه يوم بنى الكعبة، وهو حجر
المعنى الحرفي
عليه آثار قدميه. ومن هذه الآيات أمن الخائف إذا دخله من كل سوء، هذا البيت فرض الله- عزّ وجل- حجه على المستطيع من الناس. ومن يجحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. ثم يختم هذا القسم الذي يمكن أن يكون عنوانه الدعوة إلى ربوبية الله وتوحيده بآيتين كل منهما مبدوءة ب قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ... * كما بدأ القسم كله. وفي الآيتين تعنيف من الله تعالى لمن لم يدخل في الإسلام من أهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله، وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان، باذلين جهدهم وطاقتهم في ذلك، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق من الله، ومع ما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين، والسادة المرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين، مما بشروا به، ونوهوا من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم، وخاتم الأنبياء والمرسلين، ورسول رب الأرض والسماء، وقد توعدهم الله على ذلك وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد. فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون. وسيجزيهم على ذلك. المعنى الحرفي: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تبلغوا حقيقة البر، أو لن تكونوا أبرارا أو لن تنالوا بر الله وهو: ثوابه وجنته، حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها. قال الحسن: «كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية» ولا وصول إلى المطلوب إلا بإنفاق المحبوب. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ طيب أو غير طيب، فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد، والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك: كان أبو طلحة أكثر الأنصار في المدينة مالا. وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت
[سورة آل عمران (3): آية 93]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى؛ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين». فقال أبو طلحة: «أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه». 2 - وفي الصحيحين: أن عمر قال: يا رسول الله، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: «احبس الأصل، وسبل الثمرة» وهذا أصل في الوقف. 3 - وروى البزار: «قال عبد الله- أي ابن عمر- حضرتني هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد أحب إلي شيئا من جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله فلو أني أعود في شئ جعلته لله لنكحتها» يعني تزوجتها. كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي كل المطعومات التي فيها النزاع- فإن من الأطعمة ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم- كانت حلالا لبني إسرائيل. إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ والذي حرم إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، وكانا أحب الطعام إليه. فالمطاعم كلها كانت لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه. فلما نزلت التوراة على موسى، حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها، لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. لأن التوراة ناطقة بهذا. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم، ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه. وفيه دليل على جواز النسخ إذ حرم على بني إسرائيل فيما بعد أشياء أخرى، فلو لم يجز النسخ كما يدعي اليهود، لم يكن هذا. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بزعمه أن ذلك كان محرما في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قامت الحجة القاطعة. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي المكابرون الذين لا ينصفون من
[سورة آل عمران (3): آية 95]
أنفسهم، ولا يلتفتون إلى البينات. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في إخباره، وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل، وأنتم الكاذبون. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. أي: مائلا عن الأديان الباطلة. أي إذ ثبت أن الله صادق فيما أخبر به بهذا القرآن، فاتبعوا ملة إبراهيم التي هي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام، ومن آمن معه حتى تتخلصوا من انحرافاتكم، وتعذيب أنفسكم. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي كونوا موحدين مثله. وهذا دليل على أن هذه الآيات مرتبطة بسياق بداية القسم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. قال: «سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم فعرفتموه لتتابعني على الإسلام» قالوا: فذلك لك، قالوا: أخبرنا عن أربع خلال. أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟، وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم، ومن وليه من الملائكة؟. فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه فقال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟» فقالوا: اللهم نعم. فقال: اللهم اشهد عليهم. وقال: «أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيتهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد عليهم، قال: وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم قال: اللهم اشهد عليهم، قال: وإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه قالوا: فعند ذلك نفارقك، ولو كان وليك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال الله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... الآية.
[سورة آل عمران (3): آية 96]
أقول: إن لي في فهم علو ماء الرجل على ماء المرأة أو العكس اتجاها- الله أعلم بصحته-: هو أن المراد بالعلو هنا الغلبة فإذا كان للحيوان المنوي غلبة على بويضة الأنثى حدث الإذكار، وإذا كانت لبويضة الأنثى غلبة على الحيوان حدث التأنيث والأمر غيب وهذا فهم. 2 - ذكر ابن كثير مناسبتين لذكر آية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ مع ما قبلها. المناسبة الأولى: كون إسرائيل قد حرم على نفسه أحب الطعام فلذلك مناسبة مع قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... المناسبة الثانية: أن الآية لها صلة بالنسخ، وهو جزء مما ناقش الله به بني إسرائيل، إذ إن بني إسرائيل ادعوا عدم جواز النسخ، وقد ذكر ابن كثير مجموعة مما حدث فيه النسخ مما هو ثابت في التوراة، وقد أشرنا إلى هذا الموضوع في أكثر من مكان. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي إن أول بيت وضعه الله متعبدا للناس، لَلَّذِي بِبَكَّةَ أي للبيت الذي ببكة، وهو الكعبة، وبكة من أسماء مكة. مُبارَكاً أي: كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم وبالقيام بحقه يهتدون، وبمزاولة ما أمرهم الله به من شأنه، يرزقهم الله الهداية. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أي: علامات واضحات لا تلتبس على أحد أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه. مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء الكعبة، فظهرت فيه آثار قدميه، فهو آية بمنزلة آيات كثيرة لاشتماله على آيات كثيرة لظهور شأنه، وقوة دلالته على قدرة الله تعالى، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد، فتأثير القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هذه هي الآية الثانية التي تتضمن آيات أي وأمن داخله، وما أكثر من حصل الأمن به، حتى يوم لا يكون أمن كأيام العرب في الجاهلية، وفي ذلك آيات، وهذا الأمن آية كذلك لإبراهيم إذ إنه كان ببركة دعائه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً (سورة إبراهيم). وهناك اتجاه آخر في تفسير قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو أن مقام إبراهيم هو الحرم كله، وفي الحرم آيات أخرى سوى الحجر منها إهلاك جيش أبرهة الذي قصده بسوء. ذكر هذا الاتجاه وضرب هذه الأمثلة كثيرون من المفسرين منهم الألوسي فيكون المعنى «مقام
فوائد
إبراهيم فيه آيات بينات» والله أعلم. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي: وقد استقر لله على الناس فرض الحج إلى بيته مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي: على المستطيع لهذا الحج، أو على المستطيع الوصول إلى هذا البيت، وذلك يكون بقدرة على الزاد والراحلة فاضلتين عن حاجة أهله، ومن تجب عليه نفقته. فصار المعنى إن الله فرض الحج على من ملك الزاد والراحلة الموصلتين إلى هذا البيت. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ: يحتمل شيئين، الأول: ومن جحد فرضية الحج فإن الله غني عنه، وعن غيره. والثاني: ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم، وسعة الرزق، ولم يحج، فإن الله غني عنه وعن العالمين جميعا. فوائد: 1 - أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ... قال: كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. أقول وقد ذكر ابن كثير ضعف الحديث الذي فيه: أن أول من بنى البيت آدم وحواء. 2 - وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد» وأخرجه البخاري ومسلم. دل هذا الحديث على أن المسجد الأقصى كان قبل سليمان بكثير فسليمان جدد بناءه. 3 - أشهر الأقوال أن بكة: هي مكة، وسميت كذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، أو لأن الناس يتباكون فيها أي: يزدحمون. قال قتادة: إن الله بك به الناس جميعا، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها. وذهب بعضهم إلى أن البيت والمسجد وما كان في هذه الدائرة فهو بكة، وما وراء ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة منها مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأم رحم، وأم القرى، وصلاح، والعرش، والقادس، والمقدسة، والناسة، والباسة، والحاطمة، والرأس، وكوثاء، والبلدة، والبنية، والكعبة. 4 - مر معنا في تفسير سورة البقرة، أن الحجر الذي فيه موطئ قدم إبراهيم كان
ملتصقا بجدار البيت، حتى أخره عمر رضي الله تعالى عنه في إمارته إلى ناحية المشرق لمصلحة الطواف، ومن أجل ألا يشوش الطائفون على المصلين عنده بعد الطواف. لأن الله تعالى أمرنا بالصلاة عنده. 5 - من مظاهر الأمن في البيت في الجاهلية ما قاله الحسن البصري وغيره: «كان الرجل يقتل، فيضع في عنقه صوفة فيدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج» ومن مظاهر الأمن في الإسلام حرمة اصطياد صيدها، وتنفيره عن أوكاره وحرمه قطع شجرها، وقلع حشيشها، إلا الإذخر للضرورة إليه. ومن مظاهر ذلك في الإسلام ما قاله النسفي وهو من الحنفية: ومن لزمه القتل في الحل (أي غير الحرم) بقود، أو ردة، أو زنى، فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. قال عمر: لو ظفرت به بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وقال ابن عباس: «من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم. فإذا خرج أخذ بذنبه» وهذا كله فيمن ارتكب جريمة خارج الحرم ثم أوى إليه، وأما من ارتكب جريمة داخل الحرم فالإجماع منعقد على أنه يؤخذ بها، ومن مظاهر أمن البيت في الإسلام ما رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة» وقد مر معنا شئ من هذا في سورة البقرة. 6 - روى الترمذي بسند حسن صحيح والإمام أحمد والنسائي عن عبد الله بن عدي ابن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة بسوق مكة يقول: «إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». 7 - قال ابن كثير وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا هذه آية وجوب الحج عند الجمهور ... وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام، ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. 8 - روى مسلم عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولن تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع».
[سورة آل عمران (3): آية 98]
9 - روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: الشعث التفل، فقام فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: العج (¬1) والثج، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة» وورد تفسير السبيل بأنه الزاد والراحلة في أكثر من حديث، وأكثر من طريق. 10 - روى سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قالت اليهود: فنحن مسلمون، قال الله- عزّ وجل- فأخصمهم فحجهم يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا» فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا. قال تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ اهـ. وبمثل هذا يرد على من ادعى الإسلام، وفاته الإذعان، أو رافق ادعاءه كفر وفجور. 11 - في إسناد صحيح عن عمر قال: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا» وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: «قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: «لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظر إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين» وكلام عمر يحمل على من جحد، أو تحمل الجزية على العقوبة التعزيرية، ونفي الإسلام من باب المبالغة في الإنكار. 12 - في قوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ بعد ذكر فريضة الحج تأكيد وتشديد على ترك الحج. فالله غني عن العالمين بمعنى: مستغن عنهم وعن طاعتهم. ذكر هذا بعد قوله وَمَنْ كَفَرَ مكان: ومن لم يحج تغليظا على تاركي الحج. وقال: غني عن العالمين، ولم يقل (عنه) لما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه، وعمم ليدل على الاستغناء الكامل. وفي ذلك زيادة إبراز لعظيم السخط الذي يستحقه من ترك الحج. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله والآيات الظاهرة على يدي رسوله مما يشهد بصدقه. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ أي: والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها أفلا تستحيون، أفلا تخافون، أفلا تحذرون؟! قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الصد: المنع، وسبيل الله: دينه الحق، وطريقه التي أمر بسلوكها: وهو الإسلام، أي لم تمنعون الناس عن ¬
كلمة فى السياق
الإسلام؟! ومن عرف الجهد الذي بذلته وتبذله في زماننا- الدول والمؤسسات الكافرة للحيلولة دون هذا الإسلام، وانتشاره، وتطبيقه، وانتصار دعاته. عرف مقدار صد أهل الكتاب عن سبيل الله، وأخذ صورة عن الصد الذي أنكره الله عليهم مَنْ آمَنَ أي: لم تصدون عن سبيل الله المؤمنين باستعمالكم كل طرق الصد، مما رأينا نماذجه في هذا القسم. ومما نرى نماذجه في عصرنا من تخطيط، وإغراء، وتعذيب بأيديهم، وأيدي أذنابهم. تَبْغُونَها عِوَجاً أي: تريدونها معوجة، وليس أبلغ في التعريف على إرادتهم من هذا التعبير. ولا يفسر هذا التعبير شئ كما يفسره الواقع في عصرنا، إذ يخطط اليهود والنصارى من أجل حصر الإسلام في إطار الروحانيات، والعبادات، إذا لم يستطيعوا إنهاءه من قلوب أبنائه بالكلية. ويبذلون الغالي والرخيص، من أجل أن يحولوا دون قيام الإسلام كاملا، فهم يريدون سبيل الله معوجة، غير مستقيمة منحرفة، فيها إسلام وفيها جاهلية. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أي: والحال أنكم شهداء على أن محمدا رسول الله، بما تعرفونه في التوراة والإنجيل من صفته، والحال أنكم شهداء على أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو سبيل الله، فالمفروض أن تؤدوا الشهادة القولية والفعلية لسبيل الله، فكيف تستبدلون هذا بالصد عن سبيل الله، وترغبون بالطرق المعوجة! وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. من الصد عن سبيله لتحقيق رغباتكم الفاسدة وهذا وعيد شديد لهم. وبهذا ينتهي هذا القسم من سورة آل عمران. كلمة فى السياق: قلنا: إن القسم الأول والثاني جاءا تمهيدا للقسم الثالث، فلنلاحظ بعض ما يدل على ذلك: في القسم الأول: جاء قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. وجاء قوله تعالى وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا. وفي هذا القسم جاء أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. وفي القسم الثاني: جاءت قصة عيسى، وفيها إشارة إلى الغلو فيه، وفي هذا القسم
جاء قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ... وجاء قوله تعالى ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ .... وكما أن المعاني تسلسلت في الأقسام الثلاثة، وترابطت. فإن لكل قسم صلاته، وترابطه فيما بينه. وسنرى كيف أن القسمين الأخيرين في سورة آل عمران مبنيان على الأقسام السابقة، حتى لتكاد أن تكون الأقسام الثلاثة الأولى تمهيدا للقسمين الأخيرين. تحدث القسم الأول فيما تحدث فيه عن: إنزال الكتب، والموقف الصحيح من القرآن، وعن كفر الكافرين بالكتاب، وعن مظهر من مظاهر انحراف أهل الكتاب، وعن تزيين شهوات الدنيا، وما أعده الله للمتقين في الآخرة، ومن هم أهل ذلك، ثم أخبرنا الله عزّ وجل أن الدين عنده هو الإسلام، وعلمنا كيف ينبغي أن نقف من غير المسلمين وعرفنا، على ما أعده للكافرين من عذاب، ودلنا على بعض ما يقتضيه أننا مسلمون. وفي القسم الثاني: ذكر الله- عزّ وجل- لنا نماذج على اصطفائه، ودلنا على غلو من غلا في بعض أهل الاصطفاء؛ بإعطاء أهله ما لم يأذن به الله. ثم جاء القسم الثالث: وفيه دعوة لأهل الكتاب إلى محض العبودية لله وتوحيده، وعدم الشرك به، ومناقشة مواقفهم وأقوالهم، وبناء على هذه الأقسام كلها يأتي القسم الرابع، والقسم الخامس، وكل منهما يبدأ بالتحذير من الطاعة للكافرين، الأول يبدأ بالتحذير من طاعة أهل الكتاب، والثاني يبدأ بالتحذير من طاعة الكافرين مطلقا. كنا ذكرنا أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، أي: في العشرين آية الأولى منها، وإذ كانت سورة البقرة في كثير من آياتها تلقي أضواء على مقدمتها، فإن كثيرا من آيات سورة آل عمران تكاد تكون تفصيلا لآيات مشابهة في سورة البقرة. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وهاهنا نحب أن نقدم زيادة بيان: في المقطع الثاني من القسم الثالث من سورة البقرة. نرى آية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. مَنْ ذَا الَّذِي .... ونرى قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ونرى قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وقوله تعالى: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ونلاحظ أن القسم الأول من سورة آل عمران فيه ملامح من هذا كله: ففيه الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وفيه فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .... وفيه قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ .... وفيه إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وفيه قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. ونلاحظ أنه فى المقطع الأول من القسم الثالث من سورة البقرة قد جاء: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ..... فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. ومن قبل في القسم الأول من سورة البقرة جاء قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. والملاحظ أن القسم الثاني من سورة آل عمران بدأ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ. فالصلة واضحة. وفي القسم الأول من سورة البقرة، جاء المقطع الثالث، مقطع بني إسرائيل ومن بعده مقطع إبراهيم، ثم مقطع القبلة، ثم ...... وفي ذلك معان جاء يفصلها أو يعرضها عرضا جديدا القسم الثالث في سورة آل عمران: فمثلا قوله تعالى في سورة البقرة: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .... وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا ... يفصله في آل عمران: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ .... وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ. وفي البقرة يرد قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ. ونجد في سورة آل عمران: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ... وفي سورة البقرة نجد قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ .... ونجد في سورة آل عمران وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. وفي سورة البقرة نجد ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ..... وفي سورة آل عمران يرد وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ .... وفي سورة البقرة نجد بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ... ويرد في سورة آل عمران أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً. وفي سورة البقرة نجد وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ. ويرد في سورة آل عمران إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً .... وفي سورة البقرة نجد وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ... قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وفى سورة آل عمران يرد: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وفي سورة البقرة تأتي آية البر وفيها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ. ويرد في سورة آل عمران قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. فسورة آل عمران لها سياقها الخاص بها. وهذا السياق له ترتيبه الخاص وهي في الوقت نفسه تفصل في محورها من سورة البقرة، وهو مقدمة سورة البقرة. وامتدادات هذه المقدمة. مما له صلة مباشرة بمقدمة سورة البقرة. وسنرى في
القسمين الأخيرين من سورة آل عمران مزيد بيان. فمثلا سنرى في القسم الرابع قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وهي تفصيل لقوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. ولكن هذا التفصيل يسير على نسق لم يعهده أحد من قبل ولا من بعد، ولا يستطيعه أحد من قبل ولا من بعد: إنه كتاب فريد عجيب «لا تنقضي عجائبه». وأخيرا لاحظ ما يلي مر معنا المقطع الأول من القسم الثاني من سورة البقرة، وهو مقطع مبدوء بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ومختوم بآية البر لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ ... ثم جاءت تتمة القسم، وكان من جملة ما فيه الأمر بإتمام الحج. وفي القسم الذي مر معنا من سورة آل عمران نجد فى أواخره آية في البر: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. ثم آية في الطعام: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ .... ثم آيتان هما تتمة لمعاني هذه الآية، ثم كلام عن الكعبة والحج. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً .... فإذا ما اتضح أن هناك صلة بين القسم الذي مر معنا وبين مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها أصبح بالإمكان أن نقول: إن سورة البقرة ذكرت معاني الإسلام بإجمال، وضمن نسق، وترتيب معين. وتأتي بعدها سور سبع، هي تتمة قسم الطوال، لتفصل كل منها في محور من سورة البقرة، وفى امتدادات هذا المحور بشكل تفصيلي، بحيث لا ينتهي قسم الطوال إلا أخذنا التغطية التفصيلية الأولى لمعاني سورة البقرة، على نفس ترتيب ورودها في سورة البقرة، فإذا اتضح لك بدايات هذا الموضوع، وإذا اتضح لك صلة معاني القسم الثالث من سورة آل عمران ببعضها، وإذا اتضح لك صلة ذلك كله بقسمي السورة الأولين، فإننا نعتبر أن باستطاعتنا أن ننطلق نحو القسم الرابع في سورة آل عمران.
القسم الرابع من سورة آل عمران
القسم الرابع من سورة آل عمران يمتد من الآية (100) حتى نهاية الآية (148) وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)
[سورة آل عمران (3): الآيات 109 الى 117] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
[سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 142] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
كلمة في هذا القسم
[سورة آل عمران (3): الآيات 143 الى 148] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) *** كلمة في هذا القسم: يتألف هذا القسم من ثلاثة مقاطع، كل مقطع منه مبدوء بصيغة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* والذي دلنا على بداية القسم ونهايته إنما هي المعاني، فلأول مرة في سياق سورة آل عمران، يأتي نداء مبدوء بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. في بداية هذا القسم وهو نداء في النهي عن طاعة أهل الكتاب. ويستمر القسم حتى يأتي نهي عن طاعة الكافرين عامة، وبذلك يبدأ قسم جديد في السورة هو القسم الأخير. وهذان القسمان الأخيران يبنيان على الأقسام الثلاثة السابقة. كما أن القسم الأخير مبني على القسم السابق عليه من سورة آل عمران لقد مر معنا في القسم الأول مواقف لأهل الكتاب، وعرفنا فيه بعض طبائعهم، من كون فريق منهم يتولون وهم معرضون إذا دعوا لكتاب الله ليحكم بينهم، وهاهنا يبدأ القسم بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. لقد عرفنا من القسم الأول كيف أن أهل الكتاب يقتلون الأنبياء، ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط، وأنهم يكفرون بآيات الله، وعرفنا من القسم الثاني كيف أن بعضهم كفر بالمسيح عليه السلام، أو غلا فيه، وعرفنا في القسم الثالث كيف أن طائفة منهم تود إضلالنا، وكيف أنهم يخططون لذلك، وكيف أنهم يخونون فيما اؤتمنوا عليه. والآن يأتي هذا القسم محذرا لنا من طاعتهم، مفسرا لنا مواقفهم، مبينا لنا ما ينبغي أن نستعصم به، موجها لنا إلى ما ينبغي أن نسير فيه. رأينا في القسم الأول أن الله أنزل الكتاب، وأن الناس فى شأن الكتاب قسمان: قسم يؤمن بالكتاب كله، فيعمل بالمحكم، ويؤمن بالمتشابه وقسم: يتبع المتشابه معطلا المحكم. ورأينا تفصيلا في صفات المتقين. ونلاحظ هنا مجئ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وفيه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. وفيه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ورأينا في القسم الأول قوله وتعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. ونجد في هذا القسم قوله وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. ورأينا في القسم الأول قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وفي هذا القسم نجد: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ... وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ..... وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .... فالقسم الرابع إذن يبين ما سبقه من معان، ويفصل فيها، ويزيد في
بناء المعاني ما يحتاجه البناء ............ قلنا إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، ومقدمة سورة البقرة تحدثنا عن المتقين، والكافرين، والمنافقين. وهذا القسم تفصيل في ذلك كله: فهذا القسم ينهانا أن نسير في طريق الكفر، ويأمرنا أن نتحقق بكمال التقوى، وأن نعتصم بالقرآن، وألا نفعل ما يخل بهذا الاعتصام، أو يضعفه، بل علينا أن نفعل ما يقويه، ويدلنا على الطريق. ويفصل في العلاقات بين أهل الإيمان وأهل الكفر تفصيلا بعيدا، وكل ذلك له صلة بمقدمة سورة البقرة. وقد ختم الكلام عن المتقين في مقدمة سورة البقرة بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وفي هذا القسم تبيان لجوانب في الهداية والفلاح: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وقلنا إن لمقدمة سورة البقرة امتدادات في سورة البقرة، وأن سورة آل عمران تفصل في المقدمة، وفي المعاني الأشد لصوقا بها، ضمن سياقها الخاص. ونلاحظ أن في سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وهاهنا يرد قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وفي سورة البقرة ورد قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ... وهاهنا يرد قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وهكذا نجد من خلال هذا القسم كيف أن لسورة آل عمران سياقها الخاص، وكيف أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة وفيما هو كالامتداد لمعاني هذه المقدمة على طريقة لم يعرفها بشر وهو عاجز عنها ولا يستطيعها أحد
المقطع الأول
ولنبدأ عرض القسم: المقطع الأول يبدأ هذا القسم بآيتين تشكلان بداية المقطع الأول وهما الفقرة الأولى منه: الفقرة الأولى من المقطع الأول [سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) المعنى العام: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة فريق من أهل الكتاب- وذكر الفريق هنا يدل على أن ليس كل أهل الكتاب يبذلون جهدا لإضلالنا. وبين أنه في حالة طاعة هذا الفريق، فإن الكفر والردة هما اللذان سنصير إليهما. فالهدف الذي يسعى إليه هذا الفريق إذن، هو تكفيرنا وردتنا. ولعل واقع عصرنا هو التفسير الواضح لهذا المعنى، إذ استطاع كثير من أهل الكتاب أن يصلوا إلى أخذ طاعة أبناء المسلمين من خلال أحزاب أو مؤسسات واستطاعت كثير من الدول الكافرة أن تستجلب سمع الكثير من أبناء المسلمين، فكان من آثار ذلك هذه الردة الكبيرة التي نراها. وفي الآية الثانية يعجب الله عزّ وجل من أن نكفر، وقد اجتمع لنا ما لا يعقل معه الكفر وهو هذا الكتاب المعجز وهذا الرسول الذي تضافرت المعجزات والخصائص والبشائر والآثار والثمرات على أنه رسول الله حقا ثم يبين أن الهداية إلى الصراط المستقيم مدارها على الاعتصام بالله، والاعتصام بالله يقتضي اعتصاما بكتابه ورسوله، وهذا الاعتصام هو العمدة في الهداية والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد وحصول المراد. وهاتان الآيتان جسر بين ما قبل وما بعد، فبعد أن نوقش موقف أهل الكتاب يأتي الآن نهي عن طاعتهم. وإذ نحن مأمورون بالإيمان فستذكر مقتضياته.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. أي: إن تعطوا الطاعة طائفة من اليهود أو النصارى. يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ أي: يخرجونكم من الإيمان إلى الكفر، فيجعلونكم مرتدين. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: من أين يتطرق إليكم الكفر. وفي السؤال إنكار وتعجيب. وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ أي: والحال أن آيات الله- وهي القرآن المعجز- تتلى عليكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وَفِيكُمْ رَسُولُهُ أي: وبين ظهركم رسول الله ينبهكم، ويعظكم، ويزيح عنكم شبهكم، وتظهر على يده الآيات. والمعنى قائم بالنسبة لنا ببقاء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته بين أيدينا. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي: يتمسك بدينه أو بكتابه، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار، ومكايدهم، وكل شر. فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فقد أرشد إلى الدين الحق. أو المعنى: ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعا عند الشبه، يحفظ منها. فائدة: دلت الآية الأخيرة على أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته، والقرآن وإعجازه، ينبغي ألا يتأتى معهما كفر، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا: الملائكة قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم. قالوا: فالنبيون. قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم! قالوا: فنحن، قال: وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم، يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها». فنحن معشر المسلمين اليوم فاتتنا رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي فينا القرآن، والسنة، والسيرة، وفي ذلك كفاية للإيمان. كلمة في السياق: بدأت سورة البقرة بالكلام عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، وجاءت سورة آل عمران لتفصل في هذه المقدمة. فعرفتنا كيف نهتدي بكتاب الله، وأعطتنا صفحة من صفحات الإيمان بالغيب،
الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الرابع
وعمقت عندنا الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل من قبله، وحذرتنا مما يقابل ذلك، وكل ذلك في الأقسام الثلاثة الأولى. وجاءت الفقرة الأولى، من المقطع الأول، من القسم الرابع: تنهانا عن طاعة أهل الكتاب؛ لما يترتب على ذلك من الردة مبينة أن الكفر لا ينبغي لنا بعد وجود القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وحضتنا على الاعتصام بالله، وأن في ذلك الهداية إلى الصراط المستقيم، ثم تأتي بعد ذلك فقرة تأمر بالتقوى، والموت علي الإسلام، والاعتصام بحبل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، مبينة أن ذلك هو طريق الفلاح، ثم تسير الفقرة في سياقها. وبهذا تحدد لنا الفقرة طريق الهدى، وعلاماته، وطريق الفلاح، ومقتضياته، فلنتذكر أن الكلام عن المتقين في مقدمة سورة البقرة ختم بقوله تعالى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إنه إذا كانت مقدمة سورة البقرة قد حددت صفات المتقين، والكافرين، والمنافقين، فإن القسمين الأخيرين من سورة آل عمران، يعمقان قضية التقوى، وقضية الكفر، ويحددان طبيعة الصراع بين الكفر والإيمان، ويوضحان ما لا يجوز لأهل الإيمان أن يفعلوه، ويعطيان دروسا حياتية كثيرة كمعالم على الطريق، وكل ذلك نراه في هذه السورة بما ترتبط به السورة بمحورها من سورة البقرة مع أن للسورة سياقها الخاص: فالصلة واضحة بين القسم السابق، وهذا القسم، فبعد أن ينتهي الحوار مع أهل الكتاب، يأتي نهي عن طاعتهم، وتأتي أوامر بالاعتصام بكتاب الله. وفي هذا السياق يأتي بيان عن أن أهل الكتاب لن يضرونا إلا أذى، وفي ذلك تطمين لنا أنه إذا لم نطعهم فلا خوف علينا. وهكذا فإن سياق السورة الخاص متلاحم الروابط. الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الرابع [سورة آل عمران (3): آية 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
[سورة آل عمران (3): الآيات 103 الى 112] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
المعنى العام
[سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 117] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) المعنى العام: في الآية الأولى: أمر من الله بتحقيق التقوى، ونهي من الله لنا أن نموت على غير الإسلام، وذلك بأن نحافظ علي الإسلام في حالة صحتنا، وسلامتنا، لنموت عليه، لأن الكريم قد أجرى عادته بكرمه، أنه من عاش على شئ بعث عليه. فعياذا بالله من موت على غير الإسلام. وفي الآية الثانية: أمر بالاعتصام بكتاب الله، وعدم التفرق، وأمر بتذكر نعمة الله في الألفة على هذا الدين بعد التفرق، وما أكرم الله- عزّ وجل- به هذه الأمة إذ أنقذها من النار. وفي الآية الثالثة أمر لهذه الأمة أن تنتصب للدعوة إلى الكتاب والسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذلك تستحق الفلاح. وفي الآية الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة: توجيه لهذه الأمة ألا تكون كالأمم الماضية في افتراقها، واختلافها، من بعد ما جاءها من الحق، وتهديد لهذه الأمة أن تغفل ذلك، مع تبيان المآل عند الله، إذ تبيض وجوه من لزم الحق وأهله، وتسود
وجوه من ترك الحق وأهله، واستحقاق الأولين رحمة الله بفضله، واستحقاق الآخرين عذابه بعدله. ثم بين الله- عزّ وجل- أن هذا المتلو آيات الله حقا، وأن الله لا يظلم أحدا. وأن الله مالك الجميع، والكل عبيد له، وهو الحاكم، والمتصرف في الدنيا والآخرة. وبعد أن يوجه لنا هذه الأوامر والنواهي، يقرر لنا أننا خير أمة أخرجت للناس بتحققنا بثلاثة أوصاف، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله. وفي هذا السياق يحض أهل الكتاب على أن يسلكوا سبيلنا مبينا أن القليل منهم يؤمنون، وأن الكثيرين منهم فاسقون عن أمر الله، لا يدخلون في الإسلام. ثم بين أن هؤلاء الفاسقين عن أمر الله من أهل الكتاب لن يضرونا إلا في حدود الأذية لا أكثر، ووعدنا إن قاتلونا أن ينصرنا عليهم، وأن يهزمهم. هذا إن كنا جنده حقا، ثم بين أنه قد ضرب على أهل الكتاب- والمراد بهم اليهود هنا وعرفنا ذلك من خلال صفاتهم- ضرب عليهم الذلة والمسكنة حيثما كانوا، وأن هذه الذلة لا ترتفع عنهم إلا إذا اجتمعت مشيئتان، مشيئة الله، ومشيئة الناس كما هو واقع الآن، إذ قامت لهم دولة سلطها الله علينا بظلمنا. وتضافرت شعوب العالم كلها على إيجادها وتأييدها، ودعمها. ثم بين علة ضربه الذلة عليهم، وهي الكفر، وقتل الأنبياء، والعصيان، والاعتداء. ولم يسلطهم الله علينا إلا لقتلنا ورثة الأنبياء، ولكفر الكثيرين من أولياء أمورنا، وعصياننا، واعتدائنا. والله- عزّ وجل- ذو العدل المطلق، والفضل العظيم، من استحق عقابا عاقبة إلا أن يشاء شيئا. ثم يذكر الله- عزّ وجل- في مقابل الفسقة من أهل الكتاب، من يؤمن منهم؛ فيقوم بآيات الله آناء الليل، ويؤمن بالله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويسارع في الخيرات، فهؤلاء لا يستوون مع الفاسقين منهم، وهؤلاء من الصالحين الذين يعدهم الله أن يجازيهم على إحسانهم إحسانا، والمراد بهم- قولا واحدا- من دخل في الإسلام. ويختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بالكلام عن الكافرين، وأنهم لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأنهم خالدون في نار جهنم، وأن نفقاتهم لن تقبل منهم. فإذا تذكرنا ما كررناه سابقا من كون الله- عزّ وجل- عقب بوصف الكافرين بعد ذكر المتقين في سورة البقرة، وأن هذا يتكرر في سورة آل عمران، يكون ما ذكر هنا دليلا على صحة ملاحظتنا.
المعنى الحرفي
ففي هذا المقطع توجيه للمؤمنين لما فيه هداهم وخلاصهم، وتحذير لهم مما فيه هلاكهم وعذابهم. ومحل أهل الكتاب في هذا، وكونهم فئتين: فئة تؤمن، وأخرى تستمر على فسوقها، وكفرها، وعدم استواء هاتين في ميزان الله. ثم يختم المقطع الكلام عن الكافرين، فالمقطع توضيح لمقدمة سورة البقرة، وتفصيل لبعض ما فيها من إجمال، وتبيان لما ينبغي أن يلاحظ بسبب أن الناس مسلم وكافر. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أى: اتقوا الله واجب تقواه وما يحق منها وذلك يكون: بالقيام بالواجب، والاجتناب عن المحارم، فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: «أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» وذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ورد هذا القول ابن عباس وفسرها فقال: لم تنسخ، ولكن حق تقاته، أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أي: لا تكونوا على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، وذلك بأن تحافظوا على الإسلام في حال صحتكم، وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شئ مات عليه، ومن مات على شئ بعث عليه، فعياذا بالله من خلاف ذلك. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أي: تمسكوا بالقرآن كلكم. وَلا تَفَرَّقُوا أي: ولا تتفرقوا؛ بأن يكون منكم فعل ما يكون عنه التفرق، ويزول به حق الاجتماع، أو لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، أو لا تتفرقوا كما كنتم في الجاهلية: يحارب بعضكم بعضا. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً هذا النص نزل في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام؛ فدخل فيه من دخل، صاروا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى. وتدخل في ذلك كل حالة شبيهة جمع الله فيها القلوب على الحق بعد إذ كانت متفرقة على الباطل،
[سورة آل عمران (3): آية 104]
فهي نعمة تستوجب ذكرا وشكرا. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الشفا: الحرف والطرف، أي: وكنتم على طرف حفرة من النار؛ بما كنتم عليه من الكفر ليس بينكم وبين النار إلا أن تموتوا، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي: فأنقذكم الله منها بفضله وكرمه، إذ هداكم للإسلام. كَذلِكَ أي: كمثل هذا البيان البليغ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي: يوضحها لكم، ويذكركم بها في قرآنه. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لتهتدوا إلى الصواب، وما ينال به الثواب. أو لتكونوا مهتدين. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ تحتمل معنيين: الأول أن تكون (من) للبيان، أي: ولتكونوا أمة، ويكون هذا أمر لجميع الأمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والثاني: أن تكون (من) للتبعيض، فيكون الأمر هنا لبعض الأمة أن يكون منها من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وتكون المسألة من باب فروض الكفايات، والأمة هنا الجماعة. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. الدعوة إلى الخير هي الدعوة إلى الكتاب والسنة، والمعروف: ما استحسنه الشرع والعقل الذي لا يناقض الشرع، أو ما وافق الكتاب والسنة، أو هو الطاعة، أو هو المباح والمندوب، والواجب والفرض. والمنكر: ما استقبحه الشرع والعقل الموافق للشرع، أو ما خالف الكتاب والسنة، أو هو المعاصي، أو هو المكروه والحرام. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: هم الأخصاء بالفلاح الكامل. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا تفرقوا في العداوة، واختلفوا في الديانة، فكفر بعضهم بعضا. مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة: وهي كلمة الحق. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ أي: يوم القيامة تبيض وجوه أهل الحق، والجماعة، والسنة وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وجوه أهل الباطل، والفرقة، والبدعة، أو تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، وللمؤمن نوره ولو كان أسود اللون، وللكافر ظلمته ولو كان أبيض. فالسواد والبياض عند الله إنما هما ظلمة الكفر ونور الإيمان فالعبرة لبياض القلب أو ظلمته. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وهذا توبيخ لهم، وتعجيب من حالهم، وما المراد بالإيمان هنا؟ هل المراد به الإيمان في عالم الذر يوم الميثاق إذ قالت الأرواح مقرة لله بالربوبية: بلى؟ فيكون المراد بهذا الخطاب جميع الكفار، أو المراد بالإيمان هنا الإيمان الدنيوي فيكون المراد بهذا أهل النفاق، والمرتدين إذ كفروا بعد الإيمان، أو كفروا باطنا، وأظهروا الإيمان ظاهرا، أو المراد به هنا إيمان أهل الكتاب،
[سورة آل عمران (3): آية 107]
الذين كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فلما بعث كفروا به، أو المراد بالإيمان هنا أصل الفطرة، ثم حدث الكفر، والنص يدخل فيه هذا كله، ويخص من سبق إليه إيمان، ثم كفر بفرقة، أو بدعة، أو عداء لحق. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: بسبب كفركم. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ وهم أهل الإيمان فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي: في نعمته، وجنته، وثوابه هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: ماكثون لا يظعنون عنها، ولا يموتون. تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي: هذه آيات الله، وحججه، وبيناته، نتلوها عليك يا محمد متلبسة بالحق، والعدل من أمر الدنيا والآخرة. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي: لا يريد الله أن يظلم عباده فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الجميع ملك له وعبيد له. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة فيجازي المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي: وجدتم خير أمة أظهرت للناس، ثم بين سبب ذلك وعلته. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في المدح. قال عمر بعد أن قرأ هذه الآية: «من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها». قال ابن كثير: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ (سورة المائدة) ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب، وتأنيبهم، فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: لكان الإيمان خيرا لهم مما هم فيه؛ لأنهم إنما يؤثرون دينهم على دين الإسلام حبا بالرئاسة والسلطة لهم أو لأقوامهم، واستتباعا للعوام، أو كبرا وحسدا. ولو آمنوا لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، مع الفوز بما وعدوا به على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين كما سنرى. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي: قليل منهم من يؤمن بالله: وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة، والفسق، والعصيان. ثم أخبرنا تعالى مبشرا لنا أن النصر والظفر لنا على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، وإن مسنا منهم أذى قال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي: ضررا مقتصرا على أذى: من طعن في الدين، أو تهديد، أو نحو ذلك دون أن يستطيعوا استئصالكم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ
[سورة آل عمران (3): آية 112]
الْأَدْبارَ منهزمين، فلا يثبتون أمامكم. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي: ثم لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم، وهذه أعظم بشارة لنا إن كنا مؤمنين حقا. خاصة في صراعنا مع اليهود، وأما هزائمنا أمامهم، فتدل على أن الذين يقاتلونهم لم يتحققوا بصفات الإيمان، وهذا ظاهر إذ اللواء الذي قاتل تحته العرب فهزموا حتى الآن، إنما هو لواء الكفر، والفسوق، وإلا فالوقائع الماضية للمؤمنين مع أهل الكتاب شاهدة لما ذكرته الآية ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا هذا الكلام خاص باليهود، بدليل ما يأتي من صفاتهم التي هي علم عليهم. والآية تفيد أن اليهود قد ألزموا الذلة أينما وجدوا، وذلك بدفعهم الجزية لكل دولة يعيشون في ظلها، وخوفهم الدائم أينما كانوا. مما يضطرهم لفعل الذليل من الأعمال، نفاقا واتقاء شر. ثم استثنى الله حالة عرفناها في عصرنا إذ قامت لهم دولة في فلسطين. قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي: إلا بإمداد من الله، وإمداد من الناس، إلا بسبب يعطيهم الله إياه، وبسبب من الناس يكون لهم، فترتفع عنهم الذلة بذلك ويكون لهم دولة وسلطان، وهذا ما حدث الآن إذ أمدهم الله، وسخر لهم وسلطهم علينا بظلمنا، وإذ تمالأ العالم كله لصالحهم يمدهم ويحميهم، ويكيد لهم، ويخدمهم، فكان ما نعلمه، ولكنه حدث عارض بدليل ما سيمر معنا في سورة الأعراف، وفي سورة الإسراء. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي: ألزموا بغضب الله بما استوجبوه من ذلك وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي خوف الفقر هنا مع قيام اليسار. فهم لا يرون إلا مساكين متظاهرين بذلك، أو متحققين- وسبب هذا كله- وهو تهديد لنا أن نفعل مثل فعلهم، فنستحق ما استحقوه هم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي: سبب ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وبوئهم بغضب الله، كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي: سبب قتلهم الأنبياء، وكفرهم، هو عصيانهم لله، واعتداؤهم حدوده فالعصيان والاعتداء هما مقدمتا الكفر والجرأة على سفك دم أهل الإيمان. وقد كفر كثيرون من هذه الأمة في عصرنا، حكاما ومحكومين، وقتلوا الدعاة إلى الله، وتجاوزوا حدوده، ووقعوا في معاصيه. أيستغرب بعد ذلك أن يغلبهم اليهود في معاركهم، وما غلب اليهود المسلمين، وإنما غلبوا أمثالهم. وإذ ذكر الله منذ قليل أن من أهل الكتاب من يؤمن، وأكثرهم المستمر على الكفر. فالآن يبين فضل الأولين، بعد أن بين خسران الآخرين قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً أي ليسوا
[سورة آل عمران (3): آية 114]
مستوين من سيذكر منهم مع من ذكر. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من آمن منهم بالإسلام أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: جماعة مستقيمة عادلة. قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبيه. فقائمة هنا بمعنى: مستقيمة. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي: يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم. وآناء الليل: ساعاته. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ المسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به، وهؤلاء يبادرون إليها خشية الفوت. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. أي: وهؤلاء الموصوفون بما وصفوا به من المسلمين، أو من جملة الصالحين، صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا أجره. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي: لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا، وهذه بشارة للمتقين بجزيل الثواب. ثم قال تعالى مخبرا عن الكفرة. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا يرد عنهم بأس الله ولا عذابه. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون فيها أبدا، فما أشد هذا العقاب، وما أعد له، لأنهم لو بقوا أبدا لاستمروا على الكفر أبدا. ثم ضرب مثلا لما ينفقون في هذه الدار، كيف أنه لا ينفعهم عند الله مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا من أموالهم التي يتظاهرون بأنهم ينفقونها بقصد طيب، مع كفرهم، ورغبتهم في الثناء، والذكر الحسن عند الناس، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ الصر: هو البرد الشديد أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ أي: أرض قوم قد آن حصادها، وقطافها وهؤلاء القوم صفتهم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالذنوب والمعاصي فَأَهْلَكَتْهُ أي: فدمرته فصار المعني: مثل إهلاك ما ينفقون عند الله، كمثل إهلاك ريح باردة لثمرة أرض. تدمرها فلا ينتفع أهلها منها بشيء، وكذلك هؤلاء. وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بإهلاك حرثهم وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. هذا إذا أرجعنا الضمير على أصحاب الأرض، وإذا أرجعنا الضمير للمنفقين يكون المعنى: وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم، حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول. فوائد حول المقطع: 1 - بمناسبة قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نذكر
حديثين: أ- أخرج الإمام أحمد عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. .. لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت عمل أهل الدنيا وما فيهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم» ورواه الترمذي وغيره، قال الترمذي حسن صحيح. ب- وروى الإمام أحمد عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزّ وجل» ورواه مسلم. 2 - وفي تفسير الحبل في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا .. نذكر: أ- روى الطبري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض». ب- روى ابن مردويه عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه». وقال الألوسي في تحقيق كلمة (حبل الله): وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي: القرآن روي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود. وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله- عزّ وجل- ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة، وقيل المراد بحبل الله: الطاعة والجماعة، وروى ذلك عن ابن مسعود أيضا. أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال: سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالطاعة، والجماعة، فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به»، وفي رواية عنه: «حبل الله تعالى الجماعة»، وروي ذلك أيضا
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية: «أنه الإخلاص لله تعالى وحده». وعن الحسن: «أنه طاعة الله- عزّ وجل-» وعن ابن زيد «أنه الإسلام». وعن قتادة: أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة» اهـ. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا نذكر الحديث الذي رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» قال ابن كثير: وقد ضمنت لهم العصمة، (أي للمسلمين) - عند اتفاقهم- من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق، والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي». فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن». 5 - وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن هذه الآية وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً .... نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلا من اليهود مر بملإ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث، وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فجعل يسكنهم ويقول: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، وتلا عليهم هذه الآية. فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا، وتعانقوا، وألقوا السلاح». وذكر النسفي أن هذا سبب نزول الآيتين قبلها إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ .... ولا يبعد أن كل هذه الآيات الأربع نزلت بهذه المناسبة.
6 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ نذكر ثلاثة أحاديث: أ- روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». ب- وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون، ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدكم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». ج- وروى الإمام أحمد والترمذي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده؛ ثم تدعونه فلا يستجيب لكم». 7 - بمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ننقل بعض النصوص والنقول: روى الإمام أحمد عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة- وهي الجماعة- وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به». 8 - وروى الترمذي: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ .... إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أسمعه إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاثا، أو أربعا، حتى عد سبعا ما حدثتكموه» ثم قال الترمذي: حديث حسن والذين رأى أبو أمامة رءوسهم هم الخوارج، فهم إحدى الفرق التي تفرقت، واختلفت؛ فاستحقت سواد الوجه يوم القيامة. وبمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ننقل تحقيقا للآلوسي بسبب أن كثيرين لا يفرقون بين أنواع من الاختلافات: يقول الألوسي: «ثم إن هذا الاختلاف المذموم، محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع، ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل: إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها- كالماتريدي، والأشعري- فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع، أو أجمع عليه وليس بالبعيد. واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام «اختلاف أمتي رحمة» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي. إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» وأراد بهم صلى الله عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد، والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه، خلافا لمن وهم. والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة. فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال: «اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لعباد الله تعالى» وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ «كان اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس» وفي المدخل عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة» واعترض الإمام السبكي بأن «اختلاف أمتي رحمة» ليس معروفا عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع، ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس؛ بأن يكون أحد قال: اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم، فظنه حديثا، فجعله من كلام النبوة، وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له، واستدل على بطلانه بالآيات، والأحاديث الصحيحة، الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة
سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف، وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها: في الأصول، ولا شك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن، والثاني: في الآراء، والحروب، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ. وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضا أنه حرام؛ لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما، والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا، لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل، والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص، وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: «الاختلاف رحمة»، فإن الرخص منها بلا شبهة، وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف، فلا تنافي بين الكلامين، لأن جهة الخيرية تختلف باختلاف وجهة الرحمة، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده، والرحمة في الرخصة فيه وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم، فيكتفى في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما، في وقت ما، في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا، وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير نقول إن الاتفاق مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد- وهو الصحيح- فالحق في نفس الأمر واحد، والناس كلهم مأمورون بطلبه، واتفاقهم عليه مطلوب، والاختلاف حينئذ منهي عنه، وإن عذر المخطئ، وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق. فقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران» وإذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد، وباتباع ما غلب على ظنه؛ فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق، ولا أن يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا: المراد بالاختلاف في
الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في «شعب الإيمان»، لكن كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة، إذ لا خصوصية لأمة بذلك؛ فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع، والحرف، لا هذه الأمة فقط، فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم؛ فهي من رحمة الله تعالى لهم، وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحق الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم. هذه خلاصة كلامه أي (السبكي)، ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شئ، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى «كتاب الحجة» لنصر المقدسي، ولم يذكر سنده ولا صحته، لكن ما ورد يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري، والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن شاركهم في الاجتهاد، كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين، الذين ليسوا بمبتدعين، وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم». ا. هـ كلام الألوسي. 9 - وبمناسبة قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ننقل بعض الأحاديث: أ- في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجل». ب- روى الإمام أحمد: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «خير الناس أقراهم، وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم». ح- روى الإمام مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه
كلمة في سياق المقطع الأول من القسم الرابع
أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب» فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا. وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة». وفي حديث حسن «فإن الله وعدني سبعين ألفا، مع كل ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات». وفي حديث حسن رواه أبو القاسم الطبراني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة: لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء». وفي حديث إسناده حسن قال عليه الصلاة السلام: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، لكم منها ثمانون صفا». وفي حديث رواه البخاري ومسلم قال عليه الصلاة السلام: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتينا من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، الناس لنا فيه تبع. غدا لليهود، وللنصارى بعد غد». كلمة في سياق المقطع الأول من القسم الرابع: 1 - يلاحظ أن مقدمة سورة البقرة بدأت بالكلام عن المتقين المهتدين بالكتاب، المؤمنين المصلين المنفقين، ثم ثنت بالكلام عن الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... والملاحظ أن هذا المقطع: بدأ بالنهي عن طاعة أهل الكتاب، التي تجر إلى الكفر، ثم ثنى بالدعوة إلى التقوى الكاملة والاعتصام بالقرآن، والدعوة إليه، ونهى عن التفرق، واستقرت مجموعة منه على قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ. ثم جاءت مجموعة تبين خيرية هذه الأمة، وتأخذ على أهل الكتاب انحرافهم، وتذكر ما عوقبوا به، وإذ تذكر شرارهم، تذكر بخيارهم، وتستقر المجموعة على قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. فهاتان المجموعتان من هذا المقطع تعملان في تعميق قضية التقوى، وكما أن مقدمة
سورة البقرة تحدثت عن الكافرين بعد المتقين، فإن هذا المقطع ينتهي بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. لاحظ أن كل شئ من أخلاق المتقين يفعله الكافرون لا يقبل منهم. 2 - في مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وهذا المقطع بعد أن أمرنا بأن نعتصم بالله، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وبعد أن أمرنا بالاعتصام بالقرآن مبينا أن ذلك هو طريق الهداية، أمرنا بأن ندعو إلى الخير، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، وبين أن في ذلك الفلاح. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وإذن فقد فصلت آيات في هذا المقطع في موضوع الهداية والفلاح، بأن بينت معنى مما يدخل في الاهتداء بالقرآن، ويتوقف عليه الفلاح. ثم إن مجموعة من الآيات بينت أن الخيرية في هذه الأمة مرتبطة بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وبينت أن أهل الكتاب الملتزمين بالإيمان بالله واليوم الآخر، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، لا يستوون مع غيرهم من أهل الكتاب. فالمقطع عمق قضية التقوى، وفصل فيما يدخل فيها. 3 - لعله اتضح بشكل ما، صلة هذا المقطع بمقدمة سورة البقرة من خلال ما مر، فلنر محله في سياق سورة آل عمران: في القسم الأول من سورة آل عمران ذكر- عزّ وجل- أنه أنزل القرآن، وجعله آيات محكمات، وأخر متشابهات. وفي هذا المقطع يأمرنا الله- عزّ وجل- بالاعتصام بكتاب الله، ويحذرنا أن نكون من المتفرقين وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ فالآيات هنا تحذرنا من التفرق، فإذا ربطنا بين هذه الآيات، وآيات القسم الأول التي تعرفنا أن الآيات المتشابهات إنما يتبعها من يريد الفتنة
بين المسلمين، أدركنا نموذجا من التفرق المذموم. فلا بد للمسلمين أن يلحظوا أن اللقاء ينبغي أن يكون على المحكم، وعلى التسليم في شأن المتشابه. وعدم الخوض فيه. وفي القسم الأول ورد قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وهاهنا يذكر الله- عزّ وجل- لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ .. وفي القسم الأول يذكر الله- عزّ وجل- الذين يقتلون الأنبياء، وهاهنا يذكر الله- عزّ وجل- .. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وهكذا نجد صدق ما ذكرناه من كون الأقسام الأولى مهدت لهذا القسم، فبعد الكلام عن عيسى عليه السلام، نوقش أهل الكتاب. وبعد هذا النقاش نهينا عن طاعتهم، وعرفنا أنهم لن يضرونا إلا أذى، وأنهم مهزومون إن قاتلونا. 4 - لنتأمل الآن في تسلسل المعاني ضمن المقطع الذي مر معنا: بدأ المقطع بالنهي عن طاعة أهل الكتاب وبين أن عاقبة ذلك الكفر، ثم عجب من كفر المسلم بعد إيمانه، وخض على الاعتصام بالله، ثم بين أن طريق الاعتصام: تقوى، واعتصام بالقرآن، وعدم تفرق، ودعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم فصل في موضوع التفرق وعاقبته، ثم بين أن حكمة اصطفاء هذه الأمة بسبب اجتماع الإيمان بالله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لها، ثم بين أن أهل الكتاب مفتوحة لهم الطريق ليدخلوا فى هذه الأمة، وبين أن أكثرهم لا يدخلون، وبعضهم يدخلون ويفعلون كل ما تستلزمه قضية التقوى. وفي وسط هذه المعاني، يبين- عزّ وجل- لنا أن الكافرين من أهل الكتاب لن يضرونا إلا أذى، وأنهم مغلوبون إن قاتلونا، وصلة ذلك بالنهي عن طاعتهم، والاعتصام بالإسلام لا تخفى. 5 - في بداية هذا المقطع ورد قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وفي وسط هذا المقطع ورد قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ .. ومن رأى واقع ما نحن فيه؛ علم أن في هذه الآية معجزة تدل على أن منزل هذا القرآن هو المحيط علما بكل شئ فثبته ذلك على الإيمان.
المقطع الثاني في القسم الرابع
6 - لقد بدأ هذا القسم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وسار المقطع الأول ليعمق فينا ما ينبغي أن نفعله. ويأتي الآن المقطع الثاني ليبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا ... فالمقطع الثاني في هذا القسم يكمل في تبيان المواقف التي تترتب على كون الناس مؤمنين وكافرين. لقد حذرنا المقطع الأول في هذا القسم من طاعة أهل الكتاب، ومن التفرق في الكتاب. وأمرنا بالاعتصام به، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وحض أهل الكتاب على الإيمان. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. وبين لنا أن أهل الكتاب منهم من يؤمن. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. وأعطانا صفات المؤمنين منهم، وعرفنا على صفات الكافرين، وبين لنا بعض قوانين الصراع مع الكافرين منهم. ثم جاء حديث عن الكافرين، ليكون ذلك مقدمة عن النهي عن اتخاذ بطانة من الكافرين. ولو أنك تأملت مقدمة سورة البقرة لذكرتك هذه المعاني في جملة ما تذكرك بقوله تعالى فيها: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تأمل قوله تعالى هنا: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ .... لتجد أن التفصيل لمقدمة سورة البقرة وفي المقطع واضح، وصلة المقطع بما قبله من السورة واضحة. ولننتقل إلى المقطع الثاني في القسم الرابع. المقطع الثاني في القسم الرابع يمتد هذا المقطع من الآية (118) إلى نهاية آية (129) وهذا هو [سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
[سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
المعنى العام
المعنى العام: رأينا في المقطع السابق تحريم الله علينا طاعة أهل الكتاب، وأمره لنا بالاعتصام بكتابه، وعدم التفرق والاختلاف، وأمره لنا بالدعوة إلى الكتاب والسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وخيرية هذه الأمة بسبب اجتماع الإيمان بالله، مع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لها، ووعد الله لنا أن ينصرنا على أهل الكتاب إذا قاتلناهم، وثناء الله على من يؤمن من أهل الكتاب، ويدخل فيما دخلت به هذه الأمة من عمل. ثم ما أعد الله للكافرين، وفى هذا المقطع ينهانا الله عزّ وجل في الآية الأولى عن اتخاذ بطانة من دوننا من الكافرين أو المنافقين، نطلعهم على أسرارنا، وما نضمره لأعدائنا، وبين الله- عزّ وجل- سبب ذلك لأن هؤلاء لا يقصرون في مخالفتنا وما يضرنا، ويرغبون في كل ما يشق على المسلمين ويعنتهم، وأنهم لا يضمرون لنا إلا البغضاء، حتى إنهم ليظهرون ذلك. ثم بصرنا الله بحالهم أكثر، فمع أننا نحبهم بحكم الخلق، والطبيعة البشرية الصافية. فإنهم لا يحبوننا، ومع أننا نؤمن بالكتاب كله، فهم يتظاهرون مسايرة لنا بالإيمان، ولكن الغيظ منا ومن ديننا يأخذ عليهم قلوبهم. فالموقف السليم أن نزيدهم غيظا، لا أن نتخذهم خاصتنا، ومحل أسرارنا. ثم زادنا الله تعريفا بهم. أنهم لا يفرحون لما يصيبنا من نصر، أو خير، أو عز، وإنما يسوؤهم ذلك، ويفرحون بما يصيبنا من بلاء ومحن. وهم أصحاب كيد للإسلام وأهله، ولكنا إذا تحققنا بالصبر والتقوى فقد وعدنا الله ألا يضرنا كيدهم. ثم شرع الله- عزّ وجل- يذكرنا بوقائع تطبيقية حدثت لهذه الأمة تدل على أن هذه الأمة إن صبرت واتقت فالله يتولى شأنها كله، ولا يضرها كيد الكافرين أو المنافقين. المثال الأول من أحد: إذ كادت عشيرتان من الأنصار أن تتأثرا بمواقف الكافرين، ولكن لتحققهما بالإيمان؛ فإن الله عصمهما من ذلك. ومن ثم يأمر الله المؤمنين بالتوكل عليه؛ لأنهم إن توكلوا عليه أنقذهم من كل كيد، وفتنة، أو تخطيط ماكر. ثم ذكرنا الله- عزّ وجل- بنصرنا يوم بدر مع ضعفنا وقلتنا، وأمرنا بالتقوى شكرا له على ذلك، وهذا هو المثال الثاني وقد بين الله- عزّ وجل- بعض ما فعله لنا يوم بدر؛ ليحقق المثل ما هو مسوق له من نموذج على ما مر أنه في حالة صبرنا وتقوانا لا يضرنا كيد الكافرين أو المنافقين، بل الله بفضله يفعل ما ينقذنا منهم، وينصرنا عليهم، بأن يمدنا بمدد من الملائكة؛ لينصرنا على الكافرين، وليمزقهم، أو يرد كيدهم خائبا.
المعنى الحرفي
وتعقيبا على هذا كله يوجه الله رسوله ويعلمه أن الأمر كله لله، الملك ملكه، والأمر أمره، والتدبير تدبيره، وليس لأحد معه ملك أو أمر أو تدبير. يعذب من شاء، وينصر من شاء، ويغفر لمن شاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء ورحمته وسعت كل شئ. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ بطانة الرجل هم خاصته وأصفياؤه الذين يطلعهم على أدخل أمره. وقوله مِنْ دُونِكُمْ دخل فيه عامة أهل الأديان، وأهل الإلحاد، وأهل النفاق. وكل من دخل في قول من أقوال رسول الله عليه السلام «ليس منا». فصار المعنى: لا تتخذوا خواص لكم، وأصفياء، تطلعونهم على أسراركم، ومخططاتكم من دون أبناء دينكم، وهم المسلمون الصادقون. ودخل في هذا النهي أن نجعل أمثال هؤلاء مستشارين لنا، وأمناء سر. ومخالطين لنا، وأصحاب عشرة. ثم وصف من دوننا بالنسبة لنا لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا الخبال: الفساد، أي: لا يقصرون في فساد دينكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم. فهم يسعون في مخالفتنا، وما يضرنا بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي ودوا عنتكم والعنت: شدة الضرر، والمشقة، والحرج، أي: يودون ويرغبون بما يشق عليكم، ويحرجكم. فهؤلاء لا يتمنون إلا أن يضروكم في دينكم ودنياكم، أشد الضرر وأبلغه، ومن كانت هذه خبيئة نفسه فكيف تتخذه خاصة لك، وبطانة، وملازما، ومستشارا، ومستنصحا! قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: إنهم مع ضبطهم أنفسهم ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين، فإن بعض كلامهم يدل على بغضائهم. وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغض لكم أَكْبَرُ مما بدا. لقد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا ذيلت الآية بقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: قد وضحنا لكم الآيات الدالة على وجوب الإخلاص في الدين، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، وعدم اتخاذهم بطانة؛ من أجل أن تعقلوا هذه الآيات فتفهموا، وتعملوا. ها أَنْتُمْ أُولاءِ المتصفون بما يأتي مما يدل على خطئكم في واقع الأمر تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ أي:
[سورة آل عمران (3): آية 120]
تحبون أصنافا من دونكم، ولا يحبونكم هم. هذا بيان للخطإ حيث نبذل محبتنا لأهل البغضاء فنجعلهم بطانة وهم أعداء. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي: بكل كتاب أنزله الله وبكل وحي، ليس عندكم في شئ منه شك ولا ريب. أما هم فمنافقون. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ الأنامل أطراف الأصابع، ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل، والبنان والإبهام، وعض الأنامل من الغيظ تعبير عن أشد الغيظ وأفظعه، فصار المعنى: وإذا لقوكم أظهروا لكم من الإيمان ما يطمئنكم إليهم، ويحببهم إليكم، وإذا فارقوكم، أو خلا بعضهم إلى بعض أظهروا أشد الغيظ والحنق عليكم. فإذا كان الأمر كذلك، تؤمنون بكتابهم، ويكفرون بكتابكم، ويضمرون لكم من الحقد والغيظ أفظعه، فأنتم أحق بالبغضاء لهم، فما بالكم تحبونهم؟ ففي الآية توبيخ شديد لنا على محبتنا لمن دوننا من أهل الكتاب، فضلا عن غيرهم. فكأننا في هذا الموقف أضعف منهم في حقنا، وهم أصلب منا في باطلهم. ثم علمنا الله الموقف الصحيح منهم فقال: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين، وبغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمه على عباده المؤمنين، ومكمل دينه، ومعل كلمته، ومظهر عباده، فازدادوا غيظا إلى غيظكم حتى تهلكوا به. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد، والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها. وهل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هو من تتمة ما أمر الله رسوله والمؤمنين أن يقولوه لهم؟ أو هو تذييل للآية كلها؟ فإذا كان الأول فيكون معناه: وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم، وهو مضمرات الصدور. فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه. وإذا كان الثاني، يكون معناه: لا تتعجب مما أمرتك به، واعمل به، وكن واثقا مما أعلمتك به من حالهم، ومواقفهم منكم، فإني عليم بذات الصدور. ثم بين الله- عزّ وجل- حالهم منا، بما يزيدنا بصيرة في أمرهم، وبما يقوي عزائمنا في أمرهم فلا نتخذهم بطانة بل أعداء، فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ هذه حالهم الدالة على شدة عداوتهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المسلمين خصب، ونصر، وتأييد، وكثرة، وعزة، ساء غيرهم ذلك. فالمعنى إذن: إن تصبكم غنيمة، ونصرة، ورخاء، وخصب، يحزنهم ذلك، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها أي: وإن
فوائد
تصبكم سنة جدب، أو هزيمة، يفرحوا بذلك إن أصابكم- وهذا منتهى العداء- ثم وجهنا الله- عزّ وجل- إلى ما إن تحققنا به لا يضرنا كيد غيرنا لنا، وهو الصبر والتقوى فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي: وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقة، وما ابتلاكم الله به، وتتقوا الله في اجتناب محارمه، لا يضركم مكرهم وخططهم ضدكم شيئا، بل تكونون في حفظ الله، وذلك لقوله: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فهو المحيط بمكرهم، وكيدهم. فإذا كنتم صابرين متقين أحبط ذلك لكم. وفى نهاية الآية إرشاد من الله تعالى إلى طريق السلامة من شر الأشرار، وكيد الفجار، بالتحقق بالصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائنا، فلا حول ولا قوة لنا إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شئ إلا بتقديره. ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه. فوائد: 1 - نهتنا الآيات أن نتخذ بطانة من دوننا، وبينت لنا سبب ذلك، وشعرنا من خلال الآيات أن المقصود الأول بذلك هم كفرة أهل الكتاب، وإذا كانوا كذلك، فغيرهم أولى أن نحذر. والنهي أعم من هذا كله، فالنهي منصب على عدم جواز اتخاذ بطانة من دوننا، دخل في ذلك الكافرون كلهم من أهل الكتاب، والمشركون والملحدون، ودخل في ذلك المنافقون لأنهم ليسوا منا. قال تعالى الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ والمنافقون يعرفون من أوصافهم في كتاب الله، ومن أقوالهم. ويدخل في ذلك من باب الورع والاحتياط، كل من نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه منا من ذلك «من غشنا فليس منا»، «من رغب عن سنتي فليس مني»، «ومن أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية»، «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»، «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا»، ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». أمثال هؤلاء ينبغي أن نحتاط، فلا نتخذهم خاصتنا، ولا نفشي لهم أسرارنا، ولا نظهرهم على عوراتنا، ولا نطلعهم على مخططاتنا، ولا نستشيرهم في أمورنا. 2 - في حديث صحيح رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله
[سورة آل عمران (3): آية 121]
من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله». 3 - روى ابن أبي حاتم: «قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ، كاتب، فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين». قال ابن كثير: «ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب» أقول: من كلام ابن كثير يفهم جواز استعمالهم فيما سوى ذلك. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- النهي عن اتخاذ بطانة من دوننا وأسبابه، ووعد عباده المؤمنين، أن يحبط مكر الكافرين في حالة تقوانا، وصبرنا. يضرب لنا مثلين عن حالتين تولى عباده المؤمنين فيهما: يوم أحد، ويوم بدر، فأحبط كيد أعدائهم بسبب صبرهم وتقواهم. والدليل على أن هاتين القصتين مساقتان كنموذجين على تولي الله المؤمنين، وإحباط كيد أعدائهم في حالة صبرهم وتقواهم، هو ورود ذكر الصبر والتقوى في الآيات السابقة: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. ووروده فيما يأتي: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ المراد بالقتال هنا معركة أحد، والغدو: الخروج صباحا، والمعنى: واذكر يا محمد مثلا على تولي الله المؤمنين، حين خرجت من أهلك بالمدينة تبوئ، أي: تنزل المؤمنين في منازلهم ومواطنهم، ومواقفهم للقتال من الميمنة، والميسرة، والقلب، والجناحين، والساقة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وضمائركم. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما هذا الذي سيقت القصة من أجله، وأمر بالتذكير فيه، إذ حمى الله- عزّ وجل- طائفتين من المؤمنين يوم أحد من أن تتخذا مواقف المنافقين، إذ انسحبوا، فكان في ذلك حفظ لهما، ودعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفشيل لكيد المنافقين. والمعنى: واذكر إذ همت عشيرتان: هم بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، أن تجبنا وتضعفا، وتنسحبا، ولكن الله محبهما وناصرهما، ومتولي أمرهما ولذلك صرفهما عن مشاركة المنافقين بالانسحاب فلم يفعلا. وهذه القصة تعلمنا أن نسلم أمورنا لله، وأن نتوكل عليه، وألا نخالف أمره. ومن ثم
فوائد
ختمت الآية بالأمر بالتوكل فقال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. أمرنا ألا نتوكل إلا عليه، وألا نفوض أمورنا إلا إليه. فوائد: 1 - روى البخاري عن عمر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا الآية قال: نحن الطائفتان بنو حارثة، وبنو سلمة وقال سفيان مرة وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. 2 - المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة. وقد قال الله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ وفي الجمع بين هذا وهذا؟ قال ابن جرير: إن غدوهم ليبوئهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار. 3 - خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بألف من المدينة. وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف، فلما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه في الشوط (مكان في الطريق إلى أحد). رجع عبد الله بن أبي رأس المنافقين بثلث الجيش مغضبا، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه وقوله، هناك كادت الطائفتان أن تتزلزلا، وترجعا مع المنافقين، ولكن الله عصمهم توليا للمؤمنين، وإحباطا لكيد المنافقين. ومن ثم جاءت هاتان الآيتان في معرض البيان أن كيد الكافرين والمنافقين لا يضر المؤمنين إن صبروا واتقوا. ثم ضرب الله مثلا آخر على تولي المؤمنين، وخذلان أعدائهم، وإحباط كيدهم بما حدث يوم بدر. فلنتذكر الصلة بين أجزاء هذا المقطع، وارتباط آخره بأوله، وأن المقطع جاء من أجل أن لا نتخذ بطانة من دوننا، فلا نتخذ بطانة خوفا من كيد الكافرين والمنافقين، لأن الله يحبط كيدهم، وينصرنا عليهم، بصبرنا وتقوانا لا بمخالفتنا أمره. وما حدث يوم بدر نموذج: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي: ولقد نصركم الله يوم بدر وأنتم أذلة، والأذلة جمع قلة لذليل، واستعمال جمع القلة يفيد أنهم كانوا على ذلتهم وضعف شوكتهم قليلين، ليعلم أن النصر من عند الله، لا بكثرة العدد والعدة، وهذا كما قلنا آت في سياق وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً .. الآية ثم في سياق لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ فمن تذكر يوم بدر أعطاه ذلك درسا أن يستقيم على أمر الله. وأن يخلص وده للمؤمنين وأن يفاصل المشركين، والكافرين، والمنافقين، ولا يخشى إلا ربه والله يتولى شأنه، فيثبط عدوه وينصر جنده، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: فاتقوا
[سورة آل عمران (3): آية 124]
الله بالقيام بما أمر، لعلكم تتحققون بمقام الشكر الذى لا يناله إلا القليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سورة سبأ: 13) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ اختلف المفسرون في هذا الوعد، هل كان يوم بدر، أو يوم أحد، على قولين. الأرجح فيهما والذي يتفق مع السياق أن قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وهو قول الحسن البصري، والشعبي، وغيرهم،. واختاره ابن جرير. أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ روى ابن أبي حاتم عن الشعبي أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إلى قوله ... مُسَوِّمِينَ قال: فبلغت كرزا (¬1) الهزيمة. فلم يمد المشركين، ولم يمد الله المسلمين بالخمسة آلاف» هذا ما قاله الشعبي، والمذكور في سورة الأنفال أن الله وعد المؤمنين أن يمدهم بألف، وقد أمدهم بهم. وهل أمدهم بالثلاثة ثم بالخمسة؟ قولان للمفسرين، لأن التنصيص على الألف في سورة الأنفال لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها لقوله: مُرْدِفِينَ بمعنى: يردفهم غيرهم، ويتبعهم ألوف أخر وعلى كل الأقوال، فقد قاتلت الملائكة يوم بدر، أما عدد من قاتل ففيه خلاف. ومعنى الآية: «ألا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين لنصرتكم». وجئ بالاستفهام الذي يفيد الإنكار وبعده (لن) التي تفيد تأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم، وضعفهم، وكثرة عدوهم، كالآيسين من النصر. ثم إن في قول الله تشجيعا لهم، وإنكارا عليهم حالهم بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ في قوله تعالى (بلى) بعد (ألن). ما يفيد أن الكفاية حاصلة بالثلاثة آلاف، بل لملك واحد كاف لخراب العالم كله، فضلا عن نصرة المؤمنين، ولكنه مزيد التطمين، وزيادة الرعاية. والمعنى: الثلاثة آلاف تكفيكم، ولكم خمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم، أو معلمة خيلهم، لأن السوم: هو العلامة، وذكر نزول الملائكة في حال مجئ المشركين من فورهم مباشرة، للتطمين إلى أنه مهما أسرع الكافرون في المجئ لقتالكم، فإن نزول الملائكة لا يتأخر عن إتيان الكافرين، بل يأتي مباشرة، فاطمئنوا. وقد رأينا من قبل أن الشعبي يرى أن الخمسة آلاف لم تنزل، القول الثاني وهو لأكثر من مفسر منهم الربيع بن أنس قال: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم ¬
[سورة آل عمران (3): آية 126]
صاروا خمسة آلاف. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي: وما جعل الله إنزال الملائكة، وإعلامكم بإنزالهم، إلا بشرى لكم، وتطييبا لقلوبكم، وتطمينا لها، وإلا فإن النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم؛ فإنه ذو العزة التي لا ترام، والحكمة في قدره وأحكامه، وتكليفه، ونصره أو خذلانه، ومن ثم ختمت الآية بقوله تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. أي: لا من عند المقاتلة، ولا من عند الملائكة. ولكن ذلك كان رحمة بعباده، وتقوية لهم، وإشعارهم أنهم ليسوا وحدهم من خلقه في مقابلة أعداء الله، فهو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يعطي النصر لأوليائه، ويبتليهم بجهاد أعدائه، ثم بين الله- عزّ وجل-لماذا شرع الجهاد والجلاد، ولماذا كلف عباده بالقتال، ولماذا وعدهم بالنصر، وأعطاهم إياه فقال: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أي: ليهلك طائفة من الذين كفروا، أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة؛ فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم، فلا ينالون ما أملوا. وحقيقة الكبت: شدة وهن تقع في القلب، ثم بين الله- عزّ وجل- أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له، وأن علينا الطاعة وهو الفعال لما يريد. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بل الأمر كله لله، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ أي: إما أن يتوب عليهم مما هم فيه من الكفر؛ فيهديهم بعد الضلالة، وإما أن يعذبهم في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم. فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ أي: مستحقون للتعذيب لظلمهم. فصار المعنى: إن الله وحده هو مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شئ، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم، ومجاهدتهم. ثم ختم هذا المقطع كله بقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الجميع ملك له، وأهلها عبيد بين يديه، فليكن رغبتك ورهبتك إليه. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي: هو المتصرف فلا معقب لحكمه، يوفق من شاء للإسلام، ويغفر له إن شاء، ويخذل من يشاء فيعذبه لكفره وضلاله، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. إن غفر فذلك فضله، وإن عذب فذلك عدله. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ سبقت رحمته غضبه، فلا يهلك عليه إلا هالك، إلا من يستحق العذاب والخذلان، ولا يظلم ربك أحدا. فوائد: [1 - كلام عن يوم البدر] 1 - كان يوم بدر يوم الجمعة، في السابع عشر من رمضان من سنة اثنتين للهجرة،
2 - وصف علي بن ابي طالب للملائكة يوم بدر
وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودفع فيه الشرك وأهله. هذا مع قلة المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فيهم فارسان وسبعون بعيرا، والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف، في سوابغ الحديد، والبيض، والعدة الكاملة، والخيل المسومة، والحلي الزائد، والجميع عرب، ليس لأحدهم على الآخر ميزة في تدريب مادي، وإنما ليظهر الله في شأنهم سنته الخاصة في نصرة حزبه على قلة الأسباب المادية. فعلينا معشر المسلمين دائما أن نكون حزب الله ليظهر الله بنا سنته في خذلان الكافرين على كثرتهم، وكثرة ما عندهم، ونصر المؤمنين على قلتهم وضعفهم، واستهانة عدوهم بهم. في أثر صحيح ذكره ابن كثير في هذا المقام: أن المسلمين يوم اليرموك استمدوا عمر. فكتب إليهم: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على من هو أعز نصرا، وأحصن جندا، الله- عزّ وجل- فاستنصروه، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر في يوم بدر، في أقل من عدتكم. فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال الراوي: «فقاتلناهم فهزمناهم أربع فراسخ». [2 - وصف علي بن ابي طالب للملائكة يوم بدر] 2 - قال علي بن أبي طالب رضي عنه: «كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضا في نواصي خيولهم». وقال ابن عباس: «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى بدر، كانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون». [3 - مما ورد في سبب نزول قوله تعالي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ] 3 - في سبب نزول قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أكثر من رواية وقد يتعدد نزول الآية بتعدد المواقف، فتكون تذكيرا بها بانطباقها على الحالة الجديدة. ومما ورد في سبب نزول هذه الآية: أ- روى البخاري عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم، حتى أنزل الله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... الآية .. وفي حديث رواه الإمام أحمد فيه أسماء هؤلاء: الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وفي نهايته: فتيب عليهم كلهم، أي: فهداهم الله للإسلام. ب- وروى الإمام أحمد ومسلم «عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: «كيف يفلح قوم
فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عزّ وجل!» فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وقد ذكر الألوسي جملة الأقوال في أسباب نزول هذه الآية فلننقلها تتميما للفائدة مع ما فيه من تكرار لبعض ما ذكرناه: «وأخرج غير واحد» أن رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد، أصابها عتبة بن أبي وقاص، وشجه في وجهه، فكان سالم مولى أبي حذيفة أو على كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. «وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية» فنزلت هذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الخ .. فتيب عليهم كلهم. وعن الجبائي أنه صلى الله عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى إنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح، وصلى المسلمون وراءه قعودا، فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية، وقال محمد بن إسحاق. والشعبي: لما رأى صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه، وبعمه حمزة، من جدع الأنوف والآذان، وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد؛ فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية. وهذه الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد، المعول عليه منها أنها بسبب المشركين، وعن مقاتل، «أنها نزلت في أهل بئر معونة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أربعين وقيل: سبعين رجلا من قراء أصحابه، وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أشهر من أحد؛ ليعلموا الناس القرآن والعلم، فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل، قبائل من سليم، من عصية، ورعل، وذكوان، فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك» اهـ.
4 - فائدة حول السياق
4 - فائدة حول السياق: قلنا: إن سورة آل عمران هي تفصيل لما أجمل في مقدمة البقرة، والمقطع الذي بين أيدينا، حدد الله- عزّ وجل- فيه حدود العلاقة بين المؤمنين وغيرهم من الكافرين والمنافقين، وبين فيه أنه لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا بطانة لهم من غيرهم من المنافقين والكافرين. مع تبيان السبب، ونفي كل ما من شأنه أن يدعو إلى مخالفة النهي هذا. وخلال ذلك حلل نفسية الكافرين والمنافقين، وحقيقة ما بأنفسهم تجاهنا، وما قد يخطئ به المسلم إذ يتصور أنه باتخاذه بطانة من غير المسلمين يمكن أن يدفع أذى، أو يستجلب منفعة، فنفى هذا كله، مع التربية على العبودية الكاملة. كلمة فيما مر وسيمر من القسم الرابع: مر معنا من القسم الرابع مقطعان، وبقي مقطع واحد، وقد بدأ القسم بالنهي عن طاعة أهل الكتاب، وبين لنا كل ما نحتاجه من أجل ألا نعطي الطاعة لهم، من تذكير لنا بما يثبتنا على الإيمان، إلى تذكير لنا بالاعتصام بالكتاب، إلى أمر لنا بوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، إلى نهينا عن التفرق، إلى تذكيرنا بأن كيد أهل الكتاب لا يضرنا، وأننا منصورون عليهم، إلى غير ذلك من معان تشكل البديل عن المنفعة المتوهمة في ظن من يظن أن طاعة أهل الكتاب فيها مصلحة، كما بين لنا ما ينبغي أن يكون حائلا بيننا وبين طاعة أهل الكتاب. ثم جاء المقطع الثاني لينهانا أن نتخذ بطانة من دوننا كائنا من كانوا، وبين لنا الأسباب التي يحول بيننا وبين أن نتخذهم بطانة، وذكرنا بما يعين على ذلك فهاتان طائفتان مؤمنتان كادتا أن تفشلا بسبب حسن ظنهم بالمنافقين يوم أحد، ثم إن عصمة الله لهما منعتهما من ذلك، ونصرة الله للمؤمنين يوم بدر ينبغي أن تكون على ذكر منا، بحيث تقتلع من قلوبنا ما يمكن أن نحذره حين لا نتخذ بطانة من دون المؤمنين. ثم ذكرنا الله- عزّ وجل- بحكمته التي تجعله يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، وذلك له تأثيراته في قضية النهي عن اتخاذ بطانة من الكافرين. وبعد ذلك كله، يأتي المقطع الثالث والأخير من القسم الرابع؛ ليبني الجماعة المسلمة بعد أن حذرها في المقطعين السابقين من أخطر قضيتين يمكن أن تتساهل فيهما، طاعة أهل الكتاب، واتخاذ بطانة من دون المؤمنين. فيأتي المقطع الثالث ليأمر بترك
المقطع الثالث من القسم الرابع
الربا، ويأمر بالطاعة لله والرسول، والمسارعة إلى رضوان الله- عزّ وجل- وينهى عن الوهن والحزن، إلى غير ذلك مما سنراه، مما يبين لنا أن الطريق هو هذا، لا في اتخاذكم بطانة من دونكم، أو في طاعتكم لأهل الكتاب، والملاحظ أن النهي عن أكل الربا يأتي في ابتداء المقطع اللاحق، فكأن المقاطع الثلاثة تنبه في آياتها الأولى على النقاط التي يتوهم المسلمون أن فيها مصلحة. ومن نظر إلى ما حدث في عصرنا من طاعة الكثيرين- حكاما ومحكومين- لأهل الكتاب، واتخاذهم بطانة من دون المسلمين، ورؤية كل الحكومات على الأرض الإسلامية تقريبا أن الربا مفيد. من رأى هذا كله أدرك بعض الحكمة في مجئ هذه المعاني في هذا القسم. ومن أدرك أن المقطعين السابقين حددا فيما حددا العلاقة بين أهل التقوى وأهل الكفر والنفاق، أدرك صلة ذلك بمقدمة سورة البقرة. المقطع الثالث من القسم الرابع يمتد هذا المقطع من الآية (130) إلى نهاية الآية (148) وهذا هو: الفقرة الأولى [سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
الفقرة الثانية
[سورة آل عمران (3): الآيات 136 الى 138] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) الفقرة الثانية [سورة آل عمران (3): الآيات 139 الى 145] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
كلمة في السياق
[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 148] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) كلمة في السياق: في هذا المقطع فقرتان كل منهما مبدوءة بنهي: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا ..... وفي سياق الفقرة الأولى، صدرت مجموعة أوامر تعمق مفهوم التقوى وتحدد صفات أهلها، وختمت بآية تذكرنا بالآية الأولى في سورة البقرة: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وفي الفقرة الثانية نهي عن الوهن والضعف في أي حالة من الأحوال، وتبيان سنة الله في خلقه وعباده، وتبيان بعض ما يتحقق به المؤمنون، وتأتي هذه التعليمات من خلال عرض ما حدث في وقعة أحد، وتختم هذه الفقرة بتبيان الموقف الصحيح للأنبياء وأتباعهم في صراعهم مع الكفر والكافرين. والفقرة الثانية مرتبطة بالفقرة الأولى، من حيث إن المعاني التي بها لا تتحقق، إلا من خلال التحقق بالمعاني التي رفع الله إليها همم المؤمنين في الفقرة الأولى، وسنرى الارتباط ما بين الآية والآية أثناء التفسير الحرفي للآيات. [تفسير الفقرة الأولى] المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً. فهم كثير من الجهال: أن الربا المنهي عنه هو المضعف، وهذا منتهى الجهل، لأن الله في سورة البقرة قال: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ وإنما هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه، وفي النهي عن الربا المضاعف- مع كون المراد كل الربا- إشارة إلى أن الربا من طبيعته التضعيف المؤدي إلى امتصاص دماء الناس، وإن كانت الآية نازلة بما كان
[سورة آل عمران (3): آية 131]
عليه أهل الجاهلية. فكانوا فى الجاهلية يقولون: إذا حل الدين، إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة، وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. مر معنا في أول سورة البقرة أن المفلحين هم المتقون، وهاهنا أمرنا بالتقوى لتحصيل الفلاح. وقد مر معنا في أول سورة البقرة وصف المتقين، وسيأتي بعد قليل وصف لهم، وسنرى هنا أن أول صفة من صفاتهم الإنفاق في السراء والضراء، وقد رأينا في آخر سورة البقرة كيف جاء تحريم الربا بعد سياق الأمر بالإنفاق. وهاهنا يأتي الأمر بترك الربا، وفي سياقه يأتي الحض على الإنفاق؛ لأن المرابي والربا على طرفي نقيض مع المنفق والإنفاق. والأمر بالتقوى في هذا السياق، وتعليق الفلاح عليها أمر يترك أكل الربا بشكل ضمني، وإشارة إلى عدم الفلاح معه. ثم توعد الله بالنار وحذر منها فقال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. كان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن؛ حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، ثم أتبع ذلك بتعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته، وطاعة رسوله فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال النسفي: «وفيه رد على المرجئة في قولهم «لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلا». وعندنا: غير الكافرين من العصاة قد يدخلها، ولكن عاقبة أمره الجنة. وفي ذكره تعالى (لعل وعسى) فى نحو هذه المواضع- وإن قال أهل التفسير إن لعل وعسى من الله للتحقيق- ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضى الله تعالى، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه، ثم ندبنا تعالى إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات. فقال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ كما أعدت النار للكافرين، أعدت الجنة للمتقين، ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يوصل إليهما من طاعة وإخلاص، جمعة وجماعة. قال ابن كثير: وقد قيل إن في قوله عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تنبيها على اتساع طولها ... وقيل بل عرضها كطولها. لأنها قبة تحت العرش، والشئ المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن»، ثم وصف الله أهل الجنة المتقين فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. أي: في الشدة والرخاء، والصحة
[سورة آل عمران (3): آية 135]
والمرض، في حالة اليسر والعسر، وفي جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حالة مسرة ومضرة. وافتتحت الصفات بذكر الإنفاق لأنه أشق شئ على النفس، وأدله على الإخلاص، ولأن الحاجة دائما شديدة إليه في مجاهدة العدو، ومواساة فقراء المسلمين. وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي والممسكين الغيظ عن الإمضاء، والغيظ: توقد حرارة القلب من الغضب، وكظمه أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر، ولا يظهر له أثرا، فالمتقون إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى كتموه فلم يعلموه، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أي: إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه، فى وصفهم بكظم الغيظ بين تعالى أنهم لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله. وفي هذه الصفة أثبت الله لهم أنهم مع كف الشر يعفون عن من ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، إذ إنه من مقامات المحسنين، ومن ثم ختمت هذه الآية بقوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال الثوري: «الإحسان أن تحسن إلى المسئ، فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة» والإحسان أوسع مدلولا، فهو فعل الحسن، والأحسن مع الإخلاص لله. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الفاحشة: هي الكبيرة كالزنا وشرب الخمر. أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة. فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ فتابوا عنها لقبحها نادمين. والمعنى: أنهم إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي: لا أحد يغفر الذنوب إلا الله، وفي قوله تعالى هذا تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث لها، وردع عن اليأس والقنوط، وبيان لسعة رحمته، وقرب مغفرته من التائب، وإشعار بأن الذنوب وإن جلت، فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا أي: ولم يقيموا على قبيح فعلهم، والإصرار: الإقامة، أي تابوا من ذنوبهم، ورجعوا من قريب، ولم يستمروا على المعصية، ويصروا عليها، ولو تكرر منهم الذنب، تابوا منه. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن من تاب؛ تاب الله عليه. في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال الله- عزّ وجل- عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي،
[سورة آل عمران (3): آية 136]
ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره لي. فقال عزّ وجل: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال: الله عزّ وجل: عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء». أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر. جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي: بأن يتوب عليهم. وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يعطيهم إياها برحمته ماكثين فيها أبدا. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ يعني: المغفرة والجنات. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي قد مضت من قبلكم قوانين مما سنه الله تعالى، تجري على خلقه بإرادته وقدرته، منها ما هو خاص بالمؤمنين، ومنها ما هو خاص بالأنبياء والمرسلين. وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، هذه السنن مذكورة في الكتاب والسنة، فلا يعرفها إلا عالم بالكتاب والسنة، ومن استكشفها وعلمها، استطاع أن يعرف الحاضر، وأن يتحسس المستقبل، ومن سنة الله أن جعل العاقبة للتقوى والمتقين، وأن جعل الدائرة في النهاية تدور على المكذبين والكافرين ولهذا قال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي نهاية المكذبين للرسل، من الاستئصال، والهلاك، والعذاب، والهزيمة. وهذه الآية مقدمة لما سيقصه الله علينا من سنن أثناء الكلام الطويل عن غزوة أحد، ودروسها، وما رافقها مما تحتاجه الأمة الإسلامية في كل حين. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ أي: هذا القرآن فيه توضيح لكل ما يحتاجه الناس، كما فيه توضيح لسنن الله التي لا تتخلف، أنعم به على الناس جميعا. وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ومع ما حوى من بيان، ففيه الهداية الكاملة، والإرشاد الكامل للقلوب، والأنفس، والأجسام، وفيه ترغيب، وترهيب، وزجر عن المحارم، ولكن هذا الهدى، وهذه الموعظة لا يستفيد منها إلا المتقون، الذين اتقوا الشرك والمعاصي، وأقبلوا على الله بطاعة أوامره. كلمة حول السياق: لاحظنا أن سورة آل عمران إنما هي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وتفصيل لما تحتاجه إقامتها من معان. وفي مقدمة سورة البقرة وصف للمتقين. وفي الآية الأولى منها قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وفي آخر الوصف قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
فوائد حول الفقرة السابقة
ومن تأمل الفقرة التي مرت معنا، لاحظ أن الآية الأولى منها ختمت بالفلاح، والآية الأخيرة منها ختمت بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وبين ذلك كلام عن الإنفاق وغيره. والآية الأخيرة ذكرتنا بالهداية والموعظة الموجودتين في هذا القرآن، لتستعد الأنفس لتلقي الهداية، والموعظة الموجودتين في الفقرة الثانية من هذا المقطع، والتي هي دروس لأهل الإيمان من خلال تجربة عملية هي ما جرى يوم أحد. فوائد حول الفقرة السابقة: 1 - روى البزار عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أرأيت قوله تعالى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شئ فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزّ وجل». قال ابن كثير وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان. الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش، كما قال الله عزّ وجل: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار. اهـ ويمكن أن نعبر عن المسألة بشكل أبسط، لو افترضنا أن السموات السبع كروية، وبعضها داخل بعض، فالسماء السابعة محيطها أكبر من قطرها، وكون الجنة عليها لا يعني أنه لم يبق مكان للنار، لأن في داخلها عوالم من السموات والأرض، فأي حماقة تلك، حماقة الذي يتصور أن سعة الجنة تقتضي ألا يبقى مكان للنار أو لغيرها. 2 - بمناسبة قوله تعالى وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ نذكر الأحاديث التالية: أ- روى الإمام أحمد: قال رجل: يا رسول الله أوصني قال: «لا تغضب»، قال الرجل ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
ب- ومن حديث رواه الإمام أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما الصرعة؟ قالوا: الصريع الذي لا تصرعه الرجال، فقال صلى الله عليه وسلم: الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه». ح- روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انظر معسرا أو وضع عنه؛ وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة- ثلاثا-، ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتنة، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا». د- روى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء» ورواه أبو داود والترمذي وقال عنه حسن غريب. هـ- وعن الإمام أحمد عنه عليه السلام: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو قادر عليه- قال بشر (أحد رواة الحديث): أحسبه قال تواضعا- كساه الله حلة الكرامة، ومن توج لله كساه الله تاج الملك». و- روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» اهـ. وأغضب ناس أبا ذر، وكان قائما فجلس، فقيل له: يا أبا ذر: لم جلست؟ ثم اضطجعت؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» والقصة في مسند الإمام أحمد. ز- وقد وردت السنة في الاستعاذة عند الغضب. ح- وفى حديث رواه الحاكم، وقال عنه: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه: «من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه».
ط- وذكر ابن كثير حديثا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس، هلموا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة». 3 - وبمناسبة قوله تعالى: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ نذكر هذه الأحاديث: أ- روى الإمام أحمد وغيره، والحديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يذنب ذنبا، فيتوضأ، ويحسن الوضوء- قال مسعر- فيصلي- وقال سفيان- ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله- عزّ وجل- إلا غفر له». ب- وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال تعالى: «وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ح- روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال: «اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله». د- وروى أبو يعلى في مسنده وغيره، والحديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. هـ- وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون». و- وبمناسبة قوله تعالى وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يقول الألوسي: ثم إن في هذه الآيات- على ما ذهب إليه المعظم- دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات: متقين، وتائبين، ومصرين، وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم، ويدخلون الجنة، وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا، لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عند بعض، ودال على المخالفة عند آخرين، وكفى في تحقيقها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء، وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه مفصلا- ويا له من فضيحة- وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين، على
تفسير الفقرة الثانية
أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر؛ وكذلك المغفرة، أما نفي التفضل بهما فلا. ز- وفي أسباب نزول الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً .... يقول الألوسي: وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر الآية. وفي رواية الكلبي «أن رجلين أنصاريا، وثقفيا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فكانا لا يفترقان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وخرج معه الثقفي، وخلف الأنصاري في أهله وحاجته، فكان يتعهد أهل الثقفي، فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه، وقد اغتسلت، وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه، فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها، فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبل ظاهر كفها، ثم ندم واستحيا، فأدبر راجعا فقالت: سبحان الله تعالى، خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصل إلى حاجتك قال: وندم على صنيعه؛ فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه، حتى وافى الثقفي، فأخبرته أهله بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له: قم يا فلان فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك، لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة، فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا إلى قوله سبحانه وتعالى: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «بل للناس عامة». وفي رواية عطاء عن ابن عباس، أن تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية. «وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول». [تفسير الفقرة الثانية] ولننتقل الآن إلى الفقرة الثانية في هذا المقطع، وقد رأينا صلتها بما قبلها، ومحلها في السياق القرآني العام، ومناسبة النزول هي وقعة أحد. وَلا تَهِنُوا أي: ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم أو يصيبكم وَلا
[سورة آل عمران (3): آية 140]
تَحْزَنُوا على ما فاتكم، أو يفوتكم، أو أصابكم، أو يصيبكم في سبيل الله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: والحال أنكم أعلى منهم وأغلب إن صح إيمانكم، وهذه بشارة للمؤمنين بالعلو، والغلبة، والنصر، والظفر، في العاقبة. والآية تفيد أن صحة الإيمان توجب قوة القلب، والثقة بوعد الله، وقلة المبالاة بأعدائه إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ القرح: الجراحة في الأصل فالمعنى: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل وأذى، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك، من قتل وجراح. أو إن نالوا منكم يوم أحد، فقد نلتم منهم قبله يوم بدر. ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال، فأنتم أولى ألا تضعفوا. والنص وإن كان بمناسبة أحد، وبمناسبة معركة، فهو أعم من أن يكون في أحد خاصة، أو في القتال خاصة. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أي: نصرفها، وهذه من سنن الله، يديل المؤمنين تارة، ويديل الكافرين تارة، وإن كانت العاقبة للمؤمنين، ويصرف ما في هذا العالم من نعم ونقم، فيعطي لهؤلاء تارة، وطورا لهؤلاء؛ لضروب من الحكم قد تعلم، وقد لا تعلم، ومن جملة هذه الحكم وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ، ذكر هنا أربع حكم، وذكر قبلها الواو ليفيد أن هناك حكما أخرى. أما قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فقد فسره ابن عباس بمعنى: لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء. وقال النسفي: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم، كما علمهم قبل الوجود، هذه هي الحكمة الأولى لمداولة الأيام بين الناس تبيان المؤمن الذي يثبت على الإيمان في كل الظروف. والحكمة الثانية هي قوله تعالى وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يحتمل معنيين: الأول- وهو المتبادر- ليكرم ناسا منكم بالشهادة حين يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم من أجله، وفي سبيل مرضاته، والثاني ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة. ولولا أن الأيام دول ما ظهر فضل أهل الفضل، الذين يبذلون المهج، أو يستقيمون في كل حال داعين إلى المنهج، وبعد أن ذكر هاتين الحكمتين لجعله الأيام دولا، وقبل أن يذكر الحكمتين الأخيرتين جعل بين ذلك- قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. أي: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان، المجاهدين الباذلين أرواحهم في سبيله. أشعر ذكر الظالمين في ختام الآية أن من ليس مؤمنا مجاهدا فهو ظالم، فالظلم هنا للنفس يدخل فيه: الكفر، والنفاق، ويدخل فيه القعود عن الجهاد، وعدم
[سورة آل عمران (3): آية 141]
الاستقامة على أمر الله. ثم ذكر الحكمة الثالثة والرابعة، في جعله الأيام دولا: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ التمحيص: هو التطهير والتصفية، والمحق: هو الإهلاك، فصار المعنى: إن جعل الله الدولة على المؤمنين فللتمييز، والاستشهاد، والتمحيص، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم. ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري حيث الدولة على الإسلام والمسلمين، فمن منا الذي يستحق كرامة الله؛ فيثبت على الإيمان، ويبذل مهجته من أجل الإسلام، ويبقى في الصف الإيماني الإسلامي على ما أصابه؛ لتطهر بذلك نفسه، وتزكو وترتفع درجاته، ويعمل لمحق الكافرين، واستئصالهم، وكسر شوكتهم، لتكون الدولة للمسلمين؟ نسأل الله أن نكون من هؤلاء؛ لنكون من الطائفة الظاهرة، التي لا يضرها من خالفها وخذلها إلى يوم القيامة. ثم صحح الله مفهوما خاطئا، وتصورا مغلوطا يقع فيه كثير من الناس، وحتى ممن يظنون أنفسهم في الذروة من المسلمين، هذا التصور: أنه بلا جهاد وصبر يمكن أن يدخلوا الجنة. قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. أم هنا تفيد الإنكار. ففي الآية إذن إنكار على من يظن أن دخول الجنة يكون بلا جهاد وصبر، أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء، أو بتعبير آخر: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما تجاهدوا وتصبروا. ولما في الآية بمعني: لم، إلا أن فيها ضربا من التهييج على الجهاد، والصبر من حيث كونه متوقعا، ومنتظرا من المؤمنين، وفي هذا السياق يأتي معنى جديد مرتبط بما قبله كل الارتباط، فلنذكر شيئا عن السياق: الآيات التي نشرحها الآن جاءت في سياق النهي عن الوهن والحزن في حالة هزيمتنا، وكون الدولة علينا، من خلال ما حدث للمسلمين يوم أحد، وفي هذا السياق بين الله الحكمة في جعله الأيام دولا، وصحح مفهوما خاطئا يمكن أن نقع فيه حول تصور دخول الجنة، وفي هذا السياق تأتي الآن مجموعة من الآيات تصور حال الجماعة الإسلامية كما ينبغى أن تكون في حالة قتل زعمائها، المتمثلين بالأنبياء والرسل وخلفائهم ووراثهم من بعدهم إلى يومنا هذا، وكيف أن هذا القتل لا ينبغي أن يؤثر على الاستمرار والمتابعة. وخلال ذلك ينكر الله- عزّ وجل- على من يرتد بعد قتل رسوله أو موته، وهذا كله يأتي في سياق دروس أحد، فلنر الآيات
[سورة آل عمران (3): آية 143]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. في هذه الآية مجموعة أمور منها: أن هذا الخطاب ابتداء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد، وقد كان هذا حالهم قبل أحد، أي: قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتتحرقون عليه، وتودون مناجزتهم، ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا، وصابروا. ورؤيتهم الموت: معاينتهم له حين قتل إخوانهم بين أيديهم، وشارفوا أن يقتلوا. وفي الآية نوع من التوبيخ، إذ إن تمنيهم الموت تجاوز الحد المراد، ولم يعط حقه إذ جاء حقه؛ والأصل أن المسلم يتمنى الشهادة؛ لينال كرامة الشهداء، من غير قصد إلى ما يتضمنه قتله من غلبة الكفار، بل لينتصر الإسلام، كمن شرب الدواء من طبيب غير مسلم، فإن قصده حصول الشفاء، ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو لله، وتمني الشهادة شئ، وتمني الموت شئ آخر، وتمني لقاء العدو شئ مختلف عنهما. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما ثبت فى الصحيحين: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» والصحابة قبيل أحد حرصوا على الموت، حتى حملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- نزولا على الشورى، أن يخرج للقتال خارج المدينة، ولم يكن ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم، ثم انهزم قسم كبير عنه. والخطاب وإن كان للصحابة ممن رافق الحادثة، فهو درس للمسلمين في كل عصر ومصر، ينبغي أن يحبوا الشهادة، ولكن الحرص على الشهادة ينبغي أن يرافقه قرار نابع من محض المصلحة. ولما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدا! وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه، وشاع بين المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فحصل ضعف ووهن، أعطى الله المسلمين درسا في ذلك: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي: قد مضت من قبله الرسل فسيخلوا كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة، وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه، فيتعلق بوجوده قيامهم بالجهاد، وبأمر الله. فإذا مات ترك ذلك ولذلك أنكر الله- عزّ وجل- على من حصل له ضعف فقال: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي: رجعتم القهقرى، والهمزة تفيد الإنكار أن يجعلوا خلو الرسول سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أن خلو الرسل قبله لم يؤثر على بقاء دينهم متمسكا
[سورة آل عمران (3): آية 145]
به، والانقلاب على الأعقاب مجاز عن الارتداد أو عن الانهزام. وأفادت الآية جواز القتل على الرسل، فما أجهل الذين يرون القتل في سبيل الله علامة على خطأ السير. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أي: ومن يرتدد. فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنما يضر نفسه. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي: الذين لم ينقلبوا، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام في ثباتهم على كل حال، وقيامهم بطاعة الله، وقتالهم عن دينهم، واتباعهم رسوله حيا وميتا. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا أي: كتب الموت كتابا مؤقتا، له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. فصار المعنى: وما جاز لنفس أن تموت إلا بعلم الله، وإرادته، وقدرته، أو بإذنه لملك الموت أن يقبضها إذا انتهت المدة المحددة لها، فلا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله. يفهم من هذا كله أن موت الأنفس لا يكون إلا بمشيئة الله. وفي ذلك تحريض على الجهاد، وتشجيع على لقاء العدو، وإعلام بأن الحذر المؤدي إلى معصية الله لا ينفع، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك. وإذا كان الأمر كذلك فكيف ترتدون على الأعقاب إذا قتل أو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف لا تستمرون على دينه؟. وإذ كان الثبات وعدمه مرتبطين بالإيمان بالآخرة، ختم الله الآية بقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي: من كان عمله للدنيا فقط ناله منها مما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها أي: ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها، وما قسم له في الدنيا ناله .. وفي الآية تعريض مباشر بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، وتحذير لكل مسلم أن تكون الدنيا مؤثرة عنده على الآخرة، فيترك الإسلام قولا أو عملا من أجل دنيا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذين يثبتون على دين الله، قولا وعملا واعتقادا، أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا. ثم بين الله- عزّ وجل- الموقف الصحيح في مثل هذه الظروف من خلال مواقف الأنبياء السابقين وأتباعهم. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الربيون: هم الربانيون، قال الحسن في تفسير الآية: علماء كثير، وقال: علماء صبر، وفسرها ابن كثير فقال: أي أبرار أتقياء. ومآل المعنى كما اختاره ابن جرير: كم من نبي قتل،
[سورة آل عمران (3): آية 147]
وقتل معه ربيون من أصحابه كثير فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: فما فتروا عند قتل نبيهم للذي أصابهم في سبيل الله وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعد قتل نبيهم. وَمَا اسْتَكانُوا أي: وما ضعفوا لعدوهم، ولا ذلوا له، بل استمر من بقي منهم على الجهاد، والعزة، والإسلام، وفي هذا نوع تعريض بما أصاب الصحابة من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستكانة بعضهم حتى أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على الإسلام وجهاد أعدائه. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا الدعاء الآتي الذي فيه إضافة الذنوب إلى أنفسهم، مع كونهم ربانيين، هضما لها، وفيه منتهى الافتقار، والتذلل لله، ليثبتهم على ما يحبه: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي: تجاوزنا حد العبودية وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: في القتال والمواقف وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ بالغلبة، وقدموا الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في موطن الحرب والنصرة على الأعداء؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، لما فيه من الخضوع والاستكانة. وقوله تعالى في الابتداء وَما كانَ قَوْلَهُمْ يوحي أنه لم يكن لهم من دأب وعادة إلا كثرة الذكر بهذا الدعاء، فاستحقوا في مقابل ذلك ما ذكره الله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا أي: أعطاهم النصرة، والظفر، والغنيمة، والعاقبة. وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي: أعطاهم في الآخرة المغفرة والجنة، فجمع لهم خيري الدنيا والآخرة، وقال: ثواب الدنيا بينما قال: وحسن ثواب الآخرة ليدل على فضل ثواب الآخرة، وتقدمه، وكونه المعتد به، ولذلك وصفه بالحسن. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ دلت نهاية الآية على أن من كان كذلك فهم المحسنون، وهم الذين يحبهم الله، فما أجهل من لم يعرف أن مثل هذا من الإحسان. فوائد: 1 - لئن كان بعض الصحابة قد وهنوا يوم أحد، فإن بعضهم قد ضرب أروع أمثال البطولة، ونذكر هنا مثالا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه «دلائل النبوة»: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط بدمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري إن كان محمد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ...
2 - ذكر ابن كثير عن ابن عباس «أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني». 3 - عند قوله تعالى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا. قال الألوسي: «وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين: إن المقتول ميت بأجله أي: بوقته المقدر له، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت؛ لأن القتل فعل العبد؛ والموت فعل الله سبحانه أي: مفعوله وأثر صفته، وأن للمقتول أجلين: أحدهما القتل، والآخر الموت، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، وذهب أبو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت» اهـ. أقول: مذهب المعتزلة في هذا الشأن نموذج على ترك المحكم إلى المتشابه فالنصوص في هذا الشأن في غاية الوضوح كما نرى فإن تترك لنصوص تحتمل أكثر من معنى فذلك خطأ. 4 - في قراءة ورش وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ وعليها الوقوف، ثم مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وهذا يدل على ما ذهبنا إليه في التفسير أن الذى قتل هو النبي، ومعه طائفة من أصحابه، فاستمر الباقون على أمر الله. وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثنا دينه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين الشاكرين المحسنين. 5 - استشهد أبو بكر بقوله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ... الآية يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الآية خير عزاء، وقصة ذلك كما ذكرها البخاري: أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل- أي يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله وهو مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها.
كلمة في القسم الرابع
وقال الزهري: «وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس وقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر: أما بعد؛ من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إلى قوله وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض». 6 - قد مر معنا ارتباط هذا المقطع بالسياق القرآني العام، وقد رأينا أن المقطع يفصل في بعض أخلاق المؤمنين والمتقين، ويعلمهم كيف ينبغي أن يكونوا في مواقفهم العامة، وفي صراعهم مع الكافرين. كلمة في القسم الرابع: 1 - يلاحظ أن هذا القسم بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ... لاحظ كلمة يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. ثم لاحظ أن آخر مجموعة فيه هي قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. فما بين بداية القسم ونهايته ارتباط واضح، من خلال الكلام عن الردة بعد الإيمان. فالقسم فيه تثبيت لأهل الإسلام بالبقاء على الإسلام، من خلال ترك ما يؤدي إلى الردة، وفعل ما يثبت على الهداية، وعلى ضوء ذلك علينا أن نفهم المسرى العام لآيات هذا القسم من كون الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق فيه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم اتخاذ بطانة من دون المؤمنين، وترك الربا، وطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والتحقق بصفات المتقين، وترك الوهن والحزن. على أن ذلك كله وغيره مما مر في هذا القسم لا بد منه للثبات على الإسلام. 2 - ولقد مر معنا أثناء عرض مقاطع القسم ما يدل على أن هذا القسم كغيره من أقسام سورة آل عمران، إنما هو تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في سورة البقرة. ولو أردنا أن نذكر هنا ما يدل على ذلك فإننا نخشى أن يمل القارئ
ولذلك فإننا نكتفي بأن نقول: إن سورة البقرة بدأت بمقدمة تتحدث عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، ثم جاء القسم الأول والثاني فيها ليحكما بناء التقوى وأركانها، حتى إذا استقرت التقوى وقامت، جاء القسم الثالث آمرا بالدخول في الإسلام كله، كل ذلك رأيناه أثناء تفسير سورة البقرة. وجاءت بعد ذلك سورة آل عمران؛ لتفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتداداتها ضمن سياقها الخاص، فأرست الأسس النظرية في أقسامها الثلاثة الأولى؛ لتتوجه بعد ذلك لعملية البناء للمجتمع الإسلامي؛ من خلال الحركة والصراع، ومن خلال الدروس اليومية؛ والتوجيه المباشر. وقد رأينا كيف تكرر كثيرا اشتقاق الفلاح والتقوى، ونلاحظ أن الآية الأولى في القسم الخامس تنتهي بقوله تعالى فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ وأن الآية الأخيرة في القسم والسورة تنتهي بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إن القسمين الأخيرين في السورة يوضحان لنا طريق الفلاح، ويجنباننا طريق الخسران الذي هو ضد الفلاح، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة لا تخفى.
القسم الخامس
القسم الخامس يمتد القسم الخامس من الآية (149) إلى نهاية السورة، أي إلى نهاية الآية (200)، يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وينتهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ويتألف من أربعة مقاطع: المقطع الأول: وفيه نهي عن طاعة الكافرين، ووعد من الله بأنه سيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب. وينصرنا عليهم، ثم تعليل لما حدث يوم أحد مما ظاهره يتعارض مع هذا الوعد. وفي هذا المقطع يرد عرض لصور مما حدث يوم أحد. المقطع الثاني: وفيه نهي عن أن يقول المؤمنون عن إخوانهم الذين قتلوا. لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا. وفي المقطع كذلك دروس من غزوة أحد. المقطع الثالث: وفيه تصحيح للتصورات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. المقطع الرابع: وفيه تعليمات وتوجيهات وتربية لأهل الإيمان. وفي هذا القسم، تبرز بشكل واضح طريقة التربية من خلال الواقع، ومن خلال المحاسبة على الخطأ. ففي سياق المعاني التي تشكل مسرى السورة تعرض صور مما حدث يوم أحد، ليأخذ المسلمون دروسها. وسنرى ما في القسم من تسلسل ومعان أثناء عرض مقاطعه، وهاهنا نذكر بما يذكر بصلة هذا القسم ببقية سورة آل عمران، وبمقدمة سورة البقرة. في القسم السابق على هذا القسم نهينا عن طاعة أهل الكتاب، وفى هذا القسم، نهينا عن طاعة الكافرين مطلقا، مع وعد من الله- عزّ وجل- بالنصر على الكافرين، وبهذه المناسبة قد يتساءل متسائل: وماذا حدث يوم أحد؟ وهاهنا يأتي السياق ليحدثنا عن دروس أحد، وهو بذلك يعرض علينا شروط النصر الرباني.
ويأتي المقطع الثاني لينهانا عن خلق من أخلاق الكافرين، ويحررنا من تصوراتهم. ويأتي المقطع الثالث ليصحح تصوراتنا عن كثير من القضايا. ثم يأتي المقطع الرابع ليدفع الهمم إلى كمالات عليا. فالقسم الخامس امتداد للمقطع الرابع، وإذا كان القسم الرابع قد بني على الأقسام الثلاثة السابقة عليه، فإن القسم الخامس قد بني على الأقسام الأربعة السابقة عليه. وإذا كانت مقدمة سورة البقرة قد ذكرت المتقين، والكافرين، والمنافقين، فإن هذا القسم يفصل في أخلاق المتقين، والكافرين، والمنافقين، ويحذر من أخلاق الكافرين، والمنافقين، ويفصل في صفات المتقين، ويحظر على المسلم أن يتابع الكافرين أو يوافقهم في أقوال أو تصرفات، ويحدد العلاقات بين أهل الإيمان، وأهل الكفر. وسنرى بالتفصيل أثناء عرض المقاطع كيف أن القسم فصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها ولنبدأ عرض المقطع الأول في القسم.
المقطع الأول
المقطع الأول يبدأ المقطع الأول بالنهي عن طاعة الكافرين، ويعد المسلمين بالنصر على الكافرين. فهو إذن يحدد العلاقات بين المؤمنين والكافرين، وتبين مقدمة المقطع أن طاعة الكافرين توصل إلى الردة عن الإسلام. فالصلة بين مقدمة المقطع وبين المجموعة السابقة عليه واضحة، إذ المجموعة السابقة تقول: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فالآيات تنبهنا على كل ما يؤدي إلى الردة، وفيها وعد بالنصر، ثم تبين تتمة المقطع شروط النصر من خلال ما حدث يوم أحد، فيوم أحد صدق الله وعده، فنصر المسلمين ولكن ماذا فعل المسلمون؟ لقد ارتكبوا مجموعة أخطاء أدت بهم إلى الفشل، وإذن فالوعد بالنصر على الكافرين مشروط بشروط، ولذلك ختم المقطع بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. يبدأ المقطع بالآية (149) وينتهي بنهاية الآية (155). وهو يتألف من مقدمة وفقرة وهذا هو المقطع:- «المقدمة» [سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 151] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) «الفقرة» [سورة آل عمران (3): آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
كلمة في السياق
[سورة آل عمران (3): الآيات 152 الى 155] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) *** كلمة في السياق: في هذه الآيات حذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الخسران في الدنيا والآخرة، ثم أمرهم بطاعته وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم، والذلة لهم بسبب كفرهم، وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال. ثم ذكر
المعني الحرفي لمقدمة المقطع ومقدمة القسم
الله- عزّ وجل- بعض ما حدث يوم أحد، وبعض دروس معركته. والمناسبة بين هذه الدروس، وبين هذه المقدمة: أن يوم أحد حدث فيه نوع هزيمة للمسلمين. فما أسباب هذه الهزيمة مع قيام وعد الله بنصرة أوليائه؟ يذكر الله- عزّ وجل- أسباب ذلك: الجبن، وعصيان الأوامر، والخلل في نية طلب الآخرة. ومع هذا كله فإن الله ما تخلى عنهم، بل تولاهم، بأن أحاط هذه الهزيمة بكل لطف، وتوج هذا كله بالعفو عما حدث، وعرض خلال هذا حالات، ومواقف للمنافقين، والمؤمنين، وبين أسباب الزلل. وسنرى هذا كله أثناء استعراض المعنى الحرفي للآيات، والصلة فيما بينها، ومحلها من السياق القرآني العام. المعني الحرفي لمقدمة المقطع ومقدمة القسم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا دخل في ذلك كل الكافرين والمنافقين، فبعد أن خصص في آية سابقة طاعة أهل الكتاب، فنهى عنها وحذر منها، يحذر هاهنا المؤمنين من طاعة كل أصناف الكافرين، والنفاق شر أنواع الكفر، ويبين النتيجة يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. أي: يرجعونكم إلى الكفر، إلى الجاهلية، إلى الفسوق، إلى النفاق، إلى الشرك. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. أي: فتخسروا الدنيا والآخرة. فعلى المؤمنين إذن أن يجانبوا الكافرين، والمنافقين، ولا يطيعوهم في شئ حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم. وإذا كان سبب طاعة الكافرين، رغبة في النصرة، أو رغبة في الرعاية، أو رغبة في كسب القلوب، بين الله- عزّ وجل- في الآية: أن نصرته وولايته خير من نصرة وولاية غيره فقال: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ. أي: ناصركم فاستغنوا به عن نصرة غيره، لأنه وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. فلا نصرة مثل نصرته، ولا ناصر مثله، بل هو الناصر الحقيقي لأن غيره قد يريد منفعتك فيضرك، أما هو فهو العالم بكل شئ، فإذا نصرك نصرك .. ومن مظاهر نصره وتوليته، ما بشرهم به بقوله سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وهذا من أعظم مظاهر النصرة، إذ من المعلوم أن الجيوش التي تفقد معنوياتها لا تستطيع أن تقاتل، ولا تستطيع أن تستعمل سلاحها. وقد أعطانا الله ذلك على الكافرين بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً. أى: بسبب شركهم، وما من كافر إلا وهو مشرك نوع شرك، والملحد يشرك بالله هذا الكون كله، إذ يخلع عليه صفات
فوائد
الألوهية. والسلطان في الآية: الحجة، ولا تعني الآية أن للشرك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم، لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة، وإنما المراد نفي الحجة، ونزولها جميعا، ومن الآية نعلم أن هذا الوعد من الله لنا بسبب إيماننا، وكفر غيرنا، فإذا جمعنا وإياهم الكفر- والعياذ بالله- لم يبق وعد. وهاهنا ملاحظة، لطيفة وهي أن هذا الوعد جاء بعد النهي عن طاعة الكافرين، وترتيب الردة على هذه الطاعة، مما يدل على أن هذا الوعد لا يكون لنا إذا أعطينا طاعتنا للكافرين؛ لما يترتب على ذلك من ردة، وانظر واقعنا الحالي إذ ارتد من ارتد منا؛ بسبب إعطائه الطاعة للكافرين، وانظر جرأة اليهود، وغيرهم من الكافرين علينا، وخذلاننا بسبب من ذلك. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- أنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، بين جزاءهم الأخروي فقال: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ. هذا ما ادخره الله للكافرين في الآخرة، من العذاب، والنكال، أن النار مقرهم ومرجعهم، وبئس هذا المقر للظالمين. دل أن الكفر ظلم بل هو أعظم الظلم، وأي ظلم أكبر من ظلم الله الخالق المنعم، ومن ثم استحق الكافر الخلود الأبدي في سجن جهنم. فوائد: 1 - ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». 2 - يقول صاحب الظلال في الآية التي بدأ بها القسم: «يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة. فيها الانقلاب على الأعقاب بعد الكفر. فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار، ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه كافرا- والعياذ بالله- ومحال أن يقف سلبيا بين بين، محافظا على موقفه، ومحتفظا بدينه .. إنه قد يخيل إليه هذا .. يخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح، أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين، وأن يسالمهم ويطيعهم، وهو مع هذا محتفظ بدينه،
كلمة في السياق
وعقيدته، وإيمانه، وكيانه! وهو وهم كبير. فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يتخاذل ويتقهقر، ويرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والطغيان لا بد أن يتخاذل، ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين، والاستماع إليهم، والثقة بهم، يتنازل- في الحقيقة- عن عقيدته، وأن يستمع إلى وسوستهم، وأن يطيع توجيهاتهم .. الهزيمة بادئ ذي بدء. فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية، والارتداد على عقبيه إلى الكفر، ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس .. إن المؤمن يجد في عقيدته، وفي قيادته، غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته. فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب .. حقيقة فطرية وحقيقة واقعية، ينبه الله المؤمنين لها، ويحذرهم إياها، وهو يناديهم باسم الإيمان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. اهـ. كلمة في السياق: لقد جاءت مقدمة القسم الخامس وهي نفسها مقدمة المقطع الأول، وفيها نهي عن طاعة الكافرين، وإعلام بولاية الله لنا، ونصرته إيانا، وفيها وعد بإلقاء الرعب في قلوب أعدائنا، وهي معان مرتبط بعضها ببعض، فكثيرا ما يحدث أن يتوهم المتوهمون أن الكافرين غالبون، وأن في قلوبهم خيرا، وأننا نحتاج إلى نصرتهم وتوليهم، فجاءت الآيات تنهى عن طاعتهم، وتبين أن الله هو المولى وهو الناصر، وأنه سيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فمعاني المقدمة إذن متلاحمة مترابطة، وبعد المقدمة تأتي فقرة تتحدث عما حدث يوم أحد، فما الصلة بين الفقرة وبين ما سبقها؟ في المقدمة وعد بالنصر، وقد حدثت يوم أحد هزيمة فما السبب؟ نلاحظ أن الفقرة تبدأ بقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وإذن فبين الفقرة اللاحقة والآيات السابقة صلة، هذه الصلة يكشفها لنا السياق شيئا فشيئا، ففيها يأتي تعليل لما حدث يوم أحد، مما نستبين منه أن وعد الله لنا بالنصر، والمعونة، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائنا، معلق بشروط فلنر ذلك من خلال السياق. المعنى الحرفي للفقرة: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ الحس: القتل، ووعد الله:
موعوده للمؤمنين بالنصر من مثل قوله تعالى وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ. ومن مثل قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ومعنى الآية. ولقد صدقكم الله وعده بالنصر والغلبة يوم أحد، إذ كان عدوكم ثلاثة آلاف، وأنتم ما بين الستمائة إلى السبعمائة، إذ تقتلون أعداءكم قتلا ذريعا بتسليط الله إياكم عليهم، قال ابن عباس: وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المشركون جولة نحو الجبل (أى هاربين). وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه كما يرويه ابن إسحاق: «والله لقد رأيتني انظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب». فهذا تحقيق قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: حقق لكم ما وعدكم به، وهذا جواب تساؤل. قال النسفي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فنزل (أي هذه الآيات وما بعدها). وقبل أن نبدأ باستعراض الأسباب التي أدت إلى الهزيمة، نحب أن نذكر فكرة سريعة تكون كمقدمة للدروس التي سنأخذها من هذا السياق من خلال عبرة أحد: فى معركة بدر انتصرت القلة على الكثرة، رغم تفوق الكثرة على القلة بالعدة والعتاد، والعبرة التى نأخذها من هذا أن قوانين النصر المادية من تفوق بالعدة والعدد والتدريب والسلاح والقيادة، وفن القتال، وأمثال ذلك، لا تعمل عملها إذا وجد جند الله، ولا يعني هذا أن جند الله يهملون!، لا بل عليهم أن يبذلوا جهدهم في كل شئ، ويدخلوا المعركة متوكلين على الله ليظهر الله فيهم سنته الأخرى؛ إذ وجد جنده، حيث ينصر جنده على تخلف عندهم في عالم الأسباب، مع عدم تقصيرهم في الأخذ بها، ومع عدم اعتمادهم عليها. ولكن هذا متوقف على توفر شروط الجندية الكاملة لله، من قيادة ربانية، وجند رباني، وطاعة في الله، وتقوى خاصة وعامة وغير ذلك مما سنراه. وفي معركة أحد تخلف عن جند الله النصر بعد أن أعطوه في ابتداء الأمر لخلل- كما سنرى- في الانضباط والنيات. فحلت بهم الهزيمة، فدل ذلك على أن وعد الله للمؤمنين بالنصر مشروط بقيام المؤمنين بأوامر الله في كل شئونهم. ومن ثم فقد تركت هاتان المعركتان آثارهما في نفوس المسلمين إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض.
فما من معركة بعد هاتين المعركتين إلا وعبرتاهما ماثلتان: حقق أمر الله فيك، وقاتل العالم، وإذا لم تفعل فليس لك قبل بأحد، لأن العالم في القوانين المادية أقوى منك، فلنتذكر هذا ولنرجع إلى السياق حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي جبنتم وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي: اختلفتم في التنفيذ الكامل لأمر رسولكم، إذ أقام الرماة منكم على الجبل وقال لهم: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأناخوا عسكر المشركين، قال بعض الرماة: قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا، فادخلوا عسكر المشركين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم. وقال بعضهم: لا تخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أمير الرماة عبد الله بن جبير، ومعه نفر دون العشرة، والملاحظ أن الخطاب لجميع المسلمين مع أن الذين تنازعوا هم الرماة فقط، مما يدل على أن الخلل الذي تحدثه مجموعة يسري على الصف كله ومن ثم ينبغي أن يكون الجميع على الغاية في التربية وَعَصَيْتُمْ أي أمر نبيكم بترككم مراكزكم، واشتغالكم بالغنيمة. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الظفر وقهر الكافرين. ثم بين علة العصيان فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ الذين يريدون الدنيا: هم الذين تركوا مراكزهم من الرماة، ورغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة. والذين يريدون الآخرة: هم الذين ثبتوا في مراكزهم. فصار المعنى العام في الآية: ولقد حقق الله وعده لكم بالنصر، حتى إذا جبنتم، واختلفتم في تنفيذ الأمر، وعصيتم أمر رسولكم، بسبب خلل نيات بعضكم بأن لم تتمحض للآخرة، منعكم الله نصره. أو المعنى: ولقد حقق الله لكم وعده إلى وقت فشلكم وتنازعكم وعصيانكم، فمنعكم بسبب ذلك نصره. قال: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي: ثم كف معونته عنكم فغلبوكم، وعبر بالصرف على أن الأمر أمره. لِيَبْتَلِيَكُمْ. أي: ليختبركم ويمتحنكم بامتحان صبركم على المصائب وثباتكم عندها، مع علمه- عزّ وجل- ولكن عدله اقتضى أن يجازي العبد على ما يعمله لا على ما يعلمه منه. وإذ كان ما حدث هو التجربة الأولى، والخطيئة الأولى من نوعها، فإنه- عزّ وجل- عامل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بالفضل فقال: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ هذه بشارة من الله لهم، ويدل ذلك على أنهم ندموا وتابوا على ما فرطوا وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بعدم تسليط الكافرين عليهم ليستأصلوهم، وعدم متابعة الكافرين القتال حتى ينهوا أمر المسلمين، وبالعفو وقبول التوبة، وبغير ذلك من أنواع فضله التي لا تحصى، فهو- جل جلاله- متفضل على المؤمنين في جميع الأحوال، سواء أديل
[سورة آل عمران (3): آية 153]
لهم، أو أديل عليهم، غلبوا أو غلبوا، ومن نظر إلى الأمر بعين الحكمة، وبعين مريد الآخرة، علم أن الابتلاء رحمة، كما أن النصرة رحمة، ثم بين الله- عزّ وجل- كيف تم الصرف الذي ذكره بقوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ فقال إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ هذا تصوير حالهم في الهزيمة بمنتهى الاختصار، وبأبلغ تصوير. فما أعظم إعجاز هذا القرآن، ولنر ما حوى هذا الوصف: معنى تصعدون: أي تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض، والإصعاد: الذهاب في صعيد الأرض والإبعاد فيه. وبعضهم فسر الإصعاد: بصعود بعضهم إلى جبل أحد فرارا، والواقع يدل على الأول. قال السدي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة. ومعنى قوله وَلا تَلْوُونَ أي: ولا تلتفتون على أحد، وهو تعبير عن مدى انهزامهم وخوفهم من عدوهم. وقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي: في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي المتأخرة، وهذا يفيد أنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وأنه عليه السلام لم يفر، بل كان- وهو في هذه الحالة- يدعوهم إلى ترك الفرار، وإلى الرجعة والعودة والكرة، كما ورد في السيرة أنه عليه السلام كان يناديهم «إلي عباد الله، إلي عباد الله». فصار المعنى العام: ولقد صرفكم الله عنهم بعد نصره لكم عليهم، فأصبحتم بعد النصر ممعنين في الهرب منهم في كل صعيد من الأرض، لدرجة أن الواحد منكم لم يعد يلتفت على أحد قريب أو بعيد، حبيب أو عظيم، وخلفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وهو يدعوكم ولا تستجيبون، إلا من ثبت معه وهم قليل. هذا حالكم بعد النصر، وكل ذلك إنما كان بسبب الخطأ الذي ارتكب: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي: فجازاكم بالهزيمة وتوابعها، وهذا هو الغم العظيم، بسبب غم وقعتم فيه، وأذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفتكم أمره. ويمكن أن يكون المعنى فجازاكم الله بغم بعد غم، وغم متصل بغم، من الجرح، والقتل، وظفر المشركين، وفوت الغنيمة، والنصر. وأعظم غم أصابهم سوى هذا كله، ما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا كله بسبب الصرف الذي سببه الجبن، والاختلاف، والعصيان، بسبب عدم خلوص نية بعضهم، إذ لم تتمحض للآخرة، فهذه العلة الكبرى قال ابن مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثم بين الله-
[سورة آل عمران (3): آية 154]
عزّ وجل- حكمته البالغة فيما حدث وهو: تمرين المسلمين وتدريبهم على تحمل المصائب، وعدم الجزع لها، وعدم المبالاة بالفائت، فقال: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ. جرعكم الغموم لئلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع. وقال ابن كثير: أي: على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم وَلا ما أَصابَكُمْ أي ولا على مصيبة من المضار من مثل ما حدث لكم هنا من الجراح والقتل. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي: عالم بعملكم لا يخفى عليه شئ من أعمالكم. وهذا ترغيب في الطاعة، وترهيب عن المعصية. وإذ تخلف عن المسلمين نصر الله بسبب ما وقعوا فيه، فإن رحمة الله بالمؤمنين، وتوليه لهم، موجودة، فهم عباده، ولئن منعهم أو سلط عليهم، فلتأديبهم. ومن مظاهر توليه ورحمته ما ذكره الله- عزّ وجل- بعد ما مر. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً. أي: ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. والمعنى أنزل عليكم نعاسا ذا أمنة. ويبدو من السياق أن هذا قد كان بعد المعركة وقبل النفير الذي أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني كما سنرى. ولكن بعض الروايات التي سننقلها في قسم الفوائد، تذكر أن النعاس أصاب المسلمين ليلة المعركة، ويمكن أن يكون النعاس قد أصابهم مرتين، مرة ليلة المعركة ليواجهوا المعركة مستريحين، ومرة بعد المعركة لينسوا آثارها. والذي يدل على أن المراد بالنعاس هنا ما أصابهم بعد المعركة مجئ كلمة (ثم) التي تفيد الترتيب دون التعقيب، وقول المنافقين الآتي: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فكلامهم هذا إنما كان بعد ما حدث للمسلمين من قتل في المعركة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي: هذا النعاس يغشى قسما من المسلمين: وهم أهل الإيمان، واليقين، والثبات، والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله- عزّ وجل- سينصر رسوله، وينجز له مأموله. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم المنافقون لا يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها، لا هم الدين، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هم الجماعة المسلمة، فهؤلاء لا يغشاهم النعاس من القلق، والجزع، والخوف. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به، فهم يظنون ألا ينصر رسوله وجنده. ظنوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة. ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي: الظن المختص بالملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، أي: لا يظن مثل ذلك الظن، إلا أهل الشرك الجاهلون بالله تعالى:
يَقُولُونَ أي: أهل النفاق والريب في تلك الحال. هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي: هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط، يعنون النصر والغلبة، والسلطان والسيطرة والعز، والجاه، والمنافع. فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي: قل إن الغلبة، والنصر، والسلطان، كله لله؛ يعطيه من شاء، ويمنعه من شاء. وقد وعد أولياءه أن تكون لهم العاقبة. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ خوفا ورهبة كما قال تعالى في المنافقين. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (الحشر: 13) ثم بين هذا الذي يخفونه في أنفسهم، ويبدونه لبعضهم. يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان الأمر كما قال محمد صلى الله عليه وسلم. إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وأن أولياءه هم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل منا من قتل في هذه المعركة. روى ابن إسحاق عن الزبير رضي الله عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا هاهنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا لقول معتب، ورواه ابن أبي حاتم. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي: هذا قدر قدره الله- عزّ وجل- وحكم حتم لا محيد عنه، ولا مناص منه. فمن علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة، كما كتب ذلك فى اللوح المحفوظ لم يكن بد من قتله. فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بيوتهم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، أي إلى أمكنة مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون. والمعنى: أن الله كتب في اللوح المحفوظ قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- نموذجا من كلام المنافقين، وبين دخيلة أنفسهم، بين بعد هذا أن من جملة الحكم فيما حدث يوم أحد للمسلمين اختبار ما في الصدور، وتمحيص ما في القلوب، وهو أعلم فقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي فعل ذلك ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان، وذكر الواو في ابتداء بيان الحكمتين يشعر بأن مع هاتين الحكمتين حكما أخرى. فالمعنى إذن فعل ذلك لمصالح جمة، وللابتلاء والتمحيص الذي هو التمييز. نفهم من ذلك أنه يستخرج ما
[سورة آل عمران (3): آية 155]
في الصدور، ويعرف ما في القلوب على الحقيقة في لحظات المحن، فهي محك الإيمان. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفياتها وما يختلج فيها من السرائر والضمائر. ثم بين الله- عزّ وجل- علة ما حدث، وهو المعاصي التي كان يواقعها من يواقعها منهم. مما يدل على أن الطاعة قبل المعركة والتوبة قبل المعركة، عاملان من عوامل الثبات فيها فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي: إن الذين انهزموا منكم- دل ذلك على أن محمدا والصفوة لم ينهزموا- يوم التقى جمع المسلمين بجمع المشركين يوم أحد. إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي: إنما دعاهم الشيطان إلى الزلة، وحملهم عليها ببعض ذنوبهم السالفة، وهل المراد بذلك ذنب من عصى يوم المعركة بتركه مركزه في القتال، أو المراد ذنوب قبل ذلك، قولان للمفسرين: قال بعض السلف: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها» والإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب، والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب، ثم بشرهم الله- عزّ وجل- بالعفو فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي ولقد تجاوز عنهم عما كان منهم من الفرار فهو يغفر الذنوب، حليم لا يعاجل بالعقوبة، حليم بخلقه، ويتجاوز عنهم. كلمة حول السياق: رأينا أن سورة آل عمران فيها تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وتحديد للعلاقة بين أهل الإيمان والتقوى، وبين غيرهم. وفي هذا المقطع حدد الله- عزّ وجل أنه لا يصح أن يعطي أهل الإيمان الطاعة لأهل الكفر، ووعد فيه أهل الإيمان بالنصر، ومن خلال ما حصل يوم أحد علم أن الوعد مشروط، وبين المقطع من خلال ما حدث يوم أحد، كيف يستقبل أهل الإيمان؛ وأهل النفاق ما يمتحن الله به عباده. فالمقطع إذن أعطانا تفصيلات عن حال أهل الإيمان في المحن، وحال أهل النفاق فيها، وأعطى أهل الإيمان دروسا فيما ينبغي أن يكونوا عليه، وأدبهم على ألا يعطوا الطاعة لأهل الكفر، وهدم المقطع كل سبب يمكن أن يتوهمه مسلم لإعطاء هذه الطاعة. فوائد: لقد حدثت هزيمة يوم أحد، ومنع المسلمون النصر والغلبة، ولكن الصفحات التي
سجلوها يوم أحد تعتبر أروع صفحات في تاريخ البطولات الإسلامية على الإطلاق، وفي السيرة والسنة بيان ذلك. وننقل هنا بعض النقول في الحدود التي تلقي أضواء على المقطع الذي ذكرناه. 1 - روى البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ- يوم أحد- وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله بن جبير: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضى الله عنه- نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يحزنك. قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وروى الإمام أحمد عن البراء قوله: فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين. 2 - ثبت في الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طلحة بن عبيد الله وسعد وفي الصحيحين عن سعد قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما من قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، واثنين من قريش، فلما أرهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة- أو وهو رفيقي في الجنة-؟. فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضا فقال: من
يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنصفنا أصحابنا» وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، وأراه قال: حمية، فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أعرفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكما صاحبكما، يريد طلحة. وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا به بضع وسبعون، أو أقل، أو أكثر، من طعنة، ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه. 3 - أخرج البخاري عن أنس بن مالك «أن عمه يعني أنس بن النضر- غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم. لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أجد. فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامته أو ببنانه وبه بضع وثمانون، من طعنة، وضربة، ورمية سهم. 4 - وما دامت السورة تعطينا دروس أحد، فقد يكون من المناسب أن نذكر هذه الرواية: روى ابن إسحاق. وجماعة عن ابن شهاب. ومحمد بن يحيى. والحصين بن عبد الرحمن. وغيرهم، وكل قد حدث بعض الحديث: «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره،
مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم، وأبناؤهم، وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بحدها وحديدها، وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة، وخرج آخرون بنساء أيضا، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت بقرا تنحر، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر: اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم؛ فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا، فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، ثم خرج عليهم، وتلاوم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليك وسلم فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل، فخرج صلى الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح إن يصبروا، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله تعالى أن
تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال صلى الله عليه وسلم- وكان يحب الفأل لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف تسل اليوم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه، وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأي صدرا خارجا قال: تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، وكانوا خمسين رجلا وقال: انضح الخيل عنا بالنبل، ولا يأتونا من خلفنا، إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فرس قد جنبوها، ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة- ثلاث من الهجرة- وكان ما كان». 5 - بمناسبة قوله تعالى وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ يقول صاحب الظلال: والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير .. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب .. وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير!. وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية. ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة، والشجاعة، والتجرد، والخلاص من الشح، والحرص .. ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية- أن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط!
كلمة في سياق المقطع
ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة!. والله- سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرة، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض. فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشف عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها. كلمة في سياق المقطع: من امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورة البقرة قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وفي آخر مجموعة من القسم السابق في سورة آل عمران جاء قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .... ثم جاء المقطع الأول من القسم الخامس وفيه كلام عما يؤدي إلى الردة، ورأينا صلة ذلك بما قبله مباشرة، ثم جاء فيه كلام عما حدث يوم أحد. وهي نموذج على الزلزال الذي يصيب المسلمين، وكيفية مواجهته، فالمقطع الأول من هذا القسم مرتبط بالمقطع السابق عليه، وفي الجميع تفصيلات لمقدمة سورة البقرة، وامتداداتها في السورة نفسها. وكما أنه في هذا المقطع أخذت دروس من أحد، فإن دروسا أخرى ستؤخذ في مقاطع لاحقة، وكل ذلك بما ينسجم مع سياق السورة الخاص بها، وبما يعطينا تفصيلات لمقدمة سورة البقرة في تعميق المعاني الإيمانية وتوضيح القضايا الكفرية، وتحديد العلاقة بين أهل الإيمان، وأهل الكفر وتمييز أهل الإيمان عن أهل الكفر والنفاق. المقطع الثاني من القسم الخامس المقطع الاول في هذا القسم بين لنا عاقبة طاعة الكافرين، وذكرنا بولاية الله لنا، وأنه خير الشاهدين، ووعدنا بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين بسبب كفرهم. ثم
جاءت فقرة تعطينا دروسا فيما ينبغي أن نكون عليه، ليعطينا الله نصره، وذلك من خلال ما حدث يوم أحد. ويأتي هذا المقطع لينهانا عن أن نعتقد فيمن مات منا ما يعتقده الكافرون من أن الأجل يتقدم أو يتأخر. إن هذا هو المعنى الرئيسي في المقطع، بدليل أن البداية والنهاية في المقطع صبت على هذا الموضوع. يمتد المقطع من الآية (156) إلى نهاية الآية (168) وهذا هو: المقطع الثاني [سورة آل عمران (3): الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 159 الى 161] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
كلمة في المقطع
[سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 163] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 164 الى 168] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) كلمة في المقطع: بدأ المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا .. وانتهى بقوله تعالى عن المنافقين: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
ولنبدأ عرض المقطع
فالبداية والنهاية في موضوع واحد. وفي وسط المقطع ذكرنا الله- عزّ وجل بمنتين علينا: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وفي منة الله- عزّ وجل- علينا بذلك في وسط الكلام الذي ينهانا عن مواطأة الكافرين والمنافقين في قضية الموت، ما هو كالبيان لنعم يذكرنا الله- عزّ وجل- بها، لا ينبغي معها أن نواطئ الكافرين والمنافقين في اعتقادهم في شأن الموت. وفي هذه الأجواء، أجواء القتل في سبيل الله، وأجواء أقوال الكافرين والمنافقين في من قتلوا في سبيل الله، مما يترك آثاره في قلوب المسلمين يأتي قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإلى ماذا يشير هذا؟ إن هذا يشير إلى أن القائد عليه أن يكون لينا، وأن يعفوا ويستغفر ويشاور، فليس دخول معركة يترتب عليه ما يترتب أمرا سهلا، خاصة وأن الكافرين والمنافقين سيثيرون زوابع. فلا بد أن يكون الصف الإيماني على غاية من الوعي والتلاحم، وذلك لن يتم إلا إذا كان على رأس الأمر قائد هذه صفاته. وفي هذا السياق يذكرنا الله بالتوكل عليه، وأن النصر والخذلان منه، وفي هذا السياق يعمق الثقة بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم مما يوحي بأن القائد لا ينبغي له الغلول، ولا ينبغي أن يكون محل شك، فعلى القادة أن يلاحظوا ذلك. ولنبدأ عرض المقطع: في هذا المقطع نهى الله عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم، عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، ثم بين الله- عزّ وجل- أنه خلق هذا الاعتقاد الفاسد في قلوبهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم، ثم رد عليهم اعتقادهم الفاسد، بأنه تعالى بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يموت أحد ولا يحيا إلا بمشيئته وقدره، ولا يزداد في عمر أحد ولا ينقص منه شئ إلا بقضائه وقدره. ثم بين أن علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شئ، ثم بين أن القتل في سبيله والموت في سبيله خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني؛ لأن القتل أو الموت في سبيله وسيلة إلى نيل رحمته وعفوه ورضوانه، ثم
أخبر تعالى أن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله- عزّ وجل- فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفي هذه المعاني رد على تصور الكافرين الفاسد. وفي نهاية المقطع عود إلى هذه المعاني. وبين نهاية المقطع وهذه البداية معان سنرى الصلة بينها وبين ما قبلها وما بعدها، فبعد المعاني التي ذكرناها، من الله- عزّ وجل- على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بما ألان قلب رسوله لهم، فأطاب لفظه لهم. ثم بين الحكمة في ذلك، بأنه لو كان عليه السلام سيئ الكلام، قاسي القلب، لانفضوا عنه وتركوه، ولكن الله جمعهم عليه، وألان جانبه لهم تأليفا لقلوبهم. وفي ذلك رحمة من الله بالجميع. ثم أمر رسوله أن يعفو عنهم، وأن يشاورهم، وأن يستغفر لهم تطييبا للقلوب، وزيادة حرص على خيرهم. ثم أمره إذا شاور وعزم، أن يتوكل على الله ويمضي، فالله يحب المتوكلين. ثم بين لهم أن النصر والخذلان من الله، ثم أمرهم بالتوكل بعد ما بين لهم من قبل أنه يحب أهله. ثم بين عصمة رسوله من الخيانة في أمر الدنيا والدين، وهدد الخائنين بعقابه وجزائه. ثم بين عدم استواء من يتبع رضوان الله مع من يسخط الله. ثم بين أن أهل الخير وأهل الشر درجات، وأن كلا موفى عمله. ثم بين أن له على المؤمنين منة أخرى ببعثته رسولا للمؤمنين من جنسهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، ويعلمهم ويربيهم بعد أن كانوا في جهالة وضلالة، ثم يعود السياق إلى البداية التي لها علاقة في غزوة أحد، ودروسها وتصحيح التصورات حول الموت والقتل. فما الصلة بين ما ذكر في وسط هذا المقطع، وبين طرفيه؟ إن منة الله على عباده ببعثة رسوله، وبخصائصه، وعصمته، وأمر الله له صلى الله عليه وسلم بالمشاورة كل ذلك مرتبط بما ينبغي أن يرافق ما يحدث للمسلمين بالرضا سواء كان قتلا أو غيره، كما ينبغي أن يرافقه شعور بالنعمة لا يبقى معه أي بقية للتصورات الكفرية في أي شأن، كما ينبغي أن يرافقه شعور بتولي الله للمؤمنين في كل حين، كيف وقد من عليهم بكل هذا. وإذا اتضح شئ من الصلة بين وسط المقطع وطرفيه، فلنذكر المعاني العامة الواردة في طرفه الأخير: بين للمسلمين في نهاية المقطع سبب ما وقع بهم من قتل، مع تذكيرهم بنعمته عليهم يوم بدر، وأن علة ذلك هم. ثم بين أن ما أصابهم كان بمشيئة الله؛ تأديبا وتمحيصا للمؤمنين؛ وتمييزا للصف الإيماني من الصف المنافق، الذي تخلى عن القتال في أشد اللحظات بحجة أنه لا قتال، يقولون هذا وهم يكتمون خلافه، ويقولون عمن قتل: لو أطاعنا ما قتل، فرد الله عليهم أن يردوا عن أنفسهم الموت إن كانوا صادقين.
المعنى الحرفي
والملاحظ أن منطق المنافقين الذي ختم به المقطع، هو نفس منطق الكافرين الذي بدئ به المقطع، ومن ثم نعرف وحدة المقطع. وإذا نظرنا إلى المقطع من خلال السياق، وكنا متذكرين صلة هذا المقطع بمقدمة سورة البقرة، عرفنا أن هذا المقطع يصفي المؤمنين، من أن تكون عندهم تصورات الكافرين، أو المنافقين، في قضية القتل، أو الموت، مع تبيان التصورات الصحيحة، مع تبيان مجموعة النعم التي ينبغي أن يقوم بشكرها المؤمنون، مع تبيان كثير من الأخلاق والتصورات الإيمانية، مع معان أخر، وكلها مرتبطة بقضية الإيمان، وكل ذلك مرتبط بشكل ما بمقدمة سورة البقرة. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي: لا تتشبهوا بالكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه ما يأتي وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي: عن إخوانهم في النسب، أو في المذهب والمسلك إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافروا للتجارة أو نحوها أَوْ كانُوا غُزًّى أي: أو كانوا في الغزو فأصابهم موت أو قتل لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا أي: لو كانوا عندنا في البلد ما ماتوا في سفر، وما قتلوا في غزو والمعنى: لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: قالوا ذلك واعتقدوه، وأراده الله؛ ليكون ذلك حسرة في قلوبهم، والحسرة: هي الندامة على فوت المحبوب. أما أنتم فصونوا منها قلوبكم بالاعتقاد الصحيح بقضاء الله وقدره. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ هذا رد لقولهم الفاسد: من أن القتال أو السفر يقطع الآجال أو يقربها، فالأمر بيده- سبحانه- فقد يحيي المسافر والمقاتل ويميت المقيم والقاعد، لا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه شئ، ولا يحيا أحد، ولا يموت إلا بمشيئته وحده- جل جلاله- وقضائه وقدره. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم. دل ختم الآية بهذا، على أن القول من العمل، فما أعقل من استشعر رؤية الله لأعماله، وأقواله، وأحواله، وعرف مجازاة الله له على ذلك كله. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ أي: لنيل أهل الإيمان مغفرة الله ورحمته في حال قتلهم أو موتهم خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ خير مما يجمع أهل
[سورة آل عمران (3): آية 158]
الدنيا من حطامها الفاني. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي: المصير والمرجع إلى الله، في حال موتكم أو قتلكم، فلتعملوا، ولتحسنوا، وكلوا أمركم في الحياة وغيرها إلى الله. كذب الكافرين أولا في زعمهم أن السفر أو الغزو يقصران الآجال، ونهى المسلمين عن اعتقاد ذلك وقوله؛ لأنه، سبب التقاعد عن الجهاد، ثم بين لهم أنه إن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله، فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله، خير مما يجمعونه من الدنيا، فإن الدنيا زاد المعاد للعاقلين. فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد. فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: فبرحمة من الله كان لينك للمؤمنين، ومعنى الرحمة: ربطه على جأشه، وتوفيقه للرفق، والتلطف بهم. دل على أن لينه لهم ما كان ليكون إلا برحمة من الله تعالى، وامتنان الله على المؤمنين بهذا في السياق يدل على أن كل مبررات مطاوعة الكافرين، ومسايرتهم، لا يجوز وجودها، بل يجب انتفاؤها لوجود الكمال في القائد وسلوكه، وتعامله، ولوجود الكمال في الدعوة كما سيمر. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الفظ: هو الجافي الغليظ الكلام، وغليظ القلب: قاسيه، والانفضاض: التفرق أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشأن معه لو كان كذلك لتفرق عنه الناس، وهو المفروض على الناس اتباعه، فما بال غيره. فليتق الله أحد أعطاه الله قيادة، أو إمامة للمسلمين ألا يرفق. بهم ثم أمر الله رسوله فَاعْفُ عَنْهُمْ بدوام إحسانك للمسيئ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الله فيما يختص بحقه إتماما للشفقة عليهم، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي: في كل ما يختص من أمورهم من حرب لسلم لغير ذلك، مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييبا لنفوسهم، وترويحا لقلوبهم، ورفعا لأقدارهم، وتوعية لهم على قضاياهم، وتسييرا لهم من حيث يقتنعون أنه المصلحة، واستخراجا لطاقات عقولهم فيما هو خير لمجموعهم. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. أي: فإذا قطعت الرأي على شئ بعد الشورى، فتوكل على الله في إمضائه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. أي: المعتمدين عليه والمفوضين أمورهم إليه، يأخذون بالأسباب، ويقومون بحق الله، وتنفيذ أمره باستنفاد الوسع، وبذل الطاقة، ولا يعتمدون إلا على الله. فوائد حول الآية: 1 - قال الحسن البصري في هذه الآية: «هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به»
ونضيف: وعلى وراثه أن يتخلقوا به، وعلى قيادات المسلمين أن يكونوا كذلك. 2 - يقول صاحب الظلال في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. «وبهذا النص الجازم: «وشاورهم في الأمر» .. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم- أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه .. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة. تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها- فهي من الإسلام. لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين. وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب- وهو حدث ضخم وخلل مخيف- كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن- في ظاهرها- أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ إنها كانت مخالفة «للسوابق» في الدفاع عن المدينة- كما قال عبد الله بن أبي- وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلا في المدينة، وأقاموا الخندق، ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج. فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها، فقد تأولها قتيلا من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعا حصينة .. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى .. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية. ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف؛ وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربي بالشورى؛ وأن
تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ- مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة- لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ .. والخسائر لا تهم، إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء، والعثرات، والخسائر، في حياة الأمة ليس فيه شئ من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي- مثلا- لتوفير العثرات والخبطات. أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشئون- كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب- ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة- لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون، لكان وجود محمد صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى- كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى- وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة. ولكن وجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق. لأن الله- سبحانه- يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة .. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة؛ المدركة لتبعات الرأي والعمل، والواعية لنتائج الرأي والعمل .. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، وفي هذا الوقت بالذات: فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة،
ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب .. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق!. على أن الصورة الحقيقة للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ .. إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة. فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ .. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء .. وكما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه في أخطر الشئون وأكبرها .. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه- فأمضى الأمر في الخروج، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته- وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات .. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه صلى الله عليه وسلم على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى .. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع؛ لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي. مع التوكل على الله والاستسلام لقدره. وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد، والتأرجح، ومعاودة تقليب الرأي من جديد. فهذا مآله الشلل والسلبية، والتأرجح الذي لا ينتهي .. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على الله، يحبه الله» اهـ. 3 - ذكر ابن كثير أمثلة كثيرة عن استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كاستشارته لهم يوم بدر، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، وحالات أخرى ثم قال: فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب، ونحوها. وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أم من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين. ونقول: إن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب، إلا إذا وجد صارف، ولا صارف هنا، خاصة وأن قوله تعالى في
كلمة حول محل هذه الآية في السياق
سورة الشورى عن المؤمنين وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ مذكور بين الصلاة والزكاة، وهما فريضتان، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بالنسبة لغيره. وإذا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو خلفاؤه، أو أمراء المسلمين، فهل النزول على رأي الأكثرية واجب أم لا؟ وهذه مسألة عصرنا التي طرحها بعضهم تحت عنوان: هل الشورى ملزمة أم معلمة، فيما لا نص فيه مما يدخل في دائرة الاجتهاد الحياتي؟ والذي أراه في هذه القضية أن الشورى إذا أعطيت لأهلها، فإن رأي أكثريتهم في هذه الحالة ملزم. ويشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد لأبي بكر وعمر «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»، وما رواه ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم» ولم يعرف قط أن خليفة راشدا طرح مسألة على الشورى ثم ترك رأي الأكثرية إلا في قضية اتضح له فيها نص، كما فعل أبو بكر في موضوع الردة، ويشهد لما ذهبت إليه قول الحنفية: ويجب طاعة الأمير إلا إذا رأى الأكثر أنه ضرر فيتبع. والأمير الذي يعطل الشورى أو لا يعطيها لأهلها، أو لا ينزل على رأي أكثرية أهلها أمير لا يقود إلا إلى الدمار. على أن للأمير أن يطرح أمرا ما على دائرة أوسع أو أعلى حال الاختلاف إذا كان بالإمكان ذلك. 4 - قال النسفي: «في الحديث: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم». ومعنى شاورت فلانا: أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي. وشرت الدابة: استخرجت شريها، وشرت العسل: أخذته من مأخذه، وفيه دلالة جواز الاجتهاد، وبيان أن القياس حجة» اهـ. وإذن فأدب المسلم الاستشارة، وأدب القائد الاستشارة، وأدب الخليفة الاستشارة، ومن ثم قال عليه السلام مؤدبا من يستشار «المستشار مؤتمن» وهو حديث حسن رواه أبو داود وغيره وقال: «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه» رواه ابن ماجه. كلمة حول محل هذه الآية في السياق: هذا المقطع كله في سياق قصة أحد، ودروسها، وفي سياق عدم متابعة الكافرين في الحسرة على من يقتل أو يموت؛ تصورا منهم أن القتال أو غيره يقرب أجلا. وقد
[سورة آل عمران (3): آية 160]
جاءت هذه الآية في هذا السياق، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما وصفته الآية وقد اتخذ قراره بعد مشاورة، ثم أقدم متوكلا على الله، فكيف يحق لمسلم أن يتحسر على نتيجة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصف الله- عزّ وجل-، وقد شاورهم يوم أحد، ونزل على رأي أكثريتهم، ثم أمضى الشورى وكان ما كان، فلا مجال بعد ذلك لحسرة على شهيد، وإنما هي أثر عن تصور كفري للموت والحياة. وإذ يكون وراثه من بعده على قدمه، فأي قرار اتخذوه بعد الشورى ونفذ، فإنه لا ينبغي أن يكون تحسر على ما يكون من بعد، بل تسليم لله، فهو الولي في الأمر كله. وبعد الأمر بالشورى، وبعد الأمر بعدم الحسرة على ما يكون من نتائج تأتي آية تقرر قاعدة، وتأمر أمرا. أما القاعدة فهي قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي: فلا أحد يغلبكم، ولو تواطأ العالم عليكم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي: يحجب عنكم نصره فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه أي من بعد ترك معونته. وأما الأمر فهو قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض؛ لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يقتضي ذلك. القاعدة دلت على أن الأمر كله لله، والأمر بني على ما تقتضيه القاعدة، ومجئ هذه الآية بعد الآية السابقة أن النصر والخذلان من عند الله، ومجئ هذه الآية في سياق المقطع يشير إلى أن المسلم عليه أن يعرف أن نتائج الأعمال بيد الله، فمهما كان من أمر فالأمر أمره، وعليه فينبغي أن يتصف بالتوكل في كل حال، حال النصر أو الخذلان، حال القتل، أو حال السلامة، ثم يعود السياق بعد هذه الآية إلى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنزيهه عن الخيانة بعد أن وصفه في ما قبل الآية السابقة بما وصفه به. فقال: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الغلول: هو الأخذ خفية، والمعنى أن النبوة تنافي الغلول، والغلول خيانة، وكذلك فسرها ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد، فقالوا في تفسيرها: ما ينبغي لنبي أن يخون، قال ابن كثير: وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه، من جميع وجوه الخيانة، في أداء الأمانة، وتقسيم الغنيمة، وغير ذلك. وقال محمد بن إسحاق في تفسيره: «بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغ أمته»، والنبي معصوم عن ذلك كله.
[سورة آل عمران (3): آية 162]
وسبب النزول يحدد المعنى الأول، إذ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي يخون، وروى مثله غيره. والصلة بين هذه الآية ومقطعها من أكثر من وجه. فالمقطع يبين ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق المؤمنين بعد المعركة في مواقفهم مما يحدث لإخوانهم من قتل. وهذه الآية تبين أمانة المؤمنين بعد المعركة في الغنيمة بأمانة سيدهم وقدوتهم. وهناك صلة أخرى وذلك أن الذي دعا الرماة إلى النزول عن الجبل ومخالفة الأمر؛ الغنائم، ولا مبرر لذلك إذ ما دام حقهم سيصل إليهم بمنتهى الدقة، فلا مبرر للهلع لتصور أن يفوت بعضهم شئ. ولعل لهذا المدرك اللطيف،، فسرها حبر هذه الأمة ابن عباس فقال: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضا، ويمكن أن تكون الصلة بنوع من العطف بعيد لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا، ولا تَغْلُوا* لأن الغلول لا يصح أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: ومن يأخذ شيئا غلولا يأت بالشئ الذي غله بعينه، حاملا له كما ورد في كثير من الأحاديث، أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي: ثم تعطى كل نفس جزاءها وافيا دون أن تنقص شيئا، فكل يعطى جزاءه على قدر كسبه، والله ذو فضل. ودخل في هذا التهديد الشديد كل كاسب من الغال وغيره، والتهديد في حق الغال أشد، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيرا أو شرا مجزي فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص مع عظم ما اكتسب. وبعد أن نهى الله عن أخلاق للكافرين، ووصف أخلاق المؤمنين من خلال وصف أخلاق سيدهم، بين أن هؤلاء وهؤلاء لا يستوون، ليرفع همم أهل الإيمان إلى ما ينبغي. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ باتباع ما يوصل إلى هذا الرضوان كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي: كمن استحق غضب الله وألزم به، فلا محيد له عنه، وهم المنافقون والكفار. وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي: منزله. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: وبئس المرجع والمآل جهنم. هُمْ أي: أهل الخير وأهل الشر. دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: منازل، يعني هم متفاوتون في منازلهم، درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، أو هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات، أو هم ذوو درجات بحسب تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين، أو بحسب تفاوت الثواب والعقاب. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي:
[سورة آل عمران (3): آية 164]
عالم بأعمالهم وسيوفيهم إياها، لا يظلمهم خيرا، ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كل عامل بعمله. وكما من الله على المؤمنين برحمة رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ولينه لهم، يمن عليهم هنا برسالته، وأعظم المن في ذلك على العرب؛ ومجئ هذه الآية في هذا السياق، تذكير بالنعمة في مقامها، إذ المقام مقام إبعاد عن أخلاق الكافرين، وتصوراتهم، وأقوالهم التي يعني السير فيها كفرانا لنعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عامة والعرب خاصة؛ بدليل ما بعده، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالبعثة إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله، ومجالسته، والانتفاع به، ولكن ما المراد بالجنس التي فسرنا بها كلمة الأنفس؟ هل المراد بها الجنس البشري، أو المراد بها الجنس العربي؟ فيكون المعنى: من جنسهم عربيا مثلهم أو المراد بقوله مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من ولد إسماعيل لما أن أشرف العرب من ولده. والمنة على الوجه الأول، أي: بكون الرسول من البشر من حيث إمكان الاقتداء به، وسهولة مخاطبته، ومراجعته، والتعرف على حاله. والمنة على الوجه الثاني: أي: في كونه عربيا بالنسبة للعرب، زيادة على ما مر من حيث كون اللسان واحدا فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه. والمنة على الوجه الثالث: زيادة على ما مر من حيث كونه من أشرف العرب، فيسهل ذلك على الأنفس المتابعة، والمنة لله على خلقه عامة ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى العرب أشد، وعلى بني إسماعيل وقريش أبلغ. فما أفظع كفر من يكفر من قريش، أو من العرب، أو من المؤمنين بعد كمال المنة، فيتابع الكافرين في أقوالهم، أو أفعالهم، أو أحوالهم، أو تصوراتهم، ثم عدد الله مظاهر النعمة بالرسالة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن بعد أن كانوا في جاهلية لم يطرق أسماعهم شئ من الوحي، وهذا على القول بأن المراد إظهار المنة بالرسالة على العرب. وعلى القول بأن المراد جنس البشر يبقى المراد هو القرآن. والمنة بآياته من حيث كونها تذكيرا لهم بالله من خلال قرآنه المعجز وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم بالإيمان والإسلام والإحسان، والتربية بالقول والعمل، والقدوة، والحال من كل دنس، وخبث، اعتقادي، أو أخلاقي، أو سلوكي، أو غير ذلك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي القرآن والسنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لفي عمى وجهالة وغي ظاهر جلي بين لا شبهة فيه. وهذا يرجح أن الخطاب والآية يراد به العرب خاصة، لأن من بقايا أهل الكتاب من كان قبل بعثته عليه الصلاة السلام على علم، وعلى هدى، ولكن الخطاب وإن أريد به العرب خاصة هنا، فإنه يدخل فيه غيرهم ممن هو مثل حالهم. ولعل
الحكمة في قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هو تعميم التوجيه لكل من أصبح من هذه الأمة؛ إذ من أصبح من هذه الأمة كان له شرف النسبة إلى الرسول العربي، وشرف النسبة إلى جيل هذه الأمة الأول وهو عربي عامة. وعلى كل الأحوال فالمنة ظاهرة على العرب ببعثة هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وبمناسبة هذه الآية يقول صاحب الظلال: كان الإسلام بخصائصه هذه هو «بطاقة الشخصية» التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة. وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا- كما كانوا- لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟ يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويغرقون به أسواقها، ويغطون به ما عندها من إنتاج؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار!. يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية. وتشقى بها جميعا غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟ لا شئ إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شئ إلا هذا المنهج الفريد. لا شئ إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها، وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء، والحيرة والقلق والإفلاس! إنها- وحدها- بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية فأحنت لها هامتها. والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ. إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة. هي التي تقدم أكبر منهج. وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة. والعرب يملكون هذه الرسالة- وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم
[سورة آل عمران (3): آية 165]
شركاء- فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟! لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول، وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان .. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان؟!.» ثم يعود السياق بعد هذه الآية إلى المعنى الذي بدأ به المقطع وهو أحد دروس يوم أحد، والمرتبط بما أصاب المؤمنين فيه، والذي يناقش قولة الكافرين ويردها. لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ... وكما قلنا، لقد اعترض ما بين بداية المقطع ونهايته بالآيات التي رأيناها، والتي بدأت بالتذكير بنعمة، وختمت بالتذكير بنعمة. وكلتا النعمتين في موضوع الرسالة والرسول، ليتخلص المؤمنون من هذا التصور الكاذب الفاسد في فهم ما حدث، وما يحدث من أمثاله للمسلمين في معاركهم. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد من قتل سبعين منكم قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها. أي: يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. قُلْتُمْ أَنَّى هذا. أي: من أين جرى علينا هذا. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. أي: أنتم السبب، أي: ما أصابكم كان بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا من مكانكم، فعصيتم يعني بذلك- الرماة- إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ولا معقب لحكمه. يقدر على النصر وعلى منعه، وقد منعكم نصره في أحد، وأعطاكم إياه في بدر. منعكموه الآن عدلا، وأعطاكموه قبل فضلا، والاستفهام في قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ .. في الآية يراد به التقرير والتقريع كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا. وإذا تذكرنا بداية المقطع لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ .. علمنا أن المقصود الرئيسي في المقطع هو تصحيح التصورات للجماعة المسلمة في موضوع القتال، وآثاره السلبية من خلال وقعة أحد. وبعد الآية السابقة، تأتي آية تؤكد الحكمة التي مرت من قبل وتبينها ليتوصل منها إلى كلام المنافقين، الذين لا يدركون حكم الله فيما يفعل، والذين يشبه كلامهم كلام الكافرين الذي ابتدأ به المقطع، ليرده وليبين أن الكفر والنفاق شئ واحد وليسجل خلال ذلك الموقف الشائن للمنافقين قبل المعركة إذ انفصلوا عن المؤمنين، فقال مبينا هذا كله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي: جمعكم وجمع المشركين في أحد، والذي أصابكم فيه هو فراركم بين يدي عدوكم، وقتل جماعة منكم، وجرح
آخرين فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي: فبعلمه وقضائه وقدره، فسلموا لله في ذلك، لأن أفعاله كلها حكمة. ثم بين بعض الحكمة في ما حدث، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا. أي: وما أصابكم فكائن بإذن الله، وكائن ليتميز المؤمنون من المنافقين، وليظهر إيمان هؤلاء، ونفاق هؤلاء، إيمان المؤمنين بصبرهم وثباتهم على الإيمان، وعدم تزلزلهم، ونفاق المنافقين بمواقفهم وأقوالهم: وَقِيلَ لَهُمْ ... أي: للمنافقين تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: جاهدوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، أَوِ ادْفَعُوا أي: قاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة! وفسر آخرون الدفع في هذا المقام: بتكثير السواد. أي: أو ادفعوا العد وبتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا! لأن كثرة السواد مما تروع العدو. قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لا تبعناكم. وقولهم هذا يحتمل معنيين: إما أنهم يريدون أنه لا قتال أصلا، ويحتمل أنهم أرادوا أن هذا النوع من القتال ليس قتالا، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة. قال النسفي: يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء النفس إلى التهلكة. والمعنى الأول هو الذي يشير إليه كلام أهل السير، وذلك أن المنافقين وقحون لا يبالون أن يقولوا الكلمة التي تنقضها كل الوقائع. روى محمد بن إسحاق في سيرته بسنده عمن ذكر: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة، انحاز عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق، وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ قال النسفي: يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم، واقتربوا من الكفر. أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان. لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية للمشركين.
[سورة آل عمران (3): آية 168]
وقال ابن كثير: استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أي: يظهرون خلاف ما يضمرون، والله يعلم أسرارهم. وهذه طبيعة المنافق يتظاهر بشيء ويبطن شيئا، يقول القول ولا يعتقد صحته، ومن ذلك كلامهم السابق؛ فإنهم يعرفون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين؛ بسبب ما أصاب أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، فالقتال كائن لا محالة، ومع ذلك ادعوا أنه لا قتال، ثم وصفهم الله بأنهم الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي: لأجل إخوانهم، أي: عن إخوانهم- في الصورة- ممن قتل يوم أحد وَقَعَدُوا أي: قالوا وقد قعدوا عن القتال لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا أي: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود، ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل. ويبدو- والله أعلم- أنهم يريدون بإخوانهم هنا من قتل من الأنصار. قال تعالى: ردا عليهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. أو المعنى: إن كنتم صادقين بأن الحذر ينفع من القدر، ويدفع الموت، فادفعوه عن أنفسكم، ولن تستطيعوا. أو المعنى: قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع الموت سبيلا وهو القعود عن القتال، فجدوا إلى دفع الموت سبيلا. والملاحظ أن كلامهم هذا يشبه كلام الكافرين الذي نهى الله عنه في أول المقطع بقوله: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا وهذا يشعر أن المنافقين كافرون. وفيه تعرية للمنافقين، وتدليل عليهم من كلامهم. ومن ثم ندرك كيف أن سورة آل عمران تفصيل لمقدمة سورة البقرة. لقد تحدثت مقدمة سورة البقرة عن المتقين المؤمنين، وعن الكافرين، وعن المنافقين، وهذا المقطع زادنا بيانا في أخلاق الكافرين، وصفاتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وزادنا بيانا في أخلاق المنافقين، وكلامهم، ومواقفهم، وصفى تصورات أهل الإيمان، وعرفهم على مزيد من نعمه عليهم؛ بما من عليهم من رسوله عليه الصلاة والسلام وعرفهم على كثير مما ينبغي أن يفعلوه ويتأدبوا به. وصلة المقطع بما قبله مباشرة واضحة، فالكلام فيه استمرار للكلام عن دروس
فوائد
أحد، وصلة ذلك كله بابتداء القسم لا تخفى. بدأ القسم بالنهي عن طاعة الكافرين، والطاعة قد تكون بالاقتداء، وقد تكون بتنفيذ الأمر. والمقطع قد نبهنا على نماذج من الطاعة لا يجوز أن تكون سواء في ذلك هذا النوع، أو هذا النوع، وفي كثير من الأحيان قد يبدو للناظر أن طاعة الكافرين فيها مصلحة، والكافرون يدعون أن طاعتهم فيها مصلحة لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا فالمقطع إذن بصرنا بمثل هذا. وارتباط ذلك ببداية القسم واضحة، وفي مقدمة القسم قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وقد مرت معنا في هذا المقطع بعض مظاهر تولي الله لنا، وفي مقدمة القسم قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وجاءت بعد ذلك دروس غزوة أحد لنعرف شروط الوعد، وكان المقطع الذي مر معنا استمرارا لذلك. ولعله بذلك اتضح لنا أن لكل مقطع في القسم وحدته، ولكل قسم في السورة وحدته، وأن لكل سورة محورها، ولكل مجموعة سور ترتيبها، ولكل قسم من أقسام القرآن ترتيبه ووحدته، وكل ذلك سنراه شيئا فشيئا. وكما صحح لنا هذا المقطع مفاهيم، ونبهنا على محاذير، فإن المقطع اللاحق سيصحح، وينبه، ويعرفنا على أمهات من التصورات الخاطئة لا ينبغي أن نقع فيها. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ نذكر بعض الأحاديث حول الغلول، ونلاحظ أن بعضها جعل من الغلول هدايا العمال أي الموظفين عند الدولة، وكذلك الاعتداء على مال الأمة: أ- روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض، أو في الدار فيقطع أحدهما من خط صاحبه ذراعا، فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة». ب- وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليس له دابة ليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال». أقول: وذلك إذا أخذه من غير إذن.
ج- روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فرجع فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه. ثم قال: اللهم هل بلغت- ثلاثا-». د- روى الترمذي عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني، فإنه غلول. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ. هـ- روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة قال: فقام رجل من الأنصار أسود، قال مجاهد: هو سعد بن عبادة كأني انظر إليه، فقال يا رسول الله: اقبل مني عملك، قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقول ذلك الآن: من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه، وما نهي عنه انتهى» رواه مسلم. و- روى عبد الله بن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من ظهر البعير من المغنم ثم يقول: «ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط، وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله، القريب والبعيد، في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم». ز- روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا، فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا إني رأيته في النار في بردة غلها- أو عباءة- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فناد في الناس أنه لا
يدخل الجنة إلا المؤمنون، قال: فخرجت فناديت: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» ورواه مسلم. ح- روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم، فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد الغداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة، فقال: «أسمعت بلالا ينادي ثلاثا؟ قال: نعم. قال: فما منعك أن تجئ؟ فاعتذر إليه! فقال: كلا أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك». - وفي عقوبة الغال، للفقهاء أقوال: منهم من قال يحرق ما غل ويضرب. ومنهم من قال: يعزر تعزير مثله، ومنهم من قال: يباع الغلول ويتصدق بثمنه. 2 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تبيان الحكمة الكلية مما أصاب المسلمين يوم أحد: قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بأخذكم الفداء اهـ. وهو نظر دقيق في الربط الكلي بين أفعال الله، ملاحظا الحكمة القريبة، والحكمة البعيدة.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: لعل متهما يتهمنا أننا نتكلف للربط بين الآيات، وللصلة بين سور القرآن، ولعل فيما سنذكره هنا وبعد قليل ما يزيل شبهته. لقد قلنا: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها في سورة البقرة، بل نقول: إن سورة آل عمران تحدد لنا امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورة البقرة، وتأمل فيما يلي: جاء في سورة البقرة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. لاحظ أن المقطع الذي مر معنا ينتهي بآيات هي مقدمة للمقطع اللاحق، وأن نهاية المقطع السابق، وبداية المقطع اللاحق، فيها حديث عن منة الله علينا بالرسول، وفيها حديث عن المصائب في القتال، وفيها حديث عما لا ينبغي قوله عن القتلى في سبيل الله، وفيها حديث عن حياة الشهداء. فإذا ما تأملت هذه الآيات لم تشك أنها تفصيل لما ذكر في سورة البقرة، وهذه هي الآيات: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ* الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .... إنه لمن الواضح أن هناك ارتباطا بين هذه المعاني وبين ما ذكرناه في سورة البقرة. فهل لذلك قاعدة أم لا؟ إن الذين يظنون أن هذا القرآن لا ترابط بين آياته في السورة الواحدة، أو لا ترابط بين سوره، محجوجون عن واقع هذا القرآن.
المقطعان الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران
ونحن نتعمد في هذا التفسير ألا نذكر شيئا حتى يأتي محله، حتى لا يكون للإنكار علينا سبيل إن شاء الله. وكثير من الأمور ستتضح كلما سرنا في هذا التفسير. وإنما ذكرنا هنا ما ذكرناه لتأكيد على أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في سورة البقرة نفسها. وإن مما يحدد امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورتها، سورة آل عمران، وإنما نؤكد على هذا لأننا سنرى أن سورا كثيرة ستفصل في آيات من سورة البقرة، بينما سنجد آيات في سورة البقرة لا تفصلها سور، وما ذلك إلا لمثل هذا الذي ذكرناه. هذه الكلية التي نذكرها هنا، والتي ستأتي الأدلة عليها كثيرا كلما سرنا في هذا التفسير تجعلنا نؤكد: أن ما أجمل في مقدمة سورة البقرة، قد فصل بعضه في سورة آل عمران، وستأتي سور أخرى تفصل بعضه الآخر، كما أن هناك سورا، ستفصل في آيات أخرى من سورة البقرة على نسق وترتيب خاصين. كل ذلك نقوله لنلفت النظر إلى أن المسلم لا ينبغي أن يخرج من سورة آل عمران، إلا وقد خرج بمزيد من وضوح الرؤية في قضية التقوى والكفر والنفاق. لقد عرفنا في مقدمة سورة البقرة، أن الكافرين لا يؤثر فيهم الإنذار. وعرفنا- مثلا- من المقطع الذي مر معنا، أن الكافرين يربطون بين الموت وعالم الأسباب فقط، وعرفنا في مقدمة سورة البقرة بعضا من أقوال المنافقين ومواقفهم، وهاهنا عرفنا بعضها الآخر من أنهم لا يشاركون في قتال، ومن كونهم مثبطين عنه، داعين للقعود، إلى غير ذلك. وعرفنا من مقدمة سورة البقرة، أن الإيمان يستلزم صلاة، وإنفاقا، واتباع كتاب، ومن سورة آل عمران عرفنا، أن الإيمان يستلزم عدم طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم اتخاذ بطانة من غير المؤمنين. ولننتقل إلى المقطع الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران، وسنبدأ الكلام عن المقطعين معا لشئ له صلة بما مر معنا آنفا: المقطعان الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران يمتد المقطع الثالث من الآية (169) إلى نهاية الآية (189)، ويمتد المقطع الرابع حتى نهاية السورة، وهو خاتمة السورة.
والمقطع الثالث يصحح مفاهيم وتصورات، ولذلك فإن كل فقرة من فقراته تبدأ إما بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ أو وَلا يَحْسَبَنَّ والمقطع الرابع يوجد في سياقه الرئيسي تقريران: تقرير في حق أهل الإيمان، وتقرير في حق من آمن من أهل الكتاب. وتنتهي السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. رأينا في هذا القسم صلة المقطع الثاني بالأول، والمقطع الثالث امتداد للأول، فالآيات الأولى منه امتداد لما قبلها مباشرة، والمقطع كله امتداد للمقطع السابق عليه، فقد سبق مباشرة بقوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ... وجاء المقطع الثالث مبدوءا بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ... ثم إن المقطع الثاني بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا .... وهذا المقطع يبدأ بنفس المضمون، ويستمر بتصحيح تصورات يتبناها الكافرون أو يقولون بها. ويأتي المقطع الرابع ليعرض علينا صفحة من حال أهل الإيمان، سواء سبق لهم أن كانوا مؤمنين بكتاب أو لا، وتنتهي السورة بالأمر بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى. وكل ذلك قد جاء في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ* بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ* سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ. فالمقاطع كلها تخدم فكرة عدم الطاعة للكافرين، وتؤكد ولاية الله للمؤمنين، وتعمق الصفات والخصائص التي ينبغي أن يكون عليها أهل الإيمان، ليستأهلوا وعد الله، ومن ذلك الصبر والمصابرة والمرابطة. إن المقطع الثالث من حيث إنه تصحيح للتصورات التي يطرحها أهل الكفر، فإن صلته بمقدمة سورة البقرة- التي هي حديث عن المتقين والكافرين والمنافقين- لا
تخفى. وإن المقطع الرابع- الذي يتحدث عن حال المؤمنين عامة، وحال المؤمنين من أهل الكتاب خاصة لا تخفى صلته بمقدمة سورة البقرة. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. على أنه يمكن أن يقول قائل: إن أي آية في القرآن يمكن أن يقال إن لها صلة بمقدمة سورة البقرة بشكل من الأشكال، وهذا صحيح لأن القرآن كله موضوع واحد. ولكنا نقول: إنه زيادة على هذه الوحدة الموضوعية، فهناك سور ألصق بموضوع بعينه، وسنرى كيف أن سورتي الأنفال وبراءة ألصق بموضوع القتال، وقل ذلك في كل سورة. فمن هذه الحيثية نقول: إن لكل سورة محورها من سورة البقرة، ومحور سورة آل عمران، هو مقدمة سورة البقرة وامتدادات معاني هذه المقدمة في السورة. ونظن أنه في النموذج التالي سيكتشف المنصف صدق ما نقول: جاء في سورة البقرة قصة آدم عليه السلام، ثم مقطع بني إسرائيل، ثم قصة إبراهيم عليه السلام، ثم مقطع القبلة؛ ومن خلال الحوار مع بني إسرائيل وغيرهم، عرفنا وضع الكافرين ومواقفهم وقد انتهى مقطع القبلة في سورة البقرة بقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. ثم جاء أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهي عن القول بأن الشهداء أموات، وإخبار بأن الابتلاءات، وأن علينا أن نعترف لله بالمالكية إذا ابتلينا وذلك في مقطع الصبر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وفي هذا السياق جاء كلام عن كتمان ما أنزل الله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى. ثم في هذا السياق جاء قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ هذا كله جاء على تسلسل في مقطعين من سورة البقرة. وفي سورة آل عمران نجد تفصيلا لهذا كله. فلقد رأينا أن المقطع الثاني جاء في آخره قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ.
المقطع الثالث
والمقطع الثالث يبدأ بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ... وفي المقطع الثالث يرد قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ. ويختم المقطع الثالث بإعلان المالكية لله وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ويبدأ المقطع الرابع بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ... فهو يعرفنا على العقلاء الذين يرون آيات الله، وينتهي المقطع بالأمر بالصبر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا ... ألا ترى أن المعاني التي وردت في ذلك الحيز من سورة البقرة، جاء هذا الحيز من هذه السورة ليفصل فيها ضمن ترتيب جديد وفي سياق جديد! أليس في ذلك ما يلفت النظر ويطالب بالبحث عن الناظم الذي يفسر هذه الشئون!. إن تفسيرنا نحن لهذا هو ما قلناه: إن سورة آل عمران، محورها مقدمة سورة البقرة وامتدادات معاني هذه المقدمة. فسورة آل عمران هي التفصيل الأول لذلك. وستأتي سور أخرى تفصل تفصيلا ثانيا وثالثا ورابعا في مقدمة سورة البقرة وهذا مظهر من مظاهر كون القرآن كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. (سورة هود) المقطع الثالث يتألف هذا المقطع من أربع فقرات متشابهة البدايات، كل منها مبدوء بفعل مشتق من الحسبان، ويجمع الفقرات جامع وهو أنها تصحح تصورا يمكن- لولا البيان- أن يتسلل إلى أصناف من الناس. فلنقبل على تفسير فقرات المقطع الثالث، وهو مقطع تصحيح التصورات في فقراته الأربع بشكل مباشر، فقد أطلنا التعلقيات. الفقرة الأولى من المقطع الثالث [سورة آل عمران (3): آية 169] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
المعنى العام
[سورة آل عمران (3): الآيات 170 الى 177] فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) المعنى العام: يخبر تعالى في هذه الفقرة عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية، مرزوقة في دار القرار، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، وأنهم يسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم، على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وإنما كان سرورهم بما عاينوه من وفاء الموعود، وجزيل الثواب، ومعرفتهم أن الله لا يضيع أجر المؤمنين المتأخرين عنهم ممن لهم مواقف المؤمنين الصادقين. وقد ضرب الله مثلا لهذا النموذج الصادق المؤمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استجابوا له في
كلمة حول السياق
اليوم التالي لأحد، إذ استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاق العدو فنفروا على ما بهم من جراح وضعف، مستجيبين لله ورسوله، إذ بلغهم جمع المشركين لهم، بغية أن يستأصلوهم، فلم يكن منهم إلا أن قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فأكرمهم الله بأن كف أيدي الناس عنهم. ثم بين الله- عزّ وجل- أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه، بأن يوهمهم بأسهم، وحذرنا الله أن نطيع الشيطان، وأمرنا أن نخافه وحده، ثم نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحزن على من يسارع في الكفر؛ محقرا له كيدهم، مبينا أنهم هم الخاسرون، ثم ختم هذه الفقرة بتبيان أن الذين يبيعون الإيمان بالكفر لا يضرون الله بل يضرون أنفسهم باستحقاقهم عذاب الله. أعطتنا هذه الفقرة التصور الصحيح عن وضع الشهداء، وبينت لنا خلقا من أخلاق الإيمان، من حيث متابعة أهله للجهاد في كل الظروف، ومن حيث استعصاء أهله على الحرب النفسية، ثم بينت لنا قاعدة: وهي أن الشيطان يحاول تخويفنا من أعداء الله، وحذرتنا من الوقوع في شباكه، ثم جاء نهي، وقاعدة لها علاقة بالمنافقين والمرتدين. كلمة حول السياق: يلاحظ أن في هذه الفقرة نهيين موجهين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما للأمة كلها. النهي الأول: نهي عن تصور أن الشهداء أموات، والنهي الثاني: نهي عن الحزن على من كفر بعد إيمان، والصلة بين هذا وبداية المقطع السابق عليه واضحة، إذ في بداية المقطع السابق نهي عن أن نكون كالذين كفروا في تصوراتهم حول موضوع الموت والقتل، وهو موضوع يكفر بسببه من يكفر بعد إيمان، ومن ثم كان النهي الأخير له علاقة بهذا الموضوع. والفقرة كما هي مرتبطة بقسمها في سياقه الخاص، فهي مرتبطة بالسياق القرآني العام إذ هي توضيح لقضايا إيمانية وكفرية ونفاقية، وهو السياق العام لسورة آل عمران المرتبطة بمقدمة سورة البقرة وامتداداتها. المعنى الحرفي: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الخطاب مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لكل أحد بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. أي: بل هم أحياء عند ربهم، مقربون عنده، ذوو زلفى، يرزقون مثل ما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون. وذكر الرزق بعد ذكر الحياة تأكيد لكونهم أحياء، ووصف لحالهم التي هم
[سورة آل عمران (3): آية 170]
عليها من التنعم برزق الله. وشرط هذه الحال: أن يكون القتل في سبيل الله، أي: من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا كما قال عليه السلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». ثم وصف الله- عزّ وجل- حالهم في حياتهم ورزقهم: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من توفيقه لهم للشهادة، وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين، معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ. أي: ويستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم. بل بقوا خلفهم يتابعون جهادهم. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أي: لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم. فهم فرحون لأنفسهم، فرحون لإخوانهم الذين من ورائهم، وإنما استبشروا لإخوانهم بتبشير الله لهم. وفي ذكر الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء. فكأنها قالت للباقين: إن إخوانكم الذين سبقوكم وجدوا خيرا، فلم يحزنوا على فائت ورأوا ما سرهم فالحقوهم يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. أي: يسرون بثلاثة أمور: بما أنعم الله عليهم، وبما تفضل الله عليهم من زيادة الكرامة، وبسرورهم بإعطاء الله المؤمنين أجورهم كاملة موفرة. هذا حال من قتل يوم أحد. ويأتي الآن وصف من بقي: فإذا نقلنا الآيات إلى العموم المعتاد، إذ القاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، نعرف أن ما ذكر لكل شهيد، وأن ما يأتي هو حال المؤمنين في كل زمان. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم النماذج العليا في هذا الباب. ولنذكر سبب النزول مقدمة لتفسير الآيات اللاحقة ليعين ذلك على الفهم. لما أصاب المشركون ما أصابوا يوم أحد، كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لم يستأصلوا المسلمين. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم، ويريهم أن بهم قوة وجلدا، ولم يأذن لأحد إلا لمن حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله لما سنذكره، فنهض المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان؛ طاعة لله- عزّ وجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، وكان انتداب المسلمين للخروج يوم الأحد لست عشرة ليلة من شوال. فكانت استجابتهم الرائعة بعد كل ما أصابهم هو الموقف الأروع الذي
[سورة آل عمران (3): آية 172]
سجله الله لهم. ومجموع ما له علاقة بهذا هو الذي يذكر في السيرة تحت عنوان غزوة حمراء الأسد. فلنذكر الآيات مع ذكر النص المباشر قبلها. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ. أي: من بعد ما أصابهم الجراح، فالقرح: هو الجرح. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ في الآخرة. وقوله تعالى (منهم): للتبيين لا للتبعيض، لأن كل من استجابوا لله والرسول محسنون متقون رضي الله عنهم. هذه صفة أولى من صفات الإيمان، الاستجابة لداعي الجهاد في كل الظروف والأحوال. ثم تأتي الصفة الثانية. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: هم ركب من عبد القيس، كلفهم أبو سفيان أن يقولوا للمسلمين في حمراء الأسد، أنهم قد أجمعوا المسير إلى المسلمين لاستئصالهم، ووعدهم أن يجعل لهم في مقابل ذلك شيئا عينه لهم، وهذا ما سجلته الآية. إِنَّ النَّاسَ أي: أبا سفيان ومن معه، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. أي: فخافوهم. فَزادَهُمْ إِيماناً. أي: فزادهم هذا القول بصيرة ويقينا. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. أي: يكفينا أن الله ولينا وحده فنتكل عليه، ونعم الموكل هو. هذه صفة ثانية من صفات أهل الإيمان؛ أنهم إذا ادلهمت الأمور عليهم ازدادوا توكلا على الله، وإيمانا به. والله عند حسن ظن عباده به، فكان من أمر المشركين يومها، أن قذف الله في قلوبهم الرعب، وفروا بعد أن كانوا يفكرون في الهجوم، واستئصال المسلمين كما سنرى في قسم الفوائد، وكفى الله المؤمنين شرهم، وسجل ربنا ذلك؛ ليمن به على المسلمين مريا إياهم أنه عند حسن ظن عباده به. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أما النعمة: فهي السلامة، وأما الفضل: فهو فرار الكافرين، وعودة الهيبة للمؤمنين، ورجوع الروح المعنوية للمسلمين وغير ذلك. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ. أي: لم يلقوا ما يسوءهم من كيد العدو. وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ باستجابتهم لله والرسول، وجرأتهم، وخروجهم، وحسن توكلهم، واستعصائهم على ما يسمى في اصطلاحنا الحديث الحرب النفسية. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على عباده وأوليائه في الدنيا وفي الآخرة. والآن يأتي دور أخذ الدروس مما حدث. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. أي: إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وشدة، فلننتبه إلى هذا التفسير، وهو الوجه الوحيد الذي ذكره ابن كثير؛ إذ قدر
[سورة آل عمران (3): آية 176]
محذوفا بعد قوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ ففسرها بقوله (يخوفكم). وفسرها النسفي بأن الشيطان يخوف من يواليه من المنافقين. ومن ثم فإن الخوف يلازم النفاق؛ ثم نهى الله عباده المؤمنين أن يخافوا أولياء الشيطان قال تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. أي: إن كنتم مؤمنين حقا فلا تخافوا أولياء الشيطان، بل خافوا الله وحده؛ لأن مقتضى الإيمان أن يؤثر العبد خوف الله؛ فيطيعه ولا يعصيه ومن خاف الله خافه كل شئ، وسخر له كل شئ؛ ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمان الناس، وكان يحزنه كفر من كفر فضلا عن كفر من آمن، قال الله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هذا النهي فيه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى هذا الموضوع بعين الحكمة لا بعين الرحمة. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. أي: إنهم بمسارعتهم للكفر لن يضروا دين الله ولا أولياءه؛ وهذه بشارة عظيمة للمؤمنين؛ فإذا صبروا واتقوا، فإن من يسارع إلى الكفر لن يضر إلا نفسه، وما وبال ذلك عائد إلا عليه، وقد بين الله- عزّ وجل- كيف أن وبال ذلك لا يعود إلا عليه بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. أي: يريد الله بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة، فالحظ: هو النصيب. ومع حرمانهم من ثواب الله وجنته فإن لهم عذابا عظيما؛ وأي ضرر يضر به الإنسان نفسه أبلغ من هذا الضرر! أن يحرمها جنة الله، وأن يدخلها ناره. ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ. أي: استبدلوا هذا بهذا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. أي: لن يضروه أي ضرر، ولكن يضرون أنفسهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عقوبة لهم. وهل الآيتان الأخيرتان في المنافقين، أو في الكافرين كفرا أصليا، أو الأولى في الكافرين، والثانية في المنافقين، أو العكس، أو الأولى في المرتدين، والثانية في الكفار كلهم؟ كل ذلك تحتمله الآيتان. وبهذا نكون قد انتهينا من استعراض المعنى الحرفي للفقرة الأولى من المقطع الثالث. فلننقل بعض الفوائد التي تتعلق بها، وتساعد على فهمها. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب
مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عزّ وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» وهذا أثبت ما ورد في سبب نزول هذه الآية وما بعدها مباشرة. 2 - روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: «إنا سألنا عبد الله عن هذه الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شئ نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسامنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» أقول: وفي كون أرواحهم في جوف طير خضر كرامة لهم فهذه الطيور في حقهم كالمركوب بالنسبة للإنسان. 3 - وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية» قال ابن كثير في التعليق على هذا الحديث: وكأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ... وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن، فإن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» قوله يعلق: أي يأكل. وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يجمعنا على الإيمان».
4 - روى محمد بن إسحاق عن رجل من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال: «شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، رجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي- أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون» اهـ. ففي مثل هذين نزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ .... 5 - بعد ما حدث في أحد، أصبح المسلمون في وضع حرج من عدة وجوه: سقوط الهيبة العسكرية، احتمال كرة المشركين على المدينة، احتمال جرأة الأعراب والمنافقين واليهود عليهم، هبوط الروح المعنوية عندهم، فكان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد لاحقا بالمشركين، وبقاؤه فيها ثلاثة أيام، وبلوغ هذا لأبي سفيان، وإلقاء الله الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا إلى مكة بما يشبه الفرار، غسلا لكل آثار أحد. 6 - أخرج البخاري عن ابن عباس قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل» اهـ. وقال عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه «فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في حديث. 7 - فسر الفضل في قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ بما مر، وهناك من فسر الفضل بربح تجاري أصابه المسلمون عقب رجوعهم من حمراء الأسد، ومنهم من حمل هذه الآية على غزوة بدر الصغرى إذ إن أبا سفيان واعد المسلمين بدرا من العام القادم يوم أحد، وحاول أن يرهب المسلمين بالإشاعات لعلهم لا يخرجون إلى بدر، فقال المسلمون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وخرجوا إلى بدر، وتخلف المشركون، وابتاع المسلمون من سوقها، وكانت سوقا تجاريا، وربحوا فحمل بعضهم الآية على هذا. والآية يدخل فيها مثل هذا، أما أن يقال: بأن هذا سبب النزول، فإن السياق لا يدل عليه، بل يدل على ما ذكرناه أثناء التفسير.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: رأينا أن الفقرة فيها نهيان موجهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحسبن»، «ولا يحزنك» وهما نهيان لكل الأمة. ومن هذا ندرك أن السياق الرئيسي في الفقرة هو التصحيح والتوجيه، تصحيح التصورات في شأن الشهداء، وتوجيه النظر إلى الحكمة في شأن المرتدين، وفي سياق النهي عن حسبان الشهيد ميتا عرضت علينا أخلاقية المؤمنين الذين يستأهلون البشارة، وعرض أيضا المرشحون للشهادة من خلال النموذج الكامل للإيمان. فالمؤمنون الذين يستأهلون البشارة، والمرشحون للشهادة، هم الذين يستجيبون لداعي الجهاد في كل الظروف، وهم الذين لا تؤثر فيهم الحرب النفسية؛ لعمق توكلهم على الله- عزّ وجل- والذين لا يستجيبون لوساوس الشيطان في التخويف من أوليائه هؤلاء هم المؤمنون حقا. فالفقرة إذن، عمقت مفهوم الإيمان عندنا، وأعطته مضمونا زائدا على ما مر، كما صححت تصورا في شأن الكفر والكافرين، وفي شأن المنافقين الذين يسارعون إلى الكفر، فالفقرة تتكامل معانيها، فتشكل وحدة فيما بين آياتها. وصلتها بالآية التي قبلها واضحة، فما قبلها هو: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ ... الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا. فجاءت هذه الفقرة بعد ذلك مباشرة تبشر بما للشهداء، وتطالب بألا نحزن على الذين يسارعون في الكفر من هؤلاء المنافقين. ثم إن هذه الفقرة تأتي في سياق القسم الخامس من سورة آل عمران، والذي فيه وعد من الله للمؤمنين بالرعاية والنصر، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين. ومن ثم فهي تربي على المعاني التي ينال بها أهل الإيمان وعد الله بذلك، وتقدم نموذجا على فعل الله لأوليائه في أشد حالات الضيق إذ انتصروا بالرعب، كما تأتي هذه الفقرة بعد مقطع ينهى عن مشابهة الكافرين في بعض أقوالهم، فتكمل هذه الفقرة موضوع ما لا ينبغي أن تتوافق فيه تصورات أهل الإيمان مع أهل الكفر. والفقرة مع هذا كله، تفصل في محور سورة آل عمران من سورة البقرة، ففي أول سورة البقرة ورد قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
الفقرة الثانية في المقطع الثالث
وفي هذه الفقرة يأتي تفصيل لأثر الإيمان، وهو الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال، والتوكل على الله في كل الظروف. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وكما جاء كلام في مقدمة سورة البقرة عن الكافرين والمنافقين بعد الكلام عن المتقين، فإن هذه الفقرة تنتهي بكلام عن الذين كفروا بعد إيمان: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وبعد هذه الفقرة تأتي فقرة في المقطع الثالث، تكمل معاني الفقرة الأولي في دفع توهمات الكافرين، وتصحيح تصورات المؤمنين. الفقرة الثانية في المقطع الثالث [سورة آل عمران (3): الآيات 178 الى 179] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) لاحظنا أن الفقرة السابقة بدأت بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ وهذه بدأت ب وَلا يَحْسَبَنَّ وهناك قراءة ولا تحسبن دل ذلك على أننا في بداية فقرة ضمن المقطع الذي يصحح التصورات الإيمانية ويصفيها، ويميز التصورات الكفرية
المعنى العام
ويصفها، ويوجه المؤمنين إلى كمالهم في التصور. فبعد المقطع السابق الذي صحح التصور حول الموت والقتل، وأنه لا يكون إلا بأجل، جاءت الفقرة الأولى من هذا المقطع تصحح التصور حول مآل الشهداء في سبيل الله. ثم تأتي هذه الفقرة فتصحح تصورات المؤمنين حول الإملاء للكافرين، وامتحان المؤمنين، وكل ذلك يعرض من خلال أخذ الدروس مما حدث يوم أحد، وما بعده، وما قبله. فمن خلال الحياة العملية نأخذ تفصيلات في قضية الإيمان والكفر، وفي سنن الله- عزّ وجل- في أهل الإيمان وأهل الكفر، وفي سنن الله في الصراع الذي يجري بين أهل الإيمان وأهل الكفر. والخطاب في هذه القراءة وإن كان للكافرين إلا أنه تصحيح لتصور المؤمنين، لأن الكافرين لا يستفيدون من الخطاب، ولنلاحظ أن قراءة حمزة بالتاء. المعنى العام: ينهى الله عزّ وجل- الكافرين أن يتصوروا أن إمهالهم والإملاء لهم، خير لهم، بل هو شر لهم، لأنهم بهذا الإملاء يزدادون إثما، فيستحقون العذاب الأكثر، وإذ بين الله- عزّ وجل- أن الإملاء ليس علامة على إرادة الخير بصاحبه، يبين في الآية الثانية أن الامتحان لا بد منه لأهل الإيمان، ليظهر فيه الولي، ويفضح فيه العدو، وليعرف به المؤمن الصابر، من المنافق الفاجر، والأمر كله لله؛ فهو الذي يعلم الغيب كله، ومن ثم يعلم ما فيه الصلاح، وما فيه الفساد، وما هو خير للمؤمنين. فثقوا به، وتوكلوا عليه، وسلموا أموركم إليه. وإذا أطلع على شئ من الغيب، فإنما يطلع رسله، وإذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، فذلك أحرى وأدعى للتوكل ورؤية الحكمة. ثم بشرهم أنهم في حالة إيمانهم وتقواهم سيعطيهم أجرا عظيما. ففي هاتين الآيتين إذن تصحيح لمفهوم الإملاء، والابتلاء، وتبيان للحكمة في ذلك وواجب العبد المؤمن هو الإيمان والتقوى. فهذان فرضا العمر، وهاتان الآيتان واردتان في سياق الكلام عن غزوة أحد ودروسها، لذلك قال مجاهد في قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ... قال: ميز بينهم يوم أحد. وقال ابن كثير في شرح التمييز في الآية: يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين؛ فظهر به إيمانهم وصبرهم، وجلدهم، وثباتهم، وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستار المنافقين، فظهرت مخالفتهم، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن كما قلنا فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فالآية في كل امتحان. ومن ثم قال
المعنى الحرفي
قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة. المعنى الحرفي: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. أي: لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم خير لهم. والإملاء لهم: إمهالهم وإطالة عمرهم، والتوسعة عليهم، وعدم التضييق عليهم. ثم بين لماذا ليس الإملاء خيرا لهم فقال: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. أي: ليزدادوا خطايا فيزدادوا عذابا. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي: مذل. فالإملاء الذي يعقبه عذاب وإذلال، ليس خيرا لصاحبه، بل هو استدراج له. وكما يملي للكافرين، فإنه يمتحن المؤمنين ولذلك قال: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ. أي: ما كان الله ليترك المؤمنين على ما هم فيه من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين. حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. أي: حتى يعزل المنافق عن المخلص. والخطاب في قوله تعالى: عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ للمخلصين منهم. فكأن المعنى: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط مع غيرهم، حتى يميز المخلص منكم عن غيره، وذلك بواسطة المحنة. قال ابن كثير في تفسير ما مر: أي لا بد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيه وليه، ويفضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر، من المنافق الفاجر، ولذلك قال تعالى بعد هذا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي: جرت سنة الله أن لا يطلع عامة خلقه على الغيوب، وإذ كان الإيمان والنفاق غيبا، فقد جرت سنة الله أن يتم التمييز بين المؤمن والمنافق لأهل الإيمان بما يفعله من الأسباب الكاشفة عن ذلك، وذلك بواسطة الابتلاءات، والامتحانات. ويشعر قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ بمعنى زائد على ما ذكرنا، وهو أن الله يعلم الغيب وحده، وهو يحب عباده المؤمنين، فثقوا به، وتوكلوا عليه في المحنة، فإن مآلها بالنسبة لكم خير، والله أعلم. وبعد أن بين الله، أنه وحده يعلم الغيب، وأنه لا يطلع عباده على غيبه قال: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. أي: ولكن الله يصطفي من رسله من يشاء، وهي هنا تعني: ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه، ويخبره بشيء من الغيب ومن ذلك: إيمان ناس ونفاق آخرين، فهو يعلم ذلك من جهة إخبار الله له لا من جهة نفسه. وقد فهمنا هذا من مجئ قوله «ولكن» بعد قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ. وذكر معرفة الله الغيب، وعدم معرفتنا، وذكر اجتباء الله الرسول واطلاعه على شئ من الغيب، يفيد المطالبة لنا بزيادة التوكل على الله. ومن ثم
فوائد
صدر الأمر بعد هذا بقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. أي: آمنوا بهما حق الإيمان، الإيمان الذي يرافقه الإخلاص، والثقة، والطاعة، والعمل، والاطمئنان عند الامتحان والثبات فيه. ثم وعدهم على الإيمان والتقوى أجره العظيم فقال: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. أي: إن تؤمنوا بالله ورسله، وتتقوا النفاق، وما يؤدي إلى عقوبة الله، فلكم أجر عظيم في الآخرة. فوائد: 1 - ذهب المعتزلة إلى وجوب الصلاح والإصلاح على الله، كما ذهبوا إلى نفي إرادة المعاصي عن الله. وفي قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً حجة لنا عليهم في أنه لا يجب على الله شئ وجوبا عقليا، بل وجوبا شرعيا بإيجابه على نفسه، وأنه لا يكون في هذا الكون شئ إلا بإرادته. 2 - وذهب الباطنية إلى أن إمامهم يعلم الغيب، وفي قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ رد عليهم. كلمة في السياق: تحدثت الفقرة عن الإملاء والابتلاء، وكلاهما مما يخطئ فيه الناس، فكثيرا ما يظن الظانون أن الإملاء علامة الكرامة، وأن الابتلاء علامة الإهانة، فجاءت الفقرة تصحح هذين المفهومين، فالصلة بين معانيها قائمة. والصلة مع ما قبلها مباشرة قائمة: فما قبلها هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فالله- عزّ وجل- توعد الكافرين في هذه الآية بالعذاب الأليم، وكثيرا ما يرى الناس أن كافرا يتنعم في هذه الحياة الدنيا، ومسلما يضطهد، فجاءت الفقرة اللاحقة تبين أن الإملاء، والابتلاء، ليسا علامة على الكرامة والإهانة، بل النار والجنة هما العلامة، فلا يخلو كافر من شقاء، ولا يحرم مؤمن من سعادة في الدنيا، والعاقبة للمتقين. والصلة بين هذه الفقرة والفقرة التي قبلها واضحة من خلال حرف العطف، كما أن الصلة بين الفقرة وبداية القسم الخامس قائمة، فالله- عزّ وجل- وعد المؤمنين في
الفقرة الثالثة في المقطع الثالث
بداية القسم بالنصر والرعاية، وجاءت هذه الفقرة لتبين أن الابتلاء نفسه في حق المؤمن رعاية ونصرة. ولنتحدث عن صلة ما يمر معنا بسورة البقرة: أقول: إن قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ أقول: إن هذه المجموعة وثيقة الصلة بمقدمة سورة البقرة التي فيها: الذين يُقِيمُونَ الصَّلاةَ والتي فيها أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وإذن فهذه المجموعة من امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في السورة، فلنلاحظ الآن ما يلي: بدأت المجموعة بالأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، ثم جاء قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وجاءت الفقرة الأولى في هذا المقطع الثالث في تفصيل هذا: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً .... وبعد تلك الآية من سورة البقرة جاء قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ. والملاحظ أن هذه الفقرة التي مرت معنا كان فيها حديث عن حكمة الابتلاء والإملاء والآن تأتي فقرة تتحدث عن البخل والبخلاء، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ واضحة، أليس في ذلك نوع دليل على أن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، وأنها تفصل فيما هو كالامتداد لهذه المقدمة في سورة البقرة! وكل ذلك دون أن يكون على حساب السياق الخاص لسورة آل عمران. إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وهي في كل مرحلة تشد لنا معنى من امتدادات المقدمة وتفصل في الجميع. الفقرة الثالثة في المقطع الثالث [سورة آل عمران (3): آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
المعنى العام
[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 187] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) المعنى العام: نهى الله- عزّ وجل- في هذه الفقرة أن يظن البخيل أن جمع المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل ماله يوم القيامة، إذ يعذب به. ثم يخبر تعالى أنه وارث السموات والأرض، وأنه خبير بالأعمال والنيات، وهذا يقتضي أن ننفق مما أعطانا، وكما أمر، وبمحض الإخلاص لنلقى جزاء ذلك. ثم رد الله- عزّ
المعنى الحرفي للآيات
وجل- شبهة أثارها المتكبرون- وهي دعواهم إذ أمرنا ربنا بالإنفاق- أنه فقير، وهم الأغنياء، وهذا معناه في زعمهم احتياجه لهم، فهددهم الله على مقالتهم وعلى قتلهم الأنبياء من قبل. ومن هنا نفهم أن قائلي هذا الكلام هم اليهود، وبين أن جزاءهم على ذلك عذاب جهنم بسبب أفعالهم، لا بظلم من الله لأن ربنا ليس بظلام لخلقه، ثم بين أن من أخلاق هؤلاء، وأقوالهم دعواهم أن الله لم يأذن لهم أن يؤمنوا برسول إلا إذا قدم قربانا أكلته نار من السماء، فرد عليهم هذه الدعوى، وبين لهم أنهم كاذبون فيما يطلبون، فإن رسلا آخرين جاءوا بمعجزات، وبقربان أكلته النار فقتلوهم، فهذا دليل على أن كلامهم هذا من باب التعنت لا من باب الإنصاف، ثم عزى الله رسوله بأنه إن كذبه هؤلاء، فإن غيره من الرسل قد كذبوا مع مجيئهم بالمعجزات والوحي، ثم وعظ الله الناس وعظا عاما بالموت، وذكرهم بالنار والجنة، وأن الفوز هو في الزحزحة عن النار، ودخول الجنة، وأن هذه الدنيا فانية، والتذكير بهذا في سياق النهي عن البخل واضح الدلالة. ثم ذكر الله- عزّ وجل- المؤمنين بأن من سنته أن يبتليهم في الأموال والأنفس، وذكرهم بأن أهل الكتاب والمشركين سيؤذونهم كثيرا، وندبهم إلى الصبر والتقوى، وأثنى على من يتحقق بهذا. ثم إن الفقرة تتجه للتذكير بما أخذ من عهود على أهل الكتاب على ألسنة أنبيائهم أن يبينوا كتاب الله ولا يكتموه، ومن ذلك ما ورد فيه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكون الناس على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه. فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا. المعنى الحرفي للآيات: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ وفي قراءة: ولا تحسبن، وهذا يؤكد الصلة بين الفقرات التي تؤلف هذا المقطع. والمعنى: لا يظنن البخلاء بحقوق الله التي جعلها فيما رزقهم، أن بخلهم خير لهم. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. أي: بل بخلهم شر لهم، لأن أموالهم ستزول عنهم، ويبقى
[سورة آل عمران (3): آية 181]
عليهم وبال البخل، والشرية لهم في الآخرة متحققة، وقد يكون بخلهم شرا عليهم في الدنيا كذلك بما يصيبهم بسبب هذا البخل من كراهية، وثورات عليهم، وعقوبات دنيوية وربانية. سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا تفسير للشر الذي يصيبهم بسبب بخلهم في الآخرة. ومعناه أن الله سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقا في أعناقهم يوم القيامة، كما شرحته السنة. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: وله ما فيهما مما يتوارثه أهلها من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يغيب عنه ظاهر العمل ولا باطنه، فاعملوا خيرا، وأخلصوا نياتكم وضمائركم لله فيه، لتنقذوا أنفسكم من عذابه، وتنالوا رضوانه. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قال ذلك اليهود عليهم اللعنة عتوا على الله في تحريفهم لمراد الله من أوامره، ومعنى سماع الله له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعد له كفاء من العقاب. سَنَكْتُبُ ما قالُوا هذا تهديد ووعيد لهم، ومعناه: سنحفظه عليهم، ونحاسبهم عليه، أو سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف؛ لنجزيهم عليه. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. أي: سنكتب قولهم هذا، وقتلهم الأنبياء، فجعل قتلهم الأنبياء قرينا لهذا القول إيذانا بأنهما في العظم أخوان، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على هذا القول، فهؤلاء جرآء على رسله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولذلك قال: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. أي: ونقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب النار، قال الضحاك: يقول لهم ذلك خزنة جهنم، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ. أي: ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر، والمعاصي، والجرأة على الله ورسله. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يكون بها، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. أي: إن الله لا يظلم عباده، فلا يعاقبهم بغير جرم. ويقال لهم هذا تقريعا وتوبيخا، وتحقيرا وتصغيرا، ثم بين الله عتو هؤلاء وجرأتهم وكذبهم: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. أي: إنهم ادعوا أن الله أمرهم بالتوراة، بألا يؤمنوا برسول، فيصدقوه، ويتابعوه، إلا إذا قرب قربانا لله، فتنزل نار من السماء فتأكله، والقربان: ما يتقرب به إلى الله. والمعنى: افعل هذا يا محمد نصدقك!! وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم، قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ. أي: بالحجج، والبراهين، والمعجزات، سوى القربان،
[سورة آل عمران (3): آية 184]
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي: بالقربان الذي أكلته النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ. أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمعاندة والقتل، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أي: في دعواكم أنكم تتبعون الحق، وتنقادون للرسل إن فعلوا ما طلبتم. فإذا كان هذا فعلكم بمن هو منكم، فكيف يكون فعلكم بمن ليس منكم إن قدرتم عليه، ولا شك أن كلامهم محض افتراء وتعنت، فالمعجزة معجزة أيا كانت، والله- عزّ وجل- هو الذي يختار المعجزة التي تشهد على صدق رسله، وعلى الخلق أن يؤمنوا. ثم قال تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. أي: فإن كذبك اليهود فلا يهولنك ذلك، فقد فعلت أقوام برسلها وأنبيائها كذلك مع كونهم جاؤُ بِالْبَيِّناتِ. أي: بالمعجزات الظاهرات وَالزُّبُرِ. أي: الكتب المتلقاة من السماء وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ. أي: الواضح الجلي المضئ. والملاحظ أن الزبر، والكتاب، بمعنى واحد، فما الفارق بينهما؟. قال النسفي: قيل هما واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: ما من نفس إلا وستموت، وستعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة، فإن الدنيا ليست بدار جزاء. قال النسفي رابطا بين هذه الآية وما قبلها: والمعنى: لا يحزنك تكذيبهم إياك، فمرجع الخلق إلي فأجازيهم على التكذيب، وأجازيك على الصبر. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ. أي: أبعد، إذ الزحزحة: الإبعاد وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. أي: ظفر بالخير. فمن جنب النار ونجا منها، وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. أي: صغير شأنها، حقير أمرها، دنيئة فانية، قليلة زائلة. شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغرر حتى يشتريه، ثم يتبين له فساده، ورداءته، والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير: إن هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. أي: لتختبرن في الأموال والأنفس، أما في الأموال فبما يقع بها من آفات، أو بما يصادر منها في سبيل الله، أو بما ينفق منها في سبيل الله، وأما في الأنفس، فبالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. قال ابن كثير: أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شئ من ماله، أو نفسه، أو ولده، أو أهله، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. أي: اليهود
[سورة آل عمران (3): آية 187]
والنصارى، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. أي: كل الكافرين سوى اليهود والنصارى، والملحدون مشركون، إذ أعطوا الكون صفات الله من الخلق والإرادة والإحياء والإماتة، وجعلوا أنفسهم آلهتهم، أَذىً كَثِيراً كالطعن في الدين، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن ونحو ذلك. وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا مخالفة أمر الله فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. أي: فإن الصبر والتقوى من عزائم الأمور، أي: مما يجب العزم عليه من الأمور. خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد، والصبر عليها. حتى إذا كانت لقوها وهم مستعدون، لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. أي: اذكر ذلك، ثم بين ماهية الميثاق لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ هذا هو الميثاق، بيان الكتاب، وعدم كتمانه. ومن الصيغة نفهم تأكيد إيجاب بيان الكتاب، واجتناب كتمانه، وكما أخذ عليهم الميثاق أخذ علينا. قال عليه السلام: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ. أي: فنبذوا الميثاق ولم يراعوه، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر، مثل في الطرح وترك الاعتداد. قال النسفي: وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، أو لجر منفعة، أو دفع أذية، أو لبخل في العلم. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. أي: اشتروا بهذا الكتمان عرضا يسيرا، والدنيا كلها عرض يسير. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ. أي: فبئس الصفقة صفقتهم إذ باعوا العظيم بما لا يساوي شيئا. فوائد: 1 - روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك»، ثم تلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... إلى آخر الآية. وروى ابن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه، فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا خرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى
كلمة في السياق
يطوقه». 2 - قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً (سورة البقرة) قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك فسأل القرض، فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. 3 - ذكر ابن كثير عن ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه، ولا يرون شخصه فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». 4 - أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لموضع سوط أحدكم في الجنة، خير من الدنيا وما فيها» قال: ثم تلا هذه الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وفي الحديث «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع إليه» وقال قتادة في قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال هي متاع متروكة أو شكت- والله الذي لا إله إلا هو- أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله». 5 - قال ابن كثير في التعليق على قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً فكل من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله. كلمة في السياق: سيأتي بعد الآية الأخيرة من الفقرة السابقة قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وقد رأينا أن مجئ كلمة (الحسبان) في هذا السياق علامة على ابتداء فقرة، مما يشير إلى أن آية الكتمان الواردة في الفقرة التي مرت معنا هي نهاية هذه الفقرة.
والملاحظ أن الفقرة التي مرت معنا، وهي الفقرة الثالثة في مقطعها قد ذكرت ثلاث معان رئيسية: البخل، والابتلاء الذي يقتضي الصبر، ومنه الصبر على إيذاء أهل الكتاب، والمعنى الثالث كتمان أهل الكتاب. وقد رأينا أن المقطع الثالث الذي نفسره يفصل في مقطع الصبر من سورة البقرة، الذي فيه ذكر الابتلاء والصبر عليه، والذي فيه ذكر الكتمان. فلو أنك تأملت الفقرة التي بين أيدينا، لرأيتها تفصل في حيزها الأول في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ من مقدمة سورة البقرة، وتفصل في حيزها الثاني في الابتلاء والكتمان من مقطع الصبر في سورة البقرة. وهذا يؤكد أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها، وبشكل يربط ويدل على صلة المعاني الواردة في سورة البقرة، بما له صلة بالمقدمة بشكل مباشر، ولو أنك نظرت إلى الكتمان، لرأيت أن له صلة بقوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولو أنك نظرت إلى الصبر على إيذاء أهل الكتاب، والصبر على الابتلاء، لرأيت له صلة بالإيمان بالغيب. فصلة الفقرة إذن في تفصيل مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها موجودة، ألا ترى مثلا أن قوله تعالى في الفقرة الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ... فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ألا ترى أن لهذا صلة مباشرة بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. إنك كيف تأملت تجد روابط بمقدمة سورة البقرة، والمعاني الأكثر لصوقا بها من سورة البقرة. إن سورة آل عمران تشد المعنى المرتبط بمقدمة سورة البقرة إلى جزء في هذه المقدمة، ثم تفصل فيه، ثم تشد جزءا آخر، ثم تفصل فيه، وهكذا ضمن سياقها الخاص بها. فمثلا في سورة البقرة جاءت آية الكرسي ضمن سياقها وهي مبدوءة بقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ولذلك صلة بمقدمة سورة البقرة، سواء من حيث الإيمان بالغيب، أو إنزال الكتاب. وجاءت سورة آل عمران لتشد هذا المعنى إلى المقدمة فتفصل في ذلك، وبذلك بدأت السورة كما رأينا. ولئن قصر تعبيرنا في موطن من هذا التفسير عن التدليل، فإن في مجموع ما سنذكره في هذا التفسير لدليلا- إن شاء الله- على صحة اتجاهنا. هناك ارتباط بين الصبر والتقوى، لذلك رأينا من قبل في سورة آل عمران:
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ورأينا في هذه الفقرة: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وهذا يؤكد الارتباط المباشر بين مقدمة سورة البقرة ومجموعة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ .. رأينا أن الصلة بين فقرات هذه المقطع واضحة، من حيث إن المقطع كله يصحح مفاهيم، وهو مرتبط بالمقطع السابق عليه، كذلك بهذا القاسم المشترك، وأما الصلة بين الفقرة التي مرت معنا، وبين بداية القسم الذي نهى عن طاعة أهل الكفر، ووعد المؤمنين بالرعاية والنصرة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، فمن حيث إنه أرانا مواقف للكافرين كل منها تقتضي ألا نطيعهم، ومن حيث إنه وطن أنفسنا على الكثير مما سنواجهه، فحمل الدعوة والاستقامة عليها، وكسب النصر في الله ليس سهلا، ولعل الصلة بين معاني الفقرة لا تخفى على المدقق، فأهل الكتاب بخلوا، والسبب هو الدنيا، وآذوا المسلمين، وكان المفروض أن يؤمنوا بما آمن به المسلمون لأن هذا مقتضى الميثاق المأخوذ عليهم بالبيان. والصلات في الفقرة أوسع وأعمق وأبعد. هناك ناس يبخلون، فما السر في بخلهم: إن السر في بخلهم اعتقاد فاسد ونسيان للموت، فهم يعتقدون أن الله هو المكلف برزق الفقراء، وذلك أثر عن عدم الإيمان بالرسل، فالبخل في أرضيته الواسعة يعود إلى مثل هذا، لذلك استطردت الفقرة إلى هذه الشئون. ثم إن من أسباب البخل نسيان الموت، ونسيان الحساب والجنة والنار، لذلك جاء في السياق كلام عن ذلك. وبسبب من هذا فالبخلاء يشكلون كتلة اقتصادية تستند إلى أرضية اعتقادية، وهم كتلة في مقابل الكتلة الإيمانية، والصراع بين الكتلتين سيترتب عليه ابتلاء وإيذاء لأهل الإيمان، ومن ثم جاء كلام عن ذلك. وكأصل لعلة البخل، وكأصل لتكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام، يأتي موضوع كتمان الكتاب من أهل الكتاب، ولذلك تختم الفقرة بهذا المعنى، ولكن آية الكتمان هنا تأتي بعد الآية التي تذكر الابتلاء والإيذاء، فكأنها في الوقت نفسه تقول: أيها المؤمنون احذروا أن يمنعكم الابتلاء والإيذاء من أن تظهروا حكم الله وتبينوه. وهكذا تجد أكثر من وشيجة تربط بين آيات الفقرة. ولنتذكر الآن شيئا، كنا في مقطع الصبر من سورة البقرة ذكرنا الحكمة في مجئ آية
الفقرة الرابعة من المقطع الثالث
الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، قبل ذكر الابتلاء، ومجئ آية الكتمان في ذلك السياق يشير إلى أن البيان سيرافقه ابتلاء، والابتلاء يحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة، والملاحظ أن آية (الصفا) في ذلك المقطع فصلت بين آية الكتمان وآيات الصبر، أما هاهنا فإن آية الكتمان جاءت بعد آية الصبر مباشرة. ولعلنا الآن نستطيع أن نقول كلمة أكثر وضوحا في السياق القرآني العام: لقد سارت سورة البقرة على تسلسلها الذي رأيناه، فكانت مقدمة، وأقساما ثلاثة، وخاتمة. وكان هناك كثير من المعاني التي وردت في الأقسام الثلاثة، والخاتمة تفصل في معان موجودة في مقدمة سورة البقرة، فجاءت سورة آل عمران لتفصل في مقدمة سورة البقرة، ولتشد المعاني المرتبطة بهذه المقدمة من سورة البقرة نفسها، لتربطها بالمقدمة، ولتفصل في ذلك كله على نمط لا يعرفه الإنسان، ولا يخطر على بال إنسان، ولا يستطيعه إنسان، والأمر بالنسبة للقرآن كله أوسع، وسيتضح الأمر معنا شيئا فشيئا، ولننتقل إلى الفقرة الرابعة في المقطع الثالث. الفقرة الرابعة من المقطع الثالث وهي آيتان: [سورة آل عمران (3): الآيات 188 الى 189] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) سبقت هاتين الآيتين، آية تحدثت عن نبذ أهل الكتاب لكتاب الله وراء ظهورهم، وشرائهم به ثمنا قليلا، ثم جاءت هاتان الآيتان، فكأنهما تقولان: إن هناك ناسا يكتمون، ويريدون أن يحمدوا على أنهم يجهرون بالحق، فهؤلاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظن أنهم بمنجاة من عذاب الله، والنهي لرسوله صلى الله عليه وسلم نهي لأمته، ثم بين الله عزّ وجل أنه مالك كل شئ، والقادر على كل شئ فلا يعجزه شئ. ولنذكر سبب نزول الآية الأولى، والفهوم غير المرادة منها، وتصحيح الصحابة
لها، ونعرض مع ذلك المعنى الحرفي لها ولما بعدها. روى الإمام أحمد أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ .. إلى قوله تعالى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وهذه الآية: لا تَحْسَبَنَّ ... وقال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه. فالآية إذن أول ما يدخل فيها- إذا نظرنا إلى معناها من خلال السياق- هذا الذي ذكره ابن عباس. ومن ثم لاحظنا أن ابن عباس ربط بين هذه الآية وما قبلها، وعلى هذا فمعنى الآية: لا تظنن الذين يفرحون بما أتوه من كتمان الحق الذي أنزله الله، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من إظهار الحق، لا تحسب أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم. على أنه إذا فهمنا الآية هذا الفهم من خلال سياقها، فإننا يمكن أن نفهمها فهما آخر من خلال نصها. وقد روى البخاري وغيره سببا لنزول الآية غير ما ذكرنا، ومنه نفهم أن الآية تفهم من خلال نصها مما يدخل فيها غير الحالة الأولى. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو، اعتذروا، وأحبوا أن يحمدوا على ما لم يفعلوا فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ .. الآية. وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد: إنما ذاك أن ناسا من المنافقين يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نصر من الله وفتح، حلفوا لهم ليرضوهم، ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. وعلى هذا يصبح معنى الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوه من تخلف عن أمر الله، وأمر رسوله، ويحبون مع هذا أن يحمدوا بأنهم من أهل الإيمان والجهاد، وهم لم يفعلوا ما يدل على ذلك، فلا تحسب أن هؤلاء بمنجاة من العذاب.
[سورة آل عمران (3): آية 189]
وسبب ذلك أن المسلم إذا تخلف عن الجهاد حزن، كما سيمر معنا في سورة براءة، وإذا جاهد رغب أن يكون جهاده خالصا لوجه الله تعالى، فهو يخجل من إظهار العمل، وهؤلاء عكس ذلك، فهم في الطرف المقابل من أهل الإيمان في أخلاقهم. وعلى هذا الاتجاه فما الصلة بين هذه الآية وما قبلها؟ الصلة- والله أعلم- أن الجهاد طريق إظهار الحق. وهؤلاء لا يشاركون فيه، ويحبون أن يحمدوا بأنهم من أهله، وإذا نظرنا إلى لفظ الآية ونصها، فإننا نرى فيها وعيدا لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب. ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه، وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي: لا تحسبنهم فائزين، أي لا تحسبنهم بمنجاة من عذاب الله. وبعد هذا نقول: إن نقطة الخطأ في الفهم هي: أن يفهم فاهم أن مجرد فرحه بفعله يستحق به عذاب الله، وذلك أن الفرح إذا كان بفضل الله، فذلك شئ مشروع، وإنما تدخل في الآية ثلاث حالات (والله أعلم): الحالة الأولى: أن يكتم إنسان ما أنزل الله، ويحب أن يحمد على أنه من المجاهرين به. والحالة الثانية: أن يتخلف إنسان عن طاعة الله، وهو فرح بهذا التخلف، ويحب أن يحمد على أنه من القائمين بأمر الله. والحالة الثالثة: أن يفرح الإنسان بعمله فرح إعجاب- إذ العجب يحبط العمل- ويحب أن يتظاهر بغير ما هو له، وأن يحمد به، وقد قال ابن كثير في شرح الآية: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة» وفي الصحيحين أيضا «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور .. ». ونذكر بما قلناه من قبل بهذه المناسبة كيف أن هذا القرآن لا تنتهي عجائبه ومعانيه. فمن خلال السياق الجزئي نفهم شيئا، ومن خلال السياق العام نفهم شيئا، ومن خلال المعنى الحرفي نفهم شيئا، ولا يتناقض هذا مع هذا، بل يكمله ويتممه. ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي: هو المالك لكل شئ، وهو القادر على كل شئ، ومجئ هذه الآية في السياق مرتبط بما قبله من ناحية أن الذين يكتمون، إنما يشترون بكتمانهم ثمنا قليلا. فذكرهم الله بأنه هو مالك كل شئ، وبيده العطاء. ومن ناحية أن الذين يفرحون بما أتوا يستحقون العذاب. وقدرة الله محيطة بهم تنالهم لتعذبهم. إن التذكير بمالكية الله للأشياء كلها، وقدرته على الأشياء كلها، وتذكر ذلك، هو المصفي لكل أمراض النفوس.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: بهذه الفقرة تم المقطع الثالث، من القسم الخامس، من سورة آل عمران، والفقرة الأخيرة منه مرتبطة بالفقرات كلها، بجامع أنها تصحح مفاهيم وتصورات، ثم هي تعقيب على الأصناف السابقة التي تبخل، وتكتم، وتشتري ثمنا قليلا، وتحب أن تمدح بما لا تفعل، ناسية أن الله مالك كل شئ. فالفقرة متصلة بما قبلها مباشرة، وهي تؤدي للسياق العام ما يكمله، وبها تكتمل عندنا مجموعة معان كلها تخدم في توضيح، وتفصيل مقدمة هذا القسم، الذي بدأ في النهي عن طاعة الكافرين، ووعدنا الله به الرعاية والنصرة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين. ولننتقل إلى المقطع الرابع والأخير في القسم الخامس. وهو خاتمة السورة كلها. المقطع الرابع من القسم الخامس يمتد هذا المقطع من الآية (190) إلى نهاية الآية (200) أي إلى نهاية السورة. وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 194] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
كلمة في هذا المقطع
[سورة آل عمران (3): آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 198] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) *** [سورة آل عمران (3): آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) *** [سورة آل عمران (3): آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) كلمة في هذا المقطع: هذا المقطع هو خاتمة السورة، وهو خاتمة القسم الذي بدأ بالنهي عن طاعة الكافرين، والتأكيد على تولي الله للمؤمنين بالرعاية والنصرة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، ولذلك فإنه يذكرنا بأخلاق المؤمنين، ودعواتهم ومواقفهم، ثم ينهانا عن أن نغتر بتقلب الكافرين في البلاد. ثم يبين لنا أن نوعا من أهل الكتاب يسلمون فيؤمنون إيمانا صادقا
المعاني العامة في المقطع
فلهم أجرهم عند ربهم، ثم يأمرنا بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى، وفي ذلك كله ما يعمق عندنا الإيمان الذي لا نطيع به كافرا، والذي ننال به وعود الله لنا، وإذ كان هذا المقطع هو خاتمة السورة، فإنه يربط بين بداية السورة، وخاتمتها. ففي بداية السورة وصف الله- عزّ وجل- أولي الألباب بقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ويأتي في هذا المقطع تعريف لأولي الألباب. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ... فهؤلاء هم الذين يؤمنون بالكتاب حق الإيمان، فيؤمنون به كله، عاملين بمحكمه، مسلمين لمتشابهه، وهم القائمون بأمر الله حقا. وكما ذكر المقطع الأول في السورة الكافرين وأهل الكتاب، فهذا المقطع يذكر الكافرين، ويثني على من آمن من أهل الكتاب. فالسورة يرتبط أولاها بأخراها، كما ترتبط كل أقسامها برباط جامع. وكون المقطع تفصيلا لمقدمة سورة البقرة فهذا واضح. فمقدمة سورة البقرة تذكر أن القرآن هدى للمتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهذا المقطع يذكر: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وتختم السورة بكلمة الفلاح: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وكما أن سورة البقرة سبقت خاتمتها بآية تذكر بمالكية الله، فإن خاتمة سورة آل عمران كذلك. وكما أن خاتمة سورة البقرة ختمت بتعليم وتقرير لقضايا إيمانية ودعوات، فإن سورة آل عمران كذلك. المعاني العامة في المقطع: جاءت الآيات الأولى في المقطع تبين: من هم أولو الألباب، فقد بين الله- عزّ وجل- أن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات، ولكن هذه الآيات لا تتكشف إلا لأهل اللب. ثم بين أن أهل اللب هم
المعنى الحرفي للمقطع
الذين اجتمع لهم الفكر والذكر. وأنهم يعطون الله- كأثر عن فكرهم وذكرهم- ما يليق بجلاله، فيدعون الله بمجموعة دعوات تجمع قضايا الإيمان والخير كلها. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه استجاب لهم دعواتهم بسبب ما قدموه من عمل، وهجرة، وصبر، وقتال، مما يدل على أن من هذه أخلاقهم هم أولو الألباب، وهم وحدهم الذين يتذكرون، وأن جزاءهم جنات الله بما فيها. ثم صدر النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينظر نظر إكبار إلى ما فيه الكافرون من نعمة، وغبطة وسرور، فالدنيا كلها لا تساوي شيئا بجانب الآخرة، وأن ما هم فيه أمام ما أعد الله لهم من عذاب جهنم لا يساوي شيئا. ثم أعاد الله البشارة بالجنات لأهل التقوى بعد النهي عن الاغترار بتقلب الذين كفروا في البلاد. ثم بين الله- عزّ وجل- أن هناك طائفة من أهل الكتاب يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم مطيعون لله، خاضعون، متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي: لا يكتمون ما بأيديهم من بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته، ونعته، ومبعثه، وصفة أمته، هؤلاء أجرهم محفوظ عند الله، ثم ختمت السورة بنداء لأهل الإيمان بالصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى؛ من أجل فلاحهم. فدل ذلك على أنه ليكون الإنسان من المفلحين، لا بد له من اجتماع هذه الأربعة. المعنى الحرفي للمقطع: إذ أعطانا الله صورة ناس فيما مر، لا يقومون بحق الله في كتابه، فإنه الآن يعطينا صورة من يقوم بحق كتابه من خلال مجموعة آيات تصف أولي الألباب الذين هم وحدهم- كما نصت سورة آل عمران في أولها- الذين يتذكرون إذا ذكروا. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. وهذه الآيات- إلى نهاية السورة- لها شأن خاص، وقد وردت فيها آثار خاصة كما سنرى. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: في حدوثهما وتقديرهما وما في خلقهما من الحكمة. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: تعاقبهما، وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا، فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا. لَآياتٍ أي: لأدلة واضحة على صانع حكيم قادر حي لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: لأصحاب العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها. وفي كتابنا «الله جل
[سورة آل عمران (3): آية 191]
جلاله» شرحنا كيف أن ظواهر هذا الكون تدل أصحاب العقول- بما لا يقبل شكا- على الله، وذلك أن كل قوانين العقل والعلم تشهد على أن لهذا الكون بداية، فهو حادث، وحدوثه يدل على محدثه، ومحدثه أزلي قديم، وإلا لاحتاج إلى محدث آخر، إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته .. ثم وصف الله أولي الألباب أي: الذين خلصت عقولهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: الذين اجتمع لهم دوام الذكر، وعبادة الفكر في ملكوت السموات والأرض. وفسر الذكر في الآية بالصلاة، كما ثبت في الصحيحين عن عمران ابن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» كما فسر بالذكر الدائم في جميع الأحوال، بالسرائر والضمائر والألسنة. والتفسير الأول: هو تفسير للذكر بالذكر المفروض، والتفسير الثاني: هو تفسير للذكر بالذكر المسنون، فقد وصفت عائشة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» والتفكير في خلق السموات والأرض يدخل فيه التفكير في الظواهر الدالة على عظمة الخالق، وقدرته، وعلمه، وحكمته، واختياره، ورحمته، وكبرياء سلطانه، بما يستجيش في النفس، وعلى اللسان ما يأتي: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. هذا الذي يستجيشه تفكيرهم أن يقولوا: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا بغير حكمة، بل خلقته لحكمة عظيمة، لتكون أدلة للمكلفين على معرفتك. خلقته بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. سُبْحانَكَ أي: تنزيها لك عن العبث وخلق الباطل. فَقِنا عَذابَ النَّارِ جزاء ما عرفناك ونزهناك، أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص، والعيب، والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: يوم القيامة لا مجير منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، ولا شفعاء لهم ولا أعوان. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أي: داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي: يقول: آمنوا بربكم فآمنا، أي: فاستجبنا له واتبعناه. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي: استر كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي: وامح عنا خطايانا
[سورة آل عمران (3): آية 194]
من الصغائر. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي: وألحقنا بالصالحين. والأبرار جمع بر: وهو المتمسك بالكتاب والسنة. فصار معنى الآية: ربنا بإيماننا، واتباعنا نبيك، اغفر الذنب كله، واجعلنا من المعدودين في جملة الأبرار، بأن تختم لنا كما ختمت لهم. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنة رسلك، والموعود هو الثواب أو النصر على الأعداء، أو كلاهما. وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد، إذ الوعد غير مبين لمن هو، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك، أو المراد إظهار العبودية والافتقار، والضراعة والخضوع. وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: لا تذلنا يوم القيامة على رءوس الخلائق. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك. فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي: إن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره، استجاب لهم. ثم فسر هذه الإجابة والاستجابة فقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى والمعنى: أنه لا يضيع عمل عامل لديه، ذكرا كان أو أنثى، بل يوفي كل عامل عمله بالقسط. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر. والجميع في ثوابي سواء، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين. وإذا كان الأمر كذلك، فعمل العامل ذكرا كان أو أنثى واصل جزاؤه لصاحبه. وهذه الجملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عبادة العاملين، ثم فصل عمل العامل منهم على سبيل التعظيم لهذا النوع من العمل. فَالَّذِينَ هاجَرُوا من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن دار الجور إلى دار العدل، مفارقين الأحباب، والخلان، والإخوان، والجيران، والأوطان، فارين إلى الله بدينهم، إلى حيث يأمنون هم وذرياتهم عليه. قال النسفي: والهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ التي ولدوا فيها ونشئوا، أي ضايقهم أعداء الله بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي: وأوذوا بالشتم والضرب، ونهب المال في سبيل دين الله. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا أي: وجاهدوا أعداء الله بأيديهم واستشهدوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: هؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة لأغفرن لهم ذنوبهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن، وعسل، وخمر، وماء غير آسن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
[سورة آل عمران (3): آية 196]
على قلب بشر، ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: إثابة من عند الله يختص به، ولا يقدر عليه غيره، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي: عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا. بينت هذه الآيات من هم أولو الألباب على الحقيقة، وما هو جزاؤهم. والصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة، من حيث إن هؤلاء هم الذين يعطون كتاب الله حقه على عكس أولئك. وبهذا انتهت الفقرة الأولى من هذا المقطع فلنر فقرة أخرى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتا له- إذ هو غير مغتر- وهو خطاب لكل فرد في أمته، أي: لا يغرنك ما هم فيه من النعمة، والغبطة، والسرور، والمتعة، واللذة، والسلطان، فيحرفك عن الحق الذي أنزله الله إليك، وما أكثر من يغتر بسلطان الكافرين، وعزتهم، وسيطرتهم على كثير من بلاد العالم، فيحرفه ذلك عن الحق. مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: تقلبهم في البلاد متاع قليل، قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، قليل في نفسه لانقضائه، وكل زائل قليل. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي: وساءت جهنم مهادا مهدوه لأنفسهم. ثم بين أن المتاع الحقيقي لأهل التقوى فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي: لا بقاء لتمتع الكافرين، لكن ذلك للذين اتقوا، ثم بين هذا المتاع الحقيقي لأهل التقوى فقال. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهذا هو المتاع الحقيقي الذي لا انقضاء له، وفي هذا دعوة للمؤمنين لكي يثبتوا على التقوى في كل الظروف، ولو كانت الغلبة، والعز، والجاه، والسلطان لأهل الكفر. ثم بين أن ما أعطاه للمتقين من المتاع الحقيقي إنما هو رزق، وعطاء، وضيافة من عنده فقال: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ضيافة، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ أي: وما عند الله من الخير الكثير الدائم، خير للأبرار، مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل. فليثبت أهل البر على برهم، وليثبت أهل الإيمان والتقوى والحق على كتاب الله وشرعه. ثم ذكر صنفا من أهل الكتاب هم غير من مر من الكاتمين والكافرين: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي: من القرآن وَما
[سورة آل عمران (3): آية 200]
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة، والإنجيل، والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ أي: مطيعين خاضعين متذللين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: لا يكتمون ما يعلمون من مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، والتبشير ببعثته، ورسالته، كما يفعل من منعه الكبر من الأحبار، والرهبان، والمتكبرين، وهؤلاء الذين وصفهم الله هم خيرة أهل الكتاب، وصفوتهم، إذ جمع الله لهم الإيمان التفصيلي بما أنزل، ولذلك وعدهم هنا فقال: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: أولئك لهم الأجر المختص بهم عند ربهم وهو ما وعدهم الله به في قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ (سورة القصص) إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ حسابه سريع لنفوذ علمه في كل شئ. ثم ختم السورة بهذه الآية الجامعة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: اصبروا على الدين وتكاليفه، وصابروا أعداء الله في الجهاد، أي: غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل صبرا منهم وَرابِطُوا أي: أقيموا في الثغور مترصدين لقتال أعداء الله، أو رابطوا في المساجد مستعدين لحرب الشيطان وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بوراثة الجنة، ونيل رضوان الله. والفلاح: البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، وإنما قال: لَعَلَّكُمْ لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. ولنعد ذكر التشابه بين قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وبين قوله تعالى هنا في آخر آل عمران: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ*. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ولنلاحظ ذكر الإيمان بما أنزل علينا، وما أنزل من قبل، وذكر الفلاح لندرك ما كررناه من أن سورة آل عمران تفصيل لمحورها من سورة البقرة، وهي مقدمتها وماله علاقة مباشرة بهذه المقدمة من بقية سورة البقرة، ولكن على نسق جديد. وإذ انتهينا من هذا المقطع نحب أن نذكر أن فيه تصحيحا لمفاهيم، فهو من هذه الناحية استمرار لما قبله، ولأنه ختام القسم الثاني كله، وختام السورة فقد أدى أكثر من هدف.
فوائد
فوائد: 1 - روى ابن مردويه «أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون هلكت! قال: لم؟ قال: نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا وتدخل الجنة. فقال: بلى يا رسول الله، فعاش حميدا، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب». دل هذا على أنه ليس كل محبة للحمد تدخل في الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ... 2 - روى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه عن عطاء قال: «دخلت أنا، وعبد الله بن عمر، وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها، فسلمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟. قال: فقلنا: هذا عبد الله ابن عمر، وعبيد بن عمير، قالت: يا عبيد بن عمير ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غبا تزدد حبا، قالت، إنا لنحب زيارتك وغشيانك، قال عبد الله بن عمر: ... أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت، ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي، حتى لصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة: ائذني لي أتعبد لربي، قالت: إني لأحب قربك، وأحب هواك، قالت: فقام إلى قربة في البيت، فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه. قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حجره. قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ووضع يده تحت خده، قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر، ثم قال: الصلاة يا رسول الله، فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله: تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال: أفلا أكون عبدا شكورا!!، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ ... إلى قوله سبحانك فَقِنا عَذابَ النَّارِ ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها».
3 - وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... إلى آخر السورة (أي سورة آل عمران) ثم قال: «اللهم اجعل فى قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يدي نورا، ومن خلفي نورا، ومن تحتي نورا، وأعظم لي نورا يوم القيامة» قال ابن كثير: وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح. 4 - قالت أم سلمة يا رسول الله: لا نسمع الله ذكر النساء فى الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى .. رواه سعيد بن منصور وغيره. 5 - ثبت في الصحيحين أن رجلا قال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: نعم ثم قال: كيف قلت:؟ فأعاد عليه ما قال، فقال نعم إلا الذي قاله لي جبريل آنفا أي الدين. 6 - كان شداد بن أوس يقول: «أيها الناس لا تتهموا الله في قضائه فإنه لا يبغي على مؤمن، فإذا أنزل بأحدكم شيئا مما يحب فليحمد الله، وإذا أنزل به شيئا مما يكره فليصبر وليحتسب فإن الله عنده حسن الثواب». 7 - قال عبد الله بن عمر «إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا، كذلك لولدك عليك حق. 8 - قال أبو الدرداء: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ويقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. 9 - ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، فذكر منهم رجلا من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بي».
10 - قال الحسن البصري في تفسير قوله تعالى: اصْبِرُوا وَصابِرُوا أمروا أن يصبروا على دينهم الذى ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم. وأما المرابطة: فهي المداومة في مكان العبادة، لأنها رباط ضد الشيطان، وكذلك المرابطة على الثغور حماية لأهل الإسلام ضد أعداء الله. والمسلم إما أن يكون في مثل هذا، أو في مثل هذا. في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» رواه مسلم. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري قال عليه السلام «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها». وروى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» والمرابطة هاهنا، مرابطة الغزو في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين، وقد وردت فيه آثار كثيرة غير ما مر ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر». ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عثمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» وفي رواية ابن ماجه «من رابط ليلة في سبيل الله، كانت كألف ليلة قيامها وصيامها» وقال عليه السلام لرجل حرسهم ليلة حنين، «هل نزلت الليلة؟ قال: لا إلا مصليا أو قاضي حاجة، فقال له: أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها» رواه النسائي وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن غريب: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية
كلمة في القسم الخامس
الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» وروى البخاري في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع». كلمة في القسم الخامس التربية من خلال التنبيه على الخطأ سمة من سمات القرآن، ومن سمات التربية النبوية، فليس هناك خطأ يسكت عنه، ولكن لإصلاح الخطأ أسلوبه، فخطأ الجماعة، وخطأ الأفراد، كل ذلك كان يعالج بالأساليب المناسبة. ولقد كان جيل الصحابة، أعظم جيل رباني عرفه هذا العالم، إذ لم يكن الخطأ الجماعي يتكرر مرتين، ومن ثم نجد في القرآن دروس الحياة اليومية، فقد سجل القرآن كثيرا من وقائع الأحداث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والحادثة التي تسجل تؤخذ دروسها ضمن سياق السورة ومضمونها، وضمن السياق القرآني العام. نقول هذا بمناسبة الكلام عن غزوة بدر، أو غزوة أحد، أو غزوة حمراء الأسد التي تعرضت لها سورة آل عمران. لقد تعرضت السورة لصور من هذه الغزوات، وأعطت دروسها، ولكن ضمن السياق الخاص لسورة آل عمران، والسياق القرآني العام. فمثلا بدأ القسم الخامس بثلاث آيات فيها وعود من الله- عزّ وجل: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وفي هذا السياق تأتي صور من أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ .... فالآيات تأتي توكيدا لصدق موعود الله، ولكنها تبين من خلال سياقها أن هذه الوعود مشروطة بشروط نفهمها من خلال السياق، وذلك من رحمة الله- عزّ وجل- إذ أعطى الوعد صريحا، وعرفنا على الشروط ضمنا، فلنضع في حسابنا هذه النقطة ونحن نحاول فهم السياق. ونلاحظ بشكل عام أن القسم الخامس بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وانتهى بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بدأ
كلمة أخيرة في سورة آل عمران
بتبيان ما فيه الخسارة، وانتهى بتبيان ما فيه الفلاح، ودلنا فيما بين ذلك على ما يوضح قضية الخسران، وعلى ما به يتوصل إلى الفلاح. وقضية الفلاح والخسارة، واضحتان في مقدمة سورة البقرة، فالصلة بين القسم ومقدمة سورة البقرة واضحة. مما حدث يوم أحد أن تكشفت نقاط الضعف عند المؤمنين، وخفايا ما في قلوب المنافقين، سواء في ذلك ما حدث قبل المعركة أو بعدها، ومن خلال الواقع هذا المحس حرر الله- عزّ وجل- المسلمين من أخلاق الكافرين والمنافقين، ورفعهم إلى ما ينبغي لهم من كمالات إيمانية، مذكرا لهم بالنعم، مذكرا لهم بالرعاية، مذكرا لهم بسننه، كاشفا لهم عن خفايا قلوب الكافرين والمنافقين، من خلال ما يلمسونه، منبها لهم على ما سيواجهونه، معلما إياهم كيف يتعاملون مع آياته، وما يفعلون للوصول إلى جناته، محتقرين ما عليه الكافرون، عارفين لأهل الفضل فضلهم، وكل ذلك في سياق النهي عن طاعة الكافرين، ووجوب الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى، أي: في بداية المقطع وخاتمته. وصلة ذلك كله بمحور سورة آل عمران من البقرة لا تخفى، فمقدمة سورة البقرة وصفت المتقين والكافرين والمنافقين، وهاهنا يأتي مزيد تفصيل وبيان من خلال الواقع والحدث، تعمق قضية المفاصلة بين المسلمين والكافرين والمنافقين، وتميز الصف الإسلامي. كلمة أخيرة في سورة آل عمران: مر معنا الحديث «اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة». وعرفنا عن سورة البقرة، وسنعرف عنها ما ندرك به مصداق قوله عليه الصلاة والسلام فيها «إن كادت لتستحصي الدين كله». فكل المعاني القرآنية تنبثق عن معان أجملت فيها، وسورة آل عمران تفصل في الأصل الذي تتفرع عنه الأشياء. فإذا كانت مقدمة سورة البقرة فصلت في التقوى والكفر والنفاق، فإن سورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة. ومعرفة قضية الكفر والنفاق والتقوى هي التي عنها تتفرع كل الأمور الأخرى. ومقدمة الشئ تشير إلى مضمونه، ومن ثم فإن المعاني التي جاءت في سورة البقرة كلها مرتبطة بالمقدمة بشكل ما، فمثلا جاءت آيات الإنفاق في أواخر السورة وهي تفصيل لقوله تعالى في المقدمة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وجاء قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ
مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ في خاتمة السورة، وهي تفصيل لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ في المقدمة. وجاء حوار طويل مع أهل الكتاب، وذلك مرتبط بقوله تعالى في مقدمة البقرة. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ولقد جاءت سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها الأكثر لصوقا بمضمونها المباشر. فكان محلها بالنسبة لسورة البقرة أنها وإياها الزهراوان المضيئتان للإنسان الطريق، فمن لم يعرف سورة البقرة وآل عمران فإنه يفوته علم كثير، وفهم غزير. - لقد اقتضى السياق الخاص لسورة البقرة أن يكون ترتيب معانيها على ما هو عليه، ولكن المقدمة تحتاج معانيها إلى بيان، وتفصيل خاص، ومن ثم جاءت سورة آل عمران لتشد المعاني المبثوثة في سورة البقرة، مما يحتاجه تفصيل مقدمتها إلى معاني المقدمة وتكون سورة آل عمران هي التفصيل والعرض لذلك كله. - اقتضت حكمة الله أن يجعل الكلام عن حياة الله وقيوميته بين آيات الإنفاق في سورة البقرة. وجاء الكلام عن الاهتداء بالقرآن لحكمة في مقدمة سورة البقرة. وجاءت سورة آل عمران لتبين أن مقتضى اتصاف الله- عزّ وجل- بالقيومية، أن ينزل الكتاب. وهكذا فصلت المعاني المرتبطة بمقدمة سورة البقرة، وربطت ببعضها، وأعطيت مداها في سورة آل عمران ضمن سياق خاص فمثلا: - قرر النسخ في سورة البقرة ولم يأتنا مثال عليه، وجاء عليه مثال في سورة آل عمران. - بعد أن ذكر الله عزّ وجل آياته في الكون إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ... في سورة البقرة قال إن في ذلك لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وفي سورة آل عمران جاء التفصيل فيمن هم أصحاب العقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ .... - وفي الكلام عن بني إسرائيل في سورة البقرة عرفنا أن أهل الكتاب نسبوا لله
الولد، وجاءت سورة آل عمران لتحدثنا عن تفصيلات قصة عيسى عليه السلام، وهكذا قل في أمور كثيرة رأيناها أثناء عرض السورة. - في قضية الاهتداء بالكتاب فصلت سورة آل عمران، فعرفنا أن الاهتداء الكامل بالكتاب هو لأولي الألباب، وعرفنا من هم أولو الألباب في السورة، وعرفنا أن الاهتداء بالكتاب يدخل فيه التسليم للمتشابه، والعمل بالمحكم. وفي قضية الإيمان بالغيب عرفنا أن كل ما أخبرنا الله- عزّ وجل- عنه من أمور الماضين يدخل في الإيمان بالغيب. وفي قضية الإيمان بالكتاب كله، هذا الكتاب الذي أنزل علينا، والكتاب الذي أنزل من قبل عرفنا تفصيل ذلك: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وفي قضية الإيمان بالآخرة زادنا الله تفصيلا في سورة آل عمران، وفي موضوع الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين زادتنا سورة آل عمران تفصيلا. وفي أن هذا كله دين الله، وأن دين الله هو الإسلام، وأن الله لا يقبل غيره، فصلت السورة. وفي طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين وغيرهم، فصلت السورة، وفيما تتحقق به التقوى، ويتم به الفلاح فصلت السورة، وكل ذلك له صلة بمقدمة سورة البقرة. ولئن فصلت سورة آل عمران في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها، فإن سورة النساء ستفصل في الآيات الأولى من المقطع الأول الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة. وكما أنه بعد مقدمة سورة البقرة يأتي نداء لكل الناس. يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فإن سورة النساء تبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ... فلننتقل إلى سورة النساء.
سورة النساء
سورة النساء وهي السورة الرابعة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة قسم الطوال وآياتها مائة وست وسبعون وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم
كلمة في سورة النساء
كلمة في سورة النساء: يقول صاحب الظلال: «هذه السورة مدنية، وهي أطول سور القرآن. بعد سورة البقرة، وترتيبها في النزول بعد الممتحنة، التي تقول الروايات: إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة. ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول- كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول- ليس قطعيا. كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد. فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة؛ ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها. والسورة الواحدة- على هذا- كانت تظل «مفتوحة» فترة من الزمان تطول أو تقصر. وقد تمتد عدة سنوات. وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن. وكذلك الشأن في هذه السورة. فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك. ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة. والمنتظر- على كل حال- أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية، إلى ما بعد السنة الثامنة، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة. ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ؛ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا .. فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة (أو في السنة الرابعة على رواية) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: «خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا .. » إلخ وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور. وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب.
وعلى النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة» اهـ. ويقول الألوسي عن وجه مناسبة مجيء سورة النساء بعد آل عمران: (ووجه مناسبتها لآل عمران أمور، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف وقوم يسمونه بالتسبيغ، وذلك كقول ليلى الأخيلية: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة … تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها … غلام إذا هز القناة رواها رواها فأرواها بشرب سجالها … دماء رجال حيث نال حشاها ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة، وفي هذه السورة ذكر ذيلها، وهو قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه- إن شاء الله تعالى- مرويا عن البخاري، ومسلم، وغيرهما. ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الخ .. وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الآية. وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب في التأخير، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك) اهـ. أقول: ما قاله الألوسي عن صلة آل عمران بسورة النساء نموذج لأقوال المفسرين حول الصلات بين السور، من محاولة ربط بين نهاية السور السابقة وبداية السور اللاحقة أو محاولة بحث عن وحدة موضوعية بين مواضيع السور عامة، والشئ الذي نحاول التدليل عليه في هذا التفسير هو أن الصلة بين السور تنتظمها قواعد أخرى وفيها أسرار أدق، وسيتضح هذا من خلال هذا التفسير، وقد لا ينتهي القارئ من قراءة ما ذكرناه حول السبع الطوال إلا ويتيقن ذلك وسيزداد يقينا كلما سار في هذا التفسير إن شاء الله. لقد رأينا أن الآيات الأولى في سورة البقرة بدأت ب الم وانتهت بقوله تعالى وَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وأن سورة آل عمران بدأت بقوله تعالى: الم وانتهت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ونلاحظ أنه بعد مقدمة سورة البقرة جاء المقطع الأول من القسم الأول فيها، وقد بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وانتهى بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ونلاحظ أن سورة النساء بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وانتهت بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وسنرى أنه كما أن سورة آل عمران فصلت في الآيات الأولى من سورة البقرة وما يتبعها من مقدمة سورة البقرة وما هو الألصق بمقدمة سورة البقرة، فإن سورة النساء تفصل في الآيات الأولى من المقطع الذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة وتفصل في امتدادات هذا المحور من سورة البقرة. إنه بعد مقدمة سورة البقرة، يأتي المقطع الأول، من القسم الأول من سورة البقرة، وقد أسميناه: مقطع الطريقين. وسنرى أنه ستفصل فيه سورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام، وستأتي سورة الأعراف لتفصل بعد ذلك في مقطع قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، وهذا شئ سنراه إن شاء الله تعالى. وسنجد- بإذن الله- أن سورتي المائدة والأنعام تفصلان في الآيات الأربع الأخيرة من مقطع الطريقين. فالمائدة تفصل في الآيتين الأوليين منها، والأنعام تفصل في الآيتين الأخيرتين منها. أما سورة النساء فهي تفصل فيما قبل ذلك من المقطع، مع أنها تضع الأساس لتفصيل السورتين بعدها، فهي تفصل في محور رئيسي له ارتباطاته المباشرة بآيات وله امتداداته في سورة البقرة، إن محورها الرئيسي من مقطع الطريقين هو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. إن سورة النساء تفصل في هذا المحور كما سنرى إن شاء الله. فهي توضح ما يدخل في التقوى، وتوضح الطريق إليها، وتوضح قضية الإيمان والعمل الصالح، وتوضح قضية الموقف من القرآن، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإنها مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ. ونجد في أحد مقاطعها: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. ونجد في أحد مقاطعها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. إنها تفصل في هذا المحور. ولكنه تفصيل على غير ما اعتاده البشر، وما ألفوه، إنه تفصيل معجز وهي كما تفصل في هذا المحور، تفصل في امتدادات معانيه في سورة البقرة، وتفصل في ارتباطاته. فالوصية المفروضة على المتقين في سورة البقرة، تأتي هاهنا تفصيلاتها. والقتال المفروض على المتقين في سورة البقرة تأتي هاهنا تفصيلات في شأنه. والسورة- وهي تفصل في محورها من البقرة، وامتدادات معانيه- لها سياقها الخاص، وروحها الخاصة. وسورة النساء نزلت في المدينة كما ذكر العوفي عن ابن عباس. وهي إذ كانت تفصيلا للطريق إلى التقوى، وتوضيحا لماهية التقوى، وما يدخل فيها. فإنها تأتي بعد سورة آل عمران التي وضعت الأساس للتلقي. وهما جاءا بعد سورة البقرة التي وضعت الأساس للفهم والعمل، تتألف السورة من ثلاثة عشر مقطعا. لكل مقطع منها وحدته. ويربط بين المقطع السابق واللاحق روابط، ويربط بين مقاطع السورة كلها روابط متعددة، والسورة بمجموعها تشكل كلا متكاملا، وهي بمجموعها تأخذ
المقطع الأول من سورة النساء
مكانها بين السورة السابقة واللاحقة وتأخذ مكانها بين قسمها ضمن سياق قرآني عام كل آية فيه مشدودة إلى أصل جامع. ولا نحب أن نطيل كثيرا هنا لرغبتنا في التفصيل إذا جاء مقامه فلنبدأ عرض المقطع الأول: المقطع الأول من سورة النساء وهو من الآية (1) إلى نهاية الآية (18) حيث يجيء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
[سورة النساء (4): آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) *** [سورة النساء (4): الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) *** [سورة النساء (4): الآيات 11 الى 14] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
*** [سورة النساء (4): الآيات 15 الى 17] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): آية 18] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) كلمة في المقطع: طالبنا المقطع بالتقوى. ثم طالبنا بما هو من مقتضياتها. ومن ذلك: إعطاء اليتامى أموالهم، وترك زواج اليتيمات إذا خشي ظلمهن، وأن الزواج مقيد في حدود الأربع في حالة العدل، والواحدة إذا كان التعدد يؤدي إلى ظلم، ووجوب إعطاء المرأة حقها، وحكم مال اليتيم إذا بلغ غير رشيد، ووجوب إعطائه ماله إذا بلغ رشيدا، ومتى يحل للوصي أن يأكل من مال اليتيم، وما حدود ذلك؟ وأعطانا المقطع. قاعدة في قضية الإرث، وحذرنا من الاعتداء على مال اليتيم، ثم فصل في موضوع الإرث، وبين ما ينبغي فعله مع الزناة، وما يجب عليهم أن يفعلوه. فالمقطع يفصل في ما يدخل في التقوى. ولذلك نلاحظ أنه بعد الأمر بالتقوى تأتي هذه الأوامر، والنواهي، والتفصيلات. فكأن مقتضى التقوى ذلك. وصلة ذلك بمحور السورة من البقرة لا تخفى. فالمحور يدعو إلى العبادة، كطريق للتقوى. وهذا المقطع يفصل لنا ماذا يدخل في التقوى من أمور ينبغي أن تراعى. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. المعنى العام: يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه، وهي أثر عبادته وحده، لا شريك له، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام. وخلق منها زوجها حواء عليها السلام. خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه، وهو نائم. فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه وذرأ من آدم وحواء. رجالا كثيرا
المعنى الحرفي
ونساء. ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم. وألوانهم ولغاتهم. ثم كرر الله- عزّ وجل- الأمر بتقواه وهو الذي يسأل الناس بعضهم بعضا به وبأرحامهم، أو أنه كرر الأمر بتقواه ليجمع معها الأمر باتقاء قطيعة الرحم. وختم الله الآية بتبيان أنه تعالى مراقب لجميع أحوالنا، وأعمالنا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا النَّاسُ. أي: يا بني آدم. اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. أي: فرعكم من أصل واحد. وهو نفس آدم أبيكم. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها. أي: حواء خلقها من ضلع من أضلاعه، وأنشأ آدم من تراب، وخلق منه زوجته، ثم شعب الناس منهما. وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. أي: نشر من آدم وحواء رجالا كثيرا، ونساء كثيرات. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. أي: واتقوا الله الذي تتساءلون به، وتتساءلون بأرحامكم. كقول القائل: أسألك بالله، وبالرحم. ويمكن أن يفهم الأمر فهما آخر، وهو: واتقوا الله، واتقوا الأرحام. والمعنى: واتقوا الله الذي تتعاقدون به، وتتعاهدون، وتتساءلون به، لطاعتكم إياه. واتقوا الأرحام أن تقطعوها. ولكن بروها، وصلوها. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. أي: إن الله مراقب لجميع أحوالكم، وأعمالكم. وفي الرقيب معنى الحفظ والعلم. وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. فوائد: 1 - قال الألوسي عند قوله تعالى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. «والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد، وهو أبو البشر. وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال: لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم! بلى، والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك
الآدميين، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج- ونقل عن محمد بن علي الباقر- أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر، وذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره، وفي كتاب الخصائص ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث روي فيه عن الصادق أنه قال: «إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين، ما يرى عالم منهم أن لله- عزّ وجل- عالما غيرهم، وإني للحجة عليهم»، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فمما لا يراه أهل السنة والجماعة، نعم إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين، كالملائكة، والجن، وكثير من الحيوانات، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى، لا بخلق أمثاله، وهو حادث نوعا وشخصا، خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان، وذهب الكثيرون إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة، وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، ورووا أخبارا كثيرة في ذلك، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن، وأما أنه متى كان فمما لا يعلمه إلا الله تعالى، والأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها» اهـ. أقول: يحتاج هذا الكلام إلى كتاب كامل لمناقشته فليقرأه القارئ على حذر، وإنما نقلته لسبب واحد هو: أنه قبل نظريات التطور الحديثة وجد في مقالات الإسلاميين ما يشير إلى أن جنسنا البشري الحالي مسبوق بمثله، أو شبيهه، مع الجزم بأننا من أبينا آدم، ومع الجزم بأن آدم خلق خلقا مباشرا، ولم يوجد أثرا عن تطور، ومع الجزم بأنه إن كانت هناك مخلوقات شبه الإنسان الحالي قبل آدمنا عليه السلام، فإنها لا صلة لها بإنساننا الحالي من حيث التوالد أو الوجود، ومع الجزم بأنه لا توجد نصوص صحيحة أو قطعية في هذا الموضوع ولذلك فنحن نسجلها لاحتمال أن يستفيد منها الباحثون عن المستحسات لقوله تعالى قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (سورة العنكبوت) 2 - في الحديث الصحيح: «إن المرأة خلقت من ضلع. وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه. فإن ذهبت تقيمه، كسرته. وإن استمتعت بها، استمتعت بها وفيها عوج». في الحديث أمر بالرفق بالمرأة. وفيه دليل على كيفية خلق أمنا حواء من أبينا آدم عليهما السلام. قال ابن عباس: (خلقت المرأة من الرجل. فجعلت نهمتها في الرجل. وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض. فاحبسوا نساءكم).
كلمة في السياق
رواه ابن أبي حاتم. وهذا الأثر عن ابن عباس يؤكد أن هناك فهما وحيدا لآية وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها هو الذي تدل عليه النصوص والآثار، وقد رد الألوسي على بعض المتحذلقين في هذا المقام فقال: «والقول بأنه: أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه: إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي، لا على سبيل التوالد- كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك- ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة، لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه- كما أنه قادر على خلق آدم من التراب- هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب» اهـ. 3 - وبمناسبة ذكر الأرحام في قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ يقول الألوسي: وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة». والأخبار في هذا الباب كثيرة، والمراد بالرحم: الأرقاب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد، ويطلق على الأقارب من جهة النساء، وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا. كلمة في السياق: قلنا إن محور سورة النساء من البقرة الآيات الخمس الأولى من مقطع الطريقين فلنلاحظ: أن الآية الأولى من المحور هي يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وأن الآية الأولى في سورة النساء بدأت ب يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ألا ترى التشابه كاملا بين البدايتين، مع زيادة تفصيل في سورة النساء في حيثية من الحيثيات، حتى الألفاظ تكاد تكون متشابهة يا أَيُّهَا النَّاسُ،
المعنى العام
خَلَقَكُمْ، اتَّقُوا ..... تَتَّقُونَ.* .. وهكذا نرى أنه من الآية الأولى قد تحدد إلى حد كبير محور سورة النساء من سورة البقرة، وهو موضوع سنتعرض له كثيرا. بدأت السورة بالأمر بالتقوى، والتذكير بأننا مخلوقون من نفس واحدة ابتداء، سواء في ذلك رجالنا ونساؤنا، ثم كررت الآية الأولى الأمر بتقوى الله، وأمرت باتقاء الأرحام، وذكرت برقابة الله علينا، وسنرى أنه بعد هذه الآية تأتي أوامر بإيتاء اليتامى أموالهم وإيتاء النساء مهورهن. ألا ترى أن الصلة واضحة بين الآية الأولى وما جاء بعدها مباشرة، أليس التذكير بوحدة الأصل يثير العطف والرحمة والشفقة، ويهيج على أداء الحقوق، أليس التذكير برقابة الله يبعث على الرحمة بالضعيف، واليتيم والمرأة في العادة ضعيفان. وهكذا تبدأ السورة سياقها الخاص مع تفصيلها لمحورها من سورة البقرة، ومن خلال تفصيلها لمحورها نعرف من الآيات الأولى في سورة النساء أن مما يدخل في حقيقة التقوى: القيام بصلة الأرحام، والقيام بحق اليتيم، والحذر من ظلمه أو غبنه إذ لا تظهر تقوى الله، كما تظهر في معاملة الضعيف بالعدل. حيث لا يخشى الإنسان بشرا، ولنمض في تفسير المقطع الأول. وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً* وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا* وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. المعنى العام: يأمر تعالى في هذه الآيات، أن تدفع أموال اليتامى إليهم- إذا بلغوا الحلم- كاملة موفرة. ونهى أن يستبدل الإنسان الحلال بالحرام. كما نهى أن تؤكل أموال اليتامى بضمها، وخلطها إلى أموال الأوصياء ثم أكلها. فإن هذا ذنب كبير، يتنافى مع التقوى. ثم نهى عن حالة من حالات ظلم اليتامى. وهي حالة ما إذا كانت تحت حجر أحدنا يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها في حالة تزوجها فإن الله- عزّ وجل- نهاه عن تزوجها في هذه الحالة. وندبه إلى العدول إلى ما سواها من النساء، فإنهن
المعنى الحرفي
كثيرات. ولم يضيق الله عليه في ذلك. بل وسع عليه أن يتزوج حتى الأربع من النساء. وذلك من أجل أن لا يقع ظلم. ثم أمر أن تعطى المرأة مهرها، فريضة واجبة على الرجل. فإن طابت هي له- بعد تسميته- عنه، أو عن شئ منه فليأكله حلالا، طيبا له. وعلى هذا فإننا نفهم من السياق أن من قضايا التقوى الرئيسية، عدم ظلم اليتامى، وخاصة إذا كن نساء. والاقتصار في الزواج على أربع، وإعطاء المرأة مهرها، وعدم الاعتداء عليه. فإعطاء الحق لليتيم والمرأة من أول مظاهر التقوى. ومن ثم صدرت سورة النساء بهذا الموضوع. المعنى الحرفي: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ. اليتم في اللغة: الانفراد. وفي الشريعة: من مات أبوه، فانفرد عنه. وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار. لبقاء معنى الانفراد عن الآباء. إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال. فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم. قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد الحلم». يعني إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. ومعنى النص: آتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ. وسماهم يتامى مع أنه لا يتم بعد حلم، لقرب عهدهم بالصغر. وفيه إشارة إلى أنه لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، إن أنس منهم الرشد. وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار بحكم الاستمرار، وذلك بمجرد البلوغ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. أي: ولا تستبدلوا الحرام- وهو مال اليتامى- بالحلال: وهو مالكم، أو تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. وقال سفيان الثوري عن أبي صالح في تفسيرها: (لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك). وقال السدي: (كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة. ويقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف ويقول: درهم بدرهم). وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. أي: لا تخلطوها فتأكلوها جميعا، أو تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم، قلة مبالاة بما لا يحل لكم وتسوية بينه وبين الحلال. إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً. أي: إن أكلها كان ذنبا عظيما. فالحوب: هو الإثم. والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم، وخطأ كبير
[سورة النساء (4): آية 3]
فاجتنبوه. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى. أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في الإناث اليتامى، لأن كلمة اليتامى جمع ليتيم ويتيمة. والمراد بها هنا النساء. فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. أي: فانكحوا ما حل لكم من النساء ثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا. فصار معنى ما مر من الآية. أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها. فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثيرات. ولم يضيق الله عليه. فانكحوا ما شئتم من النساء سواهن، إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي: فإن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد. أو إن خفتم تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن فالزموا، أو اختاروا أن تقتصروا على واحدة، أو على الجواري. أي فليقتصر من خاف الجور على واحدة، أو على الجواري السراري. فإنه لا يجب قسم بينهن، بل يستحب. فمن فعل، فحسن. ومن لا، فلا حرج. وسوى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. أي: اختيار الواحدة أو التسري أقرب من ألا تميلوا ولا تجوروا، يقال: عال الحاكم في حكمه، إذا جار. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. الصدقات: المهور. والنحلة: العطية. وفسرها كثيرون بالفريضة، والواجب. والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء. لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم كما يفعل كثير من الأعراب في عصرنا من أخذ المهر، أو بعضه. والمعنى: أعطوا النساء مهورهن طيبة بذلك أنفسكم. والأمر هنا للوجوب. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً. فإن طاب الزوجات للأزواج عن شئ من الصداق. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. أي: فكلوا ما وهبنه لكم أكلا هنيئا لا إثم فيه، أو هنيئا في الدنيا لا يطالبكم به أحد. مريئا- أي سائغا- لا تنغيص فيه ولا تبعة. والتعبير يفيد المبالغة في الإباحة، وإزالة التبعة. والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصدقات. وتجافت عنه نفوسهن طيبات، لا بسبب منكم تضطروهن به إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم، فعندئذ فكلوه سائغا، لا تنغيص فيه. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ. ولم يقل، فإن وهبن لكم. إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب، طيبة نفسها بذلك.
فوائد
فوائد: 1 - قال الفقهاء: يحرم الزواج بأكثر من واحدة، إذا تأكد من نفسه الجور. فإن ظن من نفسه ولم يتأكد، كره له كراهة تحريمية، أن يتزوج بأكثر من واحدة. وأما الزواج من واحدة، فسنة عند اعتدال الشهوة. فإن تاقت نفسه إلى الجماع، فواجب. فإن خشي على نفسه الزنا أو اللواط إن لم يتزوج، أصبح الزواج فريضة. 2 - معنى قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. أي: ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. كقول القائل: اقتسموا هذا الألف: درهمين درهمين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. فكان الخطاب بذلك ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له. وجيء بالواو؛ لتدل على تجويز الجمع حتى الأربع. ولو جئ ب (أو) في هذا المقام، لما فهم هذا الفهم. وقصر الجمع على الأربع مفهوم من هذه الآية، لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال الشافعي: «وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن رسول الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة» وهذا الذي قاله الشافعي، مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة، أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع، إلى تسع. وقال بعضهم: بلا حصر. وهو مذهب مرذول، فاسد، منقوض بنص القرآن، وصحيح السنة، وإجماع الأمة. وأما ما ذكره أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن، بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. فذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وما ورد في السنة يفيد وجوب الاقتصار على أربع، من ذلك ما رواه أبو داود، وغيره بإسناد حسن أن عميرة الأسدي قال: أسلمت، وعندي ثمان نسوة. فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهن أربعا». وقد حدث مثل هذا لأكثر من واحد كان عنده أكثر من أربع، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم باختيار الأربع وتطليق ما زاد على ذلك، قال ابن كثير بعد ما ذكر أكثر من حديث في هذا الباب: «دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال. فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى». 3 - مما فسرت به كلمة النحلة في الآية: الديانة. وعلى هذا يكون المعنى: وآتوا النساء مهورهن ديانة. ولكن ما ذكرناه هناك أقوى والنتيجة واحدة.
4 - وفسر الشافعي قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا: بمعنى ألا تكثر عيالكم، فتفتقروا فتضطروا إلى ترك الورع. لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم. وفي كثرة العيال ما يصعب معه المحافظة على حدود الورع، وكسب الحلال. قال ابن كثير: وليس ما مر كلامه، ولكنه ذكر هذا التفسير وعلق عليه بقوله: ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر!. فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا، والصحيح قول الجمهور ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. أي: ألا تجوروا. 5 - روى البخاري عن عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى .. قالت: «يا ابن أختي: تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن». 6 - وفي حكمة إباحة تعدد الزوجات في الشريعة يقول صاحب الظلال: «إن الإسلام نظام للإنسان. نظام واقعي إيجابي. يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال. إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقعه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة في غير إنكار لفطرته أو تنكر؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف!. إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التظرف المائع؛ ولا على «المثالية» الفارغة؛ ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء. وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل يتوخى دائما أن ينشئ واقعا يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع. فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات ... فماذا نرى؟
نرى .. أولا .. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة- تاريخية وحاضرة- تبدو فيها زيادة النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج .. والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيا أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد. وهو يدور دائما في حدودها. فكيف يعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة. هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟! إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري!. ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء. وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: 1 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج ... ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها- أو حياتهن- لا تعرف الرجال! 2 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيا نظيفا. ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال. فيعرفن الرجل خدينا أو خليلا في الحرام والظلام! 3 - أن يتزوج الرجال الصالحون- كلهم أو بعضهم- أكثر من واحدة. وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام! الاحتمال الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال. ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب. فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون، المتحذلقون، المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان. وألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية .. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والأنس بالعشير ... والرجل يجد العمل ويجد الكسب؛ ولكن هذا لا يكفيه؛ فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة
كالرجل- في هذا- فهما من نفس واحدة! والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف؛ وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية. والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله، ويتطاولون على شريعته، لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول. بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير. والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام. يختاره رخصة مقيدة. لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين، ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء. يختاره متمشيا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو- بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة. ولكن في يسر ولين وواقعية. ثم نرى ... ثانيا .. في المجتمعات الإنسانية. قديما وحديثا. وبالأمس واليوم والغد إلى آخر الزمان. واقعا في حياة الناس، لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله. نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها. فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة. وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما، امتدادات الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار. فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال. ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع- الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال- هذه الرخصة- لا على سبيل الإلزام الفردي، ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري، ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء .. وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائما في التشريع الإلهي. لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية، لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له، ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة، ولا تنظر من جميع الزوايا، ولا تراعي جميع الاحتمالات. ومن الحالات الواقعية- المرتبطة بالحقيقة السالفة- ما نراه أحيانا من رغبة الزوج في
أداء الوظيفة الفطرية، مع رغبة الزوجة عنها- لعائق من السن أو من المرض- مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال- فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟ نواجهها بهز الكتفين؛ وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار؟! أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟ إن هز الكتفين- كما قلنا- لا يحل مشكلة. والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية، ومشكلاتها الحقيقية. وعندئذ نجد أنفسنا- مرة أخرى- أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: 1 - أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان! ونقول له: عيب يا رجل! إن هذا لا يليق، ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها! 2 - أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء! 3 - أن نبيح لهذا الرجل التعدد- وفق ضرورات الحال- ونتوقى طلاق الزوجة الأولى ... الاحتمال الأول ضد الفطرة، وفوق الطاقة، وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي، وثمرته القريبة- إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان- هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت، ومعاناة جحيم هذه الحياة .. وهذا ما يكرهه الإسلام، الذي يجعل من البيت سكنا، ومن الزوجة أنسا ولباسا. والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي، وضد منهجه في ترقية الحياة البشرة، ورفعها وتطهيرها وتزكيتها، كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان. والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية، ويلبي منهج الإسلام الخلقي، ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية، ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما، وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية. وشئ كهذا يقع في حالة عقم الزوجة، مع رغبة الزوج الفطرية في النسل. حيث
ولنعد إلى السياق
يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما: 1 - أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل. 2 - أو أن يتزوج بأخرى، ويبقى على عشرته مع الزوجة الأولى. وقد يهذر قوم من المتحذلقين- ومن المتحذلقات- بإيثار الطريق الأول. ولكن تسعا وتسعين زوجة- على الأقل- من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى ما يشير على الزوج بهذا الطريق! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور- فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغبا في الزواج- وكثيرا ما تجد الزوجة العاقر أنسا واسترواحا في الأطفال الصغار، تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها، فيملئون عليها الدار حركة وبهجة أيا كان ابتئاسها لحرمانها الخاص. وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية، التي لا تصغي للحذلقة، ولا تستجيب للهذر، ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم ... وجدنا مظاهر الحكمة العلوية، في سن هذه الرخصة مقيدة بذلك القيد: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ- مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. فالرخصة تلبي واقع الفطرة، وواقع الحياة؛ وتحمي المجتمع من الجنوح- تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة- إلى الانحلال أو الملال. والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى، والاختلال، ويحمي الزوجة من الجور والظلم ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل. ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة» اهـ. ولنعد إلى السياق: فبعد أن أمرنا الله- عزّ وجل- أن نؤتي اليتامى أموالهم وحقوقهم تأتي آية تنهانا أن نؤتي اليتامى أموالهم إذا كانوا سفهاء فكما أنه من التقوى أن ندفع لليتيم حقه كاملا، فإن من التقوى ألا نسلمه ماله إذا كان سفيها. أي: غير رشيد في أمر المال. قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
المعنى الحرفي
المعنى العام: نهى الله- عزّ وجل- عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياما، أي: تقوم بها معايشهم، من التجارات وغيرها، مع الأمر بالإحسان إلى من تحت الحجر بالإنفاق في الكساء والأرزاق وبالكلام الطيب وتحسين الأخلاق. المعنى الحرفي: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ: الخطاب للأولياء. وأضاف الأموال إليهم، لأنهم يلونها، ويمسكونها. أو الخطاب للأمة، وإضافة الأموال إليها مع أن المال ملك للسفيه للإشعار بأن سوء تصرف الفرد في ماله، أو حسن تصرفه فيه، ينعكس أثره على الجميع. ومن ثم كان مال الأفراد مالا للأمة، وهي مسئولة عن حسن تصرف كل فرد فيها بما يملك. والسفيه هنا: هو غير الرشيد في أمر المال. ويدخل فيه المبذر الذي ينفق ماله فيما لا ينبغي. ويدخل فيه العاجز عن تثميره، والتصرف فيه، وإصلاحه. ومن السياق مما قبل هذه الآية، وما بعدها، نفهم أن السفيه هنا، هو اليتيم الذي يبلغ غير رشيد في أمر المال. ولكن يدخل معه غيره ممن هو على مثل شأنه. ومن هنا أخذ الفقهاء مبدأ الحجر، والحجر تارة يكون للصغر، فإن الصغير يكون مسلوب العبارة. وتارة يكون للجنون. وتارة يكون لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين. وتارة يكون للإفلاس. وهو ما إذا أحاطت الديون برجل، وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه. الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. أي: قواما لأبدانكم، ومعاشا لأهلكم وأولادكم. فالمال به قيام الحياة البشرية. وإذا كان المال له مثل هذه الأهمية في الحياة البشرية، فينبغي عدم التفريط فيه. ولو بتسليم المال إلى غير صاحبه إذا كان صاحبه ليس رشيدا في أمر التصرف فيه. قال ابن كثير في تفسير قِياماً. (أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها). وَارْزُقُوهُمْ فِيها. أي: وارزقوا السفهاء في هذه الأموال، بأن تتجروا فيها وتشغلوها. فيكون لهم رزق من ذلك. قال النسفي: (واجعلوها مكانا لرزقهم، بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق، فما أعظم هذا القرآن، إذ بهذا التعبير القصير أمرنا بالإنفاق عليهم، وأمرنا بتثمير مالهم لهم وَاكْسُوهُمْ الأمر بالكساء هنا دل على أن الأمر السابق فيه تضمن الإطعام والإنفاق. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً. أي: وعدوهم عدة جميلة، كالقول لهم:
فوائد
إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وهذا يفيد أنه لا ينبغي أن يرافق الحجر قسوة من الولي، لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة، قد تبلغ حد العداء والجريمة. والمعروف هو كل ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل، والمنكر ما أنكرته لقبحه. فوائد: 1 - رأينا أكثر من مرة في هذا التفسير كيف أن معاني هذا القرآن لا تنتهي بسبب أن بعض معانيه تؤخذ من السياق الجزئي، وبعضها من السياق العام، وبعضها من النص الحرفي، ويتولد عن كل من هذه معان يعضد بعضها بعضا، بالشكل الذي لا يحيط به إلا منزله وهو الله تعالى. ويتفاوت الناس في الفهم، وهذه الآية تصلح شاهدا على هذا كله. فمن السياق فهمنا أن المراد بالسفيه اليتيم. ومن السياق فهمنا أن الخطاب هنا للولي. ومن النص يدخل في النهي كثير، ومن ثم قال ابن عباس وابن مسعود وكثير في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ هم النساء والصبيان. قال أبو هريرة: هم الخدم- أي العبيد- وفسرها أبو موسى: بإعطاء المال لسفيه، أي هبة أو صدقة. واختلاف الأقوال مرجعها إلى دقة الملحظ ومأخذه، والجميع داخل في الآية، وإن كان المراد الرئيسي هو ما ذكرناه أثناء الشرح الحرفي. ولكن غيره يدخل فيه فلننتبه إليه، كان ابن عباس يقول أخذا من الآية: «لا تعمد إلى مالك وما خولك الله، وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك، أو بنتك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومئونتهم ورزقهم». 2 - بمناسبة قوله تعالى أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قال النسفي «وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان- وكان له بضاعة يقلبها- لولاها لتمندل بي بنو العباس» ونقول: هذه الآية بينت لنا أهمية المال في الحياة البشرية، ولذلك نلاحظ الآن عالميا، أن ميزان التقدم الذي ارتضاه العالم لنفسه، هو مقدار التقدم الاقتصادي، ومقدار دخل الفرد الواحد من مجموع الأمة، ولئن كان في ذلك نوع غلو، إلا أن الآية بينت لنا الأهمية الكبرى للمال في شئون الحياة البشرية. ومن ثم فإن الدولة المسلمة ينبغي أن
المعنى العام
تكون حريصة على أن يكون دخل كل فرد في الأمة مرتفعا، وأن تحرص على أن يكون تصرف كل فرد في الأمة في ماله تصرفا صحيحا، من خلال القضاء، والتربية، والتوعية، والمؤسسات، والتنظيم. وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. المعنى العام: يأمر تعالى باختبار الأيتام قبل البلوغ، فإذا بلغوا مصلحين لدينهم وأموالهم، انفك الحجر عنهم، فتسلم إليهم أموالهم التي تحت يد أوليائهم، ونهى الله- عزّ وجل- هؤلاء الأولياء أن يأكلوا أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية، بالإسراف فيها، والمبادرة بإنفاقها قبل بلوغهم. ثم أذن الله لولي اليتيم إن كان محتاجا، أن يأكل بقدر حاجته. ثم أمر تعالى، أنه في حالة البلوغ، وإيناس الرشد، ودفع الأموال إلى أصحابها: أمر بالإشهاد عليهم، لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه. وختم الله- عزّ وجل- الآية بالتذكير بالله خير الشهداء والرقباء والمحاسبين ليتذكر الأولياء في حال نظرهم للأيتام. وحال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مبخوسة مزور حسابها، أو مدلس أمرها؟ الله عالم بذلك كله. المعنى الحرفي: وَابْتَلُوا الْيَتامى. أي: واختبروهم، أي اختبروا عقولهم، وزنوا أحوالهم، ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ. وقال النسفي: فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجئ منه. وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة. حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ. أي: الحلم، لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد. قال الجمهور من العلماء: البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن ينزل في منامه الماء الدافق الذي يكون منه الولد، والعبرة في هذه الحالة للنزول في المنام أو في غيره. وتارة يكون بالسن وهو خمس عشرة سنة قمرية. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً. أي: فإن تبينتم منهم هداية في التصرفات، وصلاحا في المعاملات. وتنكير الرشد يفيد: أن المراد رشد مخصوص، وهو الرشد في التصرف
فوائد
والتجارة. أو يفيد التقليل، أي: طرفا من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فالمراد بالرشد على هذا الاتجاه- وهو اتجاه الحنفية- مجرد القدرة على التصرف الرشيد في شأن المال، وليس غير ذلك. وقال سعيد بن جبير في تفسير الرشد: صلاحا في دينهم، وحفظا لأموالهم، فوسع دائرة الرشد. فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ. أي: فسلموا إليهم أموالهم التي تحت أيديكم. والأمر للأوصياء والأولياء. ويفهم من الآية: أن الابتلاء يكون قبل البلوغ، فإذا كان البلوغ، وأونس الرشد فلا يتأخر عن دفع الأموال إليهم. فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت الرشد منهم، وهذا يقتضي تدريب اليتيم على الرشد قبل البلوغ. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. أي: ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم، فتفرطوا في إنفاقها، وتقولوا: ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. أي: إن الوصي: إما أن يكون غنيا أو فقيرا، فالغني يستعف عن أكل مال اليتيم، أي يحذر من أكل مال اليتيم. واستعف أبلغ من عف؛ كأنه طالب زيادة العفة. والفقير يأكل قوتا مقدرا محتاطا في أكله. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. الشهداء على أنهم تسلموها وقبضوها دفعا للتجاحد، وتفاديا على توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. أي: وكفى بالله محاسبا. فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب. فعليكم بالإصلاح، وإياكم والإفساد بالاعتداء أو الإسراف. فوائد: 1 - في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم». 2 - في سنن أبي دواد عن علي قال: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني؛ فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الكبير والصغير» وعن عائشة- رضي الله عنها- وغيرها من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة. عن الصبي حتى يحتلم- أو يستكمل خمس عشرة سنة- وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق». مما مر يفهم أن
البلوغ يكون: إما بالسن، أو الاحتلام. قال ابن كثير: «واختلفوا في نبات الشعر الخشن حول الفرج، وهي الشعرة، هل يدل على بلوغ أو لا؟ على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين وبين صبيان أهل الذمة، فلا يكون بلوغا على القول الثالث في حق أبناء المسلمين، ويكون بلوغا في حق أهل الذمة. قال ابن كثير: والصحيح أنها بلوغ في الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة فيه بعيد». وقد روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فأمر من ينظر من أنبت فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلى سبيلي .. » وأخرجه أهل السنن الأربعة. 3 - روى الإمام أحمد: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر، ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك، أو قال: أو تفدي مالك بماله». شك أحد الرواة، وروى ابن ماجه وأبو داود في سننه أن رجلا قال: يا رسول الله: فيم أضرب يتيمي؟ قال: «مما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا». قال فقهاء الشافعية: ولي اليتيم الفقير له أن يأكل من أقل الأمرين: أجرة مثله، أو قدر حاجته. واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما، لا. لأنه أكل بأجرة عمله، وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، لأن الآية والأحاديث أباحت الأكل من غير بدل، كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. قال عمر بسند صحيح عنه: إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت» والأقوى الاتجاه الأول: أي لا يرد ومذهب عمر زيادة في الاحتياط. وما مقدار ما يأكل منه؟ قال النسفي عن إبراهيم: ما سد جوعه، ووارى العورة. 4 - إن قياس عمر أمر نفسه على وصي اليتيم في مال الأمة أصل عظيم من أصول الاجتهاد السياسي في الإسلام. فالدولة المسلمة، والإمام المسلم تصرفاته مقيدة بما يقيد به وصي اليتيم؛ فما كان فيه مصلحة اليتيم نفذ، وما لم تكن له فيه مصلحة لم ينفذ. وعلى هذا فكل التصرفات والعقود والمعاهدات الدولية التي تجريها الحكومات تلزم الأمة بمقدار ما فيها من مصلحة للأمة، وكل تصرف أو عهد، أو عقد أجرته، أو تجريه حكومة ليس فيه مصلحة، فإنه لاغ حكما.
المعنى العام
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً، وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً* إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً*. المعنى العام: كان المشركون العرب في الجاهلية يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا. وهذا شبيه ببعض أنظمة العالم المعاصر، إذ تعطي الابن الأكبر حق الإرث فقط. فأنزل الله هذه الآيات مبينا في الآية الأولى منها أن الرجال والنساء سواء في استحقاق الوراثة، ما داموا سواء في سبب الاستحقاق، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بسبب الذكورة والأنوثة أو بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو أولاد، مما ستبينه الآيتان التاليتان لهذه الآيات. ثم حض الله الورثة أن يرضخوا للأقارب واليتامى والمساكين ممن لا يرثون إذا حضروا قسمة الميراث. وهل هذا الرضخ واجب أو مندوب، أو أن هذا كان فى أول الإسلام ثم نسخ؟ أقوال سنراها. وإذا فهمنا الآية في حدود أنه: إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شئ منه، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم بائسون لا شئ يعطونه؛ فأمر الله تعالى وهو الرءوف الرحيم أن يرضخ لهم شئ يكون برا بهم، وصدقة عليهم وإحسانا إليهم، وجبرا لكسرهم على حساب ما تطيب به أنفس الورثة. إذا فهمنا الآية في هذه الحدود، لا نكون قد فهمنا شيئا ينكره أحد، أو يختلف في جواز تطبيقه أحد، ثم ذكر الله بحالة يخشاها الإنسان، وهي حالة ما إذا كان له ذرية ضعاف وأصابه الموت، فكما يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة، فلينظر لورثة الآخرين. دخل في ذلك ما إذا حضر أحدا الموت فسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فعلى من سمعه أن يسدده. ودخل في ذلك من ولي أيتام إنسان ما، فعليه أن يفعل لهم ما يحب أن يفعل بأولاده. كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم. ثم أعلم الله- عزّ وجل- أن من أكل أموال اليتامى ظلما، فإنما يأكل في بطنه نارا
المعنى الحرفي
تتأجج فيها يوم القيامة. ولعلنا نلاحظ أن هذه الآيات الأربع مرتبطة بما قبلها، من حيث إن لها علاقة باليتامى، ونلاحظ كذلك أنها مرتبطة بما بعدها من آيات المواريث، إذ قررت استحقاق الرجال والنساء في الميراث، وندبت الورثة إلى التصدق، وحذرت من ظلم اليتامى، وندبت إلى معاملة أبناء الميت مثلما يحب الناس أن تعامل أبناؤهم من بعدهم. فالمقطع كله مرتبط بعضه ببعض، وكله يحدد التصرف الصحيح في قضايا حياتية، ليحقق الإنسان في نفسه التقوى كما أرادها الله، وأحبها، وشرعها لنا في كتابه. ومن هذا المقطع ندرك كيف أن قضية التقوى أكبر وأوسع مدلولا مما يظنها كثير من الناس. المعنى الحرفي: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. أي: لكل من الرجال والنساء حظه من الميراث، والمراد بهم المتوارثون دون غيرهم بحسب ما فرض الله لكل منهم، والنصيب: الحظ والقدر مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ. أي: من قليل المتروك وكثيره. نَصِيباً مَفْرُوضاً. أي: نصيبا مقطوعا لا بد لهم من أن يحوزوه. وقد بين الله- عزّ وجل- هذا النصيب المفروض بآيات المواريث الآتية بعد ثلاث آيات من هذه الآية، والمبدوءة ب يُوصِيكُمُ .. ، وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. أي: قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ من الأجانب. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ. أي: فأعطوهم مما ترك الوالدان والأقربون. قال النسفي: وهو أمر ندب، وهو باق لم ينسخ. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً القول المعروف هنا: هو الاعتذار الجميل والعدة الحسنة، أو العطاء الذي لا يرافقه استكثار أو من، أو الدعاء مع العطاء، كقولهم: خذوا بارك الله عليكم، أو ما فيه تطييب خاطر، أو ما تعورف عليه من القول الطيب في مثل هذه الأحوال، أو هذا كله. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ المراد بهم الأوصياء، أمروا أن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى، فيشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه، حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. فصار المعنى: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا- وذلك عند احتضارهم- خافوا عليهم الضياع بعدهم، لذهاب كافلهم، فليتذكروا ذلك،
[سورة النساء (4): آية 10]
وليتصرفوا مع من هم تحت رعايتهم على ضوئه. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في هذا الشأن، وليخافوا انتقامه. وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. أي: قولا مسددا يليق بالمقام، والقول السديد من الأوصياء، أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بيا بني، ويا ولدي، فالآية إذن أدبت الأولياء والأوصياء أن يعاملوا من تحت رعايتهم معاملتهم لأولادهم. ثم عاد المقطع إلى موضوع أكل أموال اليتامى، مهددا بعد هذه الاستجاشة لعواطف الرحمة الإنسانية فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. أي: يأكلونها ظالمين إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ. أي: ملأها ناراً لأنهم أكلوا ما يجر إلى النار بأكلهم الحقوق، فاستحقت بطونهم التعذيب من لحظة بعثهم يوم القيامة. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. أي: وسيدخلون نارا يعذبون فيها؛ وأبهمت النار هنا لتعظيم ما سيعذبون به، ولبيان عظيم جرمهم فيما أتوه. فوائد: 1 - في آية وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى .. ثلاثة أقوال، القول الأول فيها: أنها محكمة وهي على ظاهرها، وأنها للندب، ندبت إلى ذلك الورثة تطييبا لخواطر غير الورثة من القرابات، وخواطر الفقراء واليتامى، وذهب إلى ذلك خلق كثير. والقول الثاني: أنها محكمة ولكن هي في الوصية، فكأن الآية تندب الميت إلى أن يوصي لهذه الطبقات، فإذا مات وزع ما أوصى الميت على أصحابه ممن ذكرهم الله، ويندب للميت أن يقدمهم على غيرهم. والقول الثالث: أن الآية منسوخة نسختها آيات المواريث بعدها. ولا شك أن الواجب في التركة هو ما ذكرته آيات المواريث والوصية. فمن أراد أن يفهم الأمر في الآية على الوجوب فلا شك أنه ليس أمامه إلا أن يقول بالنسخ، وأن تكون الآية في الوصية ففيه صرف للآية عن ظاهرها. وما يتفق مع السياق قبل وبعد: هو أن نحمل الأمر في الآية على الندب، وهذا لا يعارض ما بعده، مع ملاحظة أن الإنفاق في هذه الحالة مقيد برضى الورثة جميعا، وأن يكون الورثة ممن يملكون حق التبرع. أما إذا كان الورثة صغارا، فلا يحق لأحد أن يتبرع عنهم، أو إذا كان في الورثة صغار، فللكبار أن ينفقوا من أنصبائهم لا من نصيب الصغار. ونحب هنا أن نذكر أن كلا من الأقوال الثلاثة في فهم الآية منسوب لابن عباس مع وجود غيره معه فيه.
كلمة في السياق
2 - روى ابن مردويه في سبب نزول قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ .. عن جابر قال: أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما، وليس لهما شئ فأنزل الله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ. 3 - في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله: وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات». وروى ابن مردويه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا، قيل يا رسول الله: من هم؟ قال: ألم تر أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. كلمة في السياق: 1 - في السياق الخاص للسورة نلاحظ أن هذا المقطع حتى الآية الأخيرة التي مرت معنا قد ركز على حق المرأة، وحق اليتيم. وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم». أي: أوصيكم باجتناب مالهما. نفهم من كون هذا المعنى قد تقدم في سورة النساء على غيره أن له أهمية في قضية التقوى، فلا تظهر تقوى الإنسان بشيء، ظهورها في موقفه من حق اليتيم، وماله، ومعاملته، وفي موقفه من حقوق المرأة بالمعروف. 2 - رأينا في سورة آل عمران، أن سورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة، وامتداد معانيها من سورة البقرة، على نسق جديد، وتسلسل جديد، وترتيب جديد. ونقول الآن: إن سورة النساء تفصل في الآيات الخمس المبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وما في معناها من سورة البقرة، وما هو متعلق بها من سورة البقرة. وتفصل ذلك ضمن ترتيب ونسق جديدين يتناسبان مع الموضوع الخاص بسورة النساء، كما كان ترتيب سورة آل عمران متناسبا مع موضوعها الخاص. ولا يفهمن فاهم من التفصيل
معناه الضيق، بل فلنفهمها بمعناها الواسع. ولنضرب الآن مثالين على هذا التفصيل بمعناه الواسع، وهما مثالان على الصلة أيضا بين سورة النساء وما هو بمعناها في سورة البقرة مما له ارتباط بآيات المحور. 1 - مر معنا في سورة البقرة عن ابن عباس قوله: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. الآية (وهي من سورة النساء): انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. إن آية النساء سبقت آية البقرة، وآية البقرة أخرجت من أكل أموال اليتامى، تلك الحالة التي تقتضيها العشرة والمصلحة، ولكن آية النساء تبقى تفصيلا في هذا الموضوع، تراعي فيه قضية الخلطة. فليتذكر دائما المخالط ألا تكون الخلطة إلا لصالح اليتيم، وفي حدود رفع الحرج، وألا تصل المسألة إلى حد أكل مال اليتيم، فإن الجزاء فظيع. فآية النساء من هذا الباب تفصيل لهذا الموضوع في قضية التقوى. ب- في قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ. قال ابن عباس مفسرا لها: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة. قال ابن كثير: «وهكذا قال مجاهد وغير واحد» فلنتذكر ما ورد في سورة البقرة. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ألا نجد هنا في سورة النساء تفصيلا لقضية وردت في البقرة لها علاقة بقضية التقوى، لكنها ترد هنا ضمن السياق الخاص لسورة النساء، وهناك ضمن السياق الخاص في سورة البقرة. فإذا اتضح هذا فإننا نرجح القول الذي نقلناه في سورة البقرة، وهو أن قوله تعالى في البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ تفسره الآية القادمة: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .. فهذا تفسير الوصية الواردة في البقرة.
المعنى العام
فهذا القرآن لا تنقضي عجائبه، أنزله المحيط علما بكل شئ. من هذين المثالين ندرك كيف أن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وفي امتداد معاني هذا المحور من سورة البقرة نفسها. ولعل ما مر معنا هنا يصلح أن يكون مقدمة لما وصلنا إليه من آيات في هذا المقطع: آيات المواريث التي هي بيان للنصيب المفروض المذكور في قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ... يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ* تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ. المعنى العام: الآيتان الأوليان من هذه المجموعة، وآخر آية في هذه السورة، هن آيات علم الفرائض أي: علم المواريث، وهذا العلم كله مستنبط من هذه الآيات الثلاث. ومن الأحاديث الواردة في ذلك، مما هو كالتفسير لذلك. وهذا من أعظم مظاهر إعجاز هذا القرآن، أن تجد علم الميراث كله في هذه الآيات، بمثل هذه الدقة، وهذا العدل في التوزيع، وفي مثل هذا الشمول، وبمثل هذا الإيجاز، وبمثل هذه الطريقة من العرض المعجز البالغ الروعة الذي لا ينزل- وهو النص التشريعي- عن المستوى البياني
والبلاغي لأي نص قرآني آخر. إن إنسانا لا يعرف الله في كتابه من مثل هذا محروم محروم. في الآية الأولى: أمر الله- عزّ وجل- بالعدل في الأولاد بين الذكور والإناث في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مئونة النفقة والكلفة، ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. فإذا كان الأولاد إناثا فقط، فإن كن ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان من تركة الميت، وإن كن ثنتين فكذلك، وإن كانت واحدة فلها النصف. وللأبوين إن كان للميت أولاد لكل منهما السدس، فإن كان الأبوان هما الوارثين الوحيدين، فللأم الثلث، والثلثان للأب. فإن كان للميت إخوة، حجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس، دون أن يكون لهم شئ مع وجود الوالد، وللوالد الباقي؛ وهذا كله بعد أن تدفع الديون التي على الميت عنه؛ وهذا كله بعد دفع الوصية إن كانت في حدود الثلث. ثم بين الله- عزّ وجل- في نهاية الآية الأولى حكمة هذه الفريضة للآباء والأبناء، إذ الملاحظ أن الآية الأولى كانت في ميراث الآباء والأبناء بشكل رئيسي، إن الحكمة في هذا التشريع هي: أن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي، أو الأخروي، أو هما، من كل من أبيه أو ابنه. وقد يكون أحدهما أرجى نفعا، ولكن النفع متوقع ومرجو من هذا، كما هو متوقع ومرجو من الآخر، فلهذا فرض الله لهذا وهذا، وجعل لكل نصيبه بما يناسب حاله. ثم بين الله- عزّ وجل- أن ما ورد في هذه الآية من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، هو فرض من الله حكم به وقضاه، والله عليم حكيم؛ يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه. وفي الآية الثانية: بين الله حصة الأزواج والزوجات، فبين أن للرجال نصف ما ترك أزواجهم إذا متن عن غير ولد، فإن متن عن ولد فللزوج الربع من بعد الوصية والدين، وللزوجات الربع في حالة عدم الولد. فإذا وجد الولد فللزوجة إن كانت واحدة، أو للزوجات إن تعددن الثمن من بعد الوصية أو الدين. فإن مات رجل أو امرأة وليس له أو لها والد ولا ولد، وكان له أولها أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك رجالا أو نساء أو مختلطين فكلهم شركاء في الثلث. وكل
المعنى الحرفي
ذلك بعد الوصية أو الدين. هذه هي وصية الله لنا في شأن الميراث، وهو المحيط علما بكل شئ فهو الأعلم بما ينبغي، وهو ذو الحلم الذي يشرع لعباده التشريع الأرفق بهم. ثم بين الله- عزّ وجل- في الآية الثالثة والرابعة: أن هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت، واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها، ولا تجاوزوها. ثم وعد من وقف عند حدوده بجناته، وأوعد من عصى الله ورسوله، وتعدى حدود الله بناره وإهانته، لكونه غير حكم الله، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله، وحكم به؛ ولهذا يجازى صاحبه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم، فليسمع من يريدون أن يبدلوا أحكام الله، ويغيروا شريعته، فليسمع أصحاب الدعوات الكافرة على أرضنا ممن يريدون أن يبدلوا شرع الله بأهوائهم. إن الآيتين الأولى والثانية، وآخر آية في سورة النساء، هما جماع علم المواريث في القرآن. ومن قرأ كتب هذا العلم أدرك كيف أن هذه الآيات أحاطت بالمسائل كلها، من خلال ما سيق له النص بشكل رئيسي، ومن خلال ما يفهم بشكل آخر من أشكال الفهم للنصوص، ومن خلال الشرح النبوي لهذه الآيات، وسيتضح لنا شئ من هذا في نهاية الكلام عن هذه الآيات الأربع. ونكتفي هنا أن نسجل أننا فهمنا بشكل واضح من النص: حصة البنات إذا انفردن، وحصة الأب والأم إذا انفردا بالإرث، وحصة الأب والأم في حالة فقدان الولد، ووجود الإخوة، وحصة الزوج والزوجة وجد ولد أو لم يوجد، وحصة الإخوة في حالة فقدان الوالد والولد. ولن ننتهي من الكلام عن الآيات إلا وقد وضح لنا هذا العلم إن شاء الله تعالى. المعنى الحرفي: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. أي: يعهد إليكم ربكم، ويأمركم في شأن ميراث أولادكم. وهذا إجمال تفصيله ما بعده. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. أي: للذكر منهم حظ الأنثيين، والمراد حال الاجتماع، أي: إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له
سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله إذا انفرد والبنتان تأخذان الثلثين. والدليل على ذلك هو ذكر حكم البنات حال الانفراد مباشرة بعد هذا. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ. أي: فإن كانت الأولاد نساء خلصا يعني: بنات ليس معهن ابن، وكن نساء زائدات على اثنتين، فلهن ثلثا ما ترك الميت. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. أي: وإن كانت المولودة منفردة فلها نصف ما ترك الميت. وحتى الآن ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن، وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد، فما حكمهما؟ ألحق ابن عباس البنتين بالبنت فقال: لهما النصف؛ وخالفه في ذلك الأمة كلها فجعلوا لهما الثلثين وهو الذي عليه الفتوى. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة من سورة النساء؛ فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين، فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ما ذكرنا. قال النسفي: «ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث، كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها». وقال النسفي: «وفي الآية دلالة على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى، لأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة، فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل» وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى. والمعنى: إن كان للميت أولاد، أو أولاد أولاد، فلأبيه السدس، ولأمه السدس. ثم إن كان للميت بنت واحدة، فلها النصف في هذه الحالة، وللأم السدس، وللأب السدس. وما تبقى يرثه الأب تعصيبا، إذ الحديث الشريف يقول: «ألحقوا الفروض بأهلها وما تبقى فلأولى رجل ذكر» وأولى رجل ذكر في حالة عدم وجود الابن، أو ابن الابن هو الأب. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. أي: إذا انفرد الأبوان في الميراث، فللأم الثلث، وأخذ الأب الباقي تعصيبا، أي يأخذ الثلثين. ولكن لنفرض أنه كان معهما زوج أو زوجة، فالزوج في هذه الحالة يأخذ النصف، والزوجة الربع، فماذا تأخذ الأم بعد ذلك؟ الذي عليه الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء، أنها تأخذ ثلث الباقي، لأن الأب أقوى من الأم في الإرث، فلو أعطيناها ثلث
[سورة النساء (4): آية 12]
التركة في هذه الحالة، لكانت في حالة وجود الزوج تأخذ ضعفي ما يأخذه الأب، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وهذا يناقض البداءة، ثم ذكرت الآية حالة ثالثة للأبوين، وهي اجتماعهما مع الإخوة. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. أي: إن كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا سواء كانوا من أب أو كانوا من أم، أو كانوا لأب وأم، فإنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، دون أن يأخذوا هم شيئا، ويأخذ الأب في هذه الحال الباقي. أما الأخ الواحد فإنه لا يحجبها عن الثلث، وكان أهل العلم يرون أن حكمة حجب الأم إلى السدس في حالة وجود الإخوة فيزاد في حصته وينقص من حصتها لأن مئونة الأب أكثر بوجود الإخوة. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ. أي: قسمة الأنصباء التي تقدمت إنما تكون من بعد وصية أو دين. وأجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية، والحكمة في تقديمها في التلاوة أن إخراجها مما يشق على الورثة، وأن أداءها مظنة التفريط، بخلاف الدين، فقدمت على الدين ليسارعوا إلى إخراجها معه. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. أي: فرض الله الفرائض على ما هو عنده لحكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. والتفاوت بالسهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ. أي: هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، فرض من الله حكم به وقضاه. وإنما ختمت الآية بهذا لكي لا يفهم فاهم من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ أن الأمر وصية غير لازمة، بل هي فريضة لازمة. ولنتذكر مرة أخرى الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة البقرة كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. ولنلاحظ كلمة فريضة هنا بعد قوله تعالى آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً علمه محيط، وحكمته بالغة. وقد قسم الفرائض على ما قسمها، وذلك من آثار علمه وحكمته، فما أجهل من رفض، وما أحمق من عاند، وما أكثر المرتدين في عصرنا جهلا وجاهلية. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ. أي: زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ابن أو بنت فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ والدين مقدم على الوصية، وبعده
[سورة النساء (4): الآيات 13 إلى 14]
الوصية، ثم الميراث. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء. وحكم أولاد البنين وإن سفلوا، حكم أولاد الصلب. وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان والثلاث والأربع، يشتركن فيه. ولاحظنا أن ميراث الرجل جعل ضعف ميراث الزوجة انسجاما مع الأصل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ الكلالة: من لم يخلف ولدا ولا والدا، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وما فسرنا به الكلالة هو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف، بل حكى الإجماع عليه غير واحد. ومعنى النص: إن كان الميت يورث وهو كلالة: لا والد له ولا ولد، أي: إن كان رجلا مورثا وهو كلالة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ. أي: من أم، إذ لو لم يكونوا من أم هنا، لكان الإرث بالتعصيب في حالة وجود الذكور. فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ لأنهم يستحقون بقرابة الأم، وهي لا ترث أكثر من الثلث. ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى، قضى عمر أن ميراث الإخوة من الأم بينهم للذكر مثل حظ الأنثى. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ كررت ذكر الوصية والدين لذكر الكلالة. غَيْرَ مُضَارٍّ. أي: يوصي بها وهو غير مضار لورثته، بأن يوصي بزيادة على الثلث، أو يوصي لوارث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي ما مر مما بدئ بقوله تعالى يُوصِيكُمُ وصية من الله، فحافظوا عليها، والتزموا بها، وأقيموها وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عليم بمن جار، أو عدل، أو حرف، أو بدل. عليم إذا شرع وحكم وقدر، حليم على الجائر لا يعاجله بالعقوبة، فلا يغتر من جار أو جنف، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. أي: هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله سماها حدودا، لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها، فذكرها هنا أمر بعدم تعديها وتجاوزها. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في حدوده، فلم يزد ولم ينقص بحيلة أو وسيلة، أو يتعد أو يتجاوز عملا أو حالا أو قولا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي حدها في باب المواريث وغيرها، يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ لهوانه عند الله باستهانته بحدوده، وكفره، واستحلاله ما حرم الله، وما أشده تهديدا ووعيدا في هذا
فوائد
المقام، تعرف حكمته في هذا العصر، إذ تسمع الدعوات الفاجرة من ناس آباؤهم مسلمون، أو يحملون أسماء إسلامية، يدعون إلى نسف شريعة الله في باب المواريث وغيرها. فوائد: 1 - في الصحيحين وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: «عادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي، فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .. وفي مسند الإمام أحمد عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك». أقول: من المعلوم أن العرب في الجاهلية لم يكونوا يورثون النساء شيئا. 2 - في قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .. إشعار لنا منه سبحانه أنه أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم وغيرهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، فشرعه جل جلاله رحمة كله. 3 - روى البخاري عن ابن عباس قال: «كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع». 4 - روى ابن أبي حاتم، وابن جرير قولا لابن عباس- وهو جزء من كلام طويل، يصف حال الناس يوم نزلت آيات المواريث- قال واصفا أهل الجاهلية: «لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر». 5 - ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وقد مر معنا في سورة البقرة أن الوصية تجوز في حدود ثلث التركة بعد الدين، وإذا كان الورثة لا تجوز لهم الوصية زيادة عما فرضه الله لهم،
فما حكم لو أقر الميت قبل وفاته لأحد الورثة بشيء عليه؟ هل يصح الإقرار أو لا يصح؟ قولان للعلماء. فمن ذهب إلى عدم صحته قال: لا يصح لأنه مظنة التهمة. واختار الشافعي في الجديد أنه يصح. ثم إن كان الإقرار صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر جرى فيه الخلاف من حيث الإلزام للورثة، لا من حيث الجواز، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة، ونقصان بعضهم، فهو حرام بالإجماع بنص الآية، وهي قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وبنص الحديث «الإضرار في الوصية من الكبائر» وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة. قال: ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله تعالى .. عَذابٌ مُهِينٌ. 6 - في كتب علم الفرائض يبحثون عادة موضوع الحقوق التي تتعلق بالتركة، ويحددونها بأنها أربعة، يقدم بعضها على بعض: تكفينه وتجهيزه، ثم قضاء ديونه، ثم تنفيذ وصاياه من ثلث ما تبقى، ثم قسمة الباقي بين ورثته حسب الكتاب والسنة. ثم يبحثون مراتب الورثة، وكيف أنه يبدأ بأصحاب الفرائض، وهم الذين لهم سهام مقدرة في كتاب الله أو سنة رسوله، أو الإجماع. ثم بالعصبات من جهة النسب. والعصبة: كل من يأخذ ما أبقته الفرائض، وعند الانفراد يحرز جميع المال. ثم بالعصبة من جهة السبب: وهو مولى العتاقة، ثم عصبة المولى، ثم الرد على ذوي الفروض النسبية بقدر حقوقهم، ثم ذوي الأرحام. ثم مولى الموالاة، ثم المقر له بالنسب على الغير، ثم الموصى له بجميع المال، ثم بيت المال، على خلاف في بعض الشئون. ثم يذكرون موانع الإرث وهي أربعة: الرق، والقتل، واختلاف الدين، واختلاف الدارين: دار الحرب، ودار الإسلام، سواء اختلفت حقيقة أو حكما. ثم يبحثون موضوع الفروض ومستحقيها، وعدد مستحقيها من الرجال والنساء، ومجموعهم اثنا عشر، أربع من الرجال، وثمانية من النساء: الأب، والجد، والأخ لأم، والأخت لأم، والزوج، والزوجة، وبنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب، والأم، والجدة، ويبحثون عادة أحوال كل من هؤلاء، ثم يبحثون موضوع العصبات، وأقسامها، وأصنافها، وأيها يقدم على غيره، وأيها يحجب غيره، وحال كل من العصبات. ثم يذكرون باب حجب النقصان، وحجب الحرمان، من
ولنعد إلى السياق
يحجب، ومن لا يحجب. ثم بحث العول، وهي قضية خلافية، وتكون في حالة ضيق المخرج عن فرض فماذا يفعل في هذه الحالة؟ ثم يبحثون موضوع الرد، ومن يرد عليه، ومن لا يرد في حالة فضل المخرج عن فرض ذوي الفروض ولا مستحق له من العصبة يرد عليه؟ ثم يبحثون موضوع المناسخة: وهي حالة ما إذا صار بعض الأنصباء ميراثا قبل القسمة ماذا يفعل به؟ ثم يبحثون موضوع توريث ذوي الأرحام وتفصيلات ذلك وترتيبه. ثم يبحثون موضوع الخنثى، والحمل، والمفقود، والمرتد، والأسير، والغرقى، والحرقى، والعدمى. ويبحثون موضوع المسائل، وكيفية حلها، وكثيرا من الأمور الأخرى. نقول هذا ليعلم أن العودة في المواضيع الموسعة إلى كتبها التي اختصت بها شيء لا بد منه. وبهذه المناسبة نكرر قضية مرت معنا: وهي أن القرآن لم يتحدث عن الموضوع الواحد في المكان الواحد. وكتب السنة تروي ما ورد من الحديث في الموضوع الواحد، ولا تعرج إلا نادرا عما ورد في القرآن فيه، وإذا عرجت فإنها لا تستقصي، لأنه ليس من اختصاصها، فلا بد إذا بشكل عفوي أن تنشأ العلوم الإسلامية، وتؤلف الكتب التي تتحدث عن الموضوع الواحد في الكتاب والسنة والإجماع، وما يدخل في هذا الموضوع عن طريق القياس. ولا بد أن تختلف الأفهام، ومن ثم نشأ علم أصول الفقه، الذي يضبط الاجتهاد، وطرقه، ووسائله، ويحدد أصوله، كما نشأ علم الفقه، وغيره من العلوم الإسلامية، فما أجهل من يحارب دراسة الفقه، أو التوحيد، أو غير ذلك من العلوم الإسلامية في كتبها، أو يستغرب وجود مدارسها، وما أحمق من يفعل ذلك بحجة أنه لا تصح دراسة غير الكتاب والسنة، فمن قال إن دراسة الكتاب والسنة تناقض دراسة كتب الاختصاص؟! إن الذي يستحق اللوم هو من يهمل دراسة الكتاب والسنة بحجة دراسة غيرهما أما من يجمع فلا لوم عليه. وأما حكمة كون القرآن لم يذكر الموضوع الواحد في المكان الواحد، فقد ذكرنا بعضها من قبل، وسنذكر بعضها في نهاية هذا المقطع. ولنعد إلى السياق: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً* إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ
المعنى العام
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. المعنى العام: الآية الأولى في عقوبة المرأة إذا ثبت زناها قبل أن ينزل الحكم النهائي في سورة النور، فالحكم هنا مرحلي، وقد ذكرت الآية ما يشعر بذلك، وأما حكمة ذكر الآية مع نسخ حكمها فلذلك حكم سنذكرها. والآية الثانية في عقوبة الرجلين يعملان عمل قوم لوط، أمرنا الله- عزّ وجل- بتعزيرهما حتى إذا تابا وأصلحا كففنا عنهما. ويمكن أن تفهم الآيتان على أن الأولى في عقوبة المرأة إذا زنت، والثانية فى عقوبة الرجال إذا زنوا، وتكون الآيتان منسوختين بالحكم النهائي في عقوبة الزنا المذكورة في سورة النور. وإذ ذكرت الآية الثانية توبة الزاني أو اللائط، فقد تحدثت الآيتان الأخيرتان عن موضوع التوبة فبين الله- عزّ وجل- أنه يقبل التوبة ممن عمل الذنب بجهالة- والعاصي جاهل حتى ينزع عن الذنب- إذا تاب قبل الغرغرة أي: قبل وصول الروح إلى الحلقوم عند الموت، فمن تاب تاب الله عليه. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه لا يقبل توبة من تاب بعد الغرغرة. وأن من مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فدية. وأن هؤلاء قد أعد الله لهم عذابا شديدا مقيما. المعنى الحرفي: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الفاحشة هنا هي الزنا، وأطلق هذا الاسم عليه لزيادة الزنا في القبح على كثير من القبائح، واللاتي جمع التي فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ. أي: فاطلبوا شهادة أربعة من المؤمنين يشهدون عليهن، فَإِنْ شَهِدُوا أي: عليهن بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ. أي: احبسوهن في البيوت حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ. أي: حتى تأخذهن ملائكة الموت، أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أو يجعل الله لهن طريقا غير هذه. فالسبيل إذن هنا هو الحكم البديل الناسخ، وقد كان. قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد، أو الرجم. وفي الحديث الصحيح: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه، وكرب لذلك،
[سورة النساء (4): آية 16]
وتغير وجهه، فأنزل الله- عزّ وجل- عليه ذات يوم، فلما سري عنه قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» والفقهاء مختلفون في موضوع الجمع بين الرجم والجلد، وبين الجلد والنفي، فمنهم من يعتبر الجمع منسوخا، ومنهم من يعتبر ما زاد على الرجم في الثيب والجلد في البكر من باب السياسة الشرعية، ومنهم من يأخذه على ظاهره، وهو موضوع يأتي في سورة النور. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ للمفسرين أقوال في المراد بهؤلاء، فمنهم من قال: هذا في الذكور الزناة قبل النسخ، ومنهم من قال: هذا في الزانية والزاني جميعا، لكن الزانية تعاقب زيادة على ذلك بالحبس، ومنهم من قال: هذا في اللواطين. فَآذُوهُما. أي: بالشتم والتعيير والضرب. فَإِنْ تابا عن فعلهما وَأَصْلَحا بإحسان العمل، دل ذلك على أن من علامة الصدق في التوبة إصلاح العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما. أي: فاقطعوا التوبيخ والمذمة ولا تعنفوهما، ولا تعيروهما بعد ذلك، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وكذلك لا يجوز التعيير بعد إقامة الحد، وقد ثبت في الصحيحين «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها». إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً. أي: يقبل توبة التائب ويرحمه. إِنَّمَا التَّوْبَةُ. أي: إنما قبول التوبة عَلَى اللَّهِ كلمة «على» هنا لا تفيد الوجوب على الله، إذ لا يجب على الله شئ، ولكنه لتأكيد الوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك. لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ. أي: الذنب بِجَهالَةٍ ليس المراد بالجهالة هنا الجهل الذي يقابل العلم، وإنما الجهل الذي يقابل العقل، وقيل جهله: اختياره اللذات الفانية على الباقية. وقيل ليس المراد جهالته بأن ارتكب ذنبا، بل المراد جهالته بكنه عقوبته. روى عبد الرزاق عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. وقال مجاهد: «كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها» وإذن فهناك حالة يستوي فيها العلم والجهل، حالة ما إذا فعل الإنسان الفعل كأثر عن غلبة نفس، أو شهوة أو نزوة، أو طيش أو حماقة .. فالمراد بالجهالة هنا، ترك العلم. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. أي: ثم يتوبون من زمان قريب، وهو ما قبل حضرة الموت؛ يدل على ذلك قوله في الآية اللاحقة: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فدل على أن وقت الموت هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة؛ قال الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب، وفي الحديث الحسن قال عليه الصلاة والسلام «إن الله
[سورة النساء (4): آية 18]
يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» فدل على أن كل ما كان قبل الموت فهو قريب. (ومن) في قوله تعالى مِنْ قَرِيبٍ للتبعيض، فصار المعنى: أي: يتوبون بعض زمان قريب، كأنه سمى ما بين وجود المعصية، وبين حضرة الموت زمانا قريبا فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هذه عدة من الله تعالى لمن تاب، فإنه يفي له، وإعلام بأن الغفران كائن. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليما بعزمهم على التوبة، حكيما بفتح باب التوبة، وجعله الندم توبة. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. أي لا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت، ومعاينة ملك الموت، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة؛ لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار، وقبول التوبة ثواب، ولا وعد به إلا لمختار؛ وبعد أن ذكر ابن كثير أحاديث تؤيد هذا قال: فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله- عزّ وجل- وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة، وقال: وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح عن الحلق، وضاق به الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم (جمع غلصمة: وهي اللحم بين الرأس والعنق) فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص». وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. أي: وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار أُولئِكَ دخل في ذلك الذين ماتوا ولم يتوبوا، والذين ماتوا وهم كفار أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أي: هيأنا وحضرنا لهم عذابا مؤلما. ولسعيد بن جبير فهم في هاتين الآيتين: فقوله تعالى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ .. جعلها في المؤمنين. وقوله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ .. قالَ إِنِّي تُبْتُ جعلها في المنافقين، وقوله تعالى وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ .. جعلها في الكافرين. فوائد: 1 - آية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ منسوخة كما رأينا بما نزل في الموضوع في سورة النور، وآية وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ .. إن فسرت بأن المراد منها الزاني والزانية فهي منسوخة، وإن فسرت بأن المراد منها الفاعل والمفعول به فهي غير منسوخة، وتكون دليلا ظاهرا لأبي حنيفة في أنه يعزر في اللواطة، ولا يحد حد الزنى، وقد يصل التعزير عنده إلى القتل. وهذه المسألة ترجع عنده إلى رأي الإمام، فإن شاء عزر بما هو الأشد حتى القتل، وإن شاء عزر بما دون ذلك وعليه يحمل ما ورد في تعدد العقوبات الواردة في شأن الفاعل والمفعول فيه؛ ومن ذلك ما رواه أصحاب السنن عن
كلمة في السياق
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به». 2 - يقول صاحب الظلال تعليقا على قوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ: «وفي النص دقة واحتياط بالغان. فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد: «من نسائكم» - أي المسلمات- ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل: «من رجالكم» - أي المسلمين- فحسب بهذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل. ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه. إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات- حين يقعن في الخطيئة- رجالا غير مسلمين. بل لا بد من أربعة رجال مسلمين مِنْكُمْ من هذا المجتمع المسلم. يعيشون فيه، ويخضعون لشريعته، ويتبعون قيادته، ويهمهم أمره، ويعرفون ما فيه ومن فيه. ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة، وغير موثوق بأمانته وتقواه، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته، ولا على إجراء العدالة فيه. وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم، وأصبح هو الجلد أو الرجم» اهـ. 3 - رأينا أن آية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ... قد وقع على بعض أحكامها نسخ، فهي من الآيات التي تضرب كمثال على نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، وحكمة نسخ الحكم مع بقاء التلاوة تثبيت وجود النسخ، وابتلاء الخلق بذلك، ثم إن نسخ حكم من أحكام الآية لا يعني نسخ كل شئ فيها، فهي في مكانها وفي سياقها، وفي معانيها تؤدي معاني كثيرة. 4 - روى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عزّ وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». وروى الإمام أحمد أن أبا ذر حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة عبده، أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة». كلمة في السياق: 1 - نلاحظ في السياق القرآني أن الموضوع الواحد قد يتكرر في القرآن مرات
ومرات، وأن الموضوع الواحد قد يوجد جزء منه في مكان، وجزء منه في مكان آخر، والحكمة في ذلك أن الموضوع يتكرر بحسب احتياجات تعميقه في النفس البشرية، وأن الموضوع يتجزأ بحسب احتياج السياق الوارد فيه للجزء الوارد منه، ويتجزأ ليذكره الإنسان أكثر من مرة. فالقرآن كتاب تربية وتزكية وإعجاز، كما هو كتاب علم وحكمة، كما هو كتاب تشريع وتوجيه للبشر في كل شئ، وكتاب هذا شأنه تساق المواضيع فيه لا ككتب التشريع المجرد، ولا ككتب العلم المجرد، ولا ككتب الحكمة المجردة، ولا ككتب المعجزات المجردة، فهو على ما هو عليه يؤدي مجموعة أمور ويحقق مجموعة قضايا بآن واحد، وبسبب من كونه كذلك فإن ملايين المواضيع تنبثق عنه بما يغطي احتياجات الزمان والمكان. 2 - رأينا محل سورة النساء ضمن السياق القرآني العام، والمقطع الذي مر معنا هو المقطع الأول في هذه السورة، وهو مقطع إذا نظرنا إليه على ضوء محل سورة النساء في السياق القرآني العام كما رأيناه من قبل، فإننا نفهم أن هذا المقطع قد ربى الإنسان على التقوى لله في مجموعة أمور: معرفة الله، وصلة الأرحام، وحفظ أموال اليتامى، وعدم الاعتداء عليها، وعدم أكل أموالهم ظلما وإعطائهم إياها كاملة، وإعطاء المرأة حقها المالي، وتوزيع تركة الميت على حسب ما أوصى الله، ووأد الفاحشة بعقوبة فاعليها، والحض على التوبة. وكل ذلك معان داخلة في المفهوم القرآني للتقوى، وهو مفهوم أوسع من مفهوم التقوى في موازين العامة من الناس، ونقصد بالعامة: كل من لم يتفقه في دين الله حق التفقه. فإذا تأكدت هذه المعاني من التقوى في المقطع الأول، ينتقل السياق إلى المقطع الثاني ليبين لنا معاني جديدة في قضية التقوى. ونحب أن نذكر هنا- ولو كررنا-: إن سورة النساء تفصل في محورها، من سورة البقرة. ومحورها يبدأ بالدعوة إلى العبادة كطريق للتقوي. وهنا نضيف، إن مقاطع سورة النساء التي تبدأ في الغالب بقوله تعالي: يا أَيُّهَا. إنما هي تفصيل للعبادة والتقوى بمعناهما الواسعين. فطاعة أمر الله وترك نهيه، عبادة، والتزام شرعه تقوى. فما من مقطع في سورة النساء إلا وهو تعميق لمفهوم العبادة، كطريق للتقوى، أو هو تعميق لمفهوم التقوى نفسه، وما ينبثق عنها، أو هو تبيان لما يدخل في التقوى من أجزاء. 3 - هناك قاسم مشترك يجمع بين المقطع الأول والثاني، وهو الكلام عما يسمى الآن بالأحوال الشخصية، من زواج، وإرث، وانحراف جنسي، وظلم للأيتام، إلى
المقطع الثاني من سورة النساء
غير ذلك من قضايا مرت معنا، أو ستمر، وكل ذلك مرتبط بالآية التي صدرت بها السورة: فالآية ذكرت الرجال والنساء، وذكرت الأرحام، وجاء المقطع الأول والثاني فى ذلك. ويأتي المقطع الثالث وفيه حديث عن أكل أموال الناس بالباطل، وقتل الأنفس، والتمرد وصلة ذلك بالآية الأولى كذلك لا تخفى، وفي المقطع الثالث يأتي أمر بعبادة الله وحده، ويأتي أمر بالإحسان، ويأتي تحذير من الاختيال والفخر والبخل، وصلة ذلك بالحياة الاجتماعية واضحة، ومجئ الأمر بالعبادة في هذا السياق يشير إلى دور العبادة في إقامة ما سبقه وما سيلحقه من أحكام. ثم يأتي مقطع يبدأ بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر؛ ولذلك صلة بالعبادة وفي ذلك المقطع يوضح الله- عزّ وجل- لنا مجموعة من مواقف أهل الكتاب ويستقر المقطع على قوله تعالي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ولذلك صلة بكل ما سبق، ثم يأتي مقطع يأمر بالطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، ومقطعان في موضوع القتال، ومقطع في موضوع الحكم بالقرآن، وينتهي ذلك المقطع بقوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ فكأن المقاطع الثلاثة تتحدث عما تقوم به أداء الأمانات، وعما يقوم به العدل، ثم تستمر السورة في سياقها. من مثل هذا يتضح لنا كيف أن للسورة سياقها الخاص كما سنرى تفصيلا، كما أنها مرتبطة بمحورها من سورة البقرة، وبروابط هذا المحور، وبامتداداته، كما سنرى كذلك تفصيلا، فليكن ما مر معنا هنا بمثابة المقدمة لسياق المقاطع اللاحقة. المقطع الثاني من سورة النساء ويمتد من الآية (19) إلى نهاية الآية (28). وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 19 الى 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
[سورة النساء (4): الآيات 20 الى 24] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 25 الى 28] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) كلمة في المقطع: جاء هذا المقطع بعد الآيات التي تحدثت عما ينبغي أن يعاقب به فاعلو الفاحشة. فهو يكمل ذكر الأشياء التي لا ينبغي أن تكون في الحياة الاجتماعية. كما يذكر المحرمات من النساء. وفي سياقه يذكر العلاقة الزوجية والزواج، والبديل عن زواج الحرائر. وصلة هذا المقطع بالمقطع السابق واضحة، فكلا المقطعين يتحدث عن الأسرة، وما يسمى الآن بالأحوال الشخصية. وكل ذلك جاء في سياق التذكير بأن أصل الإنسان من ذكر وأنثى. وأن الله- عزّ وجل- هو الخالق. والمقطع يضيف إلى بناء التقوى، مجموعة أمور. فليس من التقوى أن تكون المرأة كالمتاع يورث. ولا من التقوى أن يضغط الرجل على المرأة من أجل أن يأكل شيئا من مهرها وهو يريد أن يطلقها. ولا من التقوى، الزواج بزوجات الآباء. ولا من التقوى الزواج بمحرم. وسنعرض المقطع على فقرات. فلنبدأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ
المعنى العام
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً* وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً* وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا. المعنى العام: كانت المرأة فى الجاهلية، تورث كما يورث المتاع، فكانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها. وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من نفسها ومن أهلها. فأنزل الله تحريم ذلك في الآية الأولى من هذا المقطع، فنهى فيه عن إرثهن وما كانوا يرتبون عليه، كما نهى عن مضارتهن بالعشرة وقهرهن حال كراهيتهن، من أجل أن يتخلين عن حقوقهن ليخلصن أنفسهن. ولم يسمح بذلك إلا في حالة واحدة: في حالة الزنا، فقد سمح فيه أن يضاجرها ليسترجع صداقها ويخالعها. وهذا إذا لم يرد أن يلجأ إلى اللعان، فإذا لا عن طلقت منه، وسقط حقه في المهر. ثم أمر بالإحسان بعشرتهن بطيب القول، وحسن الفعل، وتحسين الهيئة. ثم بين أنه حتى لو كان الرجل يكره امرأته فإنه يندب له أن يصبر ويمسك، إذ عسى أن يكون في الصبر على إمساكهن مع الكراهة خير كثير في الدنيا والآخرة. كأن يرزق منها ولد، ويكون في ذلك الولد خير كثير. وفي الحديث الصحيح: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر». وفي الآية الثانية بين الله- عزّ وجل- أن الزوج إذا أراد أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئا، ولو كان قنطارا من المال. إذ كيف يؤخذ من الصداق بعد ما حدث من الجماع، وكان العقد والعهد. فهذا يقتضي إن كان طلاق ألا يكون استرجاع صداق. ثم نهى الله- عزّ وجل- عن نكاح زوجات الآباء، تكرمة لهم، وإعظاما واحتراما أن توطأ من ولده من بعده. حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها. وهذا أمر مجمع عليه. وقد بشعه الله غاية التبشيع. فوصفه بأنه فاحشة، وأن الله يمقت عليه. وأنه بئس طريقا لمن سلكه من الناس. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. أي لا يحل لكم أن
[سورة النساء (4): آية 20]
تأخذوا النساء على سبيل الإرث، كما تحاز المواريث، وهن كارهات لذلك، أو مكرهات. والتقييد بالكره، لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله تعالى: (في سورة الإسراء) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ العضل هنا: الحبس والتضييق. أي: لا تحبسوهن، وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بأموالهن، ويختلعن ببعض ما دفعتم لهن من المهر. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: الفاحشة تطلق على الزنا. وقد فسرها بعضهم بذلك. وعلى هذا فإن المعنى إلا أن يزنين. فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع. وبعضهم فسر الفاحشة في الآية بالذنب المتعلق بهذه الشئون، وهو هنا النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء. فيكون المعنى: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهنّ فقد عذرتم في طلب الخلع. والفاحشة المبينة، هي الواضحة. وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. في البيتوتة، والنفقة، والإجمال في القول، والملاطفة، والمداعبة وبسط الوجه، والتودد، والمؤانسة. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ. لقبحهن، أو سوء خلقهن، أو لانصراف قلوبكم عنهن، فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. أي: ويجعل الله في ذلك الشئ، أو في الكره ثوابا جزيلا، أو ولدا صالحا. والمعنى: فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها. فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك. فإن فارقتم ففارقوا لا من حيث الكره، ولكن من حيث ما هو الأصلح. وإذن فالمعنى: فإن كرهتموهن، فاصبروا عليهن مع الكراهية، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا قد لا تجدونه فيما تحبونه. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ أي: وإن أردتم تطليق امرأة وتزوج أخرى. وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً. أي: وأعطيتم إحدى الزوجات مالا عظيما. فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي: لا تأخذوا أي شئ من هذا المال الكثير الذي أعطيتموهن إياه مهرا. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً: الإثم المبين: الذنب الواضح، والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو برئ منه، لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير، والمعني: أتأخذونه باهتين وآثمين. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ. إنكار للأخذ بعد حدوث ما يأتي. وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. الإفضاء: هو الخلوة في الأصل وما يكون فيها من جماع. والميثاق الغليظ: هو العهد الوثيق. والمعنى: كيف تأخذون من المهر بعد أن خلا بعضكم إلى بعض، وبعد عقد الزواج وما يحتويه ضمنا من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وغير ذلك، ثم تطلقوهن،
[سورة النساء (4): آية 22]
فكيف تأخذون من مهورهن شيئا. وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ. أي: لا تطئوا ما وطئ آباؤكم من النساء. إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. أي: لكن ما قد سلف، فإنكم لا تؤاخدون به. إِنَّهُ. هذا العقد على نساء الآباء كانَ فاحِشَةً. أي: بالغة في القبح. وَمَقْتاً. أي: بغضا عند الله، وعند المؤمنين. وَساءَ سَبِيلًا. أي: وبئس الطريق طريقا ذلك. فوائد: 1 - في أسباب نزول الآية الأولى عبارات كثيرة للمفسرين ننقل بعضها: أ- قال ابن عباس. «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها. وإن شاءوا لم يزوجوها. فهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ... » رواه البخاري وغيره. وفي الآية نفسها قال ابن عباس. (وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها. فأحكم الله تعالى عن ذلك). أي نهى عنه. رواه أبو داود. وفي الآية نفسها قال ابن عباس. (كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها). وقال زيد بن أسلم في سبب نزول الآية: «كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية، ورث امرأته من يرث ماله. وكان يعضلها حتى يرثها أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسئ الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد، حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك» رواه ابن أبي حاتم. ب- وقال عطاء: إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة حبسها أهلها على الصبي يكون فيهم، فأنزل الله لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. ج- وقال مجاهد: (كان الرجل إذا توفي، كان ابنه أحق بامرأته. ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء: أخاه، أو ابن أخيه). د- وقال عكرمة: (نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس. توفي عنها أبو
قيس بن الأسلت. فجنح عليها ابنه. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فأنزل الله هذه الآية). 2 - وفي قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. اختار ابن جرير أن ذلك الزنا، والعصيان، والنشوز، وبذاء اللسان، وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها، أو بعضه، ويفارقها. قال ابن كثير: (وهذا جيد). 3 - بمناسبة قوله تعالى وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. قال ابن كثير: (وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة ويضحك نساءه، حتى كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم. ثم سابقته بعد ما حملت اللحم، فسبقني. فقال صلى الله عليه وسلم «هذه بتلك». ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤنسهم بذلك صلى الله عليه وسلم). 4 - قال عبد الله بن المبارك في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. (في الجاهلية. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ. في الإسلام). وهذه لفتة كريمة من ابن المبارك فإرث النساء انتهى. ولكن العضل لا زال محتملا. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً. قال ابن كثير: (وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل. وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما روى الإمام أحمد ... عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: (ألا لا تغالوا في صداق النساء. فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم. ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه. وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة). والأثر حسن صحيح كما قال الترمذي ...
وكلام سيدنا عمر هنا لا اعتراض عليه. فهو ندب إلى تخفيف المهور. ولكن روايات أخرى تذكر أنه عزم على الناس ألا يزيدوا على أربعمائة درهم. وأراد أن يمنع الزيادة بقوة السلطان. وعندئذ اعترضته امرأة من قريش. فقالت: يا أمير المؤمنين. نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟. قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟. قال: وأي ذلك؟. فقالت: أما سمعت الله يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ... الآية. قال: اللهم غفرا. كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع، فركب المنبر فقال: يا أيها الناس. كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: فمن طابت نفسه فليفعل» إسناده قوي. 6 - وبمناسبة قوله تعالى وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قال ابن كثير: وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: «واستوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله». 7 - وفي سبب نزول وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ .... ذكر ابن كثير رواية أخرى لحادثة مرت من قريب قال: أخرج ابن أبي حاتم: لما توفي أبو قيس- يعني ابن الأسلت- وكان من صالحي الأنصار- فخطب ابنه قيس امرأته فقالت: إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا قيس توفي فقال خيرا. ثم قالت: إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه وإنما كنت أعده ولدا فما ترى فقال لها: «ارجعي إلى بيتك» قال: فنزلت وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ... الآية. 8 - ذكر ابن كثير حكمة لتحريم زوجة الأب على الابن فقال: فإن في الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة، لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم علي حب النفوس (صلوات الله وسلامه عليه). أقول: ولئن كانت هذه حكمة فهناك حكم أخرى، فالرجل سيد زوجته، وأمه سيدته، فما أبشع أن يحل أمه محل تابعته، وزوجة أبيه أم له، والمسألة ذات وجوه أكثر تعقيدا، وأبعد عن أن يتكلم بها، يحس ذلك ذو الذوق المرهف. ثم قال ابن كثير: فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال، كما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة وفي رواية عمر «أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه
المعنى العام
من بعده أن يقتله ويأخذ ماله». 9 - قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية فعن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنها تحرم أيضا بذلك. أقول: وعند الحنفية لو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها الداخل بشهوة فإنها تحرم على ابنه وتحرم عليه بنتها. 10 - أخذ الحنفية من قوله تعالى وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ... أن الخلوة الصحيحة توجب المهر ولو لم يكن جماع لأن الإفضاء في الأصل: الخلوة. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. المعنى العام: لما ذكر في أول السورة نكاح ما حل من النساء، وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهن نساء الآباء، ذكر هنا المحرمات الباقيات، وهن سبع من النسب، وسبع من السبب، وبدأ بالنسب، فهاتان الآيتان هما آيتا تحريم المحارم، وما يتبعه من الرضاع، والمحارم بالصهر، وبعد أن عدد الله المحارم، بين أن ما عدا من ذكرن هن لنا حلال، إذا حصّلناهنّ بأموالنا من زوجات أربع، أو ما شئنا من السراري بالطريق الشرعي، لاعن طريق سفاح، وأنه كما نستمتع بهن فعلينا أن ندفع لهن مهورهن، في مقابل ذلك، إلا إذا وضعت هي لك منه شيئا؛ فهو لك سائغ، وختم الآية الأخيرة بالتذكير بعلمه وحكمته؛ فهو إن حرم حرم بعلم، ووضع كل شئ محله، يفهم من ذلك أن ما حرمه علينا ففي تحريمه محض الحكمة، وتحريمه أثر العلم.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ هؤلاء المحرمات السبع من النسب. 1 - الأمهات، والجدة من قبل الأم أو الأب في حكم الأم. 2 - البنات، وبنات الابن، وبنات البنت ملحقات بهن. 3 - الأخوات، سواء كن أخوات لأب وأم، أو أخوات لأب، أو أخوات لأم. 4 - العمات: وهن أخوات الأب من أمه أو من أبيه، أو من أبيه وأمه. 5 - الخالات وهن أخوات الأم، سواء كن أخواتها لأمها، أو لأبيها، أو لأبيها وأمها. 6 - بنات الأخ سواء كان أخا لأم، أو أخا لأب أو أخا لأب وأم. 7 - بنات الأخت سواء كانت أختا لأب، أو لأم، أو لأب وأم وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... هؤلاء المحرمات بسبب وهن سبع: 1، 2 وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. أنزل الله الرضاعة منزلة النسب؛ فسمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختا، فكما تحرم عليك أمك التي ولدتك أو أختك؛ تحرم عليك أمك التي أرضعتك، وبناتها، وبنات أبيك من الرضاعة قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» وعلى هذا فزوج المرضعة أب للرضيع، وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد لزوج المرضعة ولو من غير مرضعته قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته وأختها خالته وكل من ولد لها من هذا الزوج، فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم في الحكم. 3 - وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ... سواء دخل بمن عقد عليها أو لم يدخل فإن أمها تحرم عليه فبمجرد العقد على البنات تحرم أمهاتهن. 4 - وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. القاعدة: أن الدخول بالأمهات يحرم بناتهن، أما مجرد العقد على الأمهات بلا دخول بهن فإنه لا يحرم بناتهن، والربائب جمع ربيبة، والربيبة والربيب: هما ولد المرأة من غير زوجها، سميا بذلك لأن زوج الأم يربيهما كما يربي ولده في
الغالب، ثم توسع في ذلك، فسميا به وإن لم يربهما. وذكر الحجر في الآية على غلبة الحال دون الشرط، وفائدة ذكره التعليل للتحريم، أي: إنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم لهن، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. والربيبة إنما تحرم إذا دخل الرجل بأمها، فإذا لم يدخل بأمها فلا إثم عليه أن يتزوجها. والدخول بالأمهات كناية عن الجماع. واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول. وهل يحق له أن يتزوجها إذا لم يدخل بأمها مع بقاء العقد على أمها؟. بديهي أنه لا يجوز له ذلك. لأنه لو فعل، يكون قد جمع بين المرأة وابنتها، وهو لا يجوز. وإذن يجوز له أن يتزوج بنت زوجته التي لم يدخل بها بعد طلاق أمها أو بعد موتها. وهل يحل له أن يتزوج بنتها بعد طلاق أمها مباشرة؟ الجواب نعم لأنه إذا طلقها ولم يدخل بها كان الطلاق بائنا ولا عدة عليها. 5 - وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. الحلائل: جمع حليلة. وهي الزوجة. لأن كل واحد منهما يحل للآخر. أو يحل فراش الآخر، من الحل، أو الحلول. والمعنى: أن أزواج أبنائكم الذين من أصلابكم، محرمات عليكم. وذكر أبناء الأصلاب، لإخراج أزواج من كانوا يتبنونهم. وقد زوح الله رسوله صلى الله عليه وسلم زينب حين فارقها زيد. وقال الله تعالى (فى سورة الأحزاب) مبينا حكمة هذا التزويج. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ. وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع. لدخول ذلك في السنة. والحكم الحرمة سواء دخل بها الابن أو لم يدخل، فإنها تحرم على أبيه. 6 - وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح. ولكن ما مضى مغفور. قال ابن كثير في تفسيرها. (وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج). وكذا في ملك اليمين بأن يطأ الأختين المملوكتين له إلا ما كان منكم في جاهليتكم، فقد عفونا عنه، وغفرنا له. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل. لأنه استثني ما سلف .... وقد أجمع العلماء من الصحابة، والتابعين، والأئمة قديما، وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان خير، فيمسك إحداهما، ويطلق الأخرى لا محالة. وبمناسبة عفو الله عما سلف من الجمع بين الأختين، فقد ختم الله هذه الآية بقوله. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. غفر لكم ما مضى مما لم يسبق إليكم فيه بلاغ. ورحمكم بهذا الشرع الذي لم يحرم إلا ما في تحريمه رحمة بكم، وحكمة بالغة، تستفيدون بها في
[سورة النساء (4): آية 24]
دنياكم، وأخراكم. ومن رحمته بكم أن حرم عليكم ما حرم من المحرمات؛ لما في التحريم من مصالح لأنفسكم، ولمحارمكم. 7 - وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. المحصنات من النساء: أي ذوات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج، ثم استثنى من ذلك ذوات الأزواج إذا ملكناهن بالسبي وأزواجهن في دار الحرب. قال النسفي: (والمعنى: وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي: اللائي لهن أزواج، إلا ما ملكتموهن بسبيهن فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستيلاء) وبعد أن ذكر الله المحارم من النسب أو السبب قال تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. أي: فريضة الله عليكم أي: كتب الله عليكم فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه، وما فرضه. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ. أي: وأحل لكم ما سوى المحرمات المذكورة مما عدا من ذكرن من المحارم، فهن حلال لكم. أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ. أي: يبين لكم ما يحل وما يحرم لأن تبتغوا بأموالكم ما أحل الله لكم من الزوجات إلى الأربع، أو السراري. وذكر الأموال في هذا المقام، دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر، وأنه يجب المهر وإن لم يسم، وأن غير المال لا يصلح مهرا، وأن القليل لا يصلح مهرا إذ الحبة لا تعد مالا عادة. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. الإحصان: هو العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والمسافح: الزاني من السفح: وهو صب المني في غير محله الصحيح وهو الفرج الحلال، أي: ابتغاؤكم بأموالكم ينبغي أن يكون في حال كونكم محصنين، لا مسافحين، لئلا تضيعوا أموالكم فيما لا يحل. فتخسروا دينكم ودنياكم. ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. أي: فما نكحتموه منهن فآتوهن مهورهن مقابله. إذ المهر ثواب البضع. فَرِيضَةً. أي: فرض ذلك فريضة. أي: فرض إيتاء المهور في مقابل النكاح فريضة. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. أي: ولا إثم عليكم فيما تراضيتم به فيما تحط هي عنه من المهر، أو تهب له من كله، أو فيما يزيدها هو على ما تم الشروط عليه، أو فيما يتراضيان به من مقام أو فراق بعد أن تتم الفريضة وتستقر. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً: عليما بما خلق عليما بما شرع لخلقه، حكيما فيما خلق، وشرع، وفرض. ومن ذلك ما شرعه من عقد النكاح الذي به تحفظ الأنساب، ويبقى النسل، وتسعد المرأة والرجل.
فوائد
فوائد: 1 - رأينا أن من جملة المحرمات، البنات. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزانى عليه بعموم قوله تعالى وَبَناتُكُمْ فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة، وما لك، وأحمد بن حنبل. وقد حكي عن الشافعي شئ في إباحتها، لأنها ليست بنتا شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في الآية، والله أعلم. 2 - قال بعض الفقهاء: كل ما يحرم من النسب يحرم من الرضاعة، إلا أربع صور. وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع، والتحقيق أنه لا يستثنى شئ من ذلك لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يرد على القاعدة المأخوذة من نصوص الأحاديث شئ. 3 - اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة: فمنهم من قال: القطرة الواحدة في سن الرضاع تحرم، ومنهم من قال: لا تحرم أقل من خمس رضعات. 4 - في الصحيحين: أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان. وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان. قال: «أو تحبين ذلك؟». قالت نعم. لست بك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي. قال: «فإن ذلك لا يحل لي». قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: «بنت أم سلمة»؟ قالت: نعم. قال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي. إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن، ولا أخواتكن». وفي رواية للبخاري: «إني لو لم أتزوج أم سلمة، ما حلت لي». جعل في هذا الحديث مناط التحريم، مجرد تزوجه أم سلمة. وهذا أصل للقاعدة، أن الدخول في الأمهات يحرم البنات، وأن العقد على البنات يحرم الأمهات. وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وجمهور السلف، والخلف. 5 - قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها بملك اليمين. لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ. وملك اليمين عندهم، تبع للنكاح، إلا ما روي عن عمر وابن عباس. وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى، ولا من تبعهم.
6 - رأينا أن الدخول بالأمهات، يحرم البنات. وقد قال الحنفية: إن الخلوة الصحيحة دخول وبها تحرم البنت. ولكن ابن جرير قال: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها، ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة، ما يدل على أن معنى ذلك (أي الدخول) هو الوصول إليها بالجماع. 7 - عن إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني. اتخذت إحداهما سرية، فولدت لي أولادا. ثم رغبت في الأخرى. فما أصنع؟. فقال علي: تعتق التي كنت تطأ، ثم تطأ الأخرى. قلت: فإن ناسا يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى. فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها، أو مات عنها. أليس ترجع إليك؟. لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله- عزّ وجل- من الحرائر إلا العدد. ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر هذا الأثر مبينا قيمته: هذا الحديث رحلة رجل لو لم يصب من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة غيره، لما خابت رحلته. قال ابن كثير: وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ... إلى آخر الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، وكذلك يجب أن يكون نظرا وقياسا الجمع بين الأختين، وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. 8 - روى الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبيا من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكر هنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم. فنزلت هذه الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللنا فروجهن). 9 - حمل بعضهم قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً. على أنه في نكاح المتعة. والنص لا يفهم ذلك كما رأينا. وسواء كانت في نكاح المتعة أو لم تكن، فحرمة نكاح المتعة مقررة في السنة وثابتة فيها، فالمسألة تدور بين كون الآية منسوخة بالسنة إذا فهمناها على أنها في المتعة. أو أنها غير منسوخة إذا فهمناها على أنها في غير المتعة. والعمدة في تحريم المتعة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم
الحمر الأهلية يوم خيبر). وفي صحيح مسلم عن سبرة بن معبد الجهني أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا». 10 - ذكر صاحب الظلال تعليقا على الآيات التي حرمت علينا ما حرمت من النساء فقال: «هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية، ولم يذكر النص علة للتحريم- لا عامة ولا خاصة- فكل ما يذكر من علل، إنما هو استنباط ورأي وتقدير .. فقد تكون هناك علة عامة. وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم. وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم. وعلى سبيل المثال يقال: إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية، ويضعفها مع امتداد الزمن. لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية، على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة، تضاف استعداداتها الممتازة، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها. أو يقال: إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت. وكذلك نظائرهن من الرضاعة. وأمهات النساء، وبنات الزوجات- الربائب في الحجور- يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف، واحترام وتوقير، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال- مع رواسب هذا الانفصال- فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام. أو يقال: إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور، والأخت مع الأخت، وأم الزوجة، وزوجة الأب .. لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها. فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها، والبنت والأخت كذلك، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها، أو أختها التي تتصل بها، أو أمها، وهي أمها! وكذلك الأب الذي يشعر أن ابنه قد يخلفه على زوجته. والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له؛ لأنه سبقه على زوجته: ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب. أو يقال: إن علاقة الزواج جعلت لتوسيع نطاق الأسرة، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة. ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب والأقربين، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة، ومن ثم
المعنى العام
حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة. وأيا ما كانت العلة، فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة، ولا بد فيه مصلحة. وسواء علمنا أو جهلنا، فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئا، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ، مع الرضى والقبول. فالإيمان لا يتحقق في القلب، ما لم يحتكم إلى شريعة الله ثم لا يجد في صدره حرجا منها ويسلم بها تسليما» اهـ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. المعنى العام: بعد أن بين الله- عزّ وجل- ما أحل وما حرم من النساء، بين أنه في حالة عجز الإنسان عن نكاح الحرائر العفائف المؤمنات. فإن الله قد أباح له أن يتزوج من الإماء اللاتي يملكهن المؤمنون. والله- عزّ وجل- وحده هو الذي يعلم حقائق الأمور وسرائرها، ومن ذلك حقيقة الإيمان، غير أن لنا الظاهر، فمن كانت مؤمنة في الظاهر حل لنا نكاحها، ولكن نكاح الأمة ينبغي أن يتم بإذن سيدها ومالكها. ثم أمر تعالى بدفع مهورهن إلى أسيادهن، وألا يبخس منه شئ استهانة بهن. ثم بين أن الأمة التي تنكح ينبغي أن تكون عفيفة عن الزنى، لا معلنة به ولا مسرة به، لا زانية لكل الناس، ولا لأصحاب، أو صاحب معين. ثم بين أنه في حالة زناها بعد زواجها، فعليها نصف ما على المحصنات من الحد وهو: خمسون جلدة ولا ترجم. ولا يعني هذا أنه لا عذاب عليها إذا لم تكن متزوجة، بل عليها كما سنرى. والمهم أن نعرف أن حد الرجم لا يطبق عليها. وهذه الإباحة للزواج من الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا،
وشق عليه الصبر عن الجماع، وعنت بسبب ذلك كله، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة، وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا، فهو خير له، لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء. ومن هذه الآية الكريمة، استدل جمهور العلماء: على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر، ولا بد من خوف العنت حتى يجوز نكاح الإماء؛ لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد، ولما في ذلك من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن. ولأبي حنيفة رأي في هذا الموضوع خلاصته: أن من لم يكن متزوجا بحرة، جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية. سواء كان واجدا لطول حرة، أم لا، وسواء خاف العنت، أم لا. وسنرى ذلك إن شاء الله. ثم بين الله- عزّ وجل- في الآيات الأخيرة، أن له إرادة، وللكفار والفساق إرادة. فإرادته تعالى أن يبين لنا الحلال والحرام، وأن يدلنا على الطرائق الحميدة لمن قبلنا من الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء، وأن يطهرنا من ذنوبنا بتوبته علينا. وهو العليم الحكيم، يظهر علمه وحكمته في شرعه وقدره وأقواله وأفعاله. وأما إرادة الكفار، والفساق، ممن يتبعون الشهوات، فهي أن ننحرف انحرافا كبيرا عن الصراط المستقيم. وما نراه في عصرنا من تواطؤ الكافرين والفساق على إضلال أهل الإيمان تجسيد عملي لما ذكرته الآية. ثم بين الله- عزّ وجل- أن إرادته بنا ليست لإرهاقنا وعنتنا. بل أراد بنا فيما بين وشرع وهدى، التخفيف علينا في شرائعه، وأوامره، ونواهيه. وذلك لأن الله الذي خلق الإنسان، وعلم ضعفه، وتهالكه أمام الشهوات، أنزل له شريعة تناسب هذا الضعف في نفسه وعزمه وهمته، فكانت شريعة يسر، وشريعة تخفيف. وقد جاءت الآيات الثلاث الأخيرة، عقب التخفيف علينا، بإباحة تزوج الإماء. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المجتمع الإسلامي النظيف، يحتاج إلى وجود إماء، كعامل مساعد على نظافته من الزنا والفاحشة. نقول هذا غير آبهين لأي صوت كافر، يريد أن يأخذ على الإسلام إباحته الرق. في الوقت الذي يمتهنون فيه الإنسان كما لم يمتهن الحمار في يوم من الأيام.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. أي: ومن لم يجد منكم سعة، وقدرة، وزيادة أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ. أي: أن يتزوج الحرائر المسلمات، أو الحرائر العفيفات المسلمات فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. أي: فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات. وقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ. أي: من فتيات المسلمين. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة، فلينكح أمة. وقال النسفي- وهو من أئمة الحنفية-: ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا (أي عند الحنفية). والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقا مع التقييد به وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ. أي: هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، والإيمان- وهو مغيب- هو أعلم به، وفيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان، لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف، فلكم- أيها الناس- الظاهر من الأمور، فخذوا به. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. أي: فكلكم بنو آدم، وفيه تحذير من التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب. وفيه إشارة إلى عدم الاستنكاف من نكاح الإماء عند ضرورته. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ. أي: فتزوجوا الإماء بإذن سادتهن. قال الحنفية: وهو حجة لنا، في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن. لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم، وأنه ليس للعبد أو الأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى. وقال ابن كثير: فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. أي: وأدوا إليهن مهورهن من غير مطل ولا إضرار. وملاك مهورهن مواليهن. فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي. قال ابن كثير: أي وادفعوا مهورهن بالمعروف، أي: عن طيب نفس منكم، ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات. مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ: الإحصان: العفة. والمسافحة: هي الزانية علانية. والمتخذة خدينا: هن الزواني سرا. والأخدان: الأخلاء في السر. نهى الله عن تزوج وتزويج الأمة إذا كانت زانية سرا أو علنا، ولم تكن عفيفة ما دامت كذلك. فَإِذا أُحْصِنَّ. أي: بالتزويج. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ. أي: بزنا. فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ
[سورة النساء (4): آية 26]
الْعَذابِ. أي فعليهن نصف ما على الحرائر من الحد. يعني خمسين جلدة. فقوله: نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ. يدل على أن المراد بالعذاب هنا الجلد لا الرجم؛ لأن الرجم لا يتنصف، وأن المحصنات هنا: الحرائر اللاتي لم يزوجن، ودل على أن الإماء لا يرجمن في الزنا ولو تزوجن. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. أي: نكاح الإماء رخصة لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة، وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر. فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. أي: وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم، لأن فيه إرقاق الولد. ولأنها (أي الأمة) خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة، وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: غفور يستر المحظور، رحيم يرفع عنكم ما فيه مشقة عليكم. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. أي: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفضل أعمالكم، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. أي: وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء، والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ. أي: ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: عليم بمصالح عباده، حكيم فيما شرع لهم. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. هذا تأكيد لما سبق. كرره لذكر ما يقابله. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ. من الكفرة والفجرة. أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. أي: أن تميلوا عن القصد إلى الجور، وعن الحق إلى الباطل. والميل: الانحراف. ولا انحراف أعظم من موافقة أهل الباطل والفجور، ومساعدتهم على اتباع الشهوات. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه ومن ذلك ما أباحه لكم من إحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. أي: أمام الشهوات، لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات، ومن ثم خفف الله عليه بما يناسب ضعفه، وهو في سياقه يفيد ضعفه في أمر النساء، ومن ثم وسع عليه في شأنهن، قال وكيع في ذلك: يذهب عقله عندهن. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. يبحث المفسرون موضوع: هل تجلد الأمة إذا زنت قبل
كلمة في السياق
الإحصان خمسين جلدة نصف حد الحرة البكر؟. الجمهور قالوا: الأمة تجلد خمسين جلدة سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة إذا زنت. وذهب قوم- منهم ابن عباس- أن الأمة إذا زنت، ولم تحصن فلا حد عليها وتضرب تأديبا، ويشهد للأولين ما رواه الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: (يا أيها الناس، أقيموا الحد على إمائكم من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها. فإذا هي حديثة عهد بنفاس. فخشيت إن جلدتها أن أقتلها. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «احسنت، اتركها حتى تتماثل»). وهل يجمع بين الجلد والنفي؟. أقوال. والخلاف فيه أثر عن الخلاف في الأصل في جمع الجلد، والنفي على الحرة البكر إذا زنت. كلمة في السياق: لاحظنا أن هذا المقطع انصب على موضوع الحل والحرمة في قضايا نسائية: إرث المرأة، حسن العشرة، حرمة العضل، حرمة نكاح زوجة الأب، المحارم من النساء، ما أحل الله بعد المحارم، حل زواج الأمة في حالة تعذر طول الحرة. ولو أننا تذكرنا أن سورة النساء تفصل في قوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وما هو ألصق بها من معاني سورة البقرة. وتذكرنا أن العضل قد ورد في سورة البقرة، أثناء الكلام عن موضوع الطلاق والوفاء والخطبة؛ فإننا نجد أن هذا المقطع من سورة النساء هو تفصيل لامتدادات محور هذه السورة في سورة البقرة. وعلى هذا الأساس نفهم أن من التقوى في الإسلام عدم العضل للمرأة، وحسن العشرة لها، واجتناب نكاح المحارم، وإيتاء الزوجة حقوقها. وتحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم. وقبول بيان الله، وهداه في كل شأن من شئون الحياة. إن هذا المقطع من سورة النساء، يشبه المقطع الذي تم فيه الكلام عن كثير من الأحوال الشخصية للإنسان في سورة البقرة، وكل ذلك مكانه في التقوى الاهتداء بكتاب الله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولنتذكر أن سورة النساء تفصل في الآية المشابهة لبدايتها في سورة البقرة. والمعاني المرتبطة بها في سورة البقرة نفسها، فإذا تذكرنا هذا فلنذكر أن في سورة البقرة قوله
تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .... وأننا قلنا هناك: إن هذه الآية تصحح مفهوما، وتوسع مفهوما، وتدخل في التقوى ما هو منها. والآن يأتي مقطع جديد في سورة النساء يعمق مفهوم التقوى، ويدخل فيها ما هو منها. ويهذب الإنسان مما يناقضها. وهو مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .... وبعد هذا الكلام العام عن صلة المقطع بمحوره من سورة البقرة وامتدادات هذا المحور فلنقف وقفات متأنية حول السياق: 1 - لو تأملنا الآية الأولى من مقطع الطريقين: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لوجدنا أنها تقرر أن الله- عزّ وجل- هو الذي خلقنا، وخلق من قبلنا؛ وبناء عليه فإنها تطالبنا بالعبادة؛ من أجل أن نتحقق بحقيقة تقواه، ونلاحظ أن سورة النساء تفرع على هذه الأصول، فهي تطالبنا بالتقوى وتذكرنا بأن الله- عزّ وجل- خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وبناء على أن الأمر كذلك فما هي الأحكام التي تحكم هؤلاء الرجال والنساء؟ وهكذا وجدنا المقطع الأول والثاني يفصل في مثل هذه الشئون. 2 - وسنلاحظ أن المقطع الثالث في مجموعة من مجموعاته هو استمرار لمثل ما مر معنا في المقطع الأول والثاني ولكنا سنري أن مجموعة أخرى من مجموعاته ستبدأ بقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وتأمل محور السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إن الدمج بين الأمر بالعبادة وترك الشرك، والأمر بالإحسان لأنواع من البشر، مرتبط أي ارتباط بالمحور، وبعد آيتي المحور اللتين ذكرناهما يأتي قوله تعالي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا .. وسنرى أن المقطع الرابع سيكون فيه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. ثم إن آية المحور الرابعة تختم بقوله تعالى:
المقطع الثالث من سورة النساء
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ والآية الخامسة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .... وسنرى أنه في نهاية المقطع الرابع سيأتي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. ألا ترى كيف أن هذه المقاطع تفصل في محورها من سورة البقرة بشكل واضح. 3 - ونحب دائما أن نذكر أن ارتباط أي سورة بمحورها لم يكن على حساب سياقها الخاص، فالصلات بين الآيات في المقطع، وبين بدايات المقاطع اللاحقة، ونهايات المقاطع السابقة، كل ذلك على أكمله وأتمه، ونحن في الغالب أثناء الشرح الإجمالي، أو الحرفي، أو في التقديم للمقطع، نشير إلى دقائق في هذه الشئون نرجو ألا تغيب عن ذهن القارئ وهو يستجمع ما نقوله في موضوع السياق. المقطع الثالث من سورة النساء يمتد هذا المقطع من الآية (29) إلى نهاية الآية (42) وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 29 الى 32] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
[سورة النساء (4): الآيات 33 الى 39] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) ***
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 40 الى 42] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) كلمة في المقطع: أثناء الكلام عن سورة آل عمران قلنا: إن سورة آل عمران، تفصل في محورها من سورة البقرة وهو المقدمة، وفي امتدادات معاني هذه المقدمة في السورة. ورأينا نماذج ذلك. ولقد رأينا في المقطعين، الأول والثاني من سورة النساء، كيف أن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وفي امتدادات هذا المحور في سورة البقرة. ومن ثم، فكثير من القضايا التي جاءت في سورة البقرة، والتي هي ذات صلة بالعبادة والتقوى. تأتي هاهنا تفصيلات، أو توضيحات في شأنها. وقد أدخل هذا المقطع في قضية العبادة، والتقوى، والإيمان، والعمل الصالح. ألا نأكل أموال بعضنا بالباطل. وألا نقتل أنفسنا، وألا يتمنى النساء ما أعطيه الرجال، والإحسان إلى أصناف من الناس، وتحريم الاختيال والفخر والبخل. كما عرض المقطع في سياقه لأمور أخرى. ولو أردنا أن نبرهن على ما ذهبنا إليه، من أن سورة النساء تفصيل لمحورها من سورة البقرة، ولامتدادات هذا المحور. فإننا نقول: إن محور سورة النساء من سورة البقرة هو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ..... هُمْ فِيها خالِدُونَ. وفي سورة البقرة نجد من امتدادات المحور: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. وفي سورة البقرة نجد من امتدادات المحور: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. ومن امتدادات المحور: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
المعنى العام
ونلاحظ هنا أن هذا المقطع قد وجد فيه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ .... وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إن من تأمل مثل هذا، لا يستغرب ما ذهبنا إليه في موضوع المحور، وامتدادات معانيه. وأن سورة النساء تفصيل لذلك كله. ولنبدأ بعرض الفقرة الأولى في المقطع. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً* وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً* وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً. المعنى العام: ينهى الله تبارك وتعالى عباده في الآية الأولى عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل. أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كالنهب، والسرقة، والغصب، والغش، والربا، والقمار، وما جرى مجرى ذلك، ويدخل في ذلك سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في صورة الحكم الشرعي، فإنه مما لا يخفى على الله نية صاحبها في أنه يريد أن يحتال، ثم بين الله- عزّ وجل- طريق الحل في التعامل، وهو طريق التبادل القائم على الرضا ضمن ما أباحه الله وشرعه، ثم نهانا- جل جلاله- أن نقتل أنفسنا، بقتل بعضنا بعضا. أو بقتل الواحد منا نفسه، ثم بين أنه شرع لنا هذا كله رحمة بنا. وفي الآية الثانية، بين الله- عزّ وجل- أن من يتعاطى ذلك منا من أكل مال بباطل، أو قتل نفس مؤمنة، معتديا في فعله، ظالما في تعاطيه، عالما بتحريمه، متجاسرا على
المعنى الحرفي
انتهاكه؛ فإن الله سيصليه نارا، وأن إصلاءه هذه النار ليس صعبا على الله. وفي هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد. فليحذر منه كل عاقل لبيب. وفى الآية الثالثة، قعد الله- عزّ وجل- قاعدة وهي: أننا إذا اجتنبنا الكبائر؛ غفر الله لنا الصغائر؛ وأدخلنا باجتناب الكبائر جنته، وقد فهم من ذلك من فهم- كما سنرى إن شاء الله- أن ما ذكر فى المحرمات فيما مضى من سورة النساء قبل هذه القاعدة كبائر يجب اجتنابها. وفي الآية الرابعة نهى الله الرجال أن يتمنوا ما خص به النساء، ونهى النساء أن يتمنين ما خص به الرجال، ومن ذلك: ما خص به النساء في الإرث، وما خص به الرجال في الإرث، وأن كلا من الرجال والنساء، مجزي على عمله ونيته بما يستحقه، وأمر الله الجميع رجالا، ونساء أن يسألوه من فضله. فإنه كريم وهاب. وختم الله الآية، بالإعلام أنه بكل شئ عليم. وهي في هذا المقام تفيد أنه إن خص الرجال بشيء فبعلم، وإن خص النساء فبعلم، وإن أعطى فبعلم، وإن جازى فبعلم، وإن سئل فإنه يعلم؛ وبعلم يعطي. وبمناسبة الكلام عن عدم أكل أموال الناس بالباطل، وعدم تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، وعدم تمني النساء ما للرجال، والعكس، تأتي القاعدة: أن لكل من الرجال، والنساء جعل الله ورثة، يرثون ما تركه الوالدان والأقربون، مما هو مقرر في وصية الإرث، ويذكر الله هنا صورة تسمى عند فقهاء الحنفية ومن وافقهم- والتي يعتبرها غيرهم منسوخة- بعقد مولى الموالاة: وهو الرجل من غير العرب إذا أسلم وليس له وارث معروف، فيتعاقد مع عربي أن يرثه العربي المسلم إذا لم يكن وارث أحق، ويعقل عنه العربي إذا جنى أي جناية تستوجب العقل، فهؤلاء الذين عقدوا هذا العقد يورثون من مواليهم إذا لم تكن قرابة أولى كما رأينا، فههنا وعلى هذا الفهم للآية يأمر الله- عزّ وجل- في هذا السياق أن يعطى هؤلاء نصيبهم من التركة، ويذكرنا الله- عزّ وجل- بأنه الشهيد على كل شئ. ويفيد هذا المعنى في هذا السياق: أن الله شاهد على عقودكم ففوا بها. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. أي: لا تأكلوا أموالكم
[سورة النساء (4): آية 30]
بينكم بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. أي: إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض منكم، ومظهر التراضي: العقد. وهل التعاطي يدل على التراضي؟ قولان للفقهاء. أجازه الحنفية، ومنعه الشافعية، وفرق بعضهم في جوازه بين الخسيس والنفيس، وخصت التجارة بالذكر، لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها، قال النسفي- من الحنفية-: والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي، وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا، وعلى نفي خيار المجلس؛ لأن فيها إباحة الأكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. ذكر النسفي في تفسير هذا النهي خمسة معان كلها محرم. الأول: ولا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، الثاني، أي: لا يقتلن أحدكم نفسه. أي: لا ينتحر. الثالث، أي: لا تقتلوا أنفسكم بظلم بعضكم بعضا في موضوع الأموال فظالم غيره كمهلك نفسه. الرابع: لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها. الخامس، أي: لا ترتكبوا ما يوجب القتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولرحمته نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم، وبقاء أبدانكم، ومن مظاهر رحمته بكم أيتها الأمة المسلمة: أن الله أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم؛ ليكون ذلك توبة لهم، وتمحيصا لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة. بل نهاكم عنها. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. أي: القتل. عُدْواناً وَظُلْماً. أي: لا خطأ، ولا قصاصا. فصار المعنى: ومن يقدم على قتل الأنفس المؤمنة، لا خطأ، ولا قصاصا. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً. أي: فسوف ندخله نارا مخصوصة، شديدة العذاب. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. أي: وكان إصلاؤه النار على الله سهلا. قال النسفي: وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. أي: إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. أي: مدخلا حسنا. أي الجنة. قال النسفي: «وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر، وعلى أن الكبائر غير مغفورة، باطل؛ لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء، إن شاء عذب عليهما، وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى
[سورة النساء (4): آية 32]
وقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات يطلق عليهما» وقد فهم ابن مسعود من السياق أن الكبائر هي ما ذكرت في سورة النساء سابقة لهذه الآية. وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. هذا نهي من الله- عزّ وجل- أن يتمنى الرجال ما فضل به النساء، أو أن تتمنى النساء ما فضل به الرجال، ونهي من الله أن يتمنى الناس ما فضل الله به بعضهم على بعض. وقد جاء هذا في سياق النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، والنهي عن قتل الأنفس. فإذا عرفنا أن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، وتمني ما فضل الله به الرجال على النساء هو مرض العصر، وأساس الكثير من مذاهبه، وعنه تصدر بعض المذاهب الضالة، إذا عرفنا ذلك أدركنا بعض مظاهر الإعجاز في هذا القرآن. والصلة بين هذه الآية وسياقها واضحة، فصلتها بما قبلها من حيث إن أخذ مال الغير بالباطل، وقتل النفس بغير حق، له صلة بتمني مال الغير وجاهه، فنهاهم الله عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، من الجاه، والمال؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله، صادرة عن حكمة، وتدبير، وعلم بأحوال العباد، وبما ينبغي لكل من بسط له في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له، ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد: أن يتمنى كون ذلك الشئ له ويزول عن صاحبه، والغبطة: أن يتمنى مثل ما لغيره، وهو مرخص فيه والأول منهي عنه، وهذا كله مقيد بما إذا كان كل إنسان قائما بحق الله في ماله وعمله، أما إذا لم يقم بحق الله تعالى فالأمر عندئذ له أحكامه، وعلى الدولة، والإمام أن يتدخلا لإقامة أمر الله في موضوع الأموال وغيرها. وأما صلة هذه الآية بما بعدها فمن حيث إن الله سيذكر بعد آية قوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فكانت هذه الآية مقدمة لتلك، ومخالفة النهي الموجود في هذه الآية هو رأس الأسباب التي أوصلت كثيرا من نساء المسلمين، وبناتهم إلى الردة، والفجور، والفسوق. وبداية هذا الاتجاه كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم نزلت هذه الآية تعالج هذا الأمر كما سنرى في الفوائد إن شاء الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. أي: كل له جزاء عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، أي لكل من الرجال والنساء كسبه الذي سيجزيه الله عليه فيما كلفه الله به، فعلام يتمنى أحد ما فضل به الآخر ما دام نجاح كل واحد في امتحانه عليه مدار جزائه ومكافأته، فليهتم الرجال بما كلفوا به، ولتهتم النساء بما كلفن به، وليهتم الجميع بما كلفوا به، وعوضا عن أن يتمنى أحد ما لأحد قال
[سورة النساء (4): آية 33]
تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. أي: بدلا من أن تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، سلوا الله يعطكم، فإنه واسع الفضل. قال ابن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. تفضيله بعلم، وعطاؤه بعلم، وإذا سئل يعلم، فلا تعترضوا على الله في فعل أو حكم. وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ. الموالي: هم الوراث، يلون المال ويحرزونه. وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ. يحتمل في هذا المقام إما: ولكل أحد، وإما: ولكل مال. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. فصار المعنى: لكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا وراثا يرثونه ويحوزونه، هذا على تقدير أن المحذوف بعد: (ولكل) كلمة: مال، وعلى القول بأن المقدر بعد (ولكل) كلمة: أحد يكون المعنى: ولكل أحد جعلنا له وراثا يرثون مما ترك الوالدان والأقربون. وعلى هذا نكون قد قدرنا فعلا قبل (مما ترك). استخرجناه من معنى قوله تعالى: مَوالِيَ. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. أي: والذين عاقدتهم أيديكم أي: عقدت عهودهم أيمانكم فأعطوهم نصيبهم من الميراث. وفي الآية إشارة إلى عقد الموالاة، وهو مشروع عند الحنفية، ويرث صاحبه الميت بعد أصحاب الفروض، والعصبة، وذوي الأرحام، وتفسيره: إذا أسلم رجل أو امرأة ولا وارث له، وليس بعربي، ولا معتق، وأراد فإنه يقول لعربي مسلم: واليتك على أن تعقلني إذا جنيت، وترث مني إذا مت، ويقول الآخر: قبلت. انعقد ذلك، ويرث العربي من مولاه إذا لم يكن هناك أحق منه من صاحب فرض، أو عصبة، أو رحم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً. فهو عالم الغيب والشهادة، ويفيد هنا أنه شهيد على عقودكم ففوا بها، وقوموا بالتزاماتها، وهو أبلغ وعد ووعيد، فإذا كان الله شهيدا على عقودنا فإنه يأجر على الوفاء، ويعاقب على الغدر والنكث. فوائد: 1 - يعتبر فقهاء الشافعية أن من تمام التراضي بالبيع، إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا». وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا». وهذا مذهب أحمد. وفهم الحنفية من الحديث، أن المراد منه تفرق الأقوال، لا الأجساد. 2 - وقال الفقهاء: إن من تمام التراضي في عقد البيع، مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام إذا وجد في العقد. وما زاد على الثلاثة أيام، فيه خلاف فمنهم
من أجاز الشروط، ولو إلى سنة. 3 - روى الإمام أحمد، وغيره عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: (احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك. فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب». قال: قلت يا رسول الله: إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله عزّ وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا) 4 - قال صلى الله عليه وسلم: من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا». والحديث في الصحيحين. وفي هذا المعنى ما رواه الجماعة: «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة». وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح، فأخذ سكينا، نحر بها يده. فما رقأ الدم حتى مات. قال الله- عزّ وجل: عبدي بادرني بنفسه. حرمت عليه الجنة». 5 - روى البزار عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا- عزّ وجل- ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال: أن تجاوز لنا عما دون الكبائر، يقول الله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. 6 - روى البخاري عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «والذي نفسي بيده». ثلاث مرات. ثم أكب، فأكب، كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشرى. فكان أحب إلينا من حمر النعم. فقال: «ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له: ادخل بسلام». وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله: وما هن؟. قال: «الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وقد اختلف الناس كثيرا في تفسير الكبائر، وعدها، وحدها، وكونها ذكرت في الحديث السابق سبعا لا يفيد الحصر، لأن لفظ الكبيرة قد ورد في أحاديث أخرى. وورد فيها غير السبع، فذكرت شهادة الزور على أنها من أكبر الكبائر، وذكر من الكبائر، اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله- عزّ وجل- والأمن من مكر الله، وذكر التعرب بعد الهجرة. وذكر عمر رضي الله عنه في إحدى رسائله، أن من الكبائر، الجمع بين الصلاتين، والنهبة، وذكر في بعض الأحاديث، أن من أكبر الكبائر استطالة الرجل في عرض رجل مسلم بغير حق. ومن الكبائر السبتان بالسبة. وذكر في بعض الأحاديث، أن من الكبائر عقوق الوالدين، واليمين الغموس. وقد ألفت كتب في الكبائر، وحدها، وعدها. فلتراجع. ومما يدل على أن الكبائر كثيرة، وهي أكثر مما ذكر في الحديث الأول: أنه لا يشك أحد في أن الزنا، والسرقة كبيرتان. ولم تدخلا في الحديث. ولذلك قال ابن عباس: (هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع). وقال مرة: (هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع. غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار) وإنا نسأل الله توبته، وإنا لنرجوا شفاعة رسولنا صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». رواه عبد الرزاق. وفي الصحيح شاهد لمعناه. وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة: «أترونها للمؤمنين المتقين؟. لا. ولكنها للخاطئين المتلوثين». 7 - عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث؟. فنزلت الآية. أي قوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ .... وقال السدي في الآية: قال الرجال إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء. فإنا لا نستطيع أن نقاتل. ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأبى الله ذلك. ولكن قال لهم: سلوني من فضلي ... وقال ابن عباس في الآية: ولا يتمنى الرجل، فيقول: ليت لو أن لي مال فلان، وأهله. فنهى الله عن ذلك. ولكن يسأل الله من فضله. 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله. فإن الله يحب أن يسأل، وإن أفضل العبادة،
المعنى العام
انتظار الفرج». ورواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله. فإن الله يحب أن يسأل. وإن أحب عباد الله إلى الله الذي يحب الفرج». 9 - يرى بعضهم أن عقد مولى الموالاة المذكور في قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قد نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.* وبقي النصر، والرفادة، والنصيحة. ونقول: إن الذين أثبتوا الإرث بعقد الموالاة لا ينفون أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض. ولكن يقولون: إذا لم يكن ورثة أصحاب فروض، أو عصبات، أو أرحام، فإن مولى الموالاة يرث. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً* وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً. المعنى العام: يبين الله- عزّ وجل- في هذه الآيات أن الرجل هو القيم على المرأة، فهو رئيسها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت، وذلك لفضل الرجل على المرأة بالخصائص، ومن ثم كانت النبوة في الرجال، وكذلك الخلافة، وكذلك القضاء. ثم لكون الرجل هو المكلف بالمهر، والنفقة عليها؛ فالرجل في الجملة أفضل من المرأة، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيما عليها، فالصالحات من النساء يعطين الطاعة لأزواجهن، ويحفظن أزواجهن في غيبتهم بما يوفقهن الله- عزّ وجل- لذلك. وإذ أعطى الله- عزّ وجل- حق الطاعة للرجل على المرأة، بين أن المرأة التي تترفع على زوجها، وتترك أمره، وتعرض عنه تستحق الوعظ، والتخويف من الله، ثم الهجر داخل البيت: إما بأن لا ينام معها، وهو معرض عنها، بأن يدير لها ظهره، ولا يكلمها، ولا يجامعها. وذلك عليها شديد. ثم إن لم ترجع إلى الطاعة، فقد أذن له أن يضربها ضربا غير مبرح. فإذا أطاعت زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها، ولا هجرانها. فإن الله العلي
المعنى الحرفي
الكبير وليهن، وهو منتقم ممن ظلمهن، وبغى عليهن. وبعد أن بين علاج حالة ما إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ذكر حالة ما إذا كان النفور من الزوجين وعلاجه، فإذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم. فإن تفاقم أمرهما، وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل ليجتمعا، فينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق- على خلاف بين الفقهاء في كونه للحكمين- أو التوفيق على إجماع. وندب الشارع إلى التوفيق. والله عزّ وجل عليم بالنيات، والإرادات، خبير بالظلم من صاحبه. المعنى الحرفي: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. أي: الرجال يقومون على النساء آمرين، ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قواما لذلك. بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. أي: هذه القوامة والسيطرة بسبب تفضيل الله بعضهم، وهم الرجال، على بعض، وهم النساء، بالعقل، والحزم، والرأي، والقوة، ونوع العواطف المؤهلة للقوامة، والغزو، وكمال الصوم، والصلاة، والنبوة، والخلافة، والإمامة، والأذان، والخطبة، والجماعة، والجمعة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وتضعيف الميراث، والتعصيب فيه، وملك النكاح، والطلاق. وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى، والعمائم. إن الخصائص والصفات التي فضل الله بها الرجل على المرأة كأثر عن اختلاف الجسم والوظيفة، والتي ترتب عليها اختلاف في الأحكام هي سبب القوامة الأول. والسبب الثاني وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. أي: وبسبب أن المهر والنفقة عليهم، وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم. فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ. أي: فالصالحات من النساء، مطيعات لأزواجهن، قائمات بما عليهن لهم. حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ. أي: حافظات لواجب الغيب. أي: حافظات لغيبة أزواجهن. أي: إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج، والبيوت، والأموال. ويدخل في ذلك حفظهن لأسرار أزواجهن في غيبتهم. بِما حَفِظَ اللَّهُ. أي:
[سورة النساء (4): آية 35]
حفظهن للغيب، بسبب حفظ الله إياهن، وعصمتهن وتوفيقهن لحفظ الغيب، حيث صيرهن كذلك. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ. أي: واللاتي تخافون عصيانهن، وترفعهن عن طاعة الأزواج. فَعِظُوهُنَّ. هذا أول الدواء. أي: فخوفوهن عقوبة الله تعالى. والعظة، كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطبائع النافرة. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ. هذا ثاني الدواء، وهو الهجر في المضجع، أي المرقد. أي: لا تدخلوهن تحت اللحف، وهو كناية عن الجماع، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع، إذ لم يأمر الله تعالى بهجرانهن عن المضاجع، بل قال: في المضاجع. فالهجر إذن يبقى داخل البيت، وفي الفراش. وَاضْرِبُوهُنَّ. هذا ثالث الدواء. أمر بالضرب، وقيدت السنة هذا الضرب بأن يكون غير مبرح، أي غير مؤثر. أي: ضربا رفيقا، لا يكسر فيها عضوا ولا يترك أثرا. أمر بوعظهن، ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجح فيهن الوعظ والهجران. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. أي: فإن أعطين الطاعة، فلا تطلبوا لهن سبيلا لتتعرضوا لهن بالأذى. أي: فإن أطعنكم فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً: تذكير الله إيانا بصفتي العلو والعظمة في هذا المقام يفيد: أيها المؤمنون إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرة الله عليكم أعظم من قدرتكم عليهن، فاجتنبوا ظلمهن. أو: أيها المؤمنون إنكم تعصون الله على علو شأنه، وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون، فيتوب عليكم. فعليكم بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما. الخطاب لولاة المسلمين، وقضاتهم. والشقاق: العداوة والخلاف، والضمير للزوجين، ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء. فصار المعنى: وإن خفتم أيها الولاة، والقضاة شقاقا بين زوجين فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. أي: فابعثوا من أهله رجلا يصلح للحكومة والإصلاح بينهما، وابعثوا من أهلها رجلا كذلك. وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، ونفوس الزوجين أسكن إليهم، فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة. وما هي حدود صلاحية الحكمين؟ هل التوفيق فقط، أو التوفيق والتفريق. وإذا كان لهما التفريق، فما حدوده؟ قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين، إذا اختلف قولهما، فلا عبرة بقول الآخر. وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع، وإن لم
فوائد
يوكلهما الزوجان، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة؟ ثم حكى عن الجمهور، أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل. قال إبراهيم النخعي: إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة، أو بطلقتين، أو ثلاث، فعلا. وهو رواية عن مالك. ومذهب الحنفية: أن لهما الجمع لا التفريق. وسبب الاختلاف يعود إلى أن الحكمين، هل هما منصوبان من جهة الحاكم، فيحكمان، وإن لم يرض الزوجان. أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟. على قولين. والجمهور على الأول. وهو الجديد من مذهب الشافعي. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. الضمير في يريدا، للحكمين. وقيل للزوجين. والضمير في بينهما، للزوجين، وقيل للحكمين. والمعنى على الأول: إن قصد الحكمان إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة، بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق. وإذا اعتبرنا الضميرين للحكمين، يكون المعنى: إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين، يوفق الله بينهما، فيتفقان على الكلمة الواحدة، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد، وإن اعتبرنا الضميرين للزوجين، كان المعنى: إن يريدا إصلاح ما بينهما، وطلبا الخير، وأن يزول عنهما الشقاق، يلق الله بينهما الألفة، ويبدلهما بالشقاق الوفاق، وبالبغضاء، المودة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً عليما بإرادة الحكمين، خبيرا بالظالم من الزوجين. فوائد: 1 - إن تجار السياسة في كثير من بلدان العالم يتاجرون في الأغلب في قضيتين: القضية الأولى: قضية الأموال. والقضية الثانية: قضية النساء. فباسم إعادة توزيع الملكية، أو إلغائها. وباسم حرية المرأة ومساواتها: يضلون ويضلون، مستغلين الجهل، أو الفسوق، أو عقدة النقص، أو مستثيرين الحقد. وفي هذا المقطع وضع للأمور في نصابها الصحيح. المال مال الله، لا يؤكل إلا بطريق مشروع. والرجال قوامون على النساء. ولا يصح للرجال أن يتمنوا ما أنعم الله به على بعضهم. ولا يصح للنساء أن يتمنين ما للرجال. 2 - روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». وبعض أصحاب النظر القاصر، يستشكلون هذا خاصة في عصرنا الذي وصل فيه إلى رئاسة كثير من الدول، نساء. وكان لهن وزنهن. والجواب: أن العبرة
عادة في مثل هذه الظروف، لكل النتائج التي تترتب على تصرفات المرأة الحاكمة. ليس على المدى القريب. بل على المدى القريب والبعيد. 3 - قال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص. فأنزل الله عزّ وجل. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية. فرجعت بغير قصاص. رواه ابن جريج، وابن أبي حاتم، وابن جرير. وروى ابن جرير عن علي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له. فقالت: يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها، فأثر في وجهها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس له ذلك». فأنزل الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. أي: في الأدب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرادت أمرا، وأراد الله غيره». 4 - روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء امرأة، إذا نظرت إليها، سرتك. وإذا أمرتها، أطاعتك. وإذا غبت عنها، حفظتك في نفسها، ومالك». قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى آخرها. وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها». وروى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح». وفي رواية البخاري: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت عليه، لعنتها الملائكة حتى تصبح». 5 - في السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله: ما حق امرأة أحدنا عليه؟. قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح.
ولهن رزقهن، وكسوتهن بالمعروف». وقال ابن عباس: يهجرها في المضجع. فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح. ولا تكسر لها عظما. فإن أقبلت، وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية». (أي في الخلع). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مرة): «لا تضربوا إماء الله. فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن. فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن، ليس أولئك بخياركم». وروى الإمام أحمد عن الأشعث بن قيس قال: ضفت عمر رضي الله عنه، فتناول امرأته، فضربها. فقال: يا أشعب! احفظ عني ثلاثا، حفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل الرجل فيما ضرب امرأته. ولا تنم إلا على وتر، ونسي الثالثة. 6 - في تفسير قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله- عزّ وجل- أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل، ورجلا مثله من أهل المرأة. فينظران أيهما المسئ فإن كان الرجل هو المسئ، حجبوا عنه امرأته، وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض، ولا يرث الكاره، الراضي» رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. 7 - روى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين. قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا، جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا، ففرقا. فهذا مذهب سيدنا عثمان رضي الله عنه. وروى عبد الرزاق عن عبيدة قال: شهدت عليا جاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فئام من الناس. فأخرج هؤلاء حكما، وهؤلاء حكما. فقال علي للحكمين: أتدريان ما عليكما؟. إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي. وقال الزوج: أما الفرقة، فلا. فقال علي: كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله- عزّ وجل-
المعنى العام
لك وعليك، فهذا مذهب علي رضي الله عنه. وقد رأينا أن كون الحكمين لهما حق التفريق أو لا؟ قولان للعلماء. وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. بعد أن وضع الله الأمور مواضعها في قضايا المال، والنفس، والمرأة. أمر بعبادته، والإحسان إلى خلقه، والإنفاق في سبيله مبينا علة البخل. المعنى العام: يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده، لا شريك له. فإنه هو الخالق الرازق المنعم، المتفضل على خلقه، فهو المستحق أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته. ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين. فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود. وكثيرا ما يقرن الله سبحانه بين عبادته، والإحسان إلى الوالدين. ثم عطف على الإحسان إليهما، الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، ثم عطف على ذلك الإحسان إلى اليتامى، وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم. فأمر الله بالإحسان إليهم، والحنو عليهم، ثم عطف على الإحسان إلى ما سبق، الإحسان إلى المساكين، وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفاياتهم. فأمر الله سبحانه بمساعدتهم، بما تتم به كفايتهم، وتزول ضرورتهم. ثم أمر بالإحسان إلى الجار ذي القربى، والجار القريب، والصاحب في العمل، والصاحب في البيت، والصاحب في السفر، ثم أمر بالإحسان إلى ابن السبيل. وهو الضيف، أو الذي يمر عليك في سفر. ثم بين الله- عزّ وجل- بعد أن أمر بعبادته، والإحسان إلى خلقه، أنه تعالى لا يحب من كان مختالا في نفسه، متكبرا فخورا على
المعنى الحرفي
الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض، يفخر على الناس بما أعطاهم، ويفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك. والسياق يدل على أن من لا يعبد الله، ولا يحسن إلى خلقه، لا بد أن يكون فيه اختيال، وفخر. ولذلك وصف الذين يختالون، ويفخرون بأنهم يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل. وأنهم يجحدون نعمة الله عليهم، ولا يظهرونها، لا في العطاء، ولا في البذل. ثم هدد الله الكافرين بالعذاب الأليم. مما يدل على أن الأخلاق المذكورة من اختيال، وفخر، وبخل، وكتمان لفضل الله، إنما هي أخلاق الكافرين، لا أخلاق المؤمنين. ثم وصف الله الكافرين بخلق من أخلاقهم، وهو أنهم إذا أنفقوا، فإنما يريدون بإعطائهم، السمعة، وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله. وأنهم لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر. وإنما حملهم على صنيعهم القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سول لهم، وأملى لهم، وقارنهم فحسن لهم القبائح. ومن كان الشيطان صاحبه، فساء صاحبا. ثم خاطبهم الله تعالى بأنه: أي شئ يضرهم لو آمنوا بالله، وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص؛ رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها. ثم ذكر الله- عزّ وجل- بعلمه. وهو في هذا السياق يفيد: أنه عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه، ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه. وبمن يستحق الخذلان، والطرد عن جنابه الأعظم، الذي من طرد عن بابه فقد خاب، وخسر في الدنيا والآخرة عياذا بالله من ذلك. المعنى الحرفي: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «أتدري ما حق الله على العباد؟. قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم». فالأمر الأول، والواجب الأول، هو معرفة الله، وتوحيده، وطاعته، وعدم الشرك به- في شأن ألوهيته، وفي شأن ربوبيته- بشرا، أو حجرا، أو كونا، أو طبيعة، أو مجتمعا، أو غير ذلك. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. أي: وأحسنوا بهما
[سورة النساء (4): آية 37]
إحسانا بالقول والفعل، والإنفاق عليهما عند الاحتياج. وَبِذِي الْقُرْبى. أي: وأحسنوا بكل من كان بينكم وبينه قربى من أخ، أو عم، أو غيرهما وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ. أي: وأحسنوا باليتامى والمساكين. وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى. أي: وأحسنوا بالجار الذي قرب جواره، أو بالجار القريب النسيب. وَالْجارِ الْجُنُبِ. أي: وأحسنوا بالجار الجنب وهو: إما الذي جواره بعيد، أو هو الجار الأجنبي. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ. أي: وأحسنوا بالصاحب بالجنب، ويدخل في ذلك الزوجة، والذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، أو شريكا في تعلم علم أو غيره، أو قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد. وَابْنِ السَّبِيلِ. الغريب، أو الضيف. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي: وأحسنوا بالعبيد والإماء. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا. أي: متكبرا، يأنف عن قرابته، وجيرانه، فلا يلتفت إليهم. فَخُوراً. أي: يعدد مناقبه كبرا. فإن عدها اعترافا، كان شكورا. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. أي: الذين يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم، فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء. وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أي: ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. أي: وهيأنا للكافرين عذابا يهانون به في الآخرة. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ. أي: للفخار، وليقال: ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله. وهم المنافقون، أو الكافرون، بدليل. وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً. أي: صاحبا، ومرافقا. فَساءَ قَرِيناً. حيث حملهم على البخل، والرياء، وكل شر. ويمكن أن يفهم منه الوعيد بأن الشيطان يقرن بهم في النار. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. أي: وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد بالاستفهام، الذم، والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومصلحة في ذلك. وهذا كما يقال للعاق: ما ضرك لو كنت بارا، وقد علم أنه لا مضرة في البر. ولكنه ذم وتوبيخ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. هذا وعيد لهم بأنهم إن لم يؤمنوا، ولم ينفقوا، بأن الله مطلع عليهم، وعالم بهم. فوائد: 1 - قال النسفي: قيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود،
والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. وقال: قيل: البخل أن يأكل بنفسه، ولا يؤكل غيره. والشح: ألا يأكل ولا يؤكل. والسخاء: أن يأكل، ويؤكل. والجود: أن يؤكل، ولا يأكل. 2 - فسر نوف البكالي: الجار الجنب بأنه اليهودي والنصراني. نفهم من ذلك، أن الجار، ولو لم يكن مسلما، فقد أمرنا بالإحسان إليه. وفي الحديث الذي رواه البزار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقا. فأما الجار الذي له حق واحد، فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم، له حق الإسلام، وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم ذو رحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم». 3 - مما ورد من أحاديث في الوصية بالجار: أ- في الصحيحين: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». ب- وروى الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله، خيرهم لجاره». ج- وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لا يشبع الرجل دون جاره». د- وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟. قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تزاني حليلة جارك». هـ- روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟. قال: «إلى أقربهما منك بابا». 4 - كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض الموت: «الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم». فجعل يرددها، حتى ما يفيض بها لسانه. وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك، فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك، فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك، فهو لك صدقة». ورواه النسائي، وإسناده صحيح.
المعنى العام
ومما ورد في الإحسان إلى الخادم، والمملوك، والأهل قوله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عما يملك قوتهم». وفي مسلم أيضا: «للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق». وفي الصحيحين: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي حره، وعلاجه». وفي الصحيحين: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم». 5 - في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة». 6 - عن أبي تميمة عن رجل من بني الهجيم قال: «قلت يا رسول الله: أوصني. قال: إياك وإسبال الإزار من المخيلة. وإن الله لا يحب المخيلة». 7 - في الحديث: «إن الله إذا أنعم نعمة على عبد، أحب أن يظهر أثرها عليه». 8 - وبمناسبة الإنفاق رياء، نذكر بالحديث المعروف الذي يذكر الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار. وهم العالم، والغازي، والمنفق، المراءون بأعمالهم. يقول صاحب المال: ما تركت من شئ تحب أن ينفق فيه، إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت. إنما أردت أن يقال: جواد. فقد قيل. أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا. وهو الذي أردت بفعلك. وكذلك يقال للغازي، وللعالم. نسأل الله الإخلاص في القول، والعمل. ثم يختم هذا المقطع بهذه الآيات: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. المعنى العام: يقول تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل، ولا مثقال
المعنى الحرفي
ذرة. بل يوفيها له، ويضاعفها له إن كانت حسنة ويعطي الجنة. ثم بين تعالى هول يوم القيامة، وشدة أمره وشأنه حين يأتي الأنبياء شهداء على أقوامهم، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا على قومه وأمته. يومئذ يود الذين كفروا لو انشقت الأرض وبلعتهم، مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم منه من الخزي، والفضيحة، والتوبيخ، يومئذ يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا وبهذه المعاني يختم هذا المقطع الذي بين قضايا رئيسية في موضوع التقوى، من عدم أكل الأموال بالباطل، وعدم قتل الأنفس، ووجوب اجتناب الكبائر، وعدم تمني ما للآخرين، وألزم بقوامية الرجال على النساء، وبين حدود معالجة المنشوز. كما أمر بالعبادة، والتوحيد، وترك الاختيال والفخر والبخل. وبعد ذلك تأتي هذه المعانى المرغبة، المرهبة. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. المعنى الحرفي: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ: قال النسفي: (وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكون ذرة). وهذا معنى عظيم، فالهباءة على هذا القول مؤلفة من ذرات كثيرة. وعلى هذا فإن النسفي يفسر الذرة في الصغر بما نفسرها به الآن من كونها أصغر وحدة مستقلة في المادة. فالله- عزّ وجل- لا ينقص عمل أحد مثقال هذه الذرة من خير، أو شر. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. أي: وإن تكن مثقال الذرة حسنة، يضاعف ثوابها. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. أي: ويعطي صاحبها من عنده ثوابا عظيما، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره؟ مع أنه سمى متاع الدنيا قليلا. وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة، مع أن له حسنات كثيرة. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ. أي فكيف يصنع هؤلاء الكافرون إذا جئنا من كل أمة بشهيد، يشهد عليهم بما فعلوه، وهو نبيهم. وَجِئْنا بِكَ يا محمد. عَلى هؤُلاءِ. أي: على أمتك شَهِيداً. أي: شاهدا على من آمن بالإيمان، وعلى من كفر بالكفر، وعلى من نافق بالنفاق. روى البخاري عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي.
[سورة النساء (4): آية 42]
فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟. قال: نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. فقال: حسبك الآن. فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان». يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله. وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ. أي: لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، أو حين تصير البهائم ترابا يودون حالها. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. أي: ولا يقدرون على كتمانه، لأن جوارحهم تشهد عليهم. فوائد: 1 - في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه: «فيقول الله عزّ وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار. وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ .... 2 - روى أبو داود الطيالسي: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة». 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. يروي ابن كثير حديثا بأسانيد متعددة عن أبي هريرة وفيه: «إن الله ليضاعف الحسنة ألفي حسنة». 4 - روى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: (جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن. قال: ما هو؟ أشك في القرآن؟. قال: ليس هو بالشك ولكن اختلاف، قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع الله يقول: ثُمَ
تحقيق وتعليق
لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. وقال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. فقد كتموا؟. فقال ابن عباس: أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. فإنهم لما رأوا يوم القيامة، أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؛ رجاء أن يغفر لهم فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون. فعند ذلك يود الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا). تحقيق وتعليق 1 - يقول الألوسي مبينا وجهتي النظر في قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. هم موالي الموالاة. أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك؛ فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه، إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود أي بمعنى القسم اهـ. 2 - ويقول صاحب الظلال عند قوله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. إن الأسرة- كما قلنا- هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية. الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق. والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون، في التصور الإسلامي.
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنا، والأرخص سعرا، كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية، وما إليها .. لا يوكل أمرها- عادة- إلا لأكفاء المرشحين لها، ممن تخصصوا في هذا الفرع علميا، ودربوا عليه عمليا، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة ... إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنا والأرخص سعرا ... فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون .. العنصر الإنساني .. والمنهج الرباني يراعي هذا. ويراعي به الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة. والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة .. والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله- سبحانه- لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة! وقد خلق الله الناس ذكرا وأنثى .. زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون .. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل، وتضع، وترضع، وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل .. وهي وظائف ضخمة أولا، وخطيرة ثانيا. وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى: فكان عدلا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني- الرجل- توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل .. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد. وكان عدلا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه. وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك. وكان هذا فعلا .. ولا يظلم ربك أحدا .. ومن ثم زودت المرأة- فيما زودت به من الخصائص- بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال، والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة- بغير وعي
ولا سابق تفكير- لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها- حتى في الفرد الواحد- لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فورا وفيما يشبه أن يكون قسرا. ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك، لتكون الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى. مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شئ. وهذه الخصائص ليست سطحية. بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة .. بل يقول كبار العلماء المختصين: إنها غائرة في تكوين كل خلية. لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكل خصائصه الأساسية! وكذلك زود الرجل- فيما زود به من الخصائص- بالخشونة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة، واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة. لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائما لحماية الزوج والأطفال. إلى تدبير المعاش .. إلى سائر تكاليفه في الحياة .. لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر، والبطء في الاستجابة بوجه عام! .. وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها .. وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة، وأفضل في ممارستها .. كما أن تكاليفه بالإنفاق- وهو فرع من توزيع الاختصاصات- يجعله بدوره أولى بالقوامة، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة، والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها .. وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي. قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد. ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات. ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية، وتكليف كل شطر- في هذا التوزيع- بالجانب الميسر له، والذي هو معان عليه من الفطرة. وأفضليته في مكانها .. في الاستعداد للقوامة والدربة عليها والنهوض بها بأسبابها .. لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة- كسائر المؤسسات الأقل شأنا والأرخص سعرا- ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها معان عليها، مكلف تكاليفها. وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها .. ومن الظلم أن يحمل تكاليفها إلى جانب
أعبائه الأخرى .. وإذا هو هيئ بالاستعدادات الكامنة، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى .. وظيفة الأمومة .. لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها. وفي مقدمتها سرعة الانفعال، وقرب الاستجابة. فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي، وآثارها في السلوك والاستجابة! إنها مسائل خطيرة .. أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر .. وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء .. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة، هددت البشرية تهديدا خطيرا فى وجودها ذاته؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز. ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها .. ولعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد، ومن تدهور وانهيار، ومن تهديد بالدمار والبوار، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة. أو اختلطت معالمها. أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة! ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة. وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة؛ عند ما تعيش مع رجل لا يزاول مهام القوامة؛ وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى الخابطات في الظلام. ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال- الذين ينشئون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب. إما لأنه ضعيف الشخصية، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر. وإما لأنه مفقود: لوفاته- أو لعدم وجود أب شرعي! - قلما ينشئون أسوياء. وقل ألا ينحرفون إلى شذوذ ما في تكوينهم العصبي، والنفسي، وفي سلوكهم العلمي والخلقي .. فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها! ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا- في سياق الظلال- عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها، وضرورتها وفطريتها كذلك .. ولكن ينبغي أن نقول: إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت، ولا في المجتمع الإنساني، وإلغاء وضعها «المدني» - كما بينا ذلك من قبل- وإنما هي وظيفة- داخل كيان الأسرة
كلمة في السياق
لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها. ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها. فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوك مع زوجه وعياله. كلمة في السياق: بهذا المقطع يكون قد مر معنا ثلاثة مقاطع من سورة النساء، اتضحت لنا فيها معان كثيرة، مرتبطة بالعبادة والتقوى، وتحددت فيها أمور. وفي المقطع الثالث تحددت قضايا، هي من الأهمية بمكان كبير، ومن ثم فإن فهم هذا المقطع يترتب عليه شئ كثير في عصرنا. خاصة وأن فتنة العصر تكمن في القضيتين الرئيسيتين: اشتراكية الأموال، ومساواة الرجال بالنساء. والمقطع يقيم المؤمنين حيث ينبغي أن يقيموا في هاتين القضيتين، وغيرهما. ولعلنا لاحظنا في هذا المقطع تشابها بين معان فيه، ومعان موجودة في سورة البقرة. ولكنها هنا أكثر تفصيلا كقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .... وكقوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. وكقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... وكل ذلك في سورة البقرة. مما يؤكد ما قلناه من أن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... ، وامتدادات هذا المحور في سورة البقرة نفسها. ولنقف هنا وقفة متأنية: جاء قوله تعالى فى سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بعد مقدمة سورة البقرة التي وصفت المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وأنهم ينفقون مما رزقهم الله- عزّ وجل-. ومن قوله تعالى اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ نفهم أن العبادة هي الطريق لتعميق الإيمان، وإقامة الصلاة، واستخراج الإنفاق، وتحقيق الالتزام بالقرآن. وقد جاء في المقطع الذي مر معنا أمر بالعبادة وانتهت الآية التي أمرت بالعبادة بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فالسياق إذن يحرر من البخل، وقد جاءت آية الأمر بالعبادة هنا بعد تبيان أن الصالحات قانتات، فهي تدل على طريق الصلاح، وجاءت هذه الآية بعد أوامر
المقطع الرابع
ونواه- هي من التقوى- فهي تدل على طريق التقوى وكل ذلك صلته بمحور السورة من البقرة واضح لمن تأمل. أمرت آية العبادة بالعبادة، وترك الشرك، وأمرت بالإحسان وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى ... ومحور سورة النساء من البقرة جاء فيه أمر بالعبادة، ونهي عن الشرك، وجاء به ما يستثير الإحسان: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنه سيتأكد لدينا شيئا فشيئا كيف أن سورة النساء تفصل في محورها من البقرة، وفي ارتباطات هذا المحور، وفي امتداداته من سورة البقرة بما لا يبقى معه شك. وبعد المقطع الثالث، يأتي المقطع الرابع، ويبدأ بالنهي عن الصلاة في حالة السكر، ويبيح التيمم للصلاة في بعض الحالات، ثم تأتي مجموعة فيه توضح الرؤية في أمر أهل الكتاب، ثم تأتي مجموعة تتحدث عن الكافرين والمؤمنين، ثم تأمر بأداء الأمانة، والحكم بالعدل، فلنتأمل صلة ذلك ببعضه وبالمحور: لقد جاء في المحور أمر بالعبادة لتحقيق التقوى التي أحد أجزائها: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فللعبادة صلة بقضية الإيمان، ومن التقوى الصلاة، وهي كذلك عبادة فإن يأتي الآن مقطع ينهى عما ينافي الصلاة، ثم يوضح لنا الرؤية في شأن من لا يؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما هي دوافعهم في ذلك؟ كل ذلك لا تخفى صلاته مع المحور، ولهذا الموضوع تتمة نراها أثناء استعراض المقطع الرابع. المقطع الرابع ويمتد من الآية (43) إلى نهاية الآية (58). وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 43 الى 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
[سورة النساء (4): آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) *** [سورة النساء (4): الآيات 44 الى 53] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 54 الى 55] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) *** [سورة النساء (4): الآيات 56 الى 58] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) كلمة في المقطع: جاء هذا المقطع بعد أمر بالعبادة، وتذكير بمشهد من مشاهد يوم القيامة، والصلاة جزء من العبادة، والعبادة بمجموعها تعمق الرؤية الإيمانية، ومن ثم جاءت في المقطع توجيهات تعمق الرؤية في شأن أهل الكتاب، وجحودهم، وضلالهم، وحسدهم، وكفرهم، ثم جاءت آيتان تنذر الكافرين، وتبشر المؤمنين، وإذ تعمقت الرؤية واستجيشت النفس بالتبشير والإنذار يأتي الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل. وهكذا يضيف السياق إلى ماهية التقوى قضيتين رئيسيتين هما: أداء الأمانة إلى أهلها، والحكم بالعدل.
سبب نزول تحريم قربان الصلاة والإنسان سكران
إن مجئ النهي عن الصلاة في حالة السكر، وتعليل ذلك بقوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. يشير إلى أن العبادة التي تحقق المراد منها هي العبادة الخاشعة، ومجئ إباحة التيمم في بعض الحالات في هذا السياق يشير إلى أن العبادة في الإسلام مقرونة باليسر، ومجئ الدروس في شأن أهل الكتاب في هذا السياق يشير إلى أن من لا عبادة له لا يستطيع أن يرى حقيقة أهل الكتاب، فالرؤية الإيمانية الكاملة مرتبطة: بالعبادة، وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل مرتبط: بالعبادة، والإيمان، وبالعمل الصالح، وبالرؤية الإيمانية، وكل ذلك يقدمه لنا المقطع فلنبدأ عرض المقطع على مراحل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً. فى الآية قضيتان: 1 - قربان الصلاة والإنسان سكران. 2 - التيمم، ولكل سبب نزول. سبب نزول تحريم قربان الصلاة والإنسان سكران: من المعلوم أن المرحلة الثالثة في تحريم الخمر، هي المنصوص عليها في هذه السورة وأما المرحلة الرابعة، فهي المنصوص عليها في سورة المائدة. وسنذكر هناك- إن شاء الله- بعض الأحاديث في هذا الموضوع، أما هنا فنكتفي بما له صلة بموضوع الآية: روى ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال: (نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير، ففزر بها أنف سعد، فكان سعد مفزور الأنف، وذلك قبل تحريم الخمر، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... والحديث بطوله عند مسلم. وروى الترمذي، وابن أبي حاتم- وهو حديث حسن صحيح- عن علي بن أبي طالب قال: (صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلانا. قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون.
سبب نزول مشروعية التيمم
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ... وقد روي هذا الأثر روايات متعددة. وفي سنن أبي داود الحديث الذي فيه دعاء عمر: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» .. فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة، ينادي أن لا يقربن الصلاة سكران). والمهم أن نعرف أن هذه الآية نزلت والاستعداد النفسي لقبول حكمها كان قائما بعد مجموعة حوادث، كلها مقنع بضرورة هذا الحكم. سبب نزول مشروعية التيمم: قال ابن كثير: (وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء، متقدمة النزول على آية المائدة: وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد (أحد) بيسير، في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير. وأما المائدة، فإنها من آخر ما نزل، ولا سيما صدرها فناسب أن يذكر السبب هنا. وبالله الثقة). - روى البخاري عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي. ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته). وروى ابن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب. وخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار، فرحلها. ثم رضفت أحجارا، فأسخنت بها ماء، واغتسلت. ثم
المعنى العام
لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال: يا أسلع ما لي أرى رحلتك تغيرت. قلت يا رسول الله، لم أرحلها. رحلها رجل من الأنصار. قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة، فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها. ورضفت احجارا، فأسخنت بها ماء، فاغتسلت به فأنزل الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً قال ابن كثير: وقد روي من وجه آخر عنه .. أقول قد يتعدد النزول لتأكيد شمول النص لأكثر من حادثة، وقد لا يكون الأسلع قد عرف الآية من قبل فظنها في حادثته. المعنى العام: ينهى الله تبارك وتعالى عباده عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محالها- التي هي المساجد- للجنب إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب، من غير مكث، وفي حال الضرورة، والحكمة في تحريم قربان الصلاة، والإنسان سكران، هو علم الإنسان بما يقول. فإن المخمور فاقد التدبر والخشوع، يخلط في قراءته، ولا يعقلها. فالآية نهت عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها. وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة، المباعدة للصلاة ولمحلها، إلا إذا كان عابر طريق في حالة الضرورة، كما ذكرنا، حتى يغتسل الإنسان من جنابته. ثم رخص في التيمم، كبديل عن الغسل في حالات: حالة السفر إذا فقد الماء. وحالة المرض الذي يضر معه استعمال الماء. ثم بين كيفية التيمم وأداته. ثم ذيل الآية بالتذكير بعفوه وغفرانه، وتذييل الآية بالعفو والمغفرة، يفيد أن من عفوه وغفرانه، أن شرع لكم التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء. توسعة عليكم، ورخصة لكم. وذلك أن هذه الآية الكريمة، فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة، من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضا، أو عادما للماء، فإن الله- عزّ وجل- قد أرخص في التيمم، والحالة هذه، رحمة بعباده، ورأفة بهم، وتوسعة عليهم. فإذا كان محور سورة النساء في العبادة، والتقوى، ومن التقوى الصلاة. فهذه الآية إذن، تفصيل لبعض قضايا التقوى، بتفصيل بعض ما يدخل فيها.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. أي: لا تصلوا وأنتم في حالة سكر. حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. أي: لتعلموا ما تقرءون. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا. أي: ولا تصلوا جنبا. أي: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حال الجنابة، إلا أن تكونوا مسافرين، عادمين الماء، متيممين. هذا ما ذهب إليه الحنفية في فهم الآية: لا تقربوا الصلاة سكارى، لا تقربوا الصلاة جنبا حتى تغتسلوا، إلا في حالة السفر، فاقربوها متيممين لفقدان الماء. ومذهب الشافعية في فهم الآية على الشكل التالي: لا تقربوا الصلاة. أي: لا تقربوا مواضعها. وهي المساجد، وأنتم سكارى. ولا تقربوا المساجد جنبا، إلا عابري سبيل. أي: مجتازين فيها. فيجوز عندهم للجنب العبور في المسجد عند الحاجة. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ: طويل، أو قصير. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ. والغائط: هو المكان المطمئن من الأرض كنى بذكره عن التغوط وقضاء الحاجة، وهو الحدث الأصغر. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ. أي: أو جامعتموهن على أصح أقوال المفسرين في هذا المقام، كما رجحه ابن كثير. فَلَمْ تَجِدُوا ماءً. أي: فلم تقدروا على استعماله، لعدمه أو بعده، أو فقد آلة الوصول إليه، أو لمانع من حية أو سبع، أو عدو. ذكره النسفي. فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. فسر الزجاج الصعيد، بوجه الأرض، ترابا كان، أو غيره. وإن كان صخرا لا تراب عليه. لو ضرب المتيمم يده، ومسح، لكان ذلك طهوره. وهذا مذهب الحنفية. وسترى أن هذه القضية، خلافية. والطيب في الآية: الطاهر على رأي الحنيفة. فصار المعنى: أن المريض، والمسافر، والمحدث، وأهل الجنابة، لهم التيمم إذا عدموا الماء حقيقة أو حكما فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. أي: امسحوا وجوهكم وأيديكم، بأيديكم التي ضربتم بها الصعيد الطيب بنية التيمم، وهل المراد بالأيدي هنا، الأكف فقط، أو الأيدي إلى المرافق؟ قولان سنراهما إن شاء الله. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا. بالترخيص، والتيسير. غَفُوراً. عن الخطأ، والتقصير.
فوائد
فوائد: 1 - الجزء الأول من الآية، وهو ما له علاقة بإباحة السكر إلا في الصلاة منسوخ بالتحريم القطعي للخمر، الذي ورد في سورة المائدة. فما الحكمة في بقاء النص، مع نسخ حكمه؟. لو تأملنا بدقة هذا الموضوع، لرأينا أن التحريم المقيد، لم ينسخ. بل بقي مع زيادة. فتحريم قربان الصلاة، والإنسان سكران، لا زال قائما. ولكن ما يفهم من حل الخمر فيما عدا ذلك، هو الذي نسخ. هذه واحدة. ثم إننا نفهم من الآية مجموعة أمور، كلها غير منسوخ فلئن بقي النص، فلوجوده إذن حكم كثيرة. عدا عن الحكمة الكبيرة، وهي إثبات الواقع التاريخي، التدريجي، لعملية تحريم الخمر. مما يمكن أن نفهم منها طريقة التربية الإسلامية للأمة المسلمة في نشأتها. وما يمكن أن نستفيد من ذلك من عبر في، تطوير أوضاعها في غير ما استقرت عليه الأحكام. 2 - مما نفهمه من النص، ومن سبب النزول، ما ذكره الحنفية، قالوا: وفيه دليل على أن ردة السكران، ليست بردة. لأن قراءة سورة الكافرون بطرح اللاءات كفر. ولم يحكم بكفره، حتى خاطبهم باسم الإيمان. أي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا .... ومما فهمه بعضهم من الآية وجوب الخشوع في الصلاة من قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. فدل ذلك على أن عقل الإنسان لما يقول في صلاته، مقصود في الشريعة. وأخذ الفقهاء تعريف السكران من النص فعرفوه: بأنه الذي لا يدري ما يقول. ومن الآية نفهم أن للصلاة مهمة خاصة، لذلك يراعى فيها، ما لا يراعى في غيرها. 3 - هذه الآية كانت التوطئة الكبرى للتحريم النهائي للخمر. ففيها تعريض بالنهي عن السكر بالكلية. لكونهم مأمورين بالصلاة في الأوقات الخمسة، من الليل والنهار. فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، إلا إذا جانب الخمر في أكثر أوقاته. 4 - دلت الآية على أن معرفة المصلي ما يقول، مراد رئيسي في الصلاة. ويؤكد هذا، الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم، وهو يصلي، فلينصرف، ولينم، حتى يعلم ما يقول». رواه البخاري، والنسائي. وفي ألفاظ الحديث: «فلعله يذهب يستغفر، فيسب نفسه».
ومن ثم، فعلينا أن نبذل جهدا لتحصيل علم الخشوع، وحاله. وهو أول علم يرفع من الأرض، كما في حديث حسن. 5 - رأينا أن في قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، تفسيرين: التفسير الذي فسر ذلك بالسفر ووجه الاستثناء على أنه استثناء من جواز قربان الصلاة في حالة الجنابة. وهو اتجاه الحنفية. وبناء عليه، فلا يجوز لجنب أن يدخل المسجد ولو مارا. والتفسير الثاني: وهو الذي فسر الاستثناء على أنه استثناء من جواز قربان محال الصلاة، وهي المساجد. وبالتالي فإن عبور المسجد للجنب عند الحاجة على هذا المذهب جائز. قال ابن كثير: (ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ويجوز المرور، وكذا الحائض، والنفساء أيضا في معناه إلا أن بعضهم قال يحرم مرورهما، لاحتمال التلويث، ومنهم من قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور، جاز لها المرور). وذكر ابن كثير أدلة الطرفين، ولكل دليله. وأما المكث في المسجد للجنب فإن أبا حنيفة، ومالكا، والشافعي يحرمون على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل، أو يتيمم إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقه، وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد لما روى هو، وسعيد بن منصور في سننه، بسند صحيح: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. 6 - وفي حد المرض الذي يبيح التيمم، قال ابن كثير: (أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو، أو شينه، أو تطويل البرء). ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض، لعموم الآية. 7 - وفي تفسير الصعيد في الآية، أقوال قال ابن كثير: (والصعيد، قيل هو: كل ما صعد على وجه الأرض. فيدخل فيه التراب، والرمل، والشجر، والحجر، والنبات. وهو قول مالك. وقيل: ما كان من جنس التراب. كالرمل والزرنيخ، والنورة. وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل: هو التراب فقط. وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأصحابهما). ثم ذكر أدلة القول الأخير. 8 - وعند قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قال ابن كثير: التيمم بدل عن الوضوء في التطهير، لا أنه بدل منه فى جميع أعضائه بل يكفي مسح الوجه واليدين بالإجماع. ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال: أحدها- وهو مذهب الشافعي في الجديد- أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين
كلمة في السياق
بضربتين، لأن لفظ اليدين، يصدق إطلاقه على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. قالوا: وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى، لجامع الطهورية). ثم ذكر أدلة الطرفين. والأمر فيه سعة. وفي سورة المائدة عند آية الوضوء زيادة بيان. وبعد أن ذكرت هنا في هذا المقطع هذه الآية عن الصلاة، ومحلها من التقوى والعبادة ما نعلم، تأتي هنا مجموعة آيات تتكرر فيها أَلَمْ تَرَ. توضح الرؤية للمتقين. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً* مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا* يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا* إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. كلمة في السياق: في محور سورة النساء من البقرة أمر بالعبادة ونهي عن الشرك، والهدف هو الوصول إلى التقوى، ولا عبادة ولا توحيد ولا تقوى إلا إذا وضحت رؤيتنا لمواقف أهل الكتاب وهذه المجموعة توضح الرؤية لذلك يرد فيها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ* ثلاث مرات وفي سياقها يأتي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
المعنى العام
المعنى العام يخبر تعالى في هذه المجموعة من الآيات عن اليهود- عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم. يشترون به ثمنا قليلا من حطام الدنيا. ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى، والعلم النافع. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه الأعلم منا بأعدائنا. ثم ذكرنا أنه كفى به وليا لمن لجأ إليه، ونصيرا لمن استنصره، ثم بين لنا بعض طبائع اليهود في كونهم يتأولون كتاب الله على غير تأويله. ويفسرونه بغير مراد الله- عزّ وجل- منه قصدا وافتراء. ومن صفاتهم، أنهم يعلنون السمع، والعصيان، بدلا من إعلان السمع والطاعة. وهذا أبلغ في الكفر، والعناد. أن يتولى الإنسان عن كتاب الله بعد ما عقله. ومن صفاتهم، أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. أي: اسمع ما نقول، لا سمعت. استهزاء منهم، واستهتارا. فما أحقره من خلق. ومن صفاتهم أنهم يقولون القول ويريدون غيره، إيهاما للسامع، كقولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَراعِنا التي ظاهرها طلب الإقبال والرعاية. وهم يريدون السب بإرادتهم الرعونة، أو بإرادتهم كلمة عبرانية معناها سب. ثم بين الله- عزّ وجل- أنهم لو أعلنوا السمع والطاعة، وطلبوا السمع والإنظار، لكان خيرا لهم، وأقوم. ولكن قلوبهم مطرودة عن الخير، مبعدة عنه، فلا يدخلها من الإيمان شئ نافع لهم، بسبب الكفر المستقر في قلوبهم. ثم نادى الله أهل الكتاب، آمرا بالإيمان بما نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم، الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات. ومهددا لهم إن لم يفعلوا أن يطمس وجوههم. فلا يبقي لهم سمعا، ولا بصرا. ولا أنفا. ومع ذلك يردها إلى ناحية الأدبار. أو يفعل بهم كما فعل بالذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة وخنازير. ثم هدد الله- عزّ وجل- أنه إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف، ولا يمانع. ثم بين الله- عزّ وجل- الأصل العظيم الذي يعامل به عباده. وهو أنه من لقيه وهو مشرك به لا يغفر له. أما ما دون ذلك من الذنوب، فإنه يغفرها إن شاء. أو يعذب عليها إن شاء. ثم بين أن الشرك بالله إنما هو افتراء يأثم به صاحبه إثما عظيما. ثم يعود السياق إلى لفت نظر أهل الإيمان إلى حالة أخرى من حالات أهل الكتاب ينبغي أن تكون واضحة عند أهل الإيمان. هذه الحالة الثانية هي مدح أهل الكتاب لأنفسهم ودعاواهم، كقولهم نحن أبناء الله
وأحباؤه. ثم يبين الله- عزّ وجل- أن الشأن ليس أن تزكي نفسك ولكن أن يزكيك الله، فالمرجع إليه، لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها، وأنه لا يظلم أحدا من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل (وهو ما يكون في شق النواة). ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرى افتراءهم على الله الكذب في تزكيتهم أنفسهم، ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية يؤكد أن هدف المجموعة هو توضيح الرؤية ثم بين الله- عزّ وجل- أنه كفى بصنيعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا. وبعد أن وضح الله للمؤمنين الرؤية في هاتين القضيتين، وضح لهم الرؤية في قضية ثالثة عند أهل الكتاب، وهي إيمانهم بالسحر والشيطان إيمان المطيع المستعمل، وأنهم يفضلون الكفار وعباد الأصنام على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم، ثم بين أن هؤلاء يستحقون لعنة الله- وقد لعنهم- وأن الذي يلعنه الله فإن أحدا ما لا يستطيع نصره. ثم أنكر الله- عزّ وجل- عليهم حالهم من أنهم لو كان لهم نصيب من الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس- ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم- شيئا ولا ما يملأ النقير: وهو النقطة التي في النواة. ثم أنكر الله- عزّ وجل- حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه من النبوة العظيمة. وكيف منعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب، وليس من بني إسرائيل، ولكنها طبيعتهم، فقد جعل الله في أسباط بني إسرائيل- الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوة، وأنزل عليهم الكتب، وحكم النبيون فيهم بالسنن، وهي الحكمة، وجعل منهم الملوك ومع هذا فمنهم من آمن به، أي: بهذا الإيتاء، وهذا الإنعام، ومنهم من صد عنه، أي: كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهم منهم، ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟. ثم تهددهم الله بقوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله. ونظرة إلى هذه المجموعة ترينا أنها توضح الرؤيا للمتقين بطبائع أهل الكتاب، ومواقفهم، كيلا نغتر بهم. ونظرة إلى واقع أهل الكتاب الحالي ترينا أن خصائصهم السيئة هذه مستمرة، مستقرة، سواء في ذلك اشتراؤهم الضلالة، وإرادتهم ضلالنا، ودعاواهم، وتزكيتهم لأنفسهم، وتزيينهم الكفر لأهله، وتفضيله على هذا الإسلام سواء كان مجوسية، أو بوذية، أو هندوسية، وحرصهم على الخير لأنفسهم. وحسدهم لمن أوتي شيئا من الفضل غيرهم، حتى إنهم ليسرقون كثيرا من النظريات
المعنى الحرفي
التي كتبها الإسلاميون، ويرفضون أن ينسبوها إلى أصحابها. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ النصيب هنا: الحظ، والكتاب: هو التوراة لأن الكلام فيما يبدو منصب على اليهود، والرؤية هنا رؤية القلب يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ. أي: يستبدلونها بالهدى، والضلالة هي البقاء على ما هم عليه بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي: ويودون أن تضلوا سبيل الحق كما ضلوه، يودون أن تكفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ. أي: والله أعلم منكم بعداوة هؤلاء، فاحذروهم، ولا تستنصحوهم في أموركم. وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً أي: كفى به وليا في الدفع، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، أو لا تبالوا بهم، فإن الله ينصركم عليهم، ويكفيكم مكرهم. مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... هذا دليل على أن الآيات تنصب على نوع من أهل الكتاب وهم (اليهود) كما أن هذه تحدد المذكورين سابقا بلفظ الأعداء، وبالذين أوتوا نصيبا من الكتاب يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. أي: يميلونه عنها ويزيلونه، لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها، وأزالوه عنها. فمعنى عن مواضعه. أي: عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، ومن ذلك صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا. أي: يقولون سمعنا قولك، وعصينا أمرك، ويحتمل أنهم أسروا به. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. أي: واسمع قولنا وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين: وجه يحتمل الذم، ووجه يحتمل المدح، وهم يريدون الذم، أما احتماله الذم فلأن معناه على هذا: اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئا، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم لا سمعت دعوة مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا، وأما احتماله المدح فبمعنى: اسمع غير مسمع مكروها، من قولك أسمع فلان فلانا إذا سبه. وَراعِنا يحتمل: راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا، ويمكن أن يكونوا يريدون فيها الرعونة، فكانوا سخرية بالدين وهزءا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والاحترام.
[سورة النساء (4): آية 47]
ولماذا يفعلون ذلك؟ بين الله سبب فعلهم لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ اللي: هو الفتل والتحريف، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا موضع انظرنا، وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. والطعن في الدين من أمثال قولهم: لو كان نبيا حقا لأخبر بما نعتقد فيه، فلينتبه المؤمنون إلى طرق اليهود، وأمثالهم في تحريف الكلم وفتله. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. بدل قولهم: سمعنا وعصينا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا. أي وقالوا: واسمع دون أن يلحقوا بها غير مسمع، وانظرنا بدل قولهم راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ. أي: لكان قولهم ذاك خيرا لهم عند الله، وأعدل وأسد وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ. أي: ولكن طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يحتمل معنيين: إما أن قليلين منهم فقط هم الذين يؤمنون، وإما إن إيمانهم قليل، ضعيف، لا يعبأ به، وهو إيمانهم بخالقهم مع كفرهم بما هو من مقتضيات الإيمان. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا: أي: آمنوا بالقرآن. مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. من التوراة أي: آمنوا بالقرآن المصدق للتوراة. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الطمس: محو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، والرد على الأدبار يحتمل أكثر من معنى، فإما أن يكون معناها: فنجعلها على هيئة أدبارها، وهي الأقفاء مطموسة مثلها، أو أن نطمس وجوها فنعكس الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدام. ويمكن أن تفهم الوجوه على أن المراد بها رءوس الناس، ووجهاؤهم، فيكون المعنى آمنوا من قبل أن نغير أحوال وجهائكم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ. أي: أو نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت. وبعض العلماء قال: إن هذا الوعيد كان معلقا بألا يؤمنوا كلهم، وقد آمن بعضهم، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. أي: وكان المأمور به من الله وهو: العذاب في حالة أمر الله به كائنا لا محالة. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. أي: لمن مات على الشرك، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. أي: ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ولو كان من الكبائر، ولو لم يكن توبة، هذا مذهب أهل السنة، وسنرى في الأحاديث ما يؤيده. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أي: ومن يشرك بالله فقد كذب كذبا عظيما، استحق به عذابا أليما. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله
[سورة النساء (4): آية 50]
وأحباؤه، وأمثال ذلك، وهذا الوعيد يدخل فيه كل من زكى نفسه، فأثنى عليها، ووصفها بزكاء العمل، وزيادة الطاعة والتقوى. بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ هذا إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها، لا تزكية غيره، لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أي: قدر فتيل، وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ، أو هو ما يكون في شق النواة. والضمير في وَلا يُظْلَمُونَ يعود إما على الذين يزكون أنفسهم، أو على من يزكيه الله فيكون المعنى على القول الأول: الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم عقوبة عادلة دون ظلم، والمعنى على القول الثاني: إن من زكاه الله يثيبه على زكاء نفسه، ولا ينقصه شيئا من ثوابه. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. أي: في زعمهم أنهم عند الله أزكياء. وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أي وكفى بزعمهم هذا إثما واضحا من بين سائر آثامهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ. أي: اليهود الذين أعطوا حظا من الكتاب. يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ. أي: بما عبد من دون الله وَالطَّاغُوتِ. أي: الشيطان أو كل من تجاوز حدود الله. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أي: يقولون للكافرين أنتم أهدى طريقا من محمد وأصحابه. روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا، وعن محمد؟ فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير، وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ .... أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. أي: هؤلاء الذين أبعدهم الله من رحمته. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أي: فلن تجد له ناصرا يعتد بنصره. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. النقير هو النقرة في ظهر النواة، وهو مثل في القلة كالفتيل. والاستفهام في الآية يفيد الإنكار. والمعنى: أي لو كان لهم نصيب من الملك، أي من ملك أهل الدنيا، أو من ملك الله، فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير لفرط بخلهم. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أي: بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ما آتاهم الله من القرآن، والنصر، والغلبة، وازدياد العز والتقدم كل يوم. وصفهم الله فى الآية السابقة بالبخل، وفي هذه الآية بالحسد، وهما
[سورة النساء (4): آية 55]
من شر الخصال، يمنعون مالهم، ويتمنون ما لغيرهم، وفي الآية دليل على فساد الحسد واستقباحه فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ. أي: التوراة. وَالْحِكْمَةَ. أي: الموعظة والفقه. وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام. وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما آتى أسلافه. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ. أي: فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم، ومنهم من أنكره، ومنع الناس من الإيمان به، مع علمه بصحته! وهذا إلزام لهم بأنهم عاقون متمردون، فليس مستغربا كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من فسر النص بقوله: فمنهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من كفر به، وصد عن دينه. والتفسير الأول هو الأكثر انسجاما مع السياق. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم، ومخالفتهم كتب الله ورسله. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً .. يروي المفسرون أن هذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار، ومما يروونه في ذلك عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فبعثه إليه ينظر أهو هو، قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... الآية. فبادرت الماء، فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت»، والمعروف أن كعبا أسلم في خلافة عمر فلعل هذه الحادثة في غير كعب، وهناك رواية أخرى تذكر إسلام كعب بسبب سماعه الآية في حمص وهو في طريقه إلى بيت المقدس. 2 - روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله، قال الله- عزّ وجل- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، وقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وأما الديوان الذي لا يعبأ به شيئا، فظلم العبد نفسه بينه وبين الله من صوم يوم تركه، أو صلاة، فإن الله لا يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة».
المعنى العام
3 - وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس مما يشير إلى أن المدح تعتوره أحكام متعددة على حسب الأحوال والأشخاص، فمما ورد في ذم التمادح والتزكية، ما ورد في صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب». وفي الصحيحين عن أبي بكرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل فقال: ويحك قطعت عنق صاحبك، ثم قال: إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح». وقال ابن مسعود: «إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شئ، يلقى الرجل ليس يملك له ضرا ولا نفعا فيقول له: إنك والله كيت وكيت، فلعله أن يرجع، ولم يحظ من حاجته بشيء وقد أسخط الله، ثم قرأ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ... الآية. 4 - روى الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط فى الأرض، والجبت قال الحسن: الشيطان، وقال الإمام مالك في تفسير الجبت: هو كل ما يعبد من دون الله- عزّ وجل- أقول: كانوا يزجرون الطير ليبنوا على خطوط سيرها هل يقدمون على عمل أو لا، وكانوا يخطون بالرمل ليستخرجوا الغيب، فكل ذلك مع التطير من الجبت. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً. المعنى العام: بعد أن ذكر الله- عزّ وجل- فى الآيات السابقة كفر أهل الكتاب، وأنه لا يغفر شرك من أشرك به، يبين في آيتين من هذه الآيات الثلاث التي هي خاتمة هذا المقطع جزاء الكافرين والمؤمنين، ثم يصدر للمؤمنين أمرين، لا يكون المؤمن تقيا إلا بهما.
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته، وصد عن رسله، بأنه سيدخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، وأنه كلما احترقت جلودهم، بدلوا جلودا غيرها، حتى إنه ليتبدل في الساعة مائة مرة كما روي عن عمر، وفي رواية مائة وعشرين مرة، وكلا الروايتين عن عمر يرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعظم أهل النار في النار، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد» ثم ختم الله- عزّ وجل- الآية الأولى بوصف ذاته بالعزة والحكمة، وهما يفيدان في هذا المقام غلبة الله بالانتقام، وأنه لا يمتنع عليه شئ مما يريده بالمجرمين، وعقوبته لهم هي الحكمة عينها. وإذ بين عقوبة الكافرين، بين فيما بعد جزاء المؤمنين، فأخبر عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها، وأرجائها، حيث شاءوا، وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون، ولا يبغون عنها حولا، ولهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والأذى، والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، ويدخلهم ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا، وقد روى ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها- شجرة الخلد». وقال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. (سورة الرحمن) ثم أمر الله- عزّ وجل- المؤمنين أمرين- كلاهما ضروري في قضية التقوى: الأمر الأول: فى أداء الأمانات إلى أهلها، وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله- عزّ وجل- على عباده من الصلاة، والزكاة، والصيام، والكفارات، والنذور، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك، مما يأتمنون به من غير اطلاع وبينة على ذلك. فأمر الله- عزّ وجل- بأدائها. ومن ذلك قيام كل إنسان برعاية مسئولياته حتى قال ابن عباس: يدخل فيه وعظ السلطان النساء، يعني يوم العيد. والأمر الثاني: أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، ولا عدل إلا بإقامة حكم الله، وكل تصور للعدل غير ذلك، إنما هو انحراف وجهل وجور، ثم أثنى الله- عزّ وجل- على ما يأمرنا به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة. ثم ختم الله الآية والمقطع بتذكيرنا بأنه سميع لأقوالنا بصير بأفعالنا.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً. أي: سوف ندخلهم نارا. كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ. أي: كلما أحرقت. بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قال النسفي: أي: أعدنا تلك الجلود غير محترقة. فالتبديل والتغير لتغاير الهيئتين، لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق، وعن الفضل: يجعل النضيج غير نضيج. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. أي: ليدوم لهم ذوقه. وقد ذكر علماء التشريح أن الأعصاب التي تذوق الألم هي في الجلود، فما أعظم إعجاز هذا القرآن. وكيف لا يكون الأمر كذلك ومنزله خالق كل شئ، والعالم بكل شئ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً. أي: غالبا في انتقامه، حَكِيماً. في ما يفعله بالمجرمين. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. أي اجتمع لهم الإيمان مع العمل الصالح، سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ. أي: من الأنجاس والحيض والنفاس وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. أي: ظلا طويلا فينانا لا جوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجسجا لا حر فيه ولا برد، وليس إلا ظل الجنة كذلك. اجتمع لهم الخلود مع لذة النظر ولذة المتعة، ولذة المحيط دون منغصات، نسأل الله الجنة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى، ودخل في ذلك الأمانات العادية التي يأتمن الناس بعضهم بعضا عليها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي: وإذا قضيتم بين الناس أن تقضوا بالسوية والإنصاف، بلا هوى ولا جور، بالقضاء بحكم الله. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. أي: إن الله نعم شيئا يعظكم به، أو إن الله نعم الشئ الذي يعظكم به، أي نعما يعظكم به ذلك، وهو المأمور به، من أداء الأمانات، والعدل في الحكم. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً سميعا لأقوالكم، بصيرا بأعمالكم. وسبب نزول هذه الآية الأخيرة ما رواه ابن جرير عن ابن جريج قال: نزلت في عثمان بن طلحة، قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل في البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ... الآية. فدعا عثمان إليه. فدفع إليه المفتاح. قال: «وقال عمر ابن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ .... فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك». وقد عرض ابن كثير مجموعة
فوائد
الروايات وقصة ذلك، ثم عقب على ذلك فقال: «وهذا من المشهورات» أن هذه الآية نزلت في ذلك. وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا فحكمها عام. ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر، أي: هي أمر لكل أحد. وقال أكثر من مفسر، منهم زيد بن أسلم: إن هذه الآية إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد وأهل السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة السلام: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء». وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: «إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة، وإن كان قد قتل في سبيل الله فيقال: أد أمانتك، فيقول: فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟! فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقة، قال فتنزل عن عاتقه فيهوي على إثرها أبد الآبدين، قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته فقال: صدق أخي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... قال أبي بن كعب: من الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها. 2 - قال محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب «إن هذه الآية: أي وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس» قال ابن كثير وفي الحديث: «إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه». وفي الأثر «عدل يوم كعبادة أربعين سنة». 3 - روى أبو داود وابن حبان في صحيحه وغيرهما عن أبي يونس مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها .. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول: وهكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ويضع إصبعيه .. ». 4 - رأينا أن كلمة (الأمانات) في الآية عامة وفي ذلك يقول الألوسي: «وأيا ما فالخطاب يعم كل أحد- كما أن الأمانات، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول- تعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، سواء كانت فعلية، أو قولية، أو اعتقاديه. وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب. وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس، وأبي، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأبي
جعفر، وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم، وإليه ذهب الأكثرون، وعن زيد بن أسلم وأختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية، وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا، وفي تصدير الكلام- بإن- الدالة على التحقيق، وإظهار الاسم الجليل، وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة، وتأكيد وجوب الامتثال، والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له». وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة». وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر. الرحم توصل برة كانت أو فاجرة. والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر. والعهد يوفى به للبر والفاجر»، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». والأخبار في ذلك كثيرة. 5 - وفي آخر آية في المقطع أي في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ ... يقول صاحب الظلال: «هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين «الناس» بالعدل، على منهج الله وتعليمه. والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى .. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها «الإنسان» .. أمانة الهداية، والمعرفة، والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به. والاهتداء إليه، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد، ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا .. وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات. ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر بالله أن تؤدى: ومن هذه
الأمانات: أمانة الشهادة لهذا الدين .. الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون .. والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته- بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية- فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك. وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان- وهي إحدى الأمانات- ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض، منهجا للجماعة المؤمنة؛ ومنهجا للبشرية جميعا .. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيله، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر وهو كبرى الأمانات، بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة. ومن ثم ف «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس .. أداء لإحدى الأمانات. ومن هذه الأمانات- الداخلة في ثنايا ما سبق- أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأجيال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها .. وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال .. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى؛ ويجملها النص هذا الإجمال. فأما الحكم بالعدل بين «الناس» فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا «بين الناس» جميعا. لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلا مع أهل الكتاب، دون سائر الناس .. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه «إنسانا». فهذه الصفة- صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني. وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا: مؤمنين وكفارا، أصدقاء وأعداء، سودا وبيضا، عربا وعجما .. والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل- متى حكمت في أمرهم- هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط في هذه الصورة- إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية .. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة؛ فلم تذق له طعما قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا. لأنهم «ناس» لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه «الناس». وذلك هو أساس الحكم في الإسلام، كما أن الأمانة- بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في
المجتمع الإسلامي. والتعقيب على الأمراء بأداء الأمانات إلى أهلها؛ والحكم بين الناس بالعدل، هو التذكير بأنه من وعظ الله- سبحانه- ونعم ما يعظ الله به ويوجه: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه. فالأصل في تركيب الجملة: إنه نعم ما يعظكم الله به .. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله «اسم إن» ويجعل نعم ما «نعما» ومتعلقاتها، في مكان «خبر إن» بعد حذف الخبر .. ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله- سبحانه- وهذا الذي يعظهم به .. ثم إنها لم تكن «عظة» إنما كانت «أمرا» .. ولكن التعبير يسميه عظة. لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة والحياة! ثم يجئ التعقيب الأخير في الآية؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً .. والتناسق بين المأمور به من التكاليف؛ وهو أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس؛ وبين كون الله سبحانه «سميعا بصيرا» مناسبة واضحة ولطيفة معا .. فالله يسمع ويبصر، قضايا العدل، وقضايا الأمانة. والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير، وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر، وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر. وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور. وبعد: فالأمانة والعدل .. ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما في كل مجال في الحياة، وفي كل نشاط للحياة؟. أيترك مدلول الأمانة والعدل ووسائل تطبيقهما وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم أو أهواؤهم؟ إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان .. هذا حق .. ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات؛ متأثرا بشتى المؤثرات .. ليس هناك ما يسمى «العقل البشري» كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك، وعقل فلان وعلان، وعقول هذه المجموعة من البشر، في مكان ما وفي زمان ما .. وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى، تميل بها من هنا، وتميل بها من هناك .. ولا بد من ميزان ثابت، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها. ومدى الشطط والغلو، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان .. والميزان الثابت، الذي لا يميل مع
فصل: في مناقشة كلامية
الهوى، ولا يتأثر بشتى المؤثرات ... ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين .. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها فتختل جميع القيم .. ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم. والله يضع هذا الميزان للبشر، للأمانة والعدل، ولسائر القيم، وسائر الأحكام، وسائر أوجه النشاط، في كل حقل من حقول الحياة. فصل: في مناقشة كلامية مما حدث فيه نقاش كثير بين علماء الكلام، موضوع هل الذرات المادية التي خالطت جسد الإنسان هي عينها التي تلتحق بجسده ولها يكون العقاب والعذاب، أو ليس هذا ضروريا؟ ويستتبع هذا النقاش: هل الجلود التي يبدلها الله أهل النار هي الجلود نفسها يعيدها الله غير نضيجة؟ والقول الذي عليه جماهير المتكلمين هو: أن الذرات نفسها هي التي تنال العقاب والجزاء، وأن ذلك كائن بقدرة الله- عزّ وجل- والألوسي يرى الرأي الآخر ومن أجل أن تتضح آفاق النقاش ننقل كلامه في تفسير قوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. يقول: «أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا مغايرا للمحترق صورة، وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الاحتراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب، وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وتألمه وتلذذه غير معقول، لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة؛ فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة كالسيف الذى قتل به، ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح، والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها؛ دون إعادة السيف وإحراقه؛ لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت، وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام، بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة، وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني
يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر، أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح، وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط. ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم- معاذ الله تعالى- ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وما في شرح البخاري للسفيري- من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت أمرت وأنت سولت، ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارا لكن لا أصل إليها. فقال له الضرير: أركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما- لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به. ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة. فقد أخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، عن ابن عمر قال: «قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك. قال: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبي شيبة. وغيره عن الحسن قال: «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما أنضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا».
كلمة في السياق
لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله. والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود- مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه- أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن» اهـ كلام الألوسي. أقول: وأنا أرجح القول الذي ذهب إليه النسفي وغيره وأثبتناه في صلب التفسير. وسنفصل في هذا الموضوع- إن شاء الله- عند قوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ (سورة ق). كلمة في السياق: ابتدأ هذا المقطع بتحريم الصلاة في حالة السكر مبينا الحكمة في ذلك، ثم بصرنا بمواقف أهل الكتاب منا وحالهم، ثم بين جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين، ثم أمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل. فلنر صلة هذا المقطع بمحور السورة من البقرة: قلنا إن محور سورة النساء هو الآيات الخمس بعد مقدمة سورة البقرة، ونلاحظ أن في الآيات الخمس قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وفي هذا المقطع ذكر للصلاة وهي عبادة. وفي الآيات الخمس من البقرة قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي هذا المقطع نجد قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وفي الآيات الخمس من البقرة قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ونجد في المقطع قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ.
وفي الآيات الخمس من البقرة نجد قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. ونجد في هذا المقطع قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. وإذا كانت آيات المحور تأمر بالعبادة كطريق للتقوى، فإن من التقوى أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، وقد ختمت آيات المقطع بهذين الأمرين فالصلة بين محور السورة من البقرة وبين المقطع على أتمها وأكملها، وقد رأينا من قبل بعض معالم السياق الخاص للمقطع وصلته بسياق سورة النساء. قلنا إن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وارتباطات هذا المحور وامتداداته، ومن المعاني الشديدة الصلة في سورة البقرة بمحور سورة النساء: قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ .... وقوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. وقوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. والملاحظ أن هذه المعاني وغيرها شدت إلى محور سورة البقرة، وفصلت فيها سورة النساء في مقاطعها الأربعة التي مرت معنا والتي انتهت بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ والملاحظ أن كل ما مر معنا قبل هذه الآية يدخل في موضوع الأمانات بمعناها العام وكثير
المقطع الخامس
مما مر معنا يدخل في قضايا العدل، والملاحظ أن المقاطع التالية لها صلة بهذه الآية: فالطاعة لله، والرسول صلى الله عليه وسلم، ولأولي الأمر، هي مظهر الأمانة الأول، والاحتكام لله والرسول هو واجب الحاكم الأول وهو من الأمانة، والطاعة هي الأساس الذي عليه يقوم القتال وهي من الأمانة، والقتال به تقوم الحياة الإسلامية وهو من الأمانة. وبعد الكلام عن الطاعة والقتال يأتي مقطع يبدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وينتهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ فهذا المقطع له علاقة بالعدل فالمقاطع اللاحقة لها علاقة بالأمانة وبالعدل وذلك مرتبط بموضوع الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. ومن هنا ندرك بعض صلة المقاطع التالية ببعضها وصلتها بما قبلها، والأمر أوسع من ذلك كما سنرى فلننتقل إلى المقطع الخامس: المقطع الخامس ويمتد من الآية (59) إلى نهاية الآية (70) وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 59 الى 61] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
كلمة في هذا المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 70] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) كلمة في هذا المقطع واضح أن هذا المقطع موضوعه الرئيسي طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم أي طاعة الكتاب والسنة، والاهتداء بهما، وهو ركن من أركان التقوى كما نعلم. لقد رأينا في مقدمة سورة البقرة أن أول ما وصف به المتقون هو أن القرآن هداهم
الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ورأينا أن المقطع الأول في سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وقلنا هناك إن المقطع الأول الآتي بعد مقدمة سورة البقرة يدلنا على الطريق لنكون من المتقين، والطريق هو العبادة، وإذا كانت سورة النساء تفصيلا لقضيتي العبادة والتقوى، وإذا كان من التقوى الاهتداء بالكتاب، فإن المقطع الذي بين أيدينا يفصل في هذا الموضوع. وإذ جاءت سورة النساء تفصيلا لقضية التقوى والعبادة، وما يدخل فيهما فإننا نرى أن هذا المقطع يذكرنا بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وكيف أنه لا إيمان بالقرآن ولا إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إيمان بالله إلا بالطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم. لاحظ الصلة بين قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وبين قوله تعالى في هذا المقطع: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ إن ادعاء التقوى دون سلوك طريقها دعوى زائفة. إن سورة النساء التي تفصل في المحور- الذي دعا الناس إلى السير في الطريق الذي يوصل إلى التقوى- تفصل لنا في الطريق، وتوضح لنا ماهية التقوى، فالمقطع واضح الصلة بسياق السورة واضح الصلة بمحورها. ومن خلال قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ندرك أن هناك صلة بين المقطع وبين الآية السابقة عليه وهي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فصيغة العدل الوحيدة هي هذا الدين في مصدرية الرئيسين الكتاب والسنة، وفي مصادره الفرعية الملتزمة بالكتاب والسنة والمنبثقة عنهما. إنه من خلال أدنى نظرة إلى المقطع ندرك أن المقطع وحدة متكاملة موضوعها (الطاعة) فالآية الأولى فيه: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
المعنى العام للمقطع
والآيتان الأخيرتان فيه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ ... ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ فالمقطع يبدأ بالأمر بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر من المسلمين في طاعة الله، وأن على كل المسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة حال التنازع، وفي المقطع حديث عمن يدعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت، وإذا دعي إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى الكتاب والسنة أعرض فهؤلاء هم المنافقون. والمقطع يبين لنا أن الله- عزّ وجل- ما أرسل رسولا إلا ليطاع، فهؤلاء الذين يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحققوا ما يقتضيه إرسال الرسل لهم، وقد بين المقطع أنه لا إيمان إلا بتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في النزاع والتسليم لحكمه، وأن على المؤمن أن يطيع الله، ولو كان في ذلك ترك الأوطان، وقتل الأنفس، وأن عاقبة الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم حميدة، ثم ذكرنا المقطع بأن الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم تجعل صاحبها مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا يذكرنا بصلة المقطع بالمحور، وصلة المحور بمقدمة سورة البقرة، وصلة مقدمة سورة البقرة بسورة الفاتحة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. المعنى العام للمقطع: يأمر عزّ وجل بطاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بطاعة كتابه، والأخذ بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما يأمر بطاعة أولي الأمر فيما يأمرون من طاعة الله، لا في معصيته. وأولو الأمر في الأصل: العلماء والأمراء. ثم أمر تعالى أن يرد كل تنازع يقع بين الناس في أصول الدين، أو فروعه، أو في أي أمر إلى الكتاب والسنة. ثم بين أن علامة الإيمان بالله واليوم الآخر هو رد الخصومات إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاحتكام إليهما في كل شئ مما شجر فيه خلاف، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر، ثم بين أن التحاكم إلى كتاب الله، وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع هو الخير والأحسن عاقبة ومآلا، والأحسن جزاء. ثم يلفت الله نظر رسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين المتقين إلى من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعدلون عنهما، ويتحاكمون إلى ما سواهما من
الباطل، مع أن الله- عزّ وجل- أمرهم أن يكفروا بالطاغوت، وهو الباطل هنا، وهو كل ما خالف الكتاب والسنة، وما يفعلون ذلك إلا طاعة للشيطان الذي يريد إضلالهم الضلال البعيد. ثم أكمل الله- عزّ وجل- وصف حالهم بأنهم عند ما يدعون إلى كتاب الله وإلى رسول الله، لا يكون منهم إلا الإعراض الشديد. ثم قال الله مهددا مبينا أن هؤلاء المنافقين ستنزل بهم مصائب بسبب مواقفهم، وعندئذ يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم حالفين كذبا وزورا. وقد سيق هذا المعنى بعبارة مضمونها، فكيف إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، فاحتاجوا إليك فجاءوك يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة، وذلك دأب المنافقين يسيرون تحت لواء الكافرين. ثم يدعون أنهم فعلوا ذلك بقصد الإحسان والتوفيق. ولا تعبير يستطيع أن يحل محل اعتذار المنافقين بإرادتهم الإحسان والتوفيق في سيرهم مع الكافرين، أو في الرضوخ لحكمهم. كتعبيرهم ذلك في التغطية على فعلتهم. ثم بين الله- عزّ وجل- لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك. فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف بعلمه فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، فلا تعنفهم على ما في قلوبهم، وانههم بوعظك عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم. وبهذا اكتملت هذه الصورة للمنافقين. وهي صورة لمن يرفض الاحتكام للكتاب والسنة، ويحتكم في شأنه إلى غيرهما، وما ينبغي أن يكون الموقف منهم. فدل على أن الاهتداء بكتاب الله، وقبول الاحتكام له، والخضوع لحكمه هو الذي يحدد تقوى الإنسان أو نفاقه. ثم بين الله- عزّ وجل- أن ما أمر به من طاعته وطاعة رسوله هو الأصل الدائم عنده، فما أرسل رسولا إلا من أجل أن يطاع، ولا يطيع الرسل إلا من وفقه الله، ثم أرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك، تاب الله عليهم ورحمهم، وغفر لهم. ثم أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا إيمان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرا وباطنا، فكما تجب الطاعة الظاهرة، يجب الانقياد الباطني لحكمه بالتسليم الكلي من غير
المعنى الحرفي
مخالفة ولا مدافعة، ولا منازعة. ثم بين تعالى أن الخير كله في طاعة الله مهما كان في الطاعة من مشقة على النفس، حتى لو كان الأمر فيه قتل الأنفس، وترك الديار، والهجرة منها. ففعل الأمر كائنا ما كان هو الخير، وهو الذي يزيد من ثبات المؤمن على إيمانه، والله عزّ وجل يأجر أصحاب ذلك على ذلك الجنة والهداية في أمر الدنيا والآخرة. ثم بشر الله- عزّ وجل- مطيعي الله ورسوله الذين يعملون بما أمر الله ورسوله، ويتركون ما نهى الله عنه ورسوله، بشر الله- عزّ وجل- من كان كذلك بأنه يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقا للأنبياء ومن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم، وما أحسن هؤلاء من رفقة، ما أحسن معيتهم، وما أحسن صحبتهم، وما أحسن مرافقتهم، وما أحسن عشرتهم. ثم ختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بتبيان أن الفضل فضله إذا وفق إنسانا لطاعته أو أعطاه فذلك من آثار رحمته إذ هو سبحانه الذي أهل هؤلاء لذلك، وما أهلهم وتفضل عليهم إلا لعلمه بهم، فهو العليم بمن يستحق الهداية والتوفيق. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بطاعة كتابه، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بطاعة شخصه في حياته، وطاعة سنته بعد وفاته. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. أي: من المسلمين. أما غير المسلم فلا ولاية له على المسلم ولا طاعة. وأولو الأمر هم الأمراء المسلمون. هذا الذي يفهم من سبب النزول. وقال ابن عباس: هم أهل الفقه والدين، ولا تعارض، لأن الأصل أن يكون الأمراء علماء فقهاء. أخرج الدارمي عن تميم الداري أن عمر قال «لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة فمن سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قوم على غير فقه كان هلاكا له ولهم»، فإن لم يكونوا كذلك فعليهم أن يرجعوا في شئون ولايتهم إلى العلماء، ومن ثم فالعلماء فوقهم، ولكن يبقى لهم حق الطاعة على العلماء فيما سوى ذلك إن كانوا ولاة عدل وعدولا. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ. أي: فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شئ من أمور الدين، أو اختلفتم فيما بينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. أي: فارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. إذ إن الإيمان مقتضاه الطاعة، ومن مقتضى الطاعة الرجوع إلى الكتاب والسنة في حالة النزاع ذلِكَ خَيْرٌ. أي: الرد إلى الكتاب والسنة خير في العاجل وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وأحسن في الآجل أي وأحسن عاقبة.
فوائد
فوائد: 1 - قال النسفي: دلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة، إذا وافقوا الحق، فإن خالفوه فلا طاعة لهم. وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا، وجد عليهم في شئ، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، قالوا: بلى، قال فاجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف». وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». 2 - وبمناسبة ذكر ولاة الأمر نقول: إن ولي الأمر عندنا في الأصل هو الخليفة الذي تنبثق إمرته عن شورى المسلمين، ومهمته إقامة الكتاب والسنة، والأمر له في الطريقة التي يختارها لتعيين الولاة والمساعدين. إن شاء أن يجعلها شورى، أو يعين تعيينا، ويجب على المسلمين طاعته وطاعة عماله في المعروف. روى مسلم عن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا وأطيعوا». 3 - ليس هناك أهم في الإسلام من ثلاث قضايا، القضيتان الأولى والثانية: التقوى والعبادة وهما متلازمتان. القضية الثالثة: الطاعة. لذلك كانت الأوامر الرئيسية التي وجهها الرسل لأقوامهم هي: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* (الشعراء) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (نوح) ولذلك كان من أهم الفقه في دين الله فقه العبادة والتقوى والطاعة، كيف نعبد الله عزّ وجل؟ وبماذا نعبده؟ وما هو مضمون التقوى؟ وكيف نتحقق به؟ ولمن نعطي طاعتنا؟ لله والرسول صلى الله عليه وسلم فذلك واضح، وطاعة أولي الأمر في حال الاستقامة والسلامة واضحة، وذلك إذا كان هناك خلافة راشدة بل وحتى خلافة ظالمة لكنها تعترف لله بالحاكمية وتقيم كتاب الله على ضعف أو ظلم. ولكن حيث لا خلافة راشدة ولا ظالمة فلمن تعطى الطاعة؟ عند ما يكون النظام كافرا فلمن تعطى الطاعة؟ هناك الطاعة لسلطان القانون والنظام فهذه مفروضة على المسلم كرها وهذه ليست محل بحثنا، وإنما محل بحثنا لمن يعطي المسلم طاعته الاختيارية؟ فعند ما يكون في
نظام كفري فإنه لا تدخل طاعته في قوله تعالى: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ولكن سلطان القانون يطالبه فهو مضطر للطاعة الإجبارية، والذي نستطيع أن نفتي به هو أن الطاعة الاختيارية في هذه الحالة تكون للعلماء الربانيين فهم وراث النبوة. وعلى مثل هذا نستطيع أن نحمل حملا مباشرا كلام ابن عباس في تفسير: أولي الأمر بأنهم العلماء الفقهاء ويشهد لما ذكرناه بعض روايات حديث حذيفة «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني» فهذا الحديث أصل عظيم في الفتوى فيما يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض روايات أبي داود لهذا الحديث ما يلي: «قلت يا رسول الله ثم ماذا؟ قال: إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة»، وفى رواية أخرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرر أمرا ثلاث مرات، في كل مرحلة تمر، هذا الأمر هو: «تعلم كتاب الله واتبع ما فيه»، وفي هذا إشارة إلى التلمذة على الربانيين قال تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فتعلم كتاب الله يقتضي أخذا عن الربانيين فكأن الحديث يشير إلى ما ذكرناه: أن الطاعة الاختيارية في حالة فقدان الخلافة إنما تكون لوراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكما قلنا فليس كلامنا في الطاعة المفروضة بسلطان النظام والقانون، وفي حديث حذيفة ما يدل على أن التلمذة على الربانيين هي الأساس حتى في حالة وجود الخلافة الظالمة، فما بعد الخلافة الراشدة الأصل أن تعطى الطاعة الإجبارية للخلافة وأن تعطى الطاعة الاختيارية لوراث الأنبياء. 4 - وفي سبب نزول الآية يروي ابن جرير، وابن مردويه وغيرهما ما يلي: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون. فلما بلغوا قريبا منهم، عرسوا، وأتاهم ذو العيينتين، فأخبرهم، فأصبحوا وقد هربوا، غير رجل أمر أهله. فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه، فقال: يا أبا اليقظان: إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك فأقم، فأقام فلما أصبحوا أغار خالد، فلم يجد أحدا غير الرجل، فأخذه، وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل، فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا، وارتفعا إلى النبي
[سورة النساء (4): آية 60]
صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد: لا تسب عمارا، فإنه من سب عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله، ومن يلعن عمارا يلعنه الله» فغضب عمار، فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله- عزّ وجل- قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .... ومن هذا النص نفهم أن الآية في طاعة الأمراء، وأن طاعتهم واجبة، وأن عدم التقدم عليهم في أمر واجب. وقد استثنى فقهاء الحنفية حالة، وهي ما إذا أمر الأمير بأمر رأى الأكثرية فيه ضررا، فيتبع رأي الأكثرية في هذه الحالة، ذكره ابن عابدين في أول كتاب الجهاد. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ. أي: يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. من الوحي والقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على رسل الله عليهم الصلاة والسلام يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ. أي: إلى ما خالف الكتاب والسنة من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. وقيل الطاغوت هنا: الشيطان ممثلا بجنده وأتباعه. وقيل الطاغوت: هو من جاوز الحد في طغيانه، وعتوه، ومحاربته للإسلام. وكل ذلك صحيح. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. أي: وقد أمروا أن يكفروا بالطاغوت والشيطان الداعي إليه، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. عن الحق، والمراد بقوله: ضلالا بعيدا: أي مستمرا إلى الموت. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ. أي: للمنافقين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ. أي: إلى كتاب الله وَإِلَى الرَّسُولِ إلى شخصه في حياته وإلى سنته بعد مماته للتحاكم، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. أي: يعرضون عنك أشد أنواع الإعراض. فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ. أي فكيف تكون حالهم، وكيف يصنعون إذا نزلت بهم المصائب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. أي: بسبب ما فعلوه من التحاكم إلى غير الله ورسوله وأمثال ذلك. ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا. أي: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً بين الخصوم، فلم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك، وهذا شأن المنافق يظن أنه محسن في نفاقه وأنه يجمع بين وجهات النظر وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار. أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: فأعرض عن قبول الاعتذار، وَعِظْهُمْ. أي وعظ بالزجر والإنكار، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا
فائدة
بَلِيغاً أي: قولا يبلغ منهم، ويؤثر فيهم: والبلاغة: أن يبلغ الإنسان بلسانه كنه ما يريد، ويمكن أن يراد بالإعراض، الإعراض عن العقاب والعتاب. وبالوعظ التذكير، وبالإبلاغ إيصال الحقائق إلى أنفسهم بأبلغ أسلوب. فائدة: مما ورد في أسباب نزول هذه الآيات، أنها نزلت في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وروى الطبراني في سبب نزولها عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين، فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ... الآيات، وقيل غير ذلك. قال ابن كثير: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ. أي: وما أرسلنا رسولا قط إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. أي: إلا ليطاع بتوفيق الله في طاعته وتيسيره، أو بسبب إذن الله في طاعته، إذ إنه أمر المبعوث إليهم أن يطيعوه، لأنه مؤد عن الله، فطاعته لله. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت. جاؤُكَ تائبين من النفاق، معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق. فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من النفاق والشقاق. وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. أي: بالشفاعة لهم، والدعاء لهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً. أي: لعلموه توابا عليهم إن تابوا رحيما بهم. والمعنى: ولو وقع مجيئهم للرسول في وقت ظلمهم مع استغفارهم، ثم استغفر الرسول لهم، لوجدوا الله توابا رحيما، ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيما لشأنه صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول صلى الله عليه وسلم من الله بمكان. فائدة: لم يفرق بعض الإسلاميين بين دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطابه بعد وفاته. ولا بد في الحقيقة أن نفرق بين دعائه- والدعاء لا يجوز إلا لله- وبين مخاطبته أن يدعو الله للمخاطب. وقد روى ابن كثير عند هذه الآية هذه الحادثة قال: «وقد ذكر جماعة
[سورة النساء (4): آية 65]
منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه (الشامل) الحكاية المشهورة عن العتبي. قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... الآية، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت في القاع أعظمه … فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: «يا عتبي الحق الأعرابي، فبشره أن الله قد غفر له». وشاهدنا أن ابن كثير ذكر هذه الحادثة دون تعليق مما يدل على أنه يعتبر أن الآية حكمها لا زال باقيا في جواز مخاطبة رسول الله ليستغفر الله لطالب ذلك. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. أي: فو ربك لا يؤمنون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ. أي: فيما وقع بينهم من اختلاف واختلاط. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ. أي: لا يجدون ضيقا أو شكا، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين. فكما فرض الله علينا الرضوخ لحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم علينا أن تضيق صدورنا بحكمه وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أي: وينقادوا لقضائك انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم، والمعنى: لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك. فائدة في سبب النزول: روى البخاري عن عروة قال: «خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... الآية» وروى الحافظ أبو إسحاق بن عبد الرحمن في تفسيره عن حمزة: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه فما تريد؟ قال: أن تذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه، فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي، فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول
[سورة النساء (4): آية 66]
الله صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله، وخرج والسيف في يده قد سله، فضرب رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... الآية. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. أي: ولو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، بأن يقتل بعضهم بعضا أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ. أي: هاجروا ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ممن خلصوا لله، وذلك لصعوبة الأمر، وندرة المخلصين. دلت على أن الخروج من الديار يعدل القتل. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والانقياد لحكمه، وتنفيذ أمره، مهما كان. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في الدارين، وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. أي: وأكثر تثبيتا لإيمانهم، وأبعد عن الاضطراب فيه. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. أي: ثوابا كثيرا لا ينقطع، وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. أي: لثبتناهم على الدين الحق، وهدينا قلوبهم إليه، وفيه. فائدة: قال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شماس، ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت: والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا، فأنزل الله هذه الآية. وبعد أن نزلت الآية قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو فعل ربنا لفعلنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي». وقال عليه الصلاة والسلام: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم». وقال: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» قال ذلك عن ابن رواحة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ثم بينهم وعددهم، مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الصديق: هو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه في المراقبة، وَالشُّهَداءِ. أي: الذين استشهدوا في سبيل الله وَالصَّالِحِينَ. قال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلهم في الصالحين). أي: من صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. أي: وما أحسن أولئك رفيقا. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ. أي: إن ما أعطي المطيعون من الأجر العظيم، ومرافقة المنعم عليهم إنما هو فضل من الله تفضل الله
فوائد
به عليهم. وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً. أي: ليس أعلم منه بعباده، وبمن هو أهل الفضل. دلت الآية على أن ما يفعل الله بعباده، وما يوفقهم إليه، إنما هو فضله، وهو حجة على المعتزلة في نفي خلق الأفعال. فوائد: 1 - روى البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة» وكان في شكواه التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. فعلمت أنه خير» قال ابن كثير: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «اللهم الرفيق الأعلى» ثلاثا ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم. 2 - روى الطبراني بإسناد لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة، رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ ... الآية. 3 - وفي صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: «كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود». 4 - ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: «المرء مع من أحب» قال أنس فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث. وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن الله يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم». 5 - وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى هذه الآية في حديث رواه ابن جرير: «إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياض، فيذكرون ما أنعم الله عليهم، ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات، فيسعون عليهم بما يشتهون،
كلمة في السياق
وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون». 6 - روى الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». 7 - روى الإمام أحمد عن عمر بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا- ونصب إصبعيه- ما لم يعق والديه». 8 - وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله». 9 - وروى الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء». كلمة في السياق: بين- عزّ وجل- في هذا المقطع معنى عظيما من معاني عبادته وتقواه، هذا المعنى هو الطاعة المطلقة له- عزّ وجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأولي الأمر من المسلمين في طاعة الله ورسوله. وبين معاني ما يدخل في هذه الطاعة، مما بدونه لا تكون تقوى ولا عبادة لله، بل ولا إيمان أصلا، فلا تقوى ولا عبادة إذا لم يكن أصل الإيمان موجودا. فهذا المقطع إذن سائر على النسق الخاص في هذه السورة، والذي محوره الآيات الخمس من سورة البقرة، والملاحظ أن المقطع الأول والثاني في السورة كانا في توضيح معان من التقوى لها علاقة بالضعيفين: المرأة واليتيم. والمقطع الثالث بين معان في التقوى لها علاقة بالأموال والأنفس، ووضع كل في محله، والإحسان إلى خلق الله. والمقطع الرابع بين معاني من العبادة والتقوى في الصلاة والمواقف من أهل الكتاب، والأمانة والعدل. وهذا المقطع يبين معان في أصل العبادة والتقوى وهو
فصل: في طاعة أولي الأمر
الإيمان ومحل الطاعة الكاملة فيه ومواضعها، وما ينافيها، وما يدخل فيها. ومجئ هذا المقطع الذي يمكن تسميته بمقطع الطاعة في سياق السورة التي تربي على العبادة والتوحيد والتقوى والإيمان والعمل الصالح واضح السبب، ثم مجئ هذا المقطع بين آية الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل وبين مقطع الأمر بالنفير العام واضح السبب كذلك. إن الانضباط والطاعة في الفن العسكري يعتبران أساس الوجود العسكري أصلا فإن يسبق الكلام عن القتال كلام عن الطاعة فذلك واضح السبب، وأن يأتي مقطع الطاعة لله والرسول بعد الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل، فذلك لأنه لا أمانة إلا بطاعة الله ورسوله، ولا عدل إلا بطاعة الله ورسوله، ولذلك ورد اشتقاق الحكم أكثر من مرة في المقطع: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ولعل ما ذكرناه فيه كفاية لمعرفة محل المقطع في السياق الخاص للسورة ومحله بالنسبة للسياق القرآني العام، ومع ذلك نقول لزيادة الإيضاح: إنه في آيات المحور ورد قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا* وفي المقطع بشارة لأهل الإيمان مع توضيح في شأن هؤلاء الذين يستحقون البشارة، وفي محور السورة أمر بالعبادة للوصول إلى التقوى التي تنافي الكفر والنفاق، والمقطع يدلنا على أخلاق للكافرين والمنافقين وكل ذلك له صلة بمحور سورة النساء من البقرة وارتباطاته وامتداداته. ولنختم الكلام عن هذا المقطع بفصل ونقل: فصل: في طاعة أولي الأمر لا شك أن طاعة أولي الأمر فيما هو واجب، واجبة .. وأن طاعة أولي الأمر في المعصية حرام، ولكن كثيرا من قضايا الواجب والمعصية يخضع للفتوى البصيرة من أهلها، فهناك حالات الضرورة والاضطرار، وحالات الإكراه، والحالات الاستثنائية، وتأثير ذلك على أصل الحكم الشرعي، وصلة ذلك بالفتوى، وهناك حالات يعطيها أمر أولي الأمر الشرعيين صفة استثنائية، فقد تكون قضية لا تجوز في بعض الأحوال، فإذا أمر بها الأمير أصبحت جائزة، كأمر الأمير أحد المسلمين أن يموه عن نفسه لتحقيق خدعة، أو لتحقيق مصلحة تخدم المعركة، وإذن فنحن إذا تحدثنا عن الطاعة والمعصية فعلى ضوء الفتوى البصيرة التي تلاحظ الزمان والمكان والأشخاص والأوضاع الاستثنائية على ضوء الكتاب والسنة. على ضوء ذلك كله يقال: لا طاعة في المعصية إنما الطاعة في المعروف فحيثما كانت
نقل
معصية فالطاعة حرام، وحيثما كان واجبا فالطاعة واجبة. والطاعة في المعصية حرام ولكن الحكم على المطيع في المعصية يختلف باختلاف أنواع المعاصي، ويختلف باختلاف أحوال الآمر والمأمور، ويتدخل في الحكم عوامل متعددة لا بد أن تراعى، فهناك حالات تغتفر في حالات الإكراه، وهناك حالات لا تغتفر، وهناك حالات ينفذ الإنسان فيها أمرا لا يجوز ومع ذلك يعتبر في عبادة، كالصورة التي ذكرها الفقهاء: لو أن أميرا فرض ضريبة ظالمة على ناس ويمكن أن يوزعها عادل فيوزع الظلم بعدل أو يوزعها ظالم فيزيد الظلم ظلما قال الفقهاء: الذي يوزع الظلم بعدل هو كالمجاهد في سبيل الله. هذا كله لا بد أن يتفطن له، ونحن ندرس أمر الطاعة في ظروفنا وأوضاعنا. ومن الآية نعرف: أنه في حالة أي خلاف على أي أمر فالحكم هو الكتاب والسنة بين كل الناس وفي كل قضية. بقي أن نتساءل ما هو حكم طاعة أولي الأمر في المباح؟ نقول: لا بد من التفريق بين المباح الأصلي الذي تقتضي مصلحة للمسلمين بتقييده كأن يقيد السير بقانون فلا شك في هذه الحالة أن طاعة أولي الأمر من المسلمين واجبة فيه، وبين التحكم في تحريم الحلال فذلك لا يجوز لأحد، وقد عرض الألوسي لهذه المسألة في تفسيره وذكر وجهات النظر فيها فقال: «وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى. ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى، وقيل: تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره، وقال بعض محققي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم، وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط، بخلاف ما فيه ذلك يجب باطنا أيضا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الآمر. فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط، أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل؟ وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أولا، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا». نقل قدم صاحب الظلال للآيات التي بدأت بتوضيح مواقف أهل الكتاب بمقدمة هي
لذلك المقطع وللمقاطع اللاحقة وقد رأينا أن ننقل بعضها هنا لتكون مقدمة مباشرة للمقطع السادس الذي يأمر بالنفير العام، يقول صاحب الظلال: «لقد كان القرآن فيها (أي في السور الثلاث البقرة وآل عمران والنساء) يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة .. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشئ فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصورا للوجود جديدا، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشئ فيها قيما جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة .. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج .. اليهود والمنافقين والمشركين .. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم، بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء .. ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله- بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي- بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا- ماديا- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك .. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد. وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية .. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: امبراطوريتي كسرى وقيصر .. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث .. ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا
فحسب، ولكنه كان اكتساحا عقيديا، ثقافيا، حضاريا كذلك، يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي- من غير إكراه- عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها .. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر قديما! لقد كان تفوقا «إنسانيا» كاملا. تفوقا في كل خصائص «الإنسانية» ومقوماتها. كان ميلادا آخر للإنسان. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد .. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والآشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات. وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ إن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر «اللغة العربية». فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض وقبل الإسلام، ومن ثم سميتها «اللغة الإسلامية» فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي «الإسلام» قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها- لا بلغاتها الأصلية- ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين- اللغة الإسلامية- وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة، ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة عربية- غير اللغة الأم- لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات .. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانيا؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها. ومن لغاتها القديمة أيضا! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي، والخلقي والاجتماعي الذي أنشأه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة
المقطع السادس
والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد الله- لغة الإسلام- بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش- جيوش الإسلام- بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة. المقطع السادس ويمتد من الآية (71) إلى نهاية الآية (93). وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 71 الى 76] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
[سورة النساء (4): الآيات 77 الى 84] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
[سورة النساء (4): الآيات 85 الى 91] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) كلمة في المقطع: قلنا أثناء الكلام عن آيات القتال الأولى وما قبلها في سورة البقرة: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ. إن مجئ هذه الآيات في سياق الكلام عن التقوى والطرق التي توصل إليها يصحح مفاهيم خاطئة عن التقوى، فالكثيرون من الناس يفهمون أن التقي هو المسالم أبدا، وهو الذي لا يرد الاعتداء، وهذا تصور مغلوط عن التقوى. وكذلك فإن كثيرين لا يعتبرون أن الوصول إلى الشئ من بابه هو من التقوى، وهذا شئ مغلوط بينته تلك الآيات، وكثيرون لا يعتبرون أن حريتهم في التصرف بأموالهم مقيدة بقيود الشرع، وذلك تصور مغلوط صححته الآيات هناك. وإذا كان المحور الرئيسي لسورة النساء هو التقوى، وتبيان ماهيتها، والدلالة على طريقها، فهي تأمر، ومن خلال الأمر تصحح مفاهيم، ومن المفاهيم الضائعة في قضية التقوى، موضوع الطاعة والحركة الجهادية، إن كثيرين من الناس لا يعرفون لمن يعطون طاعتهم، ولا يعرفون كيف ينبغي أن يتحركوا الحركة الجهادية، والمقاطع التي بين أيدينا من سورة النساء حددت الطاعة، وأطلقت الطاقة. ففي المقطع الخامس تحددت الطاعة، وفي المقطع السادس وما بعده مباشرة تحريك للطاقة في الطريق الذي لا يصح أن
تتوقف الحركة فيه، وهو طريق الجهاد الذي لا يعرف الكثيرون كيف يقيمون أمر الله- عزّ وجل- فيه. يأتي هذا المقطع ليبين معان من العبادة والتقوى، مرتبطة بموضوع القتال، ففيه الأمر بالنفير العام، وفيه كلام عن المتقاعسين، وفيه حض على القتال، وبيان لأسبابه، وبيان لنوعية قتال المؤمنين، ولطبيعة قتال الكافرين، ثم عودة لتبيان طبيعة المتقاعسين، ومعالجة لها. وإذ كانت الطاعة ركن القتال، فإنه يأتي كلام عن الطاعة، وإذ كانت الشائعات جزءا من المعركة، فإن المقطع يحدد موقف المسلم من الشائعة، ويأتي ذلك في سياق الأمر بتدبر القرآن، ثم يأتي أمر بالقتال، ولو نكص الناس جميعا. وفي هذا السياق يأتي كلام عن التحية والشفاعة والتوحيد، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم يقابل بالأحسن، وأن تلافي آثار القتال يحتاج إلى شفاعة، وأن التوحيد يقتضي توكلا، وكل ذلك له صلة بالقتال من وجه. ثم يأتي كلام عن المنافقين ومتى يجوز قتالهم؟ ومتى لا يجوز؟ وفي هذا السياق يأتي تبيان تحريم قتل المؤمن عمدا، وماذا يجب أن يفعل من قتل مؤمنا خطأ؟ فالمقطع يوضح لنا محل القتال في التقوى، وما هي مواقف المتقين حيث ينبغي القتال، وفي المقطع تأكيد لكلمة الإيمان إذ الإيمان الحق هو الذي ينبثق عنه القتال الحق. رأينا أن سورة البقرة تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، ثم جاء المقطع الأول في القسم الأول يحدثنا عن الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق، ورأينا في سورة البقرة أمرا بقتال الذين يقاتلوننا، وقلنا هناك إن الكلام عن القتال جاء يصحح مفهوما عن التقوى والمتقين، وهاهنا نلاحظ أن التقاعس عن القتال نوع نفاق، وأن محاولة الوقوف على الحياد بين أهل الإيمان والكفر نفاق، وأن على أهل الإيمان أن يتصرفوا ضمن حدود معينة مع المنافقين. فالمقطع يفصل في الطريق للتقوى، وفي ماهية التقوى في أمور متعددة. ولعلنا نتذكر أن الأمر بقتال من يقاتلنا في سياق القسم الثاني من أقسام سورة البقرة، هو القسم نفسه الذي فيه حديث عن القصاص. وهذا المقطع يختتم بالكلام عن القتل العمد والقتل الخطأ. إن سورة النساء تفصل في التقوى، والطريق إليها، وامتدادات ذلك في سورة
المعنى العام للمقطع
البقرة، ولذلك مظاهره الكثيرة التي من أبرزها ابتداء كثير من مقاطع سورة النساء بصيغة «يا أيها» التي هي الصيغة الآتية بعد مقدمة سورة البقرة. المعنى العام للمقطع: رأينا في سورة البقرة عند قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... أن هذه الآيات آتية في سياق توضيح أن القتال في سبيل الله جزء من التقوى، لا كما يظن الجاهلون أن القتال يتنافى مع التقوى. وهذا المقطع والذي يليه توضيح لكون القتال جزءا من عبادة الله ومن تقواه. ولنر المعاني العامة التي تضمنها هذا المقطع. يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد، وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله، سرية بعد سرية، نفيرا عاما ينفر به الجميع. ثم بين تعالى أن ممن يخالطون المؤمنين، ويتظاهرون بالإيمان، ناسا يتخلفون عن القتال في سبيل الله، فيتباطئون عنه، ويبطئون غيرهم، وينظرون إلى القتال من خلال المصلحة المادية لهم ولغيرهم، فإذا رأوا المسلمين أصيبوا فرحوا، وإن رأوهم غلبوا وغنموا تمنوا أن يكونوا معهم ليصيبوا من الغنائم. ومن فساد تصورهم أنهم يعتبرون عدم خروجهم للقتال حال غلبة الكافرين على المسلمين أن ذلك من فضل الله عليهم، جهلا منهم بالله وسننه في عباده، وجهلا منهم بمعاني الإسلام والإيمان والقرآن. وإذ بين الله فساد تصور هؤلاء لموضوع الجهاد وحكمته، وما يحيط به من قتل في سبيل الله، أصدر أمره تعالى للمؤمنين بالقتال، وأمرهم أن يكون قتالهم في سبيله خالصا، وبين أن كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب، فله عند الله ثواب عظيم، وأجر جزيل. وقد جاء هذا الأمر كتصحيح لذلك التصور الموجود عند المنافقين عن القتال. ثم بين الله- عزّ وجل- الحكمة في القتال مصححا المفاهيم المعوجة فيه، محرضا للمؤمنين على القتال، منكرا عليهم تركه، ومن أولى من الله- عزّ وجل- أن يقاتل في سبيله، ومن أولى من المسلمين المستضعفين المغلوبين على أمرهم، المضطهدين في دينهم، الراغبين إلى الله أن ينقذهم من طغيان من هم تحت سلطانه من المردة والظالمين، من أولى من هؤلاء أن يقاتل من أجلهم؟؟ وإذ تقرر بهذا الأمر القتال، وضرورته، بين تعالى بعد ذلك الفارق بين قتال المؤمنين، وقتال الكافرين، فالمؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان ومقاصده. ثم هيج الله تعالى المؤمنين على قتال أعدائه أولياء الشيطان، مبينا أن الشيطان وحزبه
ومكرهم، كل ذلك ضعيف أمام قدرة الله، ضعيف إذا وجد الجهاد. فليعلم ذلك المؤمنون. أن كيد الشيطان ضعيف إذا قام المسلمون بأمر الله في الجهاد في سبيله. أما إذا لم يفعلوا فيا خسارتهم في الدنيا والآخرة، إن ذلك من النفاق كما ورد في الحديث «من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق». ثم يلفت الحق- عزّ وجل- نظر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى تصور خاطئ عند بعض الناس تصور من يظن أن الإسلام صلاة وزكاة، ثم لا قتال، تصور الذين هم مستعدون لطاعة الله في قضايا العبادة، لا في قضايا بذل الدم في سبيل الله، وذلك من خلال عرض حال بعض المؤمنين بعد أن كتب عليهم القتال، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين في ابتداء الإسلام بالصلاة، والإنفاق في سبيل الله مواساة للفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين إلى حين، وكانت هذه مرحلة لها أسبابها، حتى إذا أذن الله بالجهاد والقتال، وأمر به، إذا فريق من هؤلاء المؤمنين يجزع ويخاف من مواجهة الناس بالقتال، ويتمنون على الله أن يؤخر عنهم فريضة القتال؛ لما فيها من سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، والتي من أجلها يتمنون تأخير فريضة القتال، فبين أن متاع الدنيا قليل لا يساوي شيئا، وأن الآخرة لأهل التقوي، خير من هذه الدنيا، وأن الله يوفي أهل التقوى جزاء أعمالهم كاملا، فليرغبوا في الآخرة، وليجاهدوا. ثم زادهم بصيرة وبيانا ليرغبوا في الجهاد، عند ما بين لهم أنهم صائرون إلى الموت لا محالة، وأن الموت لا ينجو منه أحد، وأن كل أحد صائر إلى الموت في الأجل المحدد، لا ينجيه من ذلك شئ سواء جاهد أو لم يجاهد، حتى ولو كان في الحصون المنيعة العالية الرفيعة، ثم سفه الله- عزّ وجل- تصورا آخر عند بعض من يدعون الإسلام، ويتظاهرون أنهم من أهله، ولا يعقلون ولا يعلمون. هذا التصور، هو أنه إذا كان خصب، ورزق، وثمار، وزروع، وأولاد، ورخاء، يعتبرون ذلك من عند الله، وإن كان قحط، وجدب، ونقص في الثمار والزروع والأولاد، يعتبرون ذلك من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبب اتباعه والاقتداء بدينه. وإذا كان نصر وغلبة يعتقدون أن ذلك من الله، وإذا كان إصابة من قتل أو هزيمة يعتقدون أن ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه من بعده من أمته على طريقته في أمر الجهاد وغيره. فصحح الله هذا المفهوم الصادر عن قلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم، مبينا أن الحسنة والسيئة من عند الله، وأن الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البر والفاجر، والمؤمن والكافر،
وهو ولي المؤمنين، يمتحنهم تارة ويديل عليهم، ويمتحنهم تارة بنصرهم، والفعل فعله. وبعد أن صحح الله هذا التصور الكفري لهذا الموضوع المرتبط ارتباطا كاملا بموضوع الجهاد. إذ الجهاد قد يرافقه نصر، وقد يرافقه غير ذلك، وعلى المؤمنين في الحالين التسليم لله لا إلقاء اللوم على قيادتهم. بعد أن بين الله ذلك لفت النظر- في الوقت نفسه- إلى أنه وإن كان كل شئ فعله- إن أصاب بالسيئة من قحط أو هزيمة فذلك عدله، وإن أصاب بالحسنة فذلك فضله، لكنه إن أصاب الإنسان بسيئة فما ذلك إلا بذنب، وإن أصاب المجموع فقد يكون بذنب بعضهم، والله هو الذي قدر. وإذا كان الأمر كذلك فقد أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبلغ شرائعه، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه. وهو شهيد على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى عباده بالبلاغ، والعمل، وكل شئ. وإذ كان الأمر كذلك فعلى الناس أن يجتهدوا ألا يذنبوا، وإذا أذنبوا، فلا يلومون إلا أنفسهم، مع معرفة أن الفعل فعل الله، وأن ذلك استحقاقهم، وأن عليهم أن يسلموا. ثم بين تعالى أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة لله، وهذا أكبر رد عليهم في دعواهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب المصائب! إذ سبب المصائب المعاصي لا الطاعات، فكيف تكون طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم سببا للمصائب، وطاعته طاعة لله! وقد رأينا أن طاعة الأمراء في ذات الله طاعة لله، ورسوله، ثم عزى الله رسوله ومن على قدمه بأنه من تولى عن الطاعة، وأعرض عنها، فالله هو الحفيظ عليه، وهو الذي يتولى أمره، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عليه من ذلك شئ، وإذ بين أن الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب الحسنات والخيرات والنصر، بين حالة من حالات المنافقين وسفهها، ودل رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يفعله معهم مقابلة لها، هذه الحالة هي أن المنافقين يتظاهرون بالطاعة، والموافقة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا خرجوا من عنده وتواروا عنه، أسروا فى أنفسهم، واتفقوا فيما بينهم على غير ذلك. وعزى الله رسوله، وهددهم بأنه يعلم بما يضمرونه، وما يخفونه، وما يتفقون عليه فيما بينهم من العصيان، وسيجزيهم على ذلك. ثم أمره أن يقابل ذلك بالإعراض عنهم، والتوكل على الله، فهما سلاحا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن على قدمه أمام عدم انضباط بعض المتظاهرين أنهم من الصف وفيه. وسبب مجئ هذه المعاني في سياق الأمر بالقتال، وفي سياق نفي أن تكون المصائب بسبب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته، واضح، فلا قتال بلا طاعة وانضباط، ولا نصر إلا بطاعة وانضباط. ثم أنكر الله- عزّ وجل- حالهم مبينا أن سبب هذا الحال هو عدم تدبر
القرآن، وفهمه، وفقهه، والإيمان به، مع أن الدليل على أنه من عند الله، قائم به، من حيث إن كل كتاب بشري لا بد أن يظهر فيه شئ من الاضطراب، والتضاد والتناقض، إما مع نفسه، وإما مع الحقيقة. وهذا الكتاب سالم من الاختلاف في معانيه وأسلوبه، وغير ذلك، وكفى ذلك دليلا على أنه من عند الله، ومن الآية وسياقها نعلم أنه لا طاعة، ولا انضباط، ولا إيمان، إلا بتدبر لهذا القرآن. وفي عصرنا نعرف أهمية الحرب النفسية، وأهمية حرب الإشاعات، وتأثيرها على نفسية الأمة، ونفسية المقاتل، وفي هذا السياق، سياق الأمر بالقتال الجزئي، أو بالقتال الشامل، بالقتال على طريقة حرب العصابات، أو بالقتال على طريقة الحرب النظامية، ينكر الله- عزّ وجل- على من يبادر بنشر خبر قبل أن يتحقق، أو قبل أن يعرف محتواه ودلالاته، ويطالب المؤمنين أن يردوا أمثال هذه القضايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى قياداتهم المؤهلة لمعرفة الأمور وحقائقها، من أجل أن يعرفوا دلالات ماله علاقة بهذه القضايا. والأمر بهذا- في الحقيقة- أمر بالثقة، وأمر بالتروي، وأمر بالتقيد بالسياسة الرسمية للدولة المسلمة، وعقب هذا التنبيه، بين الله فضله على هذه الأمة، والذي من مظاهره حفظهم من اتباع الشيطان، وفي ذلك بشارة وإشارة: بشارة بحفظ أهل الإيمان، وإشارة إلى أن السير وراء الشائعات، ونشرها، وعدم إرجاعها إلى المختصين بها اتباع للشيطان. رأينا في هذا المقطع أنه ابتدأ بتوجيه الأمر إلى المؤمنين أن ينفروا للقتال سرايا أو جيوشا، ثم صدر أمر بالقتال لمن يشتري الدنيا بالآخرة. والآن يصدر الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ولو منفردا، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم هنا، أمر لكل فرد من أمته، أنه لو نكلت الأمة كلها عن القتال، فعليه أن يقاتل هو، وأن يحرض المؤمنين على القتال، وبذلك يكون قد أسقط عن نفسه فريضة القتال، إذ بذلك يكون قد بذل جهده. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه بذلك ينكف بأس الذين كفروا عن المؤمنين، مع أن الله قادر عليهم، وهو معذبهم، ومنكل بهم، ولكن شاء- عزّ وجل- أن يبتلي الناس بعضهم ببعض، فكلف المؤمنين بقتالهم. دل ذلك على أنه لا ينكف بأس الذين كفروا إلا بقتال. وفي هذا السياق يذكر الله- عزّ وجل- ثلاث آيات، آية في الحض على الشفاعات في الخير، والنهي عن الشفاعات في الشر، والتذكير برقابة الله، وحفظه، ومحاسبته لخلقه، والآية الثانية في رد السلام على من سلم بأحسن منه، أو بمثله، مع التذكير بمحاسبة الله عباده. والآية الثالثة في التذكير بالوحدانية، وباليوم الآخر ومجيئه، وأنه
لا شك فيه، وكيف يكون شك وأصدق الصادقين الله هو الذي حدثنا عنه!!! فما صلة هذه المعاني بالسياق؟ إن الصلة بين هذه المواضيع والقتال واضحة، فالقتال يترتب عليه أسر للمسلمين، أو سجن لهم، أو اضطهاد لهم، وفي هذه الحالات قد يشفع ناس بالخير، وقد يحرض ناس على المسلمين- المبتلين- بشر، ومن ثم جاءت الآية في هذا السياق للندب إلى الشفاعة بخير. وفي عملية القتال، قد تظهر بادرة أخلاقية عند الكافرين فعلينا أن نقابلها بمثلها، أو أحسن منها، أو قد تظهر رغبة في السلام من أعداء الله، فعلينا أن نقابل هذه المبادرة بمثلها، مع ملاحظة شروط السلام كما هي في الإسلام، لا كما هي في اصطلاحات العالم كما سنرى ذلك، والتذكير بالله واليوم الآخر في هذا السياق واضح الصلة، فلا قتال في سبيل الله إذا لم يرافق ذلك إيمان بالله واليوم الآخر. وبعد الآيات الثلاث يعود السياق إلى الموضوع الرئيسي. فالقتال يقتضي صفا موحدا، وموقفا موحدا، ومن ثم تأتي الآيات في السياق تنكر على المؤمنين انقسامهم في أمر المنافقين إلى قسمين: قسم يريد قتلهم، وقسم يرى مسالمتهم بعد أن أظهر الله ضلالهم، من خلال مواقفهم، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول صلى الله عليه وسلم. واتباعهم الباطل، ورغبتهم في تكفير المسلمين. فكيف يصح أن يكون منهم موقف لين؟ وإذا كان سبب الموقف اللين هو الرغبة في هدايتهم، فهذا في غير محله بعد أن تبين أن الله يريد إضلالهم، وإذ تتحدد هذه المعاني، فلا مجال بعد ذلك لأن ينقسم المسلمون في أمرهم قسمين، بل ينبغي أن يكون الموقف واحدا، وهو ترك توليهم، ثم قتلهم حيث كانوا- وهذا متوقف على شرط، وعدم اتخاذ ولي منهم أو نصير. ثم استثنى الله- عزّ وجل- من الأمر بالقتل والقتال، ناسا لجئوا وتحيزوا إلى قوم بيننا وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة، فعندئذ يأخذون حكمهم، كما استثنى ناسا رغبوا في مهادنة المسلمين، وقلوبهم لا ترغب في قتال المسلمين، ولا في قتال قومهم مع المسلمين، فدخلوا مع المسلمين في عهد أن يكونوا على الحياد، وقبل المسلمون منهم ذلك، فإن الله- عزّ وجل- أجاز لنا عدم قتلهم وقتالهم، وذلك من لطفه تعالى بنا، إذ أعطانا بهذا فرصة كيلا يقاتلنا الناس جميعا، أو نضطر لقتال الناس جميعا. ومن ثم أمرنا الله ألا نقاتل هؤلاء ما داموا مسالمين، ملتزمين بما التزموا به. وهذه الآيات والتي بعدها مباشرة قد لا تفهم فهما جيدا إلا بعد استعراض المعنى الحرفي. وذلك أن الكلام عن المنافقين مختلط بالكلام عن الكافرين في موضوع الأمر بالقتل والقتال، وما يستثنى من ذلك، وما لا يستثنى. وتطبيقات ذلك على عصرنا، كل ذلك نرجو أن يتضح أثناء
المعنى الحرفي
التفسير الحرفي، والفوائد التي نلحقها به. ولنعد إلى السياق، فبعد أن استثنى الله ناسا من الأمر بالقتل والقتال، يذكر الله ناسا يأمر بقتلهم وقتالهم، يشبهون المستثنين في الصورة ويختلفون عنهم في الحقيقة والنية، هؤلاء الذين يأمر الله بقتلهم وقتالهم قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار بالباطن، ومتى وضعوا في أدنى وضع من الفتنة عن الإسلام، دخلوا فى الكفر والشرك وانهمكوا به، وأظهروا إخلاصهم له، بل أصبحوا في صف الكفر إيذاء وقتالا للمسلمين، هؤلاء أمر الله في شأنهم إذا لم يعتزلوا قتال المسلمين، ويعلنوا الإسلام، ويكفوا أيديهم عن إيذاء المسلمين، أن يقتلوا، ولأن هذا الموضوع قد يتحرج منه بعض الناس ختم الله الآية بقوله وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي: بينا واضحا. وبعد أن أمر الله هذه الأمة بالقتل والقتال حذر هذه الأمة أن تستجرها جرأتها على قتل أعدائها إلى أن تتجرأ على أن يقتل بعضها بعضا، وكان التحذير شديدا، فقد بين الله- عزّ وجل- في الآيات الأخيرة من هذا المقطع، أنه ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، وإذ كان هذا النهي جازما، والمؤمن في الأصل لا يخالفه، بين تعالى أنه تتصور حالة واحدة من الحالات، يمكن أن يقتل مؤمن مؤمنا، وهي حالة الخطأ. ثم بين أنه في حالة تلبس المؤمن بالقتل الخطأ فماذا يفعل؟ يختلف الحكم بين ما إذا كان هذا المؤمن المقتول خطا من قوم كافرين، بيننا وبينهم ميثاق، أو كان من قوم كافرين ليس بيننا وبينهم ميثاق، فإن كان مؤمنا من قوم بيننا وبينهم ميثاق، فعلى القاتل الدية والكفارة، وإلا فالكفارة دون دية، والكفارة إما عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، تلك توبة القاتل خطا. أما الذي يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه الخلود في نار جهنم، واستحقاق غضب الله، ولعنته وعذابه الأليم الشديد، ثم يأتي مقطع جديد مرتبط بالمقطع السابق بشكل عام، وبدايته مرتبطة بما قبلها مباشرة وسنرى ذلك. المعنى الحرفي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر والحذر واحد، والحذر التحرز، وأخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه، ويعصم بها روحه، والمعنى: كونوا دائما حذرين، متحرزين، متيقظين من عدوكم وعلى عدوكم. فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً الثبات: واحدها ثبة، وهي الجماعة،
[سورة النساء (4): آية 72]
وكلمة جميعا هنا حال، والمراد مجتمعين، فالأمر الثاني بالنفير العام، والنفر: الخروج للعدو. والمعني: فاخرجوا إلى قتال العدو، جماعات متفرقة سرية بعد سرية، وجماعة بعد جماعة، عصابة بعد عصابة أو اخرجوا مجتمعين، فهو أمر بالقتال، إما بالخروج المجزأ، وإما بالنفير العام، حسب مقتضيات الأحوال. ويدخل في الأمر بالقتال ثُباتٍ القتال على طريقة حرب العصابات، حتى إن ابن كثير فسر ثبات فقال: أي عصبا. ففي الآية أمران، أمر بالحذر، وأمر بالقتال، والأمر بالقتال على حسب مقتضيات الأحوال. والمهم ألا يترك المسلمون القتال في سبيل الله على قدر ما يلزم، وبحسب ما يمكن. وسنرى في هذا المقطع أن بأس الكافرين لا ينكف عنا إلا بالقتال، ولو بقتال فردي، فما أكثر غفلة المسلمين حين تركوا القتال حتى تغلب الكافرون على أرضهم، وسيطر المرتدون على بلادهم، فذلوا ببلادهم لعدوهم، وطمع بهم كل طامع. وإذا لم يعودوا إلى دينهم بإحياء فريضة القتال على قدر المستطاع، فلن تكون كلمة الله هي العليا لا في أقطارهم، ولا في العالم، وهذا الذي ورد في الحديث «إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم جهادكم، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». فكأن ميزان الرجوع إلى الإسلام هو الجهاد وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، أي: وإن منكم أيها المسلمين لمن أقسم جازما ليتثاقلن، وليتخلفن عن الجهاد، وقد عرفنا القسم من وجود اللام في قوله تعالى: لَيُبَطِّئَنَّ، وقوله تعالى مِنْكُمْ. أي: من المسلمين، أي في الظاهر دون الباطن وهم المنافقون، ويحتمل أن يكون من المسلمين أنفسهم، ولكن ممن اختلت تصوراتهم، وكثر جهلهم، وفسد تقديرهم للأمور، ونظروا للأمور كلها من خلال مصلحتهم الذاتية، ومنفعتهم الخاصة. ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول- قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويثبط الناس عن الخروج فيه، وهذا قول ابن جريج، وابن جرير، وقد يفعل هذا الذي يفعله المنافقون كثير من بسطاء المسلمين ممن لا يصدرون في أحكامهم عن شرع، أو فتوى، وإنما يصدرون أحكامهم بناء على ما يتصورونه مصلحة لأنفسهم، أو لناس من المسلمين، وهم بهذا يقتلون أنفسهم، ويقتلون المسلمين، وهم وإن لم يكونوا منافقين نفاق عقيدة، فإن عملهم هذا يستحقون به دخول النار، لجرأتهم على تعطيل فريضة الله، وعلى الفتوى بغير علم. والذي قلناه في كون من لا يتصف بنفاق العقيدة قد يقف نفس الموقف، بناء على أن كثيرين من الناس
[سورة النساء (4): آية 73]
قد يصابون بأمراض المنافقين أو الكافرين ويتخلقون بأخلاقهم، وإن لم يكن ثمة كفر أو نفاق، ولكنه الفسوق والمرض والانحراف فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل أو هزيمة أو كارثة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. أي: قال هذا المبطئ قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع المسلمين الذين شهدوا القتال حاضرا، فيصيبني مثل ما أصابهم، يعد عدم حضوره مع المسلمين وقعة القتال، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. أي: من فتح أو نصر أو غنيمة لَيَقُولَنَّ. أي: هذا المبطئ متلهفا على ما فاته من الغنيمة، لا طلبا للمثوبة كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. أي: كأنه لم يتقدم له معكم مودة، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. قال ابن كثير في تفسيرها: كأنه ليس من أهل دينكم. يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. أي: يا ليتني كنت معهم فآخذ من الغنيمة حظا وافرا، فهذا أكبر قصده وغاية مراده، أن يضرب له بسهم مما ينال المسلمون من خير. هذا هو منطق هؤلاء، وتصورهم، ينظرون إلى الأمور من خلال مصلحتهم ومنفعتهم لا من خلال أداء ما أوجب الله عليهم، ويقيسون الأمور بمقياس الربح والخسارة الدنيويين لا بمقياس طاعة الله، ومعرفتهم بالله قاصرة، إذ يتصورون أن تخلفهم عن الواجب مع نجاتهم من المصائب دليل رضى الله. وإذا أصاب المسلمين مصيبة وهم يقومون بواجبهم يعتبرون ذلك علامة خطأ ابتداء وانتهاء ناسين أن المسلمين الذين يصابون، على فرض أنهم أصيبوا نتيجة خطأ، فإن إصابتهم تكفر عنهم سيئاتهم، وفي قيامهم بالواجب أسقطوا فرض الله عنهم، وهؤلاء المثبطون والمتباطئون لم يفعلوا هذا وهذا. وإذ بين الله- عزّ وجل- حقيقة هذه النوعية من الناس الذي موقفها ترك القتال، والتثبيط عنه، يصدر الله- عزّ وجل- أمره التالي: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ يحتمل النص معنيين على حسب ما تفسر به كلمة الشراء، لأنها من كلمات الأضداد في اللغة العربية، تطلق على البيع والشراء بآن واحد، ويحدد ذلك السياق. فعلى أن المعنى المراد بها البيع يكون المعنى: فليقاتل المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة، ويستبدلونها بها. فليقاتل هؤلاء في سبيل الله فلئن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال، فليقاتل الثابتون المخلصون. وأما معنى النص على أن المراد الشراء فيكون: فليقاتل هؤلاء
[سورة النساء (4): آية 75]
المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة. فعلى هذا فإن النص يكون وعظا لمن ذكروا في الآية السابقة من أجل أن يغيروا ما بهم من النفاق، ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ويجاهدون في سبيل الله حق جهاده، فذلك هو الدواء لنفاقهم، والأول أقوى. ثم يبين الله- عزّ وجل- ما أعد لمن قاتل في سبيله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. أي: كل من قاتل في سبيل الله، سواء قتل أو غلب، فله عند الله مثوبة عظيمة، وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين: «وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة». قال النسفي: وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافرا، أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: وأي شئ لكم تاركين القتال، وقد ظهرت دواعيه، وهذا الاستفهام فيه معنى التنبيه على الاستبطاء إن قاتلنا، والإنكار إن لم نقاتل. ثم قال: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ. إذا اعتبرنا أن الواو في قوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ للعطف، يكون المعنى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وفي خلاص الْمُسْتَضْعَفِينَ .... وإذا اعتبرناها للاستئناف كان المعنى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين من المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه، ولكل عصر مستضعفوه، وما أكثر المستضعفين في عصرنا، وما أقل قتالنا. والمستضعفون ساعة نزول الآية هم الذين أسلموا بمكة، وصدهم المشركون عن الهجرة، فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين، يلقون من المشركين الأذى الشديد، وذكر الولدان تسجيل لإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، وفي عصرنا يفتن صغار المسلمين عن دينهم في مدارسهم، وفي غير ذلك بألوف الوسائل، فهل يعقل المسلمون، ويقاتلون لإسقاط الأنظمة الكافرة بالطرق التي تمكنهم منها وسائل عصرنا؟. ثم وصف الله حال هؤلاء المستضعفين الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها القرية الظالم أهلها يوم نزول الآية هي مكة، والوصف يصدق على كل حالة مشابهة. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على أعدائنا، فهم يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، أقول: إذا توجه مثل هذا الخطاب وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ من أجل المستضعفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم ما هم؟ في القيام بأمر الله، فماذا يقال لجيلنا الذي
[سورة النساء (4): آية 76]
ترك القتال فذل المسلمون في كل مكان. فهل من قتال لإنقاذ المستضعفين من جديد ثم ذكر الله- عزّ وجل- الفارق بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. أي: المؤمنون يقاتلون طاعة لله تعالى، وفي الطريق التي شرعها، والكافرون يقاتلون طاعة للشيطان، وفي طريقه المعوجة التي يضل بها. وكل قتال غير قتال المسلمين هذا شأنه، وهذا ترغيب للمؤمنين في القتال، لأنه ما دام في سبيل الله فالله وليهم وناصرهم. ثم هيج الله المؤمنين على قتال أعدائه فقال فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. أي: أنصاره وهم الكفار بأصنافهم ومنهم المرتدون. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ. أي: وساوسه، والكيد: هو السعي في فساد الحال، على جهة الاحتيال. كانَ ضَعِيفاً لأنه غرور لا يؤول إلى محصول، ولأن كيده في مقابلة نصر الله ضعيف .. وفي هذا تجريء للمسلمين على القتال، إذ ما دام الشيطان هو ولي الكافرين، وهذا شأن كيده، وما دام الله هو ولي المؤمنين، وتعالى شأنه، فكيف لا يجرؤ المؤمنون على الكافرين. وفي كل زمان يوجد من يخشى القتال، حتى من المؤمنين، وفي جيلنا يوجد من يتصور أن الإسلام مجرد صلاة وزكاة، أما أن يكون الإسلام قتالا فلا، وفي جيلنا يوجد من يتصور أن التقوى في الصلاة والزكاة، وكلها تصورات فاسدة، يطهر الله عباده المسلمين المتقين منها بالآيات التالية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ كان ذلك في ابتداء الإسلام إذ كان المسلمون مأمورين بالصلاة ومواساة المحتاج منهم، والعفو والصفح وترك القتال، وكانوا وهم في مكة يتمنون أن يؤذن لهم بالقتال. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ. أي: فرض عليهم وأمروا به، وذلك بعد إذ كانوا في المدينة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. أي: يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه، لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفورا عن المخاطرة بالأرواح، وخوفا من الموت. كانوا يودون القتال، فلما أمروا به جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: هذه خشية طبع، لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقادا، فالمرء مجبول على كراهة ما فيه خوف هلاكه غالبا. دلت الآية على أن هناك ناسا خشية الله عندهم لا يعدلها شئ بدليل تشبيه خشية هؤلاء من الناس بخشية من يخشى الله. ومن المعلوم أن المشبه به أقوى من المشبه، فالآية تعني أن هذا الفريق الذي خشي الناس إذ أمر بالقتال قد خشي الناس مثل أهل خشية الله، أي
[سورة النساء (4): آية 78]
مشبهين لأهل خشية الله. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. أي: أو أشد خشية من أهل خشية الله. وأو في الآية للتخيير، أي إن قلت خشيتهم الناس كخشية الله، فأنت مصيب، وإن قلت إنها أشد فأنت مصيب، لأنه حصل مثلها وزيادة. ولا يعني هذا أن خشية الله عند أهلها ليست على كمالها حتى يكون عليها مزيد، بل إن خشية الله عند أهلها يرافقها معرفة بجمال الله وفضله، ولذلك فإن الخشية يرافقها عادة رجاء، أما هؤلاء فإن خشيتهم من الناس أعمت قلوبهم حتى لم يبق معها محل لغيرها، ولذلك زادت على خشية الله. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ. سألوا عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم، لا اعتراضا لحكمه بدليل أنهم أجيبوا على سؤالهم بما يأتي. وبدليل أنهم اقترحوا أن يؤخر فرضه عليهم إلى مدة أخرى. لقد طلبوا التأجيل ولو إلى أمد قريب، رغبة في الحياة، وتجنبا لسفك الدماء، ويتم الأولاد وتئيم النساء. وهي حالة مرضية، عالجها الله تعالى، بلفت النظر إلى حقيقة الحياة الدنيا، وإلى حقيقة الموت. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى. أي: متاع الدنيا قليل زائل. ومتاع الآخرة دائم، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل. فكيف بالقليل الزائل. وقيد كون الآخرة خيرا للمتقين لأنهم هم الذين في حقهم الآخرة خير من الدنيا أما الكافرون، فإن الآخرة شر لهم من الأولى. وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. هذا النص في سياقه يعني: أنكم لا تنقصون أدنى شئ من أجوركم على مشاق القتل، فلا ترغبوا عنه. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. أي: أنتم صائرون إلى الموت. والموت واصل إليكم. والحذر لا ينجي من القدر. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. أي: الموت يصل إليكم، ولو كنتم في حصون أو قصور حصينة، منيعة، عالية، رفيعة. وبهاتين القضيتين، تعالج كراهية القتال، وحب الحياة: معرفة حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة. ومعرفة أن الموت لا يتقدم، ولا يتأخر. ثم ذكر الله- عزّ وجل- مرضا آخر، وقع فيه هؤلاء الطالبون لتأخير فريضة القتال وهو مرض يصيب الكثيرين خاصة في حالات الصراع مع أهل الكفر عند ما يصاب أهل الإيمان، وكل من المرضين يمكن أن يصاب به المسلمون في كل زمان ومكان. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ. أي: نعمة من خصب ورخاء. يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وهي كذلك. ولا اعتراض على هذا. ولكن الاعتراض على ما بعده. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ. أي: بلية من قحط
[سورة النساء (4): آية 79]
وشدة. يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي: أضافوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الآية، وفي كل عصر يمكن أن ينسبها أمثالهم إلى وراثه صلى الله عليه وسلم والمعنى أن هؤلاء يعتبرون ما هم فيه من خير من الله، وهذا صحيح. وما يصيبهم من شدة، يعتبرون ذلك شؤما سببه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أي: كل ذلك من عند الله. فهو يبسط الأرزاق، ويقبضها. وكل شئ فعله. ثم أنكر الله- عزّ وجل- عليهم اعتقادهم هذا بقوله: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. أي: لا يكادون يفهمون حديثا، فيعلمون أن الله هو الباسط، القابض. وكل ذلك صادر عن حكمه. ثم بين الله- عزّ وجل- تفصيل هذا الموضوع، بما يجمع ما بين معرفة الواقع: أن كل شئ صادر عن الله وبفعله، وأن لنزول المصائب التي ينزلها بعباده أسبابا مع أن الكل فعله. ولكن فعله لا يكون إلا مقرونا بالحكمة. فقال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ. أي: من نعمة، وإحسان فَمِنَ اللَّهِ. تفضلا منه، وامتنانا. إذ لا أحد له عليه شئ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ. أي: من بلية ومصيبة، فَمِنْ نَفْسِكَ. أي: فمن عندك أي: فبما كسبت يداك أيها الإنسان. ومن هنا عرفنا خطأ أولئك. فبدلا من أن يرجعوا إلى الله رجوعا عاما، عن معاصيهم، ليرفع الله عنهم بأسه، أرجعوا سبب المصائب إلى وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم وهو الرحمة. ولذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا: فأنت رحمة، وأنت معصوم، وأنت مبلغ، وعليهم أن يتركوا ما هم عليه مما يخالف رسالتك، لينالوا بر الله، وفضله، لا أن يعصوك، ثم يحملوك مسئولية ما ينزل عليهم. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. أي: على أنه أرسلك وهو شهيد أيضا، بينك، وبينهم. وعالم بما يكلفهم إياه. وبما يردون عليك من الحق؛ كفرا، وعنادا. وما أقل الفاهمين عن الله. وما أكثر المتقولين على الله. ولعلنا لا نحتاج إلى أي إيضاح إضافي حول ارتباط هذا المعنى الأخير بسياق مقطع القتال هذا. إذ من يقود المسلمين في صراعهم، وقتالهم، كثيرا ما ينسب إليه الذين في قلوبهم مرض مسئولية ما يصيبهم. وقد لا يكون هو السبب، وقد يكون أحيانا. ونحن نتكلم عن من يقود المسلمين قيادة راشدة، كوارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا السياق- سياق القتال- يأتي الآن حديث عن الطاعة. ونحن نعلم أن كل من كتب في فن الحرب، من كافر، أو مسلم يجمع على أن أي جيش في العالم، لا يستطيع أن يربح معركة، ولا تستطيع أمة أن تربح في أي مجال من مجالات الحياة، إلا
[سورة النساء (4): آية 80]
بانضباط، وطاعة. ونحن المسلمين مكلفون بالطاعة بشرط أن تكون الطاعة مبصرة، ولأهلها. ومن ثم تأتي الآيات الثلاث القادمة مقررة ومعالجة ومبينة. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ... : وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله، ومن أدرك هذه الحقيقة، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم منتهى الطاعة، وكان في غاية الانضباط، وهذا ما كان، وهذا مظهر من مظاهر المعجزة التي خلقها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم في أمة العرب، وقد أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الطاعة التي تعني طاعة الله في النهاية، طاعة الأمراء كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني، فقد عصى الله. ومن أطاع الأمير، فقد أطاعني. ومن عصى الأمير وهناك- رواية يقول: ومن عصى أميري- فقد عصاني». والملاحظ في هذا الحديث على إحدى رواياته، أنه أطلق لفظ الأمير. والمراد به الأمير المسلم، المؤمر بالحق والسائر بالحق والقائم بالحق، وأول من يدخل في ذلك، أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمراء الخلافة الراشدة. وَمَنْ تَوَلَّى. أي: ومن أعرض عن الطاعة: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. أي: فما أرسلناك عليهم تحفظ أعمالهم؛ وتحاسبهم عليها وتعاقبهم. بل أمر ذلك إلى الله، وفي ذلك تهديد لمن أعرض عن الطاعة. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين من كونهم يظهرون الموافقة والطاعة. ويبيتون الخلاف، والعصيان. وَيَقُولُونَ طاعَةٌ. أي: ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء: أمرنا وشأننا طاعة. فَإِذا بَرَزُوا. أي: خرجوا. مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ. بيت: بمعنى: زور وسوى من البيتوتة، لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل. والمعنى: زور طائفة منهم في أنفسهم خلاف ما قلت وما أمرت به، أو خلاف ما قالت، وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ. أي: والله يثبت ما بيتوه في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: فتول عنهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم، فإن الله يكفيك مضرتهم، وينتقم لك منهم، ويتولى أمرهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا كافيا لمن توكل عليه. أمره في مقابل عملهم أن يجمع بين التوكل عليه، والإعراض عنهم، ثم بين علة مرضهم، وهو عدم التدبر لكتاب الله. وهذا يعني أنه بقدر ما تربى الأمة على التدبر لكتاب الله، ينمو الانضباط الصحيح، والطاعة المبصرة. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. أي: أفلا يتأملون معانيه ومبانيه. والتدبر: التأمل والنظر في أدبار الأمر
فائدة
وما يؤول إليه في عاقبته. ثم استعمل في كل تأمل. والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل ثم قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعم الكفرة لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. أي: لوجدوا فيه تناقضا كبيرا في معانيه، بينما نجد معانيه يكمل بعضها بعضا في التوحيد، والتحليل والتحريم، والتربية والإخبار. أو المعنى: لوجدوا فيه تفاوتا من حيث البلاغة، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، أو لوجدوا فيه تفاوتا كثيرا من حيث المعاني، فكان بعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، أو هذا كله. وفي كتابنا- الرسول صلى الله عليه وسلم- في بحث المعجزة القرآنية ذكرنا شيئا عن هذا، فليراجع. فائدة: استدل علماؤنا بهذه الآية فردوا على بعض الطوائف التي تقول: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام، واستدلوا بها على صحة القياس. أما هي في سياقها فإنها تشير إلى مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن الذي يقطع شك الشاكين، ويزيل تردد المترددين في أمر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا من قبل أن تدبر القرآن هو الطريق لتربية الأمة الإسلامية على الطاعة والانضباط. ثم ذكر الله- عزّ وجل- قضية أخرى مهمة في موضوع الحرب والقتال، لها علاقة بحرب الإشاعات، والحرب النفسية، تحدث عنها، ووضع علاجها. فالله- عزّ وجل- يريد من هذه الأمة أن تكون لديها مناعة ضد الحرب النفسية وضد حرب الإشاعات وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. الإذاعة: الإفشاء والنشر، والأمن: السلامة والسلم، والخوف: الخلل، أو الخطر، أو الهزيمة، أو الإصابة. والمراد أن هناك ناسا إذا بلغهم الخبر عن سرايا المسلمين وجيوشهم، كانوا يشيعونه ويذيعونه، فيترتب على ذلك خلل في المجتمع الإسلامي، ولذلك فقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على التثبت، ففي الصحيحين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال» أي الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر، وفي الصحيح: «من حدث بحديث، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»، وفي سنن أبي داود «بئس مطية الرجل زعموا». وهاهنا في الآية، بعد أن أنكر الله- عزّ وجل- على من يروج الإشاعات في المجتمع
الإسلامي، بين الطريق العملي، والموقف الصحيح من هذه الإشاعات، فقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ. أي: ولو ردوا الخبر أو الإشاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكبار أصحابه البصراء في الأمور في زمانه، أو لو ردوه إلى خلفائه، وأمراء المسلمين من بعده لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. أي: لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستخرجون تدبيره، وما ينبغي فعله ممن عندهم قدرة على ذلك بفطنتهم، وتجاربهم، ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. دلت الآية على أن هناك أناسا عندهم قدرة على الاستنباط للحلول والأحكام لما يجد أو يحدث، أو يقع. وقد فسرنا الآية بما مر، وهو أحد اتجاهين في تفسيرها، فعلى هذا الاتجاه الذي ذكرناه، هي في الإشاعات التي تصل إلى المجتمع الإسلامي بشكل من الأشكال، مما يخدم مصلحة العدو، وعلاج ذلك هو ترك أمر معالجة هذه الإشاعات إلى أمراء المسلمين، وإهمال الإشاعة، وعدم التحدث عنها، وفي ذلك إماتتها. وفي قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إشارة إلى أن إبلاغ الإشاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أولي الأمر لا مانع منه، ولكن إشاعة الأمر وتداوله هو الخطأ. وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية وهو كذلك قضية ينبغي أن تلاحقها الجماعة المسلمة، هذا الاتجاه هو: أن بعضهم كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر، فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعة الخبر الفاسد بالشر، ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم، وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا، لأعطوا الذين يدبرون الأمور ويديرونها، ويخططون لها، فرصة الإدارة الصالحة، فيعرفون ما يأتون وما يذرون. وهذا اتجاه في التفسير ينبغي أن يلاحظ تطبيقه. والنبط: هو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، واستنباطه استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يفعل. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- هذه القضية المهمة في شأن القتال، ذكر أن الاستعداد النفسي عند الإنسان يوصله لاتباع الشيطان في هذه القضايا وغيرها، لولا أن الله قضت حكمته أن يتدارك المسلمين بفضله، ويتولاهم، وفي ذلك إشارة إلى أن نشر الإشاعات من الشيطان، وفي ذلك إشارة إلى ضرورة الشعور بفضل الله ورحمته، والتوكل عليه، لأنه مولى المؤمنين، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتزكيته لكم وَرَحْمَتُهُ بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنزال كتابه، وحفظه لكم، لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يوسوس إِلَّا قَلِيلًا. أي: إلا قليلا منكم، وهم من صفت فطرتهم، بما فطرهم الله عليه من كمال عقل. وقال ابن
[سورة النساء (4): آية 84]
عباس في تفسيرها: لاتبعتم الشيطان كلكم، لأن القليل في اللغة يطلق على العدم. فائدة: في الحديث المتفق عليه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه أطلقت نساءك؟ فقال: لا. فقلت: الله أكبر. وذكر الحديث بطوله. وعن مسلم: فقلت أطلقتهن؟ فقال: لا. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ... فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. نفهم من هذا أن الاستنباط، ورد الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر ليس خاصا في قضايا القتال التي فهمناها من خلال السياق. وإذا لاحظنا أن أولي الأمر في المقطع السابق فسرت بالعلماء على أحد أوجه التفسير ندرك وجاهة من يدخل في هذه الآية قضية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام لما يجد، وقضية المجتهدين الذين أهلتهم ملكاتهم وعلمهم وتقواهم لاستنباط الأحكام. وبعد أن أمر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع أمرا عاما للمؤمنين جميعا أن يقاتلوا على طريقة حرب العصابات، أو على طريقة الحرب النظامية، أو على حسب مقتضيات الجهاد، وعاب على المتباطئين والمثبطين، وعالج مرض الراغبين في تأخير القتال، وربى المسلمين على الطاعة والصمت، والكتمان، يصدر الآن أمرا لكل فرد على حدة من خلال الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل، وأن يحرض المسلمين على القتال، مبينا أن بأس الكافرين لا ينكف إلا بذلك، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ. أي: لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود. والمعنى: وإن أفردوك وتركوك وحدك، فقاتل. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ. أي: حضهم على القتال ورغبهم فيه، وشجعهم عليه عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: عسى الله بتحريضك على القتال، وقتالك، أن يكف بطش الذين كفروا وشدتهم، وعسى كلمة مطمعة، غير أن إطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الكافرين وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي: وأشد تعذيبا، يفهم من ذلك: أن بأس الكافرين شديد، وتنكيلهم بالمؤمنين شديد، ولكن بأس الله وتنكيله أشد. وقد دلت الآية أن بأس الكافرين الشديد، وتنكيلهم الشديد بالمؤمنين،
فوائد
لا ينكفان إلا بقتال، وتحريض على القتال بالخطب والمحاضرات وبالنشرات والرسائل، والكتب، ليرتفع عن المؤمنين بأس الكافرين وتنكيلهم. فوائد: 1 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء ابن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؟ قال: قد قال الله لنبيه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ رواه الإمام أحمد بنفس المعنى مع زيادة، وإنما ذكرنا هذه الفائدة ليعلم أن الصحابة فهموا أن هذا الأمر للأمة كلها لا لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. 2 - من أمثلة تحريضه عليه الصلاة والسلام للمؤمنين على القتال، قوله عليه الصلاة والسلام يوم بدر: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ومن ذلك ما رواه البخاري في التحريض على الجهاد المندوب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها» - هذا حيث لا تكون الهجرة واجبة- قالوا: يا رسول الله: أفلا نبشر الناس بذلك فقال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة. وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة». أقول: هذا في الجهاد المندوب، أما إذا كان الجهاد فرضا فجزاء تاركه النار إلا أن يشاء الله- عزّ وجل- والآن تأتي ثلاث آيات في مقطع القتال هذا، لا علاقة لها في الظاهر بموضوع القتال، ثم تأتي آيات لها علاقة بالقتال، فما الحكمة في مجئ هذه الآيات ضمن هذا السياق؟ كنا ذكرنا أكثر من مرة أن من مظاهر حكمة الله في القرآن، ومن مظاهر الإعجاز، أنك تفهم من النص شيئا، ومن سياقه القريب شيئا، ومن سياقه العام شيئا، وأن هذا كله يكمل بعضه بعضا، وهذا يسبب توالدا في المعاني القرآنية فلا تتناهى، فالآيات الثلاث هنا مرتبطة بمعاني القتال كما سنرى، وهي تعطي معاني مقصودة بذاتها مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً الشفاعة الحسنة هي: ما كانت في دفع شر، أو جلب نفع مع جوازها شرعا يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها. أي: من ثوابها، والمعنى: أن من يسعى في أمر فيترتب
[سورة النساء (4): آية 86]
عليه خير كان له نصيب من ذلك الخير، وقد ثبت في الصحيح عنه (عليه الصلاة السلام) أنه قال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء». قال مجاهد ابن حبير: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً. الشفاعة السيئة: ما كانت في جلب ضر، أو دفع نفع، أو كانت غير جائزة شرعا. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها. أي: يكن عليه نصيب من إثمها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً. أي: مقتدرا من أقات على الشئ: اقتدر عليه، أو حفيظا من القوت، لأنه يمسك النفس، والحفيظ: شهيد وحسيب. فما محل هذه الآية في السياق؟ قال النسفي: قال ابن عباس- أي في هذه الآية- ما لها مفسر غيري. معناه: من أمر بالتوحيد وقاتل أهل الكفر «أي: فقد شفع شفاعة حسنة». وإنما نقلنا كلام ابن عباس هذا ليعلم أن من المفسرين من فهم هذه الآية على ضوء السياق. وعلى هذا فإن ابن عباس يفهم أن الشفاعة الحسنة هي القتال في سبيل الله، وذلك لأنها وحدها تنقذ المستضعفين وأمثالهم. وأن الشفاعة السيئة هي القتال في سبيل الشيطان؛ لما يترتب عليه من ظلم لأهل الإيمان. ويمكن أن نفهم الصلة بين هذه الآية وما قبلها من حيث إن القتال يترتب عليه أسر، أو سجن، أو مصائب لأهل الإيمان، أو لأهليهم، فجاءت الآية تحض من يستطيع الشفاعة أن يشفع. وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. أي: إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة. وفسرت التحية بالسلام لأنها هي التحية في ديننا في الدنيا وفي الآخرة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً. أي: يحاسب على كل شئ من التحية وغيرها. والآن، ما الصلة بين هذه الآية وسياقها؟ يقول صاحب الظلال: لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية: السلام .. فالإسلام دين السلام وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض بمعناه الواسع الشامل، السلام الناشئ عن استقامة الفطرة على منهج الله». ومما يمكن أن يقال عن الصلة: الإسلام أمرنا أن نعامل بعضنا البعض بمكارم الأخلاق، ومن ذلك إفشاء السلام لما يترتب على ذلك من محبة. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم». ووجود المحبة داخل المجتمع الإسلامي شرط أساسي لإمكانية القتال، ومن مظاهر الصلة بين هذه
فوائد
الآية والسياق أن في الآية إشارة نأخذها من السياق وهي: أنه إذا ظهرت بادرة أخلاقية من عدونا فينبغي أن نقابلها بمثلها، أو بأحسن منها، والله أعلم. فوائد: 1 - يستثنى من عموم الآية في الرد بالمثل أو بالأحسن غير المسلم. ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه». وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليكم» نفهم من هذا أن ابتداء غير المسلم بالسلام في الأصل لا يجوز، أما الرد فيجب ولكن ب (وعليكم) فقط. قال ابن عباس: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا، ذلك بأن الله يقول: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. واستثنى الحنفية من حالة عدم الجواز في البداءة لغير المسلم في السلام، حالة ما إذا كان للمسلم حاجة، فيصح له البداءة بالسلام للذمي، (راجع الهدية العلائية ص 260). أقول: يبدو أن الأوزاعي يعتبر أن الأوامر بمنع الابتداء بالسلام للذمي والتضييق عليه في الطريق أوامر يومية يقتضيها ظرف معين، ولذلك يجيز الابتداء بالسلام للذمي. 2 - روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك، فقال الرجل: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما، أكثر مما رددت علي، فقال: إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك». قال ابن كثير: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النسفي: ويقال: لكل شئ منتهى، ومنتهى السلام، وبركاته. وروي من طرق في أكثر من كتاب من كتب الحديث «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «السلام عليكم يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس فقال: عشر، ثم جاء آخر فقال:
[سورة النساء (4): آية 87]
السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه ثم جلس، فقال: ثلاثون» رواه أبو داود والترمذي وغيره. 3 - قال صاحب الهدية العلائية من الحنفية: «ويكره السلام على الفاسق لو معلنا وإلا لا يكره، كما يكره على عاجز على الرد حقيقة كآكل، أو شرعا كمصل، وقارئ، وذاكر، وخطيب، ومن يصغي إليهم، ومكرر فقه، ومن يفصل الأحكام بين الناس حالة الدعوى، وحالة مذاكرة العلم الشرعي، ومؤذن ومقيم، ومدرس، ومن جلس للصلاة والتسبيح، ومن يلبي، والأجنبيات الفتيات، وعلى من يلعب لعبا غير مباح، ومن يغتاب الناس، أو يطير الحمام، والشيخ الممازح، والكذاب، واللاغي، ومن يسب الناس، أو ينظر وجوه الأجنبيات، ما لم نعرف توبتهم، ومن يتمتع مع أهله، ومكشوف عورة، ومن هو في حال قضاء البول، أو التغوط أو ناعس، أو نائم، أو في الحمام، فلا يجب الرد في كل محل لا يشرع فيه السلام، إلا في الفاسق فينبغي وجوب الرد عليه ولا يجب رد سلام الطفل أو السكران، أو المجنون، ولا في قوله «سلام عليكم» «بسكون الميم في سلام». وقوله سلام الله عليكم دعاء لا تحية ... يكره إعطاء سائل المسجد إذا تخطى رقاب الناس، أو مر بين يدي المصلين لأنه إعانة على أذى الناس وإلا لا يكره ... وإن سلم ثانيا في مجلس واحد لا يجب رد الثاني، وقال الحنفية: وينوي بالسلام تجديد عهد الإسلام وأن لا ينال المؤمن بأذى في عرضه وماله. وتتمة أحكام السلام نعرضها في كتابنا- الأساس في السنة وفقهها- ولنرجع إلى السياق: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فله الألوهية وحده. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ هذا قسم منه سبحانه أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله، وأن هذا الجمع لا ريب فيه، ولا شك. وسمي يوم القيامة بذلك، لقيام الناس فيه من قبورهم، أو لقيام الناس للحساب وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً هذا استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أصدق منه في إخباره، ووعده، ووعيده، لاستحالة الكذب عليه، لأن الكذب: إخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه، وهو محال في حقه تعالى، وقد جاء هذا النفي بعد الإخبار عن وحدانيته، وبعد القسم على جمعه الناس يوم القيامة، فليلاحظ، فيا ويح من فاته التوحيد، وفاته الإيمان باليوم الآخر.
[سورة النساء (4): آية 88]
ومجئ هذه الآية في وسط المقطع الذي موضوعه القتال يذكرنا بالغاية من القتال ويحضنا ويهيجنا عليه. فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. أي: فما لكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا ظاهرا، وتفرقتم فيهم فرقتين، وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم. هذا قول النسفي. وروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، فرجع ناس، خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين. فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة». وأخرجاه في الصحيحين. فالحكم فيهم القتل والمرجع في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن شاء قتل، وإلا ترك إذا وجد مصلحة؛ معاملة لهم بظواهرهم. وإذ كان كذلك فما كان ينبغي، ولا ينبغي أن يفترق المسلمون في الموقف. ومن هذا النص، نفهم أن مواقف المسلمين ينبغي أن تكون واحدة. وكيف لا تكون، والكتاب والسنة موجودان، والشورى مقررة، والقيادة على ضوء ذلك كله تتخذ القرار الملزم. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أركس هنا بمعنى: أوقع، ورد، وأهلك، وأضل. أي: والله ردهم إلى حكم الكفار بسبب كسبهم السيئ الظاهري والباطني. فعاقبهم الله على ذلك، بردهم إلى الكفر. ومن ثم كان حكمهم جواز القتل. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ. أي: أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين من جعله الله ضالا، فأركسه، وحكم بكفره، وأجاز قتله. وذلك باللين معهم ومسايرتهم. أو المعنى: أتريدون أن تسموهم مهتدين، وقد أظهر الله ضلالهم. فيكون النص إنكارا على وصف المنافقين بالمهتدين والمؤمنين بعد إذ تبين أمرهم. وعلى المعنى الأول: فالنص إنكار على من يريد أن يلين مع المنافقين بعد إذ تبين له نفاقهم الكامل. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. أي: ومن شاء الله إضلاله، بسبب عمله، فلا طريق له إلى الهدى، ولا مخلص له إليه، ويمكن أن يفهم النص فهما آخر. وهو: أن من شاء الله إضلاله، فلن تجد له طريقا ما. بل هو خابط في كل طريق، وعلى غير هدى، فليس له سبيل واضح. ويكون هذا علامة على المنافق، فمن علاماته، تقلبه، وتناقضه. فهو اليوم على غير ما هو عليه بالأمس، وما يقوله الآن غير ما يقوله وما سيقوله. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا. أي: ود هؤلاء المنافقون، لو تكفرون، كفرا مثل كفرهم. فهم يودون الضلالة للمسلمين، ليستووا هم، وإياهم فيها. دل هذا على ما ذكرناه سابقا، أن الفئة
التي لم تر القتل هي الخاطئة المعاتبة في هذه الآيات. فَتَكُونُونَ سَواءً. أي: ودوا كفركم لتكونوا أنتم وهم مستوين في الكفر. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: فلا توالوهم حتى يؤمنوا، لأن الهجرة في ابتداء الإسلام كانت هي الإعلان العملي عن الإسلام. لأنها دخول إلى دار الإسلام وموالاة عملية لأهله. فكأن الله- عزّ وجل- نهانا أن نتخذ منهم أولياء، إلا بعد إعطائهم الولاء الكامل للإسلام، وأهله، وداره قولا، وعملا، والقضية التي تلفت النظر هنا، هي ذكر عدم التولي حتى تكون الهجرة، مع أن السياق في المنافقين، وهم يخالطون المسلمين في المدينة. والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن ذكر الهجرة في هذا المقام، أفاد شيئين، الأول: أن غير المهاجر ولو ادعى الإسلام، فإنه ما دام مكثرا لسواد الكافرين، عاملا في ظلهم، منفذا لأوامرهم، فهو منافق، ما لم يكن مستضعفا، مستكرها، وهذا حيث وجبت الهجرة وكانت مستطاعة. والثاني: أن من خالط المسلمين، وعاش في دارهم، فحكمه حكم من لم يهاجر، إذ إنه لم يعط لازم الهجرة، من الولاء والطاعة لأهل الإسلام وداره وقيادته، ولم يعاد أعداء الله ويقطع عنهم الولاء. فَإِنْ تَوَلَّوْا. أي: فإن أعرضوا عن الإيمان. وقال ابن عباس: أي: تركوا الهجرة. وقال السدي: أي: أظهروا كفرهم. والمعاني الثلاثة، متكاملة في محلها. في النص والسياق، فالمنافق هو الموالي لأهل الكفر في دارهم، أو في دارنا، المعرض عن إعطاء الولاء لله ورسوله والمؤمنين. فهذا جزاؤه القتل. فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. فههنا أمر، ونهي، في حق هؤلاء المنافقين، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، ونهي عن اتخاذهم أولياء، ونصراء. فليفهم هذا الحكم من لم يفهم حتى الآن، أن من أعطى ولاءه للكافرين، والمنافقين، جزاؤه القتل، والإعراض، والرفض. أما أن يتخذ وليا، ونصيرا، وصديقا، وبطانة، ومستودع سر، وأحيانا قائدا فكيف يكون ذلك إلا من جاهل أحمق، أخرق، أو منافق ضال خداع. وإذن فحكم المنافقين في الأصل في وجوب قتلهم حيث كانوا، كحكم المشركين في وجوب قتلهم حيث كانوا ورفض ولايتهم ونصرتهم؛ لأنها كاذبة خادعة، لا تنبع عن صدق وإيمان. وإنما قلنا بوجوب قتل المنافقين في الأصل من حيث إنه كافر مرتد فيجب قتله ولكن لأن المنافق في دار الإسلام له وضعه الخاص فلا يقتل إلا إذا أظهر نفاقه أو أمر الإمام بقتله ببينة. ويحتمل قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. أي: لا تعطوهم نصرتكم، ولا تقبلوا منهم نصرة. وبهذه الآية والتي
[سورة النساء (4): آية 90]
قبلها، بين الله- عزّ وجل- الحكم الأصلي في المنافقين، وهو القتل، وعدم إعطائهم النصرة، وعدم قبولها منهم حتى يكونوا مؤمنين حقا، علما وعملا. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- الحكم الأصلي في المنافقين، ذكر صورا تدخل تحت هذا الحكم. وصورا مستثناة من هذا الحكم. فذكر من يستثنى من هذا الحكم في الآية اللاحقة وذكر من يدخل تحت هذا الحكم في الآية التي تليها. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. هذه أول الصور المستثناة من حكم القتل. صورة من لجأ وتميز إلى قوم بينهم وبينكم مهادنة، أو عقد. فإن حكمهم، كحكمهم. كما حدث يوم الحديبية. إذ كان من جملة بنود الصلح، أن من أحب أن يدخل في صلح قريش، وعهدهم دخل ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخل. فيكون المعنى بعد فهم هذه الصورة المستثناة: فاقتلوهم، إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق. أي: إلا الذين ينتهون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يتصلون بهم. وهناك مثال يذكره النسفي من السيرة على هذا: أن هلال بن عويمر الأسلمي، وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى مكة، على ألا يعينه، ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال، والتجأ إليه، فله من الجوار مثل الذي لهلال.» والصورة الثانية من الصور المستثناة من الأمر بالقتل: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ. الحصر: الضيق، والانقباض. والمعنى: واقتلوهم إلا من كان ممسكا عن قتالكم، أو قتال قومه، بسبب ضيق نفسه عن هذا، وهذا. فهؤلاء قوم آخرون، مستثنون من الأمر بالقتال. وهم الذين تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين. ولا يستريحوا أن يقاتلوا قومهم معكم. بل هم لا لكم ولا عليكم، وضرب ابن كثير مثالا لهؤلاء فقال: وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين. فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس، ونحوه. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل العباس، وأمر بأسره. وهناك مثال آخر ينطبق على هذه الحالة. وقد ذكره ابن كثير كنموذج للحالة الأولى. ونراه لهذه الحالة. وهذا هو المثال: أخرج ابن أبي حاتم أن سراقة بن مالك المدلجي قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر، وأحد. وأسلم من حولهم. قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، بني مدلج. فأتيته، فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: صه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دعوه. ما تريد؟». قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في
[سورة النساء (4): آية 91]
الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: «اذهب معه، فافعل ما يريد». فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أسلمت قريش، أسلموا معهم ... ». ونحب أن نشير هنا إلى أن هاتين الصورتين المستثنيتين هنا، إنما تتصوران في المنافقين الموجودين خارج دار الإسلام، أو خارج دولته، والله أعلم. ولنلاحظ أن من لم يربط مصيره بمواقف المسلمين فإن النص يعامله كمنافق. ثم بين الله- عزّ وجل- المنة، والحكمة في هذا الحكم، وفي وجود هذا الصنف من الناس، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ. أي: من لطف الله بكم أن كفهم عنكم، وإلا فلو شاء الله لقوى قلوبهم، وأزال عنها الحصر، فقاتلوكم. ثم أكد الله- عزّ وجل- استثناء الأمر بقتالهم بقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ. أي: فإن لم يتعرضوا لكم بقتال. وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ. أي: وأعطوكم السلام والمسالمة. فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. أي: طريقا إلى القتال. أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. في هذه الآية ذكر الله- عزّ وجل- حالتين، استثناهما من الأمر بالقتال. وتأتي الآن آية فيها صورة داخلة في الأمر بالقتال. هي من حيث الظاهر، تشبه الصورة الأخيرة الواردة في الآية السابقة. ولكنها تختلف عنها في الحقيقة. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. هؤلاء في الظاهر كما قلنا، يشبهون المذكورين في الآية السابقة. ولكنهم في الواقع غيرهم. فإن هؤلاء قوم منافقون، يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم، وأموالهم، وذراريهم. ويصانعون الكفار في الباطن. فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم. وهم في الباطن مع الكافرين. فالأولون إذن، مخلصون في موقفهم المحايد. أما هؤلاء، فهم في الحقيقة مع الكافرين، ويتظاهرون أمام المؤمنين بغير ذلك، بدليل تتمة الآية: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها. أي: إذا ردهم قومهم إلى الافتتان عن الإسلام، بإظهار الشرك، والكفر، يفعلون، وينهمكون، ويزيدون على ذلك أن يصانعوا قومهم، فيؤذوا المسلمين، ويقاتلوهم، ويقتلوهم، قال النسفي: أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شرا فيها من كل عدو. هؤلاء أمر الله- عزّ وجل- المسلمين أن يوقفوهم عند حدهم فقال: فَإِنْ لَمْ
[سورة النساء (4): آية 92]
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. أي: حيث وجدتموهم فتمكنتم منهم، وظفرتم بهم فاقتلوهم. ألزمهم بثلاثة أشياء مجتمعة، فإن أدوها كان بها، وإلا فقد أمر بقتلهم. 1 - اعتزال قتال المسلمين 2 - إعطاء الإسلام الكامل، فالسلم هنا الإسلام، والإلقاء يفيد الإعطاء الكامل، وذلك أن هؤلاء أعلنوا الإسلام فهم مطالبون به، وإلا فهم مرتدون حكمهم حكم المرتد. 3 - كف الأيدي عن إيذاء المسلمين. فإذا لم يعطوا هذه الأشياء الثلاثة، فقد أمر الله- عزّ وجل- بقتلهم وقتالهم. وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة واضحة، إن قاتلتموهم وقتلتموهم، أو تسليطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم. والسلطان المبين، إنما كان بسبب انكشاف حالهم في الكفر والغدر والإضرار بالمسلمين. قال مجاهد في سبب نزول هذه الآية «إنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا، وهاهنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا». والسبب وإن كان خاصا، فالعبرة لعموم اللفظ، وبهذه الآية يكون السياق قد وضح حيثيات في القتل والقتال، قتال الكافرين والمنافقين. وإذ كان الأمر بالقتل والقتال هنا بمثل هذا الوضوح سواء في حق الكافرين أو المنافقين، وإذ كان أمر المنافقين ووضعهم دقيقا، فقد بدأ السياق يحذر بشدة من قتل المؤمنين، ويذكر كفارة القتل الخطأ إن حدث. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً. أي: ليس المؤمن كالكافر الذي تقدمت إباحة دمه، فلا يصح للمؤمن ولا يليق بحاله، ولا يستقيم أن يقتل مؤمنا إلا على وجه الخطأ. والمعنى: من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر، فإذا هو مسلم. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة؛ والحكمة في ذلك أنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكما. أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
[سورة النساء (4): آية 93]
الواجب الثاني هو الدية لأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم؛ ومعنى التحرير: الإعتاق، والمراد بالرقبة هنا النسمة المسترقة. ومعنى قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي: ودية مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث. قال النسفي: لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شئ، فيقضى منها الدين، وتنفذ الوصية، وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال وقد ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. أي: إن هذه الدية واجبة لورثة القتيل إلا أن يتصدقوا بالدية، فالدية واجبة في كل حال، إلا في حال التصدق بها من الورثة. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ. أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار وَهُوَ مُؤْمِنٌ. أي: والمقتول مؤمن فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. هذه هي الكفارة في هذه الحالة، وصورتها: لو أسلم إنسان في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، فقتله مسلم خطأ، تجب الكفارة بقتله، للعصمة المؤثمة وهي الإسلام، ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار لم توجد. قال ابن كثير في تفسيرها: أي إذا كان القتيل مؤمنا، ولكن أولياءه من الكفار أهل الحرب فلا دية له، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. أي: فإن كان أولياء القتيل أهل ذمة أو هدنة، فلهم دية قتيلهم المؤمن كاملة، ويجب على القاتل أيضا تحرير رقبة مؤمنة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. أي: رقبة يعتقها إما لفقره وعجزه عن التملك. أو لعدم وجود الأرقاء كما في عصرنا. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ. أي: فعليه بدل العتق صيام شهرين متتابعين، أي لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس، استأنف. واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا؟ على قولين. هذا كلام ابن كثير. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. أي: هذه توبة القاتل خطأ، إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين. واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار؟ على قولين، أحدهما: نعم وإنما لم ينص عليه هنا لأن المقام مقام تهديد وتخويف وتحذير. والمعنى: شرعه الله ذلك توبة لكم، رحمة منه وقبولا وهو العليم إذ يأمر، الحكيم إذ يقدر ويشرع. وبعد أن بين الله انتفاء القتل العمد عن المؤمن، وبين حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد حال وقوعه فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. أي قاصدا قتله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ أي: انتقم منه وطرده من رحمته. وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً
فوائد
عَظِيماً لارتكابه أمرا عظيما، وخطبا جسيما. فوائد: 1 - ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة». قال ابن كثير: ثم إذا وقع شئ من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإن ذلك إلى الإمام أو نائبه- أقول ولكن هل يأثم من قتل أمثال هؤلاء إثم القاتل؟ حتما لا، وإنما الإثم في تقدمه على الإمام حتى لا يترتب على ذلك مفسدة- أما من حيث إنه قتل مستحقا للقتل فهو مأجور إن فعل ذلك بنية صالحة. 2 - وفي سبب نزول آية القتل الخطأ قال مجاهد وغير واحد: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وهي أسماء بنت مخرمة. (وذلك أنه قتل رجلا يعذبه مع أخيه على الإسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي) - فبسبب من تعذيب ذلك الرجل لعياش وأخيه- أضمر له عياش السوء، فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه، فحمل عليه فقتله، فأنزل الله هذه الآية. 3 - وفي كفارة القتل الخطأ هل تجزئ أي رقبة صغيرة أو كبيرة، رجل أو امرأة؟. الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا، رجلا أو امرأة. 4 - وأما مقدار الدية فقد قال ابن مسعود: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة. هذا لفظ النسائي. وعند الحنفية يجزئ عن الدية عشرة آلاف درهم فضة، وتختلف قيمتها باختلاف سعر الفضة نزولا أو ارتفاعا. وفي يوم جمع هذا الكتاب كان ذلك يعدل حوالي ستة عشر ألفا من الريالات السعودية. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله. قال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة. قال ابن كثير: وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها» قال ابن
كثير: وهذا ما يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا لشبهة العمد. وفي صحيح البخاري عن الزهيري عن سالم عن أبيه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره؛ فقلت والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين» وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم، حتى ميلغة الكلب. وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال، قال النسفي من الحنفية: إن دية الذمي كدية المسلم وهو قولنا. وقد مر معنا في هذه الفائدة أكثر من اصطلاح: العاقلة، شبه العمد، فأما العاقلة: فهي عشيرة الرجل وقبيلته التي يتناصر هو وإياها، وأما شبه العمد: فهو كالعمد إلا أن الأداة فيه ليست قاتلة في الأصل. فمن قتل عامدا بسيف مثلا أو بمسدس فذلك قاتل عمد، وأما من قتل بمثل عصا أو بحجر مما لا يقتل في الأصل فهذا شبه عمد. 5 - في قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ في آية القتل الخطأ مظهرا من مظاهر الإعجاز القرآني العظيم إذ فيه ما يشير إلى دقة اللفظ القرآني بحيث يسع الزمان والمكان، وبحيث يسع تشريعه الزمان والمكان، فقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. يدخل فيه حالة عدم الاستطاعة، ويدخل فيه عدم الوجود. وفي عصرنا حيث لا يوجد رقاب ورقيق، يدرك الإنسان سعة هذه الشريعة إذ وضعت بديلا مراعاة لمثل هذه الحالة، ومثل هذا الإعجاز في النص وفي التشريع، لا يمكن أن يكون لولا أن هذا القرآن من عند الله رب العالمين. 6 - وفي موضوع القتل العمد، وتفسير الخلود في النار- الذي هدد به صاحبه- قضايا كثيرة، ضل بها من ضل، وخلاصة الحق في هذا الموضوع، أن من قتل مؤمنا قاصدا لأنه مؤمن، أو قتل مؤمنا مستحلا قتله بلا شبهة معتبرة شرعا، فهو كافر، وجزاؤه الخلود الأبدي في النار. أما من قتل مؤمنا عمدا غير مستحل، فهو مؤمن ويستحق المقام الطويل في جهنم إلا أن يعفو الله. وقد قال العلماء: إن في القتل ثلاثة حقوق: حق الله، وحق القتيل، وحق أوليائه. فحق أوليائه الدية أو القصاص، وحق الله يسقط بالتوبة إن قبلها الله، ويبقى حق القتيل يوم القيامة، فإن شاء الله أن يرضي
القتيل أرضاه عن قاتله، وإن شاء عذب القاتل بحق القتيل، وإذا أدخله الله في النار فذلك إليه- سبحانه- ولكن لا يخلد فيها أبدا، كالكافرين لقوله عليه الصلاة والسلام: «يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان» والخلود في اللغة يطلق على المكث الطويل. وفي آية القتل العمد، يدور كلام كثير، وما قلناه مدار كلام أهل الحق. وفي النقل الصحيح عن ابن عباس في هذه الآية قال: «هي آخر نزولا وما نسخها شئ» فليحذر الإنسان أن يقع في دماء المؤمنين. 7 - ومما ورد في القتل العمد: أ- في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» وفي الحديث الذي رواه أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام: «لا يزال المؤمن معنقا (أي مسرعا في سيره) صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلح» - أي انقطع من الإعياء والوهن-» وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم». وفي الحديث الآخر «لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار» وفي الحديث الآخر «من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله». ب- روى الإمام أحمد عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» وسبب عدم قبول توبة القاتل من حيث إن القتل حق القتيل، وحقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة بالإجماع. فلا بد من ردها إليهم، فإذا تعذر ذلك، فلا بد من المطالبة يوم القيامة. قال ابن كثير: لكن لا يلزم من وقوع المطالبة، وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة، ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك. ج- روى النسائي وغيره عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجئ المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة، آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، قال: ويجئ آخر متعلقا بقاتله فيقول: رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له، بؤ بإثمه، قال فيهوي فى النار سبعين خريفا».
كلمة في السياق
8 - كان ابن عباس يرى أن قاتل العمد لا تقبل توبته، وفي هذا نظر. كيف وقد ثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذى قتل مائة نفس، ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال: من يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة، وإذا كان هذا في بني إسرائيل، فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت علينا، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. 9 - ولقاتل العمد أحكام في الدنيا، وأحكام في الآخرة، فأما في الدنيا، فتسليط أولياء المقتول عليه، وهم مخيرون بين أن يقتلوا أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام؟ فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون: نعم يجب عليه، وقال الإمام أحمد وأصحابه وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، فلا كفارة فيه. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة بحديث رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبا لنا أوجب، قال: فليعتق رقبة، يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار». كلمة في السياق: إذا كانت سورة النساء في سياقها العام توضيحا لقضية التقوى فإن هذا المقطع بين أن مما يدخل في التقوى القتال ومقتضياته من طاعة، وانضباط وإرادة، وأن مما يدخل في التقوى قتال المنافقين وقتلهم بشروطه، وأن مما يتنافى مع التقوى قتل المؤمن عمدا، وأن مما يدخل في التقوى الكفارة والدية في حالة القتل الخطأ، وأن مما يدخل في التقوى الشفاعة الخيرة ورد السلام، والتوحيد الخالص، والتصديق الكامل. وقد صحح الله- عزّ وجل- بهذا المقطع مفاهيم كثيرة خاطئة عن التقوى، يمكن أن يقع فيها المؤمنون سواء في مواقفهم من قتال الكافرين، أو في مواقفهم من قتال المنافقين. ولنا عودة على السياق فيما بعد إن شاء الله. المقطع السابع ويمتد من الآية (94) إلى الآية (104) وهذا هو:
[سورة النساء (4): الآيات 94 الى 100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 101 الى 104] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) كلمة في المقطع: هذا المقطع استمرار للمقطع السابق، فبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- عاقبة القتل العمد، أمرنا فى هذا المقطع أن نتبين إذا قاتلنا، وألا نقتل من يقول لا إله إلا الله، حتى ولو قالها أثناء القتال. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه لا يستوي عنده من يقاتل مع من لا يقاتل. ثم بين تعالى وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. إلا للعاجز عن ذلك، ووعد المهاجر السعة، ومراغمة أعداء الله. وفي هذا السياق ذكر قصر الصلاة للمهاجر، وذكر صلاة الخوف، وذكرنا بوجوب إقامة الصلاة كاملة في الأمن. وختمت آيات القتال بالتذكير بوجوب متابعة القتال في كل الظروف ما دامت الحرب قائمة.
المعنى العام
ولنتذكر الآن- ولنا عودة على الموضوع- أن صلاة الخوف قد ذكرت في سورة البقرة في سياق الكلام عن شئون المرأة وطلاقها، ووفاة زوجها عنها. والملاحظ أن المقطع اللاحق لهذا المقطع يأتي فيه كلام عن المرأة والطلاق، وهذا يذكرنا بالقاعدة التي اعتمدناها أن لكل سورة محورها من سورة البقرة، وأن السورة تفصل فى هذا المحور، وفي امتداداته في نفس سورة البقرة. وهذا الذي اتجهنا إليه سنرى ما يؤكده في هذا التفسير شيئا فشيئا، ولا زلنا نعتبر أن ما نذكره هو بمثابة شواهد يتكامل معها الدليل شيئا فشيئا. المعنى العام: يأمر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع عباده المؤمنين إذا قاتلوا في سبيله أن يتبينوا، إذا قاتلوا أو قتلوا، وينهاهم إذا أعلن لهم أحد إسلامه أن يرفضوا إعلانه رغبة منهم في تحصيل عرض من الدنيا بقتله ليأخذوا ماله، ووعدهم الله- عزّ وجل- مغانم كثيرة يؤتيهم إياها من فضله. ثم ذكرهم بأنهم كانوا في يوم من الأيام يسرون إيمانهم، فإذا وجدوا إنسانا يسر إيمانه بين قومه، حتى إذا جاءوا هم أظهره لهم، فكيف يقتلونه، ثم جدد لهم الأمر بالتبين والتثبت إذا قاتلوا أو قتلوا، ثم هددهم بأنه يعلم الظواهر والخوافي فلا يخالفوا. ثم بين الله- عزّ وجل- أن المجاهدين لا يستوون عنده مع القاعدين إلا إذا كان قعودهم أثرا عن ضرر كمرض، أو عرج، أو عمى، وأنه- عزّ وجل- فضل المجاهدين على القاعدين، ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنات العاليات ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات، إحسانا منه وتكريما. وبعد أن أمر الله- عزّ وجل- بالتبين في الجهاد مراعاة لحال من يكتم الإيمان بسبب من الأسباب، ومن جملة ذلك إقامته بين الكفار، فقد بين الله- عزّ وجل- حكم الإقامة بين الكفار ليرفع همم أهل الإيمان إلى الهجرة. ومن ثم فقد بين الله- عزّ وجل- أن من أقام بين ظهراني الكفار، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، ومرتكب للحرام بإجماع المسلمين، وبنص ما ذكر في هذا السياق من كون أمثال هؤلاء عند ما تتوفاهم الملائكة تعنفهم سائلة إياهم لم مكثتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ فيعتذرون بعدم قدرتهم على الخروج أو الذهاب في الأرض، فترد عليهم الملائكة حجتهم أن أرض الله واسعة،
وكان باستطاعتهم الهجرة، وبناء على تقصيرهم هذا فإن الله قد حكم عليهم بالعذاب في نار جهنم، ثم أخرج الله- عزّ وجل- من هؤلاء المستضعفين حقيقة، كالنساء والأولاد. فهؤلاء لا يقدرون أن يتخلصوا من أيدي الكافرين، ولو قدروا ما عرفوا أن يسلكوا طرق الهجرة، فهؤلاء عسى الله أن يتجاوز عنهم بتركهم الهجرة، إذ هو عفو لمن يستحق المغفرة والعفو، ومشيئته مع هذا مطلقة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ثم حض الله- عزّ وجل- على الهجرة، ورغب فيها، وحرض إليها مبينا أن المؤمن حيثما ذهب وجد مندوحة وملجأ يتحصن فيه، ويراغم به أعداء الله، ورزقا واسعا، ووعد من يخرج من منزله بنية الهجرة فيموت في أثناء الطريق، أن يعطيه ثواب من هاجر، وذلك من كمال مغفرته ورحمته. فإذا وصل السياق في هذا المقطع إلى نهاية هذه المعاني ينتقل السياق إلى بيان قضايا متعلقة بالصلاة أثناء الهجرة والحرب، وكالعادة في شأن آيات القرآن إذا نظر إليها من خلال السياق، تعطي معاني، وإذا نظر إلى كل كلمة منها في محلها فإنها تفيد معاني تكمل تلك، وذلك من إعجاز هذا القرآن. وقبل أن نستعرض ما ورد من معان حول الصلاة في هذا السياق نذكر بما ذكر قبله: أمر الله المسلمين بالتبين إذا قاتلوا أو قتلوا في سبيل الله، حتى لا يقتلوا مؤمنا، ولكي لا يوقفهم التبين عن الجهاد بين الله فضيلة الجهاد ليجمع المسلمون بين الجهاد والتبين؛ حتى لا يعطلوا الجهاد بحجة التبين، ولما كان التبين لصالح المسلمين المقيمين بين ظهراني الكافرين، فقد حذر هؤلاء من المقام بين ظهراني الكافرين، وأمرهم بالهجرة إلى دار الإسلام، وأوجبها عليهم، وهي قضية ستتضح معنا أثناء التفسير الحرفي وفوائده، وبمناسبة الجهاد والهجرة، فقد ذكر أحكاما في الصلاة، منها ما هو مرتبط بالهجرة والسفر، ومنها ما هو مرتبط بالجهاد واحتمالاته. فبين الله- عزّ وجل- أن المسافر المهاجر له أن يقصر الصلاة مراعاة لوضعه إذ يحتمل أن يلحق به الكافرون، ويفتنوه عن دينه، إذ عداوة الكافرين شديدة واضحة. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه في حالة اللقاء مع الأعداء، فإن للمسلمين أن يصلوا صلاة الخوف التي يجتمع فيها إقامة العبادة والحذر واليقظة بآن واحد، بأن يجتمع مع الصلاة مراقبة العدو والاستعداد بالسلاح، وسنرى تفصيل ذلك في التفسير الحرفي وفوائده. ثم يأمر الله- عزّ وجل- بكثرة الذكر بعد صلاة الخوف، والذكر وإن كان مشروعا
المعنى الحرفي
مرغبا فيه بعد كل صلاة، لكنه بعد صلاة الخوف آكد، ولما وقع فيها من التخفيف ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما لا يوجد في غيرها، ولأن حال المحارب يقتضي يقظة وانتباها، وحالا طيبا مع الله. ثم أرشدنا الله- عزّ وجل- في حالة انتهاء وضع الخوف، وحصول الطمأنينة، إلى وجوب إتمام الصلاة وإقامتها بحدودها، وخشوعها، وركوعها، وسجودها، وجميع شئونها، مبينا تعالى أن الصلاة فرض مفروض، ومؤقت بوقت محدد. ومن هنا نفهم أن الصلاة يطالب بها المسلم في كل حال، ولا يسعه التخلف عن أدائها بحال، لا في سلم ولا في حرب، ولا في خوف، ولا في أمن. وإذا اضطر إلى تأخيرها في بعض الحالات التي نص عليها الفقهاء فعليه قضاؤها ثم يختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع الذي يعتبر امتدادا لما قبله والذي ينصب هو والذي قبله على موضوع القتال، بأن لا يضعفوا في طلب عدوهم، بل عليهم أن يجدوا فيهم، ويقاتلوهم في كل حال، حتى في حالة الإصابة والجراح، مبينا أنه كما تصيبنا الجراح تصيبهم، وكما نألم يألمون، فنحن وإياهم سواء فيما يصيبنا من جراح وآلام، ولكنا نزيد عليهم بأننا نرجو من الله نصرا ومثوبة وتأييدا ما لا يرجون، كما وعدنا ذلك في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فنحن أولى بمتابعة القتال منهم، والصبر عليه، والرغبة فيه. وإذ يطالبنا الله- عزّ وجل- بذلك، فما ذلك إلا من آثار علمه وحكمته، بأن هذا هو الطريق، الجهاد الدائم المستمر المتتابع في كل الظروف والأحوال. وقد كان خالد لا ينام ولا ينيم. هذه هي المعاني العامة في هذا المقطع، وسنرى تفصيلاتها فيما يلي، فهل اتضح من هذا كله أنه لا تقوى إلا بجهاد وقتال. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا. أي: إذا سرتم في طريق غزو وقتال في سبيل الله، فتبينوا، أي: اطلبوا بيان الأمر وثباته ووضوحه في حال قتلكم وقتالكم. أو إذا قاتلتم فتبينوا حال من تقتلونه وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. السلام هنا: هو الإسلام بدليل آخر النص لَسْتَ مُؤْمِناً وقيل هو الاستسلام، وقيل هو التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاذ، فهو الذي يدعوكم إلى
فوائد
ترك التثبت، وقلة البحث عن حال من تقتلونه. والعرض: المال سمي به لسرعة فنائه. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. أي: إنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة؛ فحقنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم، فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان. فافعلوا بمن يدخل في الإسلام كما فعل بكم، واقبلوا منهم ما قبل منكم. ويحتمل إنكم كنتم أيها المسلمون في ابتداء الأمر تخفون إسلامكم بين قومكم، كما يخفي هذا الذي أظهر لكم الإسلام- أثناء القتال- إسلامه بين قومه، فيظهره لكم إذا جئتم، فمن الله عليكم أنتم بأن أصبحتم تجهرون بالإسلام، ولكن لا تنسوا حالكم الأول، وارحموا أمثالكم. ويحتمل أن يكون المعنى: إنكم أيها المسلمون كنتم قبل إسلامكم تقاتلون وتقتلون من أجل الدنيا، فمن الله عليكم بالإسلام، فأصبحتم تقاتلون في سبيل الله، فلا تكفروا نعمة الله. فَتَبَيَّنُوا كرر الأمر بالتبين تأكيدا عليهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً قال سعيد بن جبير: «وهذا تهديد ووعيد». التهديد بعلم الله بما يخفى وما يظهر هنا يفيد النهي عن التهافت في القتل، والأمر بأن يكونوا محترزين، محتاطين في ذلك. فوائد: 1 - في سبب نزول هذه الآية، آثار كثيرة كلها يرفد بعضها، وكلها يفسر بعض وجوهها والعبرة كما نكرر دائما لعموم اللفظ، ومما ورد في سبب نزولها: أ- روى الإمام أحمد والترمذي، وقال عنه حسن صحيح عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم- بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- يرعى غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ... الآية إلى آخرها. ب- وقد ذكر ابن كثير قصة رجل اسمه ضرار، هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عماية الليل، وكان قد قال لهم: إنه مسلم، فلم يقبلوا منه، فقتلوه، فقال أبوه: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ألف دينار ودية أخرى، وسيرني فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ...
ج- وقد روى الإمام أحمد قصة محلم بن جثامة، ورواها ابن جرير بسياق أتم منه هذا هو: «عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر ابن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم» ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا .... د- روى البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد تعليقا على حادثة، ويروي الحادثة كلها البزار، وهذه روايته عن ابن عباس قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد ابن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله! والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: «ادعوا لي المقداد، فقال: يا مقداد أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله؟! فكيف لك بلا إله إلا الله غدا». قال: فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد «كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل». هـ- وذكر النسفي: أن مرداس بن نهيك أسلم، ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى منفرج من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجدا شديدا وقال: «قتلتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة». 2 - من هذه الآية نفهم أن الفارق الرئيسي بين قتال المسلمين، وقتال غيرهم. أن غير المسلمين يقاتلون من أجل الدنيا متمثلة باحتلال أرض، أو بسوق اقتصادي، أو من
[سورة النساء (4): آية 95]
أجل مواد خام، أو من أجل استغلال ما، أو من أجل ربح مباشر أو غير مباشر، أما المسلمون فلا يقاتلون إلا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وفي سبيل الله، وما يعطيهم الله- عزّ وجل- بسبب ذلك من الدنيا فهو منة منه وفضل، ولكنه ليس غاية ولا هدفا. وهذا الذي لا يصل إلى إدراك كنهه ولا إلى فهمه من لا يعرف آفاق الربانية في النفس البشرية. 3 - إن قضية التبين ينبغي أن تأخذ مداها في أي لحظة أو تخطيط أو تنفيذ. فإذا كان لا بد من قتال، فلنتذكر دائما أنه لا بد من تبين. لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ. أي: عن الجهاد مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. الضرر: المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ نفى التساوي بين المجاهد والقاعد بغير عذر وإن كان معلوما؛ توبيخا للقاعد عن الجهاد، وتحريكا له عليه، ثم لبيان عدم الاستواء بين المجاهدين والقاعدين لعذر قال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً. أي فضلهم تفضلة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. أي: وكل فريق من القاعدين لعذر والمجاهدين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة، وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين لعذر درجة، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ (بغير عذر) أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ هذا وما بعده بيان للأجر العظيم وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً إذ يقبل العذر رَحِيماً إذ يوفر الأجر. قال النسفي: وحاصله أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بعذر درجة، وعلى القاعدين بغير عذر- في حالة كون الجهاد فرض كفاية وفي حالة إذن الإمام لهم في المقام- درجات، لأن الجهاد في حال السعة فرض كفاية. فوائد: 1 - هذه الآية محمولة على كون الجهاد فرض كفاية، وقد قام من يكفي من المسلمين به، فعندئذ لا يأثم القاعدون، ويؤجر المجاهدون هذا الأجر العظيم، أما إذا كان الجهاد فرض عين، أو لم يقم من المسلمين ما يكفي عند ما يكون الجهاد فرض كفاية، فإن القاعدين يأثمون إثما عظيما؛ يستحقون به دخول النار. أما متى يكون الجهاد فرض عين، ومتى يكون فرض كفاية؟ فهذا له تفصيلاته الكثيرة وباختصار نذكر بعض
الصور: يكون الجهاد فرض عين إذا أعلن الإمام النفير العام، أو إذا هوجمت بلد أو منطقة فقد افترض القتال على المستطيع رجلا أو امرأة، وإذا هوجمت منطقة، فكفى أهلها للدفاع عنها، فالجهاد فرض عين عليهم فقط، وإلا فتنتقل فرضية العين إلى من حولهم، ثم إلى من حولهم. وهكذا حتى يعم الفرض الأمة الإسلامية كلها. ومن حالات النفير التي يجب على المسلمين فيها الجهاد، حالة ما إذا استنفرهم الإمام الحق، لقتال الخارجين عليه بغير الحق، ومن الحالات التي يفترض على المسلمين فيها القتال فرضا عينيا، حالة ما إذا سيطر المرتدون أو الكافرون على قطر من أقطارهم؛ فقد افترض على أهل هذا القطر فرضا عينيا، أن يقاتلوا وعلى المسلمين أن يمدوهم. ويفترض على المسلمين القتال فرض كفاية، في حالة ما إذا كانوا آمنين، فعليهم أن يقاتلوا أي جهة من جهات دار الحرب، وهذا الذي هو فرض كفاية إذا قام به بعضهم سقط عن البعض الآخر، ولا يسقط هذا إلا في حالات الضعف الذي هو مظنة استئصال المسلمين لو هاجموا بشرط نية الإعداد، وتلافي حالة الضعف والوضع الدولي في عصرنا في غاية التعقيد فلا بد أن يلاحظ ذلك. 2 - وفي صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم. حبسهم العذر» فهذا مثال على لحوق أصحاب الأعذار للمجاهدين في الأجر، ولكن تبقى درجة لمن مارس الجهاد عمليا. 3 - وفي تفسير الدرجة والدرجات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رمى بسهم فله أجره درجة، فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام». 4 - وفي سبب النزول وما أحاط به يروي البخاري عن ابن عباس أن الآية نزلت بمناسبة غزوة بدر. قال ابن عباس لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجون إلى بدر، وقد روى البخاري وغيره تساؤل عبد الله بن أم مكتوم- وهو أعمى- عن حال أمثاله ممن لا يستطيعون الجهاد فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وهذه رواية الإمام أحمد في هذا الموضوع قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، قال: فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة،
[سورة النساء (4): آية 97]
قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال: اكتب يا زيد، فأخذت كتفا، فقال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ. .. إلى قوله أَجْراً عَظِيماً فكتبت ذاك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى- فقام حين سمع فضيلة المجاهدين وقال: يا رسول الله! كيف بمن لا يستطيع الجهاد، ومن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد: فو الله ما مضى كلامه- أو ما هو إلا أن قضى كلامه حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه فقال: اقرأ فقرأت عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ .... فقال النبي صلى الله عليه وسلم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قال زيد: فألحقتها، فو الله كأني انظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف». 5 - والملاحظ أن هذه الآية جاءت بعد الأمر بالتبين، فكأنه بعد الأمر بالتبين قد يتباطأ ناس عن الجهاد خوفا من عدم التبين، فجاءت هذه الآية لترفع الهمم إلى الجهاد. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ توفاهم. أي: تتوفاهم، والتوفي: قبض الروح. والمراد بالملائكة: ملك الموت وأعوانه. وظلمهم أنفسهم بمخالطة الكافرين، وتركهم الهجرة المفروضة، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ. أي: قال الملائكة للمتوفين: في أي شئ كنتم في أمر دينكم، ومعناه التوبيخ لأنهم لم يكونوا في شئ من الدين لتركهم الهجرة، ومخالتطهم للكافرين، وما يقتضيه ذلك من طاعة ورضوخ ومجاملة وترك عمل. قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. أي: كنا عاجزين عن الهجرة، ومجبرين على المكث في الأرض التي نحن فيها. قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها. أي: قال الملائكة هؤلاء موبخين لهم: إنكم كنتم قادرين على الهجرة أي: على الخروج إلى بلد ما لا تمنعون فيها من إظهار دينكم. فالإنسان لا يعدم حيلة إن صمم على شئ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. أي: مقرهم فيها وساءت ما يصيرون إليه قال النسفي: والآية تدل على أن من لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب، وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره حقت المهاجرة. أهـ. وقد ذكر ابن كثير الإجماع على ذلك. أما إذا تمكن من إقامة دينه، فهل تجب عليه الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن دار الظلم إلى دار العدل؟ ومن دار البدعة إلى دار السنة؟ قولان للعلماء. قال الحنفية: يجب، وقال الشافعية: يندب له البقاء.
[سورة النساء (4): آية 98]
ولنعد إلى السياق لنرى أن الله قد استثنى من أهل الوعيد: المستضعفين حقيقة لا دعوى فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج والهجرة إما لفقرهم وإما لعجزهم وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. أي: ولا معرفة لهم بالمسالك. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ هذا وعد من الله لهم أن يعفو عنهم، فعسى وإن كانت في الأصل للإطماع إلا أن ما أطمعت فيه من الله واجب الوقوع لأن الكريم إذا أطمع أنجز وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً أكدت نهاية هذه الآية عفوه، وأثبتت أن عدم الهجرة ذنب وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً المراغم: هو المهاجر، والطريق الذي يراغم بسلوكه الإنسان قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم: الذل والهوان، يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك، والسعة يدخل فيها السعة في الرزق، أو في إظهار الدين، أو في الصدر لتبدل الخوف بالأمن. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. أي: إلى حيث أمر الله ورسوله ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ. أي: قبل بلوغه مهاجره فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. أي: فقد حصل له الأجر بوعد الله، وذكر الوقوع تأكيد للوعد، وإلا فلا شئ يجب على الله لأحد من خلقه، وإنما هو جل جلاله يوجب على نفسه ما شاء وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر بالعمل، ويرحم بالنية، وقد قالوا: كل هجرة لطلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة، أو قناعة، أو زهدا وابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله. فوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... الآية يروي البخاري عن ابن عباس: أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ... ويكمل ابن أبي حاتم رواية هذا المعنى، أن المسلمين لما أصيب هؤلاء قالوا: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ... الآية فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية التي مضمونها أنه لا عذر لهم. قال فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم التقية. فنزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ....
ولنعد إلى السياق
2 - روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». 3 - روى ابن أبي حاتم: لما أسر العباس وعقيل ونوفل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «افد نفسك وابن أخيك» فقال يا رسول الله: ألم نصل إلى قبلتك، ونشهد شهادتك. قال يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم. ثم تلا عليه هذه الآية: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً ... وفي الصحيح: أن ابن عباس كان يقول: «كنت وأمي من المستضعفين من النساء والولدان». وروى ابن جرير عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر: «اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام، وعياش ابن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا». 4 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ثم قال: وأين المجاهدون في سبيل الله؟ فخر عن دابته فمات، فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله» قال الراوي: يعني بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنة» 5 - قال ابن عباس خرج حمزة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ .... 6 - روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله قال: من انتدب خارجا في سبيلي، غازيا ابتغاء وجهي، وتصديق وعدي، وإيمانا برسلي، فهو في ضمان على الله، إما أن يتوفاه بالجيش، فيدخله الجنة، وإما أن يرجع في ضمان الله، وإن طالب عبدا فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر أو غنيمة ونال من فضل الله، فمات أو قتل، أو وقصته فرسه، أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فهو شهيد». ولنعد إلى السياق: بعد أن فرض الله التبين لصالح المسلمين المقيمين بين ظهراني الكافرين، وحض على
فوائد
الجهاد كيلا يتقاعس المسلمون عن الجهاد بحجة التبين، هدد المسلمين المقيمين بين ظهراني الكافرين إن لم يهاجروا، وبهذه المناسبة يذكر حكم الصلاة في السفر. وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. سافرتم فيها، فالضرب في الأرض: هو السفر. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ .... أي: ليس عليكم حرج في أن تقصروا من أعداد ركعات الصلاة الرباعية، فتصلوها ركعتين. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: إن خشيتم أن يقصدكم الكفار بقتل أو جرح أو أخذ. والخوف شرط جواز القصر عند الخوارج؛ لظاهر هذا النص، وعند أهل السنة ليس بشرط. روى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت له: قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ ... وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وصدق الله فما من عداوة أوضح من عداوة الكافر للمؤمن، وذكر العداوة هنا أمر بالتحرز. فوائد: 1 - روى البخاري عن أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا». وروى الإمام أحمد عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» والكلام عن صلاة المسافر مفصل في كتب الفقه. 2 - من قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فهم الشافعي أن القصر رخصة في السفر، والإكمال عزيمة، لأن لا جناح، يستعمل في موضع التخفيف والرخصة، لا في موضع العزيمة. وقال الحنفية: القصر عزيمة غير رخصة، ويكره الإكمال كراهة تحريم؛ لما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح عن عمر قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم». وأما الآية فقد قال النسفي في توجيهها: فكأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، ويطمئنوا إليه، اهـ.
[سورة النساء (4): آية 102]
3 - تعليق قصر الصلاة هنا على الخوف يشبه قوله تعالى في سورة النور: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فكما أنه لا يفهم من التعليق بإرادة الإحصان جواز البغاء عند عدم إرادته فكذلك هنا، ومحل التوسع في فهم مثل هذه النصوص وغيرها كتب أصول الفقه. 4 - هناك اتجاه آخر في فهم الآية، هذا الاتجاه يقول: إن الآيات على ظاهرها وليس المراد بها صلاة السفر والمسافر، وإنما المراد بها بيان جواز قصر الصلاة والصلاة بالقدر المستطاع في حالة كون المسلم خائفا في قتال، أو وهو مطارد من قبل الكافرين، أو وهو يحتمل المطاردة، فإنه في هذه الحالة كلها يقصر، وقد اختلف في حدود هذا القصر، قال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة .. وقال جبير عن الضحاك: ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه. وعلى هذا الاتجاه تكون الآية اللاحقة زيادة بيان للآية السابقة في تبيان حالة أخرى من حالات الصلاة في الخوف. ولنعد إلى السياق: فقد رأينا أنه بمناسبة الكلام عن الهجرة ذكرت صلاة السفر، ولكن هذا الورود كان ضمن سياق القتال. وعلى هذا فإن الآية التالية تبين لنا صورة من صور الصلاة في القتال. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ. أي: وإذا كنت يا محمد في أصحابك، فأردت أن تقيم الصلاة بهم. قال أبو يوسف: هذا النص خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صلاة خوف بعده صلى الله عليه وسلم وقال غيره: الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر، فكان الخطاب له متناولا لكل إمام، ودليله فعل الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم فالخطاب في الآية، وإن كان له صلى الله عليه وسلم، فهو يشمل كل أمير للمسلمين إلى يوم القيامة. فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ. أي: فاجعلهم طائفتين. فلتقم إحداهما معك، فصل بها، وتقوم طائفة تجاه العدو. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ. أي: وليأخذ الجميع أسلحتهم. والمصلون يأخذون من السلاح، ما لا يشغلهم عن الصلاة فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ. قال الحنفية وكثيرون غيرهم في تفسيرها. أي: إذا قيدوا ركعتهم بسجدتين، فلترجع هذه الطائفة، لتقف بإزاء العدو حتى إذا انتهت الطائفة الثانية من صلاتها، تكمل الطائفة الأولى صلاتها في محلها، أو في مكان الصلاة الأول. وقال
[سورة النساء (4): آية 103]
مالك: تنتهي صلاة الطائفة الأولى بصلاتهم ركعة. لأن صلاة الخوف ركعة عنده. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. أي: ولتحضر الطائفة الواقفة بإزاء العدو فليصلوا معك الركعة الثانية. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم. وعند مالك تنتهي بذلك صلاة الطائفتين. وعند غيره، تكمل كل من الطائفتين ما فاتها. الطائفة الثانية أولا. ثم الطائفة الأولى. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ. أي: وليأخذوا ما يتحرزون به من العدو من انتباه، وآلة كالدرع ونحوه. وَأَسْلِحَتَهُمْ جمع سلاح. وهو ما يقاتل به. وأخذ السلاح شرط عند الشافعي، وعند الحنفية مستحب، وذكر الركعتين أثناء الشرح على اعتبار أن الغالب في صلاة الخوف أن تكون في سفر. ولصلاة الخوف كيفيات كثيرة. تسع العصور والأحوال. سنرى- إن شاء الله- إشارة لها في باب الفوائد. وتفصيل ذلك في كتاب (الأساس في السنة وفقهها). وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً. هذا البيان للحكمة من مشروعية صلاة الخوف. والمعنى: أن الكافرين يتمنون أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم. فيشدوا عليكم شدة واحدة. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ. رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر، أو يضعفهم من مرض. وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. أي: مذلا، وإخباره تعالى في هذا المقام بأنه يهين الكافرين من أجل أن تقوى قلوب المسلمين، وليعلموا أن قدرة الله غالبة، وأن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبة الكافرين عليهم، وإنما هو تعبد من الله تعالى. فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ. أي: فإذا فرغتم منها. فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ. أي: فداموا على ذكر الله في جميع الأحوال. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. أي: فإذا سكنتم بزوال الخوف، فأتموها بطائفة واحدة، أو فإذا أقمتم فأتموا ولا تقصروا. أو: إذا اطمأننتم بالصحة فأتموا القيام، والركوع، والسجود. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. أي: مكتوبا محدودا بأوقات معلومة. أو فرضية مؤقتة بوقت. فوائد: 1 - لصلاة الخوف صور كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون
في غير اتجاهها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثية، كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح، وهناك صلاة السفر. والصلاة تارة يمكن أن تصلى جماعة، وتارة يلتحم الحرب، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، رجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا- والحالة هذه- ويضربون الضرب المتتابع في متن الصلاة، ومن العلماء من قال يصلون، والحالة هذه، ركعة واحدة. وقال إسحاق بن راهويه. أما عند المسايفة، فيجزيك ركعة واحدة، تومئ بها إيماء. فإن لم تقدر، فسجدة واحدة، لأنها ذكر لله. وقال آخرون: يكفي تكبيرة واحدة. حتى قال الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي: فإن لم يقدر على التكبيرة، فلا يتركها في نفسه يعني بالنية. ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال، ولعذر المسير إليه. وقال الأوزاعي: إن تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه. فإن لم يقدروا، صلوا ركعة، وسجدتين. فإن لم يقدروا، فلا يجزيهم التكبير. ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك، حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة. فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها، ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب. ولم ينقل أنه أنكر عليهم، ولا أحد من الصحابة، من هذا كله ندرك أن في هذا الموضوع سعة. وهذه السعة تقتضيها طبيعة عصرنا أكثر من أي عصر مضى. وفي كتب الفقه تفصيلات مثل هذه الشئون. 2 - روى الإمام أحمد عن أبي عياش الزرقي قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعفان فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد. وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر. فقالوا: لقد كنا على حال، لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة، هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ .... قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح. قال: فصفنا خلفه صفين. قال: ثم ركع، فركعنا جميعا. ثم رفع، فرفعنا جميعا. ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم. ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم. فلما
[سورة النساء (4): آية 104]
جلسوا جلس الآخرون. ثم سلم عليهم، ثم انصرف. قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم .. » والحديث صحيح. وهذه إحدى صور صلاة الخوف، وصورها كثيرة. ومن صورها، ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه. فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء. فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولهم ركعة». ثم يختتم الله هذا السياق في موضوع القتال بهذه الآية: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي: ولا تضعفوا، ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال، والتعرض به لهم. ثم ألزمهم الحجة بفعل ذلك بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ. أي: ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم. بل هو مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم! مع أنكم أجدر منهم بالصبر!؛ لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان. ومن الثواب العظيم في الآخرة. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. عليما بما تجدونه من آلام. حكيما فيما أمركم به، ويدبر لكم من أموركم. كلمة في السياق: إذا كانت سورة النساء تدور حول ماهية التقوى. فإن هذا المقطع قد بين أن التبين في القتال، والهجرة إلى دار الإسلام، والصلاة في القتال، وذكر الله في كل حال، والصبر على القتال، والاستمرار فيه. كل ذلك داخل في العبادة، والتقوى. ولنا عودة فيما بعد على السياق إن شاء الله. المقطع الثامن اعتدنا فيما مضى من سورة النساء أن تكون المقاطع مبدوءة ب (يا أيها): يا أَيُّهَا النَّاسُ*، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*، ولكنا في هذا المقطع نجد أن صيغة (يا أيها) تأتي في نهايته، فالمعاني في هذا المقطع تتسلسل حتى نجد في نهايته آية مبدوءة ب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفيها إشعار بالمعنى الرئيسي الذي ينتظم معاني المقطع. وهو أسلوب سنرى نماذجه في القرآن أكثر من مرة، وفيه مظهر من مظاهر التنويع في الأسلوب. إن المقطع الثامن يعرض لنا معاني من مظاهر العدل، ثم يختم المقطع بآية هي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ .... يمتد المقطع من الآية (105) إلى الآية (135) وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 105 الى 113] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
[سورة النساء (4): الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) *** [سورة النساء (4): الآيات 116 الى 124] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
[سورة النساء (4): الآيات 125 الى 126] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) *** [سورة النساء (4): الآيات 127 الى 132] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 133 الى 135] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) كلمة في المقطع: بدأ المقطع بتبيان الحكمة من إنزال الكتاب بالحق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من أجل أن يحكم به، وفي ذلك أبلغ رد على من يهمل قضايا الحكم بما أنزل الله، ومن هذه المقدمة ينطلق السياق إلى التوجيه إلى أنه لا ينبغي أن يجادل أحد عن الخائنين، وهذا أول مظهر من مظاهر العدل، ليصل السياق إلى عدم مواطأة الشيطان وطاعته في دعوته، وذلك مظهر من مظاهر العدل، ليصل السياق إلى التعامل العادل مع المرأة، وذلك مظهر من مظاهر العدل. ويختم بالأمر بالقيام بالعدل والشهادة بالعدل، مع كل الناس. قلنا: إن محور سورة النساء من سورة البقرة هو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. لاحظ صلة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا من سورة البقرة بقوله
المعنى العام للمقطع
تعالى هنا: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وصلة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً في سورة البقرة بقوله تعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وصلة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ من سورة البقرة بقوله تعالى هنا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً. وصلة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ من سورة البقرة بقوله تعالى هنا: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ. وصلة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ في سورة البقرة بقوله هنا: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. إن الصلة واضحة، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن محور سورة النساء من سورة البقرة هو الآيات (21 - 22 - 23 - 24 - 25) ولنا عودة على السياق. المعنى العام للمقطع: بين الله- عزّ وجل- في هذا المقطع أنه أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم بالحق، فهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، من أجل أن يحكم رسوله على ضوئه في كل أمر من أمور الناس، وهذا هو الحق الخالص، ومع الأمر بالحق نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يكون بجانب الخائنين مجادلا عنهم ومدافعا، وهو نهي للأمة كلها، وإذن فهناك صيغة للحق وحيدة هي ما أنزله الله في كتابه، وما سواها باطل وأهلها خونة، والدفاع عن أهل الباطل حرام، كترك الحق في الحكم. وإذا عرفنا أن هذه بداية المقطع، وأن نهايته الأمر بإقامة العدل والقسط، عرفنا مضمون هذا المقطع، وعرفنا أن كل ما يحتويه داخل
ضمن توضيح قضايا من الحق والعدل، كجزء من مفهوم التقوى التي هي محور السورة الرئيسي. وبعد الأمر بالحق والنهي عن الدفاع عن أهل الباطل في الآية الأولى من هذا المقطع، يصدر الأمر بالاستغفار؛ لدقة قضية الحق؛ ولدقة الموقف من أهل الباطل، ولكن الله واسع المغفرة والرحمة، يغفر ويرحم لمن يجهد في إقامة الحق، ويحرر نفسه من الوقوف بجانب أهل الباطل. ثم يؤكد الله- عزّ وجل- نهيه عن الدفاع عمن يعمل الباطل ويخون نفسه بفعله الإثم، وذلك لأن الله لا يحب من كانت صفته الخيانة والإثم، فكيف يدافع المؤمن عمن يبغضه الله. فههنا إذن قضيتان متلازمتان، الحكم بالحق، وترك الدفاع عن أهل الباطل، والله- عزّ وجل- ينفر من الدفاع عن أهل الباطل بتبيان صفاتهم المنفرة، ومن ذلك استخفاؤهم من الناس، وإخفاؤهم قبائحهم عنهم؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها فلا يستخفون منه؛ لأنهم منافقون، إيمانهم بالله مضطرب وغير صحيح. فيبيتون الباطل والظلم، ومن هذا شأنهم فكيف يدافع المؤمن عنهم، والله هو المحيط بأعمالهم، وهو محاربهم ومعاديهم. وإذا افترض أحد أن هؤلاء الخائنين قد استفادوا من مجادلة المؤمنين عنهم، فمن يستطيع الجدال عنهم يوم القيامة، أو من يتوكل لهم يومئذ- يوم القيامة- في ترويج دعواهم؟ فإذا كان الأمر كذلك، والله محيط هذه الإحاطة، فلا يدافعن مسلم عن خائن. وفي عصرنا هذا- عصر القانون والمحاماة- تظهر أهمية هذا التوجيه، إذ يقرر أن صيغة الحق هي كتاب الله، وأن الدفاع عمن يختانون أنفسهم لا يجوز. ثم يستمر السياق بعد أن وضح النهي عن الدفاع عن الخائنين، يستمر مقررا ثلاث حقائق رئيسية، الأولى: أن المذنب المسئ إذ استغفر يغفر الله له. والثانية: أن كل إنسان مسئول عن نفسه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن إثم الآثم لا يتعداه. والثالثة: أن الذي يرتكب الخطيئة، أو الإثم، ثم يرمي به الأبرياء، فقد اجتمع عليه ذنبان، ذنب البهتان، وإثمه الأصلي. وإذ تتقرر هذه الحقائق الثلاث المرتبطة بموضوع عدم الدفاع عن الخائنين، يبين الله- عزّ وجل- أن بقاء الإنسان على الحق، وعدم تبنيه للدفاع عن الخائنين، لا يكون إلا بتوفيق من الله، خاصة مع وجود الراغبين في الإضلال، الذين لا يضلون إلا أنفسهم ولا يضرون غيرها. ثم يذكر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه بإنزال الكتاب عليه، وتعليمه الحكمة، وتعليمه ما كان يجهله، وهذا يدل على عظم ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الفضل العظيم، الذي من مقتضيات
شكره، الوقوف على الحق، وترك الدفاع عن الباطل وأهله. والصلة واضحة بين بداية المجموعة المطالبة بالحكم بالقرآن، والنهي عن الجدال عن الخائنين، وبين نهايتها المتحدثة عن نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن. وفي إطار السورة، وفي سياق هذا المقطع الذي يبين صورا من العدل والحق، في إطار العبادة والتقوى، يحدد الله- عزّ وجل- إطار الخير في أحاديث الناس بعضهم مع بعض، وهو مظهر من مظاهر العبادة والتقوى عظيم. فبين أن الحديث الخير هو ما كان أمرا بصدقة، أو أمرا بمعروف: وهو الحق والعدل، أو كان إصلاحا بين الناس. ثم بين الله أن من يفعل ذلك، مبتغيا وجه الله، مخلصا لله فيه، فإن له أجره العظيم عند الله. دل ذلك على أن توجيه الكلام في هذه الدائرة، من أعظم أنواع العبادة، ومن ألصق آثار التقوى. ثم يقرر الله- عزّ وجل- حقيقة مرتبطة بقضية الحق والعدل، هذه القضية هي أن ما شرعه الله حق، وما أجمعت عليه الأمة الإسلامية حق، ومخالفة هذا الحق يستحق به صاحبه العذاب الأليم، وارتباط هذه القضية بموضوع السياق الخاص والعام، والجزئي، والكلي واضح. إن من سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سلك غير الطريق الذي اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد تضمنت لهم العصمة- في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم، فمن سلك طريق الشقاق لهذا، أو لهذا، يجازيه الله على ذلك باستدراجه في الدنيا، ويجعل النار مصيره في الآخرة. لأن من خرج عن الهدى، لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة؛ لمخالفته الحق الذي لا يزيغ عنه إلا هالك. ولما كان رأس الانحراف عن الحق سببه الشرك واتباع الشيطان، فقد جاءت الآيات اللاحقة تبين هذه القضية مقررة: أن الذنب الذي لا يغفره الله هو الشرك، وأن ما دونه يمكن أن يغفره وأن الذي يشرك بالله، قد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة. ثم بين الله- عزّ وجل- حال هؤلاء المشركين، محقرا إياه، وأنهم ما يعبدون إلا إناثا كالأحجار، ومظاهر من هذا الكون والطبيعة، وأنهم ما يعبدون في شركهم إلا الشيطان المتمرد على الله، إذ هو الذي يأمرهم بذلك، ويحسنه ويزينه لهم، وهو الملعون المطرود، المبعد من رحمة الله، وعن جواره، وهو الذي أخذ على عاتقه أن يضل قسما معينا، مقدرا معلوما من الناس، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، يضلهم عن الحق، ويزين لهم ترك التوبة ويعدهم الأماني، ويأمرهم
بالتسويف والتأخير، ويغرهم من أنفسهم، ويزين لهم تحريم ما أحل الله، وتغيير خلق الله بارتكاب ما حرم، كالوشم والنمص وخصي الإنسان، وغير ذلك. ثم بين الله- عزّ وجل- أن من يتخذ الشيطان وليا مطاعا معبودا، فإنه قد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها. ثم بين الله- عزّ وجل- طريق الشيطان في الإضلال، وهو أن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك. ولذلك بين الله- عزّ وجل- أن وعد الشيطان أولياءه إنما هو هباء، ثم بين الله- عزّ وجل- جزاء المستحسنين لإغواء الشيطان ووعوده ومناه، وأن هذا الجزاء هو جهنم، فهي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة، وأنه ليس لهم عنها مندوحة، ولا مصرف، ولا خلاص ولا مناص. فالشرك إذن يسبب الانحراف عن الحق، وأن الشرك في حقيقته عبادة للشيطان وطاعة له في دعوته، ومجئ هذه المعاني في سياق الأمر بالحق والعدل واضح. إذ لا عدل ولا حق مع الشرك واتباع الشيطان. وإذ ذكر حال الأشقياء في الآخرة، قفى بحال المؤمنين الذين صدقت قلوبهم، وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات بأن جزاءهم الخلود الأبدي في جنات تجرى من تحتها الأنهار، ذلك وعد الله لهم، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، إذ هو أصدق الصادقين، فلا أحد أصدق منه قولا وخبرا ووعدا. ومجئ هذه الآية في سياق الدعوة إلى الحق والعدل واضح، إذ بدون الإيمان، والعمل الصالح، والثقة بوعد الله في الآخرة، لا يستطيع إنسان أن يثبت على الحق والعدل، وإذ كان كل أهل دين يدعون أنهم أهل الحق، وأن الجنة لهم دون غيرهم، وحتى بعض المسلمين يعيشون على الأماني، فيتصورون أن الجنة لهم بلا عمل، قرر الله- عزّ وجل- أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان، فليست النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله سبحانه، واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، وأن القاعدة عند الله أن من يعمل سوءا يجازيه به. ولا يستطيع أحد أن يحول بين الله وبين مجازاته، فينصره أو يدفع عنه. ولما ذكر الله الجزاء على السيئات، وأنه سيأخذ مستحقها من العبد، إما في الدنيا وهو الأجود له، نسأل الله العافية- وإما في الآخرة والعياذ بالله من ذلك، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكورهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه
سيدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو: النقرة، التي في ظهر نواة التمر. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه لا أحسن دينا ممن اجتمع له إخلاص العمل لربه فعمل إيمانا واحتسابا، متبعا في العمل لما شرعه الله، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق. وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أن يكون العمل خالصا وصوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة، فيصح ظاهر العبد بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص. فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمتى فقد الإخلاص كان منافقا، وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومن جمعهما كان من المؤمنين الذين لا أحسن دينا منهم، فهم مخلصون محسنون، وهم متبعون لملة إبراهيم، المائل عن كل شرك إلى التوحيد الخالص، ومن ثم اتخذه الله خليلا، ثم بين الله- عزّ وجل- أن ما في السموات والأرض ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقدرته؛ وعدله وحكمته، ولطفه ورحمته. وأن علمه نافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو المحيط بكل شئ، وتقرير هذه المعاني في سياق الأمر بالحق والعدل، وفي السياق الذي يربي على العبادة والتقوى، والإيمان، والعمل الصالح، لا يغيب عن الحاذق الفهم، فليس الحق دعوى، وإنما هو عمل، وليس ميزان الله بخس، ولكنه ميزان عدل، وميزان دقيق، وليس شأن الله قليلا، حتى يهمل أمره أو يعصى أو يطاع غيره في غير طاعته، فالعبودية لله ميزانها الإسلام له، والإحسان في عبادته، واتباع رسله، إذ هو مالك كل شئ، والمحيط بكل شئ، ومن كان كذلك كان حريا أن يسلم له، وأن يحسن في عبادته، وأن يتبع رسله، وذلك من الحق والعدل. فالحق والعدل في اتباع كتاب الله، وكذلك في عدم الدفاع عن المبطلين. وكما يكونان في ذلك. يكونان في المناجاة بالخير والإصلاح. وكما يكونان في هذا كله يكونان في ترك الشرك وطاعة الشيطان، وكذلك في الإسلام لله، والإحسان في عبادته، واتباع رسله، وذلك كله عبادة وتقوى. فالمقطع يوضح جوانب من الحق والعدل، يفطن الناس لبعضها، ولا يفطنون لبعضها الآخر. وكل ذلك في إطار السياق الكلي لمحور سورة النساء الذي يعمق قضية العبادة
والتقوى. ثم يكمل المقطع شرح جوانب من الحق والعدل في موضوع يتامى النساء، والمستضعفين، واليتامى عامة، فيفتي بما هو حق وعدل، وذلك أن الرجل قد يكون في حجره يتيمة، هو وليها ووارثها، لا يرغب أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في مالها إذا ماتت، أيفوت عليه ما يطمع فيه، فيعرضها. فبين الله- عزّ وجل- حكمه العادل، والحق في مثل هذا، إما أن تتزوجها ولها مهرها كاملا أسوة بأمثالها من النساء، وإما أن تزوجها إن جاءها طالب كفأ ورضيت، وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، فأنزل الله حكمه العادل بوجوب التوريث حسب الاستحقاق، ثم أمر الله- عزّ وجل- بإعطاء اليتامى العدل مذكرا بعلمه بمن فعل خيرا؛ تهييجا على فعل الخيرات وامتثال الأوامر. ومجئ هذه المعاني في سياق الدعوة إلى الحق والعدل لا يحتاج إلى بيان. ثم بين الله- عزّ وجل- قضايا من الحق والعدل في الشئون الزوجية، فأخبر مشرعا لأحوال من أحوال الزوجين، تارة في حال نفور الرجل من المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، وفي كل حالة من هذه الحالات علمنا الله الموقف العدل والحق. فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها، أو بعضه من نفقة أو كسوة، أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، إذ الصلح خير من الفراق. وإن كانت النفوس عادة شحيحة. ثم ندب الله- عزّ وجل- الأزواج إلى الإحسان والتقوى، واعدا إياهم بالخير الكثير، إن تجشموا مشقة الصبر على ما يكرهون منهن، فإذا فعلوا ذلك وصبروا عليه فالله يعلمه، وسيجزي عليه خير الجزاء. والحالة الثانية حالة الوفاق في حال كون الرجل له أكثر من زوجة. فقد بين الله- عزّ وجل- أن المساواة المطلقة والعدل المطلق بين الزوجات من كل الوجوه غير مستطاع للإنسان، ولذلك لم يكلف الإنسان به، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، ولكنه فرض العدل في المبيت والمطعم والملبس، ونهى عن المبالغة في الميل إلى واحدة؛ حتى تصبح الأخرى كالمعلقة، ووعد جل جلاله أنه في حالة الإصلاح في الأمور، والقسم بالعدل، في الحدود التي يملكها الإنسان، وفي حالة التقوى، فإن الله سيغفر ما كان من تفريط عند عدم وجود العدل المطلق، وأما الحالة الثالثة حالة الفراق، فقد وعد الله كلا من الزوجين أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها، ويغنيها عنه، بأن يعوضه الله بمن هي أو ما هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن أو ما هو خير لها منه، ثم ذكر الله-
عزّ وجل- بأنه واسع الفضل، عظيم المنة، حكيم في جميع أفعاله وأقداره وشرعه، فليطمئن كل من الزوجين إذا فارق الآخر إلى فضل الله، وليتوكل كل من الزوجين على الله. ثم أخبر الله- عزّ وجل- أنه مالك السموات والأرض، وأنه الحاكم فيهما، وأنه وصانا بما وصى به من قبلنا من تقواه، وعبادته وحده لا شريك له، وأنه في حالة كفرنا- والعياذ بالله- فإنه لا يضره ذلك، وكيف وهو مالك السموات والأرض، وهو الغني عن عباده، وهو المحمود في جميع ما يقدره ويشرعه. وإذن فما دام الله مالك السموات والأرض وهو الغني عن خلقه، المحمود في فعله وشرعه، فمن حقه أن يتقى، وأن يشكر فلا يكفر. ثم ذكر تعالى مرة ثانية بأنه مالك السموات والأرض، وأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شئ، وتذكيره بهذا مقدمة لتذكيره بأنه هو القادر على إذهابنا وتبديلنا بغيرنا إن عصيناه، إذ هو القادر على كل شئ، وإذا كان الأمر كذلك، فقد ذكر الله- عزّ وجل- من ليس له همة إلا في الدنيا أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سأله السائل من هذه وهذه أعطاه، فلتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قسم السعادة والشقاوة بين الناس، في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذه، وممن يستحق هذه، فهو السميع البصير. وما محل هذه المعاني في السياق الخاص في مقطعها الذي هو أمر بالحق والعدل، وتوضيح لما يدخل في مفهوم الحق والعدل؟ الذي يبدو: أن الصلة بين هذه الآيات وبين مقطعها، من حيث إن الله مالك السموات والأرض، هو صاحب الحق في توجيه الإنسان إلى الحق، ويجب أن يتقى، ويجب أن ترتفع همة الإنسان للسير في الحق الذي شرعه لنيل رضوانه وجنته. إلا أننا نحب أن ننبه إلى أن الآيات ينبغي أن تفهم على ضوء سياقها الخاص، وارتباط سورتها بالسياق القرآني العام. وعلى هذا فلنتذكر أن ما ذكره الله في هذا المقطع وفي كل مقطع مرتبط بمجمل السورة في السياق القرآني العام، وسورة النساء محورها الأمر بالعبادة والتقوى. فإذا تذكرنا هذا، وتذكرنا الآيات التي هي محل كلامنا، والتي فيها الوصية بالتقوى وطلب الآخرة. أدركنا صلة هذه الآيات وصلة مقطعها القرآني العام. والآن يستقر سياق المقطع بنداء المؤمنين أن يكونوا قوامين بالعدل، فلا يعدلوا عنه
المعنى الحرفي
يمينا ولا شمالا، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين، متساعدين، متعاضدين، متناصرين فيه، وأن يؤدوا الشهادة ابتغاء وجه الله فتكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، وأمر أن تؤدى شهادة الحق ولو عاد ضررها على صاحبها. فإذا سئلت عن أمر فقل الحق فيه، ولو عادت مضرته عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه، وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم؛ فإن الحق حاكم على كل أحد، وإن كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فأد فيه شهادة الحق، لا ترع غنيا لغناه، ولا تشفق على فقير لفقره، فالله يتولى الجميع، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما. ثم نهى أن يحملنا الهوى والعصبية وبغض الناس عن ترك العدل في أي أمر وشأن، ثم أمر بلزوم العدل على أي حال، فإن العدل هو الأقرب للتقوى، التي هي الهدف، ثم هدد من يحرف الشهادة ويغيرها، ويتعمد الكذب، بعلم الله فيه. وبهذا ينتهي المقطع، وإذا تذكر الإنسان ذكر الحق في بداية المقطع، وذكر العدل في نهايته، وكثرة ورود التقوى في المقطع، أدرك كيف أن هذا يمثل تجديدا في الأسلوب بالنسبة لما مر معنا من بدايات المقاطع ونهاياتها إذ ينتهي المقطع بما يتضمن موضوع المقطع كله، ليبدأ مقطع جديد على الطريقة الأولى مبدوء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. المعنى الحرفي: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. أي: محقا فهو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه وما شرع لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. أي: بما عرفك وأوحى به إليك. وقال أبو منصور الماتريدي في تفسيرها: بما ألهمك في أصوله المنزلة، وبهذه الآية استدل من جوز الاجتهاد في حقه عليه الصلاة والسلام وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. أي: ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما، أي ولا تجادل عن الخائنين، وكل معصية خيانة، وكل عاص خائن في معصيته، فلا يجادلن مسلم عن عاص في معصيته وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي: من أي خاطر يخالف ما مر. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. غفورا لما يهم به العبد ما لم ينفذه، رحيما بالمسلم إذ لم يكلفه ما لا يطيق. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ. أي:
[سورة النساء (4): آية 108]
يخونونها بالمعصية. جعلت معصية العصاة خيانة لأنفسهم، لأن الضرر راجع إليهم، والنهي ينصب على المخاصمة عن هؤلاء والدفاع عنهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً الخوان هو: المفرط في الخيانة، والأثيم: المفرط في الإثم، فإذا كان الله لا يحب الخونة والآثمين، فكيف يدافع المسلم عنهم؟!!. ثم زادنا الله- عزّ وجل- بيانا لحال هؤلاء العصاة ليقطع دابر أي تفكير في القلوب المؤمنة في الدفاع عنهم. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ .... أي: يستترون من الناس حياء منهم، وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ. أي: ولا يستحيون من الله وهو عالم بهم، مطلع عليهم، ولا يخفى عليه خاف من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم أنه معهم لا سترة ولا غيبة. إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ. أي: إذ يدبرون ما لا يرضي الله من الكلام، وسمي التدبير تبييتا: لأنه يكون عادة في الليل، وللنهار التنفيذ. وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً علمه محيط، وإرادته محيطة، ولا يكون شئ إلا به، فكيف لا يستحيون منه وهم يعصونه ويدبرون في معصيته. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. أي: هبوا أنكم خاصمتم عن هؤلاء الخائنين العصاة في الحياة الدنيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه. أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا. أي: من يكون حافظا ومحاميا عنهم من بأس الله وعذابه؟ اللهم لا أحد. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً السوء هنا: الذنب دون الشرك أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. بالشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالسوء القبيح الذي يتعدى ضرره إلى الغير، والظلم للنفس: ما يختص ضرره بفاعله. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي: يسأل الله مغفرته يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً له رَحِيماً به. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً. أي: ذنبا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ لأن وباله عليه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن أذنب حَكِيماً ومن حكمته أنه لا يعاقب بالذنب إلا صاحبه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً يحتمل أن يراد بالخطيئة هنا الصغيرة، وبالإثم الكبيرة، ويحتمل أن يكون المراد بالخطيئة هنا الذنب بينه وبين ربه، وبالإثم الذنب في مظالم العباد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً. أي: ثم يتهم بهذا الذنب أو الخطيئة غير فاعله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. البهتان: الكذب العظيم، إذ البهتان كذب يبهت من قيل عليه ما لا علم له به، والإثم المبين هو الذنب الظاهر، وقد اجتمعت الصفتان فيمن يفعل ما ذكرته الآية وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ أي:
فوائد
ولولا عصمة الله وحفظه ولطفه لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ. أي: من الناس أَنْ يُضِلُّوكَ. أي: عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل وجعلك تدافع عن العصاة. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بمحاولتهم، وهمهم وتبييتهم لأن وبال ذلك عليهم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمحفوظ بحفظ الله، وكذلك من كان على قدمه، مع فارق العصمة فهو عليه الصلاة والسلام معصوم، ومن على قدمه تحتمل في حقه الزلة. وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ إن وقفت عند حدود الله، وعملت بما ظهر لك، ولم يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ. أي: القرآن وَالْحِكْمَةَ. أي: السنة. وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. أي: من أمور الدين والشرائع. وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. أي: فيما علمك وأنعم عليك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خطاب لأمته، فهذا الفضل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثته عنه أمته. فوائد: 1 - شرحنا هذه الآيات بما يقتضيه عمومها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولكن سبب النزول يساعد على فهم النص، لأنه يكون مثالا على ما يمكن أن يدخل في النص مع بقاء عموم اللفظ على حاله، وقبل أن نذكر أسباب نزول هذه الآيات في فائدة لاحقة، نحب هنا أن ننبه على أن مما يدخل تحت عموم هذه الآيات بطريق الأولى في عصرنا صنعة المحاماة التي هي في كثير من أحوالها دفاع عن العصاة والخائنين، ومما يدخل تحت هذا العموم، الدفاع عن أي مذنب وعاص، وخائن لله ورسوله وجماعة المسلمين في أمر ما. 2 - قوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها». 3 - وفي سبب نزول الآيات السابقة، وآيتين بعدها، يروي الترمذي وابن جرير عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: «كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق، بشر، وبشير، ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله لبعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث، أو كما قال الرجل. وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير. وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك، ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك، فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبحنا أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسسنا في الدار، وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. قال: وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار- والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجلا منا له صلاح وإسلام- فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك أيها الرجل، فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها. فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم سآمر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسيد بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة ابن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة وثبت، قال قتادة: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة» قال فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتاني رفاعة فقال: يا ابن أخي، ما صنعت، فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً يعني بني أبيرق. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي: مما قلت لقتادة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... إلى قوله
رَحِيماً. أي: لو استغفروا الله لغفر لهم. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ... إلى قوله إِثْماً مُبِيناً قوله للبيد وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ... إلى قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عمي أو عشي- الشك من أبي عميس- في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هي في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمته في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير». 4 - روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: «كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله فيه بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يذنب ذنبا، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له، وقرأ هاتين الآيتين وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ... الآية. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... ». 5 - جاءت امرأة إلى عبد لله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها، قال عبد الله بن مغفل: لها النار، فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين «من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما» قال: فمسحت عينيها ثم مضت. 6 - هناك رواية تذكر أن ابن أبيرق عند ما بلغه أنه اتهم بسرقة الدرع عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، وعلى هذه الرواية يكون البريء يهوديا، وعلى أساس هذه الرواية يعلق صاحب الظلال على مجموعة الآيات التي نزلت بسبب
الحادثة بقوله: «هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا، ولا تعرف لها البشرية شبيها .. وتشهد- وحدها- بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله، لأن البشر- مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا- بأنفسهم- إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله ... هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية- إلا في ظل هذا المنهج- ولا تملك الصعود إليه أبدا إلا في ظل هذا المنهج كذلك. إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبا منها، ومن فعلها في الصف المسلم .. في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب، ويؤلبون المشركين، ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق، ويطلقون الإشاعات، ويضللون العقول، ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج .. والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس، ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطرا حقيقيا على تماسك الصف المسلم وتناسقه. في هذا الوقت الحرج، والخطر، الشديد الخطورة .. كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلا يهوديا اتهم ظلما بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة. والأنصار يومئذ هم عدة الرسول صلى الله عليه وسلم وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة ... !. أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة، التي لا يبلغها البشر وحدهم. بل لا يعرفها البشر وحدهم. إلا أن يقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟! ... إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة برئ، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام- وإن كانت تبرئة برئ أمرا هائلا ثقيل الوزن في ميزان الله- إنما كانت أكبر من ذلك.
كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيا كانت الملابسات والأحوال. وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية- في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس- وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات!. ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس- على هذا النحو العنيف المكشوف ... كان هناك أكثر من سبب لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج!. كان هناك سبب واضح عريض ... أن هذا المتهم «يهودي» من «يهود» يهود التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله. يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة (ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة!) يهود التي لا تعرف حقا ولا عدلا ولا نصفة، ولا تقيم اعتبارا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق!. وكان هناك سبب آخر، وهو أن الأمر في الأنصار. الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن. بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي، يبعد شبح الشقاق!. وكان هنا لك سبب ثالث، هو عدم إعطاء اليهود سهما جديدا يوجهونه إلى الأنصار، وهو أن بعضهم يسرق بعضا، ثم يتهمون اليهود! وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير!. ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله. كان أكبر من الاعتبارات الصغيرة. الصغيرة في حساب الإسلام. كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية. وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى
يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يمحص كيانها تمحيصا شديدا؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل- لتحكم بين الناس- مجردا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئا كبيرا لا يقدرون على تجاهله. واختار الله- سبحانه- هذا الحادث بذاته، في ميقاته .. مع يهودي .. من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة، التي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين! وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعدوات تحيط بهم من كل جانب، ووراء كل هذه العداوات يهود. اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه- سبحانه- للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم!. ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة، ولا للكياسة، ولا للسياسة، ولا للمهارة، في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء. ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرة! ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها!. هنا كان الأمر جدا خالصا، لا يحتمل الدهان ولا التمويه! وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله. وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره. وأمر العدل بين الناس. العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس- بل لا يعرفه الناس- إلا بوحي من الله، وعون من الله. وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة- في جميع الأمم على مدار الزمان- فيراها هنالك .. هنالك في السفوح. ويرى من تلك القمة السامقة في السفوح الهابطة صخورا متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة .. إلى آخر الأسماء والعنوانات .. فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها .. الدود .. !!. وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة- وحدها- صاعدة من السفح إلى القمة. تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج
كلمة في السياق
الفريد. أما العفن الذي يسمونه «العدالة» في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء، في مثل هذا الجو النظيف الكريم. كلمة في السياق: بدأ المقطع بتبيان مراد من مرادات الله في إنزال الكتاب- وهو الحكم- بالحق بين الناس، ثم ثنى بالنهي عن الدفاع عن الخائنين، واستمر المقطع يوضح حيثيات هذا المعنى حتى الآية التي تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليه، والتذكير بفضل الله- الذي منه إنزال الكتاب والحكمة- مرتبط بموضوعي الحكم بالحق، وعدم الدفاع عن الخائنين. فلا يليق بأحد بعد إنزال الكتاب والحكمة أن يحكم إلا بالحق، كما لا يليق به أن يدافع عن أهل الباطل. وفي الآية الأخيرة تذكير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليه، بإنزال الكتاب والحكمة، وبالعصمة التي خصه بها. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ التناجي: كلام الناس فيما بينهم وقد نفى الله الخيرية عنه إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. أي: إلا نجوى من أمر بصدقة، ففي نجواهم الخير، والصدقة تشمل الزكاة وصدقة التطوع، وإلا نجوى من أمر بمعروف، والمعروف: شريعة الله ودينه. ومن المعروف القرض وإغاثة الملهوف وكل جميل. وإلا من أمر بإصلاح ذات البين وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. أي: المذكورات ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ. أي: طلبا لمرضاة الله، وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو ترأسا فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. أي: ثوابا جزيلا كثيرا واسعا وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى. أي: ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل، وظهور الرشد وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. أي: ويتبع غير ما عليه المؤمنون من الدين، وهذا دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع غير سبيل المؤمنين، وبين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباع الإجماع واجبا كموالاة الرسول صلى الله عليه وسلم. نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى. أي: في الدنيا نجعله واليا لما تولى من الضلال، وندعه وما اختاره في الدنيا. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ. أي: في الآخرة، وَساءَتْ مَصِيراً. وأي منقلب ومأوى ومستقر شر من النار؟!
فوائد
فوائد: 1 - روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله- عزّ وجل- أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر». 2 - روى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة- وهي من المهاجرات- أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا، أو يقول خيرا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شئ مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها». 3 - وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين، قال: وفساد ذات البين هي الحالقة». رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. أي: عن الصواب، إذ ضل عن الهدى، وعطل قوانين العقل، وأفسد تصوراته، فانحرف سلوكه، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً والإناث جمع أنثى: وهي اللات والعزى ومنات، ولم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه، يسمونه أنثى بني فلان. وحتى ملحدو عصرنا يخلعون على الطبيعة كل صفات الإله، وخصائصه فمعبودهم أنثى، وحتى الوجوديون الذين يعبدون أنفسهم يبقون في إطار عبادة الإناث. ومن عبد الملائكة من العرب كان يعتبر الملائكة أنهم بنات الله. وبعضهم فسر الأنثى بأنه الذي لا روح له، من حجر أو خشب يابس. فالمشركون لا يعبدون إلا أمواتا لا حياة فيها. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً. أي: وما يعبدون في الحقيقة إلا الشيطان الخارج عن الطاعة، العاري عن الخير وهو المريد. لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام، فأطاعوه، فجعلت طاعتهم له عبادة، وكيف يعبدون الشيطان وقد جمع الله عليه صفتين: لعنة الله، وأخذه على نفسه أن يضل بني آدم. قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ. أي: طرده، وأبعده عن رحمته، وأخرجه من جواره. وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. أي: نصيبا معينا مقدرا معلوما، مقطوعا واجبا لي. قال قتادة: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ. أي: بأن يدعوهم إلى الضلالة والتزين والوسوسة. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ. أي: يلقي في قلوبهم الأماني
[سورة النساء (4): آية 120]
الباطلة، من طول الأعمار وبلوغ الآمال، ودخول الجنة بلا عمل، وتحقيق الأهداف بلا أخذ بالأسباب. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ. البتك: القطع. والتبتيك: للتكثير والتكرير. والمعنى ولأحملنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام، كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. قال قتادة والسدي وغيرهما في تفسير التبتيك: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة، وسيمر تفسيرها في سورة المائدة. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ من مثل فقء عين الحامي، وإعفائه عن الركوب، والخصاء، وهو مباح في البهائم محظور في بني آدم. والوشم، والنمص، والتنمص، والتفليج للحسن، وتغيير الشيب بالسواد، والتحريم والتحليل، والتخنث، وتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال. وأهم من ذلك تبديل فطرة الله التي هي دين الإسلام بصرف الناس عنها. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: مجيبا إلى ما دعاه إليه. فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً. أي: واضحا، وأي خسارة أعظم من خسارة الهدى في الدنيا، وخسارة الآخرة بدخول النار. يَعِدُهُمْ. أي: يوسوس إليهم أن لا جنة ولا نار، ولا بعث، ولا حساب. وَيُمَنِّيهِمْ. أي: يجعلهم يتمنون ما لا ينالون. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أي: يريهم الأمر على خلاف ما هو، وهذا هو الغرور، رؤية الإنسان نفسه على خلاف ما هو. أُولئِكَ. أي: أولياء الشيطان المستجيبون له، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً. أي: معدلا ومفرا، أو مندوحة، أو مصرفا، أو خلاصا، أو مناصا. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- حال أولياء الشيطان، ذكر حال السعداء، والأتقياء، وما لهم من الكرامة التامة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فخالفوا الشيطان، فلم يتبعوه بالكفر أو بعمل السوء سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. أي: بلا زوال ولا انتقاص وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا. أي: هذا وعد من الله، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. أي: لا أحد أصدق منه. وفائدة هذه التوكيدات مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
فوائد
فوائد: 1 - في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله- عزّ وجل- يعني قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. 2 - إن أعظم تبديل لخلق الله يؤاخذ الله عليه هو تبديل الفطرة. في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء». وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله- عزّ وجل-: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم». كلمة في السياق: رأينا أن هذا المقطع يوضح جوانب من الحق والعدل في إطار العبادة والتقوى والإيمان والعمل الصالح: وفي المجموعة الأولى رأينا أن الدفاع عن الخائنين محرم. وفي المجموعة الثانية رأينا المناجاة الخيرة، وفي المجموعة الثالثة رأينا فظاعة الشرك، وكونه من الشيطان، ورأينا معالم مظلمة من دروس الشيطان ومدرسته. وكل ذلك بيان عن الحق والعدل أو ما يتنافى معهما. ولننتقل إلى مجموعة رابعة في هذا المقطع: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ. أي: ليس الأمر على شهواتكم وأمنياتكم. وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. أي: وليس الأمر على شهوات اليهود والنصارى وأمنياتهم في ادعائهم بنوة الله، وأنهم أحبابه، وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودات وغير ذلك. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ منهم من فسر السوء هنا بالمعصية أيا كانت، ومنهم من فسرها بالمعصية التي لا تغفر وهي الشرك، مستدلا بتتمة الآية بعدها في وصف حال المؤمنين. وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً هذا وعيد للكفار، أو هو وعيد لكل من فعل ذنبا على الخلاف السابق في تفسير السوء. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
[سورة النساء (4): آية 125]
الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ تقييد العمل بالإيمان دليل لأهل السنة والجماعة على أن العمل ليس من الإيمان، بل علامة عليه، وكمال فيه. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً. أي: قدر نقير، والنقير: هو النقرة في ظهر النواة. والضمير في وَلا يُظْلَمُونَ يعود لعمال السوء، وعمال الصالحات جميعا، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلا على ذكره عند الآخر. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. أي: أخلص نفسه لله، وجعلها سالمة له لا يعرف لها ربا ولا معبودا سواه وَهُوَ مُحْسِنٌ. أي: يعمل الحسنات مع المراقبة لله وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً الحنيف: هو المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. والجواب: أنه لا أحد أحسن دينا ممن اجتمع له الإسلام والإحسان، والاتباع لملة إبراهيم. كيف لا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. الخليل في الأصل اللغوي هو الخال، وهو الذي يخالك، أي يوافقك في خلالك، أو يداخلك منزلك، أو يسد خللك والخلة هنا صفاء مودة ويفهم منها الاختصاص بتخلل الأسرار. وقد اصطفى الله- عزّ وجل- إبراهيم لمقام الخلة عنده. وفائدة ذكر هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ذكر هذا بعد ما سبقه إشارة إلى أن اتخاذ الله إبراهيم خليلا إنما كان لاحتياج الخليل إليه؛ مكافأة له على عبوديته، لا لاحتياجه تعالى إليه، لأنه منزه عن ذلك، فهو مالك كل شئ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي: عالما. قال ابن كثير في تفسيرها: أي علمه الفذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة مما تراءى للناظرين، وما توارى. فوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ قال ابن عباس: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ الآية. وخير بين الأديان فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ. قلت فأظهر
فصل: في المصائب تصيب الإنسان
الله في هذه الآية المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان. 2 - روى الإمام أحمد عن أبي بكر قال: «يا رسول الله! كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء، قال: بلى، قال: فهو مما تجزون به» وفي رواية «إنما هي المصيبات في الدنيا» وفي رواية: «المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء»، وفي رواية عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية «هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها» وفي رواية قال: «يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير» وفي رواية: «إن المؤمن يؤجر في كل شئ حتى في القبض عند الموت». وفي رواية عنها «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه». وروى سعيد بن منصور أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها». وفي الصحيحين» عنه عليه الصلاة والسلام «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته». وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قيل يا رسول الله من يعمل سوءا يجز به؟ قال: نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا، فهلك من غلب واحدته عشراته». 3 - ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» وروى الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري عن ابن عباس قال: «أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم» قال ابن كثير، وكذا روي عن أنس ابن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف». فصل: في المصائب تصيب الإنسان: رأينا في المجموعة السابقة قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فهذه الآية
[سورة النساء (4): آية 127]
والنصوص التي ذكرناها بمناسبتها تفيد أن صاحب الذنب مجازى به فإن كان مسلما ففي الدنيا، ويحتمل أن يؤخر إلى الآخرة إذا لم يرد الله له السلامة في الآخرة، وإن كان كافرا فعذابه في الآخرة، وقد يعجل الله له العقوبة في الدنيا زيادة على الآخرة، والله- عزّ وجل- يقول في سورة الشورى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال البيضاوي: «والآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر، منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه» أقول: كلام البيضاوي في التخصيص يظهر في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم معصومون عن الذنب، فالمصيبة في حقهم رفع درجات، أما في غير الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن الإنسان لا يخلو من ذنب، وقد يكون ذنبه في تقصيره في حقوق الإسلام، أو في حقوق الغير قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فالأمة بمجموعها قد تصاب بسبب قصور بعضها؛ لأن هناك مسئولية مشتركة بشكل ما بين بني الإنسان، أو بين المسلمين بعضهم مع بعض، فالأصل في المصيبة أن تكون بسبب ذنب، وهي في حق المسلم رحمة من الله- عزّ وجل- به، وهي في حق الكافر سخط من الله وعقوبة عاجلة، وهاهنا قد يلتبس الأمر على كثير من الناس، وأهل البصيرة يعرفون ويميزون، ويدركون الحكمة ويسلمون لله فعله، وإذا أراد عبد السلامة فليقم بحق الله قياما كاملا في أمر نفسه وغيره، وعندئذ يكون الابتلاء في حقه رفع درجات. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الإفتاء: تبيين المبهم، والاستفتاء: السؤال عن حكم الله فيما هو مبهم والمعنى: ويسألونك الإفتاء في النساء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ أي: الله وكتابه القرآن يفتيكم فيهن، وقوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ. معناه: والمتلو عليكم في القرآن في حق اليتامى يفتيكم فيهن، وهو إشارة إلى قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ... نفهم من هذا أن تلك الآية في أول سورة النساء تفتيكم فيما تسألون عنه، والله يفتيكم فيما يأتي فيما يحتاج إلى تبيان. ويتامى النساء اللاتي ذكرهن الله من قبل وصفهن هنا اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها (أي عن أن ينكحها)، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية رواه البخاري
فائدة
ومسلم. فمعنى اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن في الآية: أي لا تعطونهن ما فرض لهن من الميراث، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي: في أن تنكحوهن لجمالهن، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أي: اليتامى. كانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوامين بالأمور دون الأطفال والنساء. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ القسط: العدل في الميراث والمال. والخطاب للأئمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم به. فائدة: هذه الآية من غوامض الآيات، وتحتاج إلى دقة فهم، ومزيد علم، فلينتبه القارئ للكلام عنها. في أول السورة: مر قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ... ثم قال: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً .. ثم ذكر بعد ذلك أحكام اليتامى، فهذا كله مما تلي علينا وله صلة بأحكام يتامى النساء عامة، وخلاصته أن اليتيمة إن شاء وليها أن يتزوجها تزوجها بمهر مثلها، وإن رغب عنها فعليه أن يزوجها إذا جاء طلابها. وحكمها في ما سوى ذلك حكم اليتامى عامة، وقد أمر الله بالقيام بالقسط لليتامى، مفصلا أحكام ذلك في أول سورة النساء، فمن ثم علمنا أن ما ورد في أول سورة النساء يوضحه ما في هذه الآية، إذ فيها تفصيل لصفات من كان الحديث عنهن في أول السورة. ففي أول سورة النساء، حكم يتيمات النساء واليتامى عامة. وفي هذه الآية استفتاء عن أمور النساء عامة وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ فبين الله- عزّ وجل- أنه سيبين ما له علاقة بذلك، وأن ما تلاه في أول سورة النساء من أحكام اليتيمات واليتامى عامة مبين لبعض أمورهن. فما تلي من قبل، وما سينزله من بعد، كل ذلك جواب للاستفتاء في شأن النساء. نفهم من ذلك أنه ما من قضية من قضايا النساء إلا وقد أفتى الله بها فيما مر ويمر. ومن ثم تأتي الآيات الثلاث التالية توضح بعض أحكام النساء؛ تنفيذا لوعد الله في الإفتاء في شأن النساء. إذن: فالآية تعرض أن الناس يستفتون في شأن النساء، والآية تبين أن ما أنزله الله، وما ينزله فيه بيان لكل ما له علاقة بهذا الشأن. وقد لخص الله ما أنزل في شأنهن ومن
[سورة النساء (4): آية 128]
هن اللواتي بين أحكامهن في أول السورة، فهل اتضحت هذه الآية وصلة ما بعدها بها، وما محل ذلك كله في سياقها؟ الآيات الثلاث التالية: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً النشوز: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته، وأن يؤذيها بسب أو ضرب. والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها بسبب كبر سن أو دمامة، أو سوء في خلق أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك. والمعنى أنه إذا توقعت امرأة ما من زوجها نشوزا أو إعراضا لما لاح لها من مخايله وأماراته، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً. أي: فلا إثم عليهما أن يتصالحا، وذلك بأن تطيب له نفسا عن القسمة، أو عن بعضها، أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. أي: من الفرقة والنشوز، أو من الخصومة في كل شئ. أو المعنى كما أن الخصومة شر من الشرور، فإن الصلح خير من الخيور. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. أي: جعل الشح حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، ولا تنفك عنه. يعني أنها مطبوعة عليه. والمراد هنا أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها أو بشيء لها. والرجل لا يكاد يسمح بأن يقسم لها أو بشيء إذا رغب عنها، فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته ومصلحته ومنفعته. ثم رفع الله الهمة إلى الإحسان والتقوى، وفي ذلك حث على مخالفة الطبع، ومتابعة الشرع فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. أي: وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن، وأحببتم غيرهن، وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة، وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة، فإن الله عليم بإحسانكم وتقواكم وسيثيبكم عليه. فوائد: 1 - في سنن سعيد بن منصور عن عروة قال: «أنزل الله في سودة أم المؤمنين رضي الله عنها وأشباهها وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً وذلك أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة قد أسنت، ففرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم» وروى الشافعي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة، وكان يقسم لثمان. 2 - روى ابن أبي حاتم. جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قول الله- عزّ
[سورة النساء (4): آية 129]
وجل- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. 3 - عند قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يروي ابن كثير الحديث الذي رواه أبو داود: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق». وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ تمام العدل أن يسوي بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال، والمكالمة والمفاكهة والجماع وغيرها، وهذا كله غير مستطاع للإنسان مهما كان حريصا في تحري ذلك، ولذلك فرض الله العدل في النفقة والكسوة والمبيت، ولم يفرض فيما سوى ذلك. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (يعني القلب) فمثل هذا عفا الله عن العدل فيه. وأما ما فرض الله فيه العدل فواجب فقد روى الإمام أحمد وأهل السنن عنه صلى الله عليه وسلم «ومن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط». فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ المعلقة: هي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة. والمعنى: فلا تجوروا كل الجور على المرغوب عنها فتتركوها كالمعلقة. أي إذا لم يكن العدل المطلق ممكنا، فراعوا ألا تفرطوا في حق المرغوب عنها، لدرجة أن تجعلوها كالمعلقة، بحرمانها قسمها وذلك حرام إلا برضاها، أو بعدم الإقبال عليها في قسمتها وذلك ضار بها. وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. أي: وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض. أو المعنى: وإن تصلحوا بينهن وتتقوا الجور فيهن يغفر لكم ميل قلوبكم، ويرحمكم فلا يعاقبكم. وَإِنْ يَتَفَرَّقا. أي: إن لم يصطلح الزوجان على شئ، وتفرقا بالخلع، أو بتطليقه إياها، وإيفائه مهرها ونفقة عدتها. يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. أي: يغن الله كل واحد منهما من غناه، أي يرزقه إن شاء زوجا خيرا من زوجته، وعيشا أهنأ من عيشه. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً واسعا في عطائه، إذ الواسع هو الغني المقتدر، حكيما إذ أذن في الطلاق والتسريح.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: هذه هي المجموعة الخامسة في هذا المقطع وتبدأ من قوله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... ومحل هذه المجموعة في السياق من حيث إن هذا المقطع بين الله- عزّ وجل- فيه أنه أنزل كتابه ليحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بين الناس بالحق. ومن جوانب العدل والحق ما له علاقة بقضايا النساء. ومن ثم جاء الاستفتاء، وكانت الفتوى، ففي المجموعة بيان للحق والعدل في هذا الشأن ضمن محور التقوى الذي هو محور سورة النساء. ومن ثم تكرر ذكر التقوى في هذه الآيات. ثم تأتي المجموعة السادسة في هذا المقطع لتذكر بالتقوى، التي هي محور هذه السورة وتذكر بالله- عزّ وجل- وباليوم الآخر. وهذه هي المجموعة السادسة، وبعدها تأتي آية الختام في هذا المقطع. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بعد أن ختم الله- عزّ وجل- الآية السابقة بالتذكير باسمين من أسمائه، بين غناه وقدرته بذكر أن له ما في السموات وما في الأرض خلقا ورزقا وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فهذه هي الوصية الدائمة لنا، وللأمم قبلنا أن نتقي الله، كيف لا ونحن عبيده، فالمعنى: أن هذه وصية قديمة ما زال يوصي الله بها، ولستم مخصوصين بها، لأنه بالتقوى وحدها يسعد الإنسان عند الله. وكما أمر من قبلنا بالتقوى، وأمرنا بها، فقد قال لنا ولهم: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً. أي: غنيا عن خلقه، وعن عبادتهم مستحقا لأن يحمد؛ لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد. كيف وهو مالك السموات والأرض وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وإذا كان ذلك فلا تتكلوا على غيره واتخذوه وحده وكيلا لكم في شئونكم كلها، وتكرير قوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لما هو موجب تقواه والتوكل عليه، لأن الخلق لما كانوا كلهم له، وهو خالقهم ومالكهم، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصي؛ متوكلا عليه لا على غيره. وقوله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا ... وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا في هذا السياق دليل على أن رأس الأمر التوحيد والتوكل. ثم خوف الله- عزّ وجل- عباده فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ. أي: إن يشأ يعذبكم عذاب استئصال أيها الناس ويوجد إنسا آخرين مكانكم، أو خلقا آخرين غير الإنس. وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً. أي: بليغ القدرة مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا في عمله،
[سورة النساء (4): آية 135]
وحاله، وقلبه، واعتقاده وسلوكه وجهاده فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وإذا كان الأمر كذلك فما للإنسان يطلب إحداهما دون الأخرى، والتي يطلبها أخسها. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً سميعا للأقوال، بصيرا بالأفعال، وهو وعد ووعيد. وإذ استقرت معاني مالكيته وقدرته وثوابه في الدنيا والآخرة، يصدر الله أمره بالعدل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ. أي: كونوا مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا. شُهَداءَ لِلَّهِ. أي: مقيمين شهادتكم لوجه الله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. أي: ولو كانت الشهادة على أنفسكم أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. أي: ولو كانت الشهادة على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. أي: إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يمنعنكم غناه عن الشهادة عليه طلبا لرضاه، أو كان المشهود عليه فقيرا فلا يمنعكم فقره من الشهادة عليه ترحما عليه، لأن الله أولى بالأغنياء والفقراء بالرعاية للجميع والرحمة للجميع. أما أنتم فواجبكم إقامة شهادة الحق. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا. أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية والبغض أو الحب عن العدول عن الحق إلى الباطل، أو من أن تتركوا العدل إلى الجور. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً اللي: الحرف، والإعراض: الترك والمنع. والمعنى: وإن تلووا عن شهادة الحق، أو حكومة العدل، بتحريف الشهادة والحكم، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم بمنعكم الشهادة وتركها، وعدم أدائها، فإن الله خبير بعملكم فيجازيكم عليه. قال عليه الصلاة والسلام: «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها». فائدة: شهادة الإنسان على نفسه هي الإقرار على نفسه، لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق، والدعوى والشهادة والإقرار تشترك جميعها في الإخبار عن حق لأحد على أحد. غير أن الدعوى: إخبار عن حق لنفسه على الغير، والإقرار: إخبار عن حق للغير على نفسه، والشهادة: إخبار عن حق للغير على الغير، والشهادة فرض .. كلمة في سياق المقطع: بدأ المقطع بذكر الحق، وانتهى بذكر العدل وإقامة الشهادة. وبين الحكم بالحق الذي هو
كلمة في سياق المقاطع الأربعة الأخيرة
القرآن، وذكر العدل تلازم، إذ لا عدل ولا حق إلا ما وافق حكم الله. وفيما بين الحق والعدل وإقامة الشهادة تلازم، إذ يضيع الحق والعدل بلا شهود عدول، وبلا أمة تحمل الحق والعدل. وفيما بين البداية والنهاية ذكرت قضايا من الحق والعدل في شئون الحياة، وفي شئون النساء، وفي شئون العقيدة، وكل ذلك بما يتناسب مع ما تدور حوله السورة من محور العبادة والتقوى، والإيمان والعمل الصالح. كلمة في سياق المقاطع الأربعة الأخيرة: جاءت المقاطع الأربعة بعد آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً. ولو أنك تأملت المقاطع الأربعة الأولى من السورة؛ لرأيت أنها ركزت على قضايا هي أقرب إلى قضية الأمانة: الإرث، وأداء أموال اليتامى إليهم، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، إلى الصلاة وهي أمانة في عنق الإنسان. ولو أنك تأملت المقاطع الأربعة التالية لما سبق لرأيت أنها ركزت على قضايا هي أقرب إلى قضية الحكم، فكأن الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ... كانت جسرا بين ما قبلها وما بعدها، هذا مع ملاحظة أن المقاطع الأربعة الأولى فيها ما له علاقة بالحكم، وأن المقاطع الأربعة التالية فيها ما له علاقة بالأمانة. لقد جاءت المقاطع الأربعة الأخيرة بعد آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وجاء المقطع الأخير ليبدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ولينتهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ. أي: بالعدل، فالمقطع الرابع- إذن- واضح الصلة بآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وعلى هذا فإننا نفهم أن المقاطع الأربعة لها صلة بالحكم بالعدل. إن الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر، وإن الجهاد الدائم هما الطريقان الوحيدان لإقامة الحكم بالعدل. إنه ما لم يكن المسلمون صفا واحدا، ذا قيادة واحدة، مطاعة بالحق، وما لم يكن هذا الصف على استعداد دائم للجهاد، وعلى تعبئة جزئية أو كلية، فإن العدل لن يقوم، وإن الحكم الإسلامي العادل لن يقوم.
كلمة في ارتباط سياق المقاطع بمحور السورة
كلمة في ارتباط سياق المقاطع بمحور السورة: بعد مقدمة سورة البقرة التي تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، جاءت آيات خمس تأمر بعبادة الله كطريق إلى التقوى، وتنهى عن الشرك، وتحرر من الريب، وتنذر الكافرين، وتبشر المؤمنين الصالحين، فرسمت بذلك الطريق للوصول إلى التحقيق بالتقوى، ومن التقوى الاهتداء بالقرآن، والإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق في سبيل الله، وقد جاءت المقاطع الأربعة الأخيرة تعمق في موضوع التقوى، فبينت أن من التقوى طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة أولي الأمر من المسلمين، ومن التقوى القتال في سبيل الله، ومن التقوى الحكم بكتاب الله وعدم الجدال عن الخائنين، ومن الملاحظ أنه قد ورد في أواخر المقاطع الأربعة قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وكان في المقطع حديث عن الإيمان والعمل الصالح وبشارة لأهلهما وكان فيه إنذار للكافرين وفضح للمنافقين. قلنا من قبل: إن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وهي الآيات الخمس وفي امتدادات هذا المحور في السورة: ومن امتدادات هذا المحور في السورة قضايا القتال، وقضايا المرأة، وقضايا الصلاة، وقضايا الشهادة، وقد رأينا تفصيلات كثيرة لذلك في سورة النساء. ومن أبرز مظاهر هذه الصلة: أن صلاة الخوف في سورة البقرة جاءت في ثنايا الكلام عن قضايا النكاح والطلاق، والملاحظ أن صلاة الخوف في سورة النساء قد جاء بعد مقطعها المقطع الذي فيه الاستفتاء عن النساء، وفيه ذكر لمواضيع الوفاق والفراق. وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل: بأن لكل سورة من القرآن محورها في سورة البقرة، وأن السورة تفصل في هذا المحور وفي امتدادات معانيه الأشد لصوقا به؛ فهي تجذب المعاني الأشد لصوقا في المحور إلى المحور، ثم تفصل وتوضح وتكمل وتؤصل وتفرع وتذكر، وكل ذلك على ترتيب خاص، ومن خلال سياق خاص للسورة الواحدة. فأنت ترى كيف أن سورة النساء تتألف من مقاطع، وكل مقطع له وحدته، وللسورة كلها سياقها الخاص الجامع، وكل ذلك مرتبط بالمحور. فالسورة تبدأ بالأمر بتقوى الله الذي خلق النساء والرجال، وتبدأ بالأمر باتقاء الأرحام، ثم تسير في تبيان أحكام لها صلة بالأسرة، ولها صلة بالنساء والرجال،
كلمة قصيرة بين يدي المقطعين التاسع والعاشر
وتأمر بالعبادة التي هي طريق للتقوى، فإذا تحدثت عن دائرة الأسرة تنتقل إلى دائرة أوسع، ثم تعود إلى دائرة الأسرة، وكل ذلك مرتبط بالآية الأولى من السورة. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. كلمة قصيرة بين يدي المقطعين التاسع والعاشر: أثناء الكلام عن سورة البقرة قلنا عن آية البر لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا ... إنها لخصت ما مر وفصلت فيه فقد فصلت من مقدمة سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لقد فصلت ذلك بقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وختمت آية البر بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. والملاحظ أن المقطعين التاسع والعاشر في سورة النساء يبدءان بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فههنا في هذين المقطعين من سورة النساء يأتي تفصيل لما يدخل في ماهية التقوى وماهية النفاق والكفر. فهما تفصيل للمحور من سورة البقرة وارتباطاته وامتداداته إنهما تفصيل لجزء مما يدخل تحت قوله تعالى من المحور: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* فلكي تتقي عليك أن تؤمن وعليك أن تتحرر من النفاق ومن الكفر نجد فيهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا .... بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وسنرى بعد العرض للمقطعين سياقهما الخاص وارتباطهما بالمحور بشكل أكثر تفصيلا. المقطعان التاسع والعاشر يمتد هذان المقطعان من الآية (136) حتى نهاية الآية (162). وكل من المقطعين مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. والمقطعان يكملان بعضهما البعض. فهما في موضوع واحد؛ ولذلك فإن خاتمة المقطع الثاني لها صلة ببداية المقطع الأول: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ولذلك، فسنعرض المقطعين عرضا واحدا: [سورة النساء (4): الآيات 136 الى 140] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
[سورة النساء (4): الآيات 141 الى 143] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) *** [سورة النساء (4): الآيات 144 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) *** [سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) *** [سورة النساء (4): آية 150] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150)
[سورة النساء (4): الآيات 151 الى 152] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) *** [سورة النساء (4): الآيات 153 الى 159] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
كلمة في المقطعين
[سورة النساء (4): الآيات 160 الى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) كلمة في المقطعين: بعد مقدمة سورة البقرة، دعا الله الناس جميعا ليسيروا في الطريق المؤدي إلى أن يكونوا من المتقين. وذلك بالسير في طريق العبادة والتوحيد. وتحداهم بهذا القرآن. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات، بالجنة. وإذ كان الإيمان بالغيب، والإيمان بالقرآن، والكتب السابقة، ركنا من أركان التقوى. فههنا في سورة النساء التي تفصل في الطريق إلى التقوى وفي ماهيتها، يأتي الأمر بتجديد الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. ويأتي الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير المنافقين بالعذاب. هناك في سورة البقرة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وفي السورة التي تفصل في ذلك المحور، تأتي التتمة: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وفي هذا السياق يحذرنا الله- عزّ وجل- من سلوك طريق النفاق. وإذا كان أهل الكتاب مكلفين بالإيمان بالقرآن، ليكونوا من المتقين، فإنه في هذا السياق يقص الله علينا من أنبائهم، ومواقفهم ليستقر السياق على نفر منهم. لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ .... لاحظ التشابه بين هذه الصفات، وبين صفات المتقين في سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ إن السورة التي تفصل في الطريق إلى التقوى، تصف التقوى،
المعنى العام للمقطعين
وما يدخل فيها وما يخرج منها. كما تفصل في طريقها الذي هو العبادة، والتوحيد، والإيمان، والعمل الصالح. المعنى العام للمقطعين: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في شرائع الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه. ثم بين تعالى أن الذي يكفر بركن من أركان الإيمان، فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد. ثم أخبر تعالى عمن دخل في الإيمان، ثم رجع عنه ثم عاد فيه، ثم رجع، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات. فإنه لا توبة له بعد موت، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا، ولا مخرجا، ولا طريقا إلى الهدى. وبعد أن ذكر أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر بنوعيهم، من كان ابتداء كافرا، ومن كفر بعد إيمان، عقب بوصف المنافقين. ويذكرنا هذا بمقدمة سورة البقرة إذ تتكلم عن المتقين، ثم الكافرين، ثم المنافقين، فسورة النساء وهي التي تفصل في ماهية التقوى، ترسم الطريق ليكون الإنسان من أهل التقوى متطهرا من الكفر والنفاق. بدأ الكلام هنا عن المنافقين، بالأمر بأن يبشرهم رسوله والمؤمنون بالعذاب الأليم. ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. بمعنى أنهم معهم في الحقيقة. يوالونهم، ويسرون إليهم بالمودة. ثم بين تعالى سبب موالاتهم للكافرين: طلبهم بهذه الموالاة العزة، والجاه في الدنيا. ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها له وحده، لا شريك له، ولمن جعلها له من أجل أن يهيج القلوب فتطلب العزة من جنابه وحده؛ فتقبل على العبودية له. فينتظم أصحابها في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. ثم حرم الله الجلوس في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ بها فيه. وبين أننا إذا ارتكبنا النهي بعد أن وصل إلينا، ورضينا بالجلوس مع الكافرين والمنافقين في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ بها وينتقص منها، وأقررناهم على ذلك، فقد شاركناهم في الذي هم فيه، ومن شارك الكافرين في كفرهم، فقد استحق أن يشركه الله معهم في نار جهنم أبدا. ويجمع بينهم في دار العقوبة، والنكال، والقيود، والأغلال، وشراب الحميم، والغسلين. نفهم من ذلك أن مجالسة الكافرين مع إعلانهم الكفر، واستهزائهم بدين الله مع الإقرار، نفاق. ثم زاد الله المؤمنين بصيرة بالمنافقين، فوصفهم بعد أن وصفهم بمجالسة الكافرين على الحال التي مرت بنا، بأنهم يتربصون
بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى: أنهم ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفرة عليهم، وذهاب ملتهم. ولكنهم لنفاقهم، إن رأوا نصرا، وتأييدا للمسلمين، يتوددون إليهم بالتظاهر بأنهم معهم. وإن كان للكافرين إدالة على المؤمنين، كما قد يقع في بعض الأحيان، يقولون للكافرين: لقد ساعدناكم في الباطن. وما ألونا المؤمنين خبالا، وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم. يصانعون المؤمنين إن كانت لهم غلبة. ويصانعون الكافرين إن كانت لهم غلبة، ليحظوا عند الجميع، ويأمنوا الجميع. وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة يقينهم. ثم هددهم الله- عزّ وجل- بأن لا يغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليهم ظاهرا في الحياة الدنيا؛ لما لله في ذلك من الحكمة. فيوم القيامة لا تنفع الظواهر. ويوم القيامة تظهر العزة كلها للمؤمنين. ولا يكون للكافرين على المؤمنين أدنى طريق. فلا يغتر من يغتر بما قد يكون للكافرين من غلبة على المؤمنين في الحياة الدنيا. ثم زادنا الله بصيرة في شأن المنافقين، وأنهم من جهلهم بالله، وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم كما راج على الناس- حتى جرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم يوم القيامة. وأن أمرهم يروج عند الله. ولكن أنى يروج خداعهم على الله، وكيف يمر. فالله الحكم العدل، البصير، الخبير، يستدرجهم حتى في الدنيا- في طغيانهم، وضلالهم. ويخذلهم عن الحق، والوصول إليه فكذلك يوم القيامة هم مجزيون على كفرهم. ثم بين الله- عزّ وجل- صفة أخرى من صفات المنافقين. وكيف أنهم إذا عملوا أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، كان عملهم محاطا بالكسل. فإذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية في شأنها ولا يعقلون معناها. ومن ثم يقومون إليها كسالى. وهذه صفة ظاهرهم في أدائها، وأما صفة بواطنهم الفاسدة، فهي أنهم لا إخلاص لهم فيها. وإنما يؤدونها مراءاة للناس، ومصانعة لهم. ثم هم في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون. ثم زادنا الله بصيرة في شأن المنافقين، فوصفهم بالحيرة، والتردد بين الإيمان، والكفر، والمؤمنين، والكافرين. فلا هم مع المؤمنين ظاهرا، وباطنا. ولا هم مع الكافرين ظاهرا، وباطنا. بل ظواهرهم مع المؤمنين، وخاصة عند ما تكون الغلبة للمؤمنين. وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك. فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك. وذلك علامة من أراد الله إضلاله: أن لا تجد له طريقا واضحا. وبعد أن اتضحت
حال المنافقين، وأن أساس نفاقهم هو موالاة الكافرين، نهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أي: نهى عن مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. ثم حذر أنه إن فعلنا ذلك، فإننا نكون قد جعلنا الحجة قائمة علينا في استحقاقنا عقوبة الله. ثم بين الله- عزّ وجل- ما أعده من عقوبة للمنافقين، جزاء على كفرهم الغليظ. وهو استحقاقهم العذاب في أسفل النار، في توابيت من نار، مغلقة عليهم، مقفلة. وأنهم لا ناصر لهم من الله ينقذهم مما هم فيه. ويخرجهم من أليم العذاب. ثم أخبر تعالى أنه من تاب منهم في الدنيا، تاب الله عليه، وقبل ندمه إذا أخلص في توبته، وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، وبدل الرياء بالإخلاص. فعندئذ يكونون في زمرة المؤمنين. ينالهم ما ينالهم من الأجر العظيم. ثم أخبر تعالى عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم، وأنه منزه- تعالى- أن يعذب من أصلح العمل وآمن. إذ إنه تعالى يشكر من شكر له. ومن آمن علم ذلك منه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء. في هذا السياق الذي علمنا فيه الله- عزّ وجل- أنه منزه عن مقابلة الشكر والإيمان بالعذاب، وأنه يعذب من يستحق العذاب، أدبنا على ألا ندعوا على أحد إلا إذا ظلمنا، وألا نتكلم على أحد إلا إذا ظلمنا. وندبنا إلى العفو حتى في مثل هذا؛ لأن من صفاته هو، العفو مع كمال القدرة. ثم بين لنا أنه إن عاقب، لا يعاقب إلا بعد استحقاق العذاب. فليحذر أحد عقوبته العادلة، إن كفر أو نافق. ثم يعود السياق إلى الكلام عن الكفر- الذي ينقض الإيمان- وعن أهله. إذ المقطع كله في قضية الإيمان، وما ينقضها من كفر، أو نفاق. فتوعد الله الكافرين به- تعالى- وبرسله. وخاصة الذين يفرقون بين الله ورسله في الإيمان. فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض بمحض التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، كحال اليهود. إذ كفروا بعيسى، وكحالهم وحال النصارى إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء. فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى الأرض. فمن رد نبوة واحد منهم، فقد رد نبوة الكل. لذلك وصف الله- عزّ وجل- أمثال هؤلاء بأن كفرهم محقق لا شك فيه، وأنهم كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم
فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه. وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته. فإنهم في مقابل هذه الاستهانة، يعاقبهم الله بالعذاب المهين في الآخرة. أما المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبكل الرسل، فقد أعد الله لهم الجزاء الجزيل، والثواب الجليل، والعطاء الجميل على ما آمنوا بالله ورسله، ووعدهم المغفرة، والرحمة. ولنلاحظ في هذا المقطع كيف أنه بدأ بالدعوة إلى تحقيق الإيمان وبين الكفر وجزاءه. وهدد المنافقين، وبين صفاتهم ثم بدأ يناقش نوعا من الكافرين. وهم الذين يكفرون ببعض الرسل دون بعض. وأول من ينطبق عليهم هذا الوصف هم اليهود والنصارى. ومن ثم يبدأ المقطع يناقش هؤلاء، ويسفه ما هم عليه كما سنرى إن شاء الله- والمهم هنا أن نلاحظ كيف أن هذين المقطعين اللذين هما في حكم المقطع الواحد، منصبان على قضية الإيمان التي محلها في التقوى ما عرفناه في أول سورة البقرة. فلنتذكر أن محور النساء هو تبيان ماهية التقوى. لكي يكون إدراكنا للسياق الجزئي، والعام، صحيحا. ولنرجع إلى استعراض المعاني العامة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا مكتوبا من السماء مباشرة. وإنما سألوه هذا على سبيل التعنت والكفر، لا رغبة بالآية من أجل الإيمان، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآياته ظاهرة واضحة. فبين الله لرسوله أن سؤالهم هذا من باب التعنت، لا من باب طلب الدليل. وأن هذه طبيعتهم المتوارثة. فها هم مع كل ما رأوا من الآيات مع موسى عليه السلام، طالبوه أن يريهم الله جهرة، فعوقبوا. وعبدوا العجل بعد كل البينات، فعوقبوا، وعفي عنهم. وأخذت عليهم مواثيق غليظة في أوضاع معجزة. فنقضوا المواثيق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء، ووصفوا أنفسهم بقسوة القلب وتغليفه، فرارا من الموعظة والطاعة. وادعوا أنهم قتلوا المسيح ابن مريم. ورموا أمه الطاهرة بالزنا. هذه هي طبيعتهم الظالمة. فهل يستغرب موقفهم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الطبيعة، وبسبب من ظلمهم هذا، وبسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب أكلهم الربا، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل، شدد الله عليهم في الحياة الدنيا، وسيعاقب الكافرين منهم في الآخرة عقابا أليما. وحتى لا يظن ظان أنهم ليس فيهم إلا من هذا شأنه، استثنى الله من هذه الأوصاف، الراسخين في العلم منهم،
المعنى الحرفي
والمؤمنين بكل وحي أنزله الله، والمقيمين الصلاة، والمؤتين الزكاة، والمؤمنين بالله، واليوم الآخر. فهؤلاء سيؤتيهم الله أجرا عظيما. إن السياق في هذه المجموعة الأخيرة انصب باتجاهه الرئيسي، على هذه المعاني. ولكنه خلال ذلك، تحدث عن أشياء كثيرة. عن رفع المسيح إلى السماء. وعن نزوله قبيل يوم القيامة. وعن أشياء أخرى. وكما بدأ السياق بالأمر بالإيمان للمؤمنين. فقد ختم بوصف طائفة من أهل الكتاب متحققة بأركان التقوى. ولنتذكر مقدمة سورة البقرة، التي حددت صفات المتقين، والكافرين، والمنافقين. لنرى كيف أن هذا المقطع بيان وتفصيل لمحل الإيمان في التقوى، وما ينافيه. ففي أول سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فلنقارن هذا بآخر آية في هذا المقطع: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ولنتذكر الآية الأولى في هذا المقطع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ... لنرى بوضوح كيف أن سورة النساء شرح لقضية التقوى وتفصيل لها. وإذا كان الإيمان هو الركن الرئيسي في التقوى. فقد انصب الكلام في المقطعين عليه. وستتضح الأمور لنا أكثر أثناء الشرح الحرفي لهذين المقطعين. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. أي: محمد وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ أي: القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. أي: جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، أي كل الكتب، والخطاب للمسلمين. والمعنى اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه، وجددوه. قال ابن كثير: وقال في القرآن: نزل لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم. وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أي: ومن يكفر بشيء من ذلك. فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي: فقد
[سورة النساء (4): آية 137]
خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد، لأن الكفر بأي ركن أو بأي مما يدخل في كل ركن من أركان الإيمان كفر بالكل. والملاحظ أنه قد ذكرت خمسة أركان من أركان الإيمان هنا، لأن الركن السادس- وهو الإيمان بالقدر- جزء من مضمون الإيمان بالله، لأن الإيمان بالقدر إيمان بعلم الله الأزلي، وإرادته الأزلية، وإبراز ما أراده بقدرته، وكون ذلك مسجلا في اللوح المحفوظ وكل ذلك يدخل في الإيمان بالله. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم المنافقون آمنوا في الظاهر، وكفروا بالسر مرة أخرى، وازدياد الكفر منهم، ثباتهم عليه إلى الموت، أو أنهم آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، على حسب الأحوال من ظهور للإسلام وأهله، أو ظهور على الإسلام والمسلمين. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بسبب كفرهم الذي لا يغفره الله. وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. أي: طريقا إلى النجاة، أو إلى الجنة بسبب كفرهم مرة بعد مرة. وقد استدل الإمام علي بهذه الآية وكون الكفر بعد الإيمان ذكر مرة بعد مرة ثلاث مرات: أن المرتد يستتاب ثلاثا. وذكر المنافقين بعد هذه الآيات يشعر بأن هذه حال من أحوال المنافقين. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ. أي: أخبرهم، ووضعت (بشر) مكان أخبر تهكما بهم على طرائق العرب في الخطاب بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أي: مؤلما. ثم وصف الله المنافقين مبينا حالهم بتوسع، كما فعل في مقدمة سورة البقرة؛ لخفاء حال المنافقين، ولكثرة خطرهم وعظمه. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قلوبهم معهم، وعواطفهم معهم، ويعطونهم نصرتهم، ويستنصرون بهم، ويعطونهم طاعتهم ومودتهم. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ. أي: إن المنافقين يوالون الكفرة طلبا منهم للمنعة والنصرة والجاه، وظهور هذه المعاني في عصرنا بارز جدا ويعطيها تفسيرها العملي، ففي عصرنا نجد من مظاهر الولاء، انتساب أبناء المسلمين للأحزاب الكافرة، وإعطاء قيادتها الكافرة الولاء والطاعة والنصرة بغية تحصيل شئ من جاه الدنيا ومتاعها. ولذلك بين الله- عزّ وجل- أن العزة له وحده ليقطع دابر مثل هذه الأفكار. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعطي منها من يشاء، ويمنعها من يشاء. فلا يطلبن المؤمن العزة إلا من الله. وأي قيمة لعزة في الدنيا تعقبها ذلة أبدية في الآخرة، ولأن المجالسة مظهر من مظاهر الولاء، وطلب العزة، ولكون هذا مرتبطا بقضية النفاق، جاءت الآية وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ. أي: في القرآن، وهو إشارة إلى ما ورد في سورة الأنعام، مما سيأتي معنا أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
[سورة النساء (4): آية 141]
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. أي: حتى يشرعوا في كلام غير الكفر والاستهزاء بالقرآن، والخوض: هو الشروع. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. أي: في الوزر إذا مكثتم معهم. ولم يرد به التمثيل من كل وجه، فإن خوض المنافقين فيه كفر، ومكث هؤلاء إن رافقه رضى ومشاركة فهو كفر، وإن رافقه كراهة وعدم مشاركة فهو معصية. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لاجتماعهم في الكفر والاستهزاء، فكما شارك المنافقون الكافرين في الكفر، كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم. وقد أفهمت الآية أن من أخلاق المنافقين مجالسة الكافرين ومشاركتهم ومؤانستهم، والسماع منهم كلام الكفر، ومشاركتهم إياهم بالاستهزاء بالإسلام. ثم زادنا الله بصيرة بالمنافقين بمزيد من أوصافهم. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق، أو ينتظرون زوال دولتكم وظهور الكفرة عليكم، وذهاب ملتكم. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي: نصر وتأييد وظفر، قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. أي: ألم نكن مظاهرين لكم، ونعطيكم نصرتنا، ونؤيدكم. يقولون ذلك توددا ومصانعة للمؤمنين. وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ. أي: حظ من الإدالة على المؤمنين لحكمة يريدها الله. قالُوا. أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. أي: قالوا للكافرين كان بإمكاننا أن نغلبكم، ونتمكن من قتلكم، ولكنا أبقينا عليكم، وكان بإمكاننا أن نشجع المؤمنين عليكم، ولكنا ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت قلوبهم به ومرضوا عن قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهم يمنون على الكافرين في خذلانهم المؤمنين ساعة الشدة، ولو أنهم ساعدوهم لانتصر المؤمنون. ومعنى الاستحواذ: الاستيلاء والغلبة. هذا هو حال المنافقين، مصانعة للمؤمنين وكلام لهم بما يناسب، ومصانعة للكافرين، وتكليم لهم بما يرضيهم. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: يا أيها المؤمنون والمنافقون إن الله سيحكم بينكم يوم القيامة، فيدخل المنافقين النار، والمؤمنين الجنة، فلا تغتروا أيها المنافقون بكونكم تتظاهرون بأنكم مع أهل الإيمان، فلن ينفعكم هذا التظاهر يوم القيامة. ولا تحزنوا أيها المؤمنون من مودة المنافقين للكافرين، فحسابهم على الله. وإذا كان الحكم لله خالصا ظاهرا وباطنا يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. أي: يوم القيامة، فلا غلبة يومئذ، ولا نصرة، ولا حجة لكافر على مؤمن. ويحتمل أن يكون المعنى: أنه وعد من الله للمسلمين أن الحجة لهم دائما من الله على الكافرين يلهمهم الله إياها في أي مناقشة أو جدال. ويحتمل أن
[سورة النساء (4): آية 142]
يكون المعنى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم تسليط استئصال بالكلية وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة. وعلى هذا يكون النص ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه، وانتظروه، من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين، فاستأصلوهم. وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر. ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه. كما استدل بعضهم بالآية على عدم جواز شهادة الكافر على المسلم. وقد سمى الله في الآية ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأنهم، لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء. وسمى ظفر الكافرين نصيبا تخسيسا لحظهم، لأنه لمظة من الدنيا يصيبونها. إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ. أي: يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان، وإبطان الكفر، والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، أو المعنى: يخادعون أولياء الله وهم المؤمنون، فجعل خداع أوليائه خداعا له، تشريفا للمؤمنين من باب «من آذى وليا فقد آذاني» وَهُوَ خادِعُهُمْ. أي: وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء، والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في العقبى. وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى. أي: قاموا متثاقلين كراهية الصلاة. أما مجرد الغفلة فقد يبتلي بها المؤمن يُراؤُنَ النَّاسَ. أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، والمراءاة مفاعلة من الرؤية، لأن المرائي يريهم عمله، وهم يرونه استحسانا. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. أي: ولا يصلون أصلا إلا قليلا، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا نادرا. ولو كان هذا الذكر القليل خالصا لله لكان كثيرا، ولكنه ليس خالصا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. أي: مرددين، يعني ذبذبهم الهوى والشيطان بين الإيمان والكفر، فهم مترددون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين، أي: يدفع فلا يقر. والمنافقون مترددون بين الكفر والإيمان. لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ. أي: لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين، ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون كافرين، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. أي: فلن تجد له طريقا إلى الهدى، أو فلن تجد له طريقا ما أصلا، بل هو متقلب، كل يوم هو في طريق.
فوائد
فوائد: 1 - رأينا أن السمة الأولى للمنافقين هي أن ولاءهم منحرف. وقد ذكرت الآيات السابقة مجموعة من مظاهر هذا الولاء: مجالسة الكافرين، ومشاركتهم فيما هم فيه من الهجوم على الإسلام، والاستهزاء به، ومن ذلك مودتهم الخفية للكافرين. ومن ثم نجد النداء الثاني في المقطع الثاني يتوجه لأهل الإيمان بالحذر من موالاة الكافرين كما سنرى. 2 - روى ابن مردويه أن ابن عباس كان يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه، يغفر له، ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ... » وروى الإمام مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» رواه مسلم وغيره. 3 - وروى الإمام مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (أي المترددة بين الفحلين لا تدري أيهما ينزو عليها) بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيهما تتبع». 4 - روى أبو يعلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عزّ وجل». 5 - قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق والكافر، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلم إلي، فإني أخشى عليك، وناداه المؤمن أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحظي له ما عنده، فما زال يتردد بينهما، حتى أتى عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. نقول: 1 - رأينا أن المنافقين يوالون الكافرين رغبة في العزة ولقد قال الله تعالى: أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وتعليقا على ذلك يقول صاحب الظلال: «والله- عزّ وجل- يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله- عزّ وجل- بالعزة، فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه. هكذا تكشف اللمسة الأخيرة عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى، وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة لله وحده، فهي تطلب عنده، وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين: ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها ... العبودية لله ... فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى، وأشخاص شتى، واعتبارات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شئ من العبودية لكل أحد، ولكل شئ ولكل اعتبار. وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال .. ولمن شاء أن يختار .. وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو مؤمن بالله. وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام، ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن ... إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين .. وإلا فإن الله غني عن العالمين!. ومما يلحق بطلب العزة عند الكافر وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر، واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة، والآشوريين، والفينيقيين، والبابليين، وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية. وروى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر ابن العباس، عن حميد الكندي عن عبادة بن نسي، عن أبي ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا، فهو عاشرهم في النار». ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة، وأن الأمة في الإسلام هي
المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ. في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المجتمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال!. 2 - قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ عند قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يقول الألوسي: «والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار، لا عاجزون كما في مكة، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك، وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة. وقال شيخ الإسلام خواهرزاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر، أو يستحسنه، أما إذا لم يكن كذلك، ولكن أحب الموت أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى في سورة يونس: رَبَّنَا اطْمِسْ الآية يظهر له صحة هذه الدعوى. وهو المنقول عن الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ، أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان، موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما روي من الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يده ونظر إليه ثلاث مرات وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس- كما قالوه- كفرا. واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود، وإبراهيم، وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى، هو العلم بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم، لا الإعراض بالقلب أو الوجه فقط، وعن الجبائى أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه.
ولنرجع إلى السياق
ولنرجع إلى السياق: أمر الله بالإيمان وثبت عليه، وحذر من الكفر، ونفر من المنافقين الذين يكفرون بعد إيمان، ثم أخبر بما أعده للمنافقين، ثم وصفهم ليعرفوا وليحذروا، وكانت الصفة الرئيسية للمنافقين، انحراف ولائهم، ومن ثم يأتي المقطع الثاني ليبدأ بالنهي عن اتخاذ الكافرين أولياء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بالمصاحبة أو بالمصادقة، أو بالمناصحة وإسرار المودة إليهم، أو بإفشاء أحوال المؤمنين إليهم، أو بطاعتهم، أو بنصرتهم، أو غير ذلك من مظاهر الولاء. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة بينة في تعذيبكم. دلت الآية على أن مجرد الولاء، ولو رافقه إيمان يستحق به صاحبه التعذيب، والسلطان في الآية الحجة. قال ابن عباس: «كل سلطان في القرآن حجة» والسند إليه صحيح. إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. أي: في أسفل النار. وقال بعضهم: النار دركات كما أن الجنة درجات، والمنافقون في القعر. وقد نقل عن الصحابة وصف حالهم في هذا القعر، فقال أبو هريرة: الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد من تحتهم ومن فوقهم. وقال ابن مسعود: في توابيت من نار تطبق عليهم. قال النسفي: والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وإنما كان المنافق أشد عذابا من الكافر، لأنه أمن السيف في الدنيا، فاستحق الدرك الأسفل في العقبى تعديلا، ولأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. أي: يمنعهم من العذاب، أو ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. أي: من النفاق وَأَصْلَحُوا. ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في النفاق. أي وأصلحوا العمل. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ. أي: وثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فبدلوا الرياء بالإخلاص، وأصبحوا لا يبتغون بطاعتهم إلا وجه الله. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في الدارين، هم أصحابهم، وهم رفاقهم، وهم زمرتهم يوم القيامة. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فليسارع المنافقون إذن إلى التوبة والإصلاح والاعتصام بالله، والإخلاص له ليشاركوا المؤمنين فيه. وليستخرج توبة المنافقين، وليرفع همة المؤمنين. قال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ هذا استفهام تقريري معناه: إن الله لا يعذب المؤمن الشاكر، والإيمان معرفة المنعم والشكر
[سورة النساء (4): آية 148]
الاعتراف بالنعمة، والكفر بالمنعم والنعمة عناد، فلذا استحق الكافر العذاب. وقدم في الآية الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه، وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكرا متصلا، فكان الشكر متقدما على الإيمان. ومعنى النص: أي شئ يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً يعلم من آمن وشكر، ومن نافق أو كفر، ويشكر لمن شكر، بمعنى أنه يجزي على الشكر، أو أن شكره لعبيده هو أنه يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب. وبعد أن أمرنا الله في هذين المقطعين بالإيمان، وتحرير الولاء. ورفع همتنا إلى أن نجمع مع الإيمان الشكر، لأن الشكر أعلى درجات العبودية يحذرنا فيما يلي من خلق يتنافى مع الإيمان، وهو الجهر بالسوء فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. أي: إلا جهر من ظلم، استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم، والسوء كله لا يحبه الله سواء كان جهرا أو غير جهر، ولكن الجهر أفحش. وجهر المظلوم بالسوء إما بدعائه على الظالم، وذكره بما فيه من السوء، أو رده عليه بمثل ما ظلمه به، أو الكلام عليه ضمن حدود مظلمته للناس، ولا شك أن رفع الدعوى على الظالم، وذكر حيثيات الظلم جائز بإجماع. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. أي: سميعا لشكوى المظلوم، عليما بظلم الظالم، ثم حث تعالى على العفو، وألا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق له الجهر به، حثا على الأفضل فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. أي: إن تظهروا خيرا أو تعملوا الخير سرا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ. أي: تمحوه عن قلوبكم، وتعرضوا عن الرد على من ظلمكم. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً. أي: أنه لم يزل عفوا عن الآثام مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنته، وذكر عفوه مع قدرته دليل لمن ذهب على أن إبداء الخير وإخفاءه، والعفو عن السوء، كل ذلك في موضوع العفو. فمن عفى فقد أظهر خيرا. ومن لم يعف فقد أخفى خيرا، ومن عفا عن السوء كله، فإنه في هذا كله يكون متخلقا بأخلاق الله الكاملة. وفي الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه». دلت هاتان الآيتان على أن من أخلاق المؤمنين العفو عمن ظلمهم، وترك السوء، فالآيتان في سياقهما تدلان على أن حفظ اللسان والعفو، من القضايا الرئيسية في موضوع الإيمان، لأن السياق كله في هذا الموضوع.
فائدة وتعليق
فائدة وتعليق: - فسر ابن عباس قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. فقال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له. وقال الحسن البصري: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه. «وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه». وقال عليه الصلاة والسلام: «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» وقال مجاهد في الآية: «هو الرجل ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن» وروى البزار أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لي جارا يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق، فأخذ الرجل متاعه، فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال مالك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم اخزه، قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبدا» فهذه مجموعة نقول تفسر قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. وعلى كل حال فالظلم تدركه الفطرة وتحدده النصوص ومن ظلم يحل له أن يتكلم بما ظلم به. ولقد علق صاحب الظلال على هذه الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بقوله: «إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسية. ورب كلمة عابرة لا يحسب قائلها حسابا لما وراءها؛ ورب شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فردا من الناس .. ولكن هذه وتلك تترك في نفسية المجتمع وفي أخلاقه وفي تقاليده وفي جوه آثارا مدمرة؛ وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة. والجهر بالسوء من القول- في أية صورة من صوره- سهل على اللسان ما لم يكن هناك تحرج في الضمير وتقوى لله. وشيوع هذا السوء كثيرا ما يترك آثارا عميقة في ضمير المجتمع .. كثيرا ما يدمر الثقة المتبادلة في هذا المجتمع، فيخيل إلى الناس أن الشر قد صار غالبا. وكثيرا ما يزين لمن في نفوسهم استعداد كامن للسوء، ولكنهم يتحرجون منه، أن يفعلوه لأن السوء قد أصبح ديدن المجتمع الشائع فيه، فلا تحرج إذن ولا تقية، وهم ليسوا بأول من يفعل! وكثيرا ما يذهب استقباح السوء بطول الألفة. فالإنسان
[سورة النساء (4): آية 150]
يستقبح السوء أول مرة بشدة، حتى إذا تكرر وقوعه أو تكرر ذكره، خفت حدة استقباحه والاشمئزاز منه، وسهل على النفوس أن تسمع- بل أن ترى- ولا تثور للتغيير على المنكر. ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء ويشاع عنهم- وقد يكونون منه أبرياء- ولكن قالة السوء تنتشر؛ وحين يصبح الجهر بها هينا مألوفا، فإن البريء قد يتقول عليه مع المسئ ويختلط البر بالفاجر بلا تحرج من فرية أو اتهام، ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح، والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء. إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية- سبا وقذفا- وينتهي انحلالا اجتماعيا، وفوضى أخلاقية، تضل فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفرادا وجماعات، وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض، وقد شاعت الاتهامات، ولاكتها الألسنة بلا تحرج. لذلك كله كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء. وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم، يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم، في حدود ما وقع عليه منه من الظلم!». ثم يعود السياق إلى قضية الإيمان ليقرر كفر من كفر بالله، وكفر من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، ويناقش طبقة من هؤلاء، ويعريهم فلنر تتمة المقطع: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ دلت هذه الآية على أن الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بالله ورسله جميعا. وقد كفر اليهود بعيسى ومحمد عليهما السلام، وكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم. وهناك من يكفر بكل رسول لله أصلا. ومنهم من لا يؤمن حتى بوجود الله، ولكن السياق هنا منصب على من يكفر ببعض رسل الله. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أي: طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر، ولا واسطة بينهما. وفي هذا رد على كل من يعز عليه أن يسمى كافرا وفي الوقت نفسه لا يعطي قضية الإيمان كل لوازمها. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا. أي: أولئك هم الكاملون في الكفر، وكفرهم حق ثابت لا شك فيه. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. أي: وهيأنا للكافرين عذابا مذلا في الآخرة. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وليس هذا- بعد البعثة المحمدية- لأحد إلا لمن تابع محمدا صلى الله عليه وسلم، فأمته تؤمن بكل نبي، وتؤمن بكل كتاب. أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. أي: الثواب الموعود لهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي: غفورا لذنوبهم إن كان لهم ذنوب، رحيما بهم في
[سورة النساء (4): آية 153]
الدنيا والآخرة. هذه هي إحدى قواعد الفهم لموضوع الكفر والإيمان، وإذ تتقرر القاعدة يبدأ السياق يبين ظلم اليهود الذين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ السائلون هم اليهود. قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة. قال ابن جريج: «سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان، بتصديقه بما جاءهم به» وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والظلم للحقيقة. فلم يطلبوا آية من أجل أن يتأكدوا من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات كثيرة ولكنها طبيعتهم التي سيعرض السياق حقائق عنها ليؤكد أن كفرهم وتعنتهم لا سبب له إلا ظلمهم. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ هذا جواب شرط مقدر، معناه: إن استكبرت ما سألوه فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، والسؤال من آبائهم في أيام موسى عليه السلام، وأسند إليهم لأنهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم. وما هو هذا السؤال الأفظع؟ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. أي: عيانا، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ. أي: فأخذهم العذاب الهائل، أو النار المحرقة بسبب ظلمهم بالتحكم على نبيهم في الآيات، وتعنتهم في سؤال الرؤية لا بمجرد سؤال الرؤية، فقد سألها موسى ولكنه سألها إيمانا وشوقا وهم علقوا الإيمان عليها، ومع هذا فقد أحياهم الله بعد موتهم وعفا عنهم. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ. أي: ثم اتخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا المعجزات التسع، وهي معجزات في غاية الوضوح ومع ذلك عبدوا العجل. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ تفضلا ولم نستأصلهم بل أمرهم الله أن يقتلوا أنفسهم، أو أن العفو أخروي لأن العقوبة الدنيوية قد حصلت. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة ظاهرة على من خالفه، فانحرافهم مع هذا وفتنتهم أثر عن طبيعتهم القاسية فلا يستغرب انحرافهم وظلمهم، وتعنتهم الحالي هو امتداد لذاك. وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ. أي: بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه. قال ابن كثير: «وذلك حين امتنعوا عن الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام، رفع الله على رءوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا ... ». وهذا مظهر آخر من مظاهر ظلمهم إذ احتاج أخذ الميثاق عليهم إلى رفع الجبل فوقهم وتهديدهم. ثم أن يكون مع مثل هذا نقض للميثاق فما أفظع هذه الطبيعة؟. وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أمروا أن يدخلوا باب القدس سجدا، أي مطأطئين الرءوس عند دخولهم، فخالفوا ما
[سورة النساء (4): آية 155]
أمروا به، وعصوا فهي طبيعتهم، العصيان والمخالفة. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ. أي: أوصيناهم بحفظ السبت، والتزام ما حرم الله عليهم، فلا يتجاوزون الحد فيه، فخالفوا وعصوا واحتالوا على ارتكاب ما حرم الله عليهم، تلك طبيعتهم. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. أي: عهدا شديدا، فنقضوا مواثيقهم كلها بدليل قوله تعالى بعد ذلك: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. أي: فبنقضهم العهود التي أخذها الله عليهم، والجواب والعقوبة سيأتيان بعد خمس آيات كما سنرى. وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ. أي: وكفرهم بحججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام. وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. أي: بغير سبب يستحقون به القتل، والرسل لا يرتكبون ما يستحقون به القتل، ولكن حتى لا يتوهم متوهم ذكرت، وما قتلوهم إلا لشدة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جمعا غفيرا من الأنبياء عليهم السلام كما سنرى في قسم الفوائد. وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ. أي: قلوبنا مغطاة محجوبة لا يتوصل إليها شئ من الذكر والوعظ وهو كالاعتذار، وما أقبحه من اعتذار. لذلك رد الله عليهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ. أي: بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. أي: إلا قليلا منهم يؤمنون، كعبد الله بن سلام وأمثاله. وَبِكُفْرِهِمْ كرر ذكر الكفر، لتكرار الكفر منهم، كلما بعث رسول. وهنا يذكر الكفر بمناسبة كفرهم بعيسى عليه السلام. وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. أي: كذبا كبيرا، إذ رموها بالعظائم، فاتهموها بالزنى. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. فهم لم يكتفوا بالكفر بل تبجحوا بادعاء قتله. ووصف المسيح بأنه رسول الله إن كان من كلامهم، فإنه يكون من باب الاستهزاء، ويحتمل أن الله وصفه بالرسول، ويكون هذا ليس من كلامهم. وقد نفى الله- عزّ وجل- قتله أو صلبه بقوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وقتلوا وصلبوا شبيهه. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. أي: في عيسى عليه السلام، والاختلاف فيه إن كان أثناء القتل، أو قبله، يكون المختلفون اليهود، وإن كان فيما بعد فالمختلفون النصارى. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. أي: لفي شك من شأنه وقتله. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. أي: ما لهم بالمسيح من علم قاطع، ولكنهم يتبعون الظن، وأنى يجوز الظن في باب العقائد. وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. أي: وما قتلوه حقا، أو ما قتلوه متيقنين. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. أي: بل رفع الله المسيح إلى السماء. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً. أي: مانع الجناب، لا يرام جنابه ولا
[سورة النساء (4): آية 159]
يضام من لاذ ببابه. حَكِيماً. أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها أو يفعلها، ومن ذلك رفع المسيح وبمناسبة ذكر المسيح عليه السلام يقول الله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يحتمل معنيين، الأول: أي وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى عليه السلام وبأنه عبد الله ورسوله، وذلك إذا عاين قبل أن تزهق روحه، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف، والمعنى الثاني وهو الراجح: وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله، في آخر الزمان. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم غلوا فيه. ويعود الآن السياق المبدوء بقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، ليكمل الآن فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. قال ابن كثير: وهذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم، تشديدا منهم على أنفسهم وتضييقا وتنطعا، ويحتمل أن يكون شرعيا. والمهم هنا أن نعرف أن قوله تعالى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ هي التي يتعلق بها كل ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ .. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وبمنعهم عن طريق الله خلقا كثيرا، أو صدا كثيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ كان الربا محرما عليهم، كما حرم علينا، وكانوا يتعاطونه وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة، وسائر أنواع التعامل التي حرمها الله. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أي: في الآخرة. لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ. أي: الثابتون في الدين الذين لهم قدم راسخة في العلم النافع من أهل الكتاب. قال ابن كثير: أنزلت في عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد وزيد بن سعية، وأسد بن عبيد، الذين دخلوا في الإسلام، وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. وَالْمُؤْمِنُونَ. أي: من المهاجرين والأنصار، ومن على قدمهم، فأولئك من أهل الكتاب وهؤلاء. يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. أي: القرآن. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أي: بسائر الوحي والكتب. دل هذا على أن الراسخين في العلم من أهل الكتاب إن كان عندهم إنصاف، فإن علمهم سيهديهم إلى الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ. أي: وأخص المقيمين الصلاة، دل على أن إقامة الصلاة عامل عظيم من
فصل في رفع المسيح عليه الصلاة والسلام
عوامل حصول الإيمان. وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ زكاة الأموال، وزكاة الأنفس. وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مع إيمانهم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، هؤلاء ممن هذه صفاتهم، الإيمان بالكتب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالله واليوم الآخر يعدهم الله. أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً. وبهذا ينتهي هذان المقطعان بتبيان ما أعده الله لأهل الإيمان من الأجر العظيم، بدأ المقطع الأول بالأمر بالإيمان، وختم المقطع الثاني بجزائه ومقتضياته، وخلال ذلك كان نقاش وتربية، وذكر مناف، وتطهير مما يناقض. وتعريض بأهل الكفر والعناد، ورفع للمسلم إلى ذروة التقوى بالتطهير عما ينافيها وذلك محور سورة النساء كلها كما رأينا أكثر من مرة، ولأن المقطعين في حكم المقطع الواحد دمجنا الكلام عنهما. فصل في رفع المسيح عليه الصلاة والسلام: سنعقد فصلا في أواخر تفسير المقطع الثاني عشر نتحدث فيه عن الأناجيل، والتثليث، وهناك سنرى القيمة التاريخية للأناجيل الأربعة المعتمدة عند نصارى اليوم، وسنرى أنها من وجهة النظر التاريخية والنقدية، مما لا يمكن أن تقوم به حجة، ومع إجماعها على أن المسيح عليه الصلاة والسلام قد صلب، إلا أنها متناقضة مع بعضها في كثير من الحيثيات فإنجيل متى يقول على لسان يهوذا الأسخريوطي. «الذي أقبله هو هو أمسكوه فللوقت تقدم إلى يسوع وقال السلام يا سيدي وقبله .... حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه». وفي إنجيل يوحنا: «فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون أجابوه يسوع الناصري قال لهم يسوع أنا هو وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض». فرواية إنجيل متى تقول: إن يهوذا دلهم عليه من خلال القبلة ورواية إنجيل يوحنا تقول: إن المسيح عليه السلام هو الذي عرفهم على نفسه. وإذا كانت هذه الأناجيل كما سنرى ليس واحدا منها ثابت النسبة لواحد من تلاميذ المسيح عليه الصلاة والسلام فلذلك لا نحتاج إلى جهد عقلي كي نستدل على أنها غير قابلة للاعتماد. وبإجماع من كتب ودرس فإن المرحلة الأولى من النصرانية قد طمست
طمسا كاملا، وكل ذلك سنراه في الفصل الذي وعدنا به يقول شارل جنيبير أستاذ المسيحية ورئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس في كتابه (المسيحية: نشأتها وتطورها): (وهكذا لم نعد نستطيع أن نميز في وضوح الجوانب التاريخية لشخصية عيسى ولم نعد نملك المراجع اللازمة لتحديد أحداث حياته بدقة). ويقول عن موضوع دعوى الصلب: (ومن المرجح كذلك أن الأحداث الخاصة بالصلب كانت قد فقدت الكثير من وضوحها في ذاكرة المؤمنين قبل تحرير الأناجيل وأنها تأثرت في مخيلتهم بالأساطير المختلفة الشائعة ثم إنها فسرت تفسيرات غيرت وجددت في جوانب كثيرة أساسية منها). أمام هذا كله، فإن أي باحث يجد نفسه مساقا من الناحية التاريخية أن ينقل رواية إنجيل برنابا، لأنها الرواية الوحيدة المنسوبة لتلميذ مباشر من تلاميذ المسيح عليه السلام من الثابت أنه قد اختلف مع بولس الذي إليه مرجع المعتقدات النصرانية الحالية، وإن رواية برنابا عليه السلام لواضحة في أن المسيح عليه الصلاة والسلام قد رفع وأن الذي صلب هو يهوذا الخائن الذي ألقي عليه شبه المسيح. ونحن سننقل رواية برنابا كاملة في هذا الشأن، لا للاستناد عليها في إثبات رفع المسيح عليه الصلاة والسلام، فهذه قضية بت فيها القرآن وانتهى الأمر، لكنا ننقلها كيلا يماحك مماحك في أن النصارى واليهود مجمعون على الصلب، وأنهم لا يشكون في ذلك، بينما القرآن أثبت شكهم. يقول إنجيل برنابا: «الفصل الرابع عشر بعد المائتين» وخرج يسوع من البيت ومال إلى البستان ليصلي فجثا على ركبتيه مائة مرة معفرا وجهه كعادته في الصلاة ولما كان يهوذا يعرف الموضع الذي كان فيه يسوع مع تلاميذه ذهب لرئيس الكهنة وقال: إذا أعطيتني ما وعدت به أسلم هذه الليلة ليدك يسوع الذي تطلبونه لأنه منفرد مع أحد عشر رفيقا. أجاب رئيس الكهنة: كم تطلب؟ قال يهوذا: ثلاثين قطعة من الذهب فحينئذ عد له رئيس الكهنة النقود فورا وأرسل فريسيا إلى الوالي
وهيرودس ليحضر جنودا فأعطياه كتيبة منها لأنهما خافا الشعب. فأخذوا من ثم أسلحتهم وخرجوا من أورشليم بالمشاعل والمصابيح على العصي. «الفصل الخامس عشر بعد المائتين» ولما دنت الجنود من يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفا، وكان الأحد عشر نياما، فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد. «الفصل السادس عشر بعد المائتين» ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع وكان التلاميذ كلهم نياما، فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغير يهوذا في النطق، وفي الوجه شبها بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيد هو معلمنا، أنسيتنا الآن؟ أما هو فقال مبتسما: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفوا يهوذا الأسخريوطي وبينما كان يقول هذا دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا لأنه كان شبيها بيسوع من كل وجه، أما نحن فلما سمعنا قول يهوذا ورأينا جمهور الجنود هربنا كالمجانين، ويوحنا الذي كان ملتفا بملحفة من الكتان استيقظ وهرب، ولما أمسكه جندي بملحفة الكتان ترك ملحفة الكتان وهرب عريانا لأن الله سمع دعاء يسوع وخلص الأحد عشر من الشر. «الفصل السابع عشر بعد المائتين» فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه ساخرين منه لأنه أنكر- وهو صادق- أنه هو يسوع، فقال الجنود مستهزءين به، يا سيدي لا تخف لأننا أتينا لنجعلك ملكا على إسرائيل، وإنما أوثقناك لأننا نعلم أنك ترفض المملكة: أجاب يهوذا: لعلكم جننتم أنكم أتيتم بسلاح ومصابيح لتأخذوا يسوع الناصري كأنه لص، أفتوثقونني، أنا الذي أرشدكم لتجعلوني ملكا. حينئذ خان الجنود صبرهم وشرعوا يمتهنون يهوذا بضربات ورفسات، وقادوه
بحنق إلى أورشليم، وتبع يوحنا وبطرس الجنود عن بعد وأكد للذي يكتب أنهما شاهدا كل التحري الذي تحراه بشأن يهوذا ورئيس الكهنة ومجلس الفريسيين الذين اجتمعوا ليقتلوا يسوع. فتكلم من ثم يهوذا كلمات جنون كثيرة، حتى إن كل واحد أغرق في الضحك معتقدا أنه بالحقيقة يسوع وأنه يتظاهر بالجنون خوفا من الموت. لذلك عصب الكتبة عينيه بعصابة وقالوا له مستهزءين: يا يسوع نبي الناصريين (فإنهم هكذا كانوا يدعون المؤمنين بيسوع) قل لنا من ضربك، ولطموه وبصقوا في وجهه ولما أصبح الصباح التأم المجلس الكبير للكتبة وشيوخ الشعب وطلب رئيس الكهنة مع الفريسيين شاهد زور على يهوذا معتقدين أنه يسوع فلم يجدوا مطلبهم، ولماذا أقول إن رؤساء الكهنة اعتقدوا أن يهوذا يسوع؟ بل إن التلاميذ كلهم مع الذي يكتب اعتقدوا ذلك أن أم يسوع العذراء المسكينة مع أقاربه وأصدقائه اعتقدوا ذلك، إن حزن كل واحد يفوق التصديق، لعمر الله إن الذي يكتب نسي كل ما قاله يسوع: من أنه يرفع من العام وأن شخصا آخر سيعذب باسمه وأنه لا يموت إلا وشك نهاية العالم لذلك ذهب (الذي يكتب) مع أم يسوع ومع يوحنا إلى الصليب، فأمر رئيس الكهنة أن يؤتى بيسوع أمامه، وسأله عن تلاميذه وعن تعليمه فلم يجب بشيء في الموضوع كأنه جن حينئذ استحلفه رئيس الكهنة بإله إسرائيل الحي أن يقول له الحق. أجاب يهوذا: لقد قلت لكم إني يهوذا الأسخريوطي الذي وعد أن يسلم إلى أيديكم يسوع الناصري، أما أنتم فلا أدري بأي حيلة قد جننتم لأنكم تريدون بكل وسيلة أن أكون أنا يسوع، أجاب رئيس الكهنة، أيها الضال لقد أضللت كل إسرائيل بتعليمك، وآياتك الكاذبة مبتدئا من الجليل حتى أورشليم هنا. أفيخيل لك الآن أن تنجو من العقاب الذي تستحقه والذي أنت أهل له بالتظاهر بالجنون؟ لعمر الله إنك لا تنجو منه، وبعد أن قال هذا، أمر خدمه أن يوسعوه لطما ورفسا لكي يعود عقله إلى رأسه، ولقد أصابه من الاستهزاء على يد خدم رئيس الكهنة ما يفوق التصديق، لأنهم اخترعوا أساليب جديدة بغيرة ليفكهوا المجلس، فألبسوه لباس مشعوذ وأوسعوه ضربا بأيديهم وأرجلهم حتى إن الكنعانيين أنفسهم لو رأوا ذلك المنظر لتحننوا عليه، ولكن قست قلوب رؤساء الكهنة والفريسيين وشيوخ الشعب على يسوع إلى حد سروا معه أن يروه معاملا هذه المعاملة معتقدين أن يهوذا هو بالحقيقة يسوع، ثم قادوه بعد ذلك موثقا إلى الوالي الذي كان يحب يسوع سرا، ولما كان يظن أن يهوذا هو يسوع أدخله غرفته سائلا إياه لأي سبب قد سلمه رؤساء الكهنة والشعب إلى يديه. أجاب يهوذا: لو قلت لك الحق لما
صدقتني، لأنك قد تكون مخدوعا كما خدع الكهنة والفريسيون. أجاب الوالي (ظانا أنه أراد أن يتكلم عن الشريعة): ألا تعلم أني لست يهوديا؟ ولكن الكهنة وشيوخ الشعب قد سلموك ليدي، فقل لنا الحق لكي أفعل ما هو عدل، لأن لي سلطانا أن أطلقك، وأن آمر بقتلك. أجاب يهوذا: صدقني يا سيد أنك إذا أمرت بقتلي ترتكب ظلما كبيرا لأنك تقتل بريئا، لأني أنا يهوذا الأسخريوطي لا يسوع الذي هو ساحر فحولني هكذا بسحره فلما سمع الوالي هذا تعجب كثيرا حتى إنه طلب أن يطلق سراحه، لذلك خرج الوالي وقال مبتسما: من جهة واحدة على الأقل لا يستحق هذا الإنسان الموت بل الشفقة، ثم قال الوالي: إن هذا الإنسان يقول إنه ليس يسوع بل يهوذا الذي قاد الجنود ليأخذوا يسوع، ويقول إن يسوع الجليلي قد حوله هكذا بسحره، فإذا كان هذا صدقا يكون قتله ظلما كبيرا لأنه يكون بريئا، ولكن إذا كان هو يسوع وينكر أنه هو فمن المؤكد أنه قد فقد عقله ويكون من الظلم قتل مجنون، حينئذ صرخ رؤساء الكهنة، وشيوخ الشعب، مع الكتبة والفريسيين بصخب قائلين: إنه يسوع الناصري فإننا نعرفه لأنه لو لم يكن هو المجرم لما سلمناه ليديك، وليس هو بمجنون بل بالحري خبيث لأنه بحيلته هذه يطلب أن ينجو من أيدينا، وإذا نجا تكون الفتنة التي يثيرها شرا من الأولى، أما بيلاطس (وهو اسم الوالي) فلكي يتخلص من هذه الدعوى قال: إنه جليلي وهيرودس هو ملك الجليل، فليس من حقي الحكم في هذه الدعوى، فخذوه إلى هيرودس، فقادوا يهوذا إلى الذي طالما تمنى أن يذهب يسوع إلى بيته، ولكن يسوع لم يرد قط أن يذهب إلى بيته لأن هيرودس كان من الأمم وعبد الآلهة الباطلة الكاذبة عائشا بحسب عوائد الأمم النجسة، فلما قيد يهوذا إلى هناك سأله هيرودس عن أشياء كثيرة لم يحسن يهوذا الإجابة عنها منكرا أنه هو يسوع، حينئذ سخر به هيرودس مع بلاطه كله وأمر أن يلبس ثوبا أبيض كما يلبس الحمقى، ورده إلى بيلاطس قائلا له: لا تقصر في إعطاء العدل بيت إسرائيل. وكتب هيرودس هذا لأن رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين أعطوه مبلغا كبيرا من النقود، فلما علم الوالي من أحد خدم هيرودس أن الأمر هكذا تظاهر بأنه يريد أن يطلق سراح يهوذا طمعا في نيل شئ من النقود، فأمر عبيده الذين دفع لهم الكتبة (نقودا) ليقتلوه أن يجلدوه ولكن الله الذي قدر العواقب، أبقى يهوذا للصليب ليكابد ذلك الموت الهائل الذي كان أسلم إليه آخر، فلم يسمح بموت يهوذا تحت الجلد مع أن الجنود جلدوه بشدة سال معها جسمه دما، ولذلك ألبسوه ثوبا قديما من الأرجوان تهكما قائلين: يليق بملكنا الجديد
أن يلبس حلة ويتوج، فجمعوا شوكا وصنعوا إكليلا شبيها بأكاليل الذهب والحجارة الكريمة التي يضعها الملوك على رءوسهم، ووضعوا إكليل الشوك على رأس يهوذا ووضعوا في يده قصبة كصولجان وأجلسوه في مكان عال، ومر من أمامه الجنود حانين رءوسهم تهكما مؤدين له السلام كأنه ملك اليهود، وبسطوا أيديهم لينالوا الهبات التي اعتاد إعطاءها الملوك الجدد، فلما لم ينالوا شيئا ضربوا يهوذا قائلين: كيف تكون إذا متوجا أيها الملك إذا كنت لا تهب الجنود والخدم؟ فلما رأى رؤساء الكهنة مع الكتبة والفريسيين أن يهوذا لم يمت من الجلد، ولما كانوا يخافون أن يطلق بيلاطس سراحه أعطوه هبة من النقود للوالي، فتناولها وأسلم يهوذا للكتبة والفريسيين كأنه مجرم يستحق الموت، وحكموا بالصلب على لصين معه، فقادوه إلى جبل الجمجمة حيث اعتادوا شنق المجرمين، وهناك صلبوه عريانا مبالغة في تحقيره، ولم يفعل يهوذا شيئا سوى الصراخ: يا الله لماذا تركتني فإن المجرم قد نجا أما أنا فأموت ظلما. الحق أقول إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه هو يسوع، لذلك خرج بعضهم من تعليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيا كاذبا وأنه إنما يفعل الآيات التي فعلها بصناعة السحر لأن يسوع قال إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم فالذين ثبتوا راسخين في تعليم يسوع حاق بهم الحزن إذ رأوا من يموت شبيها بيسوع كل الشبه حتى إنهم لم يذكروا ما قاله يسوع، وهكذا ذهبوا في صحبة أم يسوع إلى جبل الجمجمة ولم يقتصروا على حضور موت يهوذا باكين على الدوام بل حصلوا بواسطة نيقوديموس ويوسف الاباريماثيائي من الوالي على جسد يهوذا ليدفنوه، فأنزلوه من ثم عن الصليب ببكاء لا يصدقه أحد ودفنوه في القبر الجديد ليوسف بعد أن ضمخوه بمأة رطل من الطيوب. «الفصل الثامن عشر بعد المائتين» ورجع كل إلى بيته ومضى الذي يكتب ويوحنا ويعقوب أخوه مع أم يسوع إلى الناصرة، أما التلاميذ الذين لم يخافوا الله فذهبوا ليلا وسرقوا جسد يهوذا وخبئوه وأشاعوا أن يسوع قام فحدث بسبب هذا اضطراب، فأمر رئيس الكهنة أن لا يتكلم أحد عن يسوع الناصري وإلا كان تحت عقوبة الجرم فحصل اضطهاد عظيم فرجم وضرب ونفي من البلاد كثيرون لأنهم لم يلازموا الصمت في هذا الأمر وبلغ الخبر الناصرة كيف أن يسوع أحد أهالي مدينتهم قام بعد أن مات على الصليب فضرع الذي
يكتب إلى أم يسوع أن ترضى فتكف عن البكاء لأن ابنها قام فلما سمعت العذراء مريم هذا قالت باكية: لنذهب إلى أورشليم لننشد ابني فإن رأيته مت قريرة العين. «الفصل التاسع عشر بعد المائتين» فعادت العذراء إلى أورشليم مع الذي يكتب ويعقوب ويوحنا في اليوم الذي صدر فيه أمر رئيس الكهنة، ثم إن العذراء التي كانت تخاف الله أوصت الساكنين معها أن ينسوا ابنها مع أنها عرفت أن أمر رئيس الكهنة ظلم وما كان أشد انفعال كل أحد، والله الذي يبلو قلوب البشر يعلم أننا فنينا من الأسى على موت يهوذا الذي كنا نحسبه يسوع معلمنا وبين الشوق إلى رؤيته قائما، وصعد الملائكة الذين كانوا حرسا على مريم إلى السماء الثالثة، حيث كان يسوع في صحبة الملائكة وقصوا عليه كل شئ لذلك ضرع يسوع إلى الله أن يأذن له بأن يرى أمه وتلاميذه فأمر حينئذ الرحمن ملائكته الأربعة المقربين الذين هم جبريل وميخائيل ورافائيل وأوريل أن يحملوا يسوع إلى بيت أمه وأن يحرسوه هناك لمدة ثلاثة أيام متوالية، وأن لا يسمحوا لأحد أن يراه خلا الذين آمنوا بتعليمه، فجاء يسوع محفوفا ... إلى الغرفة التي أقامت فيها مريم العذراء مع أختيها ومرثا ومريم المجدلية ولعازر والذي يكتب ويوحنا ويعقوب وبطرس فخروا من الهلع كأنهم أموات فأنهض يسوع أمه والآخرين عن الأرض قائلا: لا تخافوا لأني أنا يسوع، ولا تبكوا فإني حي لا ميت، فلبث كل منهم زمنا طويلا كالمخبول لحضور يسوع، لأنهم اعتقدوا اعتقادا تاما بأن يسوع مات، فقالت حينئذ العذراء باكية: قل لي يا بني لماذا سمح الله بموتك ملحقا العار بأقربائك وأخلائك وملحقا العار بتعليمك؟ وقد أعطاك قوة على إحياء الموتى، فإن كل من يحبك كان كميت. «الفصل العشرون بعد المائتين» أجاب يسوع معانقا أمه: صدقيني يا أماه لأني أقول لك بالحق أني لم أمت قط، لأن الله قد حفظني إلى قرب انقضاء العالم، ولما قال هذا رغب إلى الملائكة الأربعة أن يظهروا ويشهدوا كيف كان الأمر، فظهر من ثم الملائكة كأربع شموس متألقة حتى إن كل أحد خر من الهلع ثانية كأنه ميت، فأعطى حينئذ يسوع الملائكة أربع ملاء من كتان ليستروا بها أنفسهم لتتمكن أمه ورفاقها من رؤيتهم وسماعهم يتكلمون، وبعد أن
أنهض كل واحد منهم عزاهم قائلا: إن هؤلاء هم سفراء الله، جبريل الذي يعلن أسرار الله، وميخائيل الذي يحارب أعداء الله، ورافائيل الذي يقبض أرواح الميتين، وأوريل الذي ينادي إلى دينونة الله في اليوم الآخر، ثم قص الملائكة الأربعة على العذراء كيف أن الله أرسل إلى يسوع وغير (صورة) يهوذا ليكابد العذاب الذي باع له آخر، حينئذ قال الذي يكتب: يا معلم أيجوز لي أن أسألك الآن كما كان يجوز عند ما كنت مقيما معنا؟ أجاب يسوع: سل ما شئت يا برنابا أجبك، فقال حينئذ الذي يكتب: يا معلم إذا كان الله رحيما، فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتا؟ ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت وسمح الله أن يقع عليك عار القتل بين اللصوص على جبل الجمجمة وأنت قدوس الله أجاب يسوع: صدقني يا برنابا أن الله يعاقب على كل خطيئة مهما كانت طفيفة عقابا عظيما لأن الله يغضب من الخطيئة، فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلا حبا عالميا أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم، فلما كان الناس قد دعوني الله، وابن الله على أني كنت بريئا في العالم أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله، وبعد أن تكلم يسوع بهذا قال: إنك لعادل أيها الرب إلهنا لأن لك وحدك الإكرام والمجد بدون نهاية. «الفصل الحادي والعشرون بعد المائتين» والتفت يسوع إلى الذي يكتب وقال: يا برنابا عليك أن تكتب إنجيلي حتما، وما حدث في شأن مدة وجودي في العالم واكتب أيضا ما حل بيهوذا ليزول انخداع المؤمنين ويصدق كل أحد الحق حينئذ أجاب الذي يكتب: إني لفاعل ذلك إن شاء الله يا معلم ولكن لا أعلم ما حدث ليهوذا لأني لم أر كل شئ. أجاب يسوع: هاهنا يوحنا وبطرس اللذان قد عاينا كل شئ، فهما يخبرانك بكل ما حدث، ثم أوصانا يسوع أن ندعو تلاميذه المخلصين ليروه فجمع حينئذ يعقوب ويوحنا التلاميذ السبعة نيقوديموس ويوسف وكثيرين آخرين من الاثنين والسبعين وأكلوا مع يسوع، وفي اليوم الثالث قال يسوع: اذهبوا مع أمي إلى جبل الزيتون لأنني أصعد من هناك أيضا إلى السماء، وسترون من يحملني، فذهب الجميع خلا خمسة وعشرين من التلاميذ الاثنين والسبعين الذين كانوا
فوائد
قد هربوا إلى دمشق من الخوف، وبينما كان الجميع وقوفا للصلاة جاء يسوع وقت الظهيرة مع جم غفير من الملائكة الذين كانوا يسبحون الله فطاروا فرقا من سناء وجهه فخروا على وجوههم إلى الأرض ولكن يسوع أنهضهم وعزاهم قائلا: لا تخافوا أنا معلمكم، ووبخ كثيرين من الذين اعتقدوا أنه مات وقام قائلا: أتحسبونني أنا والله كاذبين؟ لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم أني لم أمت بل يهوذا الخائن. احذروا لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم، ولكن كونوا شهودي في كل إسرائيل، وفي العالم كله كل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها، وبعد أن قال هذا صلى لله لأجل خلاص المؤمنين وتجديد الخطأة، فلما انتهت الصلاة عانق أمه قائلا: سلام لك يا أمي، توكلي على الله الذي خلقك وخلقني، وبعد أن قال هذا التفت إلى تلاميذه قائلا: لتكن نعمة الله ورحمته معكم ثم حملته الملائكة الأربعة أمام أعينهم إلى السماء. «الفصل الثاني والعشرون بعد المائتين» وبعد أن انطلق يسوع تفرقت التلاميذ في أنحاء إسرائيل والعالم المختلفة، أما الحق المكروه من الشيطان فقد اضطهده الباطل كما هي الحال دائما فإن فريقا من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشروا بأن يسوع مات ولم يقم وآخرون بشروا بأنه مات الحقيقة، ثم قام وآخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله وقد خدع في عدادهم بولص، أما نحن فإنما نبشر بما كتبت الذين يخافون الله ليخلصوا في اليوم الأخير لدينونة الله. آمين. أهـ. أقول: لسنا ملزمين أن نؤمن بكل ما ورد في هذا النص لعدم ثبوته القطعي عندنا، ولكنا نستأنس به لفهم بعض القضايا في النص القرآني. فوائد: 1 - قتل اليهود للأنبياء وتعذيبهم لهم شئ مشهور، ولا زالت كتب العهد القديم مع تحريفها وتبديلها، وكذلك كتب العهد الجديد، رغم تحريفها وتبديلها مليئة بما يشعر بهذا القتل، وأما تحريم الربا على اليهود فقد ورد في كتبهم الحالية في أكثر من مكان: فمن ذلك ما ورد في الإصلاح الثاني والعشرين من سفر الخروج «إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا».
ومن ذلك ما ورد في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية: «ولا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شئ مما يقرض بربا». 2 - ينبغي أن نلاحظ أن الكتب المعتمدة عند النصارى الحاليين، وهي ما يسمونه بكتب العهد الجديد، إن هي إلا من آثار مدرسة واحدة من مدارس النصارى وهي مدرسة بولس فالأناجيل من كتابة مدرسته، وأكثر الرسائل المعتمدة إن لم تكن كلها إما رسائله وإما رسائل لتلاميذه، وهذه الرسائل تشعر، أن بولس قد اختلف مع برنابا تلميذ المسيح المباشر وفي هذه الرسائل ما يشعر بإن هناك مخالفين لبولس وقد فصلنا ذلك في كتابنا (من أجل خطوة إلى الأمام) فإذا تأكد هذا المعنى نستطيع أن نتساءل، أين هى آثار الحواريين الاثنى عشر؟ وأين هي آثار تلاميذهم؟ أين هي أقوالهم؟ أين هي رسائلهم؟ أين هي أخبارهم؟ كل هذا غير موجود وليس موجودا ما يشعر به تقريبا، أليس هذا دليلا على أن دين المسيح الحقيقي، وإنجيله الحقيقي، وقصة حياته الحقيقة، ووضعه الحقيقي، كل ذلك قد انتهى بتغلب مدرسة بولس اليهودي الذي غلا في السيد المسيح، واستطاع بغلوه أن يتغلب بممالأة السلطة ونفاقه لها، ثم بتبني الدولة الرومانية مذهبه رسميا، إذا اتضح هذا، فإننا لا نستغرب التصورات الفاسدة عن السيد المسيح في الكتب المعتمدة عندهم. وإذا عرفنا تتبع الكنيسة لكل ما يخالفها والقضاء عليه سواء كان فكرا أو بشرا نعلم لماذا لم يصلنا شئ عن أخبار الرسل وتلاميذهم ونقولهم مما يخالف مدرسة بولس اليهودية التي اغتالت المسيحية من داخلها، وسيطرت عليها. غير أننا نجد بعضا مما فر من الإتلاف، كإنجيل برنابا التي تنص كتب العهد الجديد على اختلافه مع بولس. هذا الإنجيل يتحدث عن المسيح كما هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما يوافق الحق. وإن مما يشبه السخرية أن يدعي النصارى أن هذا الإنجيل ألفه أحد المسلمين، وهو الأوروبي الوجود، الأوروبي الطبع، ولئن سلمنا بذلك جدلا فنحن نسألهم: أين إنجيل برنابا التي تتحدث عن تحريمه النشرات البابوية التي صدرت قبل الإسلام بكثير. ولنا عودة على هذه الأمور في الفصل الذي سنكتبه عن التثليث عند النصارى في أواخر الكلام عن المقطع الثاني عشر. 3 - في نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان إجماع الأمة المسلمة، والنصارى كذلك يرون ذلك، وفي كتب اليهود ما يشعر به، وقد ورد أكثر من سبعين حديثا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن نزوله، وحوالي أكثر من أربعين أثرا عن الصحابة في ذلك. وقد ألف في ذلك عبد الحي اللكنوي كتابه (التواتر الصريح في نزول المسيح) فمن أنكر قضية نزوله يكفر. والكلام عن المسيح عليه السلام مرتبط بالكلام عن المسيح الدجال الذي موضوعه من المواضيع المتواترة كذلك، وفي كتابنا- الأساس في السنة وفقهها- تفصيل ذلك. 4 - ننقل في هذه الفائدة كلام ابن عباس، في موضوع رفع المسيح، وما حدث لقومه بعده، كما ننقل حديثا واحدا عن نزول المسيح عليه السلام، وموضوع الدجال. أ- في أثر صحيح عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر في اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتى؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنا فقال: هو أنت ذاك. فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. ب- روى مسلم وأصحاب السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات، طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف، خسف في المشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق- أو تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا». ونحب هنا أن ننبه إلى أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب بل يفيد مطلق الجمع،
كلمة في السياق
كلمة في السياق: لاحظنا أكثر من مرة خلال استعراضنا لمعاني المقطعين، كيف أن هذين المقطعين كانا في سياق توضيح قضية الإيمان وما ينافيها، وما يناقضها، فلسنا بحاجة إلى إعادة ذلك، والمهم أن يكون واضحا أن الإيمان هو الركن الأساسي في قضية التقوى التي هي محور سورة النساء. وهذان المقطعان في هذه القضية، ونؤثر ألا نطيل الكلام هاهنا في موضوع السياق لأن لنا عودة أخيرة على سياق سورة النساء في آخر تفسيرها إن شاء الله. المقطع الحادي عشر ويمتد من الآية (163) إلى نهاية الآية (170) وكما أن المقطع الثامن قد بدأ ب (إنا) وانتهى ب (يا أيها) فإن هذا المقطع يبدأ ب (إنا) وينتهي ب (يا أيها) وبدايته إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ونهايته يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ. وهذا هو المقطع: [سورة النساء (4): الآيات 163 الى 166] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
كلمة في المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 170] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) كلمة في المقطع: قلنا إن محور سورة النساء هو الآيات الخمس بعد المقدمة من سورة البقرة والتي من جملتها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وفي هذه الآيات تقرير أن الله أوحى لمحمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن الله يشهد بما أنزل على محمد، لاحظ الصلة بين قوله تعالى في سورة البقرة وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ وبين لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ وأن الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله قد ضلوا، وأن الله لن يهديهم إلا إلى النار. ثم ختم المقطع بالتبيان للناس جميعا أن الرسول قد جاءهم بالحق من ربهم وأن عليهم أن يؤمنوا. إن الصلة بين المقطع، وبين محور السورة من سورة البقرة لا يكاد يخفى. المعنى العام: يخبر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع، أن إنزال الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا، بل أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله، وعدد أسماء بعض من أوحي إليه من الرسل. وأن إنزاله الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا، فقد أنزل كتبا من قبل، منها
الزبور الذي أنزل على داود، وأن هؤلاء الرسل صلى الله عليهم وسلم كثر، منهم من قص الله على رسوله قصصهم، ومنهم من لم يقصص الله قصتهم، وأن هذا الوحي منه ما كان كلاما مباشرا من الله كما كان ذلك لموسى. ثم بين الله حكمة إرساله الرسل، وهي التبشير والإنذار من أجل إقامة الحجة على الخلق بما أعد الله لهم. ولما تضمن هذا الجزء من هذا المقطع إثبات نبوة محمد والرد على من أنكرها، بين الله- عزّ وجل- أنه وإن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم من كفر ممن كذبه وخالفه، فالله يشهد له أنه رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن الذي أنزله الله بعلمه، والدليل أنه أنزله بعلمه ما فيه من أمور لا يمكن أن تكون إلا أثرا عن علم الله، من ذكر للبينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، ومن ذكر لغيوب من الماضي والمستقبل، ومن ذكر لصفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه الله بها، إن في هذا القرآن من العلوم ما لا يمكن أن يكون، لولا أنه من عند الله رب العالمين. وكما شهد الله برسالة رسوله، وبأنه هو الذي أنزل الكتاب عليه، فإن الملائكة يشهدون بصدق ما أنزل الله على رسوله، وشهادة الله وحدها كافية، وسنرى كيف كانت شهادة الله أثناء الشرح الحرفي وفوائده، وإذ تأكدت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، يؤكد الله- عزّ وجل- الضلال المبين الذي وقع فيه من كفر في نفسه برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع الحق، وسعى مع هذا إلى صد الناس عن إتيانه والاقتداء به. ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته، وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك، وبالصد عن سبيله، وبارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، بأنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلا إلى الخير، بل هم مهتدون فقط إلى طريق جهنم، وأن مقامهم فيها الخلود الأبدي، وهذا على الله يسير. وإذا اتضحت هذه الحقائق، فقد جاء النداء إلى الناس جميعا أنه قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، والبيان الشافي من الله- عزّ وجل- فآمنوا بما جاءكم، واتبعوا يكن خيرا لكم. وأما إذا كفرتم بالحق الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله غني عنكم، وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم، لأنه مالك السموات والأرض وما فيهن، وهو العليم بمن اهتدى أو ضل، وبمن يستحق الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. فالمقطع منصب على تأكيد صحة الوحي، وصدق القرآن، وعلى تأكيد اتباع هذا الحق الذي هو القرآن، واتباع القرآن بعد الإيمان ركن من أركان التقوى، إذ التقوى كما رأينا في كتابنا- (جند الله ثقافة وأخلاقا) - إيمان واتباع كتاب، فهو
المعنى الحرفي
مكمل للمقطعين السابقين، فهما في ركن الإيمان، وهو في ركن اتباع الكتاب، فالمقطع إذن آخذ مكانه في السياق العام لسورة النساء، المرتبط بالسياق العام لسورة البقرة، على النسق العام لمعاني القرآن حسب تسلسلها الذي لا يحيط بحكمه إلا الله. المعنى الحرفي: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ كهود وصالح وشعيب، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ. أي: أولاد يعقوب وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. الزبور: اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ. أي: من قبل نزول هذه السورة. وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. أي: رسلا آخرين لم يذكروا في القرآن. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. أي: بلا واسطة. وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. أي: يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره، وكذب رسله بالعقاب والعذاب. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. أي: لئلا يبقى لمعتذر عذر. والمعنى إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميم لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا بما وجب الانتباه له، ويعلمنا ما سبيل معرفته السمع، كالعبادات والشرائع، مقاديرها وأوقاتها وكيفياتها وغير ذلك. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله- عزّ وجل- من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين». وفي لفظ آخر. «من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل كتبه». وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً عزيزا في العقاب على الإنكار، حكيما في بعث الرسل للإنذار. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ومعنى شهادة الله بما أنزله إليه، إثباته لصحته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. أي: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك، وأنك مبلغه، أو أنزله بما علم من مصالح العباد، والدليل على أن إنزاله القرآن بعلمه، أن في هذا القرآن ما لا يمكن أن يصل إليه علم الإنسان مطلقا كالغيوب، أو ما لا يمكن أن يصل إليه علم الإنسان- خاصة في زمن نزول القرآن- ككثير من
[سورة النساء (4): آية 167]
أسرار هذا الكون. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ. أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. أي: شاهدا وإن لم يشهد غيره. روى ابن إسحاق عن ابن عباس في سبب نزول الآية الأخيرة قال: «دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم: إني لأعلم والله، إنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله- عزّ وجل- لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أي: ودفعوا الناس عن سبيل الحق بفتنتهم أو بدعايتهم ضده. قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً عن الرشد. أي: بعدوا عنه بعدا عظيما شاسعا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: بالله وآياته وكتبه ورسله وَظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، أو ظلموا الظلم العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكارهم نبوته وتحريف ما ورد في نعته في الكتب السابقة. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ما داموا على الكفر وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً. أي: سبيلا إلى الخير، أو سبيلا رشدا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. أي: إلى جهنم طريقهم، وفي جهنم عذابهم أبدا، وكان تخليدهم في جهنم سهلا عليه، وهذه الآية والتي قبلها في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون، وأنهم يموتون على الكفر. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ. أي: محمد صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ. أي: بالإسلام مِنْ رَبِّكُمْ فمن أراد الإسلام لله رب العالمين فليس إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله- عزّ وجل- فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ فصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبدينه وبكتابه، وبكل الحق الذي جاء به، وذلك خير لكل إنسان مما هو فيه. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليما بمن يؤمن وبمن يكفر، حكيما لا يسوي بينهما بالجزاء، وبهذا ينتهي المقطع. فوائد: 1 - قال ابن كثير: «وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل،
كلمة في السياق
عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم». 2 - روى ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت: يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف، وأربعة وعشرون ألفا. قلت: يا رسول الله: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير، قلت: يا رسول الله! من كان أولهم؟ قال: آدم، قلت يا رسول الله: نبي مرسل؟ قال: نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا، ثم قال: يا أبا ذر: أربعة سريانيون: آدم وشيث، ونوح وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر. وأول نبي من بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك». وقد وسم ابن حبان البستي هذا الحديث بالصحة، وجعله ابن الجوزي في الموضوعات، ولم يعتمد علماء التوحيد بعض ما ورد فيه من معان فيوسف رسول وهو أقدم من موسى وهو من أبناء إسرائيل وعدد الأنبياء والرسل لا يثبت بمثل هذا الحديث حتى يعتمد. كلمة في السياق: هذا المقطع كله في تقرير أن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإيمان به واجب وهي قضية رئيسية في التقوى، كما نعلم ذلك من مقدمة سورة البقرة. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وإذا عرفنا أن سورة النساء كلها محورها التقوى، عرفنا محل هذا في السياق. فصل في قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ: يقول صاحب الظلال عند هذه الآية: «ونقف من هذه اللفتة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال. نقف منها .. : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا «الإنسان» قضية الإيمان بالله؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعها وتصرفاتها؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى. لو كان الله سبحانه- وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها- يعلم أن العقل البشري،
الذي وهبه للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم؛ وتبليغهم عن ربهم؛ ولما جعل حجة الناس عنده- سبحانه- هي عدم مجئ الرسل إليهم: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ .. ولكن لما علم الله- سبحانه- أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى- بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط- وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة .. لما علم الله- سبحانه- هذا، شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وهذه تكاد تكون إحدى البديهات التي تبرز من هذا النص القرآني .. فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية .. إذن .. ما هي وظيفة هذا العقل البشري؛ وما هو دوره في قضية الإيمان وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟. إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض- بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص- ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها- بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له- ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان .. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها. إن هذه الرسالة تخاطب العقل .. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج
النظر الصحيح .. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه .. إن دور العقل- في هذا الصدد- هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله والعقل ليس له أن يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله. وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير .. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة .. أو من يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى .. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا .. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شئون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها- أي إذا فهم ماذا يعني النص- لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ .. والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة- بعد أن يدرك المقصود بها- بمقررات له سابقة عليها، كونها .. لنفسه من مقولاته «المنطقية»! أو من ملاحظاته المحدودة؛ أو من تجاربه الناقصة .. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي- قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة- ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين- متى صح عنده أنها من الله- إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص! .. إن العقل ليس إلها، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله .. إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له .. هذا مجاله، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر، ما دام هناك من الأصول الصحيحة مجال للتأويل والأفهام المتعددة. وحرية النظر- على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه- مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع. وليس هنالك من هيئة، ولا سلطة، ولا شخص، يملك الحجر على العقول، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه
تطبيقه- متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح، المأخوذ من مقررات الدين- وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل .. إن الإسلام دين العقل .. نعم .. بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته. ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان والأنفس والآفاق، ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة؛ وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة. ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته، .. فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، أو عدم التسليم بها فهو كافر .. وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها .. وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل، ويرفض منها ما يرفض، ويختار منها ما يشاء، ويترك منها ما يشاء .. فهذا هو الذي يقول الله عنه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ ويرتب عليه صفة الكفر، ويرتب عليه كذلك العقاب .. فإذا قرر الله- سبحانه- حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى. أو قرر أمرا في الفرائض، أو في النواهي .. فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه. متى أدرك المدلول المراد منه .. إذا قال الله سبحانه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ .. أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ .. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ .. إلى آخر ما قال- سبحانه- عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء .. فالحق هو ما قال. وليس للعقل أن يقول- بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها- إنني لا أجد هذا في مقرراتي، أو في عملي، أو في تجاربي .. فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطإ والصواب. وما قرره الله- سبحانه- لا يحتمل إلا الحق والصواب. وإذا قال الله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ .. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ..... وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .... إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية، فالحق هو ما قال- سبحانه- وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس .. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات .. وما يقرره الله- سبحانه- لا يحتمل إلا الصحة والصلاح. وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات، أو من منهج الحياة ونظامها، سواء في موقف العقل إزاءه .. متى صح النص، وكان قطعي الدلالة، ولم يوقت بوقت .. فليس للعقل أن يقول: آخذ في العقائد والشعائر التعبدية؛ ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها .. فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته. فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان .. احترازا من الجرأة على الله، ورمي علمه بالنقص والقصور- سبحانه وتعالى- عما يقولون علوا كبيرا .. إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام في الحالة الجزئية؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال. وليس في شئ من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية .. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة- بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح- والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته؛ وطبيعة الكائنات فيه والأحياء، والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات فيه والأحياء، وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها- في حدود منهج الله- لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام. ونقف من هذه اللفتة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقفة أخرى: نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- ومن بعدهم المؤمنين برسالاتهم- تجاه البشرية كلها .. وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة .. إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم. فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشرية، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم .. في الدنيا والآخرة.
إنه أمر هائل عظيم .. ولكنه كذلك .. ومن ثم كان الرسل- صلوات الله عليهم- يحسون بجسامة ما يكلفون. وكان الله- سبحانه- يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم .. وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا .. ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا .. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا .. وهذا هو الذي يشعر به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يأمر أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً .. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ. .. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً .. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. إنه الأمر الهائل العظيم .. أمر رقاب الناس .. أمر حياتهم ومماتهم .. أمر سعادتهم وشقائهم .. أمر ثوابهم وعقابهم .. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ!. فأما رسل الله- عليهم الصلاة والسلام- فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، وأفضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل .. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان، ولكن بلغوها- مع هذا- قدوة ممثلة في العمل، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق .. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين. كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. بما أنه المبلغ الأخير. وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان. إنما أزالها كذلك بالسنان حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ .. وبقي الواجب الثقيل على من بعده .. على المؤمنين برسالته .. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجئ بعده صلى الله عليه وسلم وتبليغ هذه الأجيال منوط- بعده- بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة- تبعة إقامة حجة الله على الناس، وتبعة استنقاذ الناس من
عذاب الآخرة وشقوة الدنيا- إلا بالتبليغ والأداء .. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى .. فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس .. وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات .. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة .. الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس. ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء. بلاغ بالبيان. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة .. وإلا فلا بلاغ ولا أداء .. إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله .. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها، وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة، وحمل التبعة في هذا كله وعدم النجاة من النار .. فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!. إن الذي يقول: إنه «مسلم» إما أن يبلغ ويؤدي هكذا بقدر ما يستطيع. وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى (إلا أن يشاء الله) .. إنه حين يقول: إنه «مسلم» ثم لا يبلغ ولا يؤدي .. كل ألوان البلاغ والأداء هذه، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلا من أداء شهادة له، تحقق فيه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وتبدأ شهادته للإسلام، من أن يكون هو بذاته ببيته وعائلته، ثم بأسرته وعشيرته، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه .. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة- بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة- إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها .. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق .. فإذا استشهد في هذا فهو إذن «شهيد» أدى شهادته لدينه، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو «الشهيد». وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته؛ ممثلة في علمه، وعدله، ورعايته، وفضله، ورحمته، وبره، بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى .. نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن؛ وما أودعه من القوى والطاقات، وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال. وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله
وحده .. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان .. فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور .. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال- إلا بعد الرسالة والبيان- ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله .. ثم ترك له ما وراء ذلك- وهو ملك عريض- يبدع فيه ما شاء، ويغير فيه ما يشاء، ويركب فيه ما يشاء، منتفعا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطئ عقله ويصيب وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق!. ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله- سبحانه- لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق، ووحدانيته، وتدبيره وتقديره، وقدرته وعلمه .. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس .. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج .. ولكن الله- سبحانه- بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون، وحجية الفطرة، وحجية العقل، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة، هذه الأجهزة، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي .. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع، أو تسقط حجتها وتستحق العقاب. ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره على ما يعلم به من ضعف ونقص، فيكل إليه هذا الملك العريض .. خلافة الأرض .. وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير. ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس، ومن عقل هاد ولكنه يضل، بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى .. وهو يكذب ويعاند، ويشرد وينأى، فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه، ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه على أيدى رسله الهداة .. ثم لا
يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل، فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب .. ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه .. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره .. استغنى عن هدايته ودينه ورسله .. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه- ما لم تقوم بمنهج الله- فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان .. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ إنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب .. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله ويتنكب هداه، فإن كينونته- بكل ما يكمن فيها من قوى- يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال- إن لم يكن هو الخداع والتضليل- كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة .. فالعقل ينضبط- مع الرسالة- بمنهج النظر الصحيح؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطإ الساعة التي تضبط، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات، لا كخطإ الساعة التي لم تضبط أصلا، وتركت للفوضى والمصادفة: وشتان شتان!. وآية ما يتم بالرسالة- عن طريق العقل نفسه- لا يمكن أن يتم بغيرها؛ فلا يغني العقل البشري عنها .. إن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة .. لا في تصور اعتقادي، ولا في خلق نفسي، ولا في نظام حياة؛ ولا في تشريع واحد لهذا النظام. إن عقلي أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا .. بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية- بعيدا عن رسالة الله وهداه- فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه- كما وصفه- رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة. وقد وصل أخناتون- في مصر القديمة- إلى عقيدة التوحيد- وحتى مع استبعاد
المقطع الثاني عشر
تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف- فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون- كما نقلت لنا- تجعل المسافة بينها وبين التوحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة. وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية. وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها .. إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها «العلم» الصاعد .. ولكن ميزة الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها .. هو التوازن الذي ينشئ السعادة والطمأنينة، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة .. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية- بعيدا عن الرسالة- في أي عصر .. والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام؛ مهما التمعت بعض الجوانب؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب. فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى، وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى .. والبشرية معها تتأرجح وتختار وتشقى. المقطع الثاني عشر ويمتد من الآية (171) إلى نهاية الآية (173) وهذا هو: [سورة النساء (4): آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
كلمة في هذا المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) كلمة في هذا المقطع: في السورة التي ترسم طريق التقوى للناس جميعا، وتبين لهم ماهيتها. يأتي فيها هذا المقطع خاصا بأهل الكتاب، يدعوهم فيه إلى الإيمان، والعمل الصالح، وترك ما يتنافى مع عبادة الله والعبودية له وصلة ذلك بمحور السورة الذي يدعو للعبادة والتوحيد والإيمان، والعمل الصالح لا تخفى. فقد رأينا في هذه السورة مقاطع موجهة للناس كلهم، ورأينا فيها مقاطع موجهة للمؤمنين. وهذا المقطع موجه لأهل الكتاب خاصة، كي يحرروا العبادة لله عقيدة وسلوكا ليكونوا من المتقين. وهذا الخطاب خاص بالنصارى، وقد رأينا من قبل كيف خوطب اليهود في المقطع العاشر. المعنى العام: ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن
اتخذوه إلها من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه فادعوا فيهم العصمة كما يعتقدون ذلك في البابا. فاتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا، فنهاهم عن الغلو في دينهم، ثم نهاهم أن يفتروا على الله، وأن يجعلوا له صاحبة أو ولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وتنزه وتقدس، وتوحد في سؤدده وكبريائه، وعظمته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه. وإذ كان من أعظم ما وقع من غلو ما ادعاه النصارى أن المسيح هو الله أو ابن الله- تعالى الله عن ذلك- فقد قرر الله في شأن المسيح أنه عبد من عباده، وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله، وكلمة ألقاها إلى مريم، أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن الله فكان عيسى بإذنه- عزّ وجل- وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، ونزلت حتى ركبت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله تعالى، ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل. وبعد أن قرر حقيقة عيسى نهاهم أن يجعلوا عيسى وأمه- أو ما يسمونه الروح القدس- مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا نهي عن التثليث، وهو نهي لكل فرق النصارى عن ضلالهم في هذا الشأن، لأن فرق النصارى بعد ما فني أهل التوحيد الخالص منهم كلها تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك، وفي اللاهوت والناسوت في زعمهم هل اتحدا أو ما اتحدا، أو امتزجا، أو حل فيه، على ثلاث مقالات كلها كفر، ولهذا أمرهم الله- عزّ وجل- أن ينتهوا عما هم فيه، لأن انتهاءهم عما هم فيه، فيه الخير لهم، ثم قرر الله وحدانيته، ونزه ذاته أن يكون له ولد وقرر أن كل ما في السموات والأرض ملكه وخلقه، وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شئ، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد، وهو الحافظ والمدبر للجميع. ومن كان هذا شأنه، لم يحتج إلى ولد يعينه. ثم بين أنه لا المسيح، ولا الملائكة المقربون يستكبرون عن العبودية لله، بل هي فخرهم وشرفهم، وفيها أنسهم وشرفهم، وكيف لا يكونون كذلك وهم من أعرف خلق الله بجلال الله، وما ينبغي لهذا الجلال. ثم بين الله- عزّ وجل- أن من يستكبر عن عبادة الله، وتوحيده، فإن الله سيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور، ولا يحيف، وإنما يكون حكمه ضمن قاعدة هي: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه، وسعة رحمته وامتنانه. وأما الممتنعون
المعنى الحرفي
عن عبادة الله، المستكبرون عنها، فإن الله يعذبهم عذابا أليما، ولا يجدون من ينصرهم أو ينقذهم. المعنى الحرفي: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. أي: لا تجاوزوا الحد فيه، وكمثال على الغلو غلو يهود في حط المسيح عن منزلته، حتى قالوا: إنه ابن زنا، وغلو النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله. والغلو باب واسع يدخل فيه أشياء كثيرة من قضايا العقائد إلى العبادات إلى غير ذلك. وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ. أي: لا تصفوه إلا بصفاته العليا، وأسمائه الحسنى، وإلا بما يليق به من الحق، فلا تجعلوا له صاحبة ولا ولدا، أو غير ذلك مما لا يليق به. وفي هذا السياق يقرر حقيقة المسيح التي غلا فيها من غلا. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ فليس ابنا لله ولا هو رب، وإنما رسول الله كبقية رسله وَكَلِمَتُهُ سماه الله- عزّ وجل- كلمته لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلام، أو لأنه خلق بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، فكأنه خلق بكلمة الله المباشرة كن فكان، ولم يخلق على حسب عالم الأسباب. قال شاذ بن يحيا: ليست الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ. أي: أوصلها إليها، وحصلها فيها، جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى وَرُوحٌ مِنْهُ. أي: روح مصدرها منه، ومخلوقة من قبله بتخليقه وتكوينه، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله كقوله تعالى في سورة الجاثية: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ. أي: من خلقه ومن عنده، وليست من للتبعيض، بل هي لابتداء الغاية. وسمي المسيح روحا لأنه كان يحيي الموتى، ويحيي موات القلوب بإذن الله، وبما آتاه الله، وألقاه عليه من المحبة والجمال والجلال. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. أي: فصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، وآمنوا بكل رسل الله، ومنهم عيسى ومحمد والجميع عبيده وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ. أي: ولا تقولوا الإله ثلاثة: أب وابن وروح القدس انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. أي: انتهوا عن التثليث يكن الانتهاء خيرا لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. أي: تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا، يسبح تسبيحا من أن يكون له ولد، وأنى يكون له ولد؟.
[سورة النساء (4): آية 172]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا بيان لتنزهه مما نسب إليه بمعنى أن كل ما فيهما خلقه، وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه، إذ البنوة والملك لا يجتمعان. على أن الجزء إنما يصح في الأجسام، وتعالى الله- عزّ وجل- عن أن يكون جسما. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أي حافظا ومدبرا لهما ولما فيهما. ومن عجز عن كفاية أمر احتاج إلى ولد يعينه، أما الله فهو الذي يحتاج إليه كل شئ، فأنى يكون له ولد؟ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ. أي: لن يأنف من العبودية لله وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. أي: الكروبيون أي العرشيون الذين هم حول العرش، وجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم. والمعنى ولا الملائكة المقربون يأنفون أن يكونوا عبادا لله، وفي ذلك رد على النصارى ومن عبد الملائكة من العرب. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ. أي: ومن يترفع عن عبادة الله، ويطلب الكبرياء فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم. ثم فصل المجازاة فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ. أي: فيعطيهم ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. أي: ويعطيهم زيادة على ذلك من إحسانه وسعة رحمته، وامتنانه وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وقد فصل الله- عزّ وجل- في ذلك حال المتكبرين عن عبادته، وحال العابدين مع أن المذكور أحد الفريقين. وسبب ذلك أن ذكر أحد الفريقين يدل على ذكر الثاني، وأن ذكر الإحسان إلى النوع الثاني مما يفهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب عذابين: بالحسرة إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله. فصل في الأناجيل والتثليث: الأناجيل التي تعترف بها الكنائس منذ زمن بعيد هي: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، ولكن التاريخ يروي لنا أنه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى قد أخذت بها فرق قديمة، فعند كل من أصحاب مرقيون، وأصحاب ديصان إنجيل يخالف بعضه الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل يخالف هذه الأربعة، وهناك إنجيل اشتهر باسم التذكرة، وإنجيل سرن تهس. ويذكر التاريخ أمرا أصدره البابا جلاسيوس الأول الذي ابتدأت بأبويته سنة (492) يعدد فيه أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها وفي عدادها كتاب يسمى إنجيل برنابا، وكل هذه الأناجيل شيء، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام شئ آخر، فهذه قصة حياة فيها بعض الوحي قد اختلط بأشياء كثيرة؛ ولذلك
فإن بعض المحققين من النصارى يقول: «قال اكهارن في كتابه: إنه كان في ابتداء الملة المسيحية في بيان أحوال المسيح رسالة مختصرة يجوز أن يقال: إنها الإنجيل الأصلي .. هذه ترجمة لما قاله نارتن كما نقله عنه الشيخ أبو زهرة، ونحن نجزم بإخبار الله لنا أن المسيح عليه الصلاة والسلام قد أنزل عليه كتاب هو الإنجيل، ولكن أين هو والكنيسة اعتمدت ما لا يصلح للاعتماد، وقضت على كل ما يخالفه، مع ملاحظة ما يقوله شارل جنيبير أستاذ الديانة المسيحية في جامعة باريس من كون العقلية التي سيطرت على النصارى في المراحل الأولى عقلية غير تحقيقية يقول: «فكل ما يمليه اتصال الواحد منهم اتصالا خياليا مباشرة بالروح القدس، يؤخذ قضية مسلمة وفرضا ضروريا على الجميع يؤمنون به إيمانا لا يعلو عليه، بل لا يدانية إيمانهم بالواقع المباشر الذي يمليه التاريخ. فتلك التعاليم مثلا التي قال القديس بولس أن عيسى أوحى بها إليه روحيا، كانت تبدو له أكثر ثقة ويقينا من كل ما كان يحكيه له صاحبا المسيح: بطرس ويعقوب» هذا كلام بحاثة نصراني فليتصور القارئ أن المسيحية الحالية التي هي أثر من آثار بولس كلها أثر عن دعوى إنسان أن المسيح يتصل به بشكل روحي، ويقول له كل شئ أما المسيحية كما ورثها تلاميذ المسيح وتلقوها منه مباشرة فقد انتهت. ولننظر نظرة في الأناجيل الأربعة التي يعتمدها النصارى حاليا الإنجيل الأول إنجيل متى: وينسب إلى متى أحد تلاميذ المسيح المباشرين، وهناك خلاف كثير في سنة تدوينه وأهم من هذا أن الأصل ضائع، يقول صاحب ذخيرة الألباب من كتاب النصارى «إن القديس متى كتب إنجيله في السنة (41) للمسيح باللغة المتعارفة يومئذ في فلسطين وهي العبرانية أو السير وكلدانية، ثم ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانية، ثم تغلب استعمال الترجمة على الأصل الذي لعبت به أيدي النساخ الأيونيين ومسخته، بحيث أضحى ذلك الأصل خاملا بل فقيدا وذلك منذ القرن الحادي عشر» ومن هذه العبارة نفهم أن هناك اختلافا كبيرا بين الأصل والترجمة حتى أتلف الأصل، ولكن من هو المترجم وما هو العصر؟ ويذكر سيف الدين فاضل في مقدمته لإنجيل برنابا أن هناك إنجيل متى الكاذب يبشر بما يبشر به إنجيل برنابا فهل هو الإنجيل الأصيل لمتى؟. إنجيل مرقس: ومرقس لم يكن من الحواريين وإن كان من تلاميذ المسيح المباشرين، وقد جاء في كتاب مروج الأخبار في تراجم الأبرار وهو كتاب نصراني: أن مرقس كان ينكر ألوهية المسيح هو وأستاذه بطرس الحواري، وقد جاء في ذلك الكتاب عن مرقس
«صنف إنجيله بطلب من أهالي رومية وكان ينكر ألوهية المسيح» وهناك خلاف كثير في زمن تأليفه. ويقول ابن البطريق:- من مؤرخي النصارى- «وفي عصر نارون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عن مرقس في مدينة رومية ونسبه إلى مرقس». وهذا وحده كاف لزعزعة الثقة بالرواية فهل بطرس تتلمذ على مرقس؟ وهناك روايات تقول: إن مرقس كتبه بعد وفاة بطرس وبولس وسنرى أن نسبة إنجيلي متى ومرقس لهما لا قيمة لها من الناحية التاريخية؛ لأنه لا يوجد سند صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، ولا باطل إليهما، فهي دعوى محض وإلا فما أسهل أن يقال: أملى مرقس إنجيله على فلان، وفلان أملاه على غيره، وعلى كل الأحوال فإن الشيخ رشيد رضا ينقل في مقدمته لإنجيل برنابا عن دائرة المعارف الفرنسية أن بولس هو الذي وضع إنجيلي مرقس ويوحنا ونسبهما إليهما، وأما لوقا فمن تلاميذ بولس فهو ليس من تلاميذ المسيح ولا من تلاميذ تلاميذه أصلا، ولذلك فإن هذا الإنجيل يمثل مدرسة بولس التحريفية. وأما إنجيل يوحنا ففيه دعاوى كثيرة، ولقد جاء في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى ما نصه: «أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه هو الحواري الذي يحبه المسيح فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري ووضعت اسمه على الكتاب نصا مع أن صاحبه غير يوحنا يقينا، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا- ولو بأوهى رابطة- ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى». وقد قال جرجس زوين اللبناني فيما ترجمه: «إن شيربنطوس وأبيسون وجماعتهما لما كانوا يعلمون المسيحية بأن المسيح ليس إلا إنسانا، وأنه لم يكن قبل أمه مريم فلذلك في سنة (96) اجتمع عموم أساقفة آسيا وغيرهم عند يوحنا، والتمسوا منه أن يكتب عن المسيح وينادي بإنجيل مما لم يكتبه الإنجيليون الآخرون، وأن يكتب بنوع خصوصي لاهوت المسيح».
وقال يوسف الدبس الخوري في مقدمة تفسيره (من تحفة الجيل): «إن يوحنا صنف إنجيله في آخر حياته بطلب من أساقفة كنائس آسيا وغيرها؛ والسبب أنه كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح فطلبوا منه إثباته وذكر ما أهمله متى ومرقس ولوقا في أناجيلهم». فالكتاب إذن كتب ليخدم غرض تأليه المسيح عليه السلام- وقد برأه الله مما قالوا- ومع كل ما يقال عن هذه الأناجيل فإن أحدا لا يستطيع أن يثبت بأي سند نسبتها إلى من نسبت إليه، ولذلك قلنا: إنها كلها لا تمثل إلا مدرسة واحدة هي مدرسة بولس التحريفية: فإنجيل لوقا لواحد من تلاميذه، وإنجيلا يوحنا ومرقس منسوبان إليه، وإنجيل متى ضائع والترجمة فيما يبدو ترجمة لمدرسة بولس فالمعروف أن متى بشر في الحبشة، ومن المعروف أن النجاشي كان موحدا، ويؤمن بأن عيسى عبد الله فهذا يؤكد أن الإنجيل الأصلي لمتى ليس هو الموجود حاليا، فأي قيمة تاريخية لهذه الأناجيل خاصة وأن أول إشارة تاريخية لها كانت سنة (209) ميلادية، فإذا عرفنا أنه قبل ذلك الوقت كانت هناك مئات من الفرق المسيحية، وكل فرقة لها رواياتها، وإذا عرفنا أن هناك تناقضات تبلغ المائة بين هذه الأناجيل، أثبتها جميعها رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه العظيم «إظهار الحق» أدركت أنه لا قيمة تاريخية لهذه الأناجيل ولا قيمة إلهامية، ومن ثم فلا قيمة لما تثبته أو تنفيه إلا إذا جاء شئ يرجح. ومن أهم السقطات التي نجدها في بعض الأناجيل ادعاء بنوة المسيح لله، وتأليهه، وادعاء التثليث الذي انحدر إلى النصارى عن الوثنيين، وهذه القضايا كلها ترفضها الواضحات من أدلة العقل، والواضحات مما يؤمنون به، وجاء القرآن- المعجزة الخالدة- ليصحح «إنما الله إله واحد». يقول سيف الدين أحمد فاضل: «وقد وردت «لا إله إلا الله» في أسفار العهد القديم والجديد (الكتب التي يؤمن بها اليهود والمسيحيون حاليا) وأبين بعضها فيما يلي: «لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم حجرا مصورا لتسجدوا له. لأني أنا الرب إلهكم» (سفر اللاويين 26: 1) أي كل حجر مصور لا يمكن أن يكون إلها بل هو وثن. «الرب هو الإله ليس آخر سواه» (سفر التثنية 54: 35) «اسمع يا إسرائيل
الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك» (سفر التثنية 6: 4، 5) أي: لا تحب إلا الرب بكل ما أعطيت. «فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه» (سفر التثنية 7: 9). فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك. (سفر التثنية 10: 12)، «الرب إلهك تتقي إياه تعبد» - أي: تعبده لا تعبد غيره- «وباسمه تحلف» (سفر التثنية 10: 12) - أي: إذا حلفت فاحلف باسم الله- وفي سفر التثنية 13 - 4 «وراء الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون وإياه تعبدون» انظروا الرب إلهكم وراءه تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون» .. «وإياه تعبدون». «انظر الآن. أنا أنا هو وليس إله معي. أنا أميت وأحيي. سحقت وإني أشفي وليس من يدي مخلص» (سفر التثنية 39032) - وتعني ليس من يدي مخلص أي: لا شفيع ولا وكيل من دونه «ليس قدوس مثل الرب لأنه ليس غيرك» (سفر صموائيل الأول 2: 3) «لا تحيدوا عن الرب بل اعبدوا الرب بكل قلوبكم. ولا تحيدوا. لأن ذلك وراء الأباطيل التي لا تفيد ولا تنقذ لأنها باطلة» (سفر صموائيل 12: 20، 21). «لذلك قد عظمت أيها الرب الإله لأنه ليس مثلك وليس إله غيرك» (سفر صموائيل الثاني 7: 22) «أيها الرب إله إسرائيل ليس إله مثلك» (سفر الملوك الأول 8: 33)، «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر» (سفر الملوك الأول 8: 60) «الرب هو الله الرب هو الله» (سفر الملوك الأول: 18: 39)، «أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدي الناس. لها أفواه لا تتكلم. لها أعين لا تبصر. لها آذان ولا تسمع. كذلك ليس لها في أفواهها نفس. مثلها يكون صانعوها وكل من يتكل عليها. يا بيت إسرائيل باركوا الرب ... » (مزمور 135: 15 - 20). «اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله» (سفر الجامعة 12: 13) - ويقصد ب «الإنسان كله» ما وضحه سليمان عليه السلام من أن الإنسان باطل وكل ما تحت الشمس باطل في إصحاحات سفر الجامعة كلها- «أنا الرب هذا اسمى لا أعطيه لآخر» (سفر أشعياء 42: 8). «إني أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس غيري مخلص» (سفر أشعياء 43: 10، 11)، «أنا الأول والآخر ولا إله غيري» .. «ما أعلمتك منذ القديم وأخبرتك فأنتم شهودي. هل يوجد إله غيري». (سفر أشعياء 44: 8) «أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي. نطقتك
فوائد
وأنت لم تعرفني. لكي يعلموا من مشرق الشمس ومن مغربها أن ليس غيري. أنا الرب وليس آخر». (سفر أشعياء 45: 5، 6)، «أنا الرب وليس آخر» (سفر أشعياء 45: 18)، «أليس أنا الرب ولا إله غيري، إله بار ومخلص ليس سواي التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر» (سفر أشعياء 45: 21، 22)، «اذكروا الأوليات منذ القديم لأني أنا الله وليس آخر الإله وليس مثلي» (سفر أشعياء 46: 9)، «وإني أنا الرب إلهكم وليس غيري»، (سفر يوئيل 2: 72). وفي إنجيل مرقس يقول المسيح عليه السلام: «إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى»، (إنجيل مرقس 12: 29، 30) - فقال له الكاتب (وهو نيقوديموس على ما بينه إنجيل برنابا) - «بالحق قلت لأن الله واحد وليس آخر سواه» (إنجيل مرقس 12: 32) - فأعجب المسيح عليه السلام برده، وقال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله»، (إنجيل مرقس 12: 34). فإذا كانت قضية التوحيد بمثل هذه الوضوح حتى فيما غير وبدل من إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يستسيغ عقل أن يقبل الشرك على أنه وحي؟!. فإذا قال العقل بعد ذلك كلمته في الرفض المطلق لأن يجمع بين التثليث والتوحيد، وجاء مع ذلك كله النص القرآني المعجز ليقيم الحجة ويهدي ويرشد، فهل بقي أمام عاقل أن يختار إلا التوحيد والإسلام والإيمان بالقرآن؟! فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» وفي رواية: «إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله». وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم. «أيها الناس عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجل».
2 - روى البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» وزادت رواية في مسلم «من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء». 3 - استدل المعتزلة ومن تشبث بتفضيل الملائكة على البشر بقوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ إذ قالوا: إن الارتقاء يكون من الأدنى إلى الأعلى فلما قال وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. أي: كأنه قال: ولا من أعلى منه قدرا، وأعظم منه خطرا. قال النسفي: والجواب أنا نسلم تفضيل الثاني على الأول، ولكن هذا لا يمس ما تنازعنا فيه، لأن الآية تدل على أن الملائكة المقربين بأجمعهم أفضل من عيسى، ونحن نسلم بأن جميع الملائكة المقربين أفضل من رسول واحد من البشر. إلى هذا ذهب بعض أهل السنة، ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدرة البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأسا لا يستنكفون عن عبادته، فكيف بمن يتولد من آخر، ولا يقدر على ما يقدرون، ولا يعلم ما يعلمون، وهذا لأن شدة البطش، وسعة العلوم، وغرابة التكون، هي التي تورث الحمقى وهم الترفع عن العبودية. فالنصارى رأوا المسيح ولد من غير أب، وهو يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، وينبئ بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ فبرءوه من العبودية، فقيل لهم: هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في المسيح، ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية، فكيف المسيح!! والحاصل أن خواص البشر- وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة، وهم الرسل منهم كجبريل وميكائيل وملك الموت ونحوهم، وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر، وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة. ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء، أنهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة، وتفضلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدية، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف، بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها، فكانت أزيد ثوابا بالحديث» أقول: والمراد بعوام المسلمين أي: ما سوى الرسل من الصديقين والشهداء والصالحين وإلا فالملائكة بإجماع أفضل من فسقة المسلمين وجهلتهم.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: لقد طالب هذا السياق أهل الكتاب بتوحيد الله ومعرفته، وعبادته، والعمل الصالح، فدل ذلك على أن العبادة مجموعة أمور معرفة الله، والإيمان به، والعمل الصالح له، وهذا أوان الانتقال إلى المقطع الثالث عشر في هذه السورة، وهو المقطع الأخير، وكما بدأ المقطع الأول ب يا أَيُّهَا النَّاسُ ... فإن المقطع الأخير مبدوء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ. ولعله من المناسب قبل أن ننتقل إلى المقطع الأخير أن نشير إلى بعض المعاني: إن الآيات الخمس التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة قد وردت فيها: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. ولو أنك تأملت المقطع الذي مر معنا لوجدته دعوة إلى التوحيد: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ودعوة إلى العبادة والعمل الصالح لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وهكذا نجد مواطأة كاملة للمعاني الموجودة في المحور مع توجه الخطاب لبعض الناس وهم أهل الكتاب. وأما صلة المقطع بما قبله مباشرة فواضحة، فبعد أن دعا المقطع السابق في آيته الأخيرة الناس جميعا للإيمان بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، توجه إلى أهل الكتاب بذلك، والآن يعود الخطاب إلى الناس جميعا بالإيمان بالله والاعتصام بالقرآن. المقطع الثالث عشر وهو المقطع الأخير يمتد هذا المقطع من الآية (174) إلى نهاية الآية (176) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: [سورة النساء (4): آية 174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
كلمة في هذا المقطع
[سورة النساء (4): الآيات 175 الى 176] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) كلمة في هذا المقطع: بدأت السورة بمقطع مبدوء ب (يا أيها الناس) وانتهت بمقطع مبدوء ب (يا أيها الناس)، ولقد رأينا أن محور سورة النساء هو الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة من تلك السورة والتي منها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وهاهنا يأتي المقطع ليقرر أن هذا القرآن برهان من الله، وأنه نور مبين. وفي هذا السياق يبين لنا الله- عزّ وجل- الحكم في موضوع الكلالة، وهو موضوع مرتبط بقضايا الميراث التي تعرض لها المقطع الأول من سورة النساء فكما بدأ المقطع الأول ب (يا أيها الناس) وتحدث عن قضايا الميراث فكذلك هذا المقطع يبدأ ب (يا أيها الناس) وفيه جواب على استفتاء في شأن صورة من صور الإرث. المعنى العام للمقطع: يقول الله تعالى مخاطبا جميع الناس، ومخبرا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهة، وهو القرآن الذي هو الضياء الواضح على الحق كله في كل شئون الحياة، فهو حق، وفيه برهانه ودليله، ثم بين تعالى أن الذين يجمعون بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم على ضوء كتاب الله هم الذين سيرحمهم الله، ويدخلهم الجنة، ويزيدهم ثوابا ومضاعفة، ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم، وإحسانه إليهم، ويهديهم إليه طريقا واضحا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. هذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة،
المعنى الحرفي
وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات، وفي الحديث: «القرآن صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين». وبمناسبة كون هذا القرآن نورا وضياء فقد ختمت السورة بجواب استفتاء في قضية من قضايا الإرث، ليعلم أن التقوى هي في طاعة الله في كل شأن، والاستسلام لحكمه في كل قضية، أما الاستفتاء فهو سؤال عن إرث من لا والد له ولا ولد، وهو الكلالة، فبين الله- عزّ وجل- أنه إن مات امرؤ وليس له والد ولا ولد، وله أخت فلها نصف التركة، فإن كان لمن يموت أختان، فلهما الثلثان فريضة، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما. أما إذا كان الورثة للكلالة إخوة ذكورا ونساء، فيعطى الذكر مثل حظ الأنثيين. ثم بين الله حكمة هذا البيان فقال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا. أي: يوضح لكم فرائضه، ويحد لكم حدوده، ويبين لكم شرائعه لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان. ثم يختم الله الآية والسورة بقوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي: هو عالم بعواقب الأمور، ومصالحها، وما فيها من الخير لعباده. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ البرهان: هو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة. وهل هو هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو بصورته ومعناه، وصفاته، وخصائصه، ومعجزاته برهان قاطع على أنه رسول الله؟ أو المراد بالبرهان هنا القرآن الذي هو في خصائصه وصفاته وإعجازه وما فيه من المعجزات برهان على أنه من عند الله، وبرهان على وجود الله، وبرهان على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، قولان للمفسرين. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. أي: ضياء واضحا يضئ لكم، ويبين لكم كل قضية، فلا تبقى أمام عقولكم، ولا أمام قلوبكم ظلمة إلا أزالها، وهو القرآن الذي يستضاء به في ظلمات الحيرة. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ. أي: بالله أو بالقرآن فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ. أي: في جنته وَفَضْلٍ. أي: زيادة النعمة. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ. أي: يرشدهم إلى الله أو إلى الفضل صِراطاً مُسْتَقِيماً. أي: طريقا لا عوج فيه، والهداية إلى الصراط المستقيم جزاء الإيمان بالله، والاعتصام بكتابه. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الكلالة: من لا والد له ولا ولد إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الولد لفظ مشترك يقع على الذكر
فوائد
والأنثى. وَلَهُ أُخْتٌ سواء كانت لأب وأم، أو لأب فقط. فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. أي: الميت وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ. أي: والأخ يرث الأخت جميع ما لها إن قدر الأمر على العكس من موتها، وبقائه بعدها. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ. أي: فإن كانت الأختان اثنتين فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً. أي وإن كان من يرث بالأخوة ذكورا وإناثا، والمراد بالإخوة في النص الإخوة والأخوات، والتذكير للتغليب فَلِلذَّكَرِ منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا. أي: لئلا تضلوا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده، فهو القادر على التبيان، وقد فعل، فما أعظم جرم من يترك بيانه إلى بيان غيره. فوائد: 1 - روى البخاري عن البراء قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت يستفتونك .. والمراد والله أعلم آخر آية نزلت في الميراث. وفي سبب نزولها قال جابر ابن عبد الله رضي الله عنه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، قال: «فتوضأ علي، أو قال: صبوا عليه فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض» أخرجاه في الصحيحين، وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. 2 - في موضوع الكلالة خلاف كثير، وكان عمر يقول كما ثبت في الصحيحين: «ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وباب من أبواب الربا» والذي قضى فيه أبو بكر أن الكلالة ما لا والد له ولا ولد، وهو الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن. 3 - روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة فقال: يكفيك آية الصيف» وإسناده جيد. وآية الصيف آخر سورة النساء، ويبدو أنها نزلت في فصل الصيف. 4 - في صحيح البخاري: «سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت
كلمة في المقاطع الثلاثة الأخيرة
فقال للابنة النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني. فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى الأشعري فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الخبر فيكم». وتفصيلات هذه القضايا في الكتب الموسعة في علم الميراث. وبهذا ينتهي الكلام عن هذا المقطع، وهو المقطع الأخير في سورة النساء المؤلفة من ثلاثة عشر مقطعا. كلمة في المقاطع الثلاثة الأخيرة يلاحظ أن المقطع الحادي عشر بدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وانتهى بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فالبداية والنهاية كانت في شأن الوحي والإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبل. ثم جاء المقطع الثاني عشر وخص أهل الكتاب بالدعوة إلى الحق، ثم جاء المقطع الثالث عشر وفيه نداء للناس جميعا يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ، بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فهي عودة على موضوع الإيمان بالله والوحي فالمقاطع الثلاثة مترابطة مع بعضها وهي آتية بعد مقطعين دعوا إلى تثبيت الإيمان والتحرر من الكفر والنفاق، فما بين المقطعين التاسع والعاشر. وما بين المقاطع الأخيرة صلات متشابكة، ومن قبل ذلك جاء مقطع يدعو إلى إقامة العدل والحكم بالقرآن وذلك كله مترابط متشابك، وهكذا نجد كيف أن كل مقطع شديد الصلة مع ما قبله وما بعده. كلمة في سورة النساء وصلتها بمحورها من سورة البقرة: قلنا من قبل: إن الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة هي محور سورة النساء ولو أننا أخذنا كل جزء من أجزاء الآيات الخمس ونظرنا إلى ما ورد تفصيلا له في سورة النساء لرأينا الكثير: ولنضرب أمثلة: بدأت الآيات الخمس بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ* وقد ورد النداء يا أَيُّهَا النَّاسُ* في سورة النساء ثلاث مرات: يا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ*، يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ، يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ. وجاء في الآيات الخمس قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. وجاء في سورة النساء: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ. وفي الآيات الخمس جاء قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .... وجاء في سورة النساء: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. وفي الآيات الخمس جاء قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وجاء في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ. وفي الآيات الخمس جاء قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ .... وجاء في سورة النساء: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ.
كلمة في صلة سورة النساء بارتباطات محورها
وقد ذكرت الآيات الخمس الحكمة من الأمر بالعبادة وهي التقوى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.* والتقوى تنافي الكفر وتنافي النفاق. وقد وصفت التقوى في أول سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقد جاء مقطع كامل في سورة النساء حول طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جاء مقطع كامل آخر حول وجوب الحكم بما أنزل الله. كما وصف المتقون في سورة البقرة بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. وقد جاء أكثر من مقطع في سورة النساء يفصل في قضايا الإيمان وفي القضايا التي تنافي الإيمان فجاء أكثر من مقطع يفصل في الكفر والنفاق. هذه إشارات سريعة في موضوع صلة سورة النساء بمحورها من سورة البقرة ولو أننا أردنا أن نتوسع لطال المقام. كلمة في صلة سورة النساء بارتباطات محورها: جاء بعد مقدمة سورة البقرة المقطع الذي أسميناه مقطع الطريقين وهو تسع آيات: خمس منها هي محور سورة النساء، وثنتان منها هي محور سورة المائدة كما سنرى، وثنتان منها هي محور سورة الأنعام كما سنرى، وقد ختم مقطع الطريقين بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.* وقد ختمت سورة النساء بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. مما يوحي بأن لسورة النساء ارتباطات بتتمة مقطع الطريقين. وفي الآيتين التاليتين للآيات الخمس الأولى من مقطع الطريقين جاء قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.* وقد تحدثت سورة النساء عمن ينقض الميثاق وعن بعض المواثيق: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. وفي تلك الآيتين جاء قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وجاء في سورة النساء: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ.
كلمة في سورة النساء وتفصيلها في امتدادات محورها
فسورة النساء تفصل في محورها وفي ارتباطاته كذلك. كلمة في سورة النساء وتفصيلها في امتدادات محورها: قلنا: إن لكل سورة في القرآن محورا من سورة البقرة، وأي سورة في القرآن تفصل في هذا المحور وامتداداته من سورة البقرة فكأنها تجذب إلى هذا المحور ما هو الألصق به من المعاني، ثم تفصل في الجميع وكل ذلك على نسق فريد عجيب. وقد رأينا كيف أن سورة آل عمران فصلت في معان في سورة البقرة هي امتدادات لمحورها: فمن مقطع آدم في سورة البقرة أخذت، ومن مقطع بني إسرائيل أخذت، ومن مقطع إبراهيم أخذت، ومن القسم الثاني من سورة البقرة أخذت، ومن القسم الثالث أخذت. أخذت ما هو الألصق بمحورها وفصلته، ولكن ضمن سياقها الخاص، وهكذا فصلت سورة النساء في محورها، وفي ارتباطات هذا المحور، وفي امتداداته بما أكملت به التفصيل الذي بدأته سورة آل عمران، ووضعت الأساس الذي ستكمله سورتا المائدة والأنعام. كلمة في نوعية تفصيل كل من سورة آل عمران والنساء: في مقدمة سورة البقرة جاء وصف للمتقين والكافرين والمنافقين، ومن تحقق بصفات المتقين تخلص بشكل تلقائي من صفات الكافرين والمنافقين، ولذلك فقد جاءت سورة آل عمران وكأنها تفصيل لصفات المتقين فبدأت ب: الم وختمت بقوله تعالى تُفْلِحُونَ كما بدأت الآيات التي وصفت المتقين في سورة البقرة ب: الم وختمت بقوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إنها جاءت تفصيلا لمقدمة سورة البقرة بشكل ما فأدخلت فيها ما أدخلت. ومن ثم فقد أصبح لمقدمة سورة البقرة تفصيلها الواسع في سورة آل عمران. ضع هذه النقطة نصب عينيك وتابع: جاءت معان معينة في مقدمة سورة البقرة بشكل مجمل وجاء مقطع الطريقين بعد ذلك ليفصل بشكل مجمل الطريق إلى التقوى، والطريق إلى التحرر من الكفر والنفاق.
كلمة في غسيل الدماغ وغسيل القلب
ولكن بسورة آل عمران فصلت المقدمة فاقتضى أن يفصل في الطريقين فجاءت سورة النساء لتفصل في الطريق للتحقق بالتقوى والإيمان والعمل الصالح بالمفهوم الأوسع على ضوء تفصيل آل عمران. وستأتي سورتا المائدة وآل عمران لتفصلا بالمفهوم الأوسع للتحرر من الكفر والنفاق على ضوء ما سبق ذلك من تفصيل، ولذلك نلاحظ أن معاني قد طرقتها سورة آل عمران قد جاءت بعد ذلك في سورة النساء، والتفصيل الذي سيكون في سورتي الأنعام والمائدة سيكون تفصيلا على ضوء ما مر. كلمة في غسيل الدماغ وغسيل القلب: أصبح موضوع غسيل الدماغ علما برعت فيه كل دوائر المخابرات في العالم، حتى مخابرات الدول الديموقراطية أصبحت تستعمله بشكل خفي، وقد حاولت دوائر تبشيرية أن تستعمله، وإن اختلفت الوسائل. ومن الوسائل التي تستعملها بعض أجهزة المخابرات في موضوع غسيل المخ أن تضع الإنسان في ظروف نفسية وجسدية صعبة، ثم تحاول أن تسخر من مبادئه وعقائده، ثم تحاول أن تشككه فيها، ثم تحاول أن تغرس فكرة ما في دماغه من خلال التكرار مرات ومرات؛ حتى تصبح الفكرة وكأنها جزء منه، بحيث لو أراد أن يتحدث عما يخالفها لم يستطع ولدوائر المخابرات في هذا الموضوع أساليب وفنون وفي أكثر الأحيان- إن لم يكن في كلها- يجتمع في عملية غسيل الدماغ الوحشية مع الباطل مع الظلم، حتى تصبح المسألة ظلمات فوق بعض. هذا غسيل الدماغ أما غسيل القلب فذلك شئ آخر: عند ما تتراكم على فطرة الإنسان أنواع من الصدإ فكيف يتم الجلاء؟ الجواب: أن الجلاء في القرآن. لقد جاءت سورة البقرة فربت على التقوى من خلال سياق. وجاءت سورة آل عمران لتفصل في أساس التقوى ضمن سياق. وجاءت سورة النساء لتفصل في ماهية التقوى ضمن سياق. ثم تأتي سور القرآن وفي كل سورة يأتي جديد قديم فما إن يبدأ الإنسان يقرأ القرآن
تذكير أخير بين يدي سورتي المائدة والأنعام
حتى يغسل القرآن قلبه مرة بعد مرة، وكل ذلك بالحق وللحق، إذا أدركت هذه النقطة تكون قد أدركت حكمة من حكم التكرار، والتفصيل في القرآن وتكون قد عرفت سببا من أسباب كون القرآن على مثل هذا الترتيب. فما أعظم كتاب الله، إذ يذكرنا في سورة على طريقة وبأسلوب وتسلسل، ثم يذكرنا في سورة أخرى على طريقة وبأسلوب وتسلسل، ثم وثم، فإذا وجد القلب الذي يحسن التلقي عن الله، فإنه لا ينتهي من تلاوة كتاب الله مرة إلا وقد تحقق وتعلق، ثم إذا كرر زاد التحقق والتعلق حتى يخلص الإنسان لله وكتابه وشرعه، فإذا رافق هذا عبادة وإقامة فرائض ونوافل، كان غسيل القلب كاملا، وشتان بين غسيل القلب هذا، وغسيل المخ عند الكافرين والظالمين، ففي عملية غسيل المخ يوضع المعذب والضحية كرها في شروط دقيقة معينة من الخوف والجوع، وتسلط عليه أنواع الهزء والسخرية فيما هو عليه، ثم تكرر عليه بعض المعاني بأساليب متعددة، وطرق متعددة، ليقلع عما هو فيه، ويسير فيما يريده جلادوه. أما غسيل القلب، فمنطلقه الاختيار، وهدفه الارتقاء، وظروفه الخوف والخشية، وأدواته العبادة والصوم والذكر، وزاده كتاب الله يصفي وينقي، وشتان بين العدل والظلم، والحرية والإكراه، والخوف من الله، والخوف من الجلادين، والعبادة والسوط، والمعاني السافلة الخسيسة، وكتاب الله. وشتان بين ما يوصل إلى الجنة، وما يوصل إلى النار، وشتان بين الجنة والنار. تذكير أخير بين يدي سورتي المائدة والأنعام: نستطيع أن نقول: إنه بعد مقدمة سورة البقرة جاء مقطع يتألف من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول منه فصلت فيه سورة النساء، والجزء الثاني منه فصلت فيه سورة المائدة، والجزء الثالث منه فصلت فيه سورة الأنعام، وهذا هو المقطع بأجزائه الثلاثة: [سورة النساء (4): آية 21] وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
[سورة النساء (4): الآيات 22 الى 29] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)
إن الجزء الأول من هذا المقطع وهو الآيات الخمس الأولى فصلت فيه سورة النساء ولكن قوله تعالى من هذه الآيات الخمس لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* هو الذي أخذ الحيز الأكبر من السورة. فالسورة وضحت التقوى وما يدخل فيها، في مقاطعها كلها. ولئن جاءت مقدمة سورة البقرة لتعرض صفات المتقين فههنا عرفنا التقوى من خلال الأمر والنهي، وتأتي سورتا المائدة والأنعام لتفصلا ما لم يفصل في سورة النساء، أو تقول: إن المقطع المشار إليه في سورة البقرة فيه ثلاثة موضوعات متداخلة مترابطة، فجاءت سورة النساء لتفصل موضوعا، ثم سورة المائدة لتبين ما بعده، ثم سورة الأنعام لتبين الموضوع الأخير. وللإشعار بالتداخل وبوحدة المقطع، اجتمع في سورة النساء ما له صلة ببدايته وخاتمته. وكما أن المقطع في سورة البقرة مرتبط بالمعاني الموجودة في مقدمتها لأنه يمثل الطريق إلى التحقق بصفات الفئة الأولى المذكورة فيها، والتحرر من صفات الفئتين الأخيرتين. فسورة النساء هكذا. فالمعاني القرآنية يكمل بعضها بعضا، ويبني بعضها على بعض، فالسورة تفصل في محور وفي روابط المحور وفي امتدادات المحور. ومن كان يتابع ما كتبنا حتى الآن أصبح باستطاعته أن يدرك الشئ الرئيسي الذي نلح عليه في هذا التفسير ويدرك أننا على بصيرة في سيرنا بفضل الله عزّ وجل. ونحن لا نشك أن ما اتجهنا إليه في هذا التفسير في موضوع الوحدة القرآنية لا زال غامضا، ولا زالت أدلته غير واضحة، ولكنا كذلك لا نشك أن قارئ هذا التفسير من بدايته إلى نهايته سيتكامل معه صرح الأدلة حتى لا يشك أبدا في صحة ما اتجهنا إليه إن شاء الله. ونحب أن نستبق الأدلة فنقول: هل للصدفة محل في هذا الكون الذي هو صنع الله؟ حتما الجواب لا: هذا ما يقوله كل مؤمن، وعندئذ يأتي السؤال الثاني: هل هناك شئ في هذا الكون ينفك عن الحكمة؟ والجواب حتما: لا فإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للكون المخلوق، فما بالك بالقرآن الذي هو كلام الله، لا شك أن كل حرف في محله، وأن كل كلمة في محلها وأن كل آية في محلها، وأن كل سورة في محلها، وأن كل شئ فيه في محله لفي غاية الحكمة، والله وصف كتابه بالحكمة فهذا الكتاب الحكيم بكل ما فيه لا تنتهي
عجائبه. إن إدراكنا لهذه البدهية ينبغي أن يكون قاطعا للعجب في أن نحاول محاولتنا هذه التي يراها القارئ؛ لأنها محاولة للإجابة على كثير من الأسئلة المرتبطة بحكمة الله في أن يجعل كتابه على ما هو عليه. وسيرى القارئ كلما أوغلنا في هذا التفسير أن الأدلة ستتضافر لتأكد صحة ما اتجهنا إليه في موضوع الوحدة القرآنية وما عليه إلا أن يتابع وينصف. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
مقدمة المجلد الثالث: كلام عن ضرورة تعلم القرآن والعمل به
المجلّد الثالث [مقدمة المجلد الثالث: كلام عن ضرورة تعلم القرآن والعمل به] أي أخي القارئ: هذا هو المجلد الثالث من هذا التفسير وفيه سورتا المائدة والأنعام، ولعلك ألفت السير في هذا التفسير الذي يحتاج إلى صبر ومعاناة، خاصة في موضوع السياق والتعرف على آفاق الوحدة القرآنية، وإنما يهوّن عليك السير أن تعلم أنّ عصرنا عصر فتن، والنجاة في القرآن، وهذا مما تضافرت عليه أحاديث عن رسولنا عليه الصلاة والسلام، وإني لم آل جهدا في أن أقدم لك في هذا التفسير كل ما يحتاجه الفهم الصحيح لكتاب الله في عصر كثرت تعقيداته وأهواء أهله. أخرج أبو داود وأصل الحديث في البخاري ومسلم: قال نصر بن عاصم الليثي: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: من القوم؟ فقلنا: بنو الليث، أتيناك نسألك عن حديث حذيفة، قال: أقبلنا مع أبي موسى قافلين، وغلت الدوابّ بالكوفة، فسألت أبا موسى أنا وصاحب لي، فأذن لنا، فقدمنا الكوفة، فقلت لصاحبي: أنا داخل المسجد، فإذا قامت السّوق خرجت إليك، قال: فدخلت المسجد، فإذا فيه حلقة، كأنما قطعت رءوسهم، يستمعون إلى حديث رجل، قال: فقمت عليهم، فجاء رجل، فقام إلى جنبي، فقلت: من هذا؟ قال: أبصريّ أنت؟ قلت: نعم، قال: قد عرفت، ولو كنت كوفيا، لم تسأل عن هذا، قال: فدنوت منه، فسمعت حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني، قلت: يا رسول الله، هل بعد هذا الشر خير؟ قال: يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتّبع ما فيه- ثلاث مرات- قلت: يا رسول الله [هل] بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشرّ، قال: قلت: يا رسول الله [هل] بعد هذا الشّرّ خير؟ قال: يا حذيفة، تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه- ثلاث مرات- قلت: يا رسول الله، [هل] بعد هذا الشّر خير؟ قال: هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء فيها، أو فيهم، قلت: يا رسول الله، الهدنة على الدّخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه، قلت: يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه- ثلاث مرات- قلت: يا رسول الله، بعد هذا الخير شرّ؟ قال: نعم فتنة عمياء صمّاء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن متّ يا حذيفة وأنت عاض على جذل شجرة خير لك من أن تتّبع أحدا منهم». فأنت ترى أيها المسلم أن دواء ما نحن فيه تعلّم كتاب الله واتّباع ما فيه وهاتان روايتان يعضد بعضهما بعضا تؤكدان هذا المضمون:
- قال الحارث [بن عبد الله الهمداني] الأعور: «مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي فأخبرته، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ألا إنّها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن: 1] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور» أخرجه الترمذي وأحمد والدارمي على مقال في أحد رواته لكنّ معناه صحيح. - قال عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما:) «نزل جبريل عليه السلام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره: أنها ستكون فتّن، قال: فما المخرج منها يا جبريل؟ قال كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوجّ فيقوّم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لا تلتبس به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، هو الذي لم تتناه الجنّ إذ سمعته أن قالوا: (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) من وليه من جبّار فحكم بغير ما فيه قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن اتّبعه هدي إلى صراط مستقيم» أخرجه رزين وذكر معناه ابن كثير بعد حديث الحارث من حديث عبد الله بن مسعود وقال: رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن، فالمعاني في الروايات الثلاث تصبّ في إناء واحد، أنّ المخرج حيث ادلهمّت الفتن تعلّم كتاب الله والعمل بما فيه، فاصبر أخي على تعلّم كتاب الله فطريق الجنة محفوف بالمكاره.
في آفاق الوحدة القرآنية: كلام عن مناسبة سورة المائدة لما قبلها وعن محاور سور قسم الطوال
في آفاق الوحدة القرآنية: [كلام عن مناسبة سورة المائدة لما قبلها وعن محاور سور قسم الطوال]
يقول صاحب الظلال في تقديمه لسورة المائدة: «ومن ثم نجد في هذه السورة- كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها- موضوعات شتى، الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع، على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد .. الأصل فيه إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه بلا شريك .. ». ويقول الألوسي في تفسيره عن وجه مناسبة سورة المائدة لسورة النساء وما قبلها: «ووجه اعتلاقها بسورة النساء- على ما ذكره الجلال السيوطي- عليه الرحمة- أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة. وعقد الصداق. وعقد الحلف. وعقد المعاهدة والأمان، والضمني عقد الوصية. والوديعة. والوكالة. والعارية. والإجارة، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فناسب أن تعقّب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمّت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجّه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ* وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بتنزيل المكي، وأوّل هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب، ثم إنّ هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة، وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة في صفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة. والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل». ونحن مع إثباتنا لما قاله صاحب الظلال والألوسي مما يدخل في الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم نضيف:
إن في القرآن سرا آخر، وروابط أخرى أقوى، تربط سور هذا القرآن بعضها ببعض بروابط هي وحدها إعجاز، فكيف إذا كانت واحدة من مظاهر الإعجاز؟. لقد درجنا فيما مرّ من هذا التفسير، أن نعرض لوجهة نظرنا في موضوع الوحدة القرآنية، بشكل رفيق، وكلما جاءت مناسبة ذكرنا جزءا من وجهة النظر، بحيث يكمّل ما سبق ذكره، ويبقى الموضوع مفتوحا لكلام جديد. إن كل سورة في القرآن الكريم هي جزء من قسم، أو جزء من مجموعة في قسم، وكل مجموعة سور تشكل فيما بينها وحدة على ترتيب معيّن، وكل سورة في مجموعة لها محورها من سورة البقرة، والمجموعة مع بعضها تلقي أضواء التفصيل على محاور سورها في سورة البقرة، على ترتيب تفصّل فيه السورة اللاحقة في محور يأتي بعد محور السورة السابقة، بحيث تجد آية أو آيات في سورة البقرة، قد فصلتها سورة، ثم سورة، ثم سورة، وكل ذلك على طريقة عجيبة في التفصيل كما سيمر معنا بإذن الله تعالى. ولا يعني ما مرّ أنّ سورة البقرة كانت آياتها مجملة (¬1)، فالله- عزّ وجل- وصف القرآن كله بالإحكام والتفصيل: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود: 1) فسورة البقرة مفصّلة فيها المعاني ومن ثمّ فهي تلقي أضواء التفصيل على بقية السور، والسور كلها تلقي عليها أضواء التفصيل بما يتكامل معه التفصيل تكاملا عجيبا. ولعلّه لم يحن حتى الآن، أو ان الكلام في هذا الموضوع بأكثر مما ذكرنا فلنكتف هاهنا بهذا القدر الذي ستأتيك أمثلته وتفصيلاته مرّات ومرّات. لقد كانت سورة البقرة مقدمة، وأقساما ثلاثة، وخاتمة، ورأينا كيف أن المعاني تترابط فيها ترابطا مدهشا، وكيف أن كل الأقسام مرتبطة بالمقدمة، وكيف أن الخاتمة كذلك مرتبطة بالمقدمة. ثم جاءت سورة آل عمران ففصّلت في مقدمة سورة البقرة والمعاني التي هي أشد لصوقا بها، وقلنا من قبل: إن سورة النساء والمائدة والأنعام ستفصل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، بشكل مباشر على الترتيب التالي: ¬
سورة النساء تفصّل في الآيات الخمس الأولى من هذا المقطع، فهي محورها الرئيسي. وسورة المائدة ستفصّل في الآيتين اللاحقتين للآيات الخمس، فهما محورها الرئيسي. وسورة الأنعام ستفصّل في الآيتين الأخيرتين للمقطع، فهما محورها الرئيسي. وسنرى أن سورة الأعراف ستفصّل في المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة، وأنّ سورتي الأنفال وبراءة ستفصلان في محور يأتي في القسم الثالث من سورة البقرة، وبهذا ينتهي القسم الأول من أقسام القرآن قسم الطوال، وبانتهائه نأخذ التفصيل الأول لمعاني سورة البقرة، بما يغطي مجموع معانيها، ليبدأ القسم الثاني وفيه التفصيل الثاني كما سنراه فيما بعد. لقد فصّلت مجموعة السور السبع التي جاءت بعد سورة البقرة معاني في هذه السورة مبتدئة بأول السورة، ثم جاءت المحاور بعد ذلك متلاحقة. كل محور لاحق يأتي بعد محور سابق ومجموعة السور السبع وهي تفصّل في محاورها لم تكن تفصّل في المحور فقط، وإنما كانت تفصّل في المحور وامتدادات معانيه الأكثر لصوقا به من سورة البقرة نفسها. وهكذا جاءت كل سورة من سور المجموعة وهي تجمع بين المحور وامتدادات معانيه على نسق جديد، مفصّلة ومبينة، بحيث لا ننتهي من قسم الطوال إلا وقد أخذنا تفصيلا شاملا لمعان في سورة البقرة، من خلال السياق الخاص لكل سورة من هذه السور. وستأتي الأمثلة والتفصيل شيئا فشيئا. فلنبدأ عرض سورة المائدة. ***
سورة المائدة
سورة المائدة وهي السّورة الخامسة بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الرابعة من قسم الطّوال وآياتها مائة وعشرون وهي مدنيّة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم
كلمة في سورة المائدة
كلمة في سورة المائدة: قلنا إن المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة والذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة، هو مقطع الطريقين فبعد أن ذكرت مقدمة سورة البقرة أصناف الناس: متقين، وكافرين، ومنافقين، جاء المقطع الأول ليوضح الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق، فجاءت الآيات الخمس الأولى منه لتوضح الطريق إلى التقوى، وهي التي كانت محور سورة النساء. وبعد هذه الآيات الخمس تأتي آيتان هما محور سورة المائدة، ثم آيتان هما محور سورة الأنعام. فالآيتان اللتان هما محور سورة المائدة، تتكلمان في الفسوق الذي هو الطريق إلى الكفر والنفاق، والآيتان اللتان هما محور سورة الأنعام تناقشان الكافرين بكفرهم، وتقيمان عليهم الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية. وإذا قلنا إن سورة النساء تكلمت في الطريق إلى التقوى، وسورة المائدة تكلمت في الطريق إلى الفسوق، فذلك في سياقهما الرئيسي، إن آيتي البقرة اللتين تشكلان محور سورة المائدة هما: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. فهذا هو الطريق إلى الكفر والنفاق، نقض للعهد، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض، فهؤلاء هم الفاسقون، وهم الخاسرون، وهم الكافرون، وهم المنافقون بقسميهم. وتأتي سورة المائدة لتحرر المرء من هذه الأخلاق، وتفصّل فيها، وتدعو إلى ما يقابلها. فهي تبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ*. وفي سياق سورة المائدة يأتي قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وفي سياق السورة أيضا يأتي قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وفي سياق السورة يأتي قوله تعالى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وفي سياق السورة يأتي قوله تعالى لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ... وصلة ذلك كله بقوله تعالى من سورة البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ لا تخفى، ففي السورة نماذج لنقض العهد مع الله، وتذكير بالوفاء بالعهود والعقود. ثم إن في السورة تذكيرا بما أمر الله أن يوصل فتذكر الولاء لله والرسول والمؤمنين وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ... لا تخفى أيضا. وفي سورة المائدة يأتي قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ .... كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ واضحة. فسورة المائدة تفصّل في موضوع نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وفي موضوع الإفساد في الأرض، من خلال العرض، ومن خلال الأمر بما يحرّر من ذلك وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباطها بمحورها. قلنا: إنّ محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
وقد رأينا فيما ذكرناه نماذج وردت في السورة على قضايا الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض. ونلاحظ كذلك أن كلمة الفاسقين ترد في السورة كثيرا، وكذلك كلمة الخاسرين. مما يؤكد ما ذكرناه من أنّ محور سورة المائدة هو تلكما الآيتان من سورة البقرة. نلاحظ مثلا مجئ كلمة الخاسرين في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ .. وفي قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ... فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ .. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ. وكما وردت كلمة الخاسرين في السورة كثيرا فكذلك كلمة الفاسقين: قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ* قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. إنه لمن الواضح أن هناك صلة بين سورة المائدة وبين قوله تعالى من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. إن سورة المائدة تفصّل فيما هو نقض للميثاق، وفيما هو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وفيما هو إفساد في الأرض، فتدعونا لتركه وتطالبنا بما لو فعلناه لا نكون فاسقين ولا خاسرين، أي لا منافقين ولا كافرين، فهي تكمّل سورة النّساء، فإذا كانت سورة النساء قد فصّلت فيما هو من التقوى، فسورة المائدة تفصّل فيما ليس من التقوى لتعمّق عندنا قضية التقوى وتحققنا بها بتخليصنا من أضدادها.
آثار ونصوص
وإذا عرفنا محور السورة من سورة البقرة، وعرفنا مضامينها الرئيسية. فلنبدأ عرض السورة ملاحظين: أنّ بداية سورة المائدة هي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .... وأنّ بداية صفات الفاسقين في سورة البقرة هي الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. فالسورة تبدأ بذكر ما يحرّرنا من نقض العهد الذي يستحق به صاحبه الإضلال، وقد أغفلنا عمدا الإشارة في هذه المقدمة إلى كيفية تفصيل سورة المائدة في امتدادات معاني محورها من سورة البقرة، مؤثرين تأجيله لعرضه أثناء التفسير. تتألف السورة من ثلاثة أقسام وخاتمة: القسم الأول يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* والقسمان الآخران يبدأ كل منهما بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ* ويتألف القسم الأول من ثلاثة مقاطع والثاني من مقطعين والثالث من مقطعين ثم تأتي الخاتمة، وللتسهيل فسنعرض السورة على أنها مقاطع مشيدين إلى الأقسام. آثار ونصوص روى الحاكم عن جبير بن نفير قال: (حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم فقالت: أما إنّها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: (أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها). وقال عبد الله بن عمرو: (آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح) رواه الترمذي وقال حسن غريب. فلنعط إذن لدراسة المائدة ما تستحقه من الأناة فإنها من الأهمّية بالمكان الكبير لمن يريد أن يفهم دين الله، ولمن يريد أن يتحرر من أسباب الضلال، وأن يستكمل قضية التقوى في نفسه.
المقطع الأول ويبدأ من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذا هو
المقطع الأول ويبدأ من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 5/ 3 - 1
5/ 6 - 4
كلمة في المقطع
5/ 11 - 7 كلمة في المقطع: يبدأ المقطع بالأمر بالوفاء بالعقود، وينتهي بتذكيرنا بنعمة الله- عزّ وجل- علينا أن كفّ أيدي النّاس عنا بعد إذ همّوا باستئصالنا، وكأن ختم المقطع بهذه النّهاية يقول لنا: أيها المؤمنون: كونوا مسلمين ملتزمين، ولا يحملنكم خوف الناس على التخلي عن إسلامكم، ولذلك فقد ختمت الآية الأخيرة بالأمر بالتقوى والتوكل .. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وفي الآية الثانية من المقطع يرد قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وقبل نهاية المقطع بثلاث آيات يرد قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مما يشير إلى وحدة المقطع وارتباط نهاياته ببداياته.
بدأت السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. وقبل نهاية المقطع بأربع آيات جاء قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ممّا يؤكد تعانق الصّلات بين بداية المقطع ونهايته. يبدأ المقطع بالأمر بالوفاء بالعقود، ثمّ يعرض علينا صفحة من الحلال والحرام وما يحلّ لنا وما يحرم، وذلك جزء من عقود الله معنا. ثمّ يأتي كلام عن الوضوء والغسل للصلاة، وهذا من أهم العهود المأخوذة علينا بدليل قوله عليه الصلاة والسلام «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». ولذلك يأتي بعد آية الأمر بالطهارة مباشرة قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ثم يأتي بعد ذلك أمر بالقيام لله، وبالشهادة بالقسط وهما كذلك من العهود، وأخيرا يأتي تذكير بأن قوما قد همّوا باستئصالنا، فكفّ الله أيديهم عنا، وذلك لتكون إقامتنا لأمر الله كاملة، ولنقيم العدل كاملا، ولنفي لله بالعقود كاملة، فالله معنا إن كنّا متقين متوكلين. فالمقطع كله إذن له صلة بالعقود والعهود المأخوذة علينا ولذلك فإن المقطع الثاني يبدأ بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ مما يشير إلى أن الكلام عن المواثيق لا زال مستمرا. وفي معرض النّهي عن استحلال شعائر الله، والنهي عن استحلال قتال القاصدين للبيت الحرام يأتي قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فالسياق يقول: لا تتعاونوا على مثل هذا، وتعاونوا على ما هو برّ وتقوى، وإذن فالتعاون على الإثم والعدوان يتنافى مع البر والتقوى، البرّ الذي حددته سورة البقرة وآل عمران، والتقوى التي فصّلت فيها سورة البقرة وآل عمران والنساء. ومجيء قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. بين ذكر المحرمات من المطعومات، وبين الترخيص للمضطر، وإباحة الطيبات والصيود المشروعة، وطعام أهل الكتاب، وإباحة الزواج من المؤمنات ومن الكتابيات، ما يشعر بأهمية قضايا التحريم والتحليل في دين الله- عزّ وجل- وأنها حلقة في منظومة هذا الدين. فإذا كان أساس الدين الأول (لا إله إلا الله محمد رسول
الله) فإن موضوع الحلال والحرام هو الشئ المتمّم المكمّل في هذا البناء. وإذن فكل المعاني تؤكد وحدة المقطع فلنتأمل صلة المقطع بالسياق القرآني العام: - قلنا إن محور سورة المائدة هو قوله تعالى في سورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا .. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ولقد فصّل المقطع تفصيلا واضحا في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ بأن طالبنا بالوفاء بالعقود وأرانا ما يدخل في العقود، وأمرنا أن نتذكر عهد الله علينا ومواثيقه، ليكون ذلك مقدمة للمقطع الثاني، الذي يبدأ بالكلام عن نقض بني إسرائيل للعهود، وعن نقض النصارى للعهود، فأنتم أيها الأمة المسلمة لا تنقضوا عهودكم. لقد ذكر في المقطع العقود والخسران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. لاحظ صلة ذلك بالمحور ... الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. قلنا: إن كل سورة جاءت بعد سورة البقرة تفصّل في محورها، وفي ارتباطات هذا المحور، وفي امتدادات معانيه التي هي أشد لصوقا به: ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وهاهنا في سورة المائدة عرفنا أنّ كلمة (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) عهد وميثاق: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ولا يجوز نقضه، ومن نقضه ألا نتقيد بحلال ولا حرام، ومن نقضه ألا نلتزم بالحدود. فههنا عرّفتنا سورة المائدة على بعض امتدادات المحور في سورة البقرة وعلى خيط الربط. ومن ارتباطات المحور في سورة البقرة: أنّ المحور وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا
المعنى العام للمقطع الأول
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... جاء بعد قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. وهاهنا يأتي قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. ومن ارتباطات المحور المشار إليه في سورة البقرة أنه جاء بعد الكلام عن المتقين الذين من صفاتهم إقامة الصلاة وهاهنا يأتي قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا .... ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قضايا تحريم بعض المطعومات علينا وإباحة ذلك في حالة الاضطرار، وهاهنا يأتي تفصيل لذلك ضمن سياق السورة الخاص بها وبما يخدم محورها. ولعله من الواضح أن سورة المائدة تتّصل مواضيعها بمواضيع سورة النساء، وذلك لأن سورة النساء، وسورة المائدة، وكذلك سورة الأنعام، تفصّل في مقطع واحد هو مقطع الطريقين من سورة البقرة، فكذلك يوجد تلاحم وارتباطات في السور الثلاث، وكما أن المقطع متلاحم مع المقدمة التي فصّلتها سورة آل عمران ففيما بين السور الثلاث وآل عمران تلاحم، وهذا موضوع ستتضح لك آفاقه إن شاء الله تعالى. المعنى العام للمقطع الأول: يأمر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع المؤمنين بالوفاء بالعهود، ويدخل في ذلك القيام بما ألزم الله- عزّ وجل- به عباده في أمر الحلّ والحرمة وما أخذه الله من الميثاق على من أقرّ بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم العهد فيه، من إقامة الفرائض، والأوامر، وترك النّواهي، ويدخل في ذلك العقود التي أباح الله إجراءها، مما يتعاقد به الناس، وألزم الله بالوفاء بها. ثم يبيّن الله أن مما أحل لنا: الأنعام من بقر وغنم وماعز وإبل، إلّا ما سيتلى علينا من تحريم بعضها في بعض الأحوال، كما سيأتي. ثم بيّن لنا أن الصيد في حال الإحرام حرام، والمراد به هنا صيد البر، ولله المشيئة المطلقة في الحكم بما يشاء إذ هو وحده الربّ، والتحليل والتحريم قضيّتان مهمّتان في الحياة البشرية، والوقوف عند حدّ الله فيهما أمر في غاية الخطورة، إذ بدونه لا تكون معرفة لله، ولا عبادة ولا تقوى، ثمّ نهى الله- عزّ وجل- أن تستحل حرماته أو يستهان
بشعائره. وشعائره هي أعلام دينه في العبادات، من صلاة وحج، أو هي ما أحلّ وحرّم، وكما نهى عن استحلال حرمة شعائره فقد نهى أن تنتهك حرمة الأشهر الحرم بانتهاك محارم الله فيها وهي- أي المحارم- وإن كانت واجبة التّرك في غير الأشهر الحرم فإنها فيها آكد. وكما نهى عن هذا، وهذا. فقد نهى عن ترك الإهداء إلى البيت الحرام، لما في الإهداء من تعظيم شعائر الله، كما نهى عن ترك تقليد هذا الهدي في أعناقه ليتميّز عمّا عداه من الأنعام، وليعلم أنّه هدي إلى الكعبة، فيجتنبه من يريده بسوء، ويبعث من يراه على الإتيان بمثله فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ولقد جاء الأمر بالإهداء والتقليد من خلال النّهي عن استحلال الاعتداء على الهدي والقلائد. وواضح أنّ استحلال ذلك محرّم، بل هو كفر إذ استحلال الحرام القطعي كفر. كما نهى الله- عزّ وجل- عن استحلال قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا، وعن استحلال قتال من قصده طالبا فضل الله، وراغبا في رضوانه، مثل هذا لا يجوز صدّه ولا منعه ولا تهييجه. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّ المحرم إذا فرغ من إحرامه، وأحلّ منه، فقد أبيح له ما كان محرّما عليه في حال الإحرام من الصيد، ثم نهى الله- عزّ وجل- أن يحملنا بغض قوم كانوا قد صدّونا عن المسجد الحرام على أن نتجاوز حكم الله فيهم، بل علينا أن نحكم بما أمرنا الله به من العدل في حق كل أحد، ثم أمر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين بأن يعاون بعضهم بعضا على فعل الخيرات- وهو البرّ هنا- وترك المنكرات- وهو التقوى هنا- ونهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم. فلا يجوز التعاون على ترك ما أمر الله بفعله، وعلى مجاوزة الله في دينه، فهنا نهي عن الإثم وهو مجاوزة ما فرضه علينا في أنفسنا، ونهي عن العدوان وهو تجاوز ما حدّه الله في شأن الغير. ثم أخبر تعالى خبرا يتضمّن النّهي عن تعاطي محرّمات محدّدة: وهي ما مات من الحيوانات من غير ذكاة ولا اصطياد، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال، سواء مات بتذكية أو غيرها، وهكذا الجراد، وكما حرمت الميتة حرّم الدم المسفوح، وكذلك لحم الخنزير إنسيّه ووحشيّه، واللّحم يعمّ جميع أجزائه حتى الشحم. وكذلك حرّم ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله. فإنه حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح هذه الحيوانات على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره، من صنم، أو طاغوت، أو وثن، أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فهي حرام بالإجماع، ومما
حرّمه الله فى الآية المنخنقة: وهي التي تموت بالخنق، إما قصدا، وإما اتفاقا كأن تتخبّل في وثاقها فتموت به فهي حرام أيضا، وكذلك الموقوذة: وهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدّد (كالعصا) حتى تموت فلا تحلّ، وكذلك المتردّية: وهي التي تسقط من شاهق أو موضع عال، فتموت بذلك، فلا تحلّ. وكذلك النّطيحة: وهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدّم ولو من مذبحها. وكذلك ما عدا عليها أسد. أو فهد، أو أمثال ذلك أو ذئب، أو كلب، أو نمر فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام، وإن كان قد سال منها الدّم، ولو من مذبحها فلا تحلّ بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة، أو البعير، أو البقرة، أو نحو ذلك. فحرّم الله ذلك على المؤمنين. إلا ما يمكن ذكاته مما مرّ وذكي فإنه يحلّ، فما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، من المنخنقة، أو الموقوذة، أو المتردية، أو النّطيحة، أو ما أكل السبع، فذبح وفيه روح جاز أكله. وجمهور الفقهاء على أن المذكّاة متى تحرّكت بحركة تدلّ على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال. والنّصب: حجارة حول الكعبة كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللّحم ويضعونه على النّصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح التي ذبحت عند النّصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح، وذلك لأن الذبح عند النّصب من الشّرك الذي حرّمه الله ورسوله. وكانت العرب في جاهليتها تستقسم بالأزلام: وهي عبارة عن قداح ثلاثة مكتوب على أحدها: افعل، وعلى الآخر لا تفعل، والثالث فارغ ليس عليه شئ، توضع هذه القداح في كيس فمن أراد أمرا مهمّا مدّ يده إلى الكيس، فأجال القداح ثم أخرج أحدها من غير أن ينظر، فإذا طلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد. وقد حرّم الله ذلك لما في تعاطيه من الفسق، والغي، والضلالة، والجهالة، والشرك. وبدلا من ذلك فقد أمر الله المؤمنين إذا تردّدوا في أمورهم أن يستخيروه، بأن يتعبدوا له بصلاة الاستخارة ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- ما حرّم علينا، وبعد أن بيّن ما بيّن من معالم الإسلام فيما مضى، مما أصبح به الصف الإيماني متميّزا مستعصيا على الكفر وأهله، فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، وألا يخافوا أحدا إلّا الله. فإنهم إن لم
يخافوا أحدا في مخالفتهم الكافرين ينصرهم الله عليهم، ويؤيّدهم ويشف صدورهم. وفي هذا السياق وفي هذا المقام ذكّر الله- عزّ وجل- هذه الأمة بأكبر نعمة عليها حيث أكمل لها دينها، فلا تحتاج إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجنّ، فلا حلال إلا ما أحلّه. ولا حرام إلا ما حرّمه. ولا دين إلا ما شرعه، وكل شئ أخبر به فهو حقّ وصدق لا كذب فيه ولا خلف. وكما أكمل الله- عزّ وجل- لهم الدين بما أنزله من وحي، فقد أتمّ عليهم النعمة بهذا الإسلام، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، فإنه قد أتمّه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا، فليرض المسلمون لأنفسهم ولأمتهم وللبشر ما رضيه الله لهم، فإنّه الدّين الذي أحبّه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرّسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه. وبعد التذكير بهذه النّعمة يعود السّياق إلى موضوع المحرّمات، فيبيّن أن من احتاج إلى تناول شئ من هذه المحرّمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله والله غفور رحيم، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه، ويغفر له، وبعد أن بيّن تعالى ما حرّم علينا من الخبائث الضارّة للبدن، أو للدين، أو لهما فيما مرّ، فإن السياق يستمر في تبيان بعض ما أحلّ في معرض الجواب على سؤال عما أحلّ للمسلمين. فيذكر الله- عزّ وجل- أنّ ما أحلّه لنا هو الطيبات من الذبائح الحلال الطيبة التي ذكر اسم الله عليها، وكذلك الطيبات من الرزق الحلال، وأحل لنا ما صدناه بالجوارح وهي: الكلاب، والفهود، والصقور، وأشباهها، إذا كانت معلّمة، وأمسكت على صاحبها، وكان مرسلها قد ذكر اسم الله عليها وقت إرسالها، فإن صيدها حلال وإن قتله الجارح بالإجماع. وكما ذكّرنا الله بنعمته علينا بهذا الإسلام، في هذا السياق فإنه كذلك هنا يذكّرنا بنعمته علينا إذ أباح لنا الطيبات. وفي هذا السياق أيضا يقرر ويمنّ علينا بإباحة ذبائح أهل الكتاب لنا، وإباحة ذبائحنا لهم. وذكّرنا كذلك بأنه أحلّ لنا نكاح الحرائر العفيفات من النّساء المؤمنات. وتذكيره لنا بهذا توطئة للتقرير والامتنان علينا بإباحة زواج الكتابيّات لنا إذا أدّينا إليهنّ مهورهنّ، ونكحناهنّ بالطريق المشروع، من عقد وشهود، غير زانين بهنّ، أو متخذين إيّاهنّ عشيقات، ثم ذكر الله قاعدة: أنّ الذي يكفر بالإيمان، فإنه في الآخرة خاسر، حتى لا يتوهّم أنّ الزّواج من الكتابية يدخلها الجنّة مع بقائها على كفرها. وليتذكّر المؤمن رحم الإيمان فيفضّل المؤمنة على غيرها، وختم الآية بكلمة
الخاسرين، دو دلالة على السياق القرآني العام سنذكرها في نهاية الحديث عن المقطع إن شاء الله. ثم أمر الله- عزّ وجل- المؤمنين بالوضوء للصلاة في حالة الجنابة، وبالتيمم بدلا عن الطهارة بالماء في بعض الأحوال. ووصف الوضوء ووصف التيمم والحالات التي تبيح التيمم. وبين الحكمة في هذا التيسير وهو استخراج الشّكر والتحقّق به. ثمّ ذكّر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين بنعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق، في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه. ذكّرهم أن يتذكروا الميثاق الذي أعطوه عند ما قالوا سمعنا وأطعنا. ثم أمرهم بالمواظبة على التقوى في كل حال، ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر. ثم أمر الله- عزّ وجل- المؤمنين أن يكونوا قوّامين بالحق لله- عزّ وجل- لا لأجل الناس والسمعة، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا بالجور. ثم نهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل أمرهم أن يكونوا عادلين مع كلّ أحد، صديقا كان أو عدوا، مبينا أنّ فعل العدل أقرب إلى التقوى من تركه، آمرا إيّاهم بالتقوى، معلّما إيّاهم أنّه عليم بالظّواهر والخفيّات، ليعلموا أنه سيجزيهم على ما علم من أفعالهم التي عملوها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة لذنوبهم، والجنّة التي هي من مظاهر رحمته، والتي لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم التي شاء الله أن تكون أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه. فالكل منه، وكما وعد المؤمنين بالمغفرة والجنة، فقد توعّد الكافرين بالنار. ثم ذكّر الله- عزّ وجل- المؤمنين بنعمة من نعمه أحسّها الجيل الأوّل ويكرّرها الله في كل حين، وهي كفّ أيدي من يهمّ أن يوقع بالمؤمنين، ثمّ كرّر الأمر لهم بالتقوى وأمرهم بالتوكل عليه بهذه المناسبة، ليفهمهم أنّ من توكّل على الله كفاه الله ما أهمّه، وحفظه من شرّ النّاس وعصمه. ولو أننا تأمّلنا في معاني المقطع لوجدناها نماذج على أنواع مما أخذه الله علينا من مواثيق، في العبادة، والسلوك، والقضايا القلبية، والقضايا الحياتية، فإذا ما تذكرنا أنّ سورة المائدة تقابل قوله تعالى في سورة البقرة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
المعنى الحرفي
إذا تذكّرنا ذلك، عرفنا كيف أننا أخذنا تفصيلا في قضايا الميثاق، فقد لاحظنا تكرّر العهد والميثاق في ابتداء المقطع، وفي نهايته، وفي الوسط، كما لاحظنا قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. إنّ ذكر الخسران في نهاية آيتي البقرة، وفي وسط هذا المقطع من هذه السورة، كل ذلك يذكّرنا بالمحور الذي تدور حوله معاني السورة ضمن السياق القرآني العام. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ العقد: هو العهد الموثّق. وهي هنا عقود الله التي عقدها على عباده وألزمهم إياها، من مواجب التكليف، سواء ما عقده الله عليهم، أو ما تعاقدوا عليه فيما بينهم، على ضوء شريعته. والظاهر أنّ ما جاء بعد هذا الأمر هو التفصيل له. والأمر بالوفاء بالعقود نهي عن الغدر والنكث. فوائد: [حول معنى كلمة «العقود» وما يدخل فيها] 1 - قال زيد بن أسلم في تفسير العقود في الآية: هي ستة، عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. أقول: العقود أكثر من ذلك. 2 - قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أن المراد بالعقود في الآية العهود وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك. 3 - استدل الحنفية على لزوم عقد البيع وثبوته، ونفي خيار المجلس، بهذه الآية، وأوّلوا الحديث الصحيح بأنّه في ما قبل العقد. وهو مذهب المالكية مع الحنفية، واعتمد الشافعية عدم لزوم عقد البيع إلا بعد التفرّق. للحديث الصحيح «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا». قال ابن كثير الشافعي: وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقّب لعقد البيع، وليس هذا منافيا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود. 4 - روى ابن أبي حاتم أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ. فقال:
فائدة: حول الخلاف في إباحة جنين البهيمة المذبوحة
«إذا سمعت الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارعها سمعك خير يأمر به أو شرّ ينهى عنه». أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة في الأصل: كلّ ذات أربع قوائم، ثم أطلقت على كل حيوان في البرّ والبحر. والتقدير في الآية: أحلت لكم البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية البقر، والغنم، والماعز، والإبل، وفسّرها بعضهم بأنها: الظباء، وبقر الوحش، نظرا إلى ما بعدها. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إشارة إلى الآية التي ستأتي بعد قليل وهي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. فما حرّمته هذه الآية مستثنى من الحلّ العام لبهيمة الأنعام، فكان المعنى: أحلت لكم الأنعام إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الحرم: جمع حرام وهو المحرم. والمعنى: أحلت لكم هذه الأشياء، لا محلّين الصيد وأنتم محرمون فكأنه أراد أنه أحل لكم الأنعام في حال امتناعكم عن الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيّق عليكم. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام. فيحلّ ما يشاء، ويحرّم ما يشاء. وله وحده حق الحكم، وحق التحليل والتحريم؛ إذ هو الربّ، وهو الأعلم بمصالح عباده. فائدة: [حول الخلاف في إباحة جنين البهيمة المذبوحة] استدلّ ابن عمر وابن عباس وغير واحد بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ... على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمّه عند ذبحها. وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد قال: قلنا يا رسول الله ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: «كلوه إن شئتم فإنّ ذكاته ذكاة أمّه» وروى أبو داود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» وهي قضيّة خلافيّة لأنه يوجد من فهم الحديث على أنّ الجنين يحتاج إلى ذكاة كذكاة أمّه. والأمر فيه سعة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر: جمع شعيرة. وهو اسم ما أشعر. أي جعل شعارا. وهل المراد بها كل ما كان شعارا وعلما على دين الله من فرائضه ومحارمه؟ أو المراد بها هنا ما جعل شعارا، وعلما للنّسك، من مواقف الحج
ومرامي الحجار، والمطاف، والسعي، والأفعال التي هي علامات للحج يعرف بها، من الطواف والإحرام، والسعي، والحلق، والنّحر؟. قولان للمفسّرين، فعلى الأوّل يكون المعنى: لا تحلّوا ما حرّم الله بترك فرائضه وارتكاب منهيّاته. وعلى الثاني يكون المعنى: لا ترتكبوا ما يخلّ بشعائر الحج ومناسكه بالتّهاون بحرمتها، والحيلولة بينها وبين المتنسّكين بها. وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ. أي: لا تحلوا الشهر الحرام. وما المراد بالشهر الحرام هنا؟ هل المراد به أشهر الحج؟ أو المراد به الأشهر الحرم كلها؟ ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؟. قولان للمفسرين. وعلى القول الأول يكون المعنى: لا تفعلوا في أشهر الحج ما تصدون به الناس عن الحج. وعلى القول الثاني يكون المعنى: ولا تفعلوا في الأشهر الحرم ما ينافي حرمتها، فالمعصية فيها أشد حرمة، وأجمعوا على أنّ الله أحلّ قتال أهل الشرك، والكفر، والبغي، في الأشهر الحرم، وغيرها من شهور السّنة، فمن قال إنّ النّهي في الآية عن استحلال الشهر الحرام نهي عن القتال فيه كما هو عادة العرب في الجاهلية، اعتبر هذا منسوخا. وعلى ما ذكرنا من تفسير النّص فلسنا بحاجة إلى تقدير النّسخ ولا يترتب على الخلاف نتائج عملية وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ. أي: ولا تحلوا الهدي ولا القلائد. والهدي، هو ما أهدي إلى البيت، وتقرّب به إلى الله تعالى من النّسائك كالإبل والغنم والبقر والماعز. وهو جمع هدية. والقلائد جمع قلادة وهو ما قلّد به الهدي من نعل أو عروة مزادة، أو لحاء شجر، أو غيره. والمراد بالقلائد هنا الهدي المقلّد نفسه. والمعنى: لا تتعرضوا للهدي بالغصب، أو بالمنع من بلوغ محلّه. ولم عطف عليه القلائد مع أن القلائد من الهدي؟. قال النسفي: وتعطف على الهدي للاختصاص لأنها أشرف الهدي ... كأنه قيل والقلائد منها خصوصا، وجاز أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي: ولا تحلّوا قلائدها فضلا عن أن تحلّوها. وذهب ابن كثير إلى أن معنى ولا تحلّوا الهدي ولا القلائد: أي لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإنّ فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميّز به عمّا عداها من الأنعام، وليعلم أنّها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها .. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً. آمّين أي: قاصدين. يبتغون أي: يطلبون والمراد بالفضل هنا: التّجارة أو
فوائد
الثّواب، والمراد بالرّضوان أي: أن يرضى الله عنهم. والمعنى: ولا تحلّوا قوما قاصدين المسجد الحرام، وهم الحجّاج، والعمّار، ممّن صفتهم أنّهم يطلبون فضل الله ورضوانه أي: لا تتعرضوا لهم، فأمّا من قصد المسجد الحرام ليلحد فيه، أو ليشرك عنده، أو ليكفر به، فهذا يمنع ويتعرض له. وقد حكى ابن جرير الإجماع على أنّ المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أمّ البيت الحرام، أو بيت المقدس وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا. أي: إذا فرغتم من إحرامكم، وخرجتم منه، وأحللتم، فقد أبحنا لكم ما كان محرّما عليكم في حال الإحرام من الصيد. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ. أي: ولا يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ. أي: شدّة بغضهم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. أي: لكونهم منعوكم عن المسجد الحرام أَنْ تَعْتَدُوا. أي: أن تنتقموا منهم بإلحاق مكروه بهم لم يأذن به الله. قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى البر: كلمة شاملة فسرتها آية البر في سورة البقرة، وفسرها الحديث الشريف «والبر ما اطمأنت إليه النفس ... » والتقوى هي البرّ. وكلمات المفسّرين في تفسيرهما هنا متقاربة، فمنهم من قال: البرّ هنا: فعل الخير، والتقوى: ترك المنكرات. ومنهم من قال: البرّ: العفو. والتقوى والإغضاء. ومنهم من قال: البرّ: فعل المأمور. والتقوى: ترك المحظور. والمراد بهما- والله أعلم- ما يعم كل برّ، وكل تقوى، على أوسع مدلولاتهما، فيدخل فيهما تبعا ما له علاقة في السياق، من العفو، وترك الانتصار وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فسّر عليه وآله الصلاة والسلام الإثم بأنه: ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. قال ابن جرير: في تفسير الإثم والعدوان: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله، والعدوان: مجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم. ويدخل في هذا النهي آلاف الصّور، إذ العلاقات الاجتماعية في الغالب إمّا تعاون على البرّ والتقوى، أو تعاون على الإثم والعدوان، على أي مستوى من مستويات التعامل. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصى وما اتقى، وتعاون على غير البر والتقوى. فوائد: 1 - [تقلّد القلائد عند أهل الجاهلية للأمن] «كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلّدوا
2 - فائدة حول النسخ في سورة المائدة والخلاف فيه
أنفسهم بالشعر والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به». رواه ابن أبي حاتم. وأجمع علماء المسلمين على أن المشرك لو قلّد عنقه، أو ذراعيه، بلحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك أمانا من القتل، إذا لم يكن تقدّم له عقد من ذمّة المسلمين أو أمان. 2 - [فائدة حول النسخ في سورة المائدة والخلاف فيه] يمر معنا أحيانا في سورة المائدة ما يشعر بأنّ شيئا ما منها منسوخ، وبعضهم يكثر، وبعضهم يقل، وبعضهم ينفي النسخ فيها أصلا، كالحسن البصري إذا سئل: نسخ من المائدة شئ؟ قال: لا. والسبب في ذكر النسخ أو عدمه هو فهم بعض النصوص فهما موسّعا يلزم عليه اعتماد النسخ. فمثلا قال ابن عباس. نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وكما رأينا في آية القلائد، سنرى في الآية الثانية أنّ قضيّة النّسخ هنا إنّما هي أثر عن فهم موسّع للنّص فقط. ولو أننا فهمنا النّص من الابتداء فهما مضيّقا فإننا لا نحتاج للقول بالنّسخ. 3 - [سبب نزول آية وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ... وكلام على النسخ فيها] ذكر عكرمة والسّدّي وابن جرير أنّ آية وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نزلت في الحطيم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلمّا كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عزّ وجل: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ... فإذا صح أن هذا هو سبب النزول فإنه يكون منسوخا. أو نقول: إن هذه الصورة من عموم اللفظ أصبحت منسوخة. 4 - [حكم الأمر بعد الحظر] من التحقيقات الأصولية أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة كقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا فالأمر هنا بعد الحظر فهو للإباحة المفهومة من قبل من مفهوم قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. 5 - [الترغيب في الدلالة على الخير والترهيب من الإعانة على الشر] روى البزّار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «الدالّ على الخير كفاعله» قال ابن كثير وله شاهد في الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتّبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتّبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» وروى الطبراني عنه عليه الصلاة والسلام «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام».
[سورة المائدة (5): آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .... أي: البهيمة التي تموت حتف أنفها. ويستثنى من ذلك ميتتا السمك والجراد. وَالدَّمُ. أي: المسفوح. وهو السائل. أما الكبد والطحال وما يتبقى في العروق بعد الذبح فهذا مباح. وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ. الخنزير كله نجس وإنما خصّ اللّحم بالذكر، لأنه معظم المقصود والخنزير بكل أنواعه حرام إنسيّه ووحشيّه. وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. أي: وما رفع الصوت به لغير الله. وهو قولهم: باسم اللات والعزى، أو غير ذلك مما سوى الله عند ذبحه، فما ذبح على غير اسم الله فهو محرّم. واختلف العلماء في متروك التسمية عمدا أو سهوا كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام. وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي: التى تموت بالخنق: إما قصدا، وإما اتفاقا كأن تتخبّل في وثاقها حتى تموت أو غير ذلك. وَالْمَوْقُوذَةُ. أي: التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر حتى ماتت وفي الصحيح أنّ عديّ بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله» ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحدّه فأحلّه، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحلّه، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء. وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي التي تسقط من جبل أو في بئر فتموت. وَالنَّطِيحَةُ. أي: المنطوحة: وهي التي نطحتها أخرى فماتت بالنّطح وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها. وَما أَكَلَ السَّبُعُ. أي: ما أكل السبع بعضه ومات بجرحه، ويدخل في السبع الأسد والفهد والنّمر والكلب والذئب وغيره. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ. أي: إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح والاستثناء يرجع إلى المنخنقة وما بعدها، فإنه إذا أدركها وبها حياة فذبحها وسمّى عليها حلّت. روى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها فكل. وفي رواية ابن جرير عنه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنّطيحة وهي تحرّك يدا أو رجلا فكلها. قال ابن كثير: وهكذا روي عن طاوس، والحسن وقتادة، وعبيد بن عمير، والضّحاك، وغير واحد أنّ المذكّاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذّبح فهي حلال وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد وخالف مالك في هذا الحد فلم يجز الذكاة إلا لما كان يعيش بعد ما أكل السبع منه وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. أي: وما ذبح على الأوثان. كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها، يعظّمونها بذلك، ويتقرّبون إليها تسمّى الأنصاب. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلامِ. أي: وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهي، القداح المعلّمة واحدها زلم أو زلم، كان أحدهم إذا أراد سفرا، أو غزوا، أو تجارة، أو نكاحا، أو غير ذلك يعمد إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني، والثالث غفل، فإن خرج الآمر مضى لحاجته، وإن خرج النّاهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قسم له، مما لم يقسم له بالأزلام وما أسخف ذلك. ذلِكُمْ فِسْقٌ. أي: الاستقسام بالأزلام خروج عن الطّاعة، أو مواقعة ما مرّ من المحرّمات خروج عن الطّاعة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ. أي: الآن يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا منه أن يغلبوه فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. أي: أخلصوا لي الخشية، فلا تخافوا الكافرين في مخالفتكم إياهم، وخافوني وحدي. وأنا أتولّى شأنكم كله. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. أي: أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام، والتوقيف على شرائع الإسلام وقوانين القياس، وكما أكمل في البيان، فقد أكمل بالقدوة العليا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بظهوركم أمّة مسلمة مستكملة كلّ كمال، مهمتها هدم كيان الجاهلية في كلّ مكان. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. أي: واخترت الإسلام لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده، وقد ذكر نعمة الإكمال للدين في سياق تحريم هذه المحرّمات، لأنّ تحريم هذه الخبائث. من جملة الدين الكامل، والنعمة التامّة، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره. ولما كان بيان حالات الاضطرارات من كمال الدّين بيّن حالة الاضطرار فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: فمن اضطر إلى الميتة، وإلى غيرها في مخمصة أي: في مجاعة غير متجانف لإثم: أي غير مائل إلى إثم، أو غير متعاط معصية الله، فإنّ الله غفور رحيم. غفور. يغفر للمضطر. رحيم بإباحته المحظور للمعذور. قال ابن كثير: قال الفقهاء قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا، هل يتناول منها قدر ما يسدّ به الرّمق؟ أو له أن يشبع؟ أو يشبع ويتزوّد؟ على أقوال. واختلفوا فيما إذا وجد ميتة، وطعام الغير، أو صيدا وهو محرم، هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد، ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين قال
فوائد
ابن كثير: وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما كما قد يتوهم كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له. فوائد: 1 - [حرمة شحوم الميتة] في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها النّاس؟ فقال: لا هو حرام. 2 - [النهي عن طعام المتبارين] أخرج أبو داود ... «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن طعام المتبارين أن يؤكل». 3 - [مسألة خلافية في صيد الكلب المعلم] اختلفوا فيما إذا صدم الكلب الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه. على قولين هما للشافعي رحمه الله. أحدهما لا يحل. والثاني يحل. وإنما ذكرناه هنا مع أنّ محلّه بعد الآية التالية لأنه يشبه الموقوذة. [4، 5 - حول الاستقسام بالأزلام] 4 - في الصحيحين أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام مصوّرين فيها، وفي أيديهما الأزلام فقال: «قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا». 5 - أخرج ابن مردويه عن أبي الدّرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يلج الدرجات من تكهّن، أو استقسم، أو رجع من سفر طائرا». أي متطيّرا. 6 - [التحريش بين المؤمنين من عمل الشيطان] في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم». 7 - [أثر حول قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ] روى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب. فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا يا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا. قال وأيّ آية؟ قال قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشية عرفة في يوم جمعة. ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم بألفاظ متقاربة. وكون هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة وكان يوم جمعة هو الصحيح المشهور الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
8 - متى يحل أكل الميتة
والتحقيق أنها ليست آخر آية نزلت كما يظنّ بعضهم. بل آخر آية كما رأينا وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ .... 8 - [متى يحل أكل الميتة] وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحلّ لنا بها الميتة. فقال: «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها». الاصطباح: الغداء. والاغتباق: العشاء. والاحتفاء: قلع البقل من الأرض. وقال الحسن: إن رجلا سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال متى يحلّ الحرام؟ قال: فقال: «إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجئ ميرتهم». وروى عروة بن الزبير عن جدّته أنّ رجلا من الأعراب أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يحلّ لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي؟ وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا. فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا رويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرّم الله عليك من طعام مالك فإنه ميسور كله فليس فيه حرام». وروى أبو داود عن النّجيع العامري أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلّم. فقال: ما يحلّ لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا نغتبق، ونصطبح. قال أبو نعيم فسّره لي عقبة: قدح غدوة، وقدح عشية قال: ذاك- وأبي الجوع- وأحل لهم الميتة على هذه الحال». قال ابن كثير: وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحلّ لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتجّ به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشّبع ولا يتقيّد ذلك بسدّ الرّمق. وقد فسر عقبة الاصطباح والاغتباق في الحديث بأنه قدح عشية. وروى أبو داود عن سمرة أنّ رجلا نزل الحرّة ومعه أهله وولده فقال لهم رجل: إنّ ناقتي ضلّت فإن وجدتها فأمسكها. فوجدها ولم يجد صاحبها. فمرضت. فقالت له امرأته: انحرها، فأبي. فنفقت. فقالت له امرأته: اسلخها حتى نقدّد شحمها ولحمها فنأكله. قال: حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأتاه فسأله. فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوها. قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر. فقال: هلّا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك». قال ابن كثير: وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزوّد منها مدّة يغلب على ظنه الاحتياج إليها.
[سورة المائدة (5): آية 4]
وقد نقلنا هذه المجموعة من النصوص ليفهم منها حدود المخمصة الواردة في الآية والتي تبيح الأكل مما حرّم. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ. أي: ماذا أحل لهم من المطاعم؟ والسائل عديّ بن حاتم، وزيد بن مهلهل حسب رواية ابن أبي حاتم. قالا: يا رسول الله قد حرّم الله الميتة فماذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ ... التّسلسل في السّياق واضح فبعد ذكر ما حرّم علينا من الخبائث يذكر الآن ما أحلّ لنا من الطيّبات قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. أي: ما ليس بخبيث وهو: كلّ ما لم يأت تحريمه في كتاب الله أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو إجماع الأمّة أو القياس. وبعضهم فسّرها في الآية بالذبائح المذكور اسم الله عليها. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ .... أي: أحل لكم الطيبات وصيد ما علّمتم من الجوارح أي من الكواسب للصيد من سباع البهائم كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين ومعنى مكلبين أي مؤدّبين. إذ المكلّب: هو مؤدب الجوارح ومعلمها. لأن التأديب في الكلاب أكثر، فاشتق من لفظه لكثرته. تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ. أي: تعلّمون الجوارح مما علّمكم الله في حملهنّ على الصّيد لكم. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الإمساك على صاحبه هو علامة التعليم والتكليب والتأديب. ولوصول الجارح إلى مرحلة التأديب التي يجوز فيها أن يؤكل صيده علامة تختلف في سباع البهائم عنها في سباع الطير. فإنه يشترط في جوارح البهائم ما لا يشترط في جوارح الطير. أمّا علامته في الكلب وأمثاله فهو ألّا يأكل منه فإن أكل منه لم يحلّ، وأمّا في الطير فإن أكله منه لا يحرّمه لأنّ مجرّد أنسه بصاحبه وعوده له وصيده له علامة على تعليمه وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. الضمير في عليه إمّا أن يعود على الصيد أو على الجارح فإن عاد على الصيد كان المعنى وسمّوا على المصيد إذا أدركتم ذكاته. وإن عاد على الجارح كان المعنى: وسمّوا عليه عند إرساله. وَاتَّقُوا اللَّهَ. أي: احذروا مخالفة أمره في هذا كله. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. أي: إنّه محاسبكم على أفعالكم ولا يلحقه فيه لبث. فوائد: 1 - [فائدة من قوله تعالى .. مِنَ الْجَوارِحِ .. ] فهم بعضهم من قوله تعالى: الْجَوارِحِ أنه يشترط لحلّ الأكل من صيدها الجرح وقد مرّت معنا هذه المسألة ورأينا أنها قضيّة خلافيّة.
2 - فائدة عظيمة في التأديب والتعليم من قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين ..
2 - [فائدة عظيمة في التأديب والتعليم من قوله تعالى وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ .. ] قوله تعالى مُكَلِّبِينَ في الآية يفيد أنّ من يعلّم الجوارح ينبغي أن يكون موصوفا بالتكليب وإلّا فإن التعليم مفهوم من قوله تعالى: ما عَلَّمْتُمْ وعلّق النسفي على هذا بقوله: وفيه دليل على أنّ على كل آخذ علم ألّا يأخذه إلا من أمثل أهله علما، وأنحرهم دراية، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه، وعض عند لقاء التماري أنامله. أي عند لقاء من يجادله. [3، 4 - حلّ أكل صيد الكلب المعلم مع التسمية] 3 - قال عليه وآله الصلاة والسلام: «إذا أرسل الرجل كلبه وسمّى فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وفي الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنّي أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم الله فقال: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتله؟ قال وإن قتله ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنمّا سمّيت على كلبك ولم تسمّ على غيره»، وقال بعض فقهاء الشافعية. إن أمسك الكلب ثمّ انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثّر في التّحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني عنه عليه الصلاة والسلام «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردّت عليك يدك». 4 - وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله». قال ابن عباس: إذا أرسلت جارحك فقل باسم الله وإذا نسيت فلا حرج. الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كرّر هذا المعنى تأكيدا للمنّة. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. أي: وذبائح اليهود والنصارى حلّ لكم، وفسرنا الطعام هنا بالذبائح لأنّ سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملّة. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أنّ ذبائحهم حلال للمسلمين لأنّهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ويذكرون على ذبائحهم اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزّه عنه تعالى وتقدّس. وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. أي: فلا جناح عليكم أن تطعموهم لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم. فالمعنى إذن: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والجزاء. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ. أي: وأحلّ لكم نكاح المحصنات من المؤمنات والمحصنات هنّ:
فوائد
الحرائر أو العفائف، قال النّسفي: وليس هذا بشرط لصحّة النّكاح بل هو للاستحباب لأنّه يصحّ نكاح الإماء من المسلمات: ونكاح غير العفائف، وتخصيصهن بعث على تخيّر المؤمنين لنطفهم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ المحصنات هنا هنّ: الحرائر يهوديات أو نصرانيات، أو العفائف، فهنّ حلّ للمسلمين، وخالف في النّصرانيات بعضهم ولكنّ جماعة من الصحابة تزوجوا بنصرانيات ولم يروا بذلك بأسا. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. أي: إذا أعطيتموهنّ مهورهنّ، دلّ ذلك على أنّ المهر حقّ للزوجة مسلمة أو غير مسلمة، وعلى هذا يحرم أخذ مهر من المرأة، كما يفعله بعض الغربيين، ويجب العكس وهو دفع المهر للمرأة. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. أي: متزوجين غير زانين. وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ. الخدن هنا: الصديق والعشيق ويقع على الذكر والأنثى. فالزّواج هو المباح والعلاقة الزّوجية هي المباحة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. أي: ومن يكفر بشرائع الإسلام وما أحلّ الله وما حرّم فقد بطل عمله. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ خسر الجنة ونال بدلها الخلود الأبدي في النار، وأي خسارة أكبر من ذلك. فوائد: 1 - [جواز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة] ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفّل قال: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفتّ فإذا النّبي صلّى الله عليه وسلّم يبتسم» استدلّ به الفقهاء على أنّه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة وهذا ظاهر. واستدلّ به الحنفية والشافعية على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها ممّا حرّم عليهم. 2 - [وقوع النسخ في قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ .. ] أخرج ابن أبي حاتم عن مكحول. قال: أنزل الله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ثم نسخه الربّ- عزّ وجل- ورحم المسلمين فقال الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فنسخها بذلك وأحلّ طعام أهل الكتاب وهذا يعني أن مكحولا لا يرى ما يراه بقية الفقهاء من اشتراط ذكر اسم الله لحلّ ذبيحة أهل الكتاب. 3 - [طعام غير اليهود والنصارى لا يجوز أكله] واضح من الآية الآنفة الذكر أن طعام غير اليهود والنصارى لا يجوز، سواء كانوا ملحدين، أو صابئة، أو مجوسا، أو مرتدين.
4 - قياس حال نصارى عصرنا على حال نصارى تغلب في النهي عن أكل ذبائحهم
4 - [قياس حال نصارى عصرنا على حال نصارى تغلب في النهي عن أكل ذبائحهم] روى ابن جرير عن عليّ رضي الله عنه قال: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب «لأنهم» إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. وكان سعيد بن المسيّب والحسن لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب. وهذا الموضوع مهم لأنّ الكثيرين من نصارى عصرنا حالهم كحال بني تغلب. 5 - [عدم جواز زواج الغربيات في عصرنا] الجمهور على أن الكتابيّة إذا كانت زانية لا يجوز زواجها. نفهم من هذا حكم الزواج بالغربيات إذ يندر في عصرنا أن توجد غربية لا تزني، إلا إذا وجد العنت فيأخذ الإنسان في هذه الحالة بالقول الآخر. 6 - [حكم من تزوج امرأة فزنت قبل أن يدخل بها] أفتى جابر بن عبد الله، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري بأنّ الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنّه يفرّق بينهما، وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم. 7 - [حكم صحة عقد الزواج بين المسلم والمسلمة مع اشتراط العفة من الزنا] لم يشترط إلا الإمام أحمد العفّة عن الزنا لصحة عقد زواج ما بين المسلم والمسلمة وهو موضوع سيمر في سورة النور. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون أو من النّوم لأنه دليل الحدث فعمّ كلّ حدث. وقال آخرون بل المعنى: أعمّ. فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حقّ المحدث واجب وفي حقّ المتطهر ندب. روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن بريدة قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: «إني عمدا فعلته يا عمر». فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وحدّ الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس- ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم- إلى منتهى اللحيين- والذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، وفي النّزعتين والتحذيف خلاف هل هما من الرأس أو من الوجه؟ وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان. وهما أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة، والثاني أنه لا يجب. ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة وفي المضمضة والاستنشاق أقوال: 1 - هما واجبان في الوضوء والغسل وهو مذهب أحمد. 2 - هما مستحبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب مالك والشافعي. 3 - هما واجبان في الغسل دون الوضوء فهما مستحبان فيه كما هو مذهب الحنفية.
فوائد: حول مسائل في الوضوء وحكمته وثوابه وحكم المسح على الخفين
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ. أي: مع المرافق قال ابن كثير: ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاريّ ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل». وفي صحيح مسلم «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أوجب أحمد ومالك استيعاب الرأس بالمسح، وأوجب الشافعيّ أن يمسح أقل ما يطلق عليه اسم مسح، ولا يتقدر ذلك بحدّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه، وذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس وهو مقدار النّاصية، واختلفوا هل يستحبّ تكرار مسح الرأس ثلاثا كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد، أو ثلاث ثلاثة مسحات بماء واحد كما هو مذهب الحنفية. وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. أي: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين والقراءة بالكسر للإشعار بوجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا. أي: فاغسلوا أبدانكم كلّها حتى لا يبقى شئ لم يغسل. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ قال الرّازي (أو) في قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بمعنى الواو والتقدير وجاء. حتى لا يلزم المريض والمسافر التيمّم بلا حدث. والغائط في الأصل المكان المطمئن وهو في الآية كناية عن قضاء الحاجة، ومعنى لا مستم النساء تقدّم الكلام عليه في سورة النّساء فلا حاجة بنا إلى إعادته. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. أي: في باب الطهارة ولذلك رخّص لكم في التّيمّم عند المرض، وعند فقد الماء توسعة عليكم، ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه. وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ. أي: بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ. أي: وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. أي: تشكرون نعمته عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتّسهيل فيثيبكم لذلك على شكركم. فوائد: [حول مسائل في الوضوء وحكمته وثوابه وحكم المسح على الخفين] 1 - قال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد.
فإذا بال أو أحدث توضّأ ومسح بفضل طهوره الخفّين. فقلت أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنعه. فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه. رواه ابن جرير وابن ماجه. دلّ الحديث على جواز المسح على الخفين وهي من القضايا الجائزة المتواترة عنه عليه السلام، كبديل عن غسل الرجلين ضمن شروطه المعروفة في السنّة والفقه. كما دلّ على كفاية الوضوء الواحد لمجموعة صلوات، إذا لم يكن حدث. وقال ابن سيرين: إن الخلفاء كانوا يتوضئون لكلّ صلاة. 2 - هناك قضايا خلافية بين الأئمة في بعض أمور اعتبرها بعضهم فريضة، واعتبرها بعضهم من باب السنن في الوضوء، من مثل الموالاة والترتيب والدّلك. والأمر فيه سعة. وهذا نموذج من وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ففي الصحيحين أنّ رجلا قال لعبد الله ابن زيد بن عاصم. وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ؟ فقال: عبد الله بن زيد: نعم. فدعا بوضوء فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرّتين مرّتين ثمّ مضمض واستنشق ثلاثا. وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرّتين إلى المرفقين، ثمّ مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه. ثم ردّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه». 3 - هناك خلاف بين الشّيعة وأهل السنة حول كون المسح على الرجلين هو الفرض في الوضوء وليس الغسل وهم محجوجون في السنّة، وقراءة النّصب في الآية. والسنّة متواترة في وجوب الغسل. 4 - وفي حكمة الوضوء نروي هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم «عن عمرو بن عبسة قال: قلت يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء. قال: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثمّ يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره إلا خرّت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثمّ يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه». إنه بالوضوء يقوم الإنسان بين يدي الله متطهّرا من الأوساخ الحسية والمعنوية، وقيام
[سورة المائدة (5): آية 7]
الإنسان بين يدي الله تعالى متطهرا من الأوساخ الحسية والمعنوية أقرب إلى التعظيم، فكان أكمل في الخدمة، ولهذا قيل: إنّ الأولى أن يصلي الرّجل في أحسن ثيابه وأنّ الصّلاة متعمّما أفضل من الصلاة مكشوف الرأس، كما أن ذلك أبلغ في التّعظيم. 5 - وقد وردت السنة بالحثّ على الدّعاء والذّكر عقب الوضوء ففي الحديث الصحيح «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ- أو فيسبغ الوضوء- يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيها شاء». وفي حديث آخر ندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتوضئ إلى أن يدعو بعد الوضوء بقوله: «اللهمّ اجعلني من التّوابين واجعلني من المتطهرين». 6 - في صحيح مسلم عنه عليه وآله الصلاة والسلام: «لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور». وفي صحيح مسلم كذلك عنه عليه الصلاة والسلام. «الطّهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنّة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، والقرآن حجّة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بأن أنزل عليكم هذا الإسلام وهداكم إليه وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. أي: واذكروا ميثاقه الذي عاقدكم به عقدا وميثاقا إذ تقولون سمعنا وأطعنا، دلّ هذا على أن قول المؤمن سمعنا وأطعنا ميثاق وعقد مع الله ومع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وذهب أئمة التفسير إلى أن هذا تذكير بالبيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند إسلامهم فقد كانوا يقولون: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّمع والطّاعة، في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله». والنص أعمّ. فكل مؤمن قال سمعنا وأطعنا فقد أعطى ميثاقه، وعليه أن يتذكّره وأن يفي به. وَاتَّقُوا اللَّهَ في نقض الميثاق وهو تأكيد وتحريض على مواظبة التّقوى في كلّ حال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أي: بسرائر الصدور من الخير والشرّ، هو وعد ووعيد. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ. أي: كونوا قوّامين بالحقّ لله- عزّ وجل- لا لأجل النّاس والسّمعة. شُهَداءَ بِالْقِسْطِ. أي: بالعدل لا بالجور وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. أي: ولا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. أي: العدل أقرب
[سورة المائدة (5): آية 9]
إلى التقوى. نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا. ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وإذا كان وجوب العدل مطلقا بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. هذا وعد ووعيد، ومن ثمّ أتبعه بوعد ووعيد. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة وما أعظم ذلك من أجر؟. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الكثيرة في الكون وفي القرآن، وفي ما أظهره على أيدي رسله من معجزات. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. أي: لا يفارقونها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ. أي بالقتل. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. أي: فمنعها أن تمتدّ إليكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي والدّافع والمانع وهذه نعمة متكرّرة شاهدها الصحابة مرات، وشاهدها المسلمون في كلّ زمان، وتذكّرها يقتضي تقوى وتوكلا، وسبب نزول هذه الآية حادثة غورث بن الحارث إذ همّ أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو حادثة كعب بن الأشرف وأصحابه إذ هموا أن يبطشوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني النّضير ليستعينهم في دية العامريّين. فأمر اليهود عمرو بن جحاش بن كعب بذلك، أمروه إن جلس النبي صلّى الله عليه وسلّم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرّحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما تمالئوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، وأرجّح أن تكون الآية تذكيرا بما كان يوم الأحزاب والعبرة لعموم اللفظ. فوائد: [حول العدل في إعطاء الأولاد بعض الأموال] 1 - ثبت في الصحيحين عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتّقوا الله واعدلوا في أولادكم- وفي رواية قال: إنني لا أشهد على جور- قال فرجع أبي فردّ تلك الصدقة». وبعض الفقهاء يعتبرون إعطاء أحد الأولاد دون الآخرين- ما لم يكن ذلك في مرض الموت، أو كان وصية لما بعد الموت- يعتبرونه جائزا لكنّه يفقد صاحبه أجر العدل غير
كلمة في السياق
أنه لا يأثم بذلك والله أعلم. كلمة في السياق: 1 - ورد في المقطع خمس مرات: نداء للمؤمنين، مرة بالأمر بالوفاء بالعقود، ومرة بعدم استحلال قضايا معيّنة، ومرة بالطّهارة. ومرة بالعدل. ومرة بتذكر نعمة الله أن كفّ أيدي الكافرين، وتكرر الأمر بالتقوى خلال ذلك كثيرا. فإذا ما تذكرنا أن هذه السورة امتداد لسورة النّساء، وهي في الوقت نفسه تركّز على القضايا التي تنافي الإيمان، من نقض الميثاق، والفسوق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والفساد في الأرض، إذا ما تذكّرنا هذا عرفنا أهميّة هذه الأوامر التي ابتدأت بها السورة في مقطعها الأول، فعلينا أن ننتبه إلى أهميّة الوفاء بالعقود، وأهمية الصّلاة، وأهميّة العدل، وأهميّة تذكّر نعمة الله المتجددة بكفّ أيدي الكافرين عن استئصال المؤمنين، وكلّ ذلك مرتبط بقضيّة الإيمان والتقوى، والوفاء بالعهد مع الله. 2 - لقد رأينا عند تفسير قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أنّ من قال سمعنا وأطعنا فقد أعطى الله عهدا ولقد قالها كما قص الله علينا ذلك في سورة البقرة كل مؤمن آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. فعلى الإنسان أن يذعن قلبه، وجسمه، ولسانه، بالسمع والطاعة، وذلك عهد جديد له مع الله- عزّ وجل- وعليه دائما أن يتذكر عهده مع الله، ومنّ مقتضى ذلك أن يكون عادلا. ومن مقتضى ذلك أن يكون طاهرا مصلّيا. ومن مقتضى ذلك ألا يرتكب حراما في فم أو فرج. ومن مقتضى ذلك ألا يهتك محارم الله. ومن مقتضى ذلك ألا يمدّ يده ليتعاون مع أحد على إثم وعدوان. ومن مقتضى ذلك أن يتعاون على البرّ والتقوى. ومن مقتضى ذلك أن يتذكّر نعمة الله عليه، وعلى المسلمين بنعمة الإسلام، ونعمة الرعاية. وذلك كله مرتبط بقوله تعالى من سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. فلكي لا نكون من هؤلاء فعلينا أن نلتزم بما أمرنا بالالتزام به في المقطع، وسيأتي
مقطع جديد يعطينا الله- عزّ وجل- به دروسا في أمم وشعوب نقضوا العهد والميثاق مع الله- عزّ وجل- فاستحقوا بذلك ما استحقوا. 3 - قد يكون ما مرّ كافيا للتدليل على أنّ محور سورة المائدة هو قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. فإذا اتضح هذا فلنلاحظ أنه في سياق قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... قد ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ وارتباط ذلك بقوله تعالى في المحور وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لا يخفى. وأنه في سياق قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... قد ورد قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لا تخفى وأنه جاء في المقطع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ ... ولهذا صلته بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. إن هذا كله يؤكّد أن المقطع فصّل فيما نتحرر به من الفسوق ودلّنا على ما لو وافقناه أو أهملناه أو خالفناه أو ارتكبناه فإننا نكون مستحقين الإضلال من الله- عزّ وجل-. 4 - من الملاحظ أن الآية الأولى في السّورة قد ورد فيها قوله تعالى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وأنه قد جاءت الآيات التي تتحدث عن صيد المحرم في أواخر السورة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ... (96). وهذا يشير إلى ارتباط أول السّورة بآخرها، ويؤكد سياقها الواحد، كما يشير إلى أهمية امتناع المحرم عن الصيد؛ إذ بدأت به السورة بعد الأمر بالوفاء بالعقود، وفصّلت فيه فيما بعد، كما يشير إلى أن من أوائل ما يدخل في الوفاء بالعقود عقودنا مع الله- عزّ وجل- بالسّمع والطاعة في كل ما أمر ونهى. ولعلّه بذلك قد اتضح لنا إلى حدّ كبير سياق السورة وارتباطها بمحورها وسيزداد الأمر وضوحا فيما بعد فلننقل في نهاية الكلام عن المقطع بعض النقول ولنعقد بعض
فصول ونقول
الفصول التي تساعد على الفهم والالتزام. فصول ونقول: فصل: في نزول السورة وفي بعض أسباب النزول: يقول الألوسي: وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال: «نزلت المائدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة، وهو على ناقته، فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك من ثقل الوحي». وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، وأخرج أحمد، والترمذي عن ابن عمر: أن آخر سورة المائدة والفتح. وقد تقدم آنفا عن البراء: أن آخر سورة نزلت براءة، ولعل كلا ذكر ما عنده، وليس في ذلك شئ مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها» وهو غير واف بالمقصود لمكان «من». واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شئ، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل، والحسن رضي الله تعالى عنهما، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نسخ من هذه السورة آيتان، آية القلائد. وقوله سبحانه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. اه. ويقول صاحب الظلال: «في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح .. وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة .. وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة، التي فيها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة .. ولكن المراجعة الموضوعية للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول: إن السورة نزلت بكاملها بعد «الفتح» فضلا عن أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر، تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرائيل مع موسى- عليه
نقول من الظلال
السلام- من دخول الأرض المقدسة، كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية. وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصاري- رضي الله عنه- فى رواية، وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية، وهو يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ .. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون .. الخ». أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود- في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم- قوة ونفوذ وعمل في المدينة، وفي الصف المسلم، مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم. وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة، عقب غزوة الخندق، وقد تطهّرت الأرض من القبائل اليهودية القوية: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد. ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السلمية قد انتهت، ولم يعد لهما موضع بعد الذي بدا منهم فقول الله لنبيّه الكريم: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ .... لا بد سابق على هذه الفترة. وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم .. ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة، وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح؛ بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك، كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك. وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات». نقول من الظلال: ننقل هنا عن الظلال متفرقات من كلامه في هذا المقطع ونضعها في تسلسل يشير إلى سياق المقطع: إنه لا بد من ضوابط للحياة .. حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة .. الناس من الأقربين والأبعدين، من الأهل والعشيرة، ومن الجماعة والأمة؛ ومن الأصدقاء والأعداء .. والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر .. والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض .. ثم ..
حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة. «هذه الضوابط يسميها الله «العقود» .. ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود .. وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح. وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية. وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة. وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية. وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل. وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله، والشهادة بالقسط، والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله؛ والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن .. افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله .. وفي أولها عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته .. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود، وسائر الضوابط في الحياة. وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية لله، تقوم سائر العقود .. سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله، فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها. إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء .. ومن ثم كان هذا النداء. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود ... «إن الحديث عن الصلاة والطهارة، إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام، والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام .. إن هذا لا يجئ اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجئ كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه .. إنما هو يجئ في موضعه من السياق، ولحكمة في نظم القرآن. إنها- أولا- لفتة إلى لون آخر من الطيبات .. طيبات الروح الخالصة .. إلى جانب
طيبات الطعام والنساء .. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء .. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة، استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان .. والتي بها يتكامل وجود «الإنسان» ثم اللفتة الثانية .. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب .. كبقية الأحكام التالية في السورة .. كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا- في الفقه- على تسميته «بأحكام العبادات»، وما اصطلح على تسميته «بأحكام المعاملات». هذه التفرقة التي (وجدت في اصطلاحات العلماء) حسب مقتضيات «التصنيف» و «التبويب». لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية .. إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء .. وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه، لا، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر. والدين لا يستقيم إلا بتحقيقهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء. كلها «عقود» من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء. وكلها «عبادات» يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله. وكلها «إسلام» وإقرار من المسلم بعبوديته لله. ليس هنالك «عبادات» وحدها و «معاملات» وحدها .. إلا في «التصنيف الفقهي» .. وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي .. كلها «عبادات» و «فرائض» و «عقود» مع الله. والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله. وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق. «ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة، القوّامة على البشرية بالعدل .. العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال. العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات .. والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور .. ومن ثم فهذا النداء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
فصل: في ضرورة دراسة كتب الفقه
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. فصل: في ضرورة دراسة كتب الفقه: بمناسبة الكلام عن الذكاة الشرعية يقول صاحب الظلال: «والتفصيل يطلب في كتب الفقه المختصة»، وسنرى أنه بمناسبة الكلام عن حدّ السرقة يقول صاحب الظلال «ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال فتطلب في كتب الفقه» إنّ الذي يتصور أن صاحب الظلال يمنع دراسة الفقه يظلم صاحب الظلال، والذي يتصور أن يكون الإنسان فقيها دون دراسة كتب الفقه يكون واهما، والذي يتصور أننا لا نحتاج إلى كتب الفقه أصلا يكون مخالفا للنصوص، فالحديث الصحيح يقول «و بين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من النّاس» فالقليل إذن يعرفها، وهل القليل إلا أئمة الاجتهاد؟ وهذا موضوع فصّلنا فيه في كتابنا «جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما». فصل: في صور من الاستقسام بالأزلام: كثيرا ما يحدث أن أحدا من الناس يكون مشغولا بمسألة ما فيعبث بعلبة الكبريت مثلا فإن وقفت استبشر، أو يعبث بالعملة المالية المضروبة فإن جاءت العملة على وجه استبشر وإلا لم يستبشر وذلك نوع من الاستقسام بالأزلام علينا أن نبتعد عنه. فصل: في موضوع الصد عن المسجد الحرام: قضية الحج نرجو ألا تربط بأي وضع سياسي في هذا العالم، وألا تكون السياسة عاملا من عوامل الصد عن سبيل الله إن في تعقيد المعاملات، أو في تقييد الحج، أو في المعاملات الفظّة للحجاج والعمّار، أو لبعضهم، وعلى الحكومات جميعا أن تختار للتعامل مع الحجاج والعمّار أجود موظفيها أخلاقا، وأحسنهم سلوكا، وأكثرهم احتراما للناس وهذا أقل الواجب. فصل: في قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ:
يقول صاحب الظلال: «فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .. يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتشريعية؛ فلا تعديل فيها ولا تغيير؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره. وتعديل شئ فيه كإنكاره كله؛ لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله؛ وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه .. أما العدول عنه كله إلى منهج آخر، ونظام آخر، وشريعة أخرى، فلا يحتاج منا إلى وصف، فقد وصفه الله- سبحانه- في السورة. ولا زيادة بعد وصف الله- سبحانه- لمستزيد .. إن هذه الآية تقرر- بما لا مجال للجدال فيه- أنه دين خالد، وشريعة خالدة. وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة .. إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان؛ وليس لكل زمان شريعة، ولا لكل عصر دين .. إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر، قد اكتملت وتمت، ورضيها الله للناس دينا. فمن شاء أن يبدل، أو يحوّر، أو يغيّر، أو يطوّر، إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان، فليبتغ غير الإسلام دينا .. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي، والشعائر التعبدية، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله؛ يحكم ويصرّف ويهيمن على نشاط الحياة كلها؛ وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور؛ دون خروج على أصل فيه ولا فرع، لأنه لهذا جاء، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين. إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع؛ ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوي كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور؛ بلا خروج على أصل أو فرع. ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج؛ لأن الله- سبحانه- لم يكن يخفى عليه أن هناك تطورات ستقع، وأن هناك حاجات ستبرز، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات. فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا. وما قدر الله حقّ قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور ..
ملاحظة: هناك مسائل فقهية كثيرة لها صلة بالمقطع تحتاج إلى ذكر ومناقشة. ولكن لكون هذا التفسير جزءا من سلسلة الأساس في المنهج ولكوننا سنتعرض في القسم الثاني من الأساس في المنهج وهو الأساس في السنة وفقهها لهذه القضايا كلها آثرنا أن لا نتوسع في ذلك هاهنا. ***
المقطع الثاني من سورة المائدة يمتد هذا المقطع من الآية (12) إلى نهاية الآية (34) وهذا هو
المقطع الثاني من سورة المائدة يمتد هذا المقطع من الآية (12) إلى نهاية الآية (34) وهذا هو: 5/ 16 - 12
5/ 24 - 17
5/ 32 - 25
5/ 34 - 33***
كلمة في المقطع
كلمة في المقطع: في هذا المقطع ثلاث فقرات: الفقرة الأولى: تذكر ما أخذ الله- عزّ وجل- من ميثاق على بني إسرائيل، وكيف أنهم نقضوا عهدهم مع الله- عزّ وجل- وأنه أخذ عهودا ومواثيق على النّصارى فنقضوا العهد وعوقبوا، وفي هذا السياق يدعو الله- عزّ وجل- أهل الكتاب إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإسلام، ويعرض علينا نماذج من كفرهم، ودعاواهم، فالفقرة تعرض نماذج من نقض العهد، وتدعو أهل ذلك لتلافيه بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإسلام. وصلة ذلك بمحور السورة في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ صلة واضحة. ثم تأتي الفقرة الثانية: وهي تعرض لنا قصة امتناع بني إسرائيل عن الجهاد زمن موسى عليه السلام، وفسوقهم بذلك، وعقوبتهم على ذلك. وذلك نموذج تفصيلي آخر على نقض العهد والفسوق بذلك، والصلة بين قوله تعالى في محور السورة من سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وبين هذه الفقرة واضحة. فهذا نموذج على الفسوق عن أمر الله بترك الفريضة. ونموذج لقطع ما أمر الله به أن يوصل من ولاء للرسل عليهم السلام وطاعتهم طاعة مطلقة. ثم تأتي الفقرة الثالثة: وفيها نموذج على نقض عهد وقطع لما أمر الله به أن يوصل من رحم، وإفساد في الأرض بقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وتعقيبا على ذلك يقرّر الله- عزّ وجل- بعض ما به تنحسم مادة الفساد في الأرض، وذلك بالقصاص وبحدّ الحرابة للمفسدين في الأرض. ثم يأتي المقطع الثالث فيبني على ذلك فيذكر الجهاد، ويذكر حدّ السرقة، وكلّ ذلك لقطع الفساد في الأرض. فالمقطع في فقراته الثلاث يفصّل في نقض العهد، وفي قطع ما أمر الله به أن يوصل، وفي الإفساد في الأرض. ويفصّل في الفسوق عامّة. فيضرب الأمثلة، ويقرّر الأحكام التي تحسم مادة الفساد. ولعل بمجموع ما ذكرناه أضحت الصلة بمحور السورة من سورة البقرة أكثر وضوحا. والصلة بين المقطع والذي قبله متعددة الجوانب: فالمقطع الأول أمر هذه الأمة بالوفاء بالعقود، وأمرها بالطهارة والصلاة، وذكّرها بنعمة الله عليها إذ همّ قوم أن يبسطوا إليها أيديهم فكفّ ذلك عنها.
المعنى العام
وجاء هذا المقطع مذكرا بالعهود الأساسية التي أخذت على بني إسرائيل والتي منها: إقامة الصلاة، ونصرة الرّسل، وكيف كان موقفهم منها لتأخذ هذه الأمة عبرة. وأرانا المقطع كيف أن بني إسرائيل نكصوا عن القتال، وفي هذا السياق يأتي الكلام عن القتل الظالم ليكون ذلك كله مقدمة للمقطع الذي فيه أمر بالجهاد، وقطع يد السارق، فكان بمثابة استمرار للكلام عما به تنحسم مادة الفساد في الأرض. فالمقطع الثاني، يقدم للمقطع الثالث، ويضرب الأمثلة التي تعين علي القيام بأمر الله فهو يخدم معاني المقطع الأول ويمهد لإقامة معاني المقطع الثالث. والملاحظ أن موسى عليه السلام قدّم للأمر بالجهاد بالتذكير بنعمة الله على بني إسرائيل، وقد ختم المقطع الأول بالتذكير بالنعمة على هذه الأمة. ثم جاء المقطع الثالث ليأمر بالجهاد مما يرينا كيف أنّ المقطع الثاني خدم المقطع الأول، وأن المقطع الأول والثاني يخدمان في تحقيق معاني المقطع الثالث. وصلة ذلك بالتربية والبناء لأمتنا من حيث إن المقاطع تأخذ بيدها شيئا فشيئا، لا تخفى. وهذا أوان الشروع في تبيان المعاني العامة للمقطع الثاني. المعنى العام: لمّا أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم في ابتداء المقطع الأول، وفي أواخره كما رأينا. شرع يبيّن لهم كيف أنّه أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين اليهود والنّصارى، فلمّا نقضوا عهوده ومواثيقه، أعقبهم ذلك لعنا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق. وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل من كون محور سورة المائدة هو قوله تعالى في سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... وقد بيّن الله- عزّ وجل- في الفقرة الأولى من المقطع، والتي لها علاقة بأخذ الميثاق كيف أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل في زمن موسى، وكيف أنّه جعل عليهم اثني عشر نقيبا على كل سبط منهم نقيب. ووعدهم الله- عزّ وجل- بالنّصر والرّعاية
إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصدّقوا رسل الله، ونصروهم، وأنفقوا في سبيل الله. ووعدهم كذلك مع الرعاية والنصرة- إن وفوا بهذا- أن يمحو عنهم ذنوبهم، ويسترها عليهم فلا يؤاخذهم بها، وأن يدخلهم جنّته، ثمّ هدّدهم أنّه من خالف هذا الميثاق من عقده وتوكيده وشدّه. فجحده وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضّلال، ثمّ أخبر تعالى عما حلّ بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، لقد أبعدهم عن الحق، وطردهم عن الهدى، وجعل قلوبهم قاسية لا تتعظ بموعظة حتى تأوّلوا كتابه، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، وتركوا العمل به رغبة عنه، ونسوا قسما منه فعطلوه، ثم أخبر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن حالهم الملازم لهم هو المكر والغدر والخيانة، وأنّه لا يزال يطّلع عليها منهم، وأمره مع هذا بالعفو عنهم والصفح إحسانا لأن الله يحب المحسنين، وهذا- والله أعلم- عند ما يكونون ذمّة للمسلمين، وأما في حالة كونهم أهل حرب فالحذر والحرب، وبعضهم قال إن الأمر بالصفح والعفو كان قبل الأمر بالقتال، وفي المعنى الحرفي بيان، وبعد أن بيّن الله- عزّ وجل- الميثاق الذي أخذه على اليهود، وعقوبتهم إذا خالفوه، بيّن عاقبة النصارى إذ نقضوا ميثاقه، فنسوا قسما مما ذكّروا به، فعاقبهم على ذلك في الدنيا، بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، كل طائفة منهم تكفّر الأخرى، وعذاب في الآخرة أكبر إذ يحاسبهم على ما ارتكبوا من الكذب عليه سبحانه وعلى رسله عليهم السلام، وما نسبوه إلى الربّ- عزّ وجل- وبعد أن بيّن الله- عاقبة نقض الميثاق، وجّه النّداء لأهل الكتاب في هذا السياق، مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أمّيّهم وكتابيّهم، وأنّه بعثه بالبيّنات، والفرق بين الحقّ والباطل، مبيّنا لهم ما بدّلوه وحرّفوه وأوّلوه وافتروا على الله، ويسكت عن كثير مما غيّروه مما لا فائدة في بيانه، ثمّ أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيّه الكريم، فوصفه بأنه نور وكتاب واضح، وأنّ الذي يتّبع رضوان الله يهتدي به إلى طريق النّجاة والسّلامة ومناهج الاستقامة، فينجّيهم من المهالك، ويوضّح لهم أين المسالك، ويصرف عنهم المحذور ويحصّل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضّلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة. وبعد أن بيّن الله عاقبة نقض الميثاق، وبيّن لأهل الكتاب مهمّة من مهمّات رسوله،
ووصف كتابه حق وصفه مما يستدعي عند أهل الإنصاف الإيمان بسبب هذا الكمال الذي لا يشك معه أنّ محمدا رسول الله، وأن القرآن كتاب الله، بعد أن بيّن هذا، حكم بكفر النّصارى في ادّعائهم في المسيح ابن مريم- وهو عبد من عباد الله وخلق من خلقه- أنّه هو الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، ثمّ أخبر تعالى عن قدرته على الأشياء كلها، وكونها تحت قهره وسلطانه بأنه لو أراد إهلاك المسيح وأمّه وأهل الأرض كلهم فمن ذا الذي كان يمنعه من ذلك؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه؟ وإذ كان الأمر كذلك فهو وحده الربّ والإله. ثم أخبر تعالى أن جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يسأل عمّا يفعل لقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، وهل المسيح وأمه إلا من جملة ملكه فأنى يكون إلها؟ ثم ردّ على اليهود والنّصارى ادّعاء كلّ منهم أنّهم أبناء الله، وأنّ له بهم عناية، وأنّه يحبهم بحكم انتساب كلّ منهم إلى من هو حبيب لله. فردّ الله عليهم ذلك، بأنّه لو كنتم كما تدّعون فلم يعذّبكم في الدنيا؟ وأعد لكم نار جهنّم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّهم ليسوا إلا بشرا من البشر، وأن إليه أمر العذاب والغفران، وأنّه ينال غفرانه بسلوك طريق ذلك، ثم بيّن أنّ الكون كله ملكه، وتحت قهره وسلطانه، وأنّ إليه المرجع والمآب، فلا فرار منه إلا إليه باتّباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقرآنه. ثمّ خاطب مرة ثانية أهل الكتاب بعد تبيانه هذه المعاني كلها، مبيّنا أنّه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيّين، الذي لا نبيّ ولا رسول بعده، بل هو المعقّب لجميعهم، أرسله بعد مدة متطاولة بينه وبين آخر رسول بعث قبله وهو عيسى، أرسله بعد طموس السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنّيران والصّلبان. فكانت النّعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنّ الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا الأنبياء الأقدمين، وكان الدّين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتّى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم؛ فهدى الخلائق، وأخرجهم الله به من الظّلمات إلى النّور، وتركهم على المحجّة البيضاء، والشّريعة الغراء من أجل ألا يحتج من بدّل وغيّر. بأنه ما جاءه من رسول يبشّر بدين الله، وينذر من مخالفة دينه. فها قد جاء البشير والنذير محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والله سيتولى عقوبة من خالفه وعصاه، وثواب من أطاعه. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من هذا المقطع والسؤال الآن هو:
ما الصلة بين موضوع الميثاق الوارد في أول هذه الفقرة، وخطاب أهل الكتاب باتباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟. والجواب- والله أعلم- أنّه لمّا كان من الميثاق الإيمان بالرسل ونصرتهم، فقد ذكّر الله- عزّ وجل- أهل ذلك بأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن عليهم أن يؤمنوا به وينصروه، ثمّ إن الخطاب بالإيمان قد جاء بعد تبيان عقوبة نقض الميثاق من قبل وكيف أن نقض الميثاق فيه ما فيه. فكيف بعد بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي قامت به الحجة على الخلق بما لا مزيد عليه؟ فإن استحقاق العقوبة أبلغ. ومن هذه الفقرة نفهم أنّ الوفاء بالميثاق لا يتمّ إلا بإقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، ونصرتهم، والإنفاق في سبيل الله، فإذا ربطنا بين هذا المقطع وبين محور السورة في سورة البقرة علمنا أنّ الذي ينقض واحدة من هذه المعاني لا يهتدي بكتاب الله، لأن الله تعالى قال هناك: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... فإذا أدركنا هذا عرفنا سرا آخر من أسرار الصلة بين خطاب أهل الكتاب والكلام عن الميثاق في أول هذه الفقرة، إذ بيّن في خطاب أهل الكتاب صفات الذين يستأهلون الاهتداء بكتاب الله قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ .. فارجع الآن وتأمل الآيتين اللتين قلنا إنهما محور سورة المائدة وهما قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لتجد الرّبط الكامل ما بين أجزاء هذه الفقرة أولا، وبين هذه الفقرة والمقطع قبلها ثانيا، وما بين ذلك والسياق القرآني العام ثالثا، على النّسق الوارد في سورة البقرة بهذا الشكل المعجز، نسأل الله أن يلهمنا شكره وأن يدخلنا جنته. وبعد الفقرة الأولى من هذا المقطع، تأتي الفقرة الثانية التي تعرض علينا موقفا من مواقف بني إسرائيل فما الصلة بينها وبين ما سبقها؟. أمّا الصلة بينها وبين الفقرة الأولى فقد رأينا أن الإيمان بالرّسل ونصرتهم جزء من الميثاق، وهذه الفقرة تبيّن موقفا من مواقف بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، وتقاعسهم عن النّصرة والقتال فيما هو مصلحتهم، وعقوبتهم على ذلك. وأمّا الصلة بين هذه الفقرة والمقطع السابق، فقد رأينا أن المقطع السابق ختم بالتذكير بنعمة الله، إذ كفّ أيدي من أراد الأذى بالمسلمين عن المسلمين. وطولب المسلمون على أثر ذلك بالتوكل على الله في السّلم والحرب وغير ذلك. وفي هذه الفقرة: يذكّر موسى عليه السلام
بني إسرائيل بنعمة الله ليقوم على ذلك توكل يدخل فيه اليهود حربا فيرفضون، ويعاقبون. والتربية في ذلك لهذه الأمّة واضحة، وسنرى أنه بعد هذا المقطع سيأتي أمر لأمتنا بالجهاد فلا ينبغي أن تكون كبني إسرائيل، وأما المعاني العامة في هذه الفقرة الثانية فهي: يخبر تعالى عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكّر به قومه من نعم الله عليهم، وآلائه لديهم، في جمعه لهم خيري الدنيا والآخرة، لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة. ومن ذلك إرسال الرسل إليهم، وجعلهم أحرارا يتملكون، وتشريف الله إيّاهم على عالمي زمانهم، ثم بنى موسى عليه السلام على هذا التذكير الأمر لهم بالقتال، ودخول الأرض المقدّسة الّتي وعدهم الله إياها على لسان أبيهم إسرائيل- إن كانوا مؤمنين- ونهاهم عن النّكول عن الجهاد، وهدّدهم بالخسران إن نكلوا، فاعتذروا عن الجهاد والدّخول، بأنّ في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال قومها قوما جبّارين، ذوي خلقة هائلة، وقوّة شديدة، وإنا لا نقدر على مقاتلتهم، ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدّخول إليها ما داموا فيها. فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم، ثمّ أخبر تعالى أنّ رجلين يخافان أمر الله، ويخشيان عقابه، حرّضا بني إسرائيل بأنهم إن توكلوا على الله، واتّبعوا أمره، ووافقوا رسوله، وقاتلوا وهاجموا؛ أيّدهم الله، ونصرهم، ونجحوا في احتلال الأرض، وهاهنا أصروا مرّة ثانية على النكول، ورفض الدخول، وترك الجهاد، وطالبوا- بكل صفاقة- موسى عليه السلام أن يقاتل هو وربه وحدهما، أما هم فإنهم قاعدون في مكانهم، فاعتذر موسى عليه السلام إلى الله أنه لا يطيعه أحد منهم إلا أخوه، ودعا الله أن يقضي ويفصل بينه وبين قومه الفسقة، فعاقبهم الله- عزّ وجل- حين نكلوا عن الجهاد بتحريم دخولهم عليهم مدّة أربعين سنة، وعاقبهم على ذلك كذلك بالتيه في الأرض، ثم سلّى الله موسى عليه السلام، وأمره ألّا يأسف، وألّا يحزن عليهم فيما حكم عليهم به فإنهم مستحقّون ذلك. وانتهاء الفقرة بقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ مشعر بأنّ ترك الجهاد المفروض والنكول عنه فسوق. ومشعر بالصّلة بين الفقرة ومحور السورة من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... وأن الجهاد جزء من الميثاق، الذي من تخلى عنه استحق الضّلال والإضلال، وهذا يفهم من أول هذا المقطع وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ... لأن النّصرة الحقيقية الكاملة إنّما تكون بالجهاد.
فإذا اتضح هذا المعنى فلنتذكر: أنّ محور سورة المائدة هو آيتا سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ*. وعلى هذا فمحور سورة المائدة يتضمّن خطين: الخط الأول: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية. الخط الثاني: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ومن ثمّ كان فهم سورة المائدة والتخلق والتحقق بما طولبنا به فيها من الأهمية بالمكان العظيم وقدر رأينا فى سورة البقرة أن استحقاق الضلال بثلاثة: 1 - بنقض الميثاق. 2 - بقطع الصلة اللّازمة. 3 - بالإفساد في الأرض. وقد جاء المقطع الأول يأمر بالوفاء بالعقود. وجاء المقطع الثاني يبيّن عاقبة نقض المواثيق في فقرته الأولى. وعاقبة نقض نوع منها في فقرته الثانية، وأما الفقرة الثالثة فإنّ فيها بيانا لأفظع أنواع الإفساد في الأرض، وهو القتل. وهكذا يمضي السياق مربيّا ومنفّرا ضمن محور خاص، وعلى نسق محدّد، ولننتقل إلى استعراض المعاني العامّة للفقرة الثالثة: أخبرنا تعالى في الفقرة الثالثة عن قابيل وهابيل ولم يسمّهما- ولكن ذكر غير واحد من السلف والخلف أنهما المرادان هنا- وكيف عدا أحدهما على الآخر فقتله بغيا عليه وحسدا له فيما وهبه الله من النّعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله- عزّ وجل-، ففاز المقتول بوضع الآثام، والدّخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السّلف والخلف: إنّ الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوّج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوّج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقرّبا قربانا، فمن تقبّل منه فهي له فتقبّل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصّه الله في كتابه، إذ أمر رسوله أن يقصّ خبر ابني آدم هذين على الأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة
ولا نقصان، إذ قرّبا قربانا، فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فغضب قابيل على أخيه، وحسده بسبب ذلك، وهدّده بالقتل، فكان رد هابيل أن ذكر أنّ سنّة الله أن يتقبل من أهل التقوى، ثم أعلمه بأنه إن مدّ إليه يده بالقتل فإنه لن يقابل صنيعه الفاسد بمثله، لأنه يخاف الله ربّه، ثمّ علّل سبب استسلامه للقتل بأنه يريد من صبره على قتل أخيه أن يبوء أخوه بإثم قتله مع آثامه السابقة ليكون من المعذّبين عند الله بسبب ظلمهم. وفي ذلك عظة وردع لقابيل، إلا أنه لم يتّعظ، ولم يرتدع، فحسّنت له نفسه قتل أخيه، وشجعته عليه فقتله، فأصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة وأيّ خسارة أعظم من هذا؟ فلما مات أخوه تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفنه، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه فلما رآه سفّه نفسه أن يكون أعجز من الغراب في دفن أخيه، فدفنه فعلّاه الله بندامة بعد خسران. ثم يستمر السياق مبينا أنه من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا شرع الله لبني إسرائيل وأعلمهم، وجعله شريعة دائمة: أنه من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنمّا قتل النّاس جميعا، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي: حرّم قتلها، واعتقد ذلك، فقد سلم النّاس كلّهم منه بهذا الاعتبار. ومن ثمّ فكأنه أحيا الناس جميعا بذلك. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّ رسل بني إسرائيل قد جاءتهم بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة، ومع ذلك فإنّ كثيرا منهم متّصف بالإفساد في الأرض. ومن هنا نفهم أن قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. أي: على اليهود قصة ابني آدم، وما ترتب عليها من حكم قطعي لله في موضوع القتل، وموقفهم من ذلك، نفهم من هذا أنّ السّياق في هذه الفقرة مستمرّ في قضيّة نقض الميثاق، في موضوع تشريعيّ، هو عصمة دم الإنسان إلّا بحق، ونقض بني إسرائيل لهذا. ثمّ ختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع الذي قرّر فيه وجوب نصرة الرسل، وحرمة الإفساد في الأرض، كجزء من الميثاق، بأن ذكر عقوبة حرب الله ورسوله، وعقوبة الإفساد في الأرض وهو القتل أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض بحسب جناية الجاني وأن هذه العقوبة لهم شر وعار، ونكال وذلّة وعقوبة في عاجل الحياة الدّنيا، ومع هذا الجزاء في الدنيا فإنّ لهم عذاب جهنّم يوم القيامة. واستثنى الله- عزّ وجل- من العقوبة التائبين قبل القدرة عليهم، فإنّ من كمال
التفسير الحرفي
مغفرة الله ورحمته أن يقبل توبتهم، وفي الموضوع تفصيلات وجزئيات سنراها بإذن الله. وبهذا ينتهي المقطع الثاني فلنعد إلى تفسيره تفسيرا حرفيا. التفسير الحرفي: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً. النّقيب: هو الذي ينقّب عن أحوال القوم ويفتّش عنها. وقد أمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا، يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمر به توثقة عليهم ففعل. وقوله تعالى: (وَبَعَثْنا)، يشير إلى أنه تعالى هو الذي عيّن هؤلاء الرؤساء وهو الذي اختار لكل سبط رئيسا، وفي الإصحاح الأول من سفر العدد مما يسمونه التوراة حاليا بعد ذكر أسماء النقباء «فأخذ موسى وهارون هؤلاء الرجال الذين تعيّنوا بأسمائهم» وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ. أي: ناصركم ومعينكم وراعيكم. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جميعا من غير تفريق بين أحد منهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. أي: وعظّمتموهم أو ونصرتموهم بأن تردّوا عنهم أعداءهم، وتجاهدوا في سبيل دينهم. وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. أي: وأنفقتم في سبيل الله بلا منّ. أو: وفعلتم أنواع الخير كلها لله خالصة. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. أي: ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها. وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا أعظم المقصود فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ. أي: فمن جحد بعد هذا الميثاق وعقده وتوكيده وشدّه. فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. أي: فقد أخطأ طريق الحق، ومن كفر قبل ذلك فقد ضلّ سواء السّبيل أيضا، ولكنّ الضّلال بعده أظهر وأعظم. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. أي: فبنقضهم ميثاقهم أي فبسبب ذلك (وما) هنا مزيدة لإفادة تعظيم الأمر. لَعَنَّاهُمْ. أي: طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً. أي: يابسة لا رحمة فيها ولا لين. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. أي: يفسّرونه على غير ما أنزل، وهذا بيان لأثر قسوة قلوبهم، لأنّه لا قسوة في القلب أشد من قسوة ينبثق عنها الافتراء على الله وتغيير وحيه. وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. أي: وتركوا نصيبا جزيلا، وقسطا وافيا من التوراة. أو أن الإغفال سمّي نسيانا. وَلا تَزالُ يا محمد وكذلك المسلمون. تَطَّلِعُ. أي: تظهر عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ. أي: على خيانة أو على فعلة ذات
فوائد: حول مسألة الاثني عشر نقيبا وما يستفاد منها وحول عاقبة نقض الميثاق
خيانة أي: هذه عادتهم، وكان عليها أسلافهم، كانوا يخونون الرسل، وهؤلاء يخونونك ويهمّون بالفتك بك. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم وما أقلهم. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ. أي: اعف عن هذا القليل من أهل الإيمان، وتجاوز عما سلف منهم، فلا تؤاخدهم به، كأدبك مع المؤمنين. هذا الذي حمل عليه النسفي هذين الأمرين. أما ابن كثير فقد جعل الأمرين في اليهود ونقل قول قتادة أن هذا منسوخ بآية القتال، والحكم المستقر في هذا الموضوع أنّ اليهود إن كانوا ذمّة فخانوا حوكموا فعوقبوا بما يستحقون، وإن كانوا حربيين معاهدين فخانوا فالحرب. أو كانوا حربيين فالحرب ضمن قدرة المسلمين، وفي حدود إمكانياتهم، وحسب المصلحة، وقد يعفى عن بعض تصرفاتهم إن كانوا ذمة، إذا كانت المصلحة في ذلك، فموضوع النّسخ بعد هذا التقرير يبقى قضيّة اعتبارية بحسب سعة الفهم للنص، وبحسب محمل الآية. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين اجتمع لهم حسن العمل، ومراقبة الله فيه، والإخلاص لله في ذلك. فوائد: [حول مسألة الاثني عشر نقيبا وما يستفاد منها وحول عاقبة نقض الميثاق] 1 - نقل ابن إسحاق أسماء نقباء بني إسرائيل حسب أسباطهم، وقال ابن كثير وقد رأيت في السفر الرابع (أي: سفر العدد) من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل، وأسماء ابن كثير مخالفة لما ذكره ابن إسحاق، وما نقله ابن كثير قريب من الموجود حاليا في سفر العدد، مما يدلّ على أن نسخ ما يسمّى بالتورات كانت متوافرة خلال العصور الإسلامية، وأن النقل منها وعنها كان متاحا لعلمائنا. 2 - لاحظنا أن الاثني عشر نقيبا كانوا معيّنين تعيينا، ونلاحظ أنّ رسولنا عليه الصلاة والسلام قد طالب الأنصار ليلة العقبة الثانية أن يختاروا هم من بينهم اثني عشر نقيبا، مما يدلّ على أنّ الأصل في شريعتنا هو انتخاب القيادات، وليس تعيينها، وليس الكلام هنا في القيادات العسكرية، والأمر واسع جدا، وتحكمه قواعد متعدّدة، وإنما أشرنا هذه الإشارة هنا حتى لا يفهم فاهم أنّ التعيين في غيبة الوحي هو الأصل. 3 - لاحظنا أن الميثاق قد أخذ على بني إسرائيل بخمسة أشياء. الصلاة، والزكاة، والإيمان بالرّسل، ونصرتهم، وفعل الخير، وأنهم عوقبوا على النقض بقسوة القلب، واللعن، وما من شئ أخذ عليهم به الميثاق إلا وقد أخذ علينا، فمن رأى من قلبه قسوة
[سورة المائدة (5): آية 14]
فلينظر أيّ شئ قد فرّط به من هذه الأمور وغيرها، لقد قست القلوب في عصرنا كثيرا فلنفتّش عما يلينها. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى. أي: ومن الذين سمّوا أنفسهم نصارى ويظهر أنّهم سمّوا أنفسهم كذلك ادّعاء لنصر الله. أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ لم يفصّل ماهيّة الميثاق الذي أخذ عليهم، لأنّ الميثاق الذي أخذ على الأمم واحد، فهو لا يحتاج إلى تفصيل. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. أي: تركوه وأهملوه بل خالفوه. ومن ذلك التوحيد والشرائع. فعوقبوا على ذلك بما يلي. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ. أي: فألصقنا وألزمنا بين فرق النّصارى المختلفة العداوة والبغضاء، وهو عقاب مستمرّ بهم كما هو مشاهد. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فهم لا يزالون متباغضين، متعادين، يكفّر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وكل فرقة تحرم الأخرى من الجنة في زعمها، ولا تدعها تلج معبدها، والأمر فيهم هكذا إلى يوم القيامة. وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. أي: سيخبرهم يوم القيامة بما اقترفوه من الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى شريعته فيجازيهم. فائدة: [انتشار العداوة والبغضاء عقاب على نسيان جزء من الوحي] دلّت الآية على أنّ نسيان جزء من الوحي الذي ينزله الله على أمّة تستحق به هذه الأمة العداوة والبغضاء. ولا شك أنّ أمتنا نسيت الكثير من الوحي المنزّل، ونحن نرى آثار هذا الترك عداء وبغضاء بين المسلمين، والترك الذي وقعت به أمتنا ترك عملي في الغالب، إلا ما وقعت به بعض الفرق، ومظهر هذا التّرك العملي أخذا ببعض ونسيانا لبعض، فلنقبل على هذا الدين ولنأخذه كله لعلّ الله يؤلف بين قلوبنا. وبعد أن بيّن الله فيما مرّ من الفقرة نقض اليهود والنصارى للميثاق، دعاهم إلى تلافي ذلك بالإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب لليهود والنّصارى. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا. أي: محمد عليه الصلاة والسلام يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من نحو صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن نحو الرجم، ومن نحو التوحيد والتنزيه، وكثير من الشعائر والشرائع. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. أي: مما تخفونه فلا يبيّنه لعدم حاجة الإنسانية إلى بيانه. قال ابن كثير في تفسيرها: ويسكت عن كثير ممّا غيّروه ولا فائدة في بيانه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ النّور هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. لأنه يهتدى به ويقتدى وفي
[سورة المائدة (5): آية 16]
مكان آخر سماه الله سراجا. فقال: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (الأحزاب: 46) ويمكن أن يراد به القرآن لكشفه ظلمات الكفر والشرك والحيرة والشك وغير ذلك ولإبانته ما كان خافيا على النّاس من الحق. وَكِتابٌ مُبِينٌ. أي: واضح لأنه ظاهر الإعجاز، وعلى أنّ النّور محمّد صلّى الله عليه وسلّم يكون المعنى: قد جاءكم القدوة الصالحة، والكتاب الواضح. وعلى أن النّور الكتاب يكون من باب عطف الموصوف على الصّفة. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ الضمير في (به) راجع للقرآن. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ. أي: رضوان الله بالإيمان به، وبرسله، وبكتابه. سُبُلَ السَّلامِ. أي: طريق السلامة والنجاة من عذاب الله. أو سبل الله التي توصل إلى رضوانه ومعرفته وجنته. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. أي: ظلمات الشرك والكفر، والشك والنفاق، والشهوة والفسوق، إلى نور الإسلام والمعرفة. بِإِذْنِهِ. أي: بإرادته وتوفيقه. وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. أي: ويرشدهم إلى الطريق الأقوم. فوائد: 1 - [فائدة حول قوله تعالى يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ .. ] في قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ... إشارة إلى أنه لا بد للاهتداء بكتاب الله من إيمان أولا، يستتبع ذلك اهتداء بكتاب الله، يستتبع ذلك سير بالطرق الموصلة إلى رضوان الله، يستتبع ذلك هداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى الجنّة. 2 - [إخفاء أهل الكتاب أحكام كتبهم كالرجم للزاني] روى الحاكم بإسناد صححه عن ابن عباس قوله: «ومن كفر بالرّجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، أي قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فكان الرجم مما أخفوه» وبهذه المناسبة ننقل مما يسمّونه التوراة حاليا ما هو مذكور فيها من حكم الرّجم للزاني: في سفر اللاويين الإصحاح العشرون. «كل إنسان من بني إسرائيل ومن الغرباء النازلين في إسرائيل أعطى من زرعه لمولك فإنّه يقتل، يرجمه شعب الأرض بالحجارة» وفي سفر التثنية: الإصحاح الثاني والعشرين «ولكن إن كان هذا الأمر صحيحا لم توجد عذرة للفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها» وفي الإصحاح نفسه «إذا كانت فتاة
[سورة المائدة (5): آية 17]
عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا» أقول في شريعتنا: إذا زنت العذراء والأعزب الذي لم يتزوج فإنهما يجلدان مائة جلدة أما المحصن والمحصنة فهما اللذان يرجمان إذا زنيا .. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وأيّ: كفر أفظع من هذا الكفر جعل البشر إلها. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. أي: الأشياء كلها تحت قهره وسلطانه فمن يمنع من قدرته ومشيئته؟ إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. أي: إن أراد أن يهلك من زعموه إلها، وأمّه، والنّاس جميعا، والمعنى: أنّ المسيح عبد مخلوق كسائر العباد، وذكر من في الأرض جميعا في هذا السياق إشارة إلى أنّ المسيح وأمّه من جنسهم، لا تفاوت بينهما وبينهم من حيث المعنى، وهذا يفيد أنّ من اشتمل عليه رحم الأموميّة لا يفارقه نقص البشريّة، ومن لاحت عليه شواهد الحدثية لا يليق به نعت الربوبيّة، وأنّ الله لو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصّمدية. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فجميع الموجودات ملكه ومنهم المسيح وأمّه وأنّى تجتمع المملوكية مع الربوبيّة! يَخْلُقُ ما يَشاءُ. أي: يخلق من ذكر وأنثى، ويخلق من أنثى بلا ذكر، ويخلق بلا ذكر ولا أنثى كما خلق آدم. ويخلق مباشرة. ويخلق بالأسباب وفي ذلك كله دليل عظمته، وعلامة كمال قدرته، والمشير إلى ربوبيته فكيف يستدل بشيء من ذلك على ربوبيّة غيره. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فله وحده الربوبية وهو وحده الإله. والسياق كله ردّ على النّصارى فيما زعموه من شأن المسيح. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. أي: نحن أعز عليه كالابن على الأب. كلّ من اليهود والنّصارى ادّعى هذه الدعوى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. أي: إن صحّ أنّكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعاقبون بذنوبكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثمّ أكمل بقوله بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ. أي: أنتم خلق من خلقه لا بنوه، فلكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقد شاء أن يعذّب من مات على الكفر؛ عدلا، وأن يغفر لمن تاب عن الكفر؛ فضلا، ثم هو بعد أن يتوب من الكفر إن واقع المعصية فأمره إلى الله، إن شاء أن يعفو وإن شاء أن يعذّب. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وفي هذا تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والنبوة متنافيان. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. أي:
[سورة المائدة (5): آية 19]
المرجع والمآب وفي هذا تنبيه ووعيد. يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا. أي: محمد عليه الصلاة السلام. يُبَيِّنُ لَكُمْ شرائع الله، وما كنتم تخفون، وما كنتم فيه تختلفون عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحى. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. أي: لئلا تحتجوا بذلك. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ بشير للمؤمنين، ونذير للكافرين، وفي الآية معنى الامتنان بأنّ الرّسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي، وكانوا أحوج ما يكونون إليه. ليهشوا إليه، ويعدّوه أعظم نعمة من الله، وتلزمهم الحجة؛ فلا يقولون غدا بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن كمال قدرته أن يرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على مثل هذا الكمال، ويعطيه مثل ما أعطاه. وأن يعاقب من عصاه. ويثبت من أطاعه. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من المقطع، بعد أن عرضت ما أخذ به العهد على بني إسرائيل، وكيف أنهم نقضوه، وبعد أن عرضت: أن العهد أخذ على النصارى، وضربت لنا نماذج على نقضهم العهد في ادّعائهم أنّ المسيح هو الله، وبعد أن فنّدت دعاواهم، وأقامت عليهم الحجة بمتابعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتداركوا ما فاتهم من نقض المواثيق، وأن ذلك هو وحده طريق النجاة والصراط المستقيم. فوائد: [1، 2 - سبب نزول قوله تعالى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ .. وفائدة منه] 1 - قال ابن كثير، وقد قال بعض شيوخ الصوفيين لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه؟ فلم يردّ عليه. فتلا عليه الصوفي هذه الآية: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ وهذا الذي قاله حسن وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلمّا رأت أمّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول ابني! ابني، وسعت فأخذته. فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ولدها في النّار. قال: فحفظهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لا والله ما يلقي حبيبه في النار» تفرد به أحمد. 2 - أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعمان بن آصى وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلّموه، وكلّمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته. فقالوا: ما تخوّفنا يا محمّد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، وأنزل الله فيهم وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إلى آخر الآية رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
3 - نبينا أولى الناس بعيسى عليه السلام
3 - [نبينا أولى الناس بعيسى عليه السلام] في صحيح البخاريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبيّ». قال ابن كثير: وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعي وغيره. 4 - [تعليق ابن كثير على قوله تعالى عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ] وبمناسبة قوله تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قال ابن كثير: والمقصود أن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم على فترة من الرسل، وطموس من السّبل، وتغيير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان، والنيران والصلبان. فكانت النعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنّ الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسّكين ببقايا من دين الأنبياء والأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعبّاد النّصارى والصابئين كما قال الإمام أحمد. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبة خطبها ذات يوم. «وإنّ ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلّتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا. ثم إنّ الله- عزّ وجل- نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا. ثم إنّ الله أمرني أن أحرّق قريشا فقلت: يا رب إذن يثلغوا (¬1) رأسي فيدعوه خبزة. فقال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير متصدق. وأهل النّار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (¬2) والذين هم فيكم تبع أو (تبعا) - شكّ يحيا- لا يبتغون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب والشنظير: الفاحش ... والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله «وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل». وفي لفظ مسلم «من أهل الكتاب». أقول: اليهودي الذي لم يؤمن بعيسى بعد بعثة ¬
5 - العهد الجديد بما يشمله أثر من آثار بولس مع أنه ليس من الحواريين
عيسى كافر، فبقايا أهل الكتاب هم الذين آمنوا بحق، وليس عندهم ناقض ينقض إيمانهم. 5 - [العهد الجديد بما يشمله أثر من آثار بولس مع أنه ليس من الحواريين] إن ما يسمى بالكتاب المقدس عند النصارى يتضمن ما يسمى بالعهد الجديد، والعهد الجديد يشمل الأناجيل الأربعة المعتمدة عند نصارى عصرنا، وأعمال الرّسل، والرسائل، والدّارس للعهد الجديد يلاحظ ملاحظة مهمّة هي: أنّ آثار عيسى، وحوارييه، ومدارسهم، وتلاميذهم، كلها تكاد تكون معدومة فيه، فالعهد الجديد كلّه إنما هو أثر مدرسة بولس وحدها، مع أن بولس ليس من الحواريين، ولم يتتلمذ على سمعان بطرس الحواريّ الأول إلا خمسة عشر يوما، على حسب ما يذكر في رسائله. وفي رسائله يذكر أنه كان يبشر بإنجيل خاص به لم يتلقه عن أحد، وإنما عن المسيح مباشرة. ويذكر في رسائله أنه اختلف مع برنابا، ويهاجم في هذه الرسائل سمعان بطرس ويتهمه، ويهاجم في رسائله الذين يختلفون معه. ويدافع في رسائله عن نفسه كثيرا أمام هجمات ضدّه، كل ذلك يشير إلى أن دين المسيح عليه السلام كما ورّثه لتلاميذه قد اغتاله بولس هذا، وأنّ مدرسة بولس هذه قد تغلبت واضطهدت في النهاية مخالفيها، وقتلتهم فيما بعد، ثم هي انقسمت على نفسها الانقسامات الكثيرة، والمتمثلة بالكنائس المتعددة التي تكفّر كل منها الأخرى، وتعاديها أشد العداء، نقول هذا كله بمناسبة ما مرّ معنا من آيات حول النصارى خاصة، وفي هذا العهد الجديد الذي هو كله أثر من آثار مدرسة بولس نجد كثيرا مثل تعبير أن (المسيح هو الرب، وهو الله) وكثيرا ما تجد (تعبير أبناء الله وأحبابه). ومن كلام بولس هذا كما ورد في رسالته إلى أهل غلاطية في الإصحاح الأول «وأعرفكم أيّها الإخوة الإنجيل الذي بشّرت به أنه ليس بحسب إنسان لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علّمته بل بإعلان يسوع المسيح» وفي الإصحاح الثاني منها. «ولكن لما أتى بطرس (تلميذ المسيح الأول) إلى أنطاكية قاومته مواجهة لأنه كان ملوما، ومن مقدمة رسالته إلى أهل أفسس. (نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح) ... ». ومن كلامه في الإصحاح الخامس من هذه الرسالة. «فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحبّاء ... ». والتعبير عن المسيح بالرب وإعطاؤه كل خصائص الألوهية وحقوقها أكثر من أن يحصى في العهد الجديد كله. ولننتقل الآن إلى الفقرة الثانية في هذا المقطع لتفسيرها تفسيرا حرفيا.
[سورة المائدة (5): آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أمرهم أن يذكروا نعمة الله إجمالا ثم ذكّرهم بثلاثة منها. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ كيوسف وموسى وهارون عليهم السلام. وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. أي: أحرارا بعد إذ كانوا مستعبدين مستذلين في أيدي القبط. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، وإغراق العدو، وإنزال المنّ والسّلوى، وتظليل الغمام، ونحو ذلك من الأمور العظام، والمعجزات الكبيرة. مما لم تؤته أمة من الأمم المعاصرة لهم. قال ابن كثير: وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجا، وأكرم نبيا، وأعظم ملوكا، وأغزر أرزاقا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع مملكة، وأدوم عزا. ثم بنى موسى عليه السّلام على تذكّر النعمة أمرا ونهيا فقال: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. أي: المطهّرة. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. أي: قسمها لكم أو سمّاها أو كتبها لكم في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ. أي: ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف سكّان الأرض المباركة أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. أي: فترجعوا خاسرين ثواب الدّنيا والآخرة والأرض المباركة هنا: هي أرض بيت المقدس وما حولها. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ الجبار: هو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها. أي: بالقتال حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها أي: بغير قتال. فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها. أي: بلا قتال فَإِنَّا داخِلُونَ إلى الأرض المباركة حينئذ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ. أي: من الذين يخشون الله فكأنه قال: رجلان من المتقين. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بنعمة التقوى والخوف منه. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ. أي: باب المدينة. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ أي: كانت الغلبة لكم. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إذ الإيمان به يقتضي التوكّل عليه والتوكّل: قطع العلائق القلبية مع غير الله وترك التملّق بالباطل للخلائق. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها نفوا دخولهم إليها في المستقبل على وجه التوكيد، ثم أكدوا النفي بذكر الأبد، ثم قيّدوه ببقاء الجبارين فيها. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. أي: ماكثون لن نذهب معك لقتال، فلما عصوه وخالفوه. قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ لنصرة دينك إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي. أي:
[سورة المائدة (5): آية 26]
هارون وهذا من البث والشكوى إلى الله التي بمثلها تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. أي: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله، وهو في معنى الدعاء عليهم، أو فباعد بيننا وبينهم، وخلّصنا من صحبتهم. قالَ فَإِنَّها. أي الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ. أي: لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبّد، كتبها لهم بشرط الجهاد فلما أبوا منعوا منها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. أي: يسيرون فيها متحيرين .. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. أي فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون. فوائد: 1 - [أهمية الجهاد في سبيل الله] من ذكر الفسوق في نهاية هذه الفقرة مرتين نعرف مفتاح السّياق؛ فقد رأينا أن سورة المائدة كلها تفصّل من سورة البقرة الآيتين اللتين فيهما. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... ومن هذه المجموعة نفهم أن النّعمة ينبغي أن يقابلها جهاد، وأنّ ترك الجهاد حيث فرض فسوق، وأنه مع الفسوق لا اهتداء بكتاب الله. فالفقرة تبرز أهميّة الجهاد في قضيّة الإيمان، وأما محل هذه الفقرة في سياقها القريب، فإنها مرتبطة بنقض الميثاق، إذ من الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل نصرة الرسل، وقد تخلى بنو إسرائيل عن نصرة موسى عليه السلام فاستحقوا لقب الفسوق، واستحقوا العقوبة الدنيوية. 2 - [قصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم] قال ابن كثير تعليقا على هذه القصّة المذكورة في هذه المجموعة: وهذه القصّة تضمّنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء، ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكليمه، وصفيّه من خلقه في ذلك، وهو يعدهم بالنّصرة والظّفر بأعدائهم، هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم فرعون، من العذاب، والنّكال، والغرق له، ولجنوده في اليمّ، وهم ينظرون؛ لتقرّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم. فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. هذا وهم في جهلهم يعمهون. وفي غيّهم يترددون. وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه. ويقولون مع ذلك نحن أبناء الله وأحباؤه، فقبّح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود. وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النّار ذات الوقود، ويقضى لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود.
3 - بعض ما ورد في التوراة عن الرجلين اللذين يخافان وقد أنعم الله عليهما
3 - [بعض ما ورد في التوراة عن الرجلين اللذين يخافان وقد أنعم الله عليهما] ينقل المفسرون في هذا المقام كلاما كثيرا، منه الخياليّ، ومنه الذي له أصل في كتب بني إسرائيل؛ مما يدلّ على أن علماءنا قد اطلعوا اطّلاعا متينا على كتب بني إسرائيل، والأصل الذي يمكن أن يكونوا قد نقلوا عنه هو كتب العهد القديم، أو التلمود. وهذه القصّة مذكورة في التوراة الحالية، في سفر العدد (الإصحاح الثالث عشر، والإصحاح الرابع عشر) ويشار إلى هذا الموضوع كثيرا في بقية التوراة، وتسمّي التوراة الحالية الرجلين المذكورين في القرآن وهما كالب بن يفنّة، ويشوع بن نون، ومما ورد في (الإصحاح الرابع عشر) «وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر» وفي أواخر سفر العدد، وفي سفر التثنية، قصة التيه، وما كان لهم فيه. ومن كلام موسى عليه السلام في التثنية (الإصحاح التاسع والعشرين). «فقد سرت بكم أربعين سنة في البريّة لم تبل ثيابكم عليكم ونعلك لم تبل على رجلك» وفي الإصحاح الحادي والثلاثين «وأوصى (أي موسى) يشوع بن نون وقال تشدّد وتشجّع لأنك أنت تدخل ببني إسرائيل الأرض التي أقسمت لهم عنها وأنا أكون معك» وتحدّد التوراة الحالية المكان الذي كان فيه التّيه وتشير إشارات إلى طبيعة التيه من مثل ما ذكر في سفر التثنية الإصحاح الثاني: «ثمّ تحوّلنا وارتحلنا إلى البريّة على طريق بحر سوف، كما كلّمني الرب، ودرنا بجبل سعير أياما كثيرة ثم كلّمني الرّبّ قائلا كفاكم دوران بهذا الجبل تحوّلوا نحو الشمال ... » وفي الإصحاح نفسه «الآن قوموا واعبروا وادي زارد. فعبرنا وادي زارد والأيام التي سرنا فيها من قادش برنيع حتى عبرنا وادي زارد كانت ثماني وثلاثين سنة حتى فني كل الجيل رجال الحرب من وسط المحلة ... ». وإذا لم يكن عندنا عن رسولنا عليه الصلاة والسلام تفصيل في هذه الأمور فإننا نكتفي بالإحالة على ما يمكن أن يكون مصدرا، مع المعرفة بحاله من احتمال التغيير والتبديل كما ذكرنا في سورة البقرة، والرجلان اللذان ذكرهما القرآن كانا اثنين من اثني عشر رجلا على عدد أسباط بني إسرائيل أرسلهم موسى عليه السلام، ليتجسسوا الأرض، ويعرفوها فثبط العشرة، وقال يوشع وكالب قولة الحق فكافأهما الله بأن كانا الوحيدين اللذين عاشا ليريا الفتح، وكافأ الله كلا منهما مكافأة خاصة. أما يوشع فكان خليفة موسى عليه السلام وكان على يده الفتح وأما كالب فقد كوفئ مكافئات تذكرها التوراة، ومن قارن بين موقف أصحاب موسى عليه السلام وأصحاب رسولنا صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر- كما سترى- عرف الفضل لأهله، والحكمة في عقوبتهم بالتيه أربعين
المعنى الحرفي للفقرة الثالثة
سنة أن يموت الجيل الذي خرج من مصر. الجيل الذي تربى في الذّل، والقهر، وطراوة العيش؛ لكي ينشأ خلالها جيل أشدّ، وأقسى، وأقدر على تحمل لأواء الجهاد. المعنى الحرفي للفقرة الثالثة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. أي: واتل على أهل الكتاب هذه القصة ليروا ما يجرّ إليه الحسد إذ جرّ في هذه القصة إلى قضيتين: قطع ما أمر الله به أن يوصل وهو الرحم، والقتل الذي هو أفظع أنواع الإفساد في الأرض، وإذا ربطنا هذا الموضوع في السياق الكلي الذي عرّفنا أن نقض الميثاق وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، قضايا مترابطة، وأنّ تحرير الإنسان منها هو الطريق إلى الهداية، وأن سورة المائدة تفصّل في ذلك، ثم ربطنا بين هذه الفقرة وبين مقطعها فإننا ندرك كيف أنّ هذه القصة تخدم أكثر من قضية لها صلة في السياق، فهي تخدم في موضوع تحرير الإنسان من الإفساد فى الأرض، وتخدم في موضوع نصرة الرّسل إذ لم يبتعد من ابتعد من أهل الكتاب عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أثرا عن الحسد، وتخدم في التحرير من قطع ما أمر الله به أن يوصل إلى غير ذلك: نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ. أي: خبرهما وأكثر المفسرين على أنّ المراد بهما هابيل وقابيل ابني آدم من صلبه ويشهد لذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سنّ القتل». بِالْحَقِّ. أي: خبرا ملتبسا بالصدق، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة، أو واتل عليهم وأنت محق صادق. وذكر الحق في هذا السياق مشعر بأنّ النّص القرآني لا يحتاج إلى ما يؤيده من غيره لأنه حجة على كل شئ، وليس من شئ حجة عليه. إِذْ قَرَّبا قُرْباناً القربان: ما يتقرّب به إلى الله من نسيكة أو صدقة ومعنى النص إذ قرب كل واحد منهما قربانه. فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما. أي: قربانه وهو هابيل. وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أي: قربانه وهو قابيل. قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ القائل هو قابيل قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كأن هذا جواب السؤال قال لم تقتلني؟ قال لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني. فقال: إنما يتقبل الله من المتقين. وأنت غير متّق. فإنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي لَئِنْ بَسَطْتَ. أي: مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ. أي: بماد يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ. أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، ثمّ بيّن علّة امتناعه عن القتل بقوله: إِنِّي
[سورة المائدة (5): آية 29]
أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ. أي: أن تتحمّل أو ترجع بِإِثْمِي. أي: بإثم قتلي إذا قتلتني. وَإِثْمِكَ الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد. فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ. أي: النار جزاؤهم. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ. أي: فحسّنته له وسوّلته له وشجّعته فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ بسفكه الدم الحرام، وتذكّرنا كلمة الخاسرين هنا بالسياق القرآني العام إذ تنتهي آيتا البقرة اللتان هما محور سورة المائدة بلفظ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* دلّ ذلك على أنّ ما فعله قابيل هو ذروة الضّلال إذ هو نقض ميثاق، وقطع رحم، وإفساد في الأرض، ومن ثمّ كان من الخاسرين فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ. أي: الله أو الغراب. كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ. أي: عورته وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي. أي: بدفنه. فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على عجزه أو على قتله، وإذا كان ندمه على قتله- والنّدم في شريعتنا توبة- فهل يعني هذا أنّ النّدم لم يكن توبة يومها؟ أو أنه توبة ولكن الله لم يقبل توبته لفظيع جنايته وسنّته هذه الجريمة؟ كل يحتمله المعنى. فوائد: [حول قصة ابني آدم وآثار حولها، ومسألة في الدفاع عن النفس] 1 - يذكر المفسرون كلاما كثيرا حول هذه القصة وحيثياتها ولم نجد في العهد القديم والجديد ما نذكره حول السّبب الذي من أجله كان القربان ولكن ابن كثير ينقل بإسناد جيد عن ابن عباس كلاما نذكره للاستئناس إذ ليس عندنا نص عن رسولنا عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن، وهذه رواية ابن عباس كما يرويها سعيد بن جبير. «قال نهى (أي آدم) أن تنكح المرأة أخاها توأمها. وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك، وأنكحك أختي. فقال: لا أنا أحق بأختي، فقرّبا قربانا فتقبّل من صاحب الكبش ولم يتقبّل من صاحب الزرع فقتله» وقال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرّج يعني الورع. 2 - بمناسبة ذكر هذه القضية يثير الفقهاء مسألة، وهي: ما حكم دفاع الإنسان
عن نفسه؟. فبعض الفقهاء يرى أن دفاع الإنسان عن نفسه واجب. وبناء عليه، فإنهم يعلّلون عدم دفع هابيل عن نفسه، إما لأنّ الدّفع لم يكن مباحا، أو أن قابيل قتله غدرا. 3 - بمناسبة هذه القصة إليك هذه الأحاديث التي لها صلة بموضوعها: أ- قال ابن كثير: وقد ورد في الحديث أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا. ب- روى عبد الرزاق عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمّة مثلا فخذوه بالخير منهما». ج- في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه». د- قال الإمام أحمد إنّ سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من السّاعي». قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ فقال «كن كابن آدم». هـ- قال الإمام أحمد: إنّ أبا ذر قال: ركب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حمارا وأردفني خلفه وقال: يا أبا ذر أرأيت إن أصاب النّاس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال «تعفّف». قال: «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب النّاس موت شديد يكون البيت فيه (يعني القبر) بالعبد كيف تصنع؟» قلت الله ورسوله أعلم. قال: «اصبر». قال: «يا أبا ذر أرأيت إن قتل النّاس بعضهم بعضا، حتى تغرق حجارة الزيت (موضع كان بالمدينة) من الدّماء كيف تصنع؟» قلت، الله ورسوله أعلم. قال: «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك». قال: فإن لم أترك؟ قال: «فأت من أنت منهم فكن منهم». قال: فآخذ سلاحي؟ قال: «فإذا تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك» رواه مسلم.
[سورة المائدة (5): آية 32]
و- أخرج ابن مردويه: عن منصور عن ربعيّ قال: كنّا في جنازة حذيفة فسمعت رجلا يقول. سمعت هذا يقول في ناس مما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لئن اقتتلتم لأنظرنّ إلى أقصى بيت في داري فلألجنّه، فلئن دخل عليّ فلان، لأقولن: ها، بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم». وقال أيوب السختياني: إنّ أول من أخذ بهذه الآية من الأمّة لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ لعثمان بن عفّان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي: بسبب القتل المذكور. كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ خصّهم بالذكر وإن كان حكما مشتركا في كل شريعة أنزلها الله لأن التوراة أول كتاب سماوي نصّ عليه. أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ. أي: من قتل نفسا بغير قتل نفس. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ. أي: أو بغير فساد في الأرض كالشرك، وقطع الطريق، وكل فساد يوجب القتل. فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً. أي: في الذنب لأن الاعتداء على نفس. اعتداء على النّفوس كلها. وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. أي: ومن استنقذها من أسباب الهلكة، من قتل، أو غرق، أو هدم، أو غير ذلك فكأنّما أحيا النّاس، جعل قتل الواحد كقتل الجميع، وكذلك الإحياء، ترغيبا وترهيبا، لأنّ المتعرض لقتل النفس إذا تصوّر أنّ قتلها كقتل النّاس جميعا. عظم ذلك عليه فثبّطه، وكذا الذي أراد إحياءها، إذا تصوّر أنّ حكم إحياء نفس، حكم إحياء جميع الناس رغب في إحيائها قال قتادة: عظيم والله وزرها، عظيم والله أجرها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي: بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد مجئ الرسل بالآيات فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي: لمتجاوزون الحدّ، ومن ذلك القتل، لا يبالون بفظاعته؛ حتى إنهم قتلوا الأنبياء. وبعد أن قرّر الله شناعة القتل إلّا في حالتين: حالة القصاص، وحالة الإفساد في الأرض. قرّر في الآية التالية: أنّ الذين يحاربون الله ورسوله، ويفسدون في الأرض، يستحقون القتل فقال. إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ بمحاربة دينه، وكتابه، وشريعته، وأوليائه. وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً. أي: ويسعون في الأرض مفسدين، بالصدّ عن دين الله، والسير في مسالك الشياطين. أَنْ يُقَتَّلُوا دون صلب وقطع. أَوْ يُصَلَّبُوا مع القتل. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ. أي: مختلفة اليد اليمين مع الرجل اليسرى. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. أي: أن يحبسوا ذلِكَ. أي: المذكور من العقوبات. لَهُمْ
[سورة المائدة (5): آية 34]
خِزْيٌ فِي الدُّنْيا. أي: ذلّ وفضيحة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ النّار. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. أي: فتسقط عنهم هذه الحدود إلا ما هو حق العباد. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم بالتّوبة ويرحمهم فلا يعذبهم. فوائد [هامة: حول آية الحرابة وبعض أحكامها] 1 - قصة ابني آدم هذه موجودة في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من أسفار التوراة الحالية وفيه: «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قابين .. ثم عادت فولدت أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قابين عاملا في الأرض، وحدث بعد أيام أن قابين قدّم من أثمار الأرض قربانا للربّ، وقدّم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الربّ إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قابين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قابين .. وحدث إذ كانا في الحقل أن قابين قام على هابيل أخيه وقتله .. » والملاحظ أن القربان لم يكن سببه الزواج في هذه الرواية وأن القاتل اسمه قابين» بالنّون. 2 - في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج في التوراة هذا القول «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا». 3 - قال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ... من استحلّ دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا، ومن حرّم دم مسلم فكأنّما حرّم دماء النّاس جميعا» وقال ابن المبارك ... عن سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال: أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا». 4 - روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله اجعلني على شئ أعيش به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا حمزة نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال بل نفس أحييها قال عليك بنفسك». 5 - في فهم آية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... اتجاهان: الاتجاه الذي يتوسّع في فهم معنى المحاربة والإفساد، فالمحاربة في الأصل: هي المضادّة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد
في الأرض: يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب إنّ قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، فالذين توسعوا في الفهم أعطوا الإمام حق التعزير في كل جريمة، هي من هذا الباب، وأطلقوا يده في العقوبة لاستئصالها بالقتل وبغيره، مما هو مذكور في الآية. والاتجاه الثاني: الذي ضيّق فهم الآية فحملها على قطع الطريق، وحمل العقوبات فيها على تصرفات، فإن قتل فقط قتل، وإن قتل وأخذ المال، صلب، وإن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخاف الناس فقط سجن، والذين توسعوا في فهم الآية لا ينفون انطباقها على ما ذهب إليه الآخرون، بل يثبتون ما أثبتوه ويتوسعون. وهذه الآية هي أصل حدّ الحرابة الذي يذكر عادة في كتب الفقه في كتاب الحدود فليراجع هناك. 6 - في سبب نزول آية الحرابة نذكر الروايات التالية: روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك «أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض (أي المدينة)، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: «ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها» فقالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فبعث في آثارهم فأدركوا فجئ بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا. لفظ مسلم. (من عكل أو عرينة)، وفي لفظ، (وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون). وفي لفظ لمسلم، (ولم يحسمهم)، وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وقال حمّاد بن سلمة عن أنس بن مالك: أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصحّوا فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آثارهم فجئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم وألقاهم في الحرّة، قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا، ونزلت إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه، وقال الترمذي حسن صحيح. 7 - وهل آية المحاربة عامّة في المشركين والمسلمين؟ أو أنها خاصة في الكافرين،
فمن تاب منهم من قبل أن نقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ، إن قتل أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، ثم تاب لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصاب. قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات. 8 - احتج بعموم آية المحاربة على أنّ حكم المحاربة لمن قطع السبيل وأخاف النّاس في الأمصار وفي السبلان على السواء، لقوله تعالى وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يقتل الرجل، فيخدعه حتى يدخله بيتا، ويأخذ ما معه، أن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى وليّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأمّا في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق؛ لبعده ممّن يغيثه ويعينه. 9 - قال ابن عباس وغيره: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السّبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وقال الجمهور هذه الآية منزلة على أحوال من إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض. 10 - قال ابن كثير: واختلفوا هل يصلب حيا ويترك يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا بغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرّر في موضعه. وبالله الثقة وعليه التكلان. 11 - وفي قوله تعالى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قال ابن كثير، قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام. رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك. وسعيد بن جبير. والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس: وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال الشعبي: ينفيه- كما قال ابن هبيرة- من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفى من جند إلى
جند سنين، ولا يخرج من دار الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: أن ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير أنّ المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه. 12 - يلاحظ من الآية أنّ جزاء الحرابة جزاء دنيوي وأخروي، فأمّا في أهل الكفر فظاهر، وأما في أهل الإسلام فهذا محمول على من استحلّ الحرابة فكفر؛ لأنّ النّصوص تفيد أنّ المسلم إذا أصاب حدا فأقيم عليه فالله لا يجمع عليه عقوبتين. ومن النّصوص في هذا ما ورد في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخذ على النّساء ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا. ولا يعضه (¬1) بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفّارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه». وعن عليّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثنّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شئ قد عفا عنه». رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وبعضهم حمل اجتماع العقوبتين في أهل الإسلام إذا كانت حرابتهم أثرا عن عقيدة فاسدة كحال الخوارج. 13 - من قطع السبيل من أهل الإسلام إذا تاب قبل القدرة عليه، وكان قد قتل وأخذ المال في شأنه اتجاهان: الاتجاه الأول: عدم سقوط حق العباد وهو الذي ذكرناه في التفسير الحرفي وهو اتجاه الحنفية. الاتجاه الثاني: اتجاه الشافعية أنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان: قال ابن كثير: وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة ثم نقل ثلاثة قصص تفيد هذا وهذه هي: أ- أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلّم رجالا من قريش منهم الحسن بن ¬
عليّ، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلّموا عليا فيه فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس الهمذاني فخلّفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قال: فكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر. وكذا رواه ابن جرير عن الشعبي وزاده: فقال حارثة بن بدر: ألا بلّغن همدان إمّا لقيتها … على النأي لا يسلم عدو يعيبها لعمر أبيها إنّ همدان تتقي ال … إله ويقضي بالكتاب خطيبها ب- روى ابن جرير عن الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضى الله عنه، بعد ما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي. وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو موسى: إنّ هذا فلان بن فلان وإنّه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنّه تاب من قبل أن تقدروا عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه. فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنّه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ج- روى ابن جرير عن موسى بن إسحاق المدني أن عليا الأسدي حارب وأخاف وأصاب الدّم والمال، فطلبه الأئمة والعامّة، فامتنع ولم يقدروا عليه، حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية:. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فوقف عليه فقال: يا عبد الله. أعد قراءتها فأعادها عليه؛ فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السّحر فاغتسل، ثمّ أتى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الصّبح، ثمّ قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه. فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه. فقال: لا سبيل لكم عليّ. جئت تائبا من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو هريرة: صدق وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية. فقال: هذا عليّ جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال: وخرج عليّ تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقرّبوا سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقّها الآخر فمالت بهم فغرقوا جميعا.
كلمة في السياق
كلمة في السياق: في المقطع الأول رأينا أمرا بالوفاء بالعقود، وأمرا بالطهارة للصلاة، وأمرا بتذكر نعم الله والوفاء بميثاقه، وأمرا بالتوكل، وكل هذا ينتظمه قضية الإيمان والتسليم كمقدمتين رئيسيتين للاهتداء بكتاب الله. وفي المقطع الثاني ثلاث فقرات: الفقرة الأولى في المواثيق التي أخذت على اليهود والنّصارى، وكيف نقضوها وما عوقبوا به لذلك وفيها دعوة أهل الكتاب للدخول في دين الله. وفيها نماذج من عهود نقضها اليهود، ونماذج من عهود نقضها النصارى. ثم تأتي الفقرة الثانية: وفيها نموذج على عهد نقضه اليهود وهو نصرة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثمّ تأتي الفقرة الثالثة: وفيها قصة ابني آدم، وما رتب الله عليها من أحكام، وفيها جزاء المحاربين لله ورسوله المفسدين في الأرض، وينتظم هذه الفقرات أنها حديث عن نقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وهي القضايا الرئيسية التي تحول بين الإنسان وبين الاهتداء بكتاب الله، وخلال ذلك ذكرت لبعض هذا الانحراف، وهنا نحب أن نسجل ملاحظة هي: أنك تجد السياق القرآني يحدثك عن المعنى مرة بعد مرة، وفي كل مرة يعطيك جديدا، ويأتيك التفصيل شيئا فشيئا، وبشكل معجز عجيب، فكأن السياق القرآني يربي عند الإنسان المعنى شيئا فشيئا. والمهم أن نلاحظ أنّه من بداية السياق حتى نهاية هذا المقطع تكررت كلمة الخاسرين، وتكررت كلمة الفسق والفاسقين، وتكررت كلمة نقض الميثاق، وكلمة الإفساد في الأرض، وهي كلمات رئيسية في محور السورة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لقد ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ في الآية الخامسة والعشرين وورد قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ في الآية السادسة والعشرين. ولقد وردت كلمة الخاسرين في الآية الخامسة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ
نقول: عن صاحب الظلال حول تسلل الانحراف إلى عقائد النصارى
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ووردت في الآية (21) وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ووردت في الآية (30) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ. ولقد وردت قضية الميثاق والإفساد في الأرض كما رأينا. أفلا يكون هذا دليلا على ما ذهبنا إليه من أنّ محور السورة ما ذكرنا. وبعد المقطع الأول والمقطع الثاني يأتي مقطع ثالث يحدثنا عما تنحسم به مواد الإفساد في الأرض، بعد ما سبق من كلام عن حدّ الحرابة، وبعد ما جاء من دروس في تقاعس بني إسرائيل عن الجهاد. وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن المقطع الثالث فلننقل بعض النقول ولنذكر بعض الفصول التي لها صلة في المقطع الثاني: نقول: [عن صاحب الظلال حول تسلل الانحراف إلى عقائد النصارى] 1 - رأينا أن الفقرة الأولى من المقطع الثاني كان فيها حديث عن النصارى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ*. وقد تحدث صاحب الظلال حديثا طويلا حول الانحراف الذي تسلّل إلى النصارى ومراحله فقال: «إن الذي جاء به عيسى- عليه السلام- من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول. والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول .. ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات، بسبب دخول الوثنيين في النصرانية؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها. ولم تجئ هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة؛ ولكنها دخلت على فترات؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير، الذي تحار فيه العقول. حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها!. وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح- عليه السلام- في تلامذته وفي أتباعهم. وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت- وهو إنجيل برنابا- عن عيسى- عليه السلام- يذكره بوصفه رسولا من عند الله، ثم وقعت بينهم الاختلافات. فمن قائل: إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل. ومن قائل: إنه رسول نعم، ولكن له بالله صلة خاصة. ومن قائل: إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب، ولكنه على هذا مخلوق لله. ومن قائل:
إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب .. ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية «مجمع نيقية» الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة. قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية. «وكانوا مختلفين في الآراء والأديان فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله. وهم «البربرانية». ويسمون «الريمتيين». ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها. وهي مقالة «سابليوس». وشيعته. ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء من الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة «إليان» وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منّا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي «ابن الله» ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس. وهي مقالة «بولس الشمشاطي» بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم «البوليقانيون» ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تنزل: صالح، وطالح، وعدل بينهما. وهي مقالة «مرقيون» اللعين وأصحابه! وزعموا أن «مرقيون» هو رئيس الحواريين وأنكروا «بطرس». ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح وهي مقالة «بولس الرسول» ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا. وقد اختار الإمبراطور الروماني «قسطنطين» الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم، وشرّد أصحاب سائر المذاهب، وبخاصّة القائلين بألوهية الأب وحده، وناسوتية المسيح. وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه: «إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه. وأنه لم يوجد قبل أن يولد. وأنه وجد من لا شئ. أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الأب. وكل من يؤمن أنه خلق، أو من يقول: إنه قابل للتغيير ويعتريه ظل دوران». ولكن هذا المجتمع بقراراته لم يقض على نحلة الموحّدين أتباع «آريوس» وقد غلبت
على القسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، ومصر. ثم ثار خلاف جديد حول «روح القدس» فقال بعضهم: هو إله، وقال آخرون: ليس بإله! فاجتمع «مجمع القسطنطينية الأول» سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر. وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية: «قال ثيموثاوس بطريرك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله. وليس روح الله شيئا غير حياته. فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به. ومن كفر به وجب عليه اللعن»!!! وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية. وتم «الثالوث» من الأب. والابن. وروح القدس .. ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية .. أو اللاهوت والناسوت كما يقولون .. فقد رأى «نسطور» بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة. فأقنوم الألوهية من الأب وتنسب إليه، وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم، فمريم أم الإنسان- في المسيح- وليست أم الإله! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم- كما نقله عنه ابن البطريق: «إن الإنسان الذي يقول: إنه المسيح .. بالمحبة متحد مع الابن .. ويقال: إنه الله وابن الله، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة». ثم يقول: «إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حدّ ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة، أو هو ملهم من الله، فلم يرتكب خطيئة، وما أتى أمرا إدّا». وخالفه في هذا الرأي أسقف رومة، وبطريرك الإسكندرية، وأساقفة أنطاكية، فاتفقوا على عقد مجمع رابع وانعقد «مجمع أفسس» سنة 431 ميلادية. وقرر هذا المجمع- كما يقول ابن البطريق: «أن مريم العذراء والدة الله. وأن المسيح إله حق وإنسان، معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم» .. ولعنوا نسطور!. ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد، انعقد له «مجمع أفسس الثاني»
فصول
وقرر: «أن المسيح طبيعة واحدة، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت». ولكن هذا الرأي لم يسلم، واستمرت الخلافات الحادّة، فاجتمع مجمع «خلقيدونية» سنة 451 وقرر: أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة، وأن اللاهوت طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحدها، التقتا في المسيح» .. ولعنوا مجمع أفسس الثاني!. ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع. ووقعت بين المذهب المصري «المنوفيسية» والمذهب «الملوكاني» الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية. ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح؛ والخلافات الدامية، والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف، وما تزال إلى اليوم ثائرة .. وتجئ الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذه القضية؛ ولتقول كلمة الفصل؛ ويجئ الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة». لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ* .. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. فصول: فصل في تصحيح خطأ: بمناسبة قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ رأينا كيف أنّ هناك نصوصا تحضّ على التزام موقف ابن آدم القتيل، ومن دراسة لهذه النصوص نجد أنها فتاوى خاصة، في فتن خاصة لأشخاص بأعيانهم، أو أنّها فتاوى تنطبق على حالات بعينها، والعجيب أن يرى بعضهم في هذه النصوص دليلا له على تعطيل مبدأ الجهاد، بأن يخرج هذه النصوص عن مدلولها الخاص؛ فيعممها على حالات لا تنطبق على ما وردت في شأنه هذه النّصوص، وهو موضوع سنرى كلاما كثيرا فيه في هذه السلسلة كلها بحيث توضع النصوص في محلها. فصل: في موضوع الحقّ العام: نما في العالم كله موضوع الحق العام في الفقه القانوني، وإنه لمن إعجاز هذا القرآن
فصل في حكمة تنزل الأحكام بحسب الحوادث
أن فتح الباب لهذا النّوع من الفقه في كثير من نصوصه من مثل قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وموضوع الحق العام نجده في كثير من نصوص الإسلام وفي مسائل الفقه الإسلامي. فصل في حكمة تنزل الأحكام بحسب الحوادث: من الملاحظ أنّ القرآن نزل منجّما، ولم ينزل مرة واحدة، ولذلك حكمه الكثيرة، ومن جملة هذه الحكم أن تنزل النصوص لتعالج الأمر الواقع فيكون استقبال النّصوص في هذه الحالة جامعا في طيّاته التسليم الإيماني، مع القناعة العقلية الكاملة، مع الاستعداد النفسي للتنفيذ المباشر للحكم. إنّه عند ما تقع حادثة العرنيين الفظيعة وتنزل الآية التي تذكر حدّ الحرابة فذلك درس إلى قيام الساعة يجعل الحدّ له مبرراته الواقعية، ومن هنا ينبغي أن نأخذ درسا في العمل الإسلامي اليومي، بحيث تكون الحادثة دليل القاعدة العملية في الحركة وفي فقه الدعوة، والتنظيم والتعامل. ***
المقطع الثالث يمتد هذا المقطع من الآية (35) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو
المقطع الثالث يمتدّ هذا المقطع من الآية (35) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو: 5/ 40 - 35 كلمة في المقطع: هذا المقطع هو بمثابة امتداد للمقطع السابق من حيث إنه يأمر بحسم مادة الفساد في الأرض بجهاد الكافرين، وقطع يد السارق، وبمناسبة الأمر بالجهاد يذكّرنا الله- عزّ وجل- أنّ عذاب الكافرين يوم القيامة هو أكبر بكثير ممّا يصيبهم بسبب الجهاد؛ لأن جرمهم فظيع. وإذ يأمرنا الله بقطع يد السارق، عقوبة عادلة على جريمة، فإنه يفتح له باب التوبة، وصلة المقطع بمحور السورة من حيث إنه يعرض علينا مظاهر من نقض العهد والإفساد. وأي نقض للعهد أكبر من الكفر، ولا شك أنّ السرقة من الإفساد في الأرض. وبعد هذا كله فلنلاحظ ما يلي: في محور السورة من سورة البقرة وصف الله- عزّ
المعنى العام للمقطع
وجل- الفاسقين بأنهم: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* ويبدأ هذا المقطع بذكر طريق الفلاح وهو اجتماع التقوى والعمل والجهاد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل أنّ السورة تسير على خطين: خط تبيان الفسوق الذي يوصل صاحبه إلى الكفر والنّفاق، وخط تبيان المعاني التي إذا تحقق بها الإنسان خرج عن الفسوق وتحقق بالتقوى. المعنى العام للمقطع: يقول الله تعالى آمرا عباده بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم، وترك المنهيات، وأمرهم مع التقوى أن يتقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، ثم أمرهم بقتال الأعداء من الكفّار، والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، والتّاركين للدّين القويم، ورغبهم في ذلك بما أعدّه للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة، التي لا تبيد، ولا تحول، ولا تزول، في الغرف العالية الرّفيعة الآمنة، الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم ولا يبأس، ويحيا ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثم أخبر تعالى بما أعدّ لأعدائه الكفّار من العذاب والنّكال يوم القيامة، حتى لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا، وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقّن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه، ولا محيص له ولا مناص، وعذابهم في جهنم موجع، وهم لا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من سكرته، وأليم مسّه، ولا سبيل لهم إلى ذلك، بل عذابهم دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها. وفي هذا السياق يأمر تعالى بقطع يد السارق والسارقة؛ مجازاة لهما على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك، ذلك حكم الله العزيز في انتقامه، الحكيم في أمره ونهيه وشرعه وقدره. ثم بيّن تعالى أن من تاب بعد سرقته، وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأمّا أموال النّاس فلا بد من ردّها إليهم، أو ردّ بدلها عند الجمهور، ثم ذكّر الله- عزّ وجل- بمالكيته للسماوات والأرض، فهو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه الذي لا معقّب لحكمه، وهو الفعّال لما يريد؛ فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء وهو على كل شئ قدير.
المعنى الحرفي
المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... باجتناب ما نهى وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الوسيلة في اللغة: هي كل ما يتوسل به، أي يتقرّب من قرابة، أو صنيعة أو غير ذلك فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات والقربات وقد أطبق المفسرون على أنّ المراد هنا أن: تقرّبوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جعل الطريق إلى الفلاح التقوى والعمل الصالح والجهاد، فمن فرّط في واحد منها فرّط في الفلاح نفسه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من صنوف الأموال وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ. أي: وأنفقوه ليجعلوه فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: موجع ولا سبيل لهم إلى النّجاة بوجه يُرِيدُونَ. أي: يطلبون ويتمنّون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ. أي: دائم. فوائد: [حول معنى الوسيلة وحديث عن خروج بعض أهل النار منها] 1 - الوسيلة: هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضا علم على أعلى منزلة في الجنّة وهي منزلة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وداره في الجنة أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال حين يسمع النّداء: اللهم رب هذه الدّعوة التامّة، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إلّا حلّت له الشّفاعة يوم القيامة». وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ؛ فإنّه من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة». 2 - روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شرّ مضجع، فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال: فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار».
[سورة المائدة (5): آية 37]
3 - أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد الفقير قال: جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدّث، فحدّث أن ناسا يخرجون من النار قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد؛ تزعمون أنّ الله يخرج ناسا من النار، والله يقول يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها الآية .. فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم فقال: دعوا الرجل، إنّما ذلك للكفار فقرأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ حتى بلغ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ. أما تقرأ القرآن؟ قلت بلى قد جمعته قال: أليس الله يقول: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (الإسراء: 79) فهو في ذلك المقام، فإنّ الله تعالى يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم، قال: فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذّب به. وأخرج ابن مردويه عن طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كلّ آية أقدر عليها، يذكر الله فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله، وأعلم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّي؟ إنّ الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذّبوا، ثم أخرجوا منها، ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرجون من النار بعد ما دخلوا». ونحن نقرأ كما قرأت. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما والمراد اليمينات من الرسغين جَزاءً بِما كَسَبا. أي: مجازاة لهما على صنيعهما نَكالًا مِنَ اللَّهِ. أي: عقوبة منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أي: غالب لا يعارض في حكمه، حكيم فيما حكم، من قطع يد السارق والسارقة فَمَنْ تابَ. أي: من السرقة مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. أي: من بعد سرقته وَأَصْلَحَ بردّ المسروق فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ. أي: يقبل توبته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: يغفر ذنبه ويرحمه أَلَمْ تَعْلَمْ يا محمد أو يا أيها الإنسان أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقد شاء أن يعذّب من مات على الكفر وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وقد وعد أن يغفر لمن تاب عن الكفر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التعذيب والمغفرة وغيرهما قَدِيرٌ. أي: قادر وحكمة تقديم التعذيب على المغفرة هنا تقدّم السرقة على التوبة والله أعلم.
فوائد: حول حد السرقة
فوائد: [حول حد السرقة] 1 - يلاحظ أنه في موضوع السرقة ذكر السارق، ثم السارقة، وفي موضوع الزنا ذكر المرأة، ثم الرجل، وذلك لأنّ السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر، فقدم ذكر السارق وأخّر الزاني؛ لأن الزنا ينبعث من الشهوة، وهي في النساء أوفر، وقطعت اليد لأنها آلة السرقة، ولم تقطع آلة الزنا تفاديا عن قطع النسل. 2 - ذهب الظاهرية إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرا، لعموم الآية، وأما الجمهور فاعتبروا النّصاب في السّرقة فعند الإمام مالك النصاب: ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها، أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع. وذهب الشافعي إلى أنّ الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار، أو ما يساويه من الأثمان، أو العروض فصاعدا. وذهب الإمام أحمد إلى أنّ كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مردّ شرعي، فمن سرق واحدا منهما، أو ما يساويه قطع. وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه فذهبوا إلى أنّ النّصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة أو ما يعادلها، واحتج كلّ لما ذهب إليه بأدلة. 3 - أورد بعض الزنادقة إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة بربع دينار ونظم في ذلك شعرا فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت … ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له … وأن نعوذ بمولانا من النار فأجيب: عزّ الأمانة أغلاها، وأرخصها … ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري 4 - من حوادث السرقة في عهده عليه الصلاة والسلام ما نراه في هذه الأحاديث: روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى بسارق قد سرق شملة فقال: ما إخاله سرق! فقال السارق: بلى يا رسول الله قال: «اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به» فقطع، فأتي به فقال: «تب إلى الله. فقال: تبت إلى الله فقال: «تاب الله عليك». روى ابن ماجه أنّ عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني، فأرسل إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا
كلمة في السياق
افتقدنا جملا لنا فأمر به فقطعت يده قال ثعلبة- أحد رواة الحديث-: أنا انظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهّرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار. وثبت في الصحيحين عن عائشة أنّ قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّمه فيها أسامة بن زيد؛ فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله عزّ وجل؟. فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشيّ قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإنّما هلك الذين من قبلكم أنهّم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا لفظ مسلم. وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة سنراها في كتاب الأساس في السنة وفقهها إن شاء الله. كلمة في السياق: 1 - جاء هذا المقطع بعد الكلام عن حدّ الحرابة وشريعة القصاص، فهو استمرار لما تنحسم به مادّة الفساد، ولذلك كان فيه أمر بالجهاد، وأمر بقطع يد السارق والسارقة. 2 - في الفقرة السابقة على المقطع ورد قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فحتى لا يفهم فاهم أن الجهاد الذي فيه إزهاق الأنفس داخل في قضية الاعتداء على الحياة، جاء هذا المقطع آمرا بالجهاد، ومتحدثا عن العقوبة الأخروية للكافرين مما يعرف به فظاعة جرم الكافرين، فإذا جاهدهم المسلمون، وقتلوهم فليس ذلك إلا بسبب فظاعة جرمهم. 3 - يأتي هذا المقطع بعد المقطع الذي تحدث عن نكول بني إسرائيل عن الجهاد: حيث قال موسى عليه السلام «وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» وهاهنا يبين
فصول ونقول
المقطع أن طريق الفلاح هو الجهاد، مع التقوى، والعمل الصالح. إذا اتضحت هذه الأمور يكون قد وضح لدينا صلة هذا المقطع بما قبله فلنتحدث عن صلة المقطع بمحور السورة، وارتباطاته، وامتداداته: جاءت مقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، ثم جاء بعد ذلك مقطع الطريقين، ليبين طريق الفلاح، وطريق الخسران، وبعد أن جاء في المقطع الأول من سورة المائدة، وفي المقطع الثاني ما له صلة بالعقود، والفسوق، والإفساد في الأرض، والخسران، وغير ذلك مما له صلة في المحور، جاء المقطع الثالث يدعونا إلى سلوك طريق الفلاح، ويحدثنا عن عذاب الكافرين، وذلك يشبه ما ورد في مقدمة سورة البقرة، وبذلك يرتبط المحور بما سبقه من سورة البقرة، ولكن من خلال سياق جديد. فهناك تقدّمت معان حتى أوصلتنا إلى موقع. وهاهنا يكون العرض من الموقع حتى نستقر على البداية، وكأنه بذلك تنتهي جولة أولى في السورة لتبدأ جولة جديدة، أو ينتهي قسم ليبدأ قسم جديد، ولذلك فإنّ المقطع الرابع في السورة يبدأ بنداء موجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ فكأننا أمام قسم جديد، أو جولة جديدة، ولذلك فقد أصبح بإمكاننا أن نقول: إن المقاطع الثلاثة الأولى في السورة تشكل قسمها الأول. والسّورة مع أنها أقسام واضحة المعالم، فقد آثرنا أن نعرضها على أنها مقاطع، مع إشارتنا إلى نهاية القسم، وبداية القسم الجديد، وقبل أن ننتقل إلى المقطع الرابع الذي هو بداية القسم الثاني فلنعقد فصولا ولننقل نقولا. فصول ونقول: فصل في التوسل: إجماع المفسرين منعقد على أنّ المراد بالوسيلة في الآية وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ هو العمل الصالح قال الألوسي: واستدل بعض النّاس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب، أو الميت من عباد الله الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم
نقل: عن صاحب الظلال حول آية السرقة
بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور». وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل». وبهذه المناسبة تكلّم الألوسي كلاما طويلا في تحقيق الحقّ في هذه المسألة وغيرها من وجهة نظره وبعد أن أجاز التوسّل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيا وميتا وعلّل لذلك، مع ترجيحه التوسّل بأسماء الله تعالى وتفضيله إياه- والقضية كما نعلم فيها كلام كثير- بعد هذا كلّه قال: «إن النّاس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء، الأحياء منهم والأموات، وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شئ، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه، فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعوّ الحي الغائب- أو الميت المغيب يعلم الغيب- أو يسمع النداء ويقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه. ولا فتح فاه وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ*. فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني، الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا المنافق فجاءوا إليه، فقال: «إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله تعالى». لم يشك في أنّ الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرنّك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه- عزّ وجل- وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزيّن له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصور وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك. ا. هـ كلام الألوسي. نقل: [عن صاحب الظلال حول آية السرقة] بمناسبة قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .. يقول صاحب
الظلال: «إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام- على اختلاف عقائدهم- ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية .. إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية. وضمانات التربية والتقويم. وضمانات العدالة في التوزيع. وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال؛ ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه .. ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية .. فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة، والاعتداء على أمن الجماعة .. ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة؛ ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت .. ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال .. إن النظام الإسلامي كل متكامل، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته. وبالنسبة لموضوع السرقة، فإن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد في المجتمع المسلم في دار الإسلام، في الحياة. وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة .. من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه، ويجد فيه السكن والراحة .. من حق كل فرد على الجماعة- وعلى الدولة النائبة عن الجماعة- أن يحصل على هذه الضروريات .. أولا عن طريق العمل- ما دام قادرا على العمل- وعلى الجماعة- والدولة النائبة عن الجماعة- أن تعلّمه كيف يعمل، وأن تيسر له العمل وأداة العمل .. فإذا تعطل لعدم وجود العمل، أو أداته، أو لعدم قدرته على العمل، جزئيا أو كليا، وقتيا أو دائما. أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته. فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه: أولا من النفقة التي تفرض له شرعا على القادرين في أسرته. وثانيا: على القادرين من أهل محلته. وثالثا: من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة. فإذا لم تكف الزكاة، فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين؛ بحيث لا يتجاوز هذه الحدود، ولا تتوسع في غير ضرورة، ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال. والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال؛ فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال .. ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون؛ ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين .. وبخاصة أن النظام يكفل لهم
الكفاية؛ ولا يدعهم محرومين. والإسلام يربي ضمائر الناس وأخلاقهم؛ فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقه؛ لا إلى السرقة والكسب عن طريقها .. فإذا لم يوجد العمل، أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم، أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة .. وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل النظام؟ إنه لا يسرق لسد حاجة. إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل. والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروّع الجماعة المسلمة في دار الإسلام. ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها. ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال. وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع، كسب ماله من حلال، لا من ربا، ولا من غش، ولا من احتكار، ولا من أكل أجور العمال، ثم أخرج زكاته، وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة .. من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص، وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات. فإذا سرق السارق بعد ذلك كله .. إذا سرق وهو مكفي الحاجة، متبيّن حرمة الجريمة، غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين، لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام .. إذا سرق في مثل هذه الأحوال. فإنه لا يسرق وله عذر. ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة. فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات. لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه في عام الرمادة، حينما عمّت المجاعة. ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة؛ عند ما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة. فقد أمر بقطعهم؛ ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم، درأ عنهم الحد؛ وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له .. وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام، في ظل نظامه المتكامل؛ الذي يضع الضمانات للجميع، لا لطبقة على حساب طبقة .. والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة. والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء ..
وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة .. السرقة: هي أخذ مال الغير، المحرز، خفية .. فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما .. والحد المتفق عليه قريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار .. أي: حوالي خمسة وعشرين قرشا مصريا بنقدنا الحاضر .. ولا بد أن يكون هذا المال محرزا، وأن يأخذه السارق من حرزه، ويخرج به عنه .. فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه، والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لأنه ليس محرزا منه. ولا على المستعير إذا جحد العارية. ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين. ولا على المال خارج البيت، أو الصندوق المعد لصيانته .. وهكذا .. ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير .. فلا قطع حين يسرق الشريك من مال شريكه لأنّ له فيه شركة فليس خالصا للغير. والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك .. والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع، وإنما هي التعزير .. (والتعزير عقوبة دون الحد، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة). والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ. فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب. وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع .. ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة. والشبهة تدرأ الحد .. فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد .. وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد. ورجوع المعترف باعترافه- إذا لم يكن هناك شهود- شبهة تدرأ الحد. ونكول الشهود شبهة .. وهكذا. ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة. فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل- حتى بعد إحرازه- كسرقة الماء بعد إحرازه، وسرقة الصيد بعد صيده، لأن كليهما مباح الأصل. وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه. والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز .. بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرءون الحد في مثل هذه الحالة. ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه. ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة.
ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال، فتطلب في كتب الفقه؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات .. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ادرءوا الحدود بالشبهات». وعمر بن الخطاب يقول: «لأن أعطل الحدود بالشبهات أحبّ إليّ من أن أقيمها بالشبهات». ولكن لا بد من كلمة في ملائمة عقوبة القطع في السرقة؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد، في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة .. «إن علة فرض عقوبة القطع للسرقة أنّ السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أنّ يزيد كسبه بكسب غيره. فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله، فيطمع في ثمرة عمل غيره. وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل. أو ليأمن على مستقبله. فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء. وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع. لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل. فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو إلى ارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة. فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية. ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية وأنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن .. وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة. وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم، والسرقة على الخصوص. والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة. لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس. وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفيّ الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب. وكان
لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمّي ثروته، ومن طريق الحلال والحرام على السواء! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه. فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئا ولم تفته منفعة ذات بال. أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصا كبيرا؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجع في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه، فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب مقطوع بها إذا كانت العقوبة القطع؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس. وطبيعة الناس كلهم- لا السارق وحده- أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة. وأعجب بعد ذلك ممن يقولون: إنّ عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث، والمنطق الدقيق، وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم؛ وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلا إلا التهويل والتضليل!. وإذا كانت العقوبة الصالحة حقا هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء. لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس. وطبائع البشر وتجارب الأمم. ومنطق العقول والأشياء. وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية. أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء. إن أساس عقوبة القطع (هو العلم بنفسية الإنسان وعقليته). فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد. وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم، وتأمين المجتمع. وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة، فهي أفضل العقوبات وأعدلها. ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع، لأنهم يرونها- كما
يقولون- عقوبة موسومة بالقسوة. وتلك حجتهم الأولى والأخيرة. وهي حجة داحضة. فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعبا أو عبثا أو شيئا قريبا من هذا. فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم. ***
المقطع الرابع ويمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (50) وهذا هو
المقطع الرابع ويمتدّ من الآية (41) إلى نهاية الآية (50) وهذا هو: 5/ 44 - 41
كلمة في المقطع
5/ 50 - 45 كلمة في المقطع: قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا
المعنى العام
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ قوله تعالى في الآيتين: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ولاحظ قوله تعالى هنا في المقطع أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فههنا حديث عن أفعال يستحق بها أصحابها إضلال الله لهم، هذه الأفعال هي أكل السحت، والسماع للكذب وقبوله، والتجسس للكافرين والمنافقين على المؤمنين، والمسارعة إلى الكفر، وفي ذلك نقض للعهد، وإفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. وفي هذا السياق يحدثنا المقطع عن أن الحكمة في إنزال التوراة والإنجيل هي أن يحكم بهما، وأن يحتكم لهما، وأنّ من لم يحكم بكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق، فإذا كان هذا هو الشأن في التوراة والإنجيل فما بالك بالقرآن الذي أنزله الله- عزّ وجل- مصدّقا للكتب ومهيمنا عليها. وفي سياق التحذير من الاحتكام لغير القرآن يقول- عزّ وجل- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ مما يدل على أن ترك حكم الله ردّة، والاحتكام إلى الأهواء فسوق يستحق به أصحابه الإضلال. فهذا الجزء من المقطع إذن يفصّل لنا مظهرا من مظاهر الفسوق الذي يحدثنا عنه محور السورة من البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ إن هذا الجزء من المقطع يفصّل في الفسوق فيرينا نموذجا منه هو رفض الاحتكام إلى كتاب الله، أو الرغبة في تحكيم غيره، أو الحكم بسواه، وذلك يدخل في نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض. إن المقطع ينتقل من تقرير الأخلاق التي يستحق بها أصحابها زيغ القلب، إلى ذكر تخيير الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أهل الكتاب في أن يحكم بينهم أولا، فإذا حكم فإنه يأمره أن يحكم بالقسط، ومن مثل هذه الشئون ينتقل السياق للكلام عن حكمة إنزال الكتب، ليقرر كفر من لم يحكم بما أنزل الله، وظلمه، وفسقه، ثمّ يمضي السياق كما سنرى بانيا على ما مر بما ينير لهذه الأمة طريقها المستقيم. المعنى العام: ابتدأ المقطع بالكلام عن المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله،
المقدّمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. وتكلم المقطع عن اليهود أعداء الإسلام وأعداء أهله، ثم وصف الجميع بأنهم يستجيبون للكذب، وأنهم منفعلون فيه، وأنهم يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أنهم جواسيس يتسمّعون كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لينقلوه إلى قوم آخرين، هؤلاء القوم الآخرون من صفاتهم تحريف كلام الله، وتوصية بعضهم لبعض ألا يأخذوا من محمد عليه وآله الصلاة والسلام إلا ما وافق هذا الكلام المجرّف، ومن كان من الناس من هذه الأنواع فقد أراد الله فتنته ولم يرد أن يطهّر قلبه، وجعل له الذّلة في الدنيا والعذاب في الآخرة. فالآيات تتحدث عن صنفين: صنف منافق وقد نهى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحزن على مسارعتهم في الكفر. والصنف الثاني وهم اليهود يأّس الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم منهم. وكيف لا ييأس ومن صفاتهم سماعهم للباطل، وقبولهم إياه، وأكلهم الحرام، ومن كان كذلك فأنّى يستجيب لله أم كيف يطهر قلبه. فإذا كان الأمر كذلك وجاء هؤلاء يتحاكمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد خيّر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين الحكم وعدمه، وبيّن له أن لا عليه ألّا يحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليه اتّباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أما إذا حكم بينهم فقد أمره الله أن يحكم بالحق وبالعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل، لأن الله يحبّ أهل العدل والحق. ثمّ أنكر الله عليهم آراءهم الفاسدة ومقاصدهم الزائفة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا وهو التوراة، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره. مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، وهو أمر محمد عليه الصلاة والسلام وفي النّهاية فهم لا يقبلون حكم محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا حكم التوراة، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين أصلا. ثمّ تحدّث الله عن كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن وما هو الموقف الصحيح منها؟ وهو لزوم الاحتكام إليها، وقبول هذا الحكم، ووصف رافض حكم الله في كتبه بالكفر والظلم والفسوق، فبدأ بالكلام عن التوراة التي أنزلها الله على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام وأنّ فيها هدى ونورا، وأنّ النّبيين والربانيّين والأحبار يحكمون بها ولا يخرجون عن حكمها ولا يبدّلونها ولا يحرّفونها؛ قياما منهم بحقّ ما استودعوه من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به، وأن يشهدوا الحق فيه، وألا يخافوا أحدا إلا الله، وألا يشتروا بالحق الدنيا.
ثم بيّن الله- عزّ وجل- حكمه فيمن ترك الحكم بما أنزل الله بأنه كافر. ثم ذكر الله- عزّ وجل- حكما من أحكام التوراة في هذا السياق وهو حكم قد أهملوه فذكر الحكم في هذا السياق فيه معنى التقريع أمّا الحكم فهو ما فرضه الله عليهم في التوراة من وجوب القصاص العادل، النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، والجروح قصاص، والدية جائزة، والعفو طيب، وهم يخالفون حكم الله ذلك عمدا وعنادا، وفي هذا السياق قرّر تعالى حكمه بأنّ من لم يحكم بما أنزل الله فإنه ظالم، لأنّ حكم الله وحده هو العدل، وما سواه ظلم، فمن خالف حكم الله فقد تعدّى وظلم، ثمّ جاء الكلام عن الإنجيل فبيّن تعالى أنّه أتبع على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، مؤمنا بالتوراة حاكما بما فيها، وأن الله قد آتاه الإنجيل، وأنّ في الإنجيل هدى إلى الحق، ونورا يستضاء به في إزالة الشبهات، وحل المشكلات، وأنّ الإنجيل موافق لما في التوراة، غير مخالف لما فيها إلا في القليل الذي فيه توسعة على بني إسرائيل، وأنّ الإنجيل فيه هدى يهتدى به، وأنّ فيه موعظة وزاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم لمن اتقى الله وخاف وعيده، هذا الإنجيل أنزله الله ليحكم به من خوطبوا به. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أن من لم يحكم بما أنزل فهو الفاسق الخارج عن طاعة ربه، المائل إلى الباطل، التارك للحق. ثمّ بدأ الكلام عن القرآن النّاسخ لما تقدمه، والجامع لكل وحي أنزله الله فبيّن- عزّ وجل- أنه أنزل القرآن على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله رب العالمين. وأنّ هذا القرآن يصدّق الكتب المتقدّمة في كونها من عند الله، وفي الأحكام والأخبار التي فيها، وفيما أخبرت به من البشارة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكتابه الخاتم الناسخ، وأنّ هذا القرآن أمين على وحي الله الذي أنزله الله من قبل، فما وافقه منها فهو هو، وما خالفه باطل، وهو حاكم على كل كتاب قبله؛ فقد جعله الله- عزّ وجل- آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفّل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة. وإذا كان القرآن كذلك فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بين الناس عربهم وعجمهم أميّهم وكتابيّهم- بما أنزل الله إليه فيه، وبما قرّره له من حكم من كان قبله من الأنبياء مما لم ينسخه شرعه، ونهاه أن يتبع آراءهم، أو أن ينصرف عن الحق الذي أمره الله به إلى أهواء الناس الذين هم جهلة وأشقياء إذا لم يهتدوا بكتاب الله. ثم أخبر الله- عزّ وجل- عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة
المعنى الحرفي
في الأحكام. المتفقة في التوحيد، وأنه جعل لكل أمة سبيلا وسنّة، في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحلّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، والدّين الذي لا يقبل الله غيره، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرّسل عليهم الصلاة والسلام، ثم بيّن تعالى أنه لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شئ منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها- أو بعضها- برسالة الآخر بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم الذي ابتعثه الله تعالى إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، وحكمة الشرائع المختلفة اختبار الله عباده فيما شرع وما نسخ، ثمّ ندبهم تعالى إلى المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة إليها، والخيرات هنا طاعة الله، واتّباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثمّ بين تعالى أنّ مرجع الجميع ومعادهم ومصيرهم إليه يوم القيامة؛ فيخبر الجميع بما اختلفوا فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذّبين بالحقّ، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة. ثمّ كرّر الله- عزّ وجل- الأمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالحكم بما أنزل، وعدم اتباع أهواء البشر، وأمره بالحذر من أن يفتن عما أنزله إليه أو أن يتولى عن الحكم بما أنزل الله، فذلك علامة الصرف عن الهدى بسبب الذنب، ثم يقرر الله- عزّ وجل- أن أكثر الناس فاسقون خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق، ناكبون عنه، ثم أنكر تعالى على من يخرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، النّاهي عن كل شر، ويعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء أيريدون حكم الجاهلية، وعن حكم الله يعدلون؟ ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟! فإنّه تعالى هو العالم بكل شئ، القادر على كل شئ، العادل في كل شئ. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي: في إظهارهم ما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام، ومن موالاة المشركين؛ فإني ناصرك عليهم، وكافيك شرّهم. ومسارعتهم في الكفر تعني
[سورة المائدة (5): آية 42]
وقوعهم فيه أسرع شئ، إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ هؤلاء هم الذين يسارعون في الكفر، أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا. أي: ومن اليهود أي وكذلك اليهود لا يحزنك مسارعتهم في الكفر سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ هذه صفة اليهود والمنافقين، أنّهم يسمعون للكذب سماع قبول واستجابة أو المعنى: أنهم سمّاعون منك ليكذبوا عليك بأن يمسخوا ما سمعوا منك بالزيادة والنّقصان، والتبديل والتغيير سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يحتمل معنيين: الأول: أنهم جواسيس وعيون لناس آخرين ليبلغوهم ما سمعوا منك، والثاني: أنهّم يسمعون ويطيعون ويستجيبون لأقوام آخرين ممن لا يحضرون مجلسك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ الضمير في يحرّفون يعود على الأقوام الآخرين الذين يتجسس هؤلاء لحسابهم أو يطيعونهم والمعنى: يزيلون الكلم ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، فيجعلونه في غير مواضعه بعد أن كان ذا موضع يَقُولُونَ. أي: المحرّفون إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ. أي: إن أوتيتم هذا الكلام المحرّف المزال عن مواضعه فاعلموا أنه الحق واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا. أي: وإن سمعتم خلافة فإياكم وإيّاه وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ. أي: ضلاله فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هذا قطع رجاء بإيمان هؤلاء أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. أي: عن الكفر لاختيارهم إياه لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ خزي المنافقين في الدنيا فضيحتهم، وخزي اليهود ذلتهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. أي: التخليد في النار سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ مر معنا معناه، وتكريره للتأكيد أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ السحت: وهو كل ما لا يحل كسبه ويدخل في ذلك الرّشوة فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا تخيير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم، وبين ألا يحكم بينهم، وذهب جمع من المفسرين: أنّ هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: إلّا تحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. أي: فلن يقدروا على الإضرار بك لأنّ الله تعالى يعصمك من النّاس وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. أي: بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ هذا تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أنّ الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن
فوائد
حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ لا بك ولا بكتابهم كما يدّعون. فوائد: 1 - [سبب استحقاق عقوبة عدم تطهير الله قلوب المنافقين واليهود] في هذه الآيات الثلاث نهي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحزن لمسارعة نوعين من الناس في الكفر، المنافقين واليهود، ووصف لهؤلاء، ووعيد لهم بالذلّة بالدنيا والعذاب في الآخرة، وقطع رجاء المؤمنين من إيمانهم، وهذه قضية مهمة، إذ ما السبب الذي استحق به هؤلاء عقوبة ألّا يطهر الله قلوبهم؟. أمّا المنافقون فسبب ذلك سماعهم للكذب سماع قبول، وتجسّسهم لحساب أعداء الله، وأما اليهود فسبب ذلك تحريفهم كتاب الله، وإرادتهم أن يكونوا قوّاما على دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم بدلا من الإسلام له، وسماعهم للكذب، وأكلهم المال الحرام، فإذا ربطنا بين هذه الآيات وبين محور السّورة من البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أدركنا بعض الأسباب التي يستحقّ بها أهلها إضلال الله، وأدركنا بعض مظاهر الفسوق عن أمر الله. 2 - [سبب نزول الآيات (41 - 43)] يذكر المفسرون سببي نزول لهذه الآيات. قال ابن كثير: «وقد يكون اجتمع هذان السّببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات في ذلك كله». وسنؤخر ذكر أسباب النزول لكنّا هنا نذكّر في أنّ خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالعبرة لعموم اللفظ، فكل من سمع لأعداء الله وتجسس لحسابهم على أولياء الله يدخل في الآيات، وكل من حرّف كلام الله، وسمع للكذب، وأكل السّحت يدخل في الآيات، وإن كانت الآية في الأصل في اليهود، وفي وقائع من وقائعهم. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهدي للحق وَنُورٌ يبين ما استبهم من الأحكام يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. أي: انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للتبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء من ملّة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم لِلَّذِينَ هادُوا. أي: للذين تابوا من الكفر وَالرَّبَّانِيُّونَ. أي: الزّهاد وَالْأَحْبارُ. أي: والعلماء أي وهؤلاء يحكمون بالتوراة بِمَا اسْتُحْفِظُوا. أي: بما استودعوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ. أي: رقباء لئلا يبدّل فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ هذا نهي لمن
[سورة المائدة (5): آية 45]
يحكم، عن خشية غير الله- في حكومته، وإمضائها على خلاف ما أمر به من العدل؛ خشية من سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد، وأمر بخشية الله وحده أن يخالف أمره وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. أي: ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا وهو الرّشوة وابتغاء الجاه ورضا النّاس وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به، أو جاحدا له، أو مفضّلا غيره عليه، أو مستحلا ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وما أكثر هذا الكفر في عصرنا؟ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها. أي: وفرضنا على اليهود في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أنّ النّفس مأخوذة بالنّفس مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. أي: والعين مفقوءة بالعين وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. أي: والأنف مجدوع بالأنف وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ. أي: والأذن مصلومة بالأذن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ. أي: والسن مقلوعة بالسن وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. أي: والجروح ذات قصاص وهو المقاصّة ومعناه ما يمكن فيه القصاص فحكمه القصاص، وإلّا فحكومة عدل فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ. أي: فمن تصدّق بالقصاص من أصحاب الحق وعفا عنه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. أي: فالتصدّق به كفّارة للمتصدق بإحسانه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إذ لا عدل إلّا بحكم الله، فمن امتنع عن الحكم بما أنزل الله فقد ظلم وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ. أي: وجعلنا على آثار النّبيين الذين أسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. أي: مؤمنا بها، حاكما بما فيها، بانيا عليها وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. أي: الإنجيل فيه هداية وفيه نور، وهو مصدّق للتوراة غير ناقض إياها بل مصدّق لها وَهُدىً وَمَوْعِظَةً. أي: هاديا وواعظا لِلْمُتَّقِينَ لأنهم هم الذين ينتفعون بموعظة الإنجيل وهديه وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ. أي: وأمرنا أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. أي: هم الخارجون عن الطاعة. يقول صاحب الظلال: «إله واحد. وخالق واحد. ومالك واحد. وإذن فحاكم واحد. ومشرّع واحد. ومتصرف واحد ... وإذن فشريعة واحدة، وقانون واحد .. وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله، فهو إيمان وإسلام. أو معصية وخروج، وحكم بغير ما أنزل الله، فهو كفر وظلم وفسوق .. وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه، وكما جاء به كل الرسل من عنده .. أمة محمد والأمم قبلها على السواء ..
[سورة المائدة (5): آية 48]
ولم يكن بد أن يكون «دين الله» هو الحكم بما أنزل الله دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان الله. مظهر حاكمية الله. مظهر أن لا إله إلا الله. وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين «دين الله» و «الحكم بما أنزل الله» لا تنشأ فحسب من أنّ ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية. وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه وهذا هو «الإسلام» بمعناه اللغوي: «الاستسلام». وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان .. الإسلام لله .. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه، وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون. ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر شرائع تشابه شريعة الله أو حتى شريعة الله نفسها بنصها، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم؛ ولم يردوها لله؛ ولم يطبقوها باسم الله، إذعانا لسلطانه واعترافا بألوهيته. وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية، إلا تطبيقا لشريعة الله، وتقريرا لسلطانه في الأرض. ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .. ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله- سبحانه- ورفضهم لإفراد الله- سبحانه- بهذه الألوهية. يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم وألسنتهم. ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان. ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق، أخذا من رفضهم لألوهية الله، حين يرفضون حاكميته المطلقة؛ وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله». وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ. أي القرآن بِالْحَقِّ. أي: بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ، أو بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ. أي: يصدّق الكتب التي تقدمته نزولا، وإنما قيل لما قبل الشئ هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه، فما تقدم عليه يكون قدامه
[سورة النساء (4): آية 49]
وبين يديه. والقرآن مصدق لجميع كتب الله، لموافقته إياها في حال عدم تحريفها وتبديلها، ولتقريره ما دعت إليه من إخلاص العبادة والتوحيد لله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25). وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. أي: ومهيمنا على الكتب السابقة لأنه تضمّن ما تضمنته وزاد عليها من الكمالات ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله، والهيمنة يدخل في معناها الشهادة، والحكم، والائتمان. فالقرآن مؤتمن على الحق الموجود في الكتب السابقة، فكل ما خالفه مما هو موجود بين أيدي أصحابه الآن باطل، والقرآن شهيد على الحق الذي فيها، وحاكم على كل ما ينسب إليها، فهو يشهد للحق فيها بالصحة والثبات، ولغيره بالبطلان فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. أي: بما في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ هذا نهي أن يحكم بما حرّفوه، وبدّلوه، اعتمادا على قولهم، وقد تضمّن قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أي: ولا تنحرف، فلذا عدّاه بعن، فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم، أو لا تنحرف عادلا عما جاءك من الحق اتباعا لأهوائهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس شِرْعَةً. أي: شريعة وَمِنْهاجاً. أي: وطريقا واضحا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ. أي: ولكن أراد أن يعاملكم معاملة المختبر فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، فتعبّد كلّ أمّة بما اقتضته الحكمة، حتى أنزل هذا القرآن فتعبّد النّاس جميعا به فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. أي: فابتدروها، وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة والمراد بالخيرات: كل ما أمر الله تعالى به في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً هذا تعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. أي: فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم، ومبطلكم، وعاملكم ومفرّطكم في العمل. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هذا تأكيد للأمر بوجوب الحكم بما أنزل الله وحده وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ كائنة ما كانت هذه الأهواء، متلبسة بالدين أو بغيره وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ حذّره وهو رسول مأمون معصوم لتقتدي به أمته، ولتقطع أطماع أهل الأهواء فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: عن الحكم بما أنزل الله إليك، وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. أي: بذنب التولي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وهذا الإبهام لتعظيم التولي، وفيه تعظيم الذّنوب فإن الذنوب بعضها مهلك، فكيف بكلّها. دلّت
[سورة النساء (4): آية 50]
الآية جزما أنه لا يتولى إنسان، أو أمة، أو جماعة، أو حكومة عن حكم الله، إلا وسينزل الله بأصحابه مصيبة دنيوية عقوبة لهم على التولّي وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أي: لخارجون عن أمر الله أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. أي: يطلبون، إذ يرفضون حكم الله العادل الذي هو أثر عن علمه، ويريدون حكم البشر الذي هو أثر عن القصور والجهل والهوى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً. أي: لا أحد أحسن من الله حكما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فإنهم هم الذين يتبيّنون أن لا أعدل من الله، ولا أحسن حكما منه. دلّ ذلك على فضيلة اليقين، ومنه نتبيّن أنّ تربية اليقين هي الطريق للعودة إلى حياة الأمة الإسلامية بالقرآن والإسلام والشريعة. فوائد: 1 - [الحكم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن. ما حكمه؟] قال النسفي: «ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام، ثم إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبيّن أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به. فقال في الأول (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ). وفي الثاني (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ). وفي الثالث (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ)». 2 - [حكم من لم يحكم بما أنزل الله] وصف الله- عزّ وجل- من لم يحكم بما أنزل بأنه كافر، ظالم، فاسق. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث، فيكون كافرا، ظالما، فاسقا. لأن الفاسق المطلق، والظالم المطلق، هو الكافر. وقيل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) * فهو كافر بنعمة الله، ظالم في حكمه، فاسق في فعله. وهذا في غير المستحل أو المفضّل أو الجاحد أو المستهين فهؤلاء كفّار بإجماع وقال أكثر من إمام: نزلت في أهل الكتاب- أي هذه الآيات- وقال الحسن: وهي علينا واجبة. وقال إبراهيم: ورضي الله لهذه الأمة بها. وكيف لا يكون ترك الحكم بالقرآن مساويا لترك الحكم بالتوراة والإنجيل، والقرآن مهيمن على التوراة والإنجيل. [3، 6 - فوائد حول حكم القصاص ومسائل فيه] 3 - روى ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. قال: «هو الذي تكسر سنّه، أو تقطع يده، أو يقطع الشئ منه، أو يجرح في بدنه، فيعفو عن ذلك. قال: فيحط عنه خطاياه وإن كان
ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك». روى ابن مردويه أيضا عن عدي بن ثابت أن رجلا هتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه، فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين، فأبى، فأعطى ثلاثا فأبى، فحدّث رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدّق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت». وقال الإمام أحمد أنّ عبادة بن الصامت قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفّر الله عنه مثل ما تصدّق به». وقال الإمام أحمد أيضا عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفّارة له». 4 - نلاحظ في موضوع القصاص وغيره أن هناك شيئا أجمع عليه الأئمة، وهناك شئ اختلفوا فيه. فما لا يسع أحدا- شعوبا أو حاكمين- تركه هو ما أجمعوا عليه. وأمّا ما اختلفوا فيه فللفرد الأخذ برأي إمام مجتهد. وللدولة الأخذ برأي إمام على ألّا يكون الأخذ أثرا عن هوى بل أثرا عن تحقيق. 5 - قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .. إخبار عن حكم الله الموجود في التوراة في موضوع القصاص. وهذا الحكم نجده الآن في ما يسمّونه التوراة، في سفر الخروج، في الإصحاح الحادي والعشرين. «وإن حصلت أذية تعطى نفس بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وكيا بكي، وجرحا بجرح، ورضّا برضّ ... ». والملزم لنا ما ورد في كتابنا. قال ابن كثير: وقد حكى الإمام أبو نصر الصبّاغ- رحمه الله- في كتابه الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلّت عليه. وقد احتج الأئمة كلّهم على أن الرّجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النّسائي وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب في كتاب عمرو بن حزم «أن الرجل يقتل بالمرأة». وفي الحديث الآخر «المسلمون تتكافأ دماؤهم». وهذا قول جمهور العلماء، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، إلا أن يدفع وليّها إلى أوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرّجل، وإليه ذهب أحمد في رواية وروي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي، ورواية عن أحمد: أنّ الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل يجب ديتها، وهكذا احتجّ أبو حنيفة رحمه الله تعالى
بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمّي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصحيحين: عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يقتل مسلم بكافر» وأمّا العبد ففيه عن السّلف آثار متعدّدة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حرا بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم عن ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصّص للآية الكريمة. ويؤيّد ما قاله ابن الصبّاغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك، كما قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك: أنّ الرّبيّع عمّة أنس كسرت ثنيّة جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «القصاص»، فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس كتاب الله القصاص». قال: فقال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة قال: فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه». أخرجاه في الصحيحين. وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه عن حميد عن أنس بن مالك: أن الرّبيّع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها. فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا، فطلبوا الأرش والعفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم بالقصاص. فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله أتكسر ثنيّة الرّبيّع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيّتها. فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس: كتاب الله القصاص» فعفا القوم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه». رواه البخاري عن الأنصاري. 6 - ورد في آية القصاص قوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ والقاعدة في هذا: أن الجراح تارة تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع، كقطع اليد والرّجل والكفّ والقدم ونحو ذلك، وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل، بل في عظم، فقال مالك رحمه الله: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها، لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب في شيء من العظام إلا في السن. وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شئ من العظام مطلقا، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث الرّبيّع بنت النّضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن. وقال الفقهاء لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه
7، 8 - تعليق ابن كثير على قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ..
قبل الاندمال ثم زاد جراحه فلا شئ عليه، فلو اقتص المجني عليه من الجاني، فمات من القصاص، فلا شئ عليه عند مالك، والشافعي، وأحمد. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة تجب الدّية في مال المقتص. وقال الشعبي والثوري وآخرون: تجب الدية على عاقلة المقتصّ له. وقال ابن مسعود وآخرون: يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله. [7، 8 - تعليق ابن كثير على قوله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .. ] 7 - قال ابن كثير تعليقا على قوله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، النّاهي عن كل شرّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعا متّبعا، يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير» اه. كلام ابن كثير. ونقول: إن الذي رأى ابن كثير نموذجا عنه في عصره في صورة الياسق نراه تقريبا في كل قطر إسلامي في صورة دساتير، وقوانين، ولوائح، وشعارات معتمدة تقريبا، من كل حكومة وفي كل قطر إسلامي، والذي أفتى به ابن كثير نفتي به فنقول: إن على المسلمين في كل قطر- إن استطاعوا- أن ينصحوا ويبيّنوا لكلّ من يحمي هذه الأوضاع هذا الأمر من أجل أن تصبح كلمة الله هي العليا، وإذا نجح المسلمون في قطر في الوصول إلى هذه النتيجة فعليهم أن يساعدوا إخوانهم في بقية الأقطار للوصول إلى النتيجة نفسها. 8 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية. وروى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الناس إلى الله- عزّ وجل- متبع في الإسلام سنّة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه». وروى البخاري نحوه بزيادة. [9، 10 - ذكر أسباب نزول الآيات (41 - 50)] 9 - ذكرنا سابقا أنّ المفسرين يذكرون سببي نزول للآيات الأولى من المقطع، والآن جاء أوان الروايات في ذلك نقلا عن ابن كثير مع اختصار للأسانيد:
أ- نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا (أي اليهود) قد بدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرّفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين فلمّا وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوه عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبيّ من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك، وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تجدون في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم: إنّ فيها الرجم فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجما، فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها بالحجارة. أخرجاه وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له قال لليهود: «ما تصنعون بهما؟» قالوا: «نسخّم أي (نسود) وجوههما ونخزيهما. قال: (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممّن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليها، قال: ارفع يدك، فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إنّ فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فرجما. وعند مسلم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاء يهود، فقال: «ما تجدون في التوراة على من زنى» قالوا: نسوّد وجوههما ونحممهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: «فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين». قال: فجاءوا بها فقرءوها حتى إذا مرّ بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام- وهو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-: مره فليرفع يده، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القف (وهو واد في المدينة)، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منّا زنى بامرأة، فاحكم، قال: ووضعوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة فجلس عليها، ثم قال: «ائتوني بالتوراة، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته
ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك». ثم قال: «ائتوني بأعلمكم» فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقال الزهري: سمعت رجلا من مزينة، ممن يتّبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيّب عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى النّبي، فإنّه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فتيا نبيّ من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟» قالوا: يحمّم ويجبّه ويجلد. والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما. وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكت ألظّ به رسول الله النّشدة، فقال: اللهمّ إذ نشدتنا فإنّا نجد في التوراة الرّجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟» قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخرّ عنه الرجم، ثم زنى رجل في أثره من النّاس، فأرادوا رجمه، فحال قومه دونه وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه. فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإني أحكم بما في التوراة» فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم. رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وابن جرير. وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: مرّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل مجلود، فدعاهم فقال: «أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟» فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟» فقال: لا والله، ولولا أنّك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حدّ الزنى في كتابنا الرّجم، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه». قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل الله- عزّ وجل- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله تعالى يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ. أي: يقولون ائتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرّجم فاحذروا، إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال في اليهود إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: في الكفار كلها: انفرد بإخراجه مسلم. وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه. فسألوه عن ذلك فقال: «أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم» فجاءوا برجل أعور يقال له ابن صوريا، وآخر فقال لهما النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنتما أعلم من قبلكما؟» فقالا: دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهما: «أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟» قالا: بلى، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلّل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنّ والسلوى على بني اسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قطّ، ثم قالا: نجد ترداد النّظر زنية، والاعتناق زنية، والتقبيل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هو ذاك» فأمر به فرجم، فنزلت فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ورواية أبي داود عن جابر قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتوه بابني صوريا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التّوراة؟». قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: «فما يمنعكم أن ترجموهما؟» قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّهود، فجاء أربعة فشهدوا أنّهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله برجمهما». ومن خلال النّظر في هذه النصوص نرى أن سبب النزول هذا ينطبق على أحد احتمالات النّص، ولكنّ النّص أوسع وأعمّ من سبب النزول هذا، وإن كان سبب النزول يعيّن واحدة من الحالات التي تدخل تحت عموم النّص كما ذكرنا أكثر من مرة. ونحب هنا أن نذكر أن حكم الرجم المذكور في هذه النصوص على أنه موجود في التوراة قد نقلناه فيما مضى من تفسير سورة المائدة عن التوراة الحالية عند قوله تعالى يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فليراجع. ب- روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا- أو اصطلحوا- على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذّليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد: دية بعضهم نصف دية بعض، إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا، وفرقا منكم، فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم، ثمّ ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم- ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم- فدسّوا إلى محمّد من يخبر لكم رأيه: إن أعطاكم ما تريدون حكّمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكّموه، فدسّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأمرهم كله، وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله الْفاسِقُونَ ففيهم والله أنزل وإياهم عنى الله- عزّ وجل-» وروى ابن جرير عن ابن عباس أنّ الآيات التي في المائدة قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ- إلى الْمُقْسِطِينَ إنما أنزلت في الدية في بني النّضير وبني قريظة، وذلك أنّ قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدّى الدية كاملة، وأن قريظة كان يؤدّى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان» ثم قال ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنّضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إليه، فقالوا بيننا وبينكم رسول الله، فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
كلمة في السياق
بِالْقِسْطِ. ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه». ومن خلال النظر في سبب النزول هذا للآيات نفسها ندرك كذلك حالة من الحالات التى تدخل تحت عموم اللفظ، ويؤكد لنا سبب النزول وحدة المقطع كله كما ذكرناه، وتبقى الحالات التي تدخل تحت عموم ألفاظ النّص كثيرة، فلنفهم مدلولات القرآن بأوسع ما تدل عليه لا بأضيقه. 10 - وفي سبب نزول آخر آيات المقطع نذكر هذه الرواية: روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه!، فأتوه، فقالوا: يا محمد إنّك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك!، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- عزّ وجل- فيهم وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ إلى قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ونرى من خلال هذه الرواية، نوعا من أنواع التآمر، يظهر بصيغته البسيطة هذه، في هذه القصة، ويأخذ شكلا معقدا في عصرنا، وفي كل حال يبقى الأمر بالحكم بما أنزل الله، وتنفيذه هو العاصم من كل تآمر، والانحراف دليل الوقوع في التآمر. ولعلّه لاحظنا من خلال أسباب النزول، نوعا من الخلل وقع فيه بنو إسرائيل، ولعلّه وضح لدينا أنّ هذا النوع من الخلل وقعت فيه أكثرية الأمّة الإسلامية، وأنه لا بدّ من عودة شاملة إلى القرآن والسنّة، ولا شك أن دون ذلك قوى عاتية ومؤسسات، وعلينا أن نتجاوز ذلك كله بإذن الله. كلمة في السياق: لقد قلنا إن سورة المائدة امتداد لسورة النساء من ناحية، وهي في الوقت نفسه تفصّل في آيتي البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... إلى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ من ناحية ثانية، فمن حيث إنها امتداد لسورة النساء فإن هذا المقطع يؤكد أنه لا تقوى إلا بتحكيم ما أنزل الله، ومن حيث إنها تفصّل آيتي البقرة
نقل: عن صاحب الظلال حول قضية الحكم بما أنزل الله وترك حكم الجاهلية
اللتين تضمنتا الحديث عن من يضل بكتاب الله، وهم الذين ينقضون الميثاق، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، وبكلمة واحدة «الفاسقون» قال تعالى فى الآيتين وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فهذا المقطع أعطانا صورا جديدة للفاسقين الذين لا يستأهلون أن يطهّر الله قلوبهم، ومن خلال هذا فهمنا صورة من صور نقض الميثاق، والإفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل فإذا اتضح هذا فلننقل بعض النقول، ولنعقد بعض الفصول: [نقل: عن صاحب الظلال حول قضية الحكم بما أنزل الله وترك حكم الجاهلية] نقل: نلاحظ أن قضية الحكم بما أنزل الله، وأن ما يقابل ذلك هو الجاهلية كانتا المعنى الرئيسي في المقطع، وقد أفاض صاحب الظلال في الكلام عن هاتين القضيتين في مقدمة كلامه عن هذا المقطع فلنر كلامه: قال: «يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية والمنهج الإسلامي. ونظام الحكم والحياة في الإسلام .. وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل .. ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلا محددا مؤكدا، يدل عليها النص بألفاظه وعباراته، لا بمفهومه وإيحائه .. إنها قضية الحكم والشريعة والتقاضي- ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والإيمان- والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا السؤال: أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها أصحاب الديانات السماوية واحدة بعد الأخرى؛ وكتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم؟ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع إلى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال؟ أو في آخر: أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرّع للناس ما لم يأذن به الله؟ الله- سبحانه- يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو. وإنّ شرائعه التي سنّها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها؛ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس، وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام ... والله- سبحانه- يقول: إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شئ منه، ولا
انحراف عن جانب ولو صغير. وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير! والله- سبحانه- يقول: إن المسألة- في هذا كله- مسألة إيمان أو كفر؛ وإسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى. وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح، فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله- لا يخرمون منه حرفا ولا يبدّلون منه شيئا- والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله. وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان. وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى- مما لم يأذن به الله- فهم الكافرون الظالمون الفاسقون. وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون .. وإلا فما هم بالمؤمنين .. ولا وسط بين هذا الطريق وذاك؛ ولا حجة ولا معذرة ولا احتجاج بمصلحة. فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس؛ ويضع شرائعه لتحقيق مصالح الناس الحقيقية. وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة. وليس لأحد من عباده أن يقول: إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله .. فإن قالها- بلسانه أو بفعله- فقد خرج من نطاق الإيمان .. هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة .. ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة، ومناوراتهم مع المنافقين: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. وما يوجه به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكفّ عنه يهود، منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة .. والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولا: توافي الديانات التي جاءت من عند الله كلها على تحتيم الحكم بما أنزل الله؛ وإقامة الحياة كلها على شريعة الله؛ وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر؛ وبين الإسلام والجاهلية؛ وبين الشرع والهوى .. فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ .. وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ .. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .. والإنجيل آتاه الله عيسى ابن مريم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ .. والقرآن أنزله الله على رسوله بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وقال له: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟ .. وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر، ويتعين حدّ الإيمان وشرط الإسلام، سواء للمحكومين أو للحكام .. والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام، وقبول هذا الحكم من المحكومين، وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام .. والمسألة في هذا الوضع خطيرة؛ والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى أسباب لا بد خطيرة كذلك. فما هي يا ترى هذه الأسباب؟ إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله، فنجدها واضحة بارزة .. إن الاعتبار الأول في هذه القضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر- بلا شريك- أو رفض هذا الإقرار .. ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام .. والقرآن كله معرض بيان هذه الحقيقة .. إن الله هو الخالق .. خلق هذا الكون، وخلق هذا الإنسان. وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان .. وهو- سبحانه- متفرّد بالخلق، لا شريك له في كثير منه أو قليل. وإن الله هو المالك .. بما أنه هو الخالق .. ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما .. فهو- سبحانه- متفرد بالملك. لا شريك له في كثير منه أو قليل. وإن الله هو الرزاق .. فلا يملك أحد أن يرزق نفسه أو غيره شيئا. لا من الكثير ولا من القليل .. وإن الله هو صاحب السلطان المتصرّف في الكون والناس .. بما أنه هو الخالق المالك الرازق .. وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق، ولا رزق، ولا نفع، ولا ضر. وهو- سبحانه- المتفرّد بالسلطان في هذا الوجود. والإيمان هو الإقرار لله- سبحانه- بهذه الخصائص. الألوهية، والملك، والسلطان ... متفرّدا بها لا يشاركه فيها أحد. والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص .. هو إفراد الله- سبحانه- بالألوهية، والربوبية، والقوامة على الوجود كله- وحياة الناس ضمنا- والاعتراف بسلطانه الممثل في قدره؛ والممثل كذلك في شريعته. فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو- قبل كل شئ- الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة، هو- قبل كل شئ رفض الاعتراف
بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه .. ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول .. وهي من ثم قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام. ومن هنا يجئ هذا النص: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. الظَّالِمُونَ .. الْفاسِقُونَ. والاعتبار الثاني هو اعتبار الأفضلية الحتمية المقطوع بها لشريعة الله على شرائع الناس .. هذه الأفضلية التي تشير إليها الآية الأخيرة في هذا الدرس: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .. والاعتراف المطلق بهذه الأفضلية لشريعة الله، في كل طور من أطوار الجماعة، وفي كل حالة من حالاتها .. هو كذلك داخل في قضية الكفر والإيمان .. فما يملك إنسان أن يدّعي أن شريعة أحد من البشر، تفضل أو تماثل شريعة الله، في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية .. ثم يدّعي- بعد ذلك- أنه مؤمن بالله، وأنه من المسلمين .. إنه يدّعي أنه أعلم من الله بحال الناس؛ وأحكم من الله في تدبير أمرهم. أو يدّعي أن أحوالا وحاجات جرت في حياة الناس، وكان الله- سبحانه- غير عالم بها وهو يشرّع شريعته؛ أو كان عالما بها ولكنه لم يشرّع لها! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام مهما قالها اللسان! فأما مظاهر هذه الأفضلية فيصعب إدراكها كلها. فإن حكمة شرائع الله لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجبال. والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه هنا .. في الظلال .. فنكتفي منه ببعض اللمسات: إن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها .. وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، بحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه، وتحكم الكينونة الإنسانية .. ومن ثم لا يفرّط في شئ من أمور هذه الحياة؛ ولا يقع فيه، ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمّر بين أنواع النشاط الإنساني؛ ولا أي تصادم مدمّر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال، والتوافق والتناسق .. الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر؛ وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة؛ ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني؛ ولا يخلو من التصادم المدمّر بين بعض ألوان النشاط وبعض. والهزات العنيفة الناشئة عن
هذا التصادم. وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولا .. لأن الله يعلم حق العلم بما يحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيا .. لأنه- سبحانه- رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع؛ وأن يجئ منهجه وشرعه مبرّأ من الهوى والميل والضعف- كما أنه مبرّأ من الجهل؛ والقصور والغلو والتفريط- الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان، ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى- فوق ما به من الجهل والقصور- سواء كان المشرّع فردا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلا من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أنّ لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد .. وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله. لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله. صانع الكون وصانع الإنسان. فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه، بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعا كونيا، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض، الذي يعيش فيه، ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم. ثم إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان .. ففي كل منهج- غير المنهج الإسلامي- يتعبد الناس الناس. ويعبد الناس الناس. وفي المنهج الإسلامي- وحده- يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .. إن أخص خصائص الألوهية- كما أسلفنا- هي الحاكمية .. والذي يشرّع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها. فهم عبيده لا عبيد الله. وهم في دينه لا في دين الله. والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان، بل يعلن «ميلاد الإنسان» .. فالإنسان لا يولد، ولا يوجد، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله؛ وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعا أمام رب الناس .. إن هذه القضية التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيدة ..
إنها قضية الألوهية والعبودية .. قضية العدل والصلاح. قضية الحرية والمساواة. قضية تحرر الإنسان- بل ميلاد الإنسان- وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان، وقضية الجاهلية أو الإسلام .. والجاهلية ليست فترة تاريخية؛ إنما هي حالة توجد كلما وجدت مقوّماتها في وضع أو نظام .. وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر، لا إلى منهج الله وشريعته للحياة. ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد، أو أهواء طبقة، أو أهواء أمة، أو أهواء جيل كامل من الناس .. فكلها- ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله- أهواء .. يشرّع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية. لأن هواه هو القانون .. أو رأيه هو القانون .. لا فرق إلا في العبارات! ويشرّع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمة لأنفسهم فإذا هي جاهلية .. لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبدا من الأهواء، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبدا من الجهل، هو القانون- أو لأن رأي الشعب هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات! وتشرّع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية. لأن أهدافها القومية هي القانون- أو رأي المجامع الدولية هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات! ويشرّع خالق الأفراد، وخالق الجماعات، وخالق الأمم والأجيال، للجميع فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد. لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة، ولا لجيل من الأجيال. لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء. ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع، فلا يفوته- سبحانه- أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط. ويشرّع غير الله للناس .. فإذا هم عبيد من يشرّع لهم. كائنا من كان. فردا أو طبقة أو أمة أو مجموعة من الأمم .. يشرّع الله للناس .. فإذا هم كلهم أحرار متساوون، لا يحنون جباههم إلا لله، ولا يعبدون إلا الله. ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان، وفي نظام الكون كله: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ .. فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج- في النهاية- عن نطاق الإيمان .. بنص القرآن .. ».
فصول
[فصول:] فصل في السّحت: السحت: هو الحرام، قال الألوسي في اشتقاقه: «من سحتّه إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتا- عند الزجّاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن. وأخرج عبد بن حميد. وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السّحت؟ قال: الرشوة في الحكم» وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «هدايا الأمراء سحت». وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: «قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السّحت هي؟ قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة، فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية» وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السّحت، فقال: «الرشا، فقيل له في الحكم؟ قال: ذاك الكفر» وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك، وأخرج ابن مردويه. والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ست خصال من السّحت: رشوة الإمام- وهي أخبث ذلك كله- وثمن الكلب. وعسب الفحل. ومهر البغي. وكسب الحجام. وحلوان الكاهن». وعدّ ابن عباس رضي الله تعالي عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر. قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، وجاء من طرق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما». أقول: قد أبيح كسب الحجام فإن صح الحديث فإن هذا الجانب منه منسوخ. فصل: في احتكام الكفار إلينا: بمناسبة الكلام عن قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ قال الألوسي: وهذا كما ترى تخيير له صلّى الله عليه وسلّم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وإليه ذهب أكثر السلف. قالوا: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان أولا مخيّرا ثم أمر عليه
الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا. وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر. والخنزير فإنهم يقرّون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه- في بعض ذلك- محمد. وزفر، وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم. «وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكّر. إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتميا. فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله. وأهلها جميعا ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة. مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام، وهو ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام؛ وعلى ما يختص بالنظام العام. فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم. كامتلاك الخنزير وأكله، وتملك الخمر وشربه، دون بيعه لمسلم. ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرّم عندهم. وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا. كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعا: مسلمين وغير مسلمين. فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام ... ». أقول: في أي قضية يكون أحد الأطراف فيها مسلما فالحكم إلى القضاء الإسلامي، وفي أي قضية ترافعوا بها إلى محاكمنا فالحكم فيها بما أنزل الله، وهذا الذي استقرّ عليه الأمر. أما في قضاياهم الخاصة فيما بينهم إن أرادوا أن يرجعوا في ذلك إلى علمائهم فنحن لا نتدخّل في ذلك ولكن، لن نعطيهم حق إيجاد قضاء خاص بهم، ثم إن أي اعتداء على النظام العام- فيما هو معتبر جريمة في شريعتنا- لنا حق مقاضاتهم، إلا ما استثنته معاهداتنا ومواثيقنا معهم، أو أصبح علما على أنه من شريعتهم التي قبلنا التعاقد معهم على أن يعطوا حرية فيها.
فصل في الجاهلية
فصل في الجاهلية: عند قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟ يقول صاحب الظلال: «إنّ معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص فالجاهلية- كما يصفها الله ويحددها قرآنه- هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله .. إن الجاهلية- في ضوء هذا النص- ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والناس- في أي زمان وفي أي مكان- إما أنهم يحكمون بشريعة الله- دون فتنة عن بعض منها- ويقبلونها ويسلّمون بها تسليما، فهم إذن في دين الله. وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر- في أي صورة من الصور- ويقبلونها فهم إذن في جاهلية؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين الله. والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية. وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .. وأجل! فمن أحسن من الله حكما؟ ومن ذا الذي يجرؤ على ادّعاء أنه يشرّع للناس، ويحكم فيهم، خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادّعاء العريض؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إن الله- سبحانه- وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد .. كان- سبحانه- يجهل أن أحوالا ستطرأ، وأن حاجات ستجدّ، وأن ملابسات ستقع؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟! ما الذى يستطيع أن يقوله من ينحّي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها
فصل في التكفير
شريعة الجاهلية، وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو- أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر- فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟ ما الذي يستطيع أن يقوله .. وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟ ألم يكن هذا كله في علم الله؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟ قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة، والأوضاع المتجددة، والأحوال المتقلبة؟ ألم يكن ذلك في علم الله؛ وهو يشدّد هذا التشديد، ويحذّر هذا التحذير؟ يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء .. ولكن المسلم .. أو من يدّعون الإسلام .. ما الذى يقولونه من هذا كله، ثم يبقون على شئ من الإسلام؟ أو يبقى لهم شئ من الاسلام؟ إنه مفرق الطريق، الذي لا معدى عنده من الاختيار؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال .. إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية .. والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين .. إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم، وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء! وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلن يستقيم له ميزان، ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح .. وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة، أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا «المسلمين» وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم .. فصل في التكفير: في كتابنا الإسلام ذكرنا عشرين ناقضا من نواقض الشهادتين وقد رأينا أن ابن كثير يعتبر المؤمنين بالياسق والملتزمين بها كفارا يجب قتالهم وقتلهم حتى يتركوها ويحتكموا
إلى كتاب الله، ولا أتصور أن أحدا من علماء المسلمين الأثبات يخالفه فيما ذهب إليه. فالإسلام جدّ وليس هزلا، والإسلام لا يقبل دخلا ولا دغلا، وصراط الله دقيق وميزان الله- عزّ وجل- عادل ومن استفتانا في أحد نقض الشهادتين أفتيناه بالكفر، ومن استفتانا في نظام يرفض الالتزام بالإسلام ويلتزم في دساتيره وقوانينه بغيره أفتيناه بكفره بلا تردد. بل نقول: إنّ أي حزب يرفض الإسلام، أو يريد أن يخلطه بغيره، أو يتبنى في مجموع آرائه ونظرياته ما هو كفر، فهو كافر، وأن أي حكومة تتبنى في مجموع دساتيرها وقوانينها ما يعتبر ناقضا للشهادتين فإننا نعتبرها كافرة، ومن يؤيدها، ويناصرها، فيما هي فيه فهو كذلك كافر فالأنظمة التي تشبه التتار في اعتمادها الياسق أو الياسا حكمها حكمهم. غير أن الحكم على نظام بالكفر لا يعني الحكم على كل فرد من أفراده بالكفر، بل قد نحكم على النظام كله بالكفر ونحكم لرئيسه نفسه بالإسلام، ومن ثمّ نقول: إن الحكم على كل فرد بعينه إنما يخضع للفتوى المعتبرة البصيرة من أهلها على ضوء النصوص، وهذه أمور تحتاج إلى تفصيل: لقد خدم يوسف عليه السلام في نظام كافر له شريعة تختلف عن شريعة يوسف بدليل قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ وبدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ والشك كفر، وإذن فنحن نحكم على النظام الذي خدم فيه يوسف بالكفر، بينما يوسف عليه السلام رسول من الرّسل. وهذا النجاشي حكم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام وصلّى عليه عند ما مات صلاة الغائب، وكان على رأس نظام كافر؛ لأنه لم يكن يحكم بشريعة القرآن، ومع ذلك فنحن نحكم عليه بأنّه مسلم. لقد عطّلت الدولة العثمانية نظام الحدود منذ منتصف القرن التاسع عشر بسبب الظروف الضاغطة فيما زعموا، واستبدلت بها غيرها، ومنذ تلك اللحظة أصبح النظام كافرا، ولكن هل نحكم على السلطان عبد الحميد نفسه بالكفر وهو الذي لا يشك في حرصه على الإسلام، وفي رغبته في إقامته، ولكنّه كان أعجز من أن يستطيع أن يفعل شيئا في زعمه وفي تقدير الكثيرين. هل نحكم بالكفر على رجل قبل وزارة ليخدم الإسلام في ظلّ نظام كافر؟ الذي
عودة إلى السياق
نقوله: إنّ هذه الأمور تخضع للفتوى البصيرة من أهلها، فالفتوى تقدّر زمانا ومكانا وشخصا، وفي كثير من الأحيان قد لا يتأتى لنا أن نعرف كل الحيثيات التي من خلالها نستطيع أن نصدر الحكم. إن فقهاء المسلمين مختلفون حول الجهل في دار الإسلام هل يعتبر كفرا قبل البيان أو بعده؟ فبعض الفقهاء كالشافعية يرون: أنه لا يحكم على مسلم بالكفر في إنكار معلوم من الدين بالضرورة إلا بعد البيان. ولكنّ كل العلماء يرون أنّ الجهل في «دار الحرب» والكفر يعتبر عذرا، فإذا اتضحت هذه النقطة بالذات، وعرفنا أن أكثر العلماء يعتبرون أن الأرض التي تعطّل الحكم بشريعة الله دار حرب، إذا أدركنا ذلك عرفنا أن الحكم على كل فرد بعينه بالكفر بسبب بعض المكفّرات يحتاج إلى فتوى تضع كلّ الأمور باعتبارها، ومن ذلك قضية الرخصة والعزيمة، وقضية الأحكام الأصلية، والفتوى بسبب الأوضاع الاستثنائية، ومن ذلك موضوع فقه الحركة والدّعوة، واحتياجات الحركة اليومية، وأشياء أخرى فصّلناها في محلّها من هذه السلسلة وفي كتب أخرى. عودة إلى السياق: قلنا إن القسم الأول من السورة تألف من المقاطع الثلاثة الأولى والآن نقول: إن القسم الثاني يتألف من مقطعين، المقطع الذي مرّ معنا، والمقطع الذي سيأتي ليبدأ قسم ثالث مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ كما بدئ القسم الثاني. فلنر المقطع الخامس في السورة، وهو المقطع الثاني من القسم الثاني من سورة المائدة. ***
المقطع الخامس ويمتد من الآية (51) إلى نهاية الآية (66) وهذا هو
المقطع الخامس ويمتدّ من الآية (51) إلى نهاية الآية (66) وهذا هو: 5/ 56 - 51
5/ 65 - 57
كلمة في المقطع
5/ 66 كلمة في المقطع: - يأتي هذا المقطع ليوضّح ما أمر الله به أن يوصل، فإذا كانت المقاطع السابقة قد جاء فيها نقض الميثاق، والإفساد في الأرض بشكل أوضح، فإن هذا المقطع يذكر فيه ما أمر الله به أن يوصل بشكل أوضح، فالولاء لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فريضة، فهذا مما أمر الله به أن يوصل. والولاء للكافرين والمنافقين لا يجوز، فمن لم يعط الولاء لأهل الإيمان فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومن أعطى ولاءه للكافرين والمنافقين فقد وصل ما أمر الله به أن يقطع، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة المقطع بمحور سورة المائدة من سورة البقرة. لاحظ الصلة بين محور السورة وبعض معان في هذا المقطع: في السورة من البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وفي هذا المقطع نرى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ وفي محور السورة تجد قوله تعالى وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ* وفي هذا المقطع نجد عن اليهود وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. وهذا كله يؤكد صلة المقطع بمحوره من سورة البقرة، ويؤكد صحة ما اتجهنا إليه في فهم الوحدة القرآنية. في المقطع السابق على المقطع الذي بين أيدنا رأينا فسوق أهل الكتاب، ورأينا كلاما عن الراغبين في حكم الجاهلية، وفي هذا المقطع يحرم الله- عزّ وجل- علينا موالاة أهل الكتاب، ويحذّرنا من الردة، ويبيّن لنا خصائص الجماعة المسلمة، وأن من جملة هذه الخصائص الولاء لله والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ثم ينهانا ربنا- عزّ وجل- عن
المعنى العام
موالاة الكافرين مطلقا، ويبين لنا كثيرا من مواقف الكافرين جملة، ومواقف أهل الكتاب خاصة، مما هو كالتعليل لمنعنا عن موالاتهم، فارتباط المقطع بعضه ببعض وارتباطه بما قبله، ومحله في سياق السورة الخاص وصلة ذلك بمحور السورة من البقرة كل ذلك له علاماته الكبرى. المعنى العام: ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله. ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض. ثم تهدّد وتوعّد من يتعاطى موالاتهم ووصفه بالظّلم، وأن الله لا يحبّه، وأيّ عقوبة أفظع من أن يبغض الله إنسانا؟ ثمّ أخبر تعالى عن الذين في قلوبهم مرض، وشكّ، ونفاق، كيف أنهم يبادرون إلى موالاتهم ومودّتهم في الباطن والظاهر، متأولين في مودتهم وموالاتهم، أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، أو الكافرين عامة، فينفعهم ذلك، ناسين أن النصر بيد الله، وأن الأمر كله له، وقد ذكّر الله هؤلاء وغيرهم أنّ هؤلاء سيندمون على ما أسرّوه في أنفسهم، من موالاة الكافرين يوم ينصر الله جنده، ويعلى كلمته، وعندئذ سيجدون أن ما كان منهم لم يغن عنهم شيئا، ولا دفع عنهم محذورا بل على العكس، كان عين المفسدة لهم، فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبيّن أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنّهم من المؤمنين ومعهم، ويحلفون على ذلك أشدّ الحلف، فبان كذبهم وافتراؤهم، وأحبط الله أعمالهم، فكانوا خاسرين [وورود كلمة خاسرين في هذا السياق يذكّرنا بالارتباط في محور سورة المائدة من سورة البقرة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* إذ أن هؤلاء نقضوا العهد والميثاق، وما أمر الله به أن يوصل من ولاء أهل الإيمان بعضهم لبعض]. ثم أخبر تعالى عباده المؤمنين عن قدرته العظيمة ورعايته لشئون دينه بأنه عند ما يتولى أحد عن نصرة دينه، وإقامة شريعته، فإنّ الله سيستبدل من هو خير لها منه وأشدّ منعة، وأقوم سبيلا، ممّن يتّصفون بالتواضع للمؤمنين، والشدّة على الكافرين، والعزّة عليهم، ممن يحبون الله ويحبهم الله، ممن يجاهدون في سبيل الله، ولا يردّهم عمّا هم فيه من طاعة الله وإقامة الحدود وقتال أعداء الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادّ، ولا يصدهم عنه صادّ، ولا يؤثر فيهم لوم لائم، ولا
عذل عاذل، ثم بيّن الله أنّ الاتصاف بهذه الصفات أثر عن فضله وتوفيقه، وهو الواسع الفضل، العليم بمن يستحق ذلك ممن لا يستحقه، وبعد أن حرّم الله في بداية المقطع تولي اليهود والنصارى، فضلا عن غيرهم من الكافرين، حدّد من يستحقون ولاية المسلم، فذكر أنه لا يستحقها إلا الله ورسوله والمؤمنون، المتصفون بإقام الصلاة التي هي بعد الشهادتين أكبر أركان الإسلام، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين، ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين، ثم أعطى الله وعده أن كل من يرضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو منصور وغالب في الدنيا والآخرة، ثم أعاد الله الكرّة بالتنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون- وهي شرائع الإسلام المطهرة، المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي- يتخذونها هزوا يستهزءون بها، ويعتقدون أنها نوع من اللعب، في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، فكل من اتّخذ دين الله هزوا ولعبا من كتابي أو ملحد أو مشرك، فقد نهى الله عن موالاته. فأي جهل هذا الجهل العريض الذي وقع فيه عامّة المسلمين وخاصتهم، عند ما يوالون من هذا شأنه من زعماء أحزاب أو قادة سياسيين، أو رؤساء دول، ثم أمر الله- عزّ وجل- بتقواه وبالخوف منه؛ إذ بدون تقوى فلا إيمان، وكما يستهزئ هؤلاء بدين الله وشرائعه، فإنّهم إذا أذّن المسلمون داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال- لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب- يتخذون الصلاة هزوا ولعبا؛ بسبب جهلهم بمعاني عبادة الله وشرائعه، وما أكثر ما نصادف هؤلاء في عصرنا، حتى من أبناء المسلمين، الذين يعتبرون الصلاة لا تليق بالخاصّة، ويعتبرونها نوعا من أنواع الحركات الرياضية، يغني عنها غيرها بل يفضلها، ألا ما أجهلهم بجلال الله وحقه في أن يعبد، وما أكثر ما استطاع أعداء الله أن يكفّروا أبناء المسلمين. وبعد أن نهى الله عن اتخاذ الكافرين كلهم أولياء، ناصّا على أهل الكتاب خاصة، لأنهم مظنة أن يخدعوا المسلمين، فإنه أمر أن نوجّه لهم الخطاب في تسفيه ما هم عليه. فلا يكفي أن يكون موقفك من الكفر وأهله سلبيا، بل لا بد من موقف إيجابي، لأنه بدون ذلك لا يسلم لك حتى الموقف السلبي. ومن ثم أصدر الله أمره لرسوله صلّى الله عليه وسلّم- وهو أمر في الوقت نفسه للأمّة- أن تقول لأهل الكتاب هل لكم مطعن علينا أو عيب، إلا أننا نؤمن بالله حق الإيمان، وما أنزل علينا وما أنزل عليكم، وهل تنقمون منا إلا لأنكم فاسقون عن أمر الله، لا تلتزمونه ونحن نلتزم أمر الله كاملا، ثم أمرنا أن نقول لهم: هل نخبركم بمن هو شرّ
جزاء عند الله يوم القيامة؟ إنّهم أنتم المتصفون بما استوجبتم به لعنة الله، وغضبه ومسخه لكم، قردة وخنازير، أنتم الذين عبدتم الطاغوت من دون الله، فأنتم إذن شرّ مكانا مما تظنون بنا، وأنتم الضّالّون عن سواء السبيل، وبمناسبة النهي عن موالاتهم والأمر بتقريعهم يذكر لنا حالة من حالاتهم كيلا نخدع بهم، ثم حالة أخرى تنفر منهم وتقزّز النّفس من أحوالهم، أما الحالة الأولى فهي أنهم أحيانا يصانعون المؤمنين، بإعلان الإيمان في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ويدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم مستصحبون الكفر، ويخرجون من عنده والكفر كامن في أنفسهم لم ينتفعوا بما قد سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العلم، ولم تنجع فيهم المواعظ، ولا الزواجر، والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإنّ الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم، وسيجزيهم على ذلك أتمّ الجزاء. أما الحالة الثانية فهي أنهم يبادرون إلى تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على النّاس، وأكلهم أموالهم بالباطل، فلبئس العمل عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم، وهذه الحالة التي هم عليها لا ينهاهم عنها زهّادهم ولا علماؤهم، فلبئس صنيع الجميع. ثم أخبر تعالى عن مظهر من مظاهر جهل اليهود بالله، وسوء أدبهم معه، إذ يصفونه تعالى بأنه بخيل، جامعين إلى ذلك سوء التعبير، وقد ردّ الله- عزّ وجل- عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه، بأن جعل أيديهم مغلولة، ولعنهم بسبب قولهم هذا، وبيّن تعالى أنه وحده الكريم ذو الكرم المطلق، لأنه ذو المشيئة المطلقة، فهو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شئ إلا عنده خزائنه، وما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شئ مما نحتاج إليه في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، فهل هو الذي يستحق الولاية أم هؤلاء؟ ولنتذكّر أن هذا كله يأتي في سياق المقطع الذي ينهى عن موالاة هؤلاء وأمثالهم، ليكون قطع الولاء مبنيّا على أساس من الفهم العميق لوضع هؤلاء، ونفسيّتهم، وسلوكهم، ومن أجل أن نزداد بصيرة بيّن تعالى أنّ ما يؤتي الله- عزّ وجل- محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمّته من النّعم لا يزيد هؤلاء اليهود وأشباههم إلا نقمة، فبينما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا، وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون له ولأمته طغيانا، وقد عاقبهم الله- عزّ وجل- بأن ألقى بينهم العداوة والبغضاء، والخصومة والجدال في الدين، فلا تجتمع قلوبهم أبدا، وقد خالفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذبوه، وقد وعدنا الله أنه كلما عقدوا أسبابا يكيدوننا بها، وكلما أبرموا أمرا يحاربوننا فيه، أبطله الله، وردّ
كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيئ بهم. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّ من سجيّتهم أنّهم دائما يسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب من هذه صفته، ولم يتضح في عصر من العصور صفة الإفساد لليهود كما اتضحت في عصرنا، ومن كان هذا شأنه، ومن كان الله ضدّه، ومن تكفّل الله بإبطال مخططاته، فإنّه حري أن يعادى لا أن يوالى، ومن خلال ذكر الإفساد في الأرض نتذكر الصلة بين هذا المقطع ومحور السورة. ثم بيّن تعالى أن أهل الكتاب لو اجتمع لهم الإيمان والتقوى لكفّر الله عنهم ذنوبهم، وأدخلهم الجنة، ولو أن أهل الكتاب عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير لقادهم ذلك إلى اتّباع الحق، والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه، لو أن أهل الكتاب اجتمع لهم هذا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض مع تكفير السيئات ودخول الجنة، ولكن الواقع ليس كذلك فإنّ قسما منهم فقط، اجتمع له الاقتصاد في العمل ضمن هذه الحدود، وأما البقية فأعمالهم سيئة ونياتهم سيئة، وعلى الكفر والظلم والفسوق مقيمون، وبهذا ينتهي هذا المقطع الذي يعمّق قضية الولاء، التي أمر الله أن تكون هي الجامعة بين المؤمنين، وحرّم أن تكون بين أهل الإيمان وغيرهم، وقد بدأ المقطع في تحريم الولاء لليهود والنصارى. وختم المقطع بما ينفّر من كل معنى من معاني الولاء لليهود والنصارى، وإذا كان الأمر كذلك في اليهود والنصارى، وإذا كان هذا شأن هؤلاء فما بال الأبشع والأقبح أهل الإلحاد والشرك؟ وهكذا جاء النهي عن موالاة الكافرين بين تعليلين، تعليل سابق في المقطع الرابع، وتعليل لاحق في المقطع الخامس. وجاء تحديد صفات حزب الله، التي من جملتها تحرير الولاء لله والرّسول والمؤمنين، بين نهيين عن موالاة الكافرين. فاتضح بهذا القسم في مقطعيه ما ينبغي أن يوصل وما ينبغي أن يقطع. إن الكافرين والمنافقين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهو موالاة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ويصلون ما أمر الله به أن يقطع، وهو موالاة الشيطان وأهله، وبذلك استحقوا الإضلال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
المعنى الحرفى
لقد اتضح لنا من سورة المائدة ما به يستحق ناس هداية الله بهذا القرآن، وما به يستحق ناس إضلال الله لهم بهذا القرآن يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً. فمن تتبع ما ورد في سورة المائدة، عرف طريق الهداية، وعرف طريق الضلال، وعرف الكثير من تفصيلات الفسوق وضده، ومن تفصيلات قطع ما أمر الله به أن يوصل وضده، ومن تفصيلات الإفساد في الأرض وضده، وكل ذلك ضمن سياق السورة الخاص، بما يرتبط به القرآن بعضه ببعض، بأكثر من رابطة ووشيجة، روابط ووشائج لا يحيط بها إلا الله تعالى. المعنى الحرفى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. أي: تنصرونهم وتستنصرونهم، وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم ذكر علّة ذلك فقال: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دلّ هذا على أن الكفر ملّة واحدة تجاه الإسلام والمسلمين، فما أسخف من ينسى هذا وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي: من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من الله، وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين، وقد كتبنا كتابنا «جند الله ثقافة وأخلاقا» وكان هدفا من أهدافه أن نبيّن أهمية الولاء في دين الله، ونبيّن حدوده، فليراجع. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أي: لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر، وقوله تعالى هنا: لا يَهْدِي .... يذكرنا بالآيتين اللتين هما محور سورة المائدة واللتين فيهما وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... فإذا تذكرنا هذا علمنا كيف أن هذا المقطع يأخذ محله في سياق السورة ضمن محورها ليطهر القلوب من كل ما يهلكها. ويربيها على كل ما يزكيها فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. أي: نفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ أى: يبادرون في موالاة اليهود والنصارى وأمثالهم ومعاونتهم، والسبب الدافع لذلك هو يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ. أي: يقولون في أنفسهم نخاف أن تصيب المسلمين حادثة، أو نازلة تدور بالحال التي يكونون عليها من الظهور والغلبة، فمن أجل أن تكون لهم أياد ووجه عند الكافرين، يبادرون إلى موالاتهم، هذا لسان حالهم وللمسلمين ظهور، فكيف إذا كانت الدائرة للإسلام والمسلمين كما هو الحال في زماننا، فإنك ترى العجب العجاب من مسارعة أهل النفاق للتهالك على أبواب أهل الكفر وخدمتهم، والتقرّب إليهم بضرب أولياء الله وحربهم فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ. أي: لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وللإسلام على الأعداء أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. أي: أن
[سورة النساء (4): آية 53]
يؤمر النّبي عليه الصلاة السلام بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. أو أن يكون لله مراد في شأن أهل الكفر يذلّهم به ويرغمهم، أو أن يكون لله أمر تشريعي من عنده في شأن أهل الكفر والنفاق وقد فعل فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. أي: فيصبح أهل النفاق على ما أخفوه في أنفسهم من النفاق نادمين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بعضهم لبعض إذا ظهر نفاق أهل النفاق وتكشّف أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ. أي: أهؤلاء الذين أقسموا لكم بأغلظ الإيمان، مجتهدين في توكيد أيمانهم، أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. أي: ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة، لا إيمانا وعقيدة. وهذا من قول الله- عزّ وجل- شهادة بحبوط الأعمال، وتعجيبا من سوء حالهم فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة. فوائد: [حول آية .. لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ... وسبب نزولها] 1 - أخرج ابن أبي حاتم عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد. وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك، فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر: أجنب هو؟ قال: لا، بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية» أقول: هل يفهم من هذا حرمة إعطاء الذمّي عملا للمسلمين؟ المسألة ذات صور متعددة، تختلف باختلاف الأعمال، والأحوال والظروف، والزمان والمكان، وتحكم فيها الفتوى البصيرة من أهلها. 2 - وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال: فظننّاه يريد هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية. من مثل هذه النصوص والفهوم ندرك هذه الحقيقة المهمّة في الإسلام، وهي أن الولاء يجب أن يكون للإسلام والمسلمين، أو بتعبير آخر إنّ الولاء يجب أن يكون للإسلام وأهله، أو بتعبير آخر إن الولاء يجب أن يكون للإسلام وللجماعة المسلمة، والجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك. 3 - اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات: فذكر السّدي أنّها
نزلت في رجلين، قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإنّي ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوّد معه، لعلّه ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث، وقال الآخر: أما أنا فإنّي ذاهب إلا فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصّر معه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيات. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فسألوه ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه أي إنّه الذبح. رواه ابن جرير. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، كما روى ابن جرير .. عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود، كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبي: «يا أبا الحباب، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه». قال: قد قبلت! فأنزل الله- عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيتين. ثم روى ابن جرير .. عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن الصيف: أغرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا، فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بدّ لي منهم، فقال رسول الله: «يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه». فقال: إذا أقبل! قال: فأنزل الله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ- إلى قوله تعالى- وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنو قينقاع فحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في مواليّ- وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، قال: فأعرض عنه، قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسلني». وغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: «ويحك أرسلني». قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم لك». قال محمد بن إسحاق، فحدثني أبا إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشبّث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وكان أحد بني عوف بن الخزرج- له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي- فجعلهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتبرّأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أبرأ إلى الله وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إلى قوله وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. وروى الإمام أحمد .. عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد كنت أنهاك عن حب يهود». فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق». يقصد عدو الله أن يردّ على قول الرسول عليه الصلاة السلام بأن أسعد بن زرارة قد أبغضهم سماعا لأمرك، فلم يغن عنه ذلك شيئا وها قد مات فلم تنهاني عنهم؟ بعد ذكر أسباب النزول هذه نستطيع أن نقول: إن للنّفاق مظاهر متعددة متجدّدة، فللنفاق مظاهره عند ما تكون الدولة للمسلمين. وللنفاق مظاهره عند ما تكون الدولة للكافرين، وللنفاق مظاهره عند ما تكون المسألة بين بين، أو تحتمل وتحتمل. وفي أسباب النزول المارّة مظهر من مظاهر هذا النفاق في حالة من الحالات. والأصل الذي ينبغي أن نعرفه أن النفاق مرض في القلب يصيب الإنسان كما يصيبه الكفر أو الحسد أو الحقد أو الغل أو الكبر، وأنّ المظهر الرئيسي لهذا المرض هو الولاء للكافرين والمنافقين، هذا الولاء يكون خفيا أحيانا، ويكون ظاهريا أحيانا، ويكون بشكل ويكون بآخر على حسب الأحوال، ولا بد أن نلاحظ في أنفسنا أنّ من واجبنا أن
[سورة النساء (4): آية 54]
نطهّر هذه الأنفس من النفاق بالسلوك الحقيقي لطريق الإيمان، وأن نقطع كل معنى من معاني الولاء في أنفسنا لأعداء الله، وكذلك علينا أن نلاحظ في عملية التربية للمسلمين أن نعمّق قضية الإيمان في أنفسهم، وأن نحرّر هذه الأنفس من كل مظاهر الولاء المنحرف. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ. أي: من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. أي: يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها، ويطيعونه ويؤثرون رضاه، ويسيرون في الطرق المؤدية إلى محبته، ويتخلون عن الطرق التي تؤدي إلى ما يبغض أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الأذلة جميع ذليل، والذليل بيّن الذّل، وقد قال تعالى: أذلة على المؤمنين، ولم يقل أذلة للمؤمنين ليضمّن الذّل معنى الحنو والعطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التّذلل والتواضع، وهذه الذّلّة ذلة الولد لوالده وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (الإسراء: 24) فهي أثر عن الرحمة، ولذلك وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: 49) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. أي: أشداء عليهم، والعزاز الأرض الصلبة، فهم مع المؤمنين كالولد لوالده، والعبد لسيده، ومع الكافرين كالسبع على فريسته يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بقتال أعدائه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. أي: يجاهدون وحالهم في الجهاد خلاف حال المنافقين، لأن المنافقين لا يعملون شيئا يعلمون أنهم بسببه يلحقهم لوم من جهة الكافرين، أمّا المؤمنون فصفتهم الجهاد في سبيل الله، وهم صلّاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين، لا تروعهم لومة لائم، لا تؤثر فيهم، ولا تمنعهم عن المضيّ فيه. واللّومة: المرّة من اللوم، وفي تنكير اللومة ولائم مبالغتان، فكأنه قيل لا يخافون شيئا قط من لوم واحد من اللوّم، وفي عصرنا حيث تزداد حملات الإعلام العالمي ضد الجهاد وأهله، يدرك المسلم ضرورة التحقق بهذه الصفة. وفي عصرنا- عصر ضعف المسلمين- إذ يفرض الضعف منطقه على الكثيرين، فيلومون من جاهد، ندرك ضرورة التحقق بهذه الصفة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ هذا إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة، وانتفاء خوف اللومة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ومن سعته كثرة إفضاله، ومن علمه أن يعطي هذه الصفات لمن هو أهلها. وبعد أن ذكر في بداية هذا المقطع من تجب معاداته يذكر الآن من تجب موالاته فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ إنما تفيد الاختصاص أي: المذكورون وحدهم يخصّون بالموالاة وتجب لهم. ولم يجمع الولي وإن
[سورة النساء (4): آية 56]
كان المذكور جماعة تنبيها على أن الولاية لله أصل، ولغيره تبع، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع، وأما قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ قال ابن كثير: «فقد توهّم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن علي بن أبي طالب، أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مرّ به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه». وبعد أن ذكر ابن كثير هذه الروايات، قال: وليس يصحّ شئ منها بالكليّة، لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها، ثم نقل عن ابن عباس قوله: نزلت في المؤمنين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أولهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. أي: فإنهم هم الغالبون. دلّت الآية على أن الذين يتولون الله ورسوله والمؤمنين هم حزب لله، وأن الله ناصرهم، وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم أي أصابهم. فوائد: 1 - [الأمر بموالاة من توفرت فيهم صفات حزب الله] جاءت هذه الآيات الثلاث المبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* بين مجموعتين من الآيات كل منهما مبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* وكل منهما تنهى عن موالاة الكافرين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ فكأنها وهي بين مجموعتين تنهيان عن موالاة الكافرين تقول: كونوا على هذه الصفات، ووالوا من توافرت به هذه الصفات، لا أولاء ولا أولئك، ولقد رأينا في أسباب النزول أنّ هذا المقطع كله مع أول آية من المقطع اللاحق كل ذلك نزل في حادثة واحدة. 2 - [توجيه هام إلى قراءة كتاب «جند الله ثقافة وأخلاقا» للمؤلف] في كتابنا «جند الله ثقافة وأخلاقا» برهنّا في القسم الثاني منه أنّ الأخلاق الأساسية الجامعة في الإسلام هي هذه الأخلاق الواردة ما بين قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ... إلى قوله .. هُمُ الْغالِبُونَ فليراجع الكتاب فإن فيه كثيرا من الخير، وقد قال ابن كثير في الآية: هذه صفات المؤمنين الكمّل.
3 - استنباط لطيف للنسفي من آية الردة
3 - [استنباط لطيف للنسفي من آية الردة] قال النسفي في آية الردة: «وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان، وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين، وصحة خلافته وخلافة عمر رضي الله عنهما». 4 - [حديث حول قوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .. ] أخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: لما نزلت فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم قوم هذا» أي أبي موسى الأشعري وقد كان لأهل اليمن دورهم الكبير في إنهاء الردة السابقة، ونرجو أن يكون لهم دور جديد في إنهاء هذه الردة المعاصرة، وكل المسلمين مطالبون بإنهائها. 5 - [بعض الأحاديث الخاصة بالآيات (54 - 56)] بمناسبة هذه الآيات نقل ابن كثير بعض الأحاديث وهذه هي: أ- روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: «أمرني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنوّ منهم، وأمرني أن انظر إلى من هو دوني، ولا انظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش». ب- وروى الإمام أحمد عن أبي المثنّى أنّ أبا ذرّ رضي الله عنه قال: «بايعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا وأوثقني سبعا، وأشهد الله علي تسعا- أن لا أخاف في الله لومة لائم- قال أبو ذر: فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هل لك إلى بيعة ولك الجنة» قلت: نعم، قال: وبسطت يدي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يشترط علي «أن لا تسأل الناس شيئا» قلت: نعم، قال: «ولا سوطك إن يسقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه». ج- وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا لا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكّر بعظيم» تفرّد به أحمد. د- وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول: مخافة النّاس. فيقول: إياي أحق أن تخاف» ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة.
6 - فائدة عظيمة من نتائج الردة الأولى أيام أبي بكر
هـ- وروى أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى إنّه ليسأله يقول له: أي عبدي رأيت منكرا فلم تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدا حجته قال: أي رب وثقت بك وخفت الناس». و- وثبت في الصحيح: «ما ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه قالوا: وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله؟ قال: يتحمل من البلاء ما لا يطيق». أقول: وكل امرئ أدرى بما يطيق، وعند ما يكون الأمر فرض عين فعلى كل إنسان أن يقيمه بقدر استطاعته. 6 - [فائدة عظيمة من نتائج الردة الأولى أيام أبي بكر] لقد وقعت الرّدّة الأولى بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، ولكن توافر للمسلمين وقتذاك أمور: قائد واحد هو أبو بكر، وصفّ واحد، وتربية رفيعة، وجهاد. والآن لا جهاد، ولا تربية رفيعة، ولا صفا واحدا، ولا قائدا واحدا، ومن ثمّ فإن هذه الردّة تمتدّ وتستمرّ، ولا بدّ للمسلمين الآن من طريق، تتحقق فيه التربية الرفيعة؛ ليوجد الصف الواحد؛ لتنبثق عنه القيادة ليقوم الجهاد، ولا شكّ أن هنا سؤالا خطيرا هو؟ من الذي يشق الطريق؟ أليس هي القيادة الربانية، فكيف نوفّق بين البداية التي لا بد منها، وبين قولنا صف تنبثق عنه قيادة فنجعل القيادة نتيجة وهي البداية؟ نقول: إنّ العمل الرباني يقتضي نكرانا للذات يتمّ معه السير في الطريق الصحيح، ثمّ إنّ الصف من خلال الشورى، لا يعجزه أن يختار قياداته المؤهلة لتحقيق هدف ما ضمن نظرية تنظيمية سليمة وصحيحة وبطبيعة الحال فإعلان الجهاد ليس هو البداية وهذا هو المراد هنا أما التربية والنظرية فلا بد أن تطرحهما قيادة ربانية ابتداء. 7 - [توجيه للتحقق بصفات حزب الله] ذكرت الآيات الثلاث التي مرّت معنا، صفات حزب الله، وعلى كلّ مسلم، وعلى كل مجموعة أن تفتّش في نفسها عن هذه الصفات، ولو أنّ كل مجموعة من المسلمين تحققت بهذه الصفات، بل لو أنّ كل فرد من المسلمين تحقق بهذه الصفات، لقطع المسلمون شوطا بعيدا في كل شئ، سواء في سيرهم إلى الله، أو في سيرهم نحو تحقيق الأهداف، أو في سيرهم نحو الجماعة الواحدة، أو في سيرهم نحو العمل الجماعي. ولكنّ قصورا في الصفات قد وقع، وقصورا في النظر قد وجد عند الكثيرين، إلّا من رحم الله. إن كل مجموعة من المسلمين غلب عليها النظر إلى إيجابيات ما هي عليه دون سلبياته، والنظر إلى سلبيات غيرها دون إيجابياته، ولو أنّ كل مجموعة نظرت إلى سلبيات ما عندها، وإيجابيات ما عند الآخرين، على ضوء النصوص، وعمل الجميع من أجل أن
[سورة النساء (4): آية 57]
يكمّل بعضهم بعضا، وأن يتكامل بعضهم ببعض، وضمّهم جميعا ولاء لبعضهم بالحق، وانطلقوا من خلال الشورى، لأرضوا ربهم، ثم لقهروا عدوّهم، إنني لا أستطيع أن أفهم كيف يحجب المسلم ولاءه عن أخيه المسلم والله عزّ وجل- يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (التوبة: 71) ألا ما أكثر ما يتلاعب الشيطان ببعض العقول. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ يعني اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة، وإذا كان أول المقطع نهى عن موالاة اليهود والنصارى، فقد ضم إلى أولئك هنا الكافرون عامّة، من ملحدين، ومشركين، ومجوس، وهندوس، وبوذيين، أو غير ذلك، وقد دلّت الآية أنّ الكافرين عامة ينظرون إلى دين الله بسخرية، ويعتبرون شعائره وشرائعه لعبا وَاتَّقُوا اللَّهَ أن توالوا الكفار، وفي إقامة شرعه كله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقّ الإيمان، لأنّ الإيمان الحق يأبى موالاة أعداء الله، ويتطلب خوفا من الله وحده وتطبيقا لشرعه، وبعد أن بيّن أنّ الكافرين عامّة يتخذون ديننا هزوا ولعبا، بيّن أنّ موقفهم هذا يسري على أرقى العبادات، وهي الصّلاة فقال: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ لأن استهزاءهم بالصلاة، واعتبارهم إياها لعبا غاية الحماقة والجهل، إذ أي جهل وحماقة أكبر من مثل هذه النّظرة إلى الصلاة وهي عبادة لله، فهل العاقل من يعبد الله أو من يستكبر عن عبادته؟ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي: هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله، وبكل كتاب أنزله الله، من القرآن إلى ما قبله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي: وهل تعيبون منا وتنكرون إلا بأن أكثركم فاسقون والمعنى: أعاديتمونا لأنّا اعتقدنا توحيد الله، وصدق أنبيائه، واعتقدنا فسقكم لمخالفتكم الحق؟ أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمّة قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً. أي: ثوابا، والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنّها وضعت موضع العقوبة هنا، مثل قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ*. عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أي: من لعنه الله واتصف بالصفات اللاحقة، شرّ عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ. أي: اليهود الذين مسخوا بسبب
[سورة النساء (4): آية 61]
اعتدائهم في السبت، كما سيأتي تفصيله في سورة الأعراف وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. أي: الشيطان، أي ما زيّنه الشيطان لهم للعبادة، كالعجل والبعل وغير ذلك أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً. أي: المتصفون بهذه الصفات مكانهم أكثر شرا، ووصف المكان بالشرّية، والمراد أهله للمبالغة وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. أي: عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة، فهم لا يهتدون إلى هذا الطريق لأن هذا الطريق هو الذي بعث الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به. ثم وصف الله- عزّ وجل- نوعا من المنافقين من اليهود فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ. أي: يدخلون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويظهرون له الإيمان نفاقا، والتقدير: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين. وتقديره: متلبسين بالكفر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي: من النفاق وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ. أي: من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ. أي: يبادرون في المعصية كالكذب وَالْعُدْوانِ. أي الظلم، والمسارعة في الشئ: الشروع فيه بسرعة وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. أي: الحرام وخاصة الرّشا لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لبئس شيئا عملوه لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي: الزّهّاد والعبّاد وَالْأَحْبارُ. أي: العلماء عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ. أي: لبئس الصنيع صنيعهم. كلمة في السياق: 1 - بعد أن نهانا الله- عزّ وجل- عن اتخاذ الذين اتخذوا ديننا هزوا ولعبا أولياء، يكشف لنا الكثير من حقيقتهم، التي تنفرنا عن أن نتخذهم أولياء، والسّياق لا زال مستمرا في بيان مثالبهم، ولذلك سيأتي معنا وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. 2 - يلاحظ أن هذا المقطع فيه حديث عن السّحت، وقد بدأ المقطع السابق عليه بالكلام عن السّحت، وقد كنّا قلنا إن هذين المقطعين يشكلان قسما من أقسام سورة المائدة، وهذا مظهر من مظاهر وحدة المقطعين، ومن مظاهر ذلك: أنّه بناء على ما مر في المقطع السابق نهينا عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء وأن ما نحن فيه تعليل للنهي عن اتخاذهم أولياء. فوائد: 1 - [مهمة العباد والزهاد والعلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] غلب على بعض العبّاد والزهّاد في الأمّة الإسلامية العزلة عن الناس، وترك الدعوة الشاملة، مع أن هؤلاء أولى بالقيام بهذه الشئون، وكذلك العلماء، بل الأمر في حقهم
2 - ثبوت الأذان بدليل من القرآن
أوجب، ودليل ذلك قوله تعالى لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ... وإنّما قال ابن عباس ذلك لأنه أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الرّبانيون والأحبار. فلمّا تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرّب أجلا. وأخرج الإمام أحمد .... عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعزّ منه وأمنع ولم يغيّروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب» ورواه أبو داود عن جرير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيّروا عليه فلم يغيّروا إلا أصابهم الله قبل أن يموتوا». وقال الحافظ المزي: «وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به» أقول: المهمّ أن يمارس المسلم عملية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولو بشكل بسيط وسينقله هذا إلى أن يكون ذلك خلقا له. 2 - [ثبوت الأذان بدليل من القرآن] وفي قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... يقول النسفي: وفيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. ويذكر ابن كثير نموذجا على موقف أهل الشرك من الأذان وفيه معجزة. قال: «وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذّن، وأبو سفيان ابن حرب، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتّاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث ابن هشام: أما والله لو أعلم أنّه محق لاتّبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو
3 - أحاديث حول مسخ اليهود قردة وخنازير
تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد علمت الذي قلتم». ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنّك رسول، ما اطّلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك» 3 - [أحاديث حول مسخ اليهود قردة وخنازير] بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ينقل ابن كثير حديثا عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: «إن الله لم يهلك قوما- أو قال: لم يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإنّ القردة والخنازير كانت قبل ذلك». وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر. وروى أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: «لا، إنّ الله لم يلعن قوما فيمسخهم، فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم». ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. أي: بخيلة. قال ابن عباس لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ هذا دعاء عليهم بالبخل، ومن ثم كانوا أبخل الناس، أو تغلّ في جهنم، فهي كأنّما غلّت وَلُعِنُوا بِما قالُوا. أي: بما وصفوا الله بما لا يليق بذاته بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ قال ابن كثير. أي: هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء. قال النسفي: «ثنّيت اليد في: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وهى مفردة في (يد الله مغلولة) ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له، ونفي البخل عنه، فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ هذا تأكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. أي: يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود وكفرا بآيات الله وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكلامهم أبدا مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق، ولا تعاضد إلا ظاهري كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. أي: كلما أرادوا حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نصر عليهم، أو كلما أرادوا حرب الإسلام وأهله غلبوا وقهروا، أو كلما أرادوا إشعال نار حرب على الإسلام وأهله أطفأ الله كيدهم وشرهم، وما غلبوا في عصرنا في بعض المعارك إلا لأنهم يحاربون رايات لم تقم على
[سورة النساء (4): آية 65]
تقوى، ولم تنتصب لإسلام وما غلبوا إلا بحبل الله وحبل من الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بنشر الفاحشة حيث كانوا، وقتل أخلاق الشعوب، ومقاومة الخير ونشر أفكار الضلال والكفر وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ولذلك فإنّه لا يحبهم بل يبغضهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام وَاتَّقَوْا باتّباع كتاب الله، فقرنوا إيمانهم بالتقوى لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. أي: لسترناها عليهم ولم نؤاخذهم بها، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ لكونهم مسلمين وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، أي أقاموا أحكامهما وحدودهما، وما فيهما من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من القرآن لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني الثمار من فوق رءوسهم وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني الزروع، وهذا كله يفيد التوسعة، دلّت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ. أي: طائفة حالها الاقتصاد في مواقفها، أي ليست مسرفة ومتجاوزة للحدّ فهي مؤمنة، وتعمل صالحا باقتصاد وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي: وكثير منهم ما أسوأ عملهم. فوائد: [حول الآيات (64 - 66)] 1 - قال النسفي في قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (الإسراء: 29) 2 - قال ابن كثير في سبب نزول الآية: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. «وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنخاص اليهودي- عليه لعنة الله-، وقد تقدم أنه الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. 3 - روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، قال: وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى القبض يرفع ويخفض ... قال: وقال الله تعالى: أنفق أنفق عليك».
كلمة في السياق
4 - أخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن يرفع العلم» فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلّمناه أبناءنا؟ فقال: «ثكلتك أمّك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله. ثم قرأ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وقد رواه الإمام أحمد متصلا موصولا عن زياد بن لبيد أنه قال: ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا فقال: «وذاك عند ذهاب العلم» قال: قلنا: يا رسول الله. وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟، قال: «ثكلتك أمك يا بن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء». وهكذا رواه ابن ماجه. وقال عنه ابن كثير. وهذا إسناد صحيح 5 - عند قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ قال ابن كثير: فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله- عزّ وجل-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها الآية. (فاطر: 32) والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة». كلمة في السياق: - لقد لاحظنا أثناء الشرح الكلي أو الحرفي لمعنى المقطع السابق كثيرا مما له علاقة بوحدة المقطع الذي مر معنا، وارتباطه بمحور السورة ضمن السياق القرآني العام، وأهم شئ نحب أن نذكر به هنا أن الهداية والضلال، وأسباب الهداية والضلال هي محور السورة الرئيسي، ومن أسباب الضلال قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومن أسباب الهداية وصل ما أمر الله به أن يوصل، وأن تولي الكافرين وصل لما أمر الله به أن يقطع، وأن تولي المؤمنين وصل لما أمر الله به أن يوصل، والمقطع الذي مر معنا فصّل كثيرا في المعاني التي تنفر من ولاء الكافرين، وتحبب بولاء المؤمنين، وقد لاحظنا في أسباب النزول أن منها ما ذكر أن آيات المقطع كله، وأول آية في المقطع اللاحق نزلت في موضوع واحد، ومن ثم نقول إن المقطع اللاحق الذي يبدأ
فصول ونقول
بخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هو امتداد للمقطع السابق في معانيه، ومضامينه. وسنرى ذلك. - قد قلنا عن المقطعين الأخيرين: إنهما يشكلان القسم الثاني من أقسام سورة المائدة، وأفضنا في الكلام عن وحدتهما، وأكدنا كثيرا أن النّهي عن الولاء للكافرين جاء مسبوقا بما ينفّر عنه ومتبوعا بما ينفّر عنه أيضا، وأنّ ذلك قد استغرق القسم بمقطعيه، وكما أن القسم الثاني بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ فإن القسم الثالث يبدأ بذلك: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. فصول ونقول: فصل في زمن نزول بعض الآيات من سورة المائدة: رأينا أثناء الكلام عن المقطع الخامس كيف تردّد اسم بني قينقاع فيه، ورأينا أن بعض الروايات تذكر أن الآية الأولى من المقطع السادس وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ نزلت مع هذا المقطع، وهي آية يبدو أنها نزلت مبكرة في المدينة، وكل ذلك يشير إلى أنّه ليس كل سورة المائدة نزلت متأخرة، وفي ذلك يقول صاحب الظلال: «نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة من أن هذه السورة، لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري، وأن مقاطع كثيرة فيها يرجّح أن تكون قد نزلت قبل ذلك؛ وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع- عام الأحزاب- على الأقل، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضا .. قبل إجلاء بني النضير بعد أحد، وبني قينقاع بعد بدر .. فهذه النصوص تشير إلى أحداث، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين، لا تكون أبدا بعد كسر شوكة اليهود؛ وآخرها كان في وقعة بني قريظة. فهذا النصّ عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء. وهذا التحذير- بل التهديد- بأن من يتولهم فهو منهم. وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر. وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزوا ولعبا، والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين- إذا قام المسلمون إلى الصلاة- هزوا ولعبا .. كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن، ما يجعل
نقول في موضوع الولاء
من الممكن أن تقوم هذه الملابسات، وأن تقع هذه الحوادث، وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد، وإلى هذا التهديد المكرر، ثم إلى حقيقة اليهود، والتشهير بهم والتنديد، وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو، المنوع الأساليب. وقد ذكرت بعض الروايات أسبابا لنزول آيات في هذا الدرس؛ يرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزوة بدر. وموقف عبد الله بن أبي بن سلول. وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي! وحتى بدون هذه الروايات، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجوّها، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها .. » نقول في موضوع الولاء: لقد أفاض صاحب الظلال بمناسبة النّهي عن موالاة أهل الكتاب في موضوع الولاء وقد رأينا أن ننقل بعض كلامه: - «إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شئ، واتخاذهم أولياء شئ آخر، لكنهما يختلطان على بعض المسلمين، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية؛ وتصطدم- من ثم- بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولا بد منها، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة .. وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكيّ لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها؛ ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب .. بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة .. وأن هذا شأن ثابت
لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم. وأنهم مصرّون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة. وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .. إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة. أهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا .. وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألّبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعا وردءا. وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين شنّوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا العرب المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان .. في الحبشة والصومال واريترية والجزائر، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان!. وبمناسبة قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يقول صاحب الظلال: لقد كان هذا تحذيرا عنيفا للجماعة المسلمة في المدينة. ولكنه تحذير ليس مبالغا فيه. فهو عنيف. نعم، ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة. فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى- وبعضهم أولياء بعض- ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم، الذي يتولى الله ورسوله والذين آمنوا .. فهذا مفرق الطريق. وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام، وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام، ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملا ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف- أول ما تستهدف- إقامة نظام واقعي في الأرض فريد، يختلف عن كل الأنظمة الأخرى، ويعتمد على تصور متفرد عن كل التصورات الأخرى. إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم، الذي لا أرجحة فيه ولا تردد، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس- بعد رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم- وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه، منهج متفرد، لا نظير له بين سائر المناهج، ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر، ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج
آخر، ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه، ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه: الاعتقادية والاجتماعية، لم يأل في ذلك جهدا، ولم يقبل من منهجه بديلا- ولا في جزء منه صغير- ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي، ولا في نظام اجتماعي، ولا في أحكام تشريعية إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب ... إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو- وحده- الذى يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس؛ في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذى يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان .. وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره- مما هو قائم في الأرض من جاهلية .. سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك، أو فى انحراف أهل الكتاب، أو في الإلحاد السافر .. بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي، إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة، يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة؟. إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة؛ باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الأديان، كما يخطئون فهم معنى التسامح. فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي .. إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا؛ ولا يقبل فيه تعديلا- ولو طفيفا- هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ .. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .. وفي القرآن كلمة الفصل .. ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا الدين». أقول: المطلوب من المسلم المفاصلة الاعتقادية أما أنواع المفاصلة الأخرى فتحكمها الفتوى.
فصل في التفريق بين موقفين
فصل في التفريق بين موقفين: لقد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرا وكان من أوائل ما فعله أنه كتب وثيقة نستطيع أن نسميها باصطلاحنا الحالي- دستورية- تنظم العلاقة مع اليهود وقد جرت العادة خلال العصور أن تكون هناك عقود بين المسلمين وبين المواطنين من غير المسلمين وهي التي تسمى عقود أهل الذمة وبسبب من هذه العقود كان غير المسلمين يدخلون في ذمتنا ويعتبرون ذمّيين، هذا شئ والولاء شئ آخر. إن التزام المسلمين لأهل الذمة بشيء والوفاء به شئ والولاء شئ آخر. فلا يصح الخلط بين ما يجوز للجماعة المسلمة أن تعقده من عقود مع غير المسلمين وبين الموقف الخياني من أحد المسلمين إذ يعطي الكافرين ولاءه خيانة لله ورسوله والمؤمنين. ولنضرب أمثلة توضح المراد: لقد عاقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود في المدينة على معان وقد غدروا بها فيما بعد. فالعقد حتما ليس موالاة، ولكن لنفترض أن رجلا كان يتظاهر بالإسلام، وكانت عواطفه مع اليهود، ويتمنى أن يتغلب اليهود على المسلمين، وهو شريكهم في غدرهم وينقل لهم أسرار المسلمين. إنّ فعل هذا الرجل هو الولاء المحرّم، أمّا عقد الجماعة الإسلامية متمثلا بقيادتها فهذا جائز، إذا كانت مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، سواء كانت عقودا على الأرض الإسلامية أو خارجها وسيأتينا نصوص ذلك في سور الأنفال وبراءة والنمل والقتال. إن العقد من قبل الجماعة شئ، والولاء شئ آخر، فنحن إن عاقدنا الكافرين عقدا أملاه علينا موقف، فإن هذا لا يعني أنّنا واليناهم، إن الجماعة الإسلامية قبل الحكم وبعد الحكم لا بدّ أن توضّح موقفها من المواطنين غير المسلمين الذين يعيشون على الأرض الإسلامية، وقد تجد قبل الحكم وبعد الحكم من يقبل التعامل على الأسس التي قدمتها جماعة المسلمين لا إيمانا منهم بالإسلام ولا رضى بالإسلام وعن المسلمين، ولكن قد يفعلون هذا تعقلا وحفاظا على المصالح. إن فعل الجماعة هذا لا يعتبر ولاء لأنّ هذا باب فتحه الإسلام لنا في تحركنا السياسي أو العسكري. - إنّه بعد قيام الدولة ليس أمامنا خيار إلّا أن نضع الأطر الحاكمة لكل قضية على أرضنا، ومن ذلك الضوابط التي تضبط علاقات المواطنة مع غير المسلمين، إنّ مثل
نقل في محبة الله
هذا ليس داخلا في قضية الولاء. - إن الولاء الخاطئ هو إعطاء النصرة والطاعة للكافرين، وللقيادات الكافرة، وأن تكون العواطف معهم في صراعهم مع المسلمين. أما تصرفات القيادة الراشدة، وتعاقدات الجماعة الراشدة، مع غير المسلمين. على ضوء الإسلام وعلى حسب مصلحة المسلمين فهذا شئ آخر يخضع لمبدأ الفتوى البصيرة من أهلها. نقل في محبة الله: بمناسبة قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يقول صاحب الظلال: «وحب الله لعبد من عبيده، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله- سبحانه- بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها .. أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي .. الذي يعرف من هو الله .. من هو صانع هذا الكون الهائل، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير! من هو في عظمته. ومن هو في قدرته. ومن هو في تفرده. ومن هو في ملكوته .. من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب .. والعبد من صنع يديه- سبحانه- وهو الجليل العظيم، الحي الدائم، الأزلي الأبدي، الأول والآخر والظاهر والباطن. وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها .. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما، وفضلا غامرا جزيلا، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه .. هو إنعام هائل عظيم .. وفضل غامر جزيل. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين .. وهذا هو الباب الذي تفوّق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين، وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل .... وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد، والحب من العبد للمنعم المتفضل، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض، وينطبع في كل حي وفي كل شئ، فإذا
هو جو وظل يغمران هذا الوجود، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب .. والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب .. وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة .. إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا .. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ .. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ .. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ .. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... وغيرها كثير ... وعجبا لقوم يمرون على هذا كله، ليقولوا: إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف، يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع ... لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله. فيربط بين الله والناس، في هذا الازدواج! إن نصاعة التصور الإسلامي، في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لا تجفف ذلك الندى الحبيب، بين الله والعبيد، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد، وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزيه .. إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين». ***
المقطع السادس يمتد هذا المقطع من الآية (67) إلى نهاية الآية (86) وهذا هو
المقطع السادس يمتدّ هذا المقطع من الآية (67) إلى نهاية الآية (86) وهذا هو: 5/ 72 - 67
5/ 82 - 73
كلمة في السياق
5/ 86 - 83 كلمة في السياق: مرّ معنا قبل هذا المقطع خمسة مقاطع، وقلنا إن الثلاثة المقاطع الأولى تشكل القسم الأول، ثم جاء مقطعان فشكلا القسم الثاني، وبعد ذلك يأتي المقطعان السادس والسابع فيشكلان القسم الثالث في السورة ثمّ تأتي الخاتمة. فالسورة ثلاثة أقسام وخاتمة وفي كل قسم من هذه الأقسام نجد جولة متكاملة نعرف بها طريق هداية وطريق ضلال، ولذلك ارتباطه الكبير بمحور السورة: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فى الجولة الأولى نجد: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. ونجد يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. وفي الجولة الثانية نجد: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وفي الجولة الثالثة نجد: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. فالأقسام الثلاثة تتكامل في تبيان طريق الضلال وطريق الهداية، وتوضح قضية الفسوق والخسران، وأركان الفسوق الثلاثة: نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وكل ذلك رأينا أمثلته فيما مرّ، وسنرى ما يؤكده ويعمّقه ويفصّله. وهاهنا آن الأوان لنقول شيئا:
كلمة في المقطع
إنّ سورة المائدة في محورها الرئيسي تبيّن الطريق الذى إن سلكه إنسان فإنه لا يستحق هداية الله، ويأتي في معرض ذلك ذكر الطريق الذي إذا سلكه إنسان يستحق هداية الله، بينما كان السياق الرئيسي في سورة النساء تبيان الطريق إلى التقوى ويأتي في معرض ذلك ما يتنافى مع التقوى. لاحظ أنّ الأقسام الثلاثة في سورة المائدة تتكامل من حيثيّات متعدّدة، ومن جملة مظاهر هذا التكامل: أن القسم الأوّل وهو يذكر في سياقه الرئيسي ما به يستحق الإنسان الإضلال يوصل إلى القسم الثاني الذي يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ففيه تعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن والسورة تفصّل في الطريق الذي يستحق به صاحبه الضّلال، لا تترك قضية البلاغ بناء على أن إنسانا ما سار في مثل هذه الطرق وبالتالي فلا علينا ألا نبلغه، ولذلك فإن القسم الثالث يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وسنرى مظاهر أخرى من التكامل في السّورة مما يشعرنا بوحدة سياقها زيادة على تفصيلها لمحورها. وبعد أن عرفنا أن القسم الثالث في السورة يتألف من مقطعين هما المقطع السادس والسابع فلنبدأ الكلام عن المقطع السادس الذي ذكرنا آياته قبل هذه الكلمة: كلمة في المقطع: بعد أن أكّد القسم الثاني في مقطعيه الرابع والخامس ضرورة الاحتكام إلى ما أنزل الله، وأوجب الاحتكام إلى القرآن، وبين آثار بركة ذلك على الحياة، يأتي هذا المقطع آمرا بالبلاغ، وخاصا بهذا البلاغ أهل الكتاب، ومحدّدا ما يقال لهم، ثم ذاكرا قاعدة النّجاة عند الله- عزّ وجل-، وفي هذا السياق يذكر المقطع موقف بني إسرائيل من الرّسل، عليهم الصلاة والسلام، وهو موقف لا يستغرب معه موقفهم من محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعوته، ثم ذكر المقطع بعض تصوراتهم الخاطئة في شأن الله، وانتقل الكلام إلى كفر النصارى، ومناقشتهم في هذا الكفر، ودعوتهم إلى التوحيد، وترك الغلوّ، وترك متابعة أهواء الضالين، ولذلك كله صلة بالبلاغ الذي أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بداية المقطع. ثم يقرّر الله- عزّ وجل- مسألة استحقاق اليهود لعنة الله، وأسباب ذلك، كما يقرّر شدة عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين، مستثنيا من العداوة الذين استجابوا للبلاغ من النصارى. فالمقطع كله في البلاغ وماهيّته، وخاصة لأهل الكتاب. وفيه
تيئيس من اليهود، ورجاء في النصارى، وقد جاء هذا كله في السياق الخاص للسورة. بعد المقطع الذي ذكر الله- عزّ وجل- فيه التوراة والإنجيل، وموقف أهلهما منهما، فكأن السياق اقتضى أن يخص هؤلاء بمقطع ودعوة خاصة، وقد سبق ذلك بيان انصبّ على أنّ علينا أن لا نتولاهم، وسبق ذلك أيضا كلام بيّن لنا فيه نسيان هؤلاء للعهود والعقود: ولنتأمل الآن الصلة بين المقطع، وبين محور السورة من سورة البقرة: لقد قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. لاحظ أن الآية الأولى في المقطع الذي مرّ معنا نجد قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لاحظ الصلة بين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وبين وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وفي الآية الثانية من المقطع نجد قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً لاحظ صلة ذلك في المحور بقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. وفي الآية الرابعة من المقطع نجد قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وفي الآية (79) والآية (80) في المقطع نجد تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فهؤلاء يصلون ما أمر الله به أن يقطع، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لذلك يأتي بعد الآيتين السابقتين قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ..... وبينما يعرض الله- عزّ وجل- علينا نموذج ناس هذا شأنهم في موقفهم من الكتاب يختم المقطع بعرضه نموذجا ممّن يهديهم الله بهذا القرآن وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ... لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. فالمقطع يفصّل في الفسوق الذي يستحق أصحابه الإضلال، وما يقابله مما ينال به أهله الهداية، مما هو تفصيل لمحور السورة من سورة البقرة، ولكنه تفصيل ليس على طريقة البشر، ولا يستطيعه البشر، وهذا كله ضمن السياق الخاص للسورة وبهذا ينتهي المقطع الأول من القسم الثاني ليبدأ المقطع الثاني من هذا القسم الذي يتوجّه فيه الخطاب لأهل الإيمان، فإذا كان البلاغ لا يؤثر في بعض الناس فإن أهل الإيمان موجودون ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم فيتكرّر في المقطع الثاني من القسم النّداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... * مرات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... وسنرى أنّ كل نداء من هذه النداءات يحرّر المسلم من خلق يستحق به صاحبه الإضلال؛ لأن الوقوع فيه فسوق، وسنرى أن هذا القسم بمقطعيه هو تفصيل لما مرّ معنا من قبل في السورة، ممّا يؤكد وحدة سياق السّورة، كما يؤكد ارتباطها بمحورها من سورة البقرة. ولنبدأ عرض المعنى العام للمقطع الأول من القسم الثالث للسورة وهو المقطع السادس فيها إذا اعتبرنا أن الوحدة العددية للسورة هى المقطع.
المعنى العام
المعنى العام: يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بصفة الرسالة، آمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصّلاة والسلام ذلك، وقام به أتمّ القيام، ثم بين الله له أنه إن لم يؤد إلى الناس ما أرسله الله به لم يبلغ رسالته، فهو إن كتم آية واحدة ممّا أنزله الله إليه لم يبلّغ رسالته، ثمّ وعده الله- عزّ وجل- أن بلّغ رسالتي، وأني حافظك وناصرك ومؤيّدك على أعدائك ومظفرك بهم. فلا تخف ولا تحزن فلن يسلّط عليك أحد ليقتلك. وقد كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول هذه الآية يحرس، فلمّا نزل الوعد ترك الحراسة، ثم بيّن له أنّ عليه أن يبلّغ وعلى الله الهداية، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ومن سنته أنه لا يهدي الذين يختارون طريق الكفر، وفي سياق الأمر بتبليغ الرسالة يأمره أن يقول لأهل الكتاب إنهم ليسوا على شئ من الدين حتى يقيموا التوراة والإنجيل، بأن يؤمنوا بجميع ما بأيديهم من الكتب المنزّلة من الله على الأنبياء، ويعملوا بما فيها، ومما فيها الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والأمر باتّباعه والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته ثم بيّن تعالى أن كثيرا منهم لا يزداد إلا طغيانا وكفرا، مع كل ما في الوحي الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من حجج وبينات. ثمّ نهى الله- عزّ وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحزن عليهم، ثمّ بيّن تعالى أن المسلمين، أو اليهود الذين أسلموا، أو النصارى الذين أسلموا، أو الصابئة الذين أسلموا، ممن آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحا، مأجورون عند الله، ناجون عنده، بموافقتهم للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثّقلين. فمن اتّصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وأما قبل بعثة رسولنا صلّى الله عليه وسلّم فإنهم ينجون إذا قاموا بما كلّفوا به، من الإيمان والعمل الصالح، وفي هذا السياق- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- بيّن الله- عزّ وجل- أنّه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السّمع والطاعة لله ولرسله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتّبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدّموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه. وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتّب، وهو أنهم عموا عن الحق، وصمّوا فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه، ثمّ تاب الله عليهم مما كانوا فيه، فعادوا إلى العمى والصّمم إلا قليلا، والله مطّلع عليهم، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم. وفي هذا السياق- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- يقرّر الله
كفر من زعم أنّ المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزّه علوا كبيرا، مع أنّ المسيح عليه السلام دعاهم لعبادة الله وحده، وبيّن لهم أنّ من أشرك بالله فقد أوجب له النّار وحرّم عليه الجنّة، وأنّه ما له عند الله ناصر، ولا معين، ولا منقذ مما هو فيه. ثمّ قرّر الله- عزّ وجل- كفر القائلين بالتثليث، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فما من إله إلا إله واحد ليس متعددا بل هو واحد لا شريك له، إله جميع الكائنات، وسائر الموجودات، ثمّ قال تعالى متوعدا لهم ومتهدّدا، بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا الافتراء والكذب ليصيبنّهم العذاب الأليم في الآخرة من الأغلال والنّكال. ثمّ دعاهم الله- عزّ وجل- إلى التوبة والاستغفار، ووعدهم الغفران وهذا من كرمه وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء، والكذب، والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكلّ من تاب إليه تاب عليه. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- حقيقة المسيح وأنه ليس إلا رسولا له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدّمين عليه، وأنّه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، وأمّه مؤمنة به، مصدّقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فهي لم تصل إلى درجة النّبوة لأنه لم تكن نبية قطّ أنثى، وأنّ المسيح وأمّه كانا يأكلان الطعام فهما يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، والافتقار دليل العبودية، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة. عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وفي هذا السياق،- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن ينكر عليهم عبادتهم من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، مع أن الله وحده هو السّميع العليم. السّميع لأقوال عباده، العليم بكلّ شئ، فكيف يعدل عنه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا، ولا يملك ضرا ولا نفعا لغيره ولا نفسه. ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن ينهى أهل الكتاب عن مجاوزة الحدّ في إطراء من أمروا بتعظيمه، حيث بالغوا فيه حتى أخرجوه عن حيّز النّبوة إلى مقام الإلهية كما صنعوا في المسيح، وما ذاك إلا لاقتدائهم بشيوخهم، شيوخ الضلال، ممّن ضلّ قديما وأضلّ، وخرج عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضّلال، ثم قرّر تعالى أنّه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود نبيّه عليه السلام، وعلى لسان عيسى بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه، وبسبب أنّهم كانوا لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمّهم على ذلك ليحذّرنا أن نرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم بيّن تعالى أن كثيرا منهم يوالون الكافرين ويتركون موالاة المؤمنين وتلك أعقبتهم نفاقا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم
ملاحظات في السياق
سخطا مستمرا إلى يوم معادهم. وقضى الله لهم بالعذاب الأبدي يوم القيامة. ثم بيّن تعالى أنهم لو كانوا مؤمنين حق الإيمان بالله والرسول والقرآن، لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنّبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل إليه، ولكن كثيرا منهم فاسقون، خارجون عن طاعة الله ورسوله، مخالفون لآيات وحيه وتنزيله. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- أنّ أشدّ أنواع العداء لأهل الإيمان عداء اليهود والمشركين، وما ذاك إلا لأنّ كفر اليهود والمشركين كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس، وتنقّص لحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى همّوا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرّة، وسمّوه وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. على عكس النّصارى الذين زعموا أنّهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فإنّ فيهم مودّة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلّا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرّقة والرّأفة وبسبب وجود علماء وعباد فيهم، وبسبب اتصافهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وأن من صفاتهم أنهم إذا سمعوا القرآن بكوا؛ بسبب معرفتهم أنّ هذا هو الحقّ الذي بشّر به عيسى عليه السلام، ويعلنون إذا سمعوا الحق إيمانهم، ويطلبون من الله أن يدخلهم في أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. هؤلاء يجازيهم الله على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون، وهذا جزاؤهم بسبب اتّباعهم الحق، وانقيادهم له، حيث كان وأين كان، ومع من كان. ثم أخبر عن حال الأشقياء الذين يجحدون آيات الله ويخالفونها، بأنّهم أهل النار والداخلون فيها. وكثير من الناس يفهمون الآيات الأخيرة من هذا المقطع فهما خاطئا. والشئ الذي ينبغي أن نفهمه بإجمال هو أن اليهود والمشركين أشدّ الناس عداء لنا، وأن النصارى فيهم استعداد من حيث الأصل للإيمان بديننا وشريعتنا ورسولنا. ومن ثم فهم مظنّة أن يوجد فيهم خير، وقبول للحق، ولكن لا يعني هذا أن الجميع يقبلون الحق إذا عرض عليهم، فمن قبل الحق فقد حقّق ظنّنا ودخل الجنة، ومن رفض الحق فحكمه حكم اليهود والمشركين: ملاحظات في السّياق: 1 - جاء في القسم الأول من المقطع الثاني من السورة قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وجاء في ذلك السّياق قوله تعالى:
المعنى الحرفي
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وفي هذا المقطع الذي هو بداية القسم الثالث يأتي قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ويأتي قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ هناك جاء التكفير في سياق نقض العهد الآتي في سياق الوفاء بالعقود وهاهنا يأتي التكفير في سياق نقض العهد الآتي في سياق الأمر بالتبليغ وهي ملاحظة أولى نسجلها هنا لنعرف صلة هذا القسم بما قبله. 2 - انتهى القسم الثاني من السورة بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ والآية الثانية في هذا القسم الآتية في معرض الأمر بالتبليغ هي قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهي كذلك ملاحظة نسجلها لتعلم الصلة المباشرة بين بداية القسم الذي نحن فيه ونهاية القسم السابق وستأتيك تفصيلات أخرى. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي: بلّغ جميع ما أنزل إليك وأيّ شئ أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. أي: وإن لم تبلّغ جميعه كما أمرتك، فلم تبلّغ إذا ما كلفت به من أداء الرّسالة، ولم تؤد منها شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أنّ من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لكونها في حكم شئ واحد، لدخولها تحت خطاب واحد، والشئ الواحد لا يكون مبلّغا غير مبلّغ مؤمنا به غير مؤمن وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. أي: يحفظك منهم أن يقتلوك، والنّاس هنا الكفار بدليل ما بعده إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أي: لا يعطيهم الهداية لعدم اختيارهم لها وأخذهم بأسبابها، ومن ذلك عدم هدايتهم لما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وفي هذا السّياق- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- تصدر له ثلاثة أوامر مصدّرة بلفظ «قل» الأول منها بعد هذه الآية مباشرة، واثنان منها في وسط المقطع. والأمر بالتبليغ في هذا
ملاحظات حول السياق
المقطع مع بيان عدم هداية الكافرين والفاسقين، وذكر خصائص من يستحق الهداية في آخر المقطع. ووصف اليهود والنصارى بما ينفّر منهم، كل ذلك ينسجم مع كون هذا المقطع امتدادا للمقطع السابق من حيث إنه ينفي أن تكون لليهود والنصارى ولاية للمؤمنين مع ما هم عليه، وينسجم مع المحور العام للسورة الذي يتحدّث عن من يستحق الهداية، ومن يستحق الضلال، وتفصيل لصفات هؤلاء وهؤلاء. ملاحظات حول السّياق: الأمر الأوّل المصدّر بقوله تعالى قُلْ في هذا المقطع هو: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ .. الأمر الثاني هو: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً الأمر الثالث هو: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا ... إنّ هذه الأوامر في هذا المقطع آتية في سياق الأمر بالتبليغ، وستأتي نداءات لأهل الإيمان في سياق هذا القسم المبدوء بالأمر بالتبليغ، ممّا يشعرنا بأهمية هذه الأوامر، وأهمية هذه النّداءات في قضية محدّدة هي قضية التبليغ. وواضح من السّياق أن هذا القسم المبدوء بالأمر بالتبليغ يتألف من مقطعين: المقطع الأوّل ينصبّ على تبليغ أهل الكتاب، والمقطع الثاني ينصبّ على تبليغ أهل الإيمان. والوارث الكامل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه أن يلاحظ في الدعوة هذا وهذا، فيركّز في دعوته لأهل الكتاب، على ضرورة إقامة التوراة والإنجيل اللذين فيهما الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ويقيم الحجة على ذلك من خلال نصوص التوراة والإنجيل، ويركّز على قضية عبادة غير الله، ويركز على قضية الغلوّ في الدين، واتّباع أهواء الضالّين من أمثال بولس، الذي ضلّ عن تعاليم المسيح وعن إنجيله بدعوى الصّلة المباشرة بالسيد المسيح عليه السلام، تاركا هديه الذي نقله تلاميذه المباشرون، كما يركّز الداعية إلى الله على مجموع النداءات التي توجهت لأهل الإيمان في هذا القسم، من عدم تحريم الحلال إلى ترك الخمر والميسر، إلى غير ذلك. فوائد: 1 - [رد على فهم خاطئ لقوله تعالى ... وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ .. ] في قوله تعالى: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ
2 - معجزة غيبية في قوله تعالى ... والله يعصمك من الناس ..
رِسالَتَهُ يردّ النسفي على اعتراض، قال: قالت الملحدة لعنهم الله تعالى: هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك: كل هذا الطعام، فإن لم تأكله فإنك ما أكلته. قلنا: هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل، فإن لم تفعل: أي إن لم تبلّغ الرّسالة في المستقبل فكأنّك لم تبلّغ الرّسالة أصلا. أو بلّغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدّة، فإن لم تبلّغ كنت كمن لم يبلّغ أصلا. أو بلّغ ذلك غير خائف أحدا، فإن لم تبلّغ على هذا الوصف فكأنّك لم تبلغ الرسالة أصلا. 2 - [معجزة غيبية في قوله تعالى ... وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. ] في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ معجزة غيبية. إذ هي وعد من الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يسلّط عليه من يقتله مع كثرة دواعي القتل من كثرة الخصوم وشراستهم. وقد كان ذلك، وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفاة. ومن درس كثرة المؤامرات عليه صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وغير قريش واليهود، وسلامته عليه الصلاة والسلام مع هذا كله أدرك كمال المعجزة. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرس ويحب أن يحرس حتى نزلت هذه الآية، فترك الحراسة. في الصحيحين وعند الإمام أحمد أنّ عائشة رضي الله عنها كانت تحدّث «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا أنا على ذلك، إذ سمعت صوت السّلاح فقال: «من هذا؟»، فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نومه». وروى ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قالت: فأخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسه من القبّة، وقال: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عزّ وجل» وهكذا رواه الترمذي. وروى ابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالليل حتى نزلت: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فترك الحرس. ومن تتبع حوادث السيرة، عرف كثرة المؤامرات عليه في أمّة كان الفتك والثأر خليقة من أخلاقها. ومن ذلك قصة غورث بن الحارث المشهورة في الصحيح، وهي كما رواها ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «كنا إذا صحبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلّق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
[سورة النساء (4): آية 68]
«الله يمنعني منك، ضع السيف» فوضعه، فأنزل الله- عزّ وجل-: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ومن ذلك ما رواه جعدة بن خالد بن الصمة الجشميّ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأى رجلا سمينا، فجعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم يومئ إلى بطنه بيده، ويقول: «لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك». قال: وأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي». قال ابن كثير تعليقا على هذا النّص: «ومن عصمة الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم حفظه له من أهل مكّة وصناديدها وحسّادها ومعانديها ومترفيها، مع شدّة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرّسالة بعمّه أبي طالب، إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش، وخلق الله في قلبه محبّة طبيعيّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا شرعيّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفّارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر؛ هابوه واحترموه، فلما مات عمّه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا، ثم قيّض الله له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحوّل إلى دارهم- وهي المدينة- فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود، وكلمّا همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله وردّ كيده عليه، لما كاده اليهود بالسّحر فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوّذتين دواء لذلك الداء. ولمّا سمّ اليهود ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله وحماه منه، ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها.» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: لستم على دين يعتدّ به حتى يسمّى شيئا لبطلانه حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بالإيمان بكل ما فيهما، والعمل بكل ما فيهما، ومن ذلك الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم واتّباعه وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. أي: القرآن وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. أي: سيزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود، وكفرا بآيات الله فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي: فلا تتأسّف عليهم، فإنّ ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا. وهم المسلمون وَالَّذِينَ هادُوا وهم حملة التوراة وَالصَّابِئُونَ قال أبو الزناد هم قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيّين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. أقول: ولا زال في العراق ناس يسمّون صابئة وَالنَّصارى. أي:
[سورة النساء (4): آية 70]
حملة الإنجيل مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أي: فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما خلفوه وراء ظهورهم. والمعنى: أنه من كان مسلما أو يهوديا في الأصل، أو نصرانيا أو صابئيا، قبل منه إسلامه، المتضمن للإيمان والعمل الصالح، وكوفئ. والمعنى: أن ما كان عليه الإنسان من قبل لا يضرّه إذا آمن وعمل صالحا بدخوله في الإسلام. أو المعنى: أن مسلمي هذه الأمّة، واليهود السابقين على عيسى، والنّصارى التابعين الحقيقيين لعيسى، والصابئين في حالة إيمانهم، وعملهم الصالح، الجميع من أهل الجنّة، وأهمّ شئ علينا أن نعرفه أنّ الإجماع منعقد على أنه لا يهودي ولا نصراني ولا صابئي بلغته دعوة رسولنا ثمّ لم يسلم إلا كان من أصحاب النار بعد ما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويلاحظ أن كلمة «الصابئون» في الآية مرفوعة، وما قبلها منصوب، والتقدير: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون كذلك» قال ابن كثير: «لما طال الفصل حسن العطف بالرّفع». قال النسفي: «وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالا، وأشدّهم غيّا يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان فما الظّنّ بغيرهم». لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: بالتوحيد وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا من أجل أن يوقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم، ويضادّ شهواتهم من ميثاق التّكليف والعمل بالشرائع فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ كأنّه قيل: كيف فعلوا برسلهم؟ فكان الجواب كلّما جاءهم رسول منهم ناصبوه إمّا بالتّكذيب وإمّا بالقتل وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ. أي: بلاء وعذاب أي: وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل، وقد ضمّن كلمة حسبوا معنى العلم لقوّته في صدورهم، ولذا دخل فعل الحسبان على (أن) التي يدخل عليها الفعل علم فَعَمُوا وَصَمُّوا. أي: فعموا عن الرشد، وصمّوا عن الوعظ، أو المعنى فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأن رزقهم التوبة ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي: صمّ كثير منهم وعمي كثير منهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. أي: فيجازيهم بحسب أعمالهم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ لم يفرّق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنّه عبد مربوب ليكون حجّة على النّصارى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ. أي: في عبادته غير الله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحّدين أي: حرمه دخولها
[سورة النساء (4): آية 73]
ومنعه منه وَمَأْواهُ النَّارُ. أي: ومرجعه إليها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. أي: وما للكافرين من معين ولا ناصر ولا منقذ مما هم فيه، وهو من كلام الله أو من كلام عيسى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. أي: وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له، وهو الله وحده لا شريك له وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من الافتراء والكذب والكفر لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ قال منهم لأن بعضهم يسلمون أو أسلموا عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: نوع شديد الألم من العذاب أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ. أي: ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر، وهذا الوعيد الشديد عما هم عليه، وفيه تعجيب من إصرارهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ هذا نفي للألوهية عنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أي: إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى، لم يكن منه، لأنه ليس إلها، بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده، كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى، وخلقه من غير ذكر، كخلق آدم من غير ذكر وأنثى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه أيضا إلا كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ هذا إبعاد لهما عما نسب إليهما من معاني الألوهية، لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنّقض، لم يكن إلا جسما مركّبا من لحم وعظم وعروق وأعصاب، وغير ذلك مما يدلّ على أنّه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ. أي: الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. أي: كيف يصرفون عن استماع الحقّ وتأمّله بعد هذا البيان. وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. أي: أتعبدون عيسى! وهو لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّكم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحّة الأبدان والسّعة والخصب، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئا، وهذا دليل قاطع على أنّ أمره مناف للربوبيّة حيث جعله لا يستطيع ضرّا ولا نفعا، وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شئ لا يخرج مقدور عن قدرته وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أي: أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه، ويعلم ما تعتقدونه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي
[سورة النساء (4): آية 78]
دِينِكُمْ الغلوّ: مجاوزة الحد، فغلوّ النّصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية عندهم، وغلوّ اليهود وضعه عن استحقاق النّبوة غَيْرَ الْحَقِّ. أي: غلوا غير الحق يعني غلوّا باطلا وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ المراد بهم الأسلاف والأئمّة الذين كانوا على الضّلال قبل مبعث النّبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَضَلُّوا كَثِيراً. أي: من تابعهم وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ حين كذّبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحسدوه وبغوا عليه لمّا بعث لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. أي: ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم. ثمّ فسر المعصية والاعتداء بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح فعلوه، والمراد أنّهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرّون عليه، ثم عجّب من سوء فعلهم مؤكدا ذلك بالقسم فقال: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال النسفي: وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم. فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: يوالون المشركين ويصافونهم لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. أي: لبئس شيئا قدّموه لأنفسهم سخط الله عليهم، أي: موجب سخط الله وَفِي الْعَذابِ. أي: في جهنم هُمْ خالِدُونَ أي ماكثون أبدا وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا خالصا بلا نفاق وَالنَّبِيِّ. أي: محمد صلّى الله عليه وسلّم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ. أي: القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ. أي: ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أنّ موالاة المشركين تدلّ على نفاقهم وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ. أي مستمرون في كفرهم ونفاقهم، ويمكن أن يكون المعنى: ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التّوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون، ولكن كثيرا منهم فاسقون: خارجون عن دينهم، فلا دين لهم أصلا لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وصف اليهود بشدّة الشّكيمة، والنّصارى بلين العريكة. وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، ونبّه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين، ثمّ علّل للين النصارى بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً. أي: علماء وعبادا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. أي: علّل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بأن منهم
[سورة النساء (4): آية 83]
قسّيسين ورهبانا، وأن فيهم تواضعا واستكانة، واليهود على خلاف ذلك. قال النّسفى: وفيه دليل على أن العلم أنفع شئ وأهداه إلى الخير، وإن كان علم القسّيسين، وكذلك علم الآخرة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ وصفهم برقّة القلوب، وأنهّم يبكون عند استماع القرآن. ومعنى تفيض من الدمع: أي تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، أو أن أعينهم جعلت كأنها تفيض بنفسها من أجل البكاء. وفي قوله تعالى (مِنَ الْحَقِّ) إن أريد ب (من) التبعيض يكون المعنى عرفوا بعض الحق فأبكاهم، فكيف إذا عرفوه كله، فقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنّة يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا. أي: بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة، قالوا ذلك لمعرفتهم وصف هذه الأمّة بذلك وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا. أي: وبما جاءنا مِنَ الْحَقِّ. أي: محمدا عليه الصلاة والسلام والقرآن وفي استفهامهم هذا معنى الإنكار والاستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى على لسانهم وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ والتقدير ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا. أي: بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ قال النسفي: فيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان، وحتى لا يفهم فاهم أن هذا الثناء على النصارى جميعا عقّب فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذا أثر الرّدّ في حق الأعداء، والأوّل أثر القبول للأولياء، فالثناء على نصارى من نوع خاص اجتمعت لهم صفات، منها قبول الإسلام، وهذا شئ يجب أن يضعه الدعاة إلى الله نصب أعينهم. ملاحظات في السّياق: 1 - لقد تحدّث القسم الأوّل من سورة المائدة عن الفسوق والخسران، ونقض العهد والإفساد في الأرض، وأسباب الهداية والضلال، ثمّ جاء القسم الثاني فعمّق في موضوع الهداية والضلال، وموضوع الفسوق والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ثمّ جاء القسم الثالث في مقطعيه آمرا بالتبليغ بانيا على ما مرّ من قبل في السورة محرّرا من
أسباب الضلال، معمّقا أسباب الهداية. فالصلة بين هذا القسم وبين ما مرّ من السورة واضحة جدا. ألا ترى أن القسم الأول في السورة قد وجد في آياته الأولى قوله تعالى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وقوله تعالى قبل ذلك أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ثم بعد ذلك قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... وسيأتي في هذا القسم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنه بعد أن وضعت القواعد التوضيحية لكثير من الأمور في القسمين الأول والثاني، يأتي القسم الثالث في مقطعيه ليدعو وينذر ويربي في سياق الأمر بالتبليغ. 2 - ومع أنّ القسم الثالث بنى على القسمين الأول والثاني اللذين وضّحا الكثير ممّا له علاقة بالمحور فهو واضح الارتباط بالمحور كذلك ففيه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ومن تذكر آيتي المحور في سورة البقرة وضحت لديه الصلة. 3 - لقد جاء في أواخر المقطع الأول من القسم الأول: قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وجاء في أوّل المقطع الثاني من القسم الأول وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وذكر هناك عقوبة نقضهم للميثاق فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وفي المقطع الأول من القسم الثالث وهو المقطع الذي مرّ معنا: جاء قوله تعالى لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ... ثمّ بيّن موقفهم من الرّسل وبيّن أنهم في فعلهم هذا كانوا يظنون ألا يفتنهم الله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وقد ختم المقطع بقوله تعالى فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وكل ذلك يؤكّد أن القسم الثالث مرتبط بالقسمين الأولين، وأنّ سياقه يكمّل سياقهما فبعد تقرير القواعد يأتي الأمر بالتبليغ وفي سياق التبليغ يأتي تفصيل لكثير من الأمور التي مرّت من قبل وسيأتي مزيد بيان.
فوائد
فوائد: 1 - [لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة أو مؤمنة] في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث مناديا ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وفي لفظ مؤمنة. 2 - [كلام عن نبوة النساء] ذهب ابن حزم وآخرون إلى نبوّة سارة أم إسحاق، ونبوّة أمّ موسى وأم عيسى، استدلالا لهم بخطاب الملائكة لهنّ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال. قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... (يوسف: 109) وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك، وقد رأينا من قبل أنّ بعضهم جعل هذه الآية في الرّسالة، فهي وحدها التي لم تكن لأنثى، أما النبوّة فجوّزها ورأينا هناك ردّ ذلك. 3 - [آثار هامة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] بمناسبة قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ننقل هذه الأحاديث التي أوردها ابن كثير في هذا المقام: روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم». قال يزيد: وأحسبه قال: «وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متكئا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا». وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض- ثم قال- لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قوله فاسِقُونَ ثم قال: كلا والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرا، أو تقصرنّه على الحق قصرا» وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه، فلمّا رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيّهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي
نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد المسئ، ولتأطرنّه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم». وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم». وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وروى الإمام أحمد عن عديّ بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامّة والخاصّة». وروى أبو داود عن العرس بن عميرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها- وقال مرة: فأنكرها- كان كمن غاب عنها- ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها». وروى أبو داود عن رجل من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا أو: يعذروا من أنفسهم». وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فكان فيما قال: «ألا لا يمنعنّ رجلا هيبة النّاس أن يقول الحق إذا علمه» قال. فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا» وروى أبو داود عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل عند الجمرة الأولى فقال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز ليركب قال: «أين السائل؟» قال: أنا يا رسول الله، قال: «كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر». وروى ابن ماجه أيضا عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحقر أحدكم نفسه». قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: «يرى أمرا لله فيه مقال ثم لا يقول فيه. فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا: كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى». وروى ابن ماجه أيضا عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدا حجّته قال: يا رب رجوتك وفرقت من النّاس». وروى الإمام أحمد عن حذيفة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذلّ نفسه» قيل:
4 - آثار في سبب نزول الآيات (82 - 84)
وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء ما لا يطيق». وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا، قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رُذالكم» قال زيد: تفسير معنى قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: والعلم في رذالكم: إذا كان العلم في الفساق. أقول: إنّ علينا أن نعتاد على الإحسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الصالحة لا بد أن تترك أثرا. 4 - [آثار في سبب نزول الآيات (82 - 84)] وفي الآيات الأخيرة من المقطع أي لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ... قال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشيّ إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ عليهم القرآن، أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النّجاشي فأخبروه. وروى الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... قال إنهم كانوا كرّابين (يعني فلاحين) قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة فلما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم، فقالوا: لن ننتقل عن ديننا. فأنزل الله ذلك من قولهم وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ... واختار ابن جرير أن هذه الآيات كلها نزلت في صفات أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو من غيرها. 5 - [رد على قول فرقة الكرامية بأن الإيمان مجرد القول] تعلّقت الكرّاميّة- وهي فرقة ضالة- بقوله تعالى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ .... في أن الايمان مجرد القول. ورد النّسفي عليهم فقال: لكن الثناء بفيض الدمع من السباق، وبالإحسان في السياق، يدفع ذلك، وأنّى يكون مجرد القول إيمانا، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة: 8) نفى الإيمان عنهم مع قولهم آمنا بالله لعدم التصديق بالقلب. وقال: أهل المعرفة الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدّعاء على العطاء، والرّضا بالقضاء. فمن ادّعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه. كلمة في السياق: قلنا إن هذا المقطع الذي هو الأول في قسمه هو امتداد للمقطع السابق عليه، إذ يؤكد ويوضح ويعمّق ضرورة عدم الولاء لليهود والنصارى لما هم عليه، فارتباطه من هذه
فصول ونقول
الحيثية بالمحور العام للسورة من حيث تعميق وصل ما أمر الله به أن يوصل. وهو ولاء أهل الإيمان ونفي عكسه. وفي هذا المقطع رأينا أسبابا للضلال كالأسباب التي لعنت بها بنو إسرائيل، وأسبابا للهداية. من مثل صفات النصارى المستجيبين للحق، وهذا كذلك مرتبط بمحور السورة، من حيث إنّه بيان لأسباب الضلال وأسباب الهداية، وفي المقطع ذكر للمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل، وموقفهم من ذلك مما استحقوا، به ما استحقوه وفي هذا كذلك ارتباط للمقطع بمحور السورة، فالسّورة كما نرى تسير على منحيين، المنحى الأول: تعميق أسباب الهداية بكتاب الله، والمنحى الثاني: تبيان أسباب الضلال بطريقة من العرض معجزة، قد لا نكون أحسنا في عرضها، لكنّا نرجو أن نكون أفلحنا بالإشارة إليها، فإذا ما وصلت السورة إلى ما وصلت إليه تأتي الآن أوامر متعددة، وتوجيهات متعدّدة، تحوي في آياتها موضوعات متعددة، كلها تصب في السياق العام للسورة ضمن محورها. هذه الأوامر والتوجيهات والنّواهي تشكل المقطع الثاني من القسم الثالث وهو المقطع السابع في السّورة ولا يبقى بعده من السّورة إلا خاتمتها. فصول ونقول: - وقعت طائفتان من طوائف المسلمين في غلط في الفهم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الطائفة الأولى: بعض الصوفية، والطائفة الثانية: بعض الشيعة، أما الصوفية: فقد ذهب بعضهم إلى أن ما كلّف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو التبليغ لبعض المعانى، وهناك معان أخرى مما يصلون إليه بأذواقهم لم تدخل بالتبليغ، وأمّا بعض الطوائف من الشيعة فقد ذهبوا إلى أن الآية نزلت في موضوع تبليغ استحقاق عليّ للخلافة، وأن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قام بذلك يوم غدير خمّ وقد ناقش الألوسي كلّا من هؤلاء وهؤلاء، ونحن ننقل بعض كلامه هنا ومن أراد أن يقرأ كلامه كاملا فليراجع تفسيره: قال في الردّ على بعض المتصوفة: «والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزّل، فقد قال سبحانه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي. وغيره: «ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا
القرآن كل علم، وبيّن لنا فيه كل شئ، ولكن علمنا يقصر عما بيّن لنا في القرآن» وقال الشافعي رضي الله عنه: جميع ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن» ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة. ومثل ابن مسعود. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم. وفترت العزائم. وتضاءل أهل العلم. وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه، وسائر فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه. وقال بعضهم: ما من شئ إلا يمكن استخراجه من القرآن، لمن فهّمه الله تعالى حتى إن البعض استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقّبها- بالتغابن- ليظهر التغابن في فقده، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما إشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية، وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية. وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم، لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه هل عندكم كتاب خصّكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى، أو فهم أعطيه رجل مسلم. أو ما في هذه الصحيفة- وكانت متعلقة بقبضة سيفه- قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل. وفكاك الأسير. ولا يقتل مسلم بكافر. ويفهم منه- كما قال القسطلاني- جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وما عند الصوفية- كله من هذا
القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله وجهه- كما في صحيح البخاري-: حدّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم- أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده. وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن حاتم عن عنترة، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل، فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؟ والله ما ورّثنا رسول الله سوداء في بيضاء» وحمل- وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثّه على علم الأسرار- غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن. وأشراط الساعة. وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكنى عن بعض ذلك ولا يصرّح خوفا على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله تعالى: الرَّحِيمُ إلى آخر ما قال فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار؛ فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادّعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق. فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدّس سرّه في الأجوبة المرضية عن
الفقهاء والصوفية: سمعت سيدي عليا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يرى الحقيقة مؤيدة للشريعة، وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة وإنما هو عينها. وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل، لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا، حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة، وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة. ومما قاله الألوسي في عرضه لرأي بعض الشيعة في الآية ومناقشته لهم: «وزعمت الشيعة أن المراد ب ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه. «وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة. ووضعوا في خلاله كلمات مزورة، ونظموا في ذلك الأشعار. وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم. «وأنت تعلم أنّ أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلّمة لديهم أصلا، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين، لنوضّح الغثّ منه والسمين. «فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في مكان بين مكة والمدينة، عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبيّن فيها فضل علي كرم الله وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والحق مع علي كرم الله وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك. فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال: لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة تعجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف على جنده
الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم. وأخرج عن زينب بنت كعب- وكانت عند أبي سعيد الخدري قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى- أو في سبيل الله تعالى-، ورواه الإمام أحمد، وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تغير، فقال رسول الله: بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوي رجاله كلهم ثقات، وروي بإسناد آخر تفرد به، وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن، ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه. وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال: كنا مع رسول الله في حجة الوداع، فلما أتينا على غدير خم، كسح لرسول الله تحت شجرتين، ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه، وأخذ بيده وأقامه عن يمينه، فقال: أولست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة- وهذا ضعيف- فقد نصوا أن علي بن زيد. وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم، وفي السند أيضا- أبو إسحاق وهو شيعي مردود الرواية.
وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد علي كرم الله وجهه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ثم قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا، وهو حديث منكر جدا، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع. وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري، فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر، أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة. وعن الذهبي أن من كنت مولاه فعلي مولاه متواتر يتيقن أن رسول الله قاله، وأما اللهم وال من والاه، فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح- ولا والله ما نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام. والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحيهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك». أقول: موضوع المفاضلة بين الخلفاء الرّاشدين، أو موضوع كون الخلافة محصورة بعلي رضي الله عنه وبأبنائه قضيتان أدخلهما علماء الشيعة في مباحثهم الأصولية وسيبقى أهل السنة والجماعة مستمرين على تحقيقهم وهو الحق، وسيبقى الشيعة مستمرين على تحقيقهم، ونحن نطالب كل الناس بالإنصاف وقبول التحقيق العلميّ النّزيه، ونطالب في الوقت نفسه ألا يكون لموضوع تاريخي غير عمليّ في مرحلتنا الحاضرة تأثيره على وحدة المسلمين لصالح أعدائهم عامّة. والذي أراه للمستقبل في موضوع الخلافة أن تعطى الحرية لكل اتجاه إسلامي، في تأسيس حزب له على أساس آرائه في هذا الموضوع، وأن يقدّم كل حزب مرشحه للأمة ضمن القواعد المتفق عليها، والأمّة هي التي تختار، ومن اختارته فعلى الجميع أن يبايعوه، وأن يلتزموا بطاعته، مع استمرارهم في الدعوة إلى مرشحهم، أو إلى غيره لمرحلة لاحقة، على حسب اللوائح الدستورية المنبثقة عن الشورى، على ضوء الكتاب والسنة.
فصل: في الصابئين
فصل: في الصابئين: رأينا أثناء تفسير سورة البقرة أن المفسرين مختلفون في المراد بالصابئين هل المراد بذلك كل من صبأ عن دينه المنحرف إلى الحق؟ أو المراد بهم طائفة بعينها نرى بقاياها في العراق؟، وعلى القول الثاني فإننا ننقل هاهنا كلاما للآلوسي لا نعتبره تحقيقا بل نعتبره سردا لأقوال، فلعلّ تحقيقا ما يرجّح شيئا منها، أو ينقضه، يقول الألوسي عن الصابئين: «وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة، وقد تقدم الكلام على ذلك، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث- وكان فيه. وفي بنيه النبوة والدين- وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بابلون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش، واستخلف أنوش ابنه قونان، واستخلف قونان ابنه مهلائيل، واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه، وعلمه جميع العلوم، وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس عليه الصلاة والسلام- ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده، وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى، فأجابوه حتى عمّت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى. والطهارة، والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة، أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به- إلى آخر ما قاله- ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة. وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه: والصابئ بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئ بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان علي الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئ بن ماوي، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه، اه. فصل: في قوله تعالى وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ
نقل وتعليق
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ* وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. إن مجئ آية وَحَسِبُوا بعد الآية السابقة عليها يشعر أن هؤلاء اليهود كانوا يرتكبون ما يرتكبون مع ظنّهم ألا تقع فتنة، وبذلك وصلوا إلى حالة العمى عن الحق والصمم عن كلّ موعظة، فجاءتهم الفتنة بأن سلّط الله عليهم بخت نصّر فقهرهم وأخذهم أسارى إلى بابل في غاية الذّلّ والمهانة حتى رحمهم الله- عزّ وجل- فأنقذهم بعد ذلك وهو قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولكنهم بعد ذلك عادوا إلى العمى والصّمم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فسلّط الله عليهم من سلّط وسيسلط إلى قيام السّاعة، هذا توجيه بعضهم للآية. وإن أمّتنا فيما يبدو تقع أحيانا فيما وقعت فيه يهود، فيفعلون ما يفعلون حسبانا منهم أنهم لن يسلط عليهم أحد، ويستغرقون في الانحراف، حتى تأتيهم الضربة، وما أكثر ما أصبنا بضربات وما أكثر الغفلة والعمى والصّمم. نقل وتعليق: بمناسبة قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قال صاحب الظلال: إنّ كلّ النّصوص القرآنية والنّبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم، مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته مهما وجد فيه من طغيان الحكم، في بعض الأحيان، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان، وهكذا نجد في قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» فهو إمام ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله وبتحكيم شريعته، فالذي لا يحكّم شريعة الله لا يقال له «إمام» إنما يقول الله عنه سبحانه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله، فالمنكر الأكبر فيها والأهمّ، هو المنكر الكبير الأساسي الجذري، هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار، قبل الدّخول في المنكرات الجزئية، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر، وفرع عنه وعرض له. إنه لا جدوى من ضياع الجهد جهد الخيرين الصالحين من الناس .. في مقاومة المنكرات الجزئية، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول، منكر الجرأة على الله وادّعاء خصائص الألوهية، ورفض ألوهية الله يرفض شريعته للحياة، لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك
المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال. على أنّه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم: إن هذا منكر فاجتنبوه؟ أنت تقول: إن هذا منكر فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون: لك كلا! ليس هذا منكرا لقد كان منكرا في الزمان الخالي، والدنيا تتطور، والمجتمع يتقدم، وتختلف الاعتبارات. فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال، ولا بد من قيم معترف بها، نقيس إليها المعروف والمنكر، فمن أين نستمد هذه القيم؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان؟ من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم- وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه! فلا بد ابتداء من إقامة الميزان .. ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء .. هذا الميزان الثابت هو ميزان الله .. فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف- ابتداء- بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ وينكّل بمن يدعوه إلى منهج الله؟ ألا يكون جهدا ضائعا، وعبثا هازلا، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة، تختلف عليها الموازين والقيم، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟! إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم، وعلى ميزان، وعلى سلطان، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء .. لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة. والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة .. وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن، ولتحشد كلها في جبهة واحدة، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان! وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين، ينفقون جهدهم في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في الفروع، بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم، ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقطوع!
فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حراما؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال .. لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟! وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البيّن في الطريق العام. وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله. لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟!. وما غناء أن تنهى الناس عن سبّ الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله؛ ولا يعبد فيه الله. إنما هو يتخذ أربابا من دونه؛ ينزلون له شريعته وقانونه؛ ونظامه وأوضاعه، وقيمه وموازينه. يضعون لهم الشرائع والقوانين؛ ويضعون لهم القيم والموازين؟! ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر- فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر- والكبيرة الكبرى لا نهي عنها .. كبيرة الكفر بالله، برفض منهجه للحياة؟! إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق، مما ينفق فيه هؤلاء «الطيبون» جهدهم وطاقتهم واهتمامهم .. إنه- في هذه المرحلة- ليس أمر تتبع الفرعيات- مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هذه حدود الله. فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه. فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة .. فكل جهد في الفروع ضائع؛ وكل محاولة في الفروع عبث .. والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات .. والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان». وقد يجئ على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقا على الإسلام. وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر- كما يلوح في بادئ الأمر- وتعبير الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته. فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر .. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع
الشرعي الذى يخضع له ويعترف به .. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع «المعروف» في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة .. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير .. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع، ولأن له ضغطا- قد يكون ساحقا- فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان. هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ .. ». أقول: لقد فهم الكثيرون من قرّاء السيد رحمه الله هذا الكلام فهما خاطئا، فأصبحوا ينكرون على من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر في مجتمعاتنا مما أصبح معه من الواجبات وضع الأمور في مواضعها ولذلك نقول: إنّه من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نقدّم الدعوة إلى الأهم على المهمّ ثمّ وثمّ .. فعند ما أرسل صلّى الله عليه وسلّم معاذا إلى اليمن أمره أن يدعو إلى شهادة ألّا إله إلّا الله ... فإن هم أجابوا لذلك فليدعهم إلى الصلاة ... فإن هم أجابوا إلى ذلك فليعلمهم بأمر الزكاة وهكذا ... فليس من السنّة أن تأتي إلى إنسان مرتدّ عن الإسلام فتبدأ بدعوته إلى ترك التختم بالذهب مثلا، وهو لا يعترف بالإسلام أصلا، ولو أنّك فعلت فلست آثما، بل أنت مأجور ولكنّ الأصل أن تدعوه أولا إلى الإيمان، فإذا استجاب؛ فادعه إلى فهم الإسلام والالتزام بكل ما فيه، وليس عليك من حرج في أن تقدّم مهمّا على أهم، ولكن السنة أن تقدّم الأهم على المهمّ، وأن تتساهل ابتداء فيما اختلف فيه العلماء لتنتقل فيما بعد إلى آفاق العزائم، فتعلّم النّاس وتربيهم على أن يأخذوا بالأحوط، مع البيان أنّه أحوط دون الإلزام به وكأنّه أمر مجمع عليه. وأما إذا كان إنسان مسلما ابتداء ولكنّه على جهل فهذا لا عليك أن تبدأ معه البيان على ضوء العلم في الأصول والفروع، وأن تنهاه عن المنكر في الأصول والفروع وأن تأمره بالمعروف أصولا وفروعا. هذا كلّه في حق الفرد كفرد أمّا في الخطاب الجماعي، فالزمان والمكان والأشخاص هي التي تحدّد الموضوع، فإذا كنت تخاطب روّاد المساجد فلا عليك أن تتحدث عن كل شئ من الأصول إلى الفروع،
ولكنّ الحكمة أن تتخيّر موضوعك بحيث يناسب روّاد مسجدك، ولكن ليس من الحكمة إذا كنت تخاطب الأمريكيين غير المسلمين مثلا في أمريكا أن تبدأ الحديث معهم في الكلام عن كراهية المجئ إلى المسجد لمن تشمّ منه رائحة الثوم والبصل، وغير ذلك من الروائح التي لا تألفها الأذواق، قد يكون هذا جزءا من موضوع ولكن لا يصلح أن يكون هو الموضوع وأن يصاغ بصيغة طلب. ونحب أن نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه الدعوة إلى الأصول والفروع، والمسلم من أخلاقه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكن عليه أن يكون حكيما في الدخول والخروج وتخيّر الموضوع. وهل يعتبر كلام الأستاذ سيد نهيا لنا عن أن نشغل أوقاتنا في صراع جزئي مع المنكرات الجزائية في المجتمع بحيث نستغرق في ذلك؟ قد يكون كلامه يفيد شيئا من ذلك، ولكن ليس هذا من باب أنه لو فعل بعض المسلمين ذلك يكونون قد ارتكبوا حراما، ولكن من باب ألا ينسينا واجب واجبات أخرى. إنّ الجهد الرئيسي للدعوة الإسلامية ينبغي أن ينصبّ على استبدال نظام جاهلي بنظام إسلامي، بالوسائل المشروعة المتاحة المستطاعة، هذا هو الفقه الصحيح للعمل العام، ولكن ونحن نسير لذلك، فلا حرج على من يحاول إزالة منكر جزئي، بما لا يؤثر على السّير العام نحو الهدف الكبير. هذه هي المسألة في إطارها العلمي والفقهي وفي إطار فقه الدعوة المعاصرة. إنّ كثيرين من النّاس يرون أنّ تغيير منكر جزئي باليد لا يجوز قبل قيام السّلطة الإسلامية ويستدلون على ذلك بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكسّر الأصنام إلا بعد الفتح، وهذا خطأ فقد ثبت في السنة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشترك هو وعليّ بن أبي طالب في كسر صنم لقريش من على الكعبة قبل الهجرة وهربا، وهذا إبراهيم عليه السّلام كسّر الأصنام ولا سلطة. إنّه من حيث الجواز يجوز لكلّ مسلم أن يغيّر منكرا أوجب الشرع تغييره، وهو إن فعل مأجور، لكن هل يجب عليه ذلك؟ هل يحتاج إلى إذن إن كان منتسبا لجماعة تتضرّر بسبب فعلته؟ كل ذلك له موازينه الشّرعية والفتوى البصيرة من أهلها هي التي تعطي الجواب الصحيح على ضوء الموازنات الصحيحة.
إن هناك صورا من النهي عن المنكر قد ترتّب على غير الناهي ضررا لغيره، أمثال هذه الصور نصّ الغزالي في إحيائه على أن على الناهي ألا يقدم عليها قبل استئذان من يصيبه الضرر، ومن المعلوم أنّ ذلك لا تدخل فيه صورة ما إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق إنسان هو من باب فروض العين. قلنا هذا الكلام لأنّ ناسا كادوا أن يعطلوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسبب فهمهم الخاطئ لآراء صاحب الظلال. قد لا توجد فائدة في أن أنهى سكيرا عن شرب الخمر إذا كان مرتدا أو كافرا أصليا، وقد لا توجد فائدة في أن أنهى كافرا عن سبّ الدين. ولكن قد يكون من المناسب أن أسأل السّكير عما إذا كان يؤمن بالإسلام وعمّا إذا كان يفهمه، ثمّ بعد ذلك أدعوه إلى الإيمان وفهم الإسلام، وأنهاه إذا كان مؤمنا عن شرب الخمر. وقد يكون من المناسب أن أسأل ساب الدّين عن سبب سبابه، فأدعوه إلى الإسلام من خلال ذلك، وفي كل الأحوال لو أنني نهيت أمثال هؤلاء فلست مأزورا، بل أنا مأجور وكفى ذلك غناء. إنّ فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم ما ينبغي أن يعرفه المسلم وأن يتحقق به ولا تمكين للمسلم إلا بهذا: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ . إنهم كذلك قبل السلطة وبعدها، وإذا لم يكونوا كذلك قبل السلطة فلن يكونوا كذلك بعدها، وقد غلط ناس عطّلوا الصلاة، والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحجة أنّ ذلك لا يكون إلا بعد السلطة، وهو فهم خاطئ للآية، ونخشى أن يتسرّب لنا هذا الفهم الخاطئ. إنّه كما أنّنا نصلي في كل الحالات، ونزكي في كل الحالات، فعلينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل الحالات، ملاحظين ما مرّ من تقديم الأصول على الفروع، مع اعتبارنا أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الأصول مأجور. لقد رأيت نماذج من الناس استمرءوا السكوت على المنكر في كل الأحوال، بحجة أن المجتمع جاهلي، وواقعوا المنكر بحجة أن المجتمع جاهلي.
نقول: عن صاحب الظلال حول آية لتجدن أشد الناس عداوة ...
لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمينا والمجتمع جاهلي، وكان يعبد الله والمجتمع جاهلي، وكان مطهرا من مواقعة عادات الجاهلية على غلبتها، وهذا لم يكن تكليفا، أفبعد أن منّ الله علينا بالتكليف والبيان، يصل بعض الناس إلى تعطيل أحكام الله بسبب فهم خاطئ لكلام رجل، كلامه في الأصل يحتمل الخطأ والصواب. إنّه لمن أصعب أنواع الجهل ألّا يعرف إنسان أن يضع الكلمة التي يسمعها أو يقرؤها في محلها ودعونا نتأمّل الآيات التي كتب فيها الشهيد رحمه الله ما كتب: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ لقد وجد عيسى في مجتمع جاهلي كان على رأسه الرومان الوثنيون ولم يكن اليهود في ظل دولة مسلمة ومع ذلك لعنهم عيسى، السبب عصيانهم واعتداؤهم دون تحديد لهذا العصيان وهذا الاعتداء في الآية، ثم وصفهم الله عزّ وجل بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لاحظ تنكير كلمة (المنكر) الآتية في سياق نفي مما يعمّ كل منكر، ثم جاءت بعد ذلك آية تقول لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ دون تحديد لنوع الكلام الآثم ولا الحرام المأكول، أليس وضع أبناء المسلمين اليوم يشبه وضع المجتمع الذي وجد فيه عيسى عليه السلام، فهل إذا سكت علماؤنا وعبّادنا عن الكلمة الآثمة والكسب الحرام والاعتداء والعصيان والمنكر لا يكونون قد وقعوا فيما وقع فيه علماء بني إسرائيل. وهل الآيات فرّقت بين أصول وفروع؟ نرجوا أن نكون بهذا البيان قد وضعنا الأمور في مواضعها بالنسبة لهذا الموضوع الخطير. نقول: [عن صاحب الظلال حول آية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ... ] بمناسبة قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ يقول صاحب الظلال: إن الذي ألّب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة؛ وجمع بين اليهود .. من بني قريظة وغيرهم، وبين قريش في مكة، وبين القبائل الأخرى في
الجزيرة .. يهودي .. والذي ألّب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في فتنة عثمان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات .. يهودي .. والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي الروايات والسير .. يهودي .. ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال «الدستور» بها في عهد السلطان عبد الحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي أتاتورك .. يهودي .. وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود! ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية .. يهودي .. ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي .. ووراء معظم النظريات الهدّامة لكل المقاسات والضوابط يهود! ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا، وأعرض مجالا، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون- على ضراوتها- قديما وحديثا .. إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها. وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول. أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية .. (التي تعدّ الماركسية مجرد فرع لها) وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية». وحتى لا يفهم فاهم من قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أنّ ذلك في النصارى جميعا، ومن أجل أن يفهم النص على ما أنزل عليه أنّه في النصارى الذين مآلهم الدخول في الإسلام متى عرض عليهم يقول صاحب الظلال: «وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم .. فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى
الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم- فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه. وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك، يلاقون من ظلمها الوبال! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط- إلا في الظاهر- منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك! لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على الممالك الإسلامية في إفريقية أولا، ثم في العالم كله أخيرا. ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية حليفتين في حرب الإسلام- على كل ما بينهما من أحقاد- ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة. ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة. وبعد أن أجهزوا على عروة «الحكم» ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة «الصلاة»! ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنيين. فيؤيدون الوثينة حيثما وجدت ضد الإسلام. عن طريق المساعدات المباشرة تارة، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد. وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض. وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال! هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرنا، من مواقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام، لا فرق بين هذه وتلك؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر
وذاك في الكيد للإسلام، والحقد عليه، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمن. وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغدا، فلا ينساقون وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة، التي تنظر إلى أوائل النص القرآني- دون متابعة لبقيته، ودون متابعة لسياق السورة كله، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله- ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التى تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة. إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئا أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة- مهما قل عددها وعدتها- فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة. وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة، ولكن ضررهم لا يقل- حينئذ- عن ضرر أعدى الأعداء، بل إنه ليكون أشد أذى وضررا. ***
المقطع السابع يمتد هذا المقطع من الآية (87) إلى نهاية الآية (108) وهذا هو
المقطع السابع يمتد هذا المقطع من الآية (87) إلى نهاية الآية (108) وهذا هو: 5/ 92 - 87
5/ 99 - 93
5/ 105 - 100
محل هذا المقطع في السورة
5/ 108 - 106 محلّ هذا المقطع في السورة: تتألف سورة المائدة من ثلاثة أقسام وخاتمة وهذا المقطع هو المقطع الثاني من القسم الثالث الذي ابتدئ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فهو استمرار للمقطع السابق ومن ثمّ فإن له صلة كبيرة في قضية البلاغ، لقد انصبّ الكلام في المقطع الأول من القسم الثالث على بلاغ الكافرين، وانصبّ الكلام هنا على بلاغ المؤمنين، ولذلك كان في هذا المقطع تفصيل لكثير مما أجمل في أوّل سورة المائدة كما سنرى. كلمة في المقطع: آخر آية في المقطع ختمت بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لاحظ صلة ذلك بمحور السورة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بدأ المقطع بالنهي عن تحريم الطيبات، وعن أكل الحلال الطيب لينتقل إلى الأيمان، إذ جرت العادة أنّ النّاس إذا أرادوا أن يحرّموا على أنفسهم شيئا أقسموا، فذكرت الفقرة الأيمان المنعقدة وكفارتها، وارتباط ذلك بمحور السورة واضح، فهل مما يدخل في نقض العهد الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ هذه الصورة التي ذكرتها الفقرة؟ أجاب المقطع على ذلك. ومن النهي عن تحريم الطيبات ينتقل السياق إلى فقرة جديدة
تذكر فيها الخبائث يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ففي هذه الفقرة تبيان لبعض ما أخذ علينا العهد باجتنابه، وحكمة ذلك، وما أبيح لنا بعد ذلك، ومن الكلام عما أحل لنا وحرم، وعن أكل الطيبات يأتي الكلام عن الصيد للمحرم، وعما يجوز له من صيد البحر. وعن حكمة بعض الأمور في الحج. ومن ذلك ينتقل السياق إلى كراهية السؤال عمّا لم يرد فيه تحريم ابتداء، ليصل إلى بعض ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم مما لم ينزل به الله سلطانا. فالسياق لا زال في قضايا التحريم والتحليل مما له صلة بقضايا الطعام، وإذ قرّرت السورة طريق الهداية والضلال، فإنّ آية تأتي لتبيّن أن ضلال الضالّين لا يضرّنا إن كنّا مهتدين. ثم تأتي فقرة أخيرة في المقطع حول الوصيّة في بعض الأحوال والشهادة والأيمان. والملاحظ أن الفقرة الأولى في هذا المقطع ذكرت فيها الأيمان، وأن الفقرة الأخيرة ذكرت فيها الأيمان ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فكأن المقطع كله في قضايا ينبغي أن تراعى، مما هو نوع نقض لميثاق مع الله، أو هو شرح لبعض الحالات التي يتمّ فيها توثيق أمام الله، وما هي المخارج في ذلك إن المقطع يحدّثنا عن أمور لو فعلها الإنسان يفسق عن أمر الله- عزّ وجل- وعن أمور هي من نوع نقض الميثاق، أو من قطع ما أمر الله به أن يوصل. إنّ ابتداء المقطع بذكر الأيمان، وانتهائه بذكر الأيمان، يدّل على أنّه مقطع واحد، وانتهاء المقطع بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لدليل على أنّ المقطع يفصّل في المحور. رأينا فيما مرّ قضيتين: صلة آيات المقطع ببعضها، وصلة المقطع بمحور السورة من البقرة. ولنلاحظ الآن ما يلي: لم يبق معنا بعد هذا المقطع إلا خاتمة السورة فكأنّ هذا المقطع هو المقطع الأخير. فلنلاحظ صلة هذا المقطع بأول مقطع في سورة المائدة. بدأت سورة المائدة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وفي هذا المقطع ترى حكم الأيمان المنعقدة، وفي المقطع الأول في الآية الأولى منه جاء قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وهاهنا يأتي تفصيل لموضوع صيد المحرم. وفي المقطع الأول تأتي الآية الثانية منه وفيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ويأتي في هذا المقطع قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ وفي المقطع
المعنى العام للمقطع
الأول يذكر الله- عزّ وجل- ما حرم علينا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .. ويأتي في هذا المقطع ذكر ما حرّمه الناس ولم يحرمه الله. ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ويأتي في هذا المقطع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. ويختم هذا المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ .. فههنا فقرة عن إقامة الشهادة في حالة من الحالات. فما بين المقطع الأول، والمقطع الأخير صلات واضحة، وما بين المقاطع التي ذكرت في الوسط، والمقطع الأول والأخير صلات واضحة كذلك، فالسورة لها سياقها الخاص، ومع ذلك فإنها تفصّل في محورها من سورة البقرة لتأخذ محلها في بناء صرح المعاني القرآنية على تسلسل معيّن، ونسق معيّن. ولعل في الكلمة الأخيرة عن السورة ما يزيد هذا الأمر بيانا، فلنبدأ عرض معاني المقطع: المعنى العام للمقطع: يبدأ هذا المقطع بالنهي عن تحريم ما أحل الله بالسير في غير سنة المسلمين في أمر النّساء، أو الطعام، أو الشّراب، أو اللباس، أو العادات، أو غير ذلك. وكما نهى عن تحريم الحلال، فقد نهى عن الاعتداء، لأن الله لا يحب أهله. والاعتداء في هذا المقام يحتمل التضييق على الأنفس بتحريم المباحات، أو تعذيب الجسد. ويحتمل الإسراف في تناول الحلال، فيكون طلبا بالأخذ من الحلال بقدر الكفاية والحاجة، إذ دين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط. ثم أمر الله- عزّ وجل- بالأكل من الحلال الطيّب، كما أمر بالتقوى في جميع الأمور باتّباع طاعته ورضوانه، وترك مخالفته وعصيانه. إذ مقتضى الإيمان بالله أن يتّقى. رأينا أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النساء، وهي من هذه الحيثيّة تكمّل بناء التقوى، وتدلّ على طريقها، وهي في الوقت نفسه تحرير للإنسان من كل الصفّات التي يضل بسببها أصحابها، فهي تخلية وتحلية.
ولذلك فإننا نجد في هذا المقطع عملية البناء وإزالة الأنقاض تتعاضدان، وعملية التحلية بالتقوى والتخلية عن الفسوق تتكاتفان، ومن ثمّ نجد في هذا المقطع النهي عن تحريم ما أحل الله، وذكر بعض ما حرّم أبدا، وذكر بعض ما حرّم في بعض الأحوال، والنهي عن السؤال ومؤاخذة من يحرّم ما أحل الله، كفعل الجاهليين في بعض الشئون. وبيان لحكم الله في جانب من موضوع الوصايا، وكل ذلك ينتظمه المحور الذي تدور حوله سورة المائدة فلنرجع إلى المعنى العام في المقطع. إنه قد يرافق تحريم الحلال- أو معنى من معاني الاعتداء يمين، ومن ثمّ فقد بيّن الله- عزّ وجل- حكم الأيمان المنعقدة في هذا المقام بعد أن بين حكم يمين اللغو في سورة البقرة، فبيّن هنا أنّ الله يؤاخذ باليمين التي يرافقها تصميم وقصد، وأن مثل هذه اليمين كفارتها لمن يجب عليه أن يحنث فيها، أو يجوز- إذا أراد الحنث- واحد من ثلاثة، إما إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصيام ثلاثة أيام، ثم بيّن الله- عزّ وجل- أن هذه هي كفّارة اليمين الشرعية، وأمر بحفظ الأيمان، إما بالبر بها، أو بالتكفير عنها، وأنّ هذا البيان لأحكامه يقتضي منّا شكرا. وبعد أن بيّن الله- عزّ وجل- لنا عدم جواز تحريم ما أحلّ، طالبنا بالالتزام بما حرّم، وبيّن لنا أنّ تعاطي الخمر والقمار مما حرّم، وأنّ مما حرّم الأنصاب: وهي الحجارة التي كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأنّ مما حرم الأزلام: وهي قداح أي: أقلام كانوا يستقسمون بها، ويستفتحون بها، ويلتزمون بتوجيهها الأعمى. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- أن هذه الأشياء كلها شر وسخط من فعل الشيطان وعمله ودعوته ووسوسته، آمرا إيانا بتركها لنكون من حزب الله، ومن عباده المفلحين. ثم بيّن تعالى ما هو مراد الشيطان من دعوته لنا إلى الخمر والميسر؟ ألا وهو إيقاع العداوة والبغضاء بيننا بذلك، وتحصيل الغفلة عن الله. فحيثما وجد الخمر كان العداء والشر، وحيثما وجد القمار- جدا أو هزلا- وجدت الشحناء. وإنّما يريد الله لحزبه أن يكونوا متحابّين، ومن ثمّ حرّمهما عليهم، وحيثما وجدت الخمرة والقمار كانت الغفلة عن الله، والله يريد منا أن نكون ذاكرين، ولذلك حرم علينا الخمرة والقمار، وحضّنا على الانتهاء عنهما بعد أن أظهر لنا الحكمة في التحريم، ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- أنّ من آمن، وعمل صالحا، واتّقى وأحسن فليس عليه جناح فيما طعم من أنواع المباحات وما أكثرها، وأنه تعالى يحب المحسنين.
في بداية المقطع بيّن أنه لا يحب المعتدين، وهاهنا بيّن أنه يحب المحسنين، وهذا يؤكد فهمنا أنّ المقطع فيه تحرير وبناء، وتخلية وتحلية، وكذلك السورة كلها. ثمّ بين الله- عزّ وجل- هنا- بعد أن بيّن في أوّل السورة حرمة الصيد على المحرم أنّ الله- عزّ وجل- قد يبتلينا في حالة إحرامنا بضعيف الصيد وصغيره حتى لو شئنا أن نناله بأيدينا لنلناه، وقد يبتلينا بالكبار منه حتى لو شئنا أن نناله بأسلحتنا لنلناه، وذلك كله اختبار لنا لتظهر طاعة من يطيع منّا في سرّه وجهره فيما نهانا عنه وحرّمه علينا. إنّه قد يختبرنا بالصّيد يغشانا في رحالنا نتمكن من أخذه بالأيدي والسّلاح في حالة إحرامنا، ليظهر من يخاف الله بالغيب ممّن لا يخافه، ثمّ بين تعالى أنّ من يعتدي بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدّم فإنّ له عذابا أليما لمخالفته أمر الله وشرعه، ثمّ نهى الله- عزّ وجل- عن قتل الصيد في حال الإحرام، وهذا تحريم منه تعالى للصيد في تلك الحالة ونهي عن تعاطيه، وما يدخل في هذا وما يستثنى منه سنراه، ثمّ بيّن تعالى أنّ من أصاب صيدا عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، مع ملاحظة أنّ المتعمّد مأثوم، والمخطئ غير ملوم. وأن هذا الجزاء ينبغي أن يكون من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، وهل تصح القيمة أو لا تصح؟ قولان للفقهاء، وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة كما رواه البيهقي. وتفصيل هذا سنراه. هذا الجزء يجب أن يكون الحكم فيه في المثلي، أو بالقيمة في غير المثلي، لرجلين عدلين من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين أولا؟ على قولين سنراهما، هذا الجزاء يجب أن يصل إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك، ويوزّع لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة، وإذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد من ذوات الأمثال فإنه يقوّم مثله من النعم لو كان موجودا، ثم يشترى به طعام فيتصدق به لكل مسكين مدّ على رأي، ومدّان على رأي آخر، فإن لم يجد صام عن إطعام كل مسكين يوما، وبعضهم قال: هو في الأصل مخيّر بين الجزاء والإطعام، فإن لم يجد فالصيام. واختلفوا هل لا يجوز الإطعام إلا في الحرم على قولين، وتفصيل ذلك كله سيأتي، وإنما فرض الله الجزاء والكفّارة تأديبا، ثمّ بين الله- عزّ وجل- أنّ هذا الحكم لا يطالب به أحد قبل نزوله، فإنّ ما كان من قبل ذلك فهو عفو، ثمّ هدّد الله من يجترئ على الصيد وهو محرم بحيث يتكرر منه الاجتراء بالانتقام منه، فالله- عزّ وجل- عزيز منتقم بمعنى: أنّه منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام
أحد ممّن يريد أن ينتقم منه، ولا يمنعه من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأنّ الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزّة والمنعة، وهو ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه، ثمّ بيّن تعالى أنّ الصيد المحرّم على المحرم هو صيد البر، وأمّا صيد البحر وطعامه مما اصطدناه وما لفظه فهو مباح لنا في كل حال، منفعة لنا وقوتا، ثمّ أمرنا بتقواه، كيف لا وإليه سنحشر ونحاسب. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- في هذا المقام ماهيّة الحكمة من جعله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد من شعائره، فبيّن أنّ الحكمة في ذلك شيئان. الأوّل: انتعاش الناس في أمر دينهم ونهوضهم إلى أغراضهم في معاشهم. والثاني: هو أن نزداد علما بالله، علما بمالكيته لما في السموات والأرض من خلال ممارسة شعائر الحج، وعلما بأنه بكل شئ عليم من خلال ذلك كذلك. ثمّ أمرنا الله- عزّ وجل- في هذا السياق أن نعلم أنّه شديد العقاب، كما أنه غفور رحيم حتى لا تنسينا رؤية الجلال عن مشاهدة الجمال، ولا تجرّئنا رؤية الرحمة على المعصية، كما لا تقنطنا رؤية العقوبة من الرحمة. ثمّ بيّن أنّ على الرسول صلّى الله عليه وسلّم البلاغ والله هو الذي يعلم كل شئ فيحاسب، وفي هذا المقام- مقام البيان أن على الرسول البلاغ فقط- يأمر الله رسوله أن يبيّن أنّ القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، ثمّ نادى أصحاب العقول الصحيحة المستقيمة أن يتقوه باجتناب الحرام وتركه، والقناعة بالحلال والاكتفاء به للوصول إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ثمّ أدّب الله- عزّ وجل- عباده فنهاهم عن السؤال عن أشياء لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنّها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربّما ساءتهم، وشقّ عليهم سماعها، مبيّنا لهم أنّهم إن سألوا عن هذه الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبيّن لهم، وعندئذ يكون سؤالهم من أجل فهم الوحي، وأما قبل ذلك فيكون من باب التكلّف، ثمّ طمأنهم الله تعالى عن عفوه عمّا كان منهم قبل ذلك؛ إذ أنّه الغفور الحليم الذي لا يعاقب قبل البيان. ثمّ بيّن تعالى الحكمة في النهي عن الأسئلة وما ذاك إلا لعلمه تعالى بالطبيعة البشرية، فلقد سأل المسائل قوم من قبلنا فأجيبوا عنها، ثمّ لم يؤمنوا بها، فأصبحوا كافرين أي بسببها. أي: فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد، يفهم من ذلك أن طاقة البشر في موضوع الإيمان محدودة والله- عزّ وجل- إنّما ينزّل على عباده بما يتناسب وهذه الطاقة، وعند ما يسأل الناس قد لا يوفقون في سؤالهم، فإذا ما أجيبوا ترتب على ذلك حرج ومشقّة، فنهوا أن يبتدءوا سؤالا، وسمح لهم أن يستفهموا. وأن يتفقّهوا. ثمّ بيّن
الله- عزّ وجل- حكمه في قضية من قضايا الجاهليين، فقد كان الجاهليون يتركون بعض الأنعام لا يجيزون حلبها لأحد من الناس، وهذه هي البحيرة، ويتركون بعض الأنعام يسيّبونها لآلهتهم فلا يحملون عليها شيئا، وهذه هي السائبة. وكانت الناقة البكر إذا بكّرت في أول نتاج بأنثى ثم ثنّت بأنثى يسيّبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، وهذه هي الوصيلة، وسنرى تفسيرا آخر للوصيلة، وكان الفحل من الإبل إذا لقح عددا من الإناث دعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شئ وسمّوه الحامي. بين الله- عزّ وجل- أن هذا كله ليس من دينه ولا شرعه، وليست هذه الأشياء عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها إليه، وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم، وهم في هذا كله كاذبون على الله وجهلة لا عقل لهم إذ يضيّعون المال بلا مقابل، والجنون في هؤلاء أنّهم إذ دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وإلى ترك ما حرّمه مما فيه مصلحتهم في دنياهم وأخراهم قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، من الطرائق والمسالك مع ما عليه الآباء من الجهل والضلال، فلا علم ولا هداية، ولا فهم ولا معرفة، فكيف يتّبعونهم والحالة هذه، ألا إنه لا يتّبعهم في هذه الحالة إلا من هو منهم وأضلّ سبيلا. ثمّ أمر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجدهم وطاقتهم، مخبرا لهم أنّه من أصلح أمره لا يضرّه فساد من فسد من النّاس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا. وأن لله المرجع، وهو الذي سيحاسب ويجزي كلّا بعمله، ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنه في حالة كون الواحد منا مسافرا وأدركته الوفاة فإنّ عليه في هذه الحالة أن يوصي، وأن يشهد على وصيته اثنين من عدول المسلمين، فإذا لم يتوافر له ذلك فليشهد اثنين من غير المسلمين، وإنّما جاز استشهاد غير المسلمين في هذه الحالة للضرورة عند فقد المسلمين. قال شريح: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلّا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصيّة. فإذا شكّ ورثة الميّت بأنّهما خانا أو غلّا أو غير ذلك، حبسا بعد صلاة يجتمع فيها الناس، فيحلفان بالله أنّهما لا يشتريان بأيمانهما أي: لا يعتاضان بها عوضا من الدنيا الفانية الزائلة، ولو كان المشهود عليهم قريبا فإنّهما لا يحابيان، وإنهّما لا يكتمان الشهادة، وأنّهما إن فعلا ذلك من تحريف الشهادة، أو تبديلها، أو تغييرها، أو كتمانها بالكلية، يكونان من الآثمين، فإن اشتهر وظهر وتحقّق من الشاهدين الوصيّين أنهّما خانا أو غلّا شيئا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك، وتحقق ذلك
ملاحظات حول السياق
بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقّين للتركة- وليكونا من أول من يرث ذلك المال- فيقسمان بالله: إن قولنا: إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة، وما اعتدينا فيما قلنا فيهما من الخيانة، وإن كنا قد كذبنا عليهما فإنّا إذا لمن الظالمين. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- حكمة هذا الحكم الأخير وهي أنّ ذلك أقرب أن يقيم الشاهدان الأصليّان الشهادة على الوجه الأصلي؛ فيحملهما على الإتيان بها على وجهها تعظيم الحلف بالله، ومراعاة جانبه، وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس، إن ردّت اليمين على الورثة فيحلفون ويستحقون ما يدّعون، ثمّ ختم الله هذا بالأمر بتقواه، والأمر بالسمع والطاعة له، مبيّنا أنه لا يهدي القوم الفاسقين أي: الخارجين عن طاعته والمتابعة لشريعته. وختم هذا المقطع كله بقوله تعالى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يذكّر بقوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من آيتي سورة البقرة اللتين قلنا عنهما: إنهما محور سورة المائدة ضمن السّياق القرآني العام، ولا شك أن هذا المقطع قد بين جوانب من الفساد في الأرض، كتحريم الحلال، والاعتداء، وكالخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، والصيد حالة الإحرام، والسؤال في غير محله، وتحريف الشهادة، كما بيّن جوانب من الفسوق عن أمره لا يهدى معها أصحابها. ملاحظات حول السياق: رأينا أن هذا المقطع ابتدأ بالكلام عن الأيمان، وانتهى بكلام عن نوع من الأيمان وهذا يشير إلى وحدة المقطع، وقد رأينا في هذا المقطع قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وكنّا رأينا من قبل أن المقطع السابق على هذا المقطع قد ابتدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فذكر البلاغ في هذا المقطع يشير إلى أن هذا المقطع استمرار للمقطع السابق، وهذا يؤكد ما قلناه من قبل إن القسم الثالث من سورة المائدة يتألف من مقطعين، وأن القسم الثالث كله هو في أمور تدخل في باب البلاغ، ومن هنا ندرك سرّ تعرّض السورة في أوائلها لبعض المعاني مجملة، ثمّ تفصيلها في قسمها الأخير، هناك جاءت في سياق، وهاهنا تأتي في سياق، هناك تأتي في سياق الأمر بالوفاء بالعقود، وهاهنا تأتي في سياق الأمر بالبلاغ، ونكرّر هنا ما قلناه من قبل من أنّ على الدّعاة إلى الله أن يلاحظوا إذن أهمية التركيز على تبليغ معاني القسم الثالث في مقطعيه، مع ملاحظة أن المقطع الأوّل في جملته تركيز على معان يتوجّه فيها الخطاب لغير
المعنى الحرفي
المؤمنين، وأن المقطع الثاني هو في جملته تركيز على معان يتوجه فيها الخطاب للمؤمنين، نقول هذا كله بين يدي المعنى الحرفي للمقطع الثاني من القسم الثالث والذي هو المقطع السابع. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الطيبات: ما طاب ولذّ من الحلال، ومعنى لا تحرّموا أي: لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا وَلا تَعْتَدُوا. أي: ولا تجاوزوا الحدّ الذي حدّ لكم في تحريم أو تحليل، أو لا تتعدّوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرّم عليكم، أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. أي: المتجاوزين حدوده وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً نهى عن تحريم الطيبات ثمّ أمر بالأكل منها وَاتَّقُوا اللَّهَ في الوقوف عند ما أحلّ وحرّم الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ دلّ هذا على أن الإيمان بالله يوجب تقواه فيما أمر به ونهى عنه، وإذ يقترن تحريم الطيبات باليمين عادة، كان مناسبا هنا أن يذكر حكم الأيمان. ولذلك قال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ مرّ معنا في سورة البقرة موضوع اليمين اللغو، والخلاف فيه فلغو اليمين: هو الساقط الذي لا يتعلق فيه حكم، وتعريفه عند الحنفية: أن يحلف على شئ يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وعند الشافعي رحمه الله: هو ما يجري على اللسان بغير قصد وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ تعقيد الأيمان توثيقها، والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، أو ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم فَكَفَّارَتُهُ. أي: فكفّارة نكثه، أو فكفّارة معقود الأيمان ما سيأتي، والكفّارة هي التي من شأنها أن تكفّر الخطيئة أي تسترها إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ هو أن يغذيهم ويعشيهم، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك لكل واحد نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير، أو صاع من تمر، وعند الشافعي رحمه الله مدّ لكل مسكين والمدّ ربع صاع مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قال الحنفية أي: غداء وعشاء من برّ إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام، والأدنى مرّة من تمر أو شعير والأوسط غداء وعشاء أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال الحنفية: وأدنى الكسوة ثوب يغطي العورة، والعورة عندهم من السرّة إلى ما تحت الركبة أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. أي: عتقها واشترط الشافعي أن تكون مؤمنة، ولم يشترط الحنفية ذلك؛ لإطلاق النص فيجوز عندهم
نقل: عن صاحب الظلال حول قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله ..
أن تكون كافرة أو مؤمنة، والحانث مخيّر بين واحدة من هذه الثلاث المذكورات. قال ابن كثير: فهذه خصال ثلاث في كفّارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وقد بدأ بالأسهل. فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق فترقّى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصوم ثلاثة أيّام: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وعدم الوجود في اختيار ابن جرير هو أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفّارة اليمين، واختلف العلماء هل يجب في صيام الثلاثة أيام التتابع، أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ قولان للعلماء، أوجب الحنفية والحنابلة وهو قول للشافعي التتابع، ولم يوجب ذلك مالك ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. أي: وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفّارة لا تجب بنفس الحلف. قال الحنفية: ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ بأن لا تحلفوا أصلا، أو بالبرّ بها إن لم يكن الحنث خيرا، أو بالتكفير عنها إن كان في الحنث خير كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ. أي: بمثل هذا البيان يوضّح الله لكم أعلام شريعته وأحكامه وذلك من تمام نعمته أن يكون البيان واضحا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. أي: من أجل أن تتحققوا بمقام الشكر على نعمته فيما يعلّمكم، ويسهّل عليكم المخرج من كل ما يمكن أن يكون فيه حرج. نقل: [عن صاحب الظلال حول قوله تعالى لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يقول صاحب الظلال: «ما أحله الله فهو الطيب، وما حرمه فهو الخبيث. وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له. من وجهين: الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان .. والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات التي بها صلاحه وصلاح الحياة، فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ علم الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات. ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده. ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا .. ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح، والتوازن المطلق، والتناسق الكامل، بين طاقات الحياة البشرية جميعا، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان، تعمل عملا سويا، ولا تخرج عن الجادة. ومن ثم حارب الرهبانية، لأنها
فوائد
كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة وتعويق للطاقة عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها. لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله. والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة. لأنها تقف بها عند نقطة معيّنة بحجة التسامي والارتفاع. والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله. فوائد: 1 - [مقدار الصاع والمد من أوزاننا في العصر الحديث] الصاع في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رأي فقهاء الحنفية وآخرين يعدل حوالي أربعة كيلو غرامات في عصرنا إلا قليلا، والمد ربع صاع فهو يعدل أقل من كيلو غرام من الأوزان العالمية المتعارف عليها في عصرنا. والصاع والمدّ على النصف من ذلك على رأي الشافعية وآخرين. [2، 3 - مسائل في كفارات اليمين] 2 - استدل الحنفية بوجوب التتابع في كفّارة اليمين بقراءة شاذّة هي «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» قال الأعمش: وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل أن يكون خبرا واحدا، أو تفسيرا من الصّحابة وهو في حكم المرفوع. 3 - هناك خلاف كثير بين العلماء حول الكسوة المجزأة في الكفارة وقد رأينا أدنى ما يجوز عند الحنفية ووافقهم على ذلك مالك وأحمد، وقال الشافعي: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص، أو سراويل، أو إزار، أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك. واختلف أصحابه في القلنسوة والخف والصحيح عدم الإجزاء. 4 - [روايات في أسباب نزول الآيات (87 - 89)] وفي سبب نزول هذه الآيات نذكر الروايات التالية: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني رواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك- وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عمله في
السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، أن رجلا أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء، وإنّي حرّمت عليّ اللحم، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وكذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وروى ابن جرير ... عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتّلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قال ابن جريج عن عكرمة: أنّ عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب تبتّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرّموا طيّبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرّموا من النّساء والطعام واللّباس، وما أجمعوا من قيام الليل وصيام النّهار، وما همّوا به من الاختصاء، فلمّا نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منّا من ترك سنتنا: فقالوا: اللهم سلّمنا واتّبعنا ما أنزلت، وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ولها شاهد في الصحيحين من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه كما تقدم. وقال أسباط: عن السدي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوما فذكّر النّاس، ثمّ قام ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا عشرة منهم: على بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملا، فإنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم، فحرّم بعضهم أن يأكل اللحم والودك وأن يأكل بنهار، وحرّم بعضهم النّوم، وحرّم بعضهم النّساء، فكان عثمان بن مظعون ممّن حرم النساء، وكان لا يدنو من أهله ولا تدنو منه، فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء، فقالت لها عائشة ومن
5، 6 - آثار حول قوله تعالى .. لا تحرموا طيبات ما أحل الله ..
عندها من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع عليّ زوجي وما رفع عني ثوبا، منذ كذا وكذا، قال: فجعلن يضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن يضحكن، فقال: «ما يضحككن؟» قالت: يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا، فأرسل إليه فدعاه فقال: «ما لك يا عثمان؟» قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة، وقصّ عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يجبّ نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك»، فقال: يا رسول الله إني صائم، فقال: «أفطر» فأفطر وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت: ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام حرّموا النساء والطعام والنّوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عني فليس مني». فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا يقول لعثمان: لا تجبّ نفسك فإنّ هذا هو الاعتداء، وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ رواه ابن جرير. [5، 6 - آثار حول قوله تعالى .. لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ .. ] 5 - روى الأعمش .. عن عمرو بن شرحبيل قال: جاء معقل بن مقرّن إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني حرّمت فراشي فتلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية. وروى الثوري ... عن مسروق قال: كنّا عند عبد الله بن مسعود فجئ بضرع فتنحّى رجل فقال له عبد الله: ادن، فقال: إنّي حرمت أن آكله، فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفّر عن يمينك، وتلا هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية. رواه ابن أبي حاتم. 6 - روى ابن أبي حاتم أن زيد بن أسلم قال: إن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي، هو عليّ حرام، فقالت امرأته: هو عليّ حرام. وقال الضيف: هو عليّ حرام، فلما رأى ذلك وضع يده، وقال: كلوا باسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر الذي كان منهم، ثمّ أنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وهذا أثر منقطع. وفي البخاري في قصة
كلمة في السياق
الصدّيق مع أضيافه شبيه بهذا، وفيه، وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء- كالشافعي وغيره- إلى أنّ من حرّم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنّه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدّم لم يأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا، أو مشربا، أو ملبسا، أو شيئا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ الآية (التحريم: 1، 2). وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقّبه بالآية المبيّنة لتكفير اليمين، فدلّ على أنّ هذا منزّل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم. كلمة في السياق: قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو قوله تعالى: ... وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وإنّ الفقرة التي مرّت معنا لها صلة بنقض العهد، سواء في ذلك ما ورد فيها من تحريم الحلال، أو الاعتداء، أو ما كان فيها من كلام عن الأيمان، وسنرى أن الفقرة الثانية التي ستأتي لها صلة بقطع ما أمر الله به أن يوصل ففيها قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وسيذكر في الفقرة الثالثة من المقطع مظهر من مظاهر الإفساد في الأرض في قتل المحرم الصيد، وهكذا تتضح معنا شيئا فشيئا صلة سورة المائدة بمحورها من سورة البقرة. ولنلاحظ أن أول آية تأتي في الفقرة اللاحقة تعلل للأمر باجتناب الخمر والميسر بالفلاح لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح ضد الخسران ولذلك ارتباطه كذلك بمحور السورة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. أي: القمار وَالْأَنْصابُ. أي: الأصنام لأنها تنصب فتعبد وَالْأَزْلامُ. أي: القداح التي يستقسم بها وقد مرت معنا في أول السورة رِجْسٌ. أي: نجس أو خبيثة مستقذرة مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه من
[سورة المائدة (5): آية 91]
آثار دعوته فكأنه عمله فَاجْتَنِبُوهُ أي: الرجس أو عمل الشيطان، والمعنى واحد لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أي: لعلكم تحصّلون صفة الفلاح، وقد تأكّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية من وجوه، حيث صدّرت الجملة بإنّما التي تفيد الحصر، وقرنهما بعبادة الأصنام، وجعلهما رجسا من عمل الشيطان، ولا يأتي منه إلا الشر البحت، وأمر بالاجتناب، وهو أبلغ في النهي من الترك، لأن الترك يشعر بإمكانية الأخذ، والاجتناب فيه معنى النهي عن الاقتراب والملامسة أصلا، وجعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خسارا إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ بعد أن بيّن في الآية السابقة تحريمهما ذكر في هذه الآية حكمة التّحريم، وهي ما يتولد عن الخمر والميسر من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وخصّت الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال: وعن الصلاة خصوصا، وإنّما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا، ثمّ أفردهما آخرا، لأنّ الخطاب للمؤمنين، وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أن ذلك جميعا من أعمال أهل الشرك، فكأنه لا مباينة بين عابد الصّنم وشارب الخمر والمقامر. ثمّ أفردهما بالذكر ليعلم أنّهما المقصودان بالذكر فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي فانتهوا. وهذه الصيغة فيها أبلغ أنواع النّهي كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا. أي: وكونوا حذرين مع طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أي: اجمعوا مع الطاعة الخشية والحذر لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيّئة، وعمل كل حسنة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. أي: فإن أعرضتم عن الطاعة والحذر فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأنه ما كلّف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما أضررتم أنفسكم حين أعرضتم عمّا كلفتموه لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ. أي: إثم فِيما طَعِمُوا قبل نزول تحريم الخمر والميسر إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك وَآمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد الإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا بأن تركوا الخمر والميسر بعد التحريم إيمانا واحتسابا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا بترك المحرمات كلها مع مراقبة الله، وفعل ما أمر به من خير في حقّ الله والناس، ويحتمل أن يكون المراد بالأمر الأول في التقوى النّهي عن الشّرك، وفي الأمر الثاني النهي عن المحرمات. وفي الأمر الثالث النهي عن الشبهات
كلمة في السياق
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين اجتمع لهم فعل الحسن مع الإخلاص لله ومراقبته: كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أنّه قد ورد في هذه الفقرة قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وسنرى أنّه سيرد في الفقرة الثالثة من هذا المقطع قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وهذا يدلّ على أن هذا المقطع استمرار للمقطع السابق عليه والذي بدايته: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وهذا يؤكد: أن هذين المقطعين يشكلان قسما واحدا، يحدّد معاني رئيسية في قضية البلاغ لأهل الكفر ولأهل الإيمان. 2 - يلاحظ أن الآية الأخيرة في الفقرة التي مرّت معنا ذكرت الإيمان والعمل الصالح، وذكرت التقوى والإيمان والعمل الصالح، وذكرت التقوى والإيمان، وذكرت التقوى والإحسان، وهي مجمل المعاني المطلوبة التي ذكرت في سورة البقرة قبل محور السورة. فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ... وقبل محور السورة من سورة البقرة ورد الأمر بالعبادة، وقد ذكر قبل محور السورة مباشرة الإيمان والعمل الصالح، وقبل الأمر بالعبادة ذكرت صفات المتقين والكافرين، وهاهنا ربطت قضية تحريم الخمر والميسر وغير ذلك بذلك كله. نقل: [عن صاحب الظلال حول حكمة تحريم الخمر] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ قال صاحب الظلال: «إن غيبوبة السكر- بأي مسكر- تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة، مراقبا لله في كل خطرة، ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء. والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته؛ فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة. تكاليف لربه، وتكاليف لنفسه، وتكاليف لأهله، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها،
فوائد
وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها. وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف. وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتّم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع، فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة. وإنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره .. وغيبوبة السكر لا تتفق في شئ مع هذا الاتجاه. ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات؛ وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار. والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق، وأن يواجهوها، ويعيشوا فيها، ويصرفوا حياتهم وفقها، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام .. إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة؛ أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل، ووهن العزيمة، وتذاؤب الإرادة. والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة .. والإدمان .. وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وسائر المخدرات .. وهي رجس من عمل الشيطان .. مفسد لحياة الإنسان. وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسيّة، أو في اعتبار شربها هو المحرم. والأول قول الجمهور. والثاني قول ربيعة بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين .. فوائد: 1 - [آثار حول مراحل تحريم الخمر وأحكام تتعلق بها] مرّ معنا في سورتي البقرة والنساء شئ عن موضوع السّير التدريجي في الأمة حتّى حرّمت الخمر حرمتها النهائية، ولذلك فسنكتفي هنا بنقل بعض النصوص: أ- روى الإمام أحمد ... عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فكان منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قال: حي على الصلاة نادى: لا يقربنّ الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت
الآية التي في المائدة. فدعي عمر فقرئت عليه، فلمّا بلغ قول الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. قال عمر: انتهينا، انتهينا، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنّسائي. ب- ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس إنّه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل» هذا ما كان في زمانهم، أما اليوم فالخمرة عشرات الأنواع وتستخرج من عشرات المواد الأولية، كلها حرام. ج- روى الإمام أحمد .. عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان، أما علمت أن الله حرّمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان بماذا أمرته؟». فقال: أمرته أن يبيعها قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها» فأمر بها فأفرغت في البطحاء .. ورواه مسلم والنسائي. د- روى الإمام أحمد .. عن عبد الرحمن بن غنم: أنّ الدّاري كان يهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل عام راوية من خمر، فلمّا كان عام حرمت، جاء براوية فلمّا نظر إليه ضحك فقال: «أشعرت أنّها قد حرّمت بعدك؟» فقال: يا رسول الله ألا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله اليهود، انطلقوا إلى ما حرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه فباعوه إنه ما يأكلون، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام». هـ- وروى الإمام أحمد .. عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره: أنّه كان يتّجر في الخمر في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق، يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيّب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا كيسان إنها قد حرّمت بعدك»، قال: فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها حرّمت وحرم ثمنها» فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم هراقها. و- وروى الإمام أحمد .. عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبي
بن كعب، وسهيل بن بيضاء، ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أنّ الخمر قد حرّمت؟ فما قالوا حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اكف ما بقي في إنائك، فو الله ما عادوا فيها وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ. وأخرجاه في الصحيحين أيضا. ز- روى أحمد .. عن قيس بن سعد بن عبادة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن ربي تبارك وتعالى حرّم عليّ الخمر والكوبة (¬1) والقنين (¬2)، وإياكم والغبيراء (¬3)، فإنّها ثلث خمر العالم». ح- روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله حرّم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر». قال يزيد: القنين: البرابط، تفرد به أحمد. ط- روى الإمام أحمد .. عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم» قال: وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله حرّم الخمر، والميسر، والكوبة، والغبيراء، وكل مسكر حرام». ي- روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المربد، فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخّرت له، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدية، قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال: «لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها». ك- روى الحافظ أبو بكر البيهقي ... عن مصعب بن سعد عن سعد قال: أنزلت في الخمر أربع آيات فذكر الحديث، قال: وصنع رجل من الأنصار طعاما، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرّم حتى انتشينا، فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور فضرب به أنف سعد ففزره وكان ¬
أنف سعد مفزورا فنزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أخرجه مسلم. من حديث شعبة. ل- روى الحافظ البيهقي .. عن ابن عباس قال: إنّما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا فلمّا أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلمّا أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن: والله، لو كان رءوفا رحيما ما صنع هذا بي، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال ناس من المتكلفين: هي رجس وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية. ورواه النسائي. م- روى ابن جرير ... عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينا نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رملة، ونحن ثلاثة- أو أربعة- وعندنا باطية لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه، إذ نزل تحريم الخمر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ إلى آخر الآيتين فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبّوا ما في باطيتهم، فقالوا: انتهينا ربنا». س- روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فحمل منها بمال، فقدم بها المدينة، فلقيه رجل من المسلمين فقال: يا فلان إنّ الخمر قد حرّمت فوضعها حيث انتهى على تل، وسجّى عليها بأكسية، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بلغني أنّ الخمر قد حرّمت، قال: «أجل» قال: لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: «لا يصلح ردّها»، قال: لي أن أهديها إلى من يكافئني منها؟ قال لا. قال: فإن فيها مالا ليتامى في حجري، قال: «إذا أتانا مال البحرين فإننا نعوّض أيتامك من مالهم». ثمّ نادى بالمدينة، فقال رجل: يا رسول الله، الأوعية ننتفع بها قال: «فحلوا أوكيتها» فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي» هذا حديث غريب.
ع- روى الإمام أحمد .. عن أنس بن مالك: أن أبا طلحة سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا، فقال: «أهرقها». قال: «أفلا نجعلها خلا؟ قال: «لا». ورواه مسلم وأبو داود والترمذي. ف- روى أحمد .. عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها، ومن ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال». قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عصارة أهل جهنم». ص- روى أحمد وأبو داود ... عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مخمّر خمر، وكلّ مسكر حرام. ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب، تاب الله عليه- فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينه الخبال قيل وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار، ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال». تفرّد به أبو داود. ق- روى الشافعي رحمه الله .. عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب حرمها في الآخرة». أخرجه البخاريّ ومسلم. ر- روى مسلم ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة». ش- روى أحمد ... عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة منّان ولا عاقّ ولا مدمن خمر». ت- روى البيهقي ... عن عثمان بن عفان قال: اجتنبوا الخمر فإنّها أمّ الخبائث، إنّه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبّد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة غويّة، فأرسلت إليه جاريتها فقالت ندعوك لشهادة، فدخل معها، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيّة خمر، فقالت. إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكني دعوتك لتقع عليّ أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر، فسقته كأسا فقال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه. وهذا إسناد صحيح.
2 - تعريف الميسر وحكمة تحريمه
ث- في الصحيحين: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن». خ- روى الإمام أحمد .. عن أسماء بنت يزيد أنّها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من شرب الخمر لم يرض عنه الله أربعين ليلة، إن مات، مات كافرا، وإن تاب تاب الله عليه؛ وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» قالت، قلت: يا رسول الله وما طينة الخبال؟. قال: «صديد أهل النار». 2 - [تعريف الميسر وحكمة تحريمه] الميسر: هو القمار، ويدخل فيه أصناف كثيرة، ونوادي القمار في العالم تفنّنت في ابتداع أنواع منه، كما أنّ كثيرا من المؤسسات تقوم على القمار من اليانصيب، إلى سباق الخيل. وللأئمة كلام كثير في الميسر وما يدخل فيه، ومن كلامهم: كل شئ من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز، حتى الكعاب، والجوز، والبيض التي تلعب بها الصبيان، ومن كلام الأعرج الميسر الضرب بالقداح على الأموال والثمار. وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله، وعن الصلاة فهو من الميسر، ويدخل في الميسر المحرّم أنواع من اللعب ولو لم تكن على مال ومن ذلك اللعب بالنّرد. ففي صحيح مسلم «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من لعب النّردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه». وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لعب بالنّرد فقد عصى الله ورسوله». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «مثل الذي يلعب بالنّرد ثمّ يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثمّ يقوم فيصلّي». وروى عبد الله عن الإمام أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان (أي فصا النرد) اللتان تزجران زجرا فإنهّما ميسر العجم». وأما الشّطرنج. فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنّه قال: الشطرنج من الميسر رواه ابن أبي حاتم. وقال عبد الله بن عمر إنه شرّ من النّرد ونصّ على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد، وكرهه الشافعي رحمه الله كراهة تنزيهية إذا لم يله عن واجب ولم يكثر حتى يلهي عن ذكر الله، وإذا كان الهدف منه مران التفكير، قال الحنفية: وكره تحريما اللعب بالنرد- الطاولة- والشطرنج والمنقلة الصينية والدحل والكعب والورق المنقش الذي يسميه العامة (شدّة) ونحو ذلك وإن لم يقامر. وأباح أبو يوسف الشطرنج إذا لم يقامر به ولم يداوم، ولم يخل
3 - سبب نزول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح .. الآية (93)
بواجب كتأخير صلاة، ولم يكثر الحلف عليه. والحكمة في تحريم الميسر هي ما ذكره الله من كونه يثير البغضاء، ويصدّ عن ذكر الله، وهو يحطم الأعصاب، ويذهب المال، وينقل الملكية نقلا غير معقول، ويقلل الإنتاج العام للأمة. 3 - [سبب نزول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ .. الآية (93)] في سبب نزول الآية الأخيرة يروي الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما حرّمت الخمر قال ناس: يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا .... إلى آخر الآية، ولمّا حولت القبلة قال ناس يا رسول الله: إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ .... وروى الإمام مسلم والترمذي والنسائي عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا إلى قوله تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لي أنت منهم». ومن أحقّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون منهم؟ 4 - [المقطع يعمق معاني الهداية والضلال] في الفقرة الأولى من هذا المقطع نهينا عن تحريم ما أحل الله، وعن الاعتداء، وفي هذه الفقرة نهينا عن الخمر والميسر، وفي كل نهينا عن نوع من أنواع الفساد في الأرض. وفي الانتهاء موافقة الميثاق الذي أخذ علينا. وفي مقام الشكر والإحسان ما يرشحنا للاهتداء بهدي الله. وفي الاعتداء ما يرشحنا للضلال. ومن ثم نجد هذا المقطع يعمّق ما به نستحق الهداية، ويحرّرنا مما به نستحق الضلال. كلمة في السياق بدأ المقطع بالنهي عن تحريم ما أحل الله لنا من الطيبات، وثنى في فقرته الثانية بتبيان أنواع من الخبائث، وتنتهي الفقرة الثانية بآية تبين نفي الجناح عن المؤمنين فيما طعموا، وذلك مقدمة للكلام عن تحريم أكل صيد البر للمحرم، وعن تحليل صيد البحر له، وذلك مضمون الفقرة الثالثة، ولأن هناك ناسا تميل طبيعتهم إلى التشدّد والرغبة في الحظر فقد جاءت الفقرة الرابعة في المقطع تقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... وهكذا تتعانق المعاني في فقرات المقطع، وتتكامل،
فصل في محاولة للفهم
آخذة محلها في السياق القريب والسياق العام ... فصل في محاولة للفهم: عند قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال صاحب الظلال: «ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على هذا النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح، ومرة مع الإيمان، ومرة مع الإحسان .. كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الآن .. وأحسن ما قرأت- وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح- هو ما قاله ابن جرير الطبرى: «الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل. والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل». وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو: «إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى. ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية، ومرة مع الإحسان- وهو العمل الصالح- في الثالثة .. ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى. ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني. فالتقوى .. تلك الحساسية المرهفة برقابة الله، والاتصال به في كل لحظة. والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه. والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة. والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها .. هذه هي مناط الحكم، لا الظواهر والأشكال .. وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان». وأنا اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا .. ولكنه لم يفتح عليّ بشيء آخر .. والله المستعان». أقول: الذي أفهمه من الآية: أنه لا جناح على من طعم الحلال إذا اجتمع له التقوى، والإيمان، والعمل الصالح، وأداه ذلك إلى الارتقاء إلى حقيقة التقوى والإيمان، ثم أداه ذلك إلى الارتقاء إلى مقام التقوى والإحسان، مما يشير إلى أن التحقق بالتقوى والإحسان هو أرقى المقامات، يليه التحقق بالتقوى والإيمان، يليه الحد الأدنى
[سورة المائدة (5): آية 94]
من التقوى والإيمان والعمل الصالح، فإذا كان الإنسان تقيا مؤمنا عاملا وأكل حلالا حتى ارتقى إلى حقيقة الإيمان والتقوى ثم إلى حقيقة التقوى والإحسان، فهذا لا جناح عليه فيما طعم حالا أو مآلا، أما إذا كان أكل الحلال لا يرافقه ارتقاء بل يرافقه انحدار فذلك الذي تحذّر منه الآية، فأكل الحلال يحتاج إلى شكر، وشكره الارتقاء إلى المقامات العالية من التقوى والإيمان، ثم إلى التقوى والإحسان، وعلى هذا الفهم فإن الآية تحضّ المؤمنين العاملين أن يؤدوا شكر الإطعام المباح بالارتقاء إلى المقامات العليا وتحذّر من النزول. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ معنى يبلو: يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم، لا لعلم ما لم يعلم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أفاد التعبير: التقليل ليفيد أنه ليس من الفتن العظام تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ. أي: تنالونه أخذا بأيديكم يعني: صغار الصيد، وفراخه، وضعافه، وطعنا برماحكم وذلك كبار الصيد لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ . أي: ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجودا، كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد، ليثيبه على عمله لا على علمه فيه فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ. أي: فمن صاد بعد هذا الإعلام والإنذار فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: لمخالفته أمر الله وشرعه، وقد ظهر الابتلاء هذا على أشده يوم الحديبية قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون والابتلاء مستمر إلى يوم القيامة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ. أي: المصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. أي: في حال إحرامكم أي وأنتم محرمون للحج أو للعمرة أو لهما معا وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً. أي: ذاكرا لإحرامه، أو عالما أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه. قال النسفي: فإن قتله ناسيا لإحرامه، أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ، وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، لأن مورد الآية فيمن تعمّد ... ولأن الأصل فعل المتعمّد، والخطأ ملحق به للتغليظ. فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ. أي: فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد. قال النسفي: وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النّعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، وإن شاء صام عن طعام كلّ مسكين يوما. وعند محمد والشافعي: مثله: نظيره من النّعم، فإن لم يوجد له نظير من
[سورة المائدة (5): آية 96]
النعم فكما مرّ يَحْكُمُ بِهِ. أي: بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ. أي: حكمان عادلان من المسلمين هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ معنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم إن كان هديا من النّعم، وأما في حالة القيمة فعند الشافعي كذلك أنّ التصدّق ينبغي أن يكون في الحرم، وعند الحنفية فحيث شاء الإنسان أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ التقدير فجزاء، أو كفارة من طعام مساكين أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً العدل ما عادل الشئ من غير جنسه، كالصوم والإطعام، والإشارة في ذلك إلى الطعام، يصوم عن إطعام كل مسكين يوما. ومذهب الحنفية قائم على التخيير بين الهدي والإطعام والصيام، والخيار في ذلك إلى القاتل عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ. أي: فعليه الجزاء بأن يكفّر أو يصوم ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، والوبال المكروه، والضّرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ. أي: عمّا كان منكم من الصيد قبل التحريم وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. أي: ومن عاد إلى قتل الصيد بعد التحريم، أو في ذلك الإحرام فإنّ الله هو ينتقم منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ يلزم من شاء ما شاء ذُو انْتِقامٍ ممن جاوز حدود الإسلام أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ. أي: كل مصيدات البحر، أي كل دوابه، والحنفية لا يحلون للأكل من دواب البحر إلا السمك كبيرا أو صغيرا. ومع ذلك فقد أحلوا للمحرم صيد البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وَطَعامُهُ قال النسفي: وما يطعم من صيده والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكولات منه وهو السمك هذا مذهب الحنفية وأما غيرهم فقد فسر الآية بأن صيده ما أخذ منه حيا. وطعامه: ما لفظه ميتا مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ. أي: منفعة لكم وقوتا أيها المخاطبون ولكل مسافر، أو أحل لكم تمتيعا لمقيمكم يأكله طريا ولمسافركم يتزوده قديدا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً. أي: ما دمتم محرمين، وصيد البر أي ما صيد فيه: وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر، والبحر له مرعى كما للناس متجر وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تصطادوا في الحرم أو في الإحرام الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. أي: تبعثون فيجزيكم على أعمالكم جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ. أي: صيّر أو خلق الله الكعبة والبيت الحرام انتعاشا للناس في أمر دينهم، ونهوضا إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم، لما يتمّ من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم، فاقتضى ذلك أحكاما خاصة من أمثال ما مر، وكذلك وَالشَّهْرَ الْحَرامَ. أي:
[سورة المائدة (5): آية 98]
الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة لأنه مختص من بين الأشهر بإقامة موسم الحج، فاقتضى ذلك اختصاصه بأحكام خاصة منفعة ومصلحة للناس، ويحتمل أن يكون المراد بالشهر الحرام جنس الأشهر الحرم فيكون المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وَالْهَدْيَ. أي: ما يهدى إلى مكة وَالْقَلائِدَ وهي البدن التي تقلّد كرمز على أنها هدي إلى الحرم، وخصّت بالذكر وهي من الهدي لأنّ الثواب فيها أكثر وبهاء الحج معها أظهر ذلِكَ إشارة إلى جعل الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما للناس وما خصت به لذلك من أحكام لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي: لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض ويملك كل ما فيهما، فيحكم ويشرع ويأمر ويحظر بعلم وحكمة، وكيف لا وهو بكل شئ عليم اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. أي: لمن استخفّ بأحكامه، ولمن استخف بالحرم والإحرام وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومن مغفرته ورحمته أن يغفر آثام من عظّم المشاعر الحرام ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ هذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأنّ الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فلا يخفى عليه نفاقكم أو وفاقكم قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لمّا أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي عنده خبيثهم وطيبهم، بل يميّز بينهما فيعاقب الخبيث أي الكافر، ويثيب الطّيب أي المسلم، ولا يستوي عنده الحلال والحرام، ولا صالح العمل وطالحه، ولا جيّد النّاس ورديئهم وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ سواء كان رجالا أو مالا أو أعمالا فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ بإيثار الطيّب وإن قلّ، على الخبيث وإن كثر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ دلّ هذا على أن الفلاح مقرون بإيثار ما يحبه الله. ملاحظات حول السياق: 1 - بدأت سورة المائدة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ. وقد جاءت الفقرة الأولى من هذا المقطع تنهى عن تحريم ما أحل الله، وجاءت الفقرة
نقول: عن صاحب الظلال حول قوله تعالى جعل الله الكعبة ..
الثانية مبينة بعض ما حرّم الله، وجاءت الفقرة الثالثة في النهي عن الصيد للمحرم، وستأتي الفقرة الرابعة وفيها تبيان ضلال أهل الجاهلية في تحريمهم بعض بهيمة الأنعام. وهكذا نجد أن المقطع تتسلسل معانيه، وأنّها مرتبطة بالمقطع الأول من السورة مما يشعر بوحدة السورة، وارتباط أوائلها بأواخرها، فضلا عن الصّلات المتعدّدة بين كل جزء في السورة وما قبله وما بعده. 2 - لاحظنا أن التعليل للنهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كان لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ونلاحظ أنّ الفقرة التي نهت عن قتل الصيد للمحرم تنتهي بقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فالآيات تدلنا على طريق الفلاح الذي هو ضدّ الخسران فمن خالف خسر، وارتباط ذلك بمحور السورة بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لا يخفى. 3 - إن صيد المحرم، وشرب الخمر، ولعب الميسر، واتخاذ الأنصاب والأزلام، وتحريم ما أحل الله، له صلة بنقض العهد، ولبعضه صلة بقطع ما أمر الله به أن يوصل، ولبعضه صلة بالإفساد في الأرض، وكل ذلك لا يخفى على المتأمل. نقول: [عن صاحب الظلال حول قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ .. ] عند قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ قال صاحب الظلال: «لقد جعل الله هذه المحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام. وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم. كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب .. أقول: لقد نسخ تحريم القتل والقتال فجاز في شريعتنا القتل والقتال العادلان في الأشهر الحرم وقد ألقى الله في قلوب العرب- حتى في جاهليتهم- حرمة هذه الأشهر. فكانوا لا يروّعون فيها نفسا، ولا يطلبون فيها دما، ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه، فكانت مجالا آمنا للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق .. جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة- بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام. تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع. كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منطقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان.
فوائد
ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقا للهدي- وهو النعم- الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة، فلا يمسه أحد في الطريق بسوء. كما جعله لما يقلّد من الهدي معلنا احتماءه بالبيت العتيق. «وبعد فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما. وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما .. وإنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري .. ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية .. هذا المصطرع الذي يثور ويغور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان، وعلى الإنسان والحيوان! .. إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع، حتى ليتحرج المحرم أن يمدّ يده إلى الطير والحيوان .. وهما- في غير هذه المنطقة- حل للإنسان. ولكنهما هنا في المثابة الآمنة في الفترة الآمنة في النفس الآمنة .. إنها منطقة المران والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملإ الأعلى، وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى. ألا ما أحوج البشرية المفزعة الوجلة، المتطاحنة المتصارعة .. إلى منطقة المران التي جعلها الله للناس في هذا الدين، وبينها للناس في هذا القرآن». ولقد بيّن- جل جلاله- الحكمة في جعله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما للناس بأنها ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وفي هذا المقام يقول صاحب الظلال: «تعقيب عجيب في هذا الموضع، ولكنه مفهوم أن الله يشرع هذه الشريعة، ويقيم هذه المثابة، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شئ عليم .. ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. أنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات، والاستجابة للأشواق والمكنونات، فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته، وتذوّقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شئ عليم». فوائد 1 - [الخلاف فيما يحرم صيده وقتله على المحرم] فيما يحرم صيده وقتله على المحرم خلاف بين العلماء، فالشافعي يرى أنّ المحرّم هو المأكول، وما تولّد منه دون غيره، ويجوز عنده للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه
ولا فرق بين صغاره وكباره، فالعلّة الجامعة كونها لا تؤكل. والجمهور على حرمة صيد ما يؤكل وما لا يؤكل ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور». وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدوابّ ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور». ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله، قال أيوب: قلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها، ولا يختلف في قتلها، ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب، والسبع، والنّمر، والفهد؛ لأنها أشدّ ضررا منه. وقالوا: فإن قتل المحرم ما عداهن فداه كالضبع والثعلب والوبر (هرّ البرّ) ونحو ذلك. قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السباع العوادي. وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب لأنه كلب برّي، فإن قتل غيرهما فداه، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه، وهذا قول الأوزاعي، والحسن بن صالح: وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك، وإن صال عليه، وقال بعض الناس: المراد بالغراب هاهنا: الأبقع وهو الذي في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود، والأعصم وهو الأبيض، لما رواه النسائي ... عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس يقتلهن المحرم: الحية، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور». والجمهور على أن المراد به أعمّ من ذلك لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه، وقال مالك رحمه الله: لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه. وقال مجاهد بن جبر وطائفة: لا يقتله بل يرميه، ويروى مثله عن علي. وقد روى هشيم- .. عن أبي سعيد، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عما يقتل المحرم، فقال: «الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي». ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وعند ما تكون المسألة فيها أخذ ورد بين الأئمة فينبغي أن يلاحظ الإنسان ألا يقرب ما أجمعوا عليه، ثم يحتاط لدينه بمطالبته نفسه بالعزيمة، ويعذر الناس إذا أخذوا بالرّخصة أي: بالقول الأخفّ من أقوال الأئمة.
2 - حكم العمد والنسيان في صيد المحرم
2 - [حكم العمد والنسيان في صيد المحرم] الجمهور على أن العامد والنّاسي سواء في وجوب الجزاء على من صاد وهو محرم. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرت السنّة على النّاسي، ومعنى هذا أنّ القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمّد وعلى تأثيمه بقوله: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وجاءت السنة من أحكام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء على الخطأ، كما دلّ الكتاب عليه في العمد. وأيضا فإنّ قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمّد مأثوم، والمخطئ غير ملوم: وكثيرا ما يكون الفارق بين الخطأ والعمد لا من حيث الجزاء الدنيوي بل في الإثم والعقوبة الأخرويين. [3، 4 - حكم الصحابة في جزاء صيد بعض الحيوانات] 3 - حكم الصحابة في النّعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز. ومن قصصهم في هذا الباب ما يلي: أخرج ابن أبي حاتم .. عن ميمون بن مهران: أنّ أعرابيا أتى أبا بكر فقال: قتلت صيدا وأنا محرم، فما ترى عليّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبيّ بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسألك. فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما تنكر؟ يقول الله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فشاورت صاحبي، حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به. وهذا إسناد جيّد لكنه منقطع. أفترى أنّ الصّديق قد بيّن له الحكم برفق وتؤدة لمّا رآه أعرابيا جاهلا، وإنما دواء الجهل التعليم، فأمّا إذا كان المعترض منسوبا إلى العلم فقد روى ابن جرير ... عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجا فكنّا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا فنتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح (مرّ من اليمين إلى اليسار وعكسه: برح) لناظبي أو برح فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ حشاه، فركب وودعه ميتا، قال: فعظمنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقصّ عليه القصّة فقال: وإذا إلى جنبه رجل كأنّ وجهه قلب فضة- يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت عمر إلى صاحبه فكلّمه، قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدا قتلته أم خطأ؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله، فقال عمر: ما أراك إلا شركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها، قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل عظّم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها فلعل ذلك يعني أن يجزئ عنك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة، قال: فعلا صاحبي
5 - التخيير بين كفارات صيد المحرم
ضربا بالدرة، وجعل يقول أقتلت في الحرم وسفّهت الحكم؟ قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني، فقال: يا قبيصة بن جابر إني أراك شابّ السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب. وروى ابن جرير ... عن ابن جرير البجلي قال: أصبت ظبيا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعدا، فحكما عليّ بتيس أعفر. وروى ابن جرير أيضا: أن أريد (وهو ابن عبد الله البجلي) أوطأ ظبيا فقتله وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر (أي: رعى الماء والشجر) ثم قال عمر يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ. 4 - لو أن الصحابة حكموا في صيد ما بمقابل، كما رأينا في حكمهم في مقابل بقرة الوحش ببقرة. هل يكتفى فيه بحكمهم، أو يحتاج القاتل إلى تحكيم مستأنف؟ قال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة، وجعلاه شرعا مقرّرا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين، وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا، لقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ونحن لا نرغب أن نرجّح لمعرفتنا بقصورنا، ولكنّا هنا نلفت النظر إلى أنّ اشتراط التحكيم المستأنف فيه مصلحة متجدّدة، فمثلا قيمة النعامة قديما غير قيمتها حديثا. 5 - [التخيير بين كفارات صيد المحرم] في قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ... أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً جعل مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في المشهور عنه أن «أو» هنا للتخيير، فالقاتل مخيّر بين هذا، أو هذا، ومن الفقهاء من ذهب إلى أنّها للترتيب، فلا تصح القيمة، أو الصيام إلا في حالة كون المصيد غير مثلي، أو في حالة عدم الوجود والقدرة، والأمر فيه سعة، والمهم أن نعرف أن ذبح الهدي محله في الحرم لمن اختاره جزاء، وما سواه فيه خلاف. 6 - [حل ميتة البحر] روى ابن جرير أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: «إنّ البحر قد قذف حيتانا كثيرة ميتة أفنأكلها؟ فقال: لا تأكلوها. فلمّا رجع عبد الله إلى أهله أحد المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى هذه الآية وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ فقال
اذهب فقل له فليأكله، فإنّه طعامه». وقد استدلّ الجمهور على حلّ ميتة البحر بآية المائدة هذه، وبما رواه الإمام مالك بن أنس، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا، قبل الساحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة وأنا فيهم، قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، قال: فكان يقوّتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: فما تغني تمرة؟ فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظّرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ومرت تحتهما فلم تصبهما. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر: فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابّة يقال لها العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا. نحن رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنّا، لقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ويقتطع منه القدر كالثور، أو: كقدر الثور، قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلمّا قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرنا ذلك له، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من لحمه شئ فتطعمونا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه فأكله. وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم حين وجدوا هذه السمكة، فقال بعضهم: هي واقعة أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضية واحدة. ولكن كانوا أولا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ بعثهم سريّة مع أبي عبيدة فوجدوا هذه في سريّتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم. وروى مالك عن أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الطهور ماؤه، الحل ميتته». وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل وأهل السنن الأربعة، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم. وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بنحوه، والأدلة في أكل ميتة البحر واضحة كالشمس. ولا شك أن ما أنتن من الميتة إذا ترتب على أكله ضرر قطعي لا يجوز إلا في حالة الضرورة، وأما موضوع ما يجوز أكله
7 - حكم أكل صيد المحرم
من حيوان البحر وما لا يجوز. فقد رأينا أن الخلاف قائم بين من لا يجيز إلا أكل السمك وما أشبهه، ومن يجيز أكل كل دابة في البحر والأمر فيه سعة. 7 - [حكم أكل صيد المحرم] إذا صاد المحرم صيدا متعمدا أو مخطئا حرم عليه أكله لأنه في حقه كالميتة. وهل هو في حق غيره من المحلين والمحرمين كذلك؟ قال مالك والشافعي في أحد قوليه ذلك، وقال آخرون بإباحته لغير القاتل سواء المحرمون والمحلون، فإن أكل الصائد المحرم الصيد أو شيئا منه هل يلزمه جزاء ثان؟ قولان للعلماء، وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل، وأما إذا صاد حلال (غير محرم) صيدا فهل يجوز للمحرم أكله؟ ذهب ذاهبون إلى إباحة ذلك مطلقا منهم عمر بن الخطاب، والزبير، وسعيد بن جبير، والكوفيون، وذهب ذاهبون إلى كراهته، منهم علي، وابن عمر، وفصل مالك، والشافعي، وأحمد، بين ما إذا كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد أو لا، فإن قصده لا يحلّ له، وإلا حلّ له، واستدلوا لمذهبهم بحديث الصعب بن جثامة: أنه أهدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودّان، فردّه عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: «إنّا لم نردّه عليك إلا أنّا حرم». وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة، قالوا: فوجهه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ظنّ أن هذا إنما صاده من أجله، فردّه لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنّه يجوز له الأكل منه، ويشهد لذلك حديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله، ثم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها؟». قالوا: لا قال: «فكلوا». وأكل منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين بألفاظ كثيرة. وروى الإمام أحمد ... عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صيد البر لكم حلال» قال سعيد- وأنتم حرم- ما لم تصيدوه أو يصد لكم». وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي. ورواه الشافعي رضي الله عنه عن جابر ثم قال: وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. وروى مالك رضي الله عنه .. عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج، وهو محرم في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد، فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أولا تأكل أنت؟ فقال إني لست كهيئتكم، وإنما صيد من أجلي. وبهذه المناسبة نحبّ أن نذكّر أنّ فترة الحج فترة مران على السلام الحق، ويمارس المحرم هذا السلام مع الأحياء كلها، ولكنه يقتل الفواسق حتى في حالة إحرامه كرمز
8 - فائدة عظيمة من قوله تعالى ... ولو أعجبك كثرة الخبيث ..
على أنّه في صراع مع الشر لا يهدأ، وفي الحكم الذي ذكرناه، نلاحظ أن المسلم لا يتناقض مع نفسه، فهو لا يقتل ما حرّم عليه ثمّ يأكله، فيبني حلا على حرمة. 8 - [فائدة عظيمة من قوله تعالى ... وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ .. ] جاء في الحديث: «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» وروى البغوي في معجمه أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه». نذكر هذا بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ. 9 - [تعميق لقضية التقوى] رأينا أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النساء من حيث كونها طريقا وتعميقا لقضية التقوى، ولقد ختمت هذه الفقرة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فلا فلاح إلا بتقوى، ولا تقوى إلا باتباع كتاب الله في كل حال. كلمة في السياق: بعد أن بيّن الله- عزّ وجل- أنه لا يصح لنا أن نحرّم طيبات ما أحل لنا، وبيّن لنا بعض الخبائث التي حرّمت علينا، وبعد أن ذكر أن صيد البر حال الإحرام لا يجوز- وهي حالة مستثناة من الحل العام- ينهانا في الفقرة اللاحقة أن نسأل؛ رغبة في التحريم، ويبين لنا أن ما حرّمه أهل الجاهلية على أنفسهم، من عند أنفسهم ليس حراما، بل إن ما حرّموه على أنفسهم من عند أنفسهم دليل على ضحالة العلم والعقل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ، إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. أي: تغمّكم وتشق عليكم، إذ تؤمرون بتحمّلها فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها، وفي هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء ممّا لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنّها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربّما ساءتهم، وشقّ عليهم سماعها وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ يحتمل معنيين. الأول: وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي- وهو ما دام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين أظهركم- تبد لكم تلك التكاليف التي تسوؤكم، ويترتب على ذلك تفريط. والمعنى الثاني: أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزّل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبيّن لكم، وعلى هذا يكون المعنى: إن السؤال لتفهم الوحي جائز، وأما السؤال ابتداء فقد يترتب عليه ضرر عام، وهذا لا يجوز عَفَا اللَّهُ عَنْها. عفا الله عما سلف من
[سورة المائدة (5): آية 102]
مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ومن حلمه أنه لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار قَدْ سَأَلَها. أي: سأل مثل هذه المسائل قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم السابقة ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها. أي: بسببها كافِرِينَ كما حدث لبني إسرائيل، وعرف ذلك منهم ما جَعَلَ اللَّهُ. أي: ما شرع ذلك، ولا أمر به، ثم بين هذا الذي لم يشرعه ولم يأمر به مِنْ بَحِيرَةٍ البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها، وامتنعوا من ركوبها، وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا مرعى وَلا سائِبَةٍ هي الناقة يسيبونها لآلهتهم، ويعاملونها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، كان الرجل منهم يقول: إذا قدمت من سفري، أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وَلا وَصِيلَةٍ هي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرا أكله الرجال، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم، وكذا إن كان ذكرا وأنثى، وقالوا وصلت أخاها، فالوصيلة بمعنى الواصلة وَلا حامٍ وهو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريمهم ما حرّموا ونسبتهم هذا التحريم إليه وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فأفعالهم وتصوراتهم لا عقل فيها ولا فهم، ومن جهلهم وعدم عقلهم فإنهم كما قال الله بعد ذلك وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ. أي: هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة أو إلى حكم الله مطلقا قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أي: كافينا ذلك أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ . أي: الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجّة. وآباء هؤلاء لا علم، ولا هداية، فكيف يكفيهم ما عليه آباؤهم وهم كذلك. والسياق العام لهذه الفقرة على الشكل التالي: نهاهم عن السؤال ابتداء، وسمح لهم بالسؤال لاستجلاء الوحي، ثمّ علّل سبب منع السؤال، ثم ابتدأ تبيان حكمه في موضوع تحريم الانتفاع في أنواع من الحيوان، ثم بيّن جهالة الجاهليين في رفضهم الاحتكام إلى الله ورسوله، واتباعهم آباءهم في القضايا غير المعقولة المعنى، والتي تدلّل على الجهل والضلال، كهذه القضية المذكورة في وسط الفقرة، وقد دلّت الآية على أن غير شرع الله لا يقوم على عقل، ولا علم، ولا هداية. نقل وتعليق: [نقل عن صاحب الظلال حول آية .. لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ .. ] عند قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
يقول صاحب الظلال: «إن المعرفة الغيبية في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة .. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية. وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به. فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه فإنه لا يصل إلى شئ أبدا، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها .. فهو جهد ضائع. فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد. وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام .. وهذا هو منهج الإسلام .. ففي طوال العهد المكي لم يتنزّل حكم شرعي تنفيذي- وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام. ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه، فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل، وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديّتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني: كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن .. ذكره الدارمي في مسنده .. وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر- وقد سئل عن مسألة- فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناها لكم. وقال الدارمي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهنّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ .. وشبهه .. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وقال مالك: أدركت هذا البلد (يعني المدينة) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة. فإذا نزلت نازلة، جمع الأمير من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه. وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله!
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية: روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» .. قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال»: التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا، وتكلّفا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات. وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف. ويقولون: إذا نزلت النازلة وفّق المسئول لها .. إنه منهج واقعي جاد. يواجه وقائع الحياة بالأحكام، المشتقة لها من أصول شريعة الله، مواجهة عملية واقعية .. مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا .. فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع، فهو استفتاء عن فرض غير محدد. وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع. والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غير محدد. والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم. ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله لغير التفقه، والفتوى على هذا الأساس لغير مريد العمل!! إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ .. فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة، ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس .. أي: لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه .. فما استفتاء المستفتي؟ وما فتوى المفتي؟ إنهما- كليهما- يرخصان شريعة الله، ويستهتران بها، شاعرين أو غير شاعرين سواء! ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة .. إنها دراسة للتلهية! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه، ليخدّر مشاعر الناس بهذا الإيهام! إن هذا الدين جد. وقد جاء ليحكم الحياة. جاء ليعبّد الناس لله وحده، وينزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان فيرد الأمر كله إلى شريعة الله لا إلى شرع أحد سواه .. وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها. ولم يجئ هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار. ولا لتكون شريعته
تعليق: المؤلف على كلام صاحب الظلال وبيان أهمية دراسة الفقه
موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة. ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية في الهواء!. هذا هو جدّ الإسلام. وهذا هو منهج الإسلام. فمن شاء من «علماء» هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة. أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء!. تعليق: [المؤلف على كلام صاحب الظلال وبيان أهمية دراسة الفقه] أن تحاول الحركة الإسلامية تصوّر الفرعيّات التي يمكن أن تواجهها بعد خمسين عاما ثمّ تكرّس جهودها كلها من أجل ذلك فذلك استنفاد للطاقات في غير محلّها، وأن تشتغل الحركة الإسلامية أو المفتون بعمليّات التبرير للجاهلية والجاهليين فذلك عبث وهجوم على دين الله، ولكن أن يوجد المفتي القادر على أن يفتي المسلم في حياته المعاصرة فيما ينبغي فعله أو تركه في ظل الأنظمة الكافرة فذلك فرض لا بد منه، وأن تسير الحركة الإسلامية في الأوضاع المعاصرة على ضوء الفتوى المبصرة من أهلها، فذلك فرض الفروض، وأن يجيب فقهاء المسلمين خلال العصور على كل سؤال ولو كان سؤالا لا يقع إلا مرّة في العصر فذلك ليس عيبا. ثمّ إن دراسة الفقه هي الطريقة الوحيدة لإيجاد الرّجل الفقيه، وإنّ التعرف على طرق استنباط الأحكام من خلال ما فعله علماء المسلمين خلال العصور هو الطريق العملي لإيجاد العقلية الفقهية القادرة على حلّ المشاكل اليومية. إنّه لا بد من دراسة الفقه، ولا بد من وجود الفقيه، ولا بد من استيعاب العلوم التي يحتاجها وجود الفقيه، وكل ذلك من فروض الكفايات في الأمة، وأن يسأل المكلف عمّا يحلّ له وعمّا يحرم عليه في أي ظرف وفي أي مجتمع فهذا كذلك من الفرائض. فما قاله صاحب الظلال ينبغي حمله على غير مثل هذه الحالات، لقد فهم الكثيرون عن صاحب الظلال ما لم يرده، فمثلا تجد بعضهم يحارب أصل دراسة الفقه اعتمادا على رأي (سيد رحمه الله) بينما (سيد رحمه الله) في أوسع ما قال «ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة» فهو يحمل على مثل هذا
فوائد: حول قوله تعالى ... لا تسئلوا عن أشياء ..
ونحن نعتبر حملته هذه نفسها خطا ففي الحديث «ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل خير من أن تصلي ألف ركعة» إن دراسة كل أبواب الفقه جزء من عملية إبقاء الإسلام كله حيا. فوائد: [حول قوله تعالى ... لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ .. ] 1 - ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالأشياء التي نهوا عن السؤال عنها الآيات والمعجزات غير أن مجموع ما ورد من أسباب نزول يدلّ على المعنى الذي اتجهنا إليه واخترناه، وهو اختيار عامّة المفسرين ولنذكر هنا ما ورد من أسباب نزول لهذه الآية: - روى البخاري ... عن أنس بن مالك قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» قال: فغطّى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوههم لهم خنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: «فلان». فنزلت هذه الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ. - روى ابن جرير ... عن قتادة في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية، قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدّثه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: «لا تسألوني اليوم عن شئ إلا بيّنته لكم» فأشفق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلّا لافّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبيّ الله من أبي؟ قال: «أبوك حذافة» قال: ثم قام عمر، أو قال فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله-، أو قال: أعوذ بالله- من شر الفتن، قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صوّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط». - روى البخاري ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟. ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ حتى فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري. - روى الإمام أحمد ... عن عليّ قال: لمّا نزلت هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: فقالوا: أفي كل عام؟ فقال: «لا، ولو قلت نعم لوجبت،». فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية. وكذا رواه الترمذي وابن ماجه. وممّا يعين على فهم معنى هذه الآية الأحاديث الثلاثة الآتية: - روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته». - وفي صحيح مسلم عن رسول الله أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنّما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم». - وفي الحديث الصحيح أيضا: «إنّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها». من النصوص المذكورة سابقا نستطيع أن نحصي عددا من الحالات التي نهي المسلمون أن يسألوا عنها: - السؤال استهزاء، والسؤال عن غير ما هو ديني، والسؤال عن أمر ذي طابع خاص ويريد صاحبه أن يقحم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، والسؤال عمّا يسوء وليس من باب الديانات، والسؤال الذي يترتب عليه تضييق على المسلمين، أو يدلّ على غلو عند صاحبه، والسؤال عمّا سكت الله عنه، والسؤال الذي فيه طابع الجدل والمماحكة، وقد قررنا القاعدة من قبل وهي عدم ابتداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالسؤال عن شئ جديد، وجواز الاستيضاح عن شئ نزل من الوحي، أو تقرّر من الدين بقصد الفهم والعمل. 2 - قد يتساءل متسائل عن بداية وجود ما ذكر الله من أمر البحيرة وغيرها وفي النصوص التالية بيان: روى البخاري ... أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه، وهو أوّل من سيّب السوائب». تفرّد به البخاري. وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك»؟ فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيّر دين إبراهيم، وبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي». وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أوّل من سيّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإنّي رأيته، يجرّ أمعاءه في النّار» تفرّد به أحمد. فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرّعاع من النّاس إلى عبادتها، والتقرّب بها. وشرع هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، ومن هذه النصوص، ومن الآية الواردة في هذا الموضوع، نعرف أنّ تحريم الحلال في الشريعة الإسلامية كتحليل الحرام كلاهما كفر وضلال، وكلامنا في الحرام القطعي، أو في الحلال القطعي، ومن هنا نفهم خطأ الذين يسارعون إلى التحليل والتحريم من عند أنفسهم دون علم. فما أجرأ هؤلاء على النار، وإنّا لنرى في عصرنا ناسا يهجمون على الفتوى في أمور من عند أنفسهم لو عرضت على مالك أو أحمد أو الشافعي لبقي الشهور يفكر فيها وهم يفتون فيها دون تفكير أصلا. 3 - روى ابن أبي حاتم ... عن مالك بن نضلة قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في خلقان من الثياب فقال لي: «هل لك من مال؟» قلت: نعم، قال: «من أي المال؟» قال: فقلت: من كلّ المال من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله مالا فلير عليك». ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال: قلت نعم، قال: وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: «فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بحيرة. وتشق آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم». قلت: نعم، قال: «فلا
كلمة في السياق
تفعل. إن كل ما آتاك الله لك حل». ثم قال: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. من هذا النّص ندرك جهل أهل الجاهلية حيث حاولوا شكر النّعمة عن غير طريق الشكر، كما ندرك أن طريق الشكر هو التزام أمر الله، وهو في هذا المقام أن يدفع الإنسان زكاة ماله للفقراء، أو يمنح شيئا منه للمحتاجين، أو يوسّع على نفسه وعلى الناس فيه. 4 - قد يتساءل متسائل عن الصلة بين هذه الفقرة التي مرّت معنا وبين ما قبلها وما بعدها؟ والجواب: في هذا المقطع يقرر الله أحكاما متعددة، فإن يأتي خلال هذا المقطع ما يحجر السؤال عن المسكوت عنه، ويبيح السؤال عما نزل، فذلك شئ منسجم مع ما قبله وما بعده، وأن يقرّر خلال ذلك حكم ما حرمه الجاهليون على أنفسهم، وأن يسفه فعلهم في مقطع يبدأ بالنهي عن تحريم الطيبات، كل ذلك واضح الصّلات، وفي هذه الفقرة التي تمنع السؤال المتعنّت وتقرر الحكم النهائي في تسفيه عادة جاهلية، أن يسفّه المقلدون للآباء تقليدا أعمى، كل ذلك ينسجم مع جو المقطع، وفي مقطع هو جزء من سورة المائدة التي تعمّق معنى التسليم لله والإيمان به والاهتداء بكتابه أن تأتي فقرة تمنع السؤال، وتقرّر الأحكام، وتسفّه تقليد الضلّال والجهال، كل ذلك سائر على نسق يكمّل بعضه بعضا. كلمة في السياق: لنتذكّر أن محور سورة المائدة من سورة البقرة هما الآيتان المبدوءتان بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... ولنتذكر أن في هاتين الآيتين يرد قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... وقد رأينا أن سورة المائدة وضّحت الكثير من معالم طريق الهدى، وحدّدت الكثير من صفات المهتدين وبيّنت طريق الضلال، وحدّدت صفات الذين يستحقون الضلال، وقد سارت السورة موضحة هذا وذاك، فإذا استقرت المعالم فقد آن الأوان ليبيّن لأهل الإسلام أنّ ضلال الضالين لا يضرّ المهتدين، وهذا هو مضمون الآية اللاحقة التي تشكّل فقرة برأسها، وهي الفقرة الخامسة في المقطع السابع الذي هو المقطع الثاني في القسم الثالث من السورة، وسنرى محلّ الفقرة في سياق المقطع والقسم وهي:
[سورة المائدة (5): آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الزموا إصلاح أنفسكم أي: عليكم أنفسكم وما كلّفتم من إصلاحها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. أي: لا يضرّكم الضلّال عن دينكم إذا كنتم مهتدين وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. أي: المهتدون والضالون راجعون إلى الله، وهو سيخبر الجميع بأعمالهم، ويحاسبهم عليها، ثم يجزي الجميع على أعمالهم. فائدة: [الفهم الصحيح لقوله تعالى ... عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ .. ] من المهم جدا أن نعرف فهم السلف رضي الله عنهم لهذه الآية، فإنّ فهمهم لها عاصم من الغلو والخطأ: روى الإمام أحمد رحمه الله ... أنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيّها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله- عزّ وجل- أن يعمّهم بعقابه»، وقال أبو بكر: يا أيها الناس إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان. وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه. وروى أبو عيسى الترمذي ... عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيّة آية، قلت: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإنّ من ورائكم أياما، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم» وزاد بعضهم: قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم». ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال عبد الرزاق ... أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله تعالى:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنّها اليوم مقبولة: ولكنّه قد يوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ. وروى أبو جعفر الرازي، ... عن ابن مسعود في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ الآية. قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية. قال: فسمعهما ابن مسعود فقال: مه، لم يجئ تأويل هذه بعد، إنّ القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن اليوم، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من حساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء. وألبستم شيعا، أو ذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية. وروى ابن جرير ... عن سفيان بن عقال، قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود، وأنتم الغيّب، ولكنّ هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. وروى ابن جرير أيضا ... عن سوار بن شبيب قال: كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة، كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألوا، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلّا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال الرجل: إني لست إياك
أسأل، وإنما أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله: لعلك ترى لا أبا لك أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم، عظهم وانههم، وإن عصوك فعليك نفسك، فإنّ الله- عزّ وجل- يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية. وروى أيضا .. عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس. فقرأ أحدهم هذه الآية عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. وروى أيضا ... عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها!! فتمنّيت أنّي لم أكن تكلّمت، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان: إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرّك من ضل إذا اهتديت. وروي أيضا ... أنّ الحسن تلا هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وروي أيضا أن سعيد بن المسيّب قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرّك من ضل إذا اهتديت. وكذا قال غير واحد من السلف. والذي نقوله تعليقا على هذا كله: 1 - أن الجماعة المسلمة متكاتفة متضامنة، ومن مظاهر تكاتفها: تواصيها بالحق والصبر، وأمرها لبعضها بالمعروف، وتناهيها عن المنكر، فإذا حققت هذا لا يضرها من ضلّ إذا اهتدت، ولكنها إذا تركت التواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تكون مهتدية. 2 - إن من الهداية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، فمن لم يفعل هذا يكون قد ترك من الهدى، فالآية لا تفيد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الأمر بالمعروف جزء من الهداية. ولكن قال الفقهاء إذا ترجح لديك عدم فائدة الأمر بالمعروف، فلا يجب عليك
كلمة في السياق
الأمر بالمعروف، وإذا لاحظنا السياق والآية التي قبل هذه الآية ندرك أن الكلام في حالة هي: عند ما يصرّ الكافرون على التقليد، وندعوهم فلا يستجيبون، فإنّ ضلالهم لا يضرّنا عند الله. كلمة في السياق: 1 - جاءت هذه الآية في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهذا يفيد أنّ من جملة المعاني التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبلغها المؤمنين هذا المعنى، وهو أن على أهل الإيمان أن يبذلوا جهدهم كاملا في إصلاح أنفسهم، وأخذها بأسباب الهداية، وأنهم إن فعلوا ذلك لن يضرّهم ضلال الضلّال. 2 - جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... بعد فقرات النّهي عن تحريم الطيبات، وتبيان بعض المحرمات، وبعد النهي عن صيد البر للمحرم، وبعد النهي عن السؤال المتعنت، مما يشير إلى أن هذه المعاني من الهداية التي ينبغي أن يأخذ المسلم نفسه بها، وأنه إن فعلها لا يضرّه ضلال الضلّال في شأنها. 3 - وفي سياق الآية الواعظة التي تذكّرنا بالرجوع إلى الله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً تأتي الفقرة الخامسة والتي تحدثنا عن وصيّة المغترب إذا مات ليختم المقطع بموضوع متصل بالأيمان، التي جاء حديث عنها في بداية المقطع لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ .... 4 - لقد رأينا صلة المقطع الذي بأيدينا الآن بالمقطع الأول من السورة ومما ورد في المقطع الأول من السورة قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ والفقرة السادسة في هذا المقطع تبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ .... وقبل أن نعرض الفقرة الأخيرة في المقطع فلننقل ما قاله صاحب الظلال عن الآية التي مرّت معنا. نقل عن آية لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ من كلام صاحب الظلال في آية عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
[سورة المائدة (5): آية 106]
«إن كون الأمة المسلمة مسئولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا، ثم في الأرض جميعا. وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته، وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته. وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت: هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه .. والأمة المسلمة قوّامة على نفسها أولا، وعلى البشرية كلها أخيرا. وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما- وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة بإقامة شريعة الله في الأرض- إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها. إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان- وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله، واغتصاب سلطانه، وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته. «وكلا والله إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد. ولا يصلح إلا بعمل وكفاح. ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها .. ولا بد من جهد. بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبالقوة إن وجدت حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم» اه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ حضور الموت: مشارفته وظهور أماراته، والتقدير العام: شهادة بينكم حين حضور أحدكم الموت حين الوصية شهادة اثنين، وفي النّص دليل على وجوب الوصيّة ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هذه صفة للشاهدين، اشترط العدالة لهما، وأن يكونا منا، وهل المراد ب (منكم) من المسلمين، أو من أقارب الميت، ومن يلوذ به لأنهم هم الأعلم بحالات الميت، قولان للمفسرين، والجمهور على أن المراد هو الأول، أي من المسلمين أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. أي: من غير المسلمين على القول الذي عليه الجمهور إِنْ أَنْتُمْ
[سورة المائدة (5): آية 107]
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. أي: سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فهذان شرطان لجواز استشهاد غير المسلمين تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي: توقفونهما للحلف من بعد الصلاة، لأنه وقت اجتماع الناس فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: فيحلفان بالله إن شككتم في أمانتهما، والتقدير إن ارتبتم في شأنهما فحلّفوهما لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً. أي: لا نشتري بالله، أو بالقسم عوضا من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. أي: ولو كان المقسم له قريبا منّا أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له ذا قربى منّا وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ. أي: الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. أي: إن كتمنا فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً. أي: فإن اطّلع على أنّهما فعلا فعلا ما أوجب إثما واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين فَآخَرانِ. أي: فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ. أي: من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، والأوليان تثنية أولى، والمراد به الأحق بالشهادة لقرابة أو معرفة كأنه قيل ومن هما اللذان يشهدان الشهادة المعاكسة، فقيل الأوليان فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما. أي: ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيّين الخائنين وَمَا اعْتَدَيْنا. أي: وما تجاوزنا الحقّ في يميننا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: إن حلفنا كاذبين ذلِكَ أي الحكم الذي مر ذكره أَدْنى أي أقرب أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي: أن يأتي الشهداء على تلك الحادثة كما حملوها بلا خيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ. أي: يتكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم، فصار المعنى: ذلك أقرب أن تؤدوا الشهادة بالحق والصدق إما لله أو لخوف العار والافتضاح بردّ الأيمان وَاتَّقُوا اللَّهَ. أي: في الخيانة واليمين الكاذبة وَاسْمَعُوا. أي: سماع قبول وإجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. أي: الخارجين عن الطاعة. فوائد: [حول آيات الوصية وسبب نزولها] 1 - قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم: إنها منسوخة، وقال آخرون وهم الأكثرون- وهو الذي رجّحه ابن جرير-: بل هو محكم ومن ادعى نسخه فعليه البيان.
2 - واختلفوا هل الاثنان شاهدان، أو وصيّان، على قولين، القول الأول: أنهما شاهدان على الوصية، والقول الثاني أنهّما وصيّان، ومن قال إنّهما شاهدان قال: فإن لم يكن معهما وصيّ ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة. واختلفوا هل المراد بالصلاة المذكورة صلاة المسلمين في حالة كون الشاهدين غير المسلمين أو صلاتهما في دينهما. 3 - وفي سبب نزول هذه الآيات يروي الترمذي وأبو داود عن ابن عباس بإسناد حسن غريب هذه الرواية، قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعدي بن بدّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم. فلمّا قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما. وأن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية. وقد اجتزأنا بذكر هذه الرواية لحسن سندها، وأعرضنا عن ذكر غيرها في موضوعها مع أن فيه زيادة تفصيل لعدم الاطمئنان إلى السند مع ملاحظة اشتهار أصل القصة في الصّدر الأول، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين، وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر رواه ابن جرير، وكان تميم وصاحبه نصرانيين وقتها. قال ابن كثير: وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى فاصل في هذا المقام. 4 - وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الشعبيّ قصة حدثت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تدلّ على أنّ هذا الحكم معمول به غير منسوخ، وهذه هي القصة: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا (اسم بلدة معروفة أيامها ولذلك أشار إليها بقوله) هذه، قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا الأشعري، يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فأخبراه، وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فأحلفهما
كلمة في السياق
بعد العصر بالله ما خانا، ولا كذبا، ولا بدّلا، ولا كتما، ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما». وقد دلّ عمل أبي موسى، وعدم إنكار الناس، ورواية الشعبي للحادثة دون نكير، على صحّة اتجاه من ذهب إلى أنّ الحكم غير منسوخ. كلمة في السياق: في هذا المقطع عدة فقرات كلها مبدوءة ب «يا أيها الذين آمنوا» الأولى: في النهي عن تحريم الطيبات. والثانية: في تقرير حرمة الخمر والميسر. والثالثة: في حرمة صيد المحرم. والرابعة: في النهي عن السؤال مع تقرير عدم حرمة أنواع من الأنعام. والخامسة: في التأكيد على أن هداية المهتدين لا تضر معها ضلالة الضالين. والسادسة: في طريق الوصول إلى حق وراث من مات في سفر، وما بين النهي عن تحريم الطيبات في الفقرة الأولى، وتحريم الاعتداء على ما لم يأذن به الله في الفقرة الثالثة، وتحريم السؤال المتعنت مع تبيان إباحة بعض الأنعام في الفقرة الرابعة، وتحريم أكل مال من مات في سفر في المجموعة الأخيرة، صلات واضحة، والصلة بين هذا كله وبين الإقبال على الأنفس في الهداية في الفقرة الخامسة لا تخفى. ولذلك كله صلاته بمحور السورة من البقرة فالسّورة بيّنت في قضية الهداية والضلال، وفي قضية الفسوق وأسبابه، وفي أنواع من نقض الميثاق، وفي أنواع من الإفساد في الأرض، وفي أنواع من قطع ما أمر الله به أن يوصل. فإذا اتضح محل المقطع الأخير في السياق فلنذكر كلمة حول أقسام السورة تكون بمثابة المقدمة للكلام عن خاتمتها. كلمة في أقسام السورة: قلنا: إن السورة تتألف من ثلاثة أقسام وخاتمة، وقد عرضنا الأقسام الثلاثة ولم تبق إلا الخاتمة. وقد رأينا كيف أن الأقسام الثلاثة فصّلت في محور السورة، ورأينا صلاتها فيما بينها. وقد ركّز القسم الأول على الوفاء بالعقود، وترك الإفساد في الأرض، وإذ كان الناس في هذا الشأن قسمين: مهتدين، وكافرين، فقد جاء القسم الثاني لينهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن على الذين يسارعون في الكفر، وركّز السياق على وصل ما
خاتمة السورة تمتد خاتمة السورة من الآية (109) إلى نهاية الآية (120) وهذه هي
أمر الله به أن يوصل. ثم جاء القسم الثالث ليطالب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبلاغ بأمور عيّنها القسم، وهكذا تجد أن الأقسام تتكامل معانيها في السورة، وتتواصل، والمقاطع تتكامل معانيها وتتواصل، والفقرات تتكامل معانيها وتتواصل، وكلّ ذلك بما يكمّل معاني سورة النساء، فبين السورتين تكامل، كل ذلك والسورة مشدودة إلى محورها في سورة البقرة تفصّل فيه. والملاحظ أن الآية الأولى في محور سورة المائدة ختمت بقوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وأن آخر آية في القسم الثالث ختمت بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وكما ترى فإن المعنى واحد، وسنرى كيف أن خاتمة السورة مرتبطة بما قبلها من القسم الثالث، وبما قبلها من مضمون السورة، وأنّها كذلك مرتبطة بمحور السورة من البقرة فلنر خاتمة السّورة: خاتمة السورة تمتد خاتمة السورة من الآية (109) إلى نهاية الآية (120) وهذه هي: 5/ 111 - 109
5/ 120 - 112
كلمة في سياق خاتمة السورة
[كلمة في سياق خاتمة السورة] - بدأ القسم الثالث بالأمر بالبلاغ، وحدّد في مقطعه الأول مضامين من البلاغ لغير المسلمين، ثم جاء المقطع الثاني في القسم فحدّد مضامين من البلاغ لأهل الإيمان، ثم جاءت خاتمة السورة لتطوي الزمن وتعرض علينا في آيتها الأولى كيف أن الله سيجمع الرّسل عليهم السلام، ويسألهم عن جواب أقوامهم لهم، كأن هذه النّقلة تشير إلى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بلّغ، وأن على الناس أن يستجيبوا، وأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيد على الموقف، ومن بين الرّسل جميعا يخصّ المسيح عليه السلام بكلام تتقرّر فيه صحة ما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه في شأنه مما يخدم معاني المقطع الأول في القسم الثالث ومعاني في القسمين الأول والثاني يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ .... فالخاتمة مرتبطة بالقسم السابق عليها مباشرة، ومرتبطة بمحور السورة، وكلّ ذلك قد جاء من خلال عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة، يعرض الله- عزّ وجل- علينا فيه حقيقة عيسى وأمّه، وحقيقة دعوته، وذلك بعد أن مر معنا أكثر من مرة كفر الذين غلوا في شأنه، فكأنّ السورة ذكرت في السياق ما يناسبه من شأن القائلين بألوهية المسيح عليه السلام، حتى إذا فرغت السورة من تقرير الأحكام، وبيان ما يقتضيه سياقها، خلصت إلى ذكر حقيقة المسيح وأمه عليهما السلام، وحقيقة دعوته. - لقد رأينا في السورة نقض اليهود والنصارى للمواثيق، ورأينا غلوّ النصارى في المسيح عليه السلام وأمه في أكثر من مكان، وفي خاتمة السورة يأتي تقرير مسألة المسيح وأمه عليهما السلام على حقيقتها التي ينبغي أن يرجع النّاس إليها. - قلنا عن سورة المائدة إنها استمرار لسورة النساء في كونها تفصّل هي وسورة النساء، وسورة الأنعام بعدهما، في مقطع الطريقين: الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق. وفصّلت سورة النساء بشكل أخص في الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وفصلت سورة المائدة بشكل أخص في قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
وتأتي خاتمة سورة المائدة لتقرّر أن دعوة عيسى عليه السلام هي الدعوة المحمدية نفسها: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ. فبعد أن تمّ التفصيل للطريقين في سورة النساء، وسورة المائدة، تأتي خاتمة سورة المائدة لتقرّر أن ما دعا إليه القرآن الناس جميعا، من عبادة الله وحده، هو لباب دعوة كل رسول، ومنهم عيسى عليه الصلاة والسلام. وتأتي خاتمة سورة المائدة وفيها تقرير لحقيقة عيسى عليه السلام، ودعوته بين يدي سورة الأنعام التي تناقش الكافرين بكفرهم وتقيم عليهم الحجة. فكأنّ هذه الخاتمة هي الربط ما بين سورتي المائدة والنساء، وبين سورة الأنعام، وهي السور الثلاث التي تفصّل مقطعا كاملا من سورة البقرة. - وفي الخاتمة نموذج على ناس نقضوا العهد في شأن عيسى، ونموذج على ناس وصلوا ما أمر الله به أن يوصل وهم الحواريون. وفي المقطع نموذج على صلاح المصلحين في الأرض، وفيها إعلام بما ينجي عند الله وهو الصدق، وإعلان أن المالكية لله- عزّ وجل- وهو الإعلان الذي رأيناه في أواخر سورة البقرة، وأواخر سورة آل عمران، وهو الذي ينبغي أن يقرّ به الإنسان ليكون ممن يعبد الله وحده. ولئن كان من خلال هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة يتقرر: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فإن ذلك درس لمن يكتم شهادة الله في الدنيا، ويخون الأمانة. وصلة ذلك بالفقرة السابقة على الخاتمة واضحة، إذ هي في أداء الشهادة والأمانة. وأن تختم السورة التي تربي على الوفاء بالعهود، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، والإصلاح في الأرض بهذه الخاتمة التي ترينا هول المقام يوم القيامة، وشدة التدقيق حتى مع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فذلك واضح الدلالة على أن ما طولبتم به أيها الناس، أنتم محاسبون عليه فخذوا الأمر بمنتهى القوة. وهكذا نجد أنّ خاتمة السورة في محلّها، تؤدي أكثر من خدمة للسياق، فهي تربي على معانيها، وتكمّل معاني قسمها، وتضع الأمور في مواضعها بالنسبة لقضايا تعرّض
المعنى العام
لها سياق سورة المائدة، وهي إذ فنّدتها هناك في خطاب أهل الدنيا. فإنها هنا تعرضها والقيامة قد قامت، وهي مع ذلك ترتبط بمحور سورة المائدة من البقرة وكما أنها مقدمة لسورة الأنعام. المعنى العام: تبدأ خاتمة سورة المائدة بالإخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة، وعما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، ولهول ذلك اليوم، ولكونه موقفا تذهل فيه العقول، نفوا أن يكون لهم علم بما أجيبوا، وذلك من هول الموقف، وحسن الأدب مع الله، إذ لا علم لهم بالنسبة لعلم الله المحيط، إذ هو وحده العليم بالظواهر والبواطن. فعلم الرسل بالنسبة لعلم الله كأنه لا علم، لأن الله وحده علّام الغيوب كلها، ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- ما منّ على عبده ورسوله عيسى عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات، وأمره إياه أن يذكر نعمته عليه في خلقه إياه من أمّ بلا أب. وجعله إياه آية ودلالة قاطعة على كمال قدرته عزّ وجل على الأشياء، وأمره أن يذكر نعمته على والدته مريم؛ حيث جعله لها برهانا على براءتها ممّا نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، ومن أجلّ نعمه عليه التي أمره أن يتذكرها ما أيده به من جبريل عليه السلام، فجعله نبيا داعيا إلى الله في صغره وكبره، فأنطقه في المهد صغيرا شهد ببراءة أمّه من كل عيب، واعترف لله بالعبودية، وأخبر عن رسالته ودعوته إلى عبادته في صغره وكبره، ثمّ أمره أن يتذكر نعمة تعليمه الكتاب والتوراة، وما أكرمه به من الخوارق والمعجزات، من تصوير الطين وتشكيله على هيئة الطائر بإذن الله له في ذلك، فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله أي: فينفخ في تلك الصورة التي شكّلها بإذن الله له في ذلك فتكون طيرا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه، ومن ذلك إبراء الأعمى والأبرص بإذن الله، ومن ذلك دعوته فيقومون أحياء بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته. ثمّ أمر أن يذكر نعمته عليه في كفّه بني إسرائيل عنه حين جاءهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوته ورسالته من الله إليهم، فكذبوه واتّهموه بأنّه ساحر وسعوا في قتله وصلبه، فنجّاه منهم، ورفعه إليه، وطهّره من دنسهم، وكفاه من شرّهم، ثمّ أمره أن يذكر نعمته عليه بأن جعل له أصحابا وأنصارا، إذ ألهم حوارييه الإيمان به واتّباعه، فاستجابوا له وانقادوا وتابعوا. ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- في هذا السياق قصة اقتراح المائدة على عيسى من قبل حوارييه وجوابه ودعاءه الله من أجلها، وردّ الله
عليه، وبيان سنة الله في حالة اقتراح الآيات من قبل الناس، وكيف أنّه إن استجاب للاقتراح. ثمّ كفر أحد ممّن شاهد الآية يستحق عذابا شديدا. وهل أنزل الله المائدة، أو لم ينزلها؟ قولان للمفسرين: ففي الأسانيد الصحيحة إلى الحسن ومجاهد ما يفيد أن الحواريين بعد أن عرفوا ما يترتب على النّزول قالوا: لا حاجة لنا، فلم تنزل. وسيأتي تفصيل ذلك. وهل هذا التذكير لعيسى بنعم الله عليه بعد إصعاده إلى السماء، أو يوم القيامة. قولان للمفسرين، والسّياق يفيد الثاني: وبعد إذ يأمر الله عيسى يوم القيامة أن يتذكّر نعمه عليه، ويعدّدها له، يخاطب عبده ورسوله عيسى قائلا له بحضرة من اتّخذه وأمّه إلهين من دون الله، هل كان ذلك بأمره؟ وفي هذا تهديد، وتوبيخ، وتقريع للنّصارى، في الدنيا والآخرة، فيجيب عيسى بكمال الأدب منزّها الله، معلنا أنه لم يكن له أن يقول مثل هذا الكلام قائلا لله- عزّ وجل- إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب، فإنه لا يخفى عليك شئ مما قلته، لا أردته في نفسي، ولا أضمرته. ثمّ ذكر أنّه ما دعاهم إلّا إلى الذي أرسله الله به، وأمره أن يبلّغه، وهو عبادة الله، وأنه كان يشهد على أعمالهم ما دام فيهم وبين أظهرهم، فلمّا رفعه الله- عزّ وجل- لم يعد إلا الله رقيبا عليهم، وهو وحده الشهيد على كل شئ، ثمّ ردّ المشيئة إلى الله في أمر تعذيبه إياهم، أو مغفرته لهم. وفي ردّه المشيئة لله في هذا المقام تبرّ من النّصارى الذين كذبوا على الله ورسوله عيسى، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وعندئذ يقول الله تعالى مجيبا لعبده ورسوله عيسى بن مريم فيما أنهاه إليه من التبري من النّصارى الملحدين الكاذبين على الله ورسوله، ومن ردّ المشيئة فيهم إلى ربه عزّ وجل: مبيّنا جلّ جلاله أن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع الموحدين توحيدهم، فهم وحدهم الذين يدخلهم جنته ماكثين فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون، ولهم من الله الرضى، وأي فوز أكبر وأعظم من هذا؟. ثم يختم الله- عزّ وجل- السورة بتبيان أن الله هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرّف فيها، القادر عليها، فالجميع ملكه، وتحت قهره، وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير، ولا وزير، ولا عديل، ولا والد، ولا ولد، ولا صاحبة، ولا إله غيره، ولا رب سواه. وفي انتهاء سورة المائدة بهذه الخاتمة التي هي تسجيل لموقف من مواقف يوم القيامة
المعنى الحرفي
مجموعة من الحكم العظيمة المرتبطة بسياق السورة العام، فهي من ناحية درس للنصارى الذين نقضوا عهد الله وميثاقه، ودرس للصادقين المهتدين، فإذا كان محور السورة يتحدث عما به يكون الضلال وعمّا به تكون الهداية، وإذا كانت السورة تحريرا من أسباب الضلال وتحقيقا بأسباب الهداية، فمن خلال هذا العرض لمشهد من مشاهد يوم القيامة نعرف طريق الله، ونعرف ضلال الضالين، ونعرف طريق النجاة، وفيما سيأتي مزيد من البيان لهذه المعاني: المعنى الحرفي: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الخطاب للمؤمنين أن يتذكروا أو يحذروا هذا اليوم الذي يجمع الله الرسل ويوجه لهم فيه الخطاب فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ. أي: ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان، وفي السؤال توبيخ لمن أنكرهم قالُوا لا عِلْمَ لَنا يحتمل أنهم قالوا ذلك تأدّبا: علمنا ساقط مع علمك سبحانك، ومغمور به فكأنه لا علم لنا، ويحتمل أن يكون المراد: لا علم لنا بإخلاص قومنا فأنت وحدك تعلم الظاهر والباطن، ويحتمل أن يكون المراد: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، ويحتمل أن يكون هول الموقف دعاهم إلى البراءة من علمهم، وهذا هو الذي يجمع فيه بين قولهم هذا وشهادتهم على أقوامهم. قال السدي: نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: لا علم لنا، ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم، رواه ابن جرير إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ نفوا علمهم، ووصفوا الله بالعلم الكامل المحيط بكل شئ. ومن ذلك الغيوب كلها إِذْ قالَ اللَّهُ. أي: في ذلك اليوم الذي يجمع فيه الرسل يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ. أي: إذ قوّيتك بجبريل عليه السلام، أيّد به لتثبت الحجة عليهم، ويحتمل أن يكون المراد بروح القدس الكلام الذي يحيا به الدّين وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أوضار الآثام، فالقدس الطهر تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ. أي: تكلّم الناس طفلا إعجازا وَكَهْلًا. أي: وكبيرا تبلّغ النّاس دعوة الله وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ فسّرها بعضهم بالكتابة والخط، وتحتمل مطلق الكتاب أي جنسه، وتحتمل ما أطلعه الله عليه من غيوب اللوح المحفوظ وتحتمل ما افترضه الله على عباده وَالْحِكْمَةَ. أي: الكلام المحكم الصّواب، الموافق لمقتضى الحال، والمناسب للمقام وَالتَّوْراةَ كتاب موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ كتابه
[سورة المائدة (5): آية 111]
الذي أوحاه الله إليه وَإِذْ تَخْلُقُ معطوف على ما أمر أن يتذكره من نعم الله، وتخلق بمعنى تقدّر مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. أي: تصنع من الطين هيئة مثل هيئة الطير بِإِذْنِي. أي: بتسهيلي فَتَنْفُخُ فِيها. أي: في الهيئة التي كان يقدّرها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي. وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ. أي الذي خلق أعمى وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى. أي: من القبور أحياء بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ. أي: حين همّوا بقتله، أي اليهود إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ. أي: المعجزات الواضحات فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وصفوا المعجزة بالسّحر، والرسول بالساحر وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ. أي: وإذ ألهمت الحواريين. والحواريون: هم الخواص أو الأصفياء أَنْ آمِنُوا. أي: آمنوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ. أي: اشهد بأننا مخلصون لله في إسلامنا وجوهنا إليه إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. أي: هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته؟ والعرب تستعمل استطاع وأطاع بمعنى واحد أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة هي الخوان إذا كان عل